الفقه السياسي ضرورة شرعية لتحقيق النصر ودرء الفتن

  • Uploaded by: Adnan Sous
  • 0
  • 0
  • June 2020
  • PDF

This document was uploaded by user and they confirmed that they have the permission to share it. If you are author or own the copyright of this book, please report to us by using this DMCA report form. Report DMCA


Overview

Download & View الفقه السياسي ضرورة شرعية لتحقيق النصر ودرء الفتن as PDF for free.

More details

  • Words: 22,538
  • Pages: 91
5

‫مقدمات تأصيلية‬ ‫المقدمة‪:‬‬ ‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله‬ ‫من شرور أنفسنا‪ ،‬وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الله فل مضل له‪،‬‬ ‫ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك‬ ‫له وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله‪.‬‬

‫‪‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقواْ ال َحقّ تُقاتِهِ ول تَموُتنّ إلّ‬

‫وأنتُم مّسلِمونَ‪[ ‬آل‬

‫عمران‪ .]102:‬يا أيّها النّاسُ اتّقواْ ربّكُم الذي خَ َلقَكُم من نَفسٍ واحِدةِ وخَ َلقَ مِنها‬ ‫زَوجَها وبَثّ مِنهُما رِجالً كَثيا ونِساءً واتّقواْ الَ الذي تَساءَلونَ بهِ والرْحامَ إنّ الَ كانَ‬ ‫عَليكُم رَقيبا‪[ ‬النساء‪ .]1:‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا الَ وقُولوا قَولً سَديدا * يُصلِح لَكُم‬ ‫أعمالَكُم وَيغْفِر لَكُم ذُنوبَكَم ومَن يُ ِطعِ الَ ورَسُوَلهُ فَقد فَازَ فَوزا‬

‫عَظيما‪[ ‬الحزاب‪-70:‬‬

‫‪.]71‬‬ ‫ن الهدي‬ ‫أما بعد‪ ،‬فإن أصدق الحديث كتاب الله‪ ،‬وأحس َ‬ ‫لَ‬ ‫هدي محمد ×‪ ،‬وشَر المور محدثاتها‪ ،‬وك َّ‬ ‫ل محدثة بدعة‪ ،‬وك ّ‬ ‫ّ‬ ‫بدعة ضللة‪ ،‬وك َّ‬ ‫ل ضللة في النار‪.‬‬ ‫ثم إن العلوم الشرعية ضرورة لزمة لنجاة العباد في‬ ‫الدنيا والخرة‪ ،‬وشرف العلم بشرف المعلوم‪ ،‬وأشرف العلوم‬ ‫وأسماها على الطلق بالنسبة للفرد‪ ،‬علم التوحيد بأقسامه‬ ‫الثلثة (اللوهية‪ ،‬الربوبية‪ ،‬والأسماء والصفات)‪ ،‬ثم تتفاوت‬ ‫درجات العلوم بقدر تفاوتها في حفظ مقاصد الشريعة‬ ‫السلمية‪ ،‬وإن من أسمى مقاصدها‪ ،‬حف َ‬ ‫ظ الضروريات لقيام‬ ‫الحياة النسانيـة‪ ،‬وأهمها‪ :‬الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والنسل‪،‬‬ ‫والمال‪.‬‬ ‫فمن العلوم ما يكون مقصده حف َ‬ ‫ظ الدين‪ ،‬كتعلم ما هو‬ ‫معلوم من الدين بالضرورة من علوم التوحيد وبعض علوم‬ ‫الفقه‪ ،‬والعمل بأحكام الدين والحكم به والدعوة إليه والجهاد‬ ‫لجله ورد الشبهات والبدع عنه‪ .‬ومن العلوم ما يكون ضرورياً‬ ‫لحفظ النفس‪ ،‬كتحريم العتداء على النفس‪ ،‬والقصاص‪ ،‬وسد‬ ‫الذرائع المؤدية للقتل‪ .‬ومنها ما هو ضروري لحفظ المال‪،‬‬

‫‪6‬‬

‫كالحث على التكسب‪ ،‬وتحريم العتداء عليه‪ ،‬وتحريم إضاعته‪،‬‬ ‫وتعلم ما شرع من الحدود لحفظه‪ ،‬وتوثيق الديون والشهاد‬ ‫عليها‪ .‬ومنها ما هو ضروري لحفظ النسل‪ ،‬كأحكام النكاح‪ ،‬ومنها‬ ‫ما هو ضروري لحفظ العقل‪ ،‬كتحريم مفسدات العقل الحسية‬ ‫والمعنوية‪ ،‬ووجوب الحد على شارب الخمر‪.‬‬ ‫أما أعظم العلوم بالنسبة للجماعة ‪ -‬مع عظم علم‬ ‫حفَ ُ‬ ‫ظ‬ ‫التوحيد وأهميته للفرد والمجتمع ‪ -‬فهو ذلك العلم الذي ي َ ْ‬ ‫لها هذه الضرورات كلها‪ ،‬الدين ومنه التوحيد‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪،‬‬ ‫والنسل‪ ،‬والمال‪ .‬وقد اتفق العلماء على حقيقة هذا العلم‪،‬‬ ‫ماه‪(( :‬الحكام‬ ‫واختلفوا في تسميته‪ ،‬فالماوردي الشافعي س ّ‬ ‫السلطانية))‪ ،‬وإمام الحرمين الجويني سماه‪(( :‬غياث المم))‪،‬‬ ‫وابن جماعة سماه‪( :‬تحرير الحكام في تدبير أهل السلم)‬ ‫وابن تيمية سماه‪(( :‬السياسة الشرعية في إصلح الراعي‬ ‫والرعية)) وغيرهم‪.‬‬ ‫فك ٌّ‬ ‫من تسمية ابن تيمية هذه‪ ،‬والتي قبلها‪ ،‬و((غياث‬ ‫ل ِ‬ ‫ت إليه من أن هذا العلم من أهم‬ ‫المم))‪ ،‬تدل على ما ذهب ْ ُ‬ ‫العلوم بالنسبة للجماعة‪ ،‬لن الجهل به يؤدي إلى التصرف مع‬ ‫الخرين بحماقة تضيع هذه الضرورات‪ ،‬أو بعضا منها‪.‬‬ ‫حفظ للمجتمع هذه‬ ‫وممن كتب في هذا العلم الذي ي َ ْ‬ ‫الضرورات كلها‪ ،‬من المعاصرين‪ ،‬الدكتور يوسف القرضاوي‪،‬‬ ‫سماه‪(( :‬السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة‬ ‫ومقاصدها))‪ ،‬والدكتور خالد الفهد‪ ،‬سماه‪(( :‬الفقه‬ ‫السياسي السلمي))‪ ،‬والدكتور خالد العنبري‪ ،‬سماه‪(( :‬فقه‬ ‫السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة وأقوال‬ ‫سلف المة))‪ ،‬وغيرهم مما يدل على أهمية هذا العلم بالنسبة‬ ‫للجماعة‪.‬‬ ‫وعليه فإن إسقاط هذا النوع من الفقه السياسي من‬ ‫المة‪ ،‬سواء كان ذلك بسبب إنكاره‪ ،‬أو بعدم تفعيله وتطبيقه‪ ،‬أو‬ ‫بفهمه خلف الواقع‪ ،‬يترتب عليه مخاطر ل حصر لها تصيب‬ ‫ل‪ .‬وها نحن جميعا شيبا ً وشباباً‪ ،‬ذكوراً‬ ‫مقَاِت َ‬ ‫من المة السلمية َ‬ ‫ً‬ ‫وإناثاً‪ ،‬صغارا ً وكباراً‪ ،‬ندفع الثمن غاليا جراء تلك السياسة‬ ‫ض الشباب‬ ‫الدخيلة على السلم‪ ،‬التي َ‬ ‫جَر ْ‬ ‫ت على ألسنة بع ِ‬ ‫المعاصرين‪ ،‬حين ألقَوْا بهذا الفقه من خلف أظهرهم‪ ،‬وتجردوا‬ ‫منه‪ ،‬بل ذهب بعض سفهاء الحلم‪ ،‬حدثاء السنان منهم‪ ،‬إلى‬

