غربة مع سبق الصرار بقلم :راغب شاهين ولجت ما اعتقدته أجمل دربٍ قد أسير عليه يوماً ما ،فإذا به يقودني إلى أسوأ ما صادفني في الحياة ،آلمني ،أنّبت نفسي على تلك الخطوات التي مشيتها بإرادتي ،تلقيت الصفعة تلو الخرى ،شعرت وكأن الرض كفت عن الدوران ،رأيتها سوداء كخافية الغراب وقد رشحت علي بأبشع صورة كنتها يوماً ما ،كان ذلك في العام ،1995حين حزمت أمري على الرحيل من شتاتٍ قاسٍ إلى فردوسنا المنشود ،وقتها كنت أنا المنادى ،وفلسطين المنادي ،تركت كل ما قد يربطني بسواها ،ونزلت إلى السوق بفرحة طفل صغير سيشتري أجمل أثوابه لسعد العياد، كانت مخيلتي تنقلني إلى شوارع بلدي ودروبها ،فرأيتني من الن أسير هناك ،حيث الوطن وأولئك الذين ما فتئنا نتغنى بصمودهم وبطولتهم ،قدوتنا وديمومة ثورتنا ،كنت أقرأ أسماء المحلت التجارية فأراني أجسدها هناك في شوارع الوطن ،فجهلي بالمكان جعلني أمنحه ألقاب ما تبصر عيناي ،بتلك المخيلة الطفولية التي لم أرد لها أن تكبر وإن كان إلى حين ،وما يفصلني عن الوطن الحقيقي سوى يومان معدودان. ولي في غوطتيك هوى قديم ،،،غادرتك يا دمشق ،لك مني الوفاء ،وأقرؤك السلم ما حييت ،فجنوبك احتضن عنوان صمودنا وبقائنا ،وها هو الزمن قد أزف بساعة الرحيل ،من أجمل بقاع الرض في عيني إلى أغلها على قلبي ،فلسطين ،وإذا بي أودع أمي وإخوتي ،رأيتهم طرَتهم دموعي آلم الفراق ،ولكن قلبي أبى إل أن يعتمر فرحاً بعنواني الجديد ،قلت يبكون ،شا َ لمي بفخرٍ ،إن سألك عني أصدقائي وصديقاتي الذين لم أودع ،قولي لهم ذهب إلى فلسطين، ياااااااااه ،ذهب إلى فلسطين ،كلمة اعتادت نساء المخيم إطلقها على فدائيي الثورة ،حين يفخرن ببطولتهم ........ولكن ما سبب سعادتي ،فالمعادلة هنا مختلفة ،هم ذهبوا يحملون بنادقهم وأحلمهم بالحرية ،وأحيانًا متفجرات لفت المكان والزمان وحولت أنظار العالم إليهم ،قبل أن تلف أجسادهم ،أما أنا فما ارتحالي إليها إل نتاج اتفاقات سلم ،ومع ذلك فلن يستطع أي كان أن يعكر صفو هذا الرتحال ،فما سنتوله في المرحلة القادمة هو بناء هذا الجزء الصغير على الطريق نحو ذلك الوطن. استطلت الزمن الذي قضيته في مصر ،مصر هذه يا سادتي عشت اثنان وعشرون عاماً أترقب لحظة دخولها ،أم الدنيا ،وعشقها هواية أبناء آدم أينما نزلوا ،من هنا يمر ساحر اسمه
النيل ،وأهرامات ترنو العيون إلى جمال إبداعها ،وكثير جداً مما ل تجده إل فيها وستجهل أسراره ما حييت ،ولكني أستعجل الرحيل لفلسطين ،فأرض الكنانة كانت بوابتي للوطن ،ومن سمرة البشرة العربية الصيلة التي تصبغ آخر جندي مصري يودعك على الحدود ،وجدتني أقف أمام لوحة كبيرة كتب عليها معبر رفح؛ أخيراً ،ها هي فلسطين ،انهض أبا سلمى ،فأنت لم تغفُ بسبب بعدك عنها ،ولكني سأودع أطياف العذاب لفعل ،ألم تقل يوماً غدًا سنعود ،انظرني أفعل يا سيدي ،وطأت قدماي المكان ،ليكون لقائي مع أول شخص على الجانب الخر من الحدود، شخص ل ينتمي للمكان ول الزمان ،كتب على بزته العسكرية بالعبرية ما أجهل ،فعرفت بأنني أواجه جندياً إسرائيلياً ،ارتجفت خفت ،وحاولت إشاحة نظري عنه ،فهو صاحب القرار الول والخير هنا ،وما علي سوى انتظار إذنه بالدخول ،يا لها من لحظة ،فمن كنت أتمنى أن يزول عن الوجود أصبح صاحب السطوة الولى والخيرة في هذا المكان. في الوطن ينتابك شعور مختلف حيال الشياء والماكن والشخاص ،تلك القصائد التي كانت تغدق علينا بتهاليل الفداء أصبحت محفزاً لعمار ما أفسدته سنوات الحتلل وهمجيته. أبناء شعبك الذين غنينا لهم تقدموا تقدموا ،لم أجدهم بذات الصورة التي رسمت ،فليس الكل أبطال ،وإن كانت الغالبية العظمى ،فالحياة يا سادتي تجرف النسان بعيداً عما نعتقده يسمو على سواه ،الوطن ،كتكوين أسرة ومن ثم تنشأة أطفال ،وإرهاصات الحياة أصبحت هم المواطن الكبر في تفاصيل حياته اليومية ،ولم يعد ذلك اللجيء يستيقظ صباحا ليطارد حلمه بالعودة بقدر ما تستذله لقمة العيش فيهرول وراءها ،وبدا المر أكثر صعوبة عند مرورك أمام حاج ٍز هنا أو نقطة تفتيش هناك ،وفي ذات الوقت مطلوب منك التعايش مع كل هذه المصطلحات الجديدة التي لم تجرؤ يوماً على اقتحام قاموسنا الفلسطيني ،الطرف الخر ،مبدأي التبادل والتعايش ،وما إلى ذلك من كلمات ،وتحاملنا عليها مجتمعة ،فذات اليمين أعجزها الزمن ،ووقوف الخوة لعشرات السنين موقف المتفرج. يومٌ إثر آخر ،والحال هي الحال ،وكلما تقدمنا خطوة في التجاه الصحيح ،أعاقتنا موجات متتالية تلطم القلوب ومهجها قبل الخدود ،عدو ل يعرف السلم لثقافته سبيلً ،وداخل أعياه الستحواذ على السلطة التي غدت غاية المتسلطين فأعمت عيونهم وأثرت فارغ جيوبهم التي ل تشعر بأنها ستكتفي يوماً ،وتعددية حزبية وفصائلية مريضة لم تُجدِ علجًا معها قراءاتها عن تاريخ وانتصارات الشعوب واحترام القلية لرأي الغلبية ،والضحية غلبت على أمرها أمام جلدها ،وإن حدث وتقابل فعلى الضحية واجب واحد ،التنحي وإفساح الطريق له ليعيث فساداً
بالمكان والزمان ما شاء ،ولست هنا أُجمل الجميع ،فالبعض فقط هو الذي لم يخطر بباله يوماً أن يرحم هذا الشعب الذي أمسى من تحت وطأة الحتلل لوطأة الفساد والطمع والفرقة ،صبية وجدوا أنفسهم أصحاب قرار بشأن الوطن ،وأمسكو زمام رأس هرم المكان فأداروه برأسهم الفارغ إل من الفتن وافتعال الفرقة. وعليه ،فقد حاولت جاهداً في الفترة الماضية أن أقرأ ما بين السطور ،فعقلية الفلسطيني تختلف عن الخر ،وقد تخدعه أحياناً ،ولكن إن كان محادثك فلسطيني ،إذاً ويل لك لو حاولت استغباءه أو تجميل القبح الذي تنهج ،وما رأيت بين السطور تلك ،بأن متحاوري الحاضر يخشون ما سينتج عن حوارهم ،وبالتالي سيبقى النقسام وستبقى الضحية شعب تقطعت به سبل الحياة وليس سواه. لجل كل ما تقدم ،قررت الرحيل من جديد بفلسطين التي أهوى ،والحفاظ على صورتها التي عهدت ،لعيدها لحيث صولتها وجولتها في أفئدة وعقول مناضلي العالم أجمع ،فقد استوقفتني أكثر من ذي قبل تلك العبارة التي تقول كل الشعوب تعيش داخل أوطانها ،إل الشعب الفلسطيني وطنه يعيش داخله ،فالويل الويل لمن أضاعوا فلسطين بخزيهم ،وهنيئاً لنا حلمنا الذي نحمل.