نكبة ستزول وغطاريف تجول

  • Uploaded by: Ragheb Shaheen
  • 0
  • 0
  • May 2020
  • PDF

This document was uploaded by user and they confirmed that they have the permission to share it. If you are author or own the copyright of this book, please report to us by using this DMCA report form. Report DMCA


Overview

Download & View نكبة ستزول وغطاريف تجول as PDF for free.

More details

  • Words: 1,095
  • Pages: 4
‫نكبة ستزول وغطاريف تجول‬

‫يا ليل العودة متى غده‪ ،‬واحدٌ وستون عاما مضت والحال هي الحال‪ ،‬قسمات ارتسمت على وجه الجدة‬ ‫نتاج هذه الغربة القسرية‪ ،‬ولكن الشحم واللحم تشرب من تربة بلدٍ هُجرت عنها قسرا‪ ،‬فسكن الفؤاد وطن لم يسمح‬ ‫لها بأن ترمقه من جديد‪ ،‬تحاول جاهدةً الغوص في بحور الشعر والكلمات لتنتقي أجملها وأعذبها‪ ،‬عساها تنجح في‬ ‫وصف الوطن بل ربما المبالغة في تجميل أحلمنا التي زرعها الباء فينا‪ ،‬وإن كان نقلً عنها‪.‬‬

‫غدت أكبر بواحدٍ وستين عاما‪ ،‬الجلد قاسٍ‪ ،‬والعظم هش‪ ،‬ولكن الحلم ذات الحلم لم يكبر يوما عن الرابع‬ ‫عشر من آيار لعام ‪ ،1948‬والجدة ما تزال تنتظر بفارغ الصبر أن تدفن هذا المولود‪ ،‬فنسبه غريب‪ ،‬وتخشى إن كبر‬ ‫يوما بأن تكون لهجته غريبة عنها‪ ،‬كما لهجة أولئك الذين أثقلوا كاهلها بحمايته ولو إلى حين‪ ،‬تقول لي‪ ،‬صدقني‬ ‫سنعود حيث كنا نأكل البرتقال والليمون‪ ،‬ونقيم‪ ..‬فأتابع بخبث‪ ،‬تقيمون الفراح والولئم وتآزرون بعضكم بعضا‪،‬‬ ‫وقويكم يحمي ضعيفكم‪ ،‬لقد أسمعتني هذه الكلمات بعدد أيام عمري يا جدة‪ ،‬وكأني أراك تلفظينها بشفاه صلح الدين‬ ‫وعنتريات الفرزدق‪ ،‬حتى غدوت استهجنها‪ ،‬لماذا ل تعيشين الواقع‪ ،‬لماذا ترفضين أن تكوني جزءا من النسيج‬ ‫ت مبتسما‪ ،‬ولكن تلك العجوز أخافتني‪ ،‬فعروق وجهها‬ ‫الجديد‪ ،‬فلنعانق الحاضر ونلقي بالماضي خلف ظهورنا‪ ،‬وصم ُ‬ ‫ويديها نفرت فجأة والغضب احتدم في قلبها‪ ،‬فنهرتني أن اِبتعد‪ ،‬فأمثالك ل يحق لهم امتلك تلك البقعة من الرض‪،‬‬ ‫فأنت‪ .........‬ل أستطيع تكرار ما قالته‪ ،‬فكرامتي ل تسعفني‪..‬‬

‫ت قليلة قبل بدء‬ ‫أجل لقد استطعت الهرب بما تبقى لي من هذه الليلة لنام‪ ،‬وولجت سريري‪ ،‬لغفو ساعا ٍ‬ ‫صباح جديد شاق‪ ،‬فإذا بها تطاردني مجددا من حيث ل أدري‪ ،‬جلست بجواري على السرير دون أن أشعر بها‬ ‫وكأنها تسللت بسحر ساحر‪ ،‬وبدأت تداعب شعري‪ ،‬واقتربت من أذني وهمست‪ ،‬حبيب الروح ومهجة الفؤاد‪ ،‬لماذا‬