‫‪7‬‬

‫التصريح بإنكاره‪ ،‬والنكار على العلماء الكبار العاملين به‪ ،‬بل‬ ‫طعنوا فيهم وفي علمهم‪ ،‬فخل الجو لهم ـ حسب زعمهم ـ‬ ‫ليتصدروا الفتوى بل علم في الشريعة‪ ،‬وبجهل في الواقع‪،‬‬ ‫فضلوا وأضلوا‪.‬‬ ‫وقد نقل لنا ابن القيم مؤيدا ً لما جرى بين شافعي وابن‬ ‫عقيل في تفسير قول الشافعي‪(( :‬ل سياسة إل ما وافق‬ ‫الشرع))‪.‬‬ ‫فقال له ابن عقيل‪(( :‬السياسة ما كان فعل ً يكون معه‬ ‫الناس أقرب إلى الصلح‪ ،‬وأبعد عن الفساد‪ ،‬وإن لم يضعه‬ ‫الرسول ×‪ ،‬ول نزل به وحي‪ .‬فإن أردت بقولك‪ :‬إل ما‬ ‫وافق الشرع‪ ،‬أي‪ :‬لم يخالف ما نطق به الشرع‪ ،‬فصحيح‪ .‬وإن‬ ‫أردت ل سياسة إل ما نطق به الشرع فَغَل َ ٌ‬ ‫ط وتغليط للصحابة‪.‬‬ ‫فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما ل‬ ‫يجحده عالم بالسنن‪ ،‬ولو لم يكن إل تحريق عثمان المصاحف‬ ‫فإنه كان رأيا ً اعتمدوا فيه مصلحة المة‪ ،‬وتحريق علي‬ ‫الزنادقة في الخاديد‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫لما رأيت المر أمراً‬ ‫أججت ناري ودعوت‬ ‫ً (‪)1‬‬ ‫منكراً‬ ‫قنبرا ))‬ ‫انتهى))‪.‬‬ ‫لذا فإنه من الواجب على فريق من العلماء العاملين‪ ،‬أن‬ ‫يولوا هذا العلم في هذا الزمان أولوية خاصة‪ ،‬وبأسرع ما يمكن‬ ‫لوقف نزيف الدم‪ ،‬والدمار الشامل المحدق بالمة السلمية‪.‬‬ ‫كما وعلى شباب الصحوة أن يتعلموه جنبا ً إلى جنب‪ ،‬مع علوم‬ ‫التوحيد‪ ،‬والفقه وأصولــه‪ ،‬والقرآن وعلومـه‪ ،‬وعلوم اللغـة‪ ،‬ول‬ ‫يرغبوا عنه بحجج ل يستقيم أمرهــا‪ ،‬ول تقف أمام واجب التفقه‬ ‫في الواقع المطلوب مـن كل فرد بحسبه‪.‬‬ ‫وعليهـــــم كذلك أن يعلموا عـــــن أي الجهات يأخذونـــــه‬ ‫ويتعلمونــه‪ ،‬وعليهييم أن ل يسييلموا قيادتهييم الفكرييية‬ ‫لمفاهيييم ونظرات حزب التحرييير السييياسية‪ ،‬المتأثرة‬ ‫بنظرييية ماركييس للتفسييير المادي للتاريييخ‪ ،‬ول لميين‬ ‫مة الكييبرى‬ ‫أعجييب بفكره‪ ،‬أو تأثيير بييه‪ ،‬فإنهييا الطا ّيي‬ ‫والهلك بعينيييه‪ .‬بــــل أصــــبحت هذه المفاهيــــم والنظرات‬ ‫‪1‬‬

‫((الطرق الحكمية))‪( ،‬ص ‪.)18-17‬‬

‫‪8‬‬

‫السـياسية التحريريـة هـي الحاكمـة على تفكيـر كثيـر مـن الشباب‬ ‫والشياب والذكور والناث دون شعور منهــــــم‪ ،‬فخرج جيييييل‬ ‫جهدهييم وجهادهييم عيين المصييلحة العاميية للسييلم‬ ‫والمسيييلمين‪ ،‬وتراهيييم بعيييد حيييين مييين بذل الجهود‬ ‫والطاقات‪ ،‬خاصييية حدثاء السييينان منهيييم ‪ ،‬يقومون‬ ‫بمراجعات فكرييية لتصييحيح الفكار والسييتغفار عيين‬ ‫الخطاء والخطار‪.‬‬ ‫لذا فإن التقليل من شأن هذا العلم‪ ،‬أو فهمه على خلف‬ ‫الواقع‪ ،‬يضعنا أمام مواجهة غير متكافئة مع ألد خصومنا‬ ‫وأعدائنا‪ ،‬الذين يتربصون بديننا وبالضرورات الربع الخرى‬ ‫وبغيرها الدوائر‪ ،‬مما يعرضنا إلى سخط الله تعالى‪ ،‬بل قد يدفع‬ ‫بنا المر إلى أن نكون من الخسرين أعمالً‪ ،‬مع اعتقادنا بأننا‬ ‫نحسن صنعاً‪ ،‬كما حصل لنا في بعض ديار المسلمين‪ ،‬ول يزال‬ ‫المر مرشحا ً للتكرار‪.‬‬ ‫ولكي نفقه واقعنا السياسي المعاصر‪ ،‬ل بد من توفر‬ ‫أمرين اثنين‪:‬‬ ‫•العمل بأحكام الشريعة السلمية‪ ،‬أولها علوم العقيدة‪،‬‬ ‫فأركان السلم الخمسة‪ ،‬والقيم الخلقية لتزكية النفس‪،‬‬ ‫كالعدل والصدق والمانة والعفاف والرحمة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫•معرفة الواقع معرفة صحيحة‪ ،‬بعيدة عن التضليل والخداع‪.‬‬ ‫لذا فإن هذه الدراسة اكتفت ببيان بعض الموضوعات‬ ‫ت للقارىء الرجوع‬ ‫ذات العلقة بفقه السياسة الشرعية‪ ،‬وتَرك َ ْ‬ ‫صر في الحاطة به‪.‬‬ ‫مظا ّ‬ ‫إلى َ‬ ‫ن هذا العلم لستدراكه لمن ق ّ‬ ‫ثم كشفت الدراسة عن مصدر الخطر والدمار ـ أعني‬ ‫اليهودية ـ الذي أصاب المة السلمية‪ ،‬وكشفت كذلك عن‬ ‫أخطر أذرعها التي ابتليت به أمتنا والعالم أجمع في واقعنا‬ ‫المعاصر‪ ،‬والذي ل يزال يقتلنا في كل مكان‪ ،‬ونحن ل نشعر به‬ ‫ول نراه‪ ،‬بل ذهب بنا المر إلى ما هو أسوء من ذلك‪ ،‬حين نسبنا‬ ‫جميع جرائمه إلى غيره‪ ،‬فتوجهنا إلى محاربة هذا الغير وتركنا‬ ‫هذا العدو الول والخطر يحاربنا في ديننا‪ ،‬ويهدم مقدساتنا‬ ‫بمئات اللف من المساجد‪ ،‬ويسفك دماءنا بمئات المليين‪،‬‬ ‫ويحتل أرضنا بعشرات المليين من الكيلومترات المربعة‪،‬‬ ‫وينهب ثروات بلدنا بالمليارات‪ ،‬وينتهك أعراضنا‪ ،‬بل لم يكتف‬

‫‪9‬‬

‫البعض بتجاهل هذا الخطر الشتراكي الشرقي الداهم‬ ‫المتواصل – مع اعتبار الخطر الغربي ‪ -‬بل ذهبوا إلى التحالف‬ ‫معه بحجة التقاء المصالح‪ ،‬ولم يدروا أنها مصالح مزورة‬ ‫موهومة‪ ،‬فكانت النتيجة دمارا ً على دمار‪ ،‬وخرابا ً على خراب‪،‬‬ ‫وإفسادا ً في الرض باسم الجهاد‪.‬‬ ‫لهذا ولغيره‪ ،‬صيغت أفكار هذا البحث القليل في‬ ‫صفحاته‪ ،‬الكبير في أهميته عسى الله تعالى أن يهدي به من‬ ‫يشاء من عباده‪.‬‬ ‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫كتبه‪:‬‬ ‫عدنان عبد الرحيم الصوص‬ ‫شهر تموز من عام ‪2006‬‬

‫‪10‬‬

11

‫تعريفات أصولية‬ ‫تعريف قواعد الفقه السياسي‬ ‫ة‪ :‬هي الساس‪ .‬واصطلحاً ‪ :‬حكم كلي‬ ‫القاعدة لغ ً‬ ‫ف أحكامها منه‪.‬‬ ‫ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها‪ ،‬لتُِعَر َ‬ ‫القاعدة الفقهية‪ :‬هي المبادىء العامة في الفقه‬ ‫السلمي التي تتضمن أحكاما ً شرعية عامة تنطبق على الوقائع‬ ‫والحوادث التي تدخل تحت موضوعها(‪.)2‬‬ ‫ومن المثلة على القواعد الفقهية‪(( :‬الصل في‬ ‫الكلم الحقيقة))‪(( .‬المور بمقاصدها))‪(( .‬اليقين ل يزول بالشك))‪.‬‬ ‫((ل اجتهاد في مورد النص))‪(( .‬الصل براءة الذمة))‪(( .‬المشقة‬ ‫تجلب التيسير))‪(( .‬الضرورات تبيح المحظورات))‪(( .‬الضرورة‬ ‫تقدر بقدرها))‪(( .‬ل ضرر ول ضرار))‪(( .‬درء المفاسد أولى من‬ ‫جلب المصالح))‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫ت لتحقيق المصالح الضرورية‬ ‫فالقواعد العامة ُو ِ‬ ‫ضعَ ْ‬ ‫والحاجية والتحسينية‪ ,‬ونحن لن نتوسع في مباحث الفقه‬ ‫السياسي‪ ،‬في هذا البحث‪ ،‬ولكن أردنا إلقاء الضوء على أهمية‬ ‫هذه القواعد الفقهية في مجال السياسة الشرعية‪ ،‬أو ما يسميه‬ ‫البعض الفقه السياسي‪ ،‬فإن لهذه القواعد مصادرها الخاصة‪،‬‬ ‫فقد كُتب الكثير في هذا الباب قديما ً وحديثاً (‪.)3‬‬ ‫الفقه السياسي‪:‬‬ ‫((هو مجموعة الحكام الشرعية التي تتناول الحكام‬ ‫السياسية‪ ،‬كالحكم‪ ،‬وإدارة الدولة‪ ،‬والعلقات الخارجية‪ .‬وهذه‬ ‫الحكام مستنبطة من مصادر الفقه السلمي‪ ،‬بالضافة إلى‬ ‫العراف والتقاليد التي درجت عليها الدولة السلمية بما ل‬ ‫(‪)4‬‬ ‫يتنافى والمبادىء السلمية))‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫((المدخل لدراسة الشريعة السلمية))‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم زيدان‪( ،‬ص‬ ‫‪.)90‬‬ ‫من هذه المراجع‪(( :‬الشباه والنظائر))‪ ،‬للسيوطي‪(( ،‬الفروق))‪،‬‬ ‫للقرافي‪(( ،‬إعلم الموقعين))‪ ،‬لبن القيم‪ ،‬و((العتصام))‪ ،‬للشاطبي‪،‬‬ ‫وغيرها‪.‬‬ ‫((الفقه السياسي السلمي))‪ ،‬د‪ .‬خالد الفهداوي‪( ،‬ص‪ ،)78 :‬الطبعة‬ ‫الولى‪.)2003( ،‬‬

‫‪12‬‬

‫ويعرفه الستاذ عبدالوهاب خلّف بقوله‪:‬‬ ‫ما تُدَبّر فيه‬ ‫((إن علم السياسة الشرعية يُبحث فيه عَ ّ‬ ‫شؤون الدول السلمية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول‬ ‫(‪.)5‬‬ ‫السلم‪ ،‬وإن لم يقم على كل تدبر دليل خاص))‬ ‫العمل السياسي‪:‬‬ ‫((مجمل النشاطات والمواقف والراء السياسية التي‬ ‫يتبناها الفراد‪ ،‬أو الجماعات تجاه الدولة‪ ،‬أو الحكم))(‪.)6‬‬ ‫مدى الحاجة لقواعد الفقه السياسي‪:‬‬ ‫ل شك أن الكتاب والسنة هما رأس مصادر التشريع‬ ‫السلمي‪ ،‬ول شك كذلك في ضرورة توفر الضوابط والصول‬ ‫العامة لستنباط الحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية‪ ،‬وهذه‬ ‫القواعد والصول قد بسطت فيما يعرف بكتب أصول الفقه‬ ‫السلمي‪ .‬وعلى طالب العلم أن يرجع إليها في مظانها‬ ‫ليستقيم أمر الفقه لديه‪ ،‬ومنه فقه السياسة الشرعية الذي‬ ‫نحن بصدد دراسة بعض مباحثه وفقهه المعاصر‪.‬‬ ‫((فقواعد الفقه السياسي السلمي مرتبطة ارتباطا َ وثيقاّ‬ ‫بتحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها العامة‪ .‬والمصالح المرسلة‬ ‫تدخل ـ ضمنا َ ـ في مصادر تلقي الحكام الشرعية المنضبطة‬ ‫بقواعد كلية))(‪.)7‬‬ ‫ولبيان خطر التفريط بهذا الفقه‪ ،‬أو فهمه بخلف الواقع‪،‬‬ ‫نضرب لذلك مثال ً نظريا ً وآخر واقعياً‪:‬‬ ‫المثال النظري على أهمية الفقه السياسي‪:‬‬ ‫لو فرضنا وجود عدوين للمسلمين‪ ،‬الول (س)‪ ،‬والثاني‬ ‫(ص)‪ ،‬وكان العدو (س) أشد عداءً للسلم وللمسلمين‪ ،‬من‬ ‫ما لظرف‬ ‫العدو (ص) بعشرة أضعاف‪ .‬ولكن لو استطاعت جهة ّ‬ ‫من الظروف‪ ،‬أن تُغيّر هذه الحقيقة لدينا‪ ،‬فأصبحنا ننظر إلى‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬

‫((السياسة الشرعية ونظام الدولة))‪( ،‬ص ‪ ،)21‬المطبعة السلفية‪،‬‬ ‫القاهرة‪1350 ،‬هـ‪ .‬عن كتاب ((الفقه السياسي السلمي))‪ ،‬د‪ .‬خالد‬ ‫الفهداوي‪( ،‬ص ‪.)78‬‬ ‫المرجع السابق‪( ،‬ص ‪.)78‬‬ ‫المرجع السابق‪.)78( ،‬‬