‫تقسو علي بهذه الكلمات التي تلفظت‪ ،‬أتعلم بأن كل هذا العالم لم يستطع أن يأخذ مكانة أبيك في قلبي!‪ ،‬ولكنك فعلت‪،‬‬ ‫أتعلم بأنه ورغم ذلك فإن المساحة التي وهبتك من حياتي‪ ،‬لن تطغى على مساحة ذلك المنزل الذي عشت وجدك‬ ‫أجمل أيام حياتنا فيه‪ ،‬أطفالً ومراهقين وعشاق‪ ،‬أرجوك بُني أن تحمل عني هذا الحلم‪ ،‬فإن تمسكي بالحياة ليس‬ ‫سوى نتاج إصراري على العودة بكم إلى بيتنا هناك خلف هذا البحر الذي يعانق مخيمنا الذي نسكن‪ ،‬لماذا تزرع‬ ‫الخوف والقلق في قلبي بأنك لن تكون نعم الوريث لحقوقنا التي استشهد من أجلها اللف‪ ،‬وإذا بتلك الدمعة تنهمر‬ ‫ت به‪ ،‬وكأنه سمٌ سرى في قلبها كالنار في الهشيم‪ ،‬فإذا بي‬ ‫من عينها على خدي لتجعل مني قزما بفعل ما تفوه ُ‬ ‫أحتضنها‪ ،‬وأقول صبرا يا جدة‪ ،‬ما كنت إل ممازحا‪ ،‬وتلك الهضاب سنعود لها كما الطير المهاجر‪ ،‬طال الزمن أم‬ ‫قصر‪ ،‬وأضفت‪ ،‬تأكدي جدتي بأن حلمك بالعودة لن يغدو سرابا إل حين أعود بك إلى هناك لواريك الثرى بيدي‪،‬‬ ‫وغفوت بين يديها دون أن أنبس ببنت شفة‪.‬‬

‫في طريقي للعمل ذاك الصباح‪ ،‬أخذت استذكر ما دار بيني وبين الجدة‪ ،‬وأخوض في تفاصيل نكبة لم‬ ‫أعشها يوما لكنها سكنتني أعواما و أعوام‪ ،‬و بتّ أعرف أدق أدق تفاصيلها‪ ،‬سألت نفسي عديد السئلة‪ ،‬ما الذي‬ ‫حدث في هذا الكون ليتمحور حول قضية صراعٍ بين سالب أرض ومسلوبها‪ ،‬وما هو ذنب الشعب الفلسطيني ليدفع‬ ‫هذا الثمن الباهظ من تشرد أجياله الواحد تلو الخر؟ وأين سيؤول مآلنا والحال غربة وتشرد‪ ،‬ولماذا ل تستطيع هذه‬ ‫العجوز التي قضّت مضجعي الليلة الماضية أن تنسى‪ ،‬بل تدأب على زراعة ما ل قد تحصد بإصرار من يحاول‬ ‫عبثا أن يأكل ثمار أشجاره قبل أن ترى النور‪ ،‬في المر شيء أجهله‪ ،‬ولكني أعشقه وأؤمن به‪ ،‬وكأن الخوض في‬ ‫غمار الحديث عن النكبة يجعل مني كمن يحاول جاهدا لبس عباءة إبراهيم عليه السلم حين قال بلى ولكن ليطمئن‬ ‫قلبي‪ ،‬فما ألهث وراءه علم غيب‪ ،‬ولكني أحبه‪ ،‬ول أستطيع الحياة بدونه‪ ،‬ل ّل أفقد فلسطينيتي‪ ،‬فمهما تباعدت الزمنة‪،‬‬ ‫واختلفت الماكن والمسافات الفاصلة بينها‪ ،‬لتنأى بي من غربة إلى أخرى بعيدا عن الوطن‪ ،‬تبقى تعويذة حلم الجدة‬ ‫تطاردني‪ ،‬وكأن الحلم غدت جينات تورّث شئت أم أبيت‪ ،‬وتبقى حياة المخيم بكل تفاصيلها تأبى إل أن تظلّ سيفا‬

‫مسلّطا على رقابنا‪ ،‬أو وحشا يطاردنا لنهرول نحو العودة إلى ذلك الثرى الذي غادره آباؤنا بفعل قوة الحتلل‪،‬‬ ‫وكلمة لجئ أصبحت خنجرا في خاصرة المم‪ ،‬سنبقى نعمق جرحه إلى أن تشرق علينا شمس آذارٍ دافئة ونحن في‬ ‫أحضان أرضنا‪ ،‬لنوقف هذا التاريخ الذي اعتدناه كرها منذ واحدٍ وستين عاما‪ ،‬فهذه النكبة التي أصبح الفلسطينيون‬ ‫يأرخون حياتهم بها‪ ،‬ستزول ليس ليعود التاريخ لدورته الطبيعية مؤرخا بما يتخذه العالم أجمع إن كان هجريا أو‬ ‫ميلديا بالقدر الذي سنؤرخ به بعنوان جديد هو العودة‪ ،‬تلك العودة التي سنغني لها ما بقينا‪.‬‬