‫‪13‬‬

‫العدو الثانوي (ص) على أنه العدو الكبر والخطر علينا من‬ ‫العدو (س) أضعافا كثيرة‪ .‬ماذا سيترتب على ذلك؟‬ ‫ل شك أننا سنوجه جميع طاقاتنا لمحاربة العدو الوهمي‬ ‫أو الثانوي (ص)‪ ،‬ونترك العدو الحقيقي الكبر يفتك بنا‪ ،‬ولن‬ ‫ضلّلون أو مخدوعون‬ ‫م َ‬ ‫نشعر ونحن نتجاهل الخطر الكبر بأننا ُ‬ ‫أبداً‪ .‬لننا نعتقد بصحة تصوراتنا وفهمنا للواقع‪ ،‬ول نحسب أننا‬ ‫هدى البتة‪ .‬ولك أن تتصور ما سيحل بالمة السلمية‬ ‫على غير‬ ‫ً‬ ‫إذا استمرت على هذه الحالة من التضليل السياسي الذي قلب‬ ‫الحقيقة واستنزف الطاقة‪.‬‬ ‫هذه نتيجة تصوراتنا الخطأ في تصنيف العداء‪ ،‬فكيف إذا‬ ‫ازداد المر بنا سوءا‪ ،‬فأصبحنا نرى المعروف منكرا والمنكر‬ ‫معروفا ً كما هو حاصل معنا هذه اليام؟‬ ‫ومن أمثلة هذه الحالة التي نرى فيها المعروف منكرا‬ ‫والمنكر معروفاً‪ ،‬ما أخبر عنه النبي × في زمن السنوات‬ ‫ن فيها‬ ‫صدّق فيها الكاذب ويُكَذ ّب الصادق‪ ،‬وي ُ َ‬ ‫خوّ ُ‬ ‫الخداعة‪ ،‬التي ي ُ َ‬ ‫المين ويُؤتمن الخائن‪ .‬وهذه المظاهر الخداعة إنما نتجت عن‬ ‫الجهل في فقه الواقع السياسي‪ ،‬وقيام جهات مشبوهة بعكسه‬ ‫لدى المسلمين‪ ،‬فتنبه‪.‬‬ ‫المثال الواقعي على أهمية الفقه السياسي‪:‬‬ ‫وهذا مثال واقعي قديم د ّ‬ ‫ل على وقوع المسلمين في‬ ‫حبائل التضليل السياسي‪ ،‬حين رأوا المعروف منكرا والمنكر‬ ‫معروفاً‪ ،‬فصدقوا الكَذَبَة‪ ،‬وكذّبوا الصادقين‪ ،‬وأتمنوا الخونة‪ ،‬وخونوا‬ ‫المناء‪.‬‬ ‫كان هذا المثال في القرن الرابع من الهجرة في زمن‬ ‫الخلفة العباسية‪ .‬فبعد أن وطدت الدولة الفاطمية العبيدية‬ ‫الشيعية أركانها في بلد المغرب العربي‪(( ،‬بعث عبيدالله‬ ‫المهدي أول خلفائهم جيوشه لفتتاح مصر‪ ،‬أكثر من مرة‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من استيلئها سنة (‪302‬هـ‪914-‬م)‪ ،‬على بعض المدن‬ ‫المصرية كبرقة والسكندرية والفيوم‪ ،‬إل أنها ارتدت على‬ ‫(‪)8‬‬ ‫أعقابها أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة العباسية)) في‬ ‫عهد الدولة الخشيدية‪ .‬وفي سنة (‪332‬هـ‪944-‬م) أعادت‬ ‫‪8‬‬

‫((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))‪ ،‬لمحمد عبد الله عنان‪،‬‬ ‫(ص ‪ ،)22-18‬ط‪ .1983 ،3/‬بتصرف‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫ت مرة‬ ‫الجيوش الفاطمية الستيلء على السكندرية‪ ،‬ولكنها ُرد ّ ْ‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫[((وبعد هذا الفشل المتكرر الذي منيت به القوة‬ ‫العسكرية الفاطمية‪ ،‬أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة‬ ‫العباسية‪ ،‬اعتمد المعز الفاطمي لسقاط مصر على أسلوب‬ ‫الدعاية التحريضية من خلل ((دعاة يبثون دعوته خفية‪،‬‬ ‫ويبشرون بالفتح الفاطمي))(‪.)9‬‬ ‫واستمرت هذه الدعوات المشبوهة لعدة عقود في جو‬ ‫مشحون بالخلفات والفوضى والضطراب في أواخر حكم‬ ‫الدولة الخشيدية في مصر‪ ،‬فأخذ الشعب المصري ينقم على‬ ‫ولة أمره‪ ،‬حتى وصلت المعارضة للخلفة العباسية إلى ذوي‬ ‫الشأن من الزعماء والجند‪ ،‬فقد كان فريق من أولئك الجند هم‬ ‫الذين دعوا الفاطميين إلى غزو مصر‪ .‬وازداد سخط الشعب‬ ‫المصري على ولة أمره‪ ،‬بعد أن تولى حكم مصر أسود خصي‪،‬‬ ‫اسمه (كافور)‪.‬‬ ‫وكانت الدولة الفاطمية تجلب إليها النظار بقوتها وغناها‪،‬‬ ‫فأصبح سواد الشعب المصري يؤثر النضواء تحت لواء‬ ‫دولة قوية فتية‪( ،‬الدولة الفاطمية)‪ ،‬على الستمرار‬ ‫في معاناة هذه الفوضى السياسية والجتماعية التي‬ ‫سادت بلد مصر‪ .‬وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى‬ ‫مصر‪ ،‬جوا ً ممهدا ً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير‬ ‫الوجوه))] (‪ )10‬أهـ‪ .‬فتم لهم السيطرة على بلد مصر في منتصف‬ ‫شعبان سنة ‪358‬هـ‪.‬‬ ‫فإذا علمت أن نسب الفاطميين الشيعة يعود على الرجح‬ ‫إلى اليهود(‪ ،)11‬وليس إلى المجوس‪ ،‬أدركت مدى درجة الغثائية‬ ‫‪9‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫المصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)29‬‬ ‫المصدر السابق‪( ،‬ص ‪ ،)29-1‬بتصرف‪ .‬وقد اعتمد المؤلف على‬ ‫العديد من المراجع التاريخية‪ ،‬منها‪ :‬كتاب‪(( :‬الخطط)) للمقريزي‪( ،‬‬ ‫‪ .)127-2/126‬وكتاب‪(( :‬وفيات العيان)) لبن خلكان في ترجمة القائد‬ ‫جوهر‪ .)1/148( ،‬وانظر (‪ .)3/440‬وكتاب‪(( :‬اتعاظ الحنفاء)) (ص ‪-146‬‬ ‫‪.)147‬‬ ‫كتاب‪ (( :‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)) ابن تغري بردي‪_ ،‬‬ ‫‪ .)76-4/75‬وكتاب‪(( :‬وفيات العيان)) لبن خلكان‪ .)3/82( ،‬وكتاب‪:‬‬ ‫((معجم البلدان)) لياقوت الحموي‪ .)231-5/230( ،‬وكتاب‪(( :‬سير أعلم‬ ‫النبلء)) للذهبي‪.)142 -15/141( ،‬‬

‫‪15‬‬

‫التي كانت تتسم بها الشعوب الغافلة المسلمة في بلد مصر‪ ،‬حيث‬ ‫استطاعت الجاسوسية اليهودية أن تنفث سمومها في عقولهم‪،‬‬ ‫مستخدمة شتى أنواع الدعاية المغرضة‪ ،‬فجعلتهم ينظرون إلى‬ ‫الدولة الفاطمية بروح العجاب‪ ،‬فصدقوا الكَذَبَة‪ ،‬وائتمنوا الخونة‪.‬‬ ‫وكذّبوا الصادقين‪ ،‬وخونوا المناء ولة المر في دولة الخلفة‬ ‫العباسية‪ ،‬بل تآمروا عليها وعلى ولة أمورهم‪ ،‬وانضموا إلى‬ ‫َ‬ ‫السياسة اليهودية لسقاطها‪ ،‬بل رحبوا بها وفرحوا بنصر الكذَبَة‬ ‫خونَة عليها‪ ،‬فماذا كانت نتيجة عدم الوعي‪ ،‬والتضليل السياسي‬ ‫ال َ َ‬ ‫الذي أصيبوا به؟‬ ‫كانت النتيجة الدمار الشامل الذي أصاب الضرورات‬ ‫الخمس للحياة النسانية‪ ،‬فقد عطل الفاطميون الحدود‪،‬‬ ‫وأباحوا الفروج‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وسبّوا النبياء‪ ،‬ولعنوا‬ ‫السلف‪ ،‬وا ّدعوا الربوبية‪ .‬وصادروا الملك (التأميم)(‪.)12‬‬ ‫فلما علم الناس حقيقية أمرهم ضاقوا بهم ذرعياً‪،‬‬ ‫وس ّبوهيم ولعنوهم‪ ،‬حتى أصدر فيهم علمياء العصر‬ ‫فتيوى تحذر منهم ومن شرهم وتبين لهم حقيقة‬ ‫أمرهم‪ ،‬وما كيان لهؤل العلماء ول لغيرهم من العاميية‪،‬‬ ‫أن يخدعوا بهذه الدعيوة الباطنييية الكاذبية ابتدا ًء‪ ،‬لو‬ ‫أنهم درسيوا عقائدهيا ومذهبها‪ ،‬ولما رحبييوا بهذه‬ ‫الدولية الباطنيية فييي بلدهم‪.‬‬ ‫وهذا هو حكم علماء العصر فيهم‪ ،‬بعد أربع وأربعين سنة من‬ ‫احتللهم لبلد مصر‪ ،‬ينقله لنا ابن تغري بردي فيقول‪:‬‬ ‫((السنة السادسة عشرة من ولية الحاكم منصور على‬ ‫مصر‪ :‬وهي سنة اثنتين وأربعمائة‪ ،‬فيها في شهر ربيع الخر كتب‬ ‫الخليفة القادر العباسي محضرا ً في معنى الخلفاء المصريين‬ ‫والقدح في أنسابهم وعقائدهم وقرئت النسخ ببغداد‪ ،‬وأخذت فيها‬ ‫خطوط القضاة والئمة والشراف بما عندهم من العلم بمعرفة‬ ‫نسب الديصانية‪ ،‬قالوا‪ :‬وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد‬ ‫الخرمي إخوان الكافرين ونطف الشياطين شهادة يتقربون بها إلى‬ ‫الله ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس‬ ‫فشهدوا جميعا ً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب‬ ‫‪12‬‬

‫مصادرة الملك ذكرت في كتاب‪ (( :‬الخطط أو المواعظ والعتبار‬ ‫بذكر الخطط والثار)) للمقريزي‪ .)3/23( ،‬وكتاب‪(( :‬تاريخ يحي‬ ‫النطاكي ))‪( ،‬ص ‪.)206‬‬

‫‪16‬‬

‫بالحاكم‪ ،‬حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال‪ :‬ابن معد بن‬ ‫إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد‪ ،‬ل أسعده الله‪ .‬فإنه لما صار‬ ‫إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي هو ومن تقدمه‬ ‫من سلفه الرجاس النجاس‪ ،‬عليه وعليهم اللعنة‪،‬‬ ‫أدعياء‪ ،‬خوارج‪ ،‬ل نسب لهم في ولد علي بن أبي‬ ‫طالب‪ ،‬وأن ذلك باطل‪ ،‬وزور‪ ،‬وأنهم ل يعلمون أن أحدا ً من‬ ‫الطالبيين توقف عن إطلق القول في هؤلء الخوارج أنهم أدعياء‪.‬‬ ‫وقد كان هذا النكار شائعا ً بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب‪،‬‬ ‫منتشرا ً انتشارا ً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم‪ ،‬أو يذهب وهم‬ ‫إلى تصديقهم‪ ،‬وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه‪ ،‬كفار وفساق‬ ‫فجار زنادقة ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون‪ ،‬قد عطلوا‬ ‫الحدود‪ ،‬وأباحوا الفروج‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وسبوا النبياء‪،‬‬ ‫ولعنوا السلف‪ ،‬وادعوا الربوبية‪.‬‬ ‫وكتب خلق كثير في المحضر المذكور الذي حرر في شهر‬ ‫ربيع الخر سنة اثنتين وأربعمائة منهم‪:‬‬ ‫الشريف الرضي‪ ،‬والمرتضى أخوه‪ ،‬وابن الزرق الموسوي‪،‬‬ ‫ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون‪ ،‬والقاضي أبو‬ ‫محمد عبد الله بن الكفاني‪ ،‬والقاضي أبو القاسم الجزري‪ ،‬والمام‬ ‫أبو حامد السفرايني‪ ،‬والفقيه أبو محمد الكشفلي‪ ،‬والفقيه أبو‬ ‫الحسين القدوري الحنفي‪ ،‬والفقيه أبو علي بن حمكان‪ ،‬وأبو‬ ‫القاسم التنوخي‪ ،‬والقاضي أبو عبد الله الصيمري‪ .‬انتهى أمر‬ ‫المحضر باختصار‪ .‬فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان في أعين‬ ‫الناس لكتابة هؤلء العلماء العلم في المحضر (‪.)13‬‬ ‫وفي ترجمة ابن الشواء‪ ،‬أورد كمال الدين عمر بن أبي‬ ‫جرادة أنشودة له‪ ،‬يصف فيها تمكن اليهود في عصره‪:‬‬

‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬

‫يهود هذا الزمــان‬ ‫قد بلغوا‬

‫غاية آمالهم وقــد‬ ‫ملـكوا‬

‫العز فيهم والمـــال‬ ‫عندهم‬

‫ومنهم المستشــار‬ ‫والملك‬

‫يا أهل مصر قد‬ ‫نصحت لكم‬

‫تهودوا قد تهود‬ ‫(‪) 14‬‬ ‫الفلك ))‬

‫((النجوم الزاهرة)) (‪.)231-229 /4‬‬ ‫((بغية الطلب في تاريخ حلب))‪ ،)697 -2/696( ،‬ط‪1988 ،/‬‬

‫‪17‬‬

‫وقد صور لنا الأستاذ محمد عبدالله عنان‪ ،‬مشهد انتقام‬ ‫دعوا بها‪،‬‬ ‫شعب مصر وجيشه الساخط من الدولة الفاطمية التي ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫والتي طالما لعبت في عقولهم‪ ،‬وعاثت في أرضهم الفساد‪،‬‬ ‫وحكمتهم بالحديد والنار‪ ،‬في صفحة ( ‪ )210-209‬من كتابه‪:‬‬ ‫((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))‪ .‬فكانت نهاية‬ ‫دولتهم في سنة ( ‪)411‬هـ‪.‬‬ ‫هذه إحدى التجارب المّرة التي لدغنا منها‪ ،‬ولم تكن هي‬ ‫الولى أبداً‪ ،‬وليست الخيرة قطعاً‪ ،‬فل زلنا نلدغ من نفس الجحر‬ ‫اليهودي بأساليبه المتطورة مع الزمن بصور وأشكال متعددة‪،‬‬ ‫وحقيقته واحدة‪.‬‬ ‫السس الضرورية لفقه واقعنا السياسي‪:‬‬ ‫ينبثق الفقه السياسي أساسا ً من العقيدة السلمية‪،‬‬ ‫ومعززا ً بالشعائر التعبدية‪ ،‬ومؤيدا ً بالقيم والخلق النبيلة‪ .‬وهو‬ ‫يقوم على مجموعة من السس الضرورية لجلب المصالح‬ ‫وتكثيرها‪ ،‬ودرء المفاسد وتقليلها‪ ،‬وهذه السس يعتمد بعضها‬ ‫على بعض وهي‪:‬‬

‫أول ‪ :‬فقه الواقيييع‬ ‫ثانياً‪ :‬فقه الموازنات‬ ‫ثالثاً‪ :‬فقه الولويات‬ ‫رابعاً‪ :‬فقه التغيير‬

‫‪18‬‬

‫أولً‪ :‬فقه الواقع‬ ‫تعريفات‪:‬‬ ‫الفقه لغة‪:‬‬ ‫لُ [هود‪ ، ]91:‬أي‪ :‬ل‬ ‫شعَيْبُ مَا َنفْ َقهُ كَِثيًا ّممّا َتقُو ‪‬‬ ‫مطلق الفهم‪).‬قَالُواْ يَا ُ‬ ‫نفهم كثيرا ً مما تقول‪ ،‬ومن دعاء الرسول × لبن عباس ‪:‬‬ ‫((اللهم فقهه في الدين‪ ،‬وعلمه التأويل))(‪ .)15‬أي‪ :‬فهمه معناه‪.‬‬ ‫الواقع‪:‬‬ ‫هو مجموعة الحقائق والسنن الكونية‪ ،‬ومنها الفطرة‬ ‫النسانية‪ ،‬وكلها محكمة‪ ،‬أي‪ :‬ل تتبدل ول تتحول‪ .‬يضاف إلى‬ ‫الواقع كذلك كل ما يحدث من حوادث‪.‬‬ ‫فقه الواقع‪:‬‬ ‫هو فهم ومعرفة الحقائق والسنن الكونية‪ ،‬والفطر‬ ‫النسانية‪ ،‬معرفة يقينية‪ .‬لتساهم في مواكبة الواقع المعاصر‬ ‫ومعايشته على أكمل وجه‪ ،‬إذ أن الشريعة السلمية دعت إلى‬ ‫التفاعل مع السنن الكونية للفادة منها‪ ،‬والحذر من مخاطرها‪،‬‬ ‫ضمن الثوابت‪ ،‬والصول التي ل يعذر المسلم بالخروج عنها‪.‬‬ ‫أهمية فقه الواقع‪:‬‬ ‫الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء‪ ،‬بل هو المتفرد‬ ‫بالخلق دون غيره‪ ،‬ول يسأل عما يفعل‪ ،‬فقد شــاءت الله تعالى‬ ‫أن يخلق هذا الكون بما فيه من أرض وسماوات وما بث فيهما‬ ‫سمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ َومَا بَثّ فِي ِهمَا مِن‬ ‫من دابة‪ ،‬قال تعــالى‪َ ):‬و ِمنْ آيَاِتهِ َخ ْلقُ ال ّ‬

‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ‬ ‫دَاّبةٍ‪[ ‬الشورى‪ .]29:‬وقال تعالى‪ِ):‬إنّ َربّ ُكمُ ال ّلهُ اّلذِي خَ َلقَ ال ّ‬ ‫شمْسَ وَاْل َقمَرَ‬ ‫فِي سِّتةِ أَيّامٍ ُثمّ اسَْتوَى َعلَى اْلعَرْشِ ُيغْشِي اللّيْلَ النّهَارَ يَ ْطلُُبهُ حَثِيثًا وَال ّ‬ ‫لمْرُ تَبَارَكَ ال ّلهُ َربّ اْلعَاَلمِيَ‪[ ‬العراف‪.]54:‬‬ ‫خ ْلقُ وَا َ‬ ‫سخّرَاتٍ ِبَأمْرِهِ أَلَ َلهُ الْ َ‬ ‫وَالنّجُومَ مُ َ‬ ‫لمْرُ)‪ :‬فيه‬ ‫خ ْلقُ وَا َ‬ ‫قال القرطبي في تفسير قوله تعالى‪( :‬أَلَ َلهُ الْ َ‬ ‫مسألتان‪ :‬الولى‪ :‬صدق الله في خبره فله الخلق وله المر‬ ‫خلقهم وأمرهم بما أحب‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫متفق عليه‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫لمْرُ)‬ ‫خ ْلقُ وَا َ‬ ‫وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى‪( :‬أَلَ َلهُ الْ َ‬ ‫أي‪:‬له الملك والتصرف‪.‬‬ ‫فالخلق‪ :‬هو الكون بما فيه من جمادات وأحياء‪ ،‬وهو‬ ‫نتيجة لمر الله تعالى بأن يكون‪ ،‬فكان‪ .‬كما في قوله تعالى‪ِ :‬إّنمَا‬ ‫يءٍ إِذَا أَرَ ْدنَاهُ أَن ّنقُولَ َلهُ كُن فَيَكُونُ‪[ ‬النحل‪ .]40:‬وفقه هذا النوع‬ ‫َقوْلُنَا لِشَ ْ‬ ‫يسمى‪( :‬فقه الواقع) الكوني‪.‬‬ ‫والمر على عدة أحوال‪:‬‬ ‫•أمر الله تعالى وكلمته التي بها خلق الجمادات والحياء‪ ،‬كما‬ ‫يءٍ ِإذَا أَرَدْنَاهُ أَن ّنقُولَ َلهُ كُن َفيَكُونُ‪[ ‬النحل‪:‬‬ ‫في قوله تعالى‪ِ :‬إّنمَا َقوْلُنَا لِشَ ْ‬ ‫‪ِ .]40‬إّنمَا َأمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ َيقُولَ َلهُ ُكنْ َفيَكُونُ‪[ ‬يس‪ .]82:‬وهذا النوع‬ ‫من المر المتعلق بإيجاد المخلوقات‪ ،‬يسمى كذلك بـ (فقه‬ ‫الواقع) الكوني‪.‬‬

‫•أمر الله تعالى لتدبير الكون بما فيه من جمادات وأحياء‪ِ :‬إنّ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ فِي ِسّتةِ أَيّامٍ ُثمّ اسَْتوَى َعلَى اْلعَ ْرشِ ُي َدبّرُ‬ ‫َربّ ُكمُ ال ّلهُ اّلذِي خَ َلقَ ال ّ‬ ‫ا َلمْرَ مَا مِن َشفِيعٍ إِلّ مِن َبعْدِ إِذِْنهِ َذلِ ُكمُ ال ّلهُ رَبّ ُكمْ‬

‫فَاعُْبدُوهُ أَفَلَ َتذَكّرُونَ‪[ ‬يونس‪:‬‬

‫‪َ  .]3‬فأَ ِقمْ وَجْ َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا ِفطْرَةَ ال ّلهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ َعلَيْهَا لَا تَ ْبدِيلَ ِلخَ ْلقِ ال ّلهِ‬ ‫كنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعْ َلمُونَ‪[ ‬الروم‪ .]30:‬وهذا المر هو‬ ‫َذِلكَ الدّينُ اْلقَّيمُ وَلَ ِ‬ ‫السنن الكونية التي فطر الله تعالى الجمادات والحياء‬ ‫عليها‪ .‬كدوران الرض حول الشمس‪ ،‬وإنزال الغيث‪ ،‬وتوسع‬ ‫الكون في الجمادات‪ .‬وكغريزة التكاثر‪ ،‬والمأكل والمشرب‪،‬‬ ‫والنوم‪ ،‬والصحة والمرض‪ ،‬والتدين في الحياء من البشر‬ ‫وأمثالهم‪ .‬وهذا النوع يسمى كذلك بـ (فقه الواقع) الكوني‪.‬‬ ‫•أمر الله تعالى الحياء‪ ،‬ومنهم النس والجن بطاعته وعبادته‪:‬‬ ‫جنّ وَاْلإِنسَ إِلّا لَِيعُْبدُونِ‪[ ‬الذاريات‪ .]56:‬مَا ُقلْتُ َل ُهمْ إِلّ مَا َأمَرْتَنِي‬ ‫‪َ ‬ومَا خَ َلقْتُ اْل ِ‬

‫ِبهِ أَنِ اعُْبدُواْ ال ّلهَ رَبّي وَرَبّ ُكمْ} [المائدة‪ .]117:‬يَا َأيّهَا النّاسُ اعُْبدُواْ َربّ ُكمُ اّلذِي‬ ‫كمْ تَّتقُونَ‪[ ‬البقرة‪ .]21:‬وهذا المر‪ ،‬هو المر‬ ‫َخ َلقَ ُكمْ وَاّلذِينَ مِن َقبْلِ ُكمْ َلعَلّ ُ‬ ‫الشرعي‪ ،‬الذي تعبد الله به عباده‪ ،‬فأرسل لغايته الرسل ‪،‬‬ ‫وأنزل الشرائع والكتب‪ ,‬وهو ما يسمى بـ (فقه الشرع)‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫سنّتان حاكمتان‪ :‬السنة الكونية(فقه الواقع)‬ ‫إذن هما ُ‬ ‫المتعلق بما نتج عن أمر الله من إيجاد الخلق ابتداءً‪،‬‬ ‫ثم تدبير شؤونهم ومعاشهم‪ ،‬وما يحدث لهم من حوادث‪.‬‬ ‫والسنة الشرعية (فقه الشرع) المتعلق بأمر الله لعباده‬ ‫بالطاعة والعبادة‪ ،‬وهي أوامره المتعلقة بالفعل والترك‪ .‬فلكي‬ ‫يحيى النسان الحياة الطيبة عليه أن يعلم هاتين السنتين‪ ،‬ثم‬ ‫يعمل بمقتضاهما‪ .‬ومن فرط في معرفة أحداهما أو تجاهلها أو‬ ‫ظن في نفسه معرفتها فقد ضل سواء السبيل‪ ،‬ومن ضل سواء‬ ‫السبيل انقلبت حياته‪ :‬من نعمة إلى نقمة‪ ،‬ومن أمن إلى خوف‪،‬‬ ‫ومن سعة في الرزق إلى جوع وفقر‪ ،‬ومن خير إلى شر‪.‬‬

‫حشُرُهُ َي ْومَ‬ ‫شةً ضَنكًا وَنَ ْ‬ ‫قال تعالى‪):‬وَ َمنْ َأعْ َرضَ عَن ِذكْرِي َفِإنّ َلهُ َمعِي َ‬ ‫اْلقِيَا َمةِ َأ ْعمَى‪[ ‬طه‪ .]124:‬وهذا المر مبين في قوله تعالى‪):‬يَا أَيّهَا اّلذِينَ‬ ‫صلِحْ لَ ُكمْ َأ ْعمَالَ ُكمْ وَيَ ْغفِرْ لَ ُكمْ ذُنُوبَ ُكمْ َومَن يُطِعْ‬ ‫آمَنُوا اّتقُوا ال ّلهَ وَقُولُوا َقوْلًا َسدِيدًا * ُي ْ‬ ‫ال ّلهَ وَرَسُوَلهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا َعظِيمًا‪[ ‬الحزاب‪ .]71-70:‬فالقول السديد‬ ‫(الصادق) بحاجة إلى سداد في معرفة الواقع‪ ،‬ولكي نحصل‬ ‫على الثمرات الواردة في الية الكريمة‪ ،‬ل بد من اجتماع أمرين‬ ‫اثنين‪:‬‬ ‫•معرفة الخلق والمر‪ ،‬أي‪ :‬الواقع والشرع‪.‬‬ ‫•التقوى التي هي مقتضى تلك المعرفة‪.‬‬ ‫وهاتان السنتان الحاكمتان (الخلق والمر) مهمتان‬ ‫ومطلوبتان لصدار الحكام ومن ثم العمال‪ ،‬وخاصة لهل العلم‬ ‫المفتين والقضاة والرعاة الحاكمين‪.‬‬ ‫قال ابن القيم تحت عنوان‪(( :‬تمكن الحاكم والمفتي‬ ‫بنوعين من الفهم))‪:‬‬ ‫((ول يتمكن المفتي ول الحاكم من الفتوى والحكم بالحق‬ ‫إل بنوعين من الفهم‪ :‬إحداهما‪ :‬فهم الواقع والفقه فيه‪،‬‬ ‫واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والمارات والعلمات‬ ‫حتى يحيط به علماً ‪.‬‬ ‫والنوع الثاني‪ :‬فهم الواجب في الواقع‪ ،‬وهو فهم حكم‬ ‫الله الذي حكم به في كتابه‪ ،‬أو على لسان رسوله في هذا‬ ‫الواقع‪ ،‬ثم يطبق أحدهما على الخر‪ .‬فمن بذل جهده واستفرغ‬

‫‪21‬‬

‫ً‬ ‫أجرا ‪ .‬فالعالم‪ :‬من‬ ‫وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو‬ ‫يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم‬ ‫الله ورسوله‪ ،‬كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر‬ ‫إلى معرفة براءته وصدقه‪ .‬وكما توصل سليمان صلى الله عليه‬ ‫وسلم بقوله‪ :‬ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما‪ ،‬إلى‬ ‫معرفة عين الم‪ )16())..‬أهـ‪.‬‬ ‫ولهذا قال رسول الله ×‪(( :‬القضاة ثلثة‪ :‬واحد في الجنة‬ ‫واثنان في النار‪ ،‬فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى‬ ‫به‪ .‬ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار‪ .‬ورجل‬ ‫(‪.)17‬‬ ‫قضى للناس على جهل فهو في النار))‬ ‫ويقول (ابن القيم) محمد بن أيوب الزرعي‪ ،‬محذرا من‬ ‫تبعات التقصير في معرفة الواقع والشريعة‪:‬‬ ‫((‪...‬هذا موضع مزلة أقدام‪ ،‬وهو مقام ضنك ومعترك‬ ‫صعب‪ .‬فَّرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا‬ ‫أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة ل تقوم‬ ‫بها مصالح العباد‪ ،‬وسدوا على نفوسهم طرقاً عديدة من طرق‬ ‫معرفة الحق من الباطل‪ ،‬بل عطلوها مع علمهم قطعاً وعلم‬ ‫غيرهم بأنها أدلة حق ظنا ً منهم منافاتها لقواعد الشرع‪ .‬والذي‬ ‫أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة‪،‬‬ ‫وتقصير في معرفة الواقع‪ ،‬وتنزيل أحدهما على‬ ‫الخر‪ .‬فلما رأى ولة المر ذلك وأن الناس ل يستقيم أمرهم‬ ‫إل بشيء زائد على ما فهمه هؤلء من الشريعة‪ ،‬أحدثوا لهم‬ ‫قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم‪ ،‬فتولد من تقصير‬ ‫أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم‪،‬‬ ‫شر طويل وفساد عريض‪ ،‬وتفاقم المر وتعذر استدراكه‪.‬‬ ‫وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافى حكم‬ ‫الله ورسوله‪ ،‬وكل الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما‬ ‫بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم‬ ‫الناس بالقسط‪ ،‬وهو العدل الذي به قامت السماوات والرض‪،‬‬ ‫فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق‬ ‫كان فثم شرع الله ودينه‪ ،‬والله تعالى لم يحصر طرق‬ ‫العدل وأدلته وعلماته في شيء‪ ،‬ونفي غيرها من الطرق التي‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬

‫((إعلم الموقعين)) (‪.)88 -1/87‬‬ ‫رواه أبو داود‪ ،‬وابن ماجة والترمذي وصححه الشيخ الألباني‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫هي مثلها أو أقوى منها‪ ،‬بل بين ما شرعه من الطرق أن‬ ‫مقصوده إقامة العدل‪ ،‬وقيام الناس بالقسط‪ ،‬فأي طريق‬ ‫استخرج بها العدل والقسط‪ ،‬فهي من الدين‪ ،‬ل يقال إنها‬ ‫مخالفة له‪ ،‬فل تقول‪ :‬إن السياسة العادلة مخالفة لما‬ ‫نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من‬ ‫أجزائه‪ .‬ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع‬ ‫حق))(‪.)18‬‬ ‫مصادر معرفة الواقع‪:‬‬ ‫بما أن فقه الواقع معتبر لصحة العتقاد والتصورات وما‬ ‫يترتب على ذلك من صدق في القوال وصواب في العمال‪.‬‬ ‫فمن الواجب أخذ هذا الفقه من مصادره الصادقة المعتبرة‪،‬‬ ‫وأول هذه المصادر صدقاً الوحي بشقيه القرآن الكريم الذي ل‬ ‫يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬والسنة النبوية‬ ‫الصحيحة‪ ،‬وهما منهج للحياة البشرية الكريمة الصالحة‪ ،‬سواء‬ ‫كان ذلك من جهة علقة العبد بخالقه‪ ،‬أم علقة العبد بالعبد‪ ،‬أم‬ ‫علقته بالكون‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فقد ترك الوحي أمورا ً من‬ ‫الواقع‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بعلقة العبد بالعبد أو علقته بالكون‬ ‫لتقدير الناس للوصول إلى معرفة حقائقها‪ .‬فقد أكد القرآن‬ ‫على ضرورة التحري عن أخبار الفساق قبل ردها أو الخذ بها‪،‬‬ ‫قال تعالى‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُوا إِن جَاء ُكمْ فَا ِسقٌ بِنََبأٍ َفتَبَيّنُوا أَن ُتصِيبُوا َق ْومًا بِجَهَاَلةٍ‬ ‫صبِحُوا َعلَى مَا َفعَلُْتمْ نَا ِدمِيَ‪[ ‬الحجرات‪.]6:‬‬ ‫فَُت ْ‬ ‫وهذا التحري له طرقه ومصادره وأساليبه‪ ،‬وهو متطور‬ ‫مع الزمن لتطور أساليب الدجل والعمل الجاسوسي المنظم‪،‬‬ ‫فَتََر َ‬ ‫ك أمره للناس ولفهامهم‪.‬‬ ‫وفي علقة العبد بالكون‪ ،‬فقد أرشدنا الله تعالى إلى‬ ‫سَألُوَنكَ َعنِ‬ ‫أدب آخر في التعامل مع الوحي كما في قوله تعالى‪ :‬يَ ْ‬

‫حجّ وَلَيْسَ اْلبِرّ ِبَأنْ َت ْأُتوْاْ اْلبُيُوتَ مِن ُظهُورِهَا وَلَ ِكنّ الْبِرّ‬ ‫الهِ ّلةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْ َ‬ ‫كمْ ُتفْلِحُونَ‪[ ‬البقرة‪.]189:‬‬ ‫َمنِ اّتقَى وَأْتُواْ الُْبيُوتَ ِمنْ أَْبوَابِهَا وَاّتقُواْ ال ّلهَ َلعَلّ ُ‬ ‫فقد جاء قوم وسألوا الرسول × عن الهلّة‪ ،‬فأجابهم‬ ‫الوحي بعلقتها بالمواقيت والحج فقط‪ ،‬ثم رد ّ عليهم قصدهم‬ ‫‪18‬‬

‫((بدائع الفوائد)) (‪ ،)676-3/674‬ط‪ ،1/‬مكة المكرمة‪ ،‬دار الباز للنشر‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫الذي أرادوا منه معرفة ما وراء ذلك‪ ،‬كطبيعة القمر وخصائصه‬ ‫ومكوناته من خلل الوحي‪ ،‬فقال‪):‬وَلَيْسَ الِْبرّ ِبَأنْ َتأُْتوْاْ الُْبيُوتَ مِن ظُهُو ِرهَا‪،‬‬ ‫بل أمرهم لمعرفة حقيقة القمر الكونية بأن يأتوا البيوت من‬ ‫أبوابها‪ ،‬أي‪ :‬أهل العلم المتخصصين‪ ،‬قال تعالى‪):‬وَأْتُواْ الُْبيُوتَ ِمنْ‬ ‫َأْبوَابِهَا‪ ،‬لن القرآن الكريم لم يتطرق إلى بيان كل الحقائق‬ ‫العلمية والسنن الكونية عن الكون إن كان فيه ما يدل على‬ ‫ذلك‪ ،‬ولو قصد ذلك لحتاج المر إلى أضعاف أضعاف عدد آيات‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬فََرد ّ أمر معرفة ذلك إلى أهل والعلم‬ ‫والختصاص‪):‬وَأْتُواْ الُْبيُوتَ ِمنْ أَْبوَابِهَا‪ .‬ولذا قال تعالى‪):‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي‬ ‫يءٍ شَهِيدٌ‪‬‬ ‫حقّ َأوََلمْ يَكْفِ ِبرَّبكَ أَّنهُ َعلَى كُلّ شَ ْ‬ ‫س ِهمْ حَتّى يَتَبَّينَ لَ ُهمْ أَّنهُ اْل َ‬ ‫الْآفَاقِ وَفِي أَنفُ ِ‬ ‫[فصلت‪ .]53:‬أي بالعلم بالبحث والتنقيب‪.‬‬ ‫يءٍ‪‬‬ ‫وقد يحتج بعضهم‪ ،‬بقوله تعالى‪):‬مّا فَرّ ْطنَا فِي الكِتَابِ مِن شَ ْ‬ ‫[النعام‪ .]38:‬لفهم الواقع كله من خلل الوحي‪ :‬القرآن والسنة‬ ‫فقط‪ .‬وهذه الية ل تدل على مرادهم‪ ،‬فالمقصود بالكتاب‪ :‬هو‬ ‫أم الكتاب‪ ،‬أو اللوح المحفوظ‪ .‬قال الطبري في تفسيرها‬ ‫بسنده عن ابن عباس‪(( :‬ما تركنا شيئا ً إل قد كتبناه في أم‬ ‫الكتاب))‪ .‬وقال القرطبي‪(( :‬أي في اللوح المحفوظ))‪ .‬ومما يدل‬ ‫على صحة هذا التأويل قول الرسول ×‪(( :‬إن أول ما خلق‬ ‫الله القلم‪ ،‬فقال له‪ :‬اكتب‪ .‬قال‪ :‬ما أكتب قال‪ :‬اكتب‬ ‫القدر ما كان وما هو كائن إلى البد))(‪. )19‬‬ ‫ومن الدلة على أن معرفة العبد لواقع هذا الكون‪ ،‬ليست‬ ‫محصورة بالوحي فقط‪ ،‬قول رسول الله ×‪(( :‬أنتم أعلم بأمر‬ ‫دنياكم))(‪.)20‬‬ ‫ونص الحديث بتمامه‪:‬‬ ‫((أن النبي × مرّ بقوم يلقحون فقال‪ :‬لو لم‬ ‫تفعلوا لصلح قال‪ :‬فخرج شيصاً فمر بهم فقال‪ :‬ما‬

‫‪19‬‬

‫‪20‬‬

‫تخريج السيوطي ‪( :‬ت) عن عبادة بن الصامت‪ .‬تحقيق الشيخ‬ ‫اللباني‪( :‬صحيح) انظر حديث رقم‪ )2017( :‬في ((صحيح الجامع))‪.‬‬ ‫تخريج السيوطي‪( :‬م) عن أنس وعائشة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪:‬‬ ‫(صحيح) انظر حديث رقم‪ )1488( :‬في ((صحيح الجامع))‪‌.‬‬

‫‪24‬‬

‫لنخلكم قالوا‪ :‬قلت كذا وكذا قال‪ :‬أنتم أعلم بأمر‬ ‫دنياكم))(‪.)21‬‬ ‫مع أن القرآن الكريم قد أشار إلى إحدى وظائف الرياح‪:‬‬ ‫(التلقيح)‪ ،‬أي تلقيح أزهار النباتات‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬وَأَرْ َسلْنَا‬ ‫الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪[ ‬الحجر‪ .]22:‬لكن هذه السنة الكونية ل تصلح لتأبير‬ ‫النخل‪ ،‬وعُلم ذلك من الخبرة‪ :‬الدراسة والتجربة‪.‬‬ ‫وعليه فإن العتماد على الوحي في معرفة ما يتعلق‬ ‫بقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو صناعة المتفجرات‬ ‫والقنابل النووية والكهرباء وغير ذلك يعتبر من الجهل الذي ل‬ ‫يقول به عاقل‪ ،‬ويدخل في ذلك كذلك أخبار الفرق والحزاب‬ ‫والمذاهب وما اتفقت عليه‪ ،‬وما اختلفت فيه وأخبار الدول‬ ‫والملوك والمراء والرؤساء والساسة والفراد‪.‬‬ ‫ومن المؤسف أن يحمل البعض قول الرسول ×‪(( :‬أنتم‬ ‫أعلم بأمر دنياكم)) على فراسة المؤمن‪ ،‬ففيه تعطيل واضح‪،‬‬ ‫بل قتل لمادة البحث العلمي لكتشاف أسرار هذا الكون!!!‬ ‫أمور مهمة لفهم الواقع‪:‬‬ ‫(أ) أصناف الناس في معرفة الحقيقة‪:‬‬ ‫يختلف الناس في معرفة الحقيقة وفهم الواقع على‬ ‫أربعة أصناف‪:‬‬ ‫الصنف الول‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬ ‫النظر في الشكل الخارجي فقط‪ ،‬كأن يمتدح