‫عندما تضيق بك الدنيا وتعجز عن إصلح ذات البين بينك وبين نفسك‪ ،‬فل تجد خلً وفيا ول حتى غولً‬ ‫يأكلك ويريحك مما أنت عليه‪ ،‬تقودك الخطوات باتجاه الساحر‪ ،‬وعند أول فرصة تتيحها لك قاهرة تحلم جهلً بأن‬ ‫ترى أرصفتها خالية لتركن سيارتك‪ ،‬تدير ظهرك للدنيا بأسرها لتواجه نهر النيل العظيم‪ ،‬هنالك تجد من المشاهد‬ ‫ل إنسان لشدة جماله‪ ،‬مصريون‪ ،‬عرب وأجانب من كل حدب وصوب‪،‬‬ ‫الكثير مما يغبط القلب‪ ،‬وأحيانا ما ل يقبله عق ُ‬ ‫أناس بسطاء جدا وآخرون أتخمهم الثراء حتى أصبحوا يغطون قرص الشمس بما يملكون‪ ،‬ول يجمعهم على هذه‬ ‫الرض سوى شيء واحد وما أروعه‪ ،‬إنه التبر السائل بين شطين‪ ،‬وبناءا على تعليمات صارمة من والدي‪ ،‬أثناء‬ ‫إحدى زياراتنا لمصر‪ ،‬أخذت الجدة وذهبنا لنجلس هناك‪ ،‬عساها تستنشق قليلً من الهواء الذي قد يطيل عمرها‬ ‫لبضع عشرات من السنين القادمات‪ ،‬تمنحها القدرة على تنغيص عيشي كيفما أرادت‪ ،‬ولربما تحقق حلمها الذي‬ ‫تعيشه ليغدو واقعا بكل ما أوتيت من فراسة العربية الصيلة‪ ،‬وكعادتها صمتتْ ذلك الحيز من الوقت الذي تتبعه‬ ‫بمصيبة ل يتلقاها سوى رأس هذا المسكين الذي وضعه ال في دربها‪ ،‬لتقول لي إيش بدهم حماس وفتح‪ ،‬وليش‬ ‫القواريط بقتلو ببعض يا ستي‪ ،‬وا مصيبتاه‪ ،‬أين المفر منك‪ ،‬أليس هناك من يسعفني فيأخذك جدةً له ولو ليام‬ ‫معدودات‪ ،‬ومجبر أخوك ل بطل أجبتها بل أدنى تردد‪ ،‬وكأنني أجهل أنه ليس هناك شاردة أو واردة يمكن أن تفلت‬ ‫منها‪ ،‬وما أدراك يا جدة‪ ،‬فقالت لي وهل يوجد شخص على هذه الرض ل يعلم بما حصل‪ ،‬إل إن كان أحمقا أو‬

‫معتوها‪ .‬فأجبتها قائلً‪ ،‬سنراها تفرج من حيث ل ندري‪ ،‬وسيبقى أبناء الوطن أشقاء ما حيينا‪ ،‬وما هذه إل ثقافة‬ ‫غريبة عنّا‪ ،‬ولن تدوم تلك الخلفات بينهما يا جدة‪.‬‬

‫اعتقدت بأن الحديث انتهى عند هذا الحد‪ ،‬وأمضينا ما تبقى لنا من وقت نستمتع بمنظر النيل العظيم‪،‬‬ ‫وقفلنا عائدين من حيث أتينا‪ ،‬وعندما أدخلتها غرفتها وهممت بالمغادرة‪ ،‬قالت لي إن رأيت أيا منهم فقل لهم‪ ،‬بأن‬ ‫اللجئ وليس التاريخ لن يغفر‪ ،‬وأن الشجار والنهار وبرتقال يافا لعنة عليكم ما دمتم على ما أنتم عليه‪ ،‬وإياكم أن‬ ‫تسمحوا لغطروف هنا أو هناك أن يقودكم بعيدا عن غايتكم التي أنشأناكم عليها‪ ،‬ففلسطين بغنىً عنكم ولبتر إصبع‬ ‫خير من بتر الساق كاملة‪ ،‬وشعبكم الذي تستخفون بعقوله وأحلمه‪ ،‬حتما سيبتركم‪ ،‬ليكمل دربا تسعون جاهدين أن‬ ‫تخطّوا نهايتها من قبل أن تبدأ‪.‬‬

‫‪ -‬غطاريف ‪ :‬جمع غطروف ـ أي الفرسان البطال‪.‬‬

More Documents from "Ragheb Shaheen"

May 2020 0
May 2020 0
May 2020 0
May 2020 1
May 2020 1
May 2020 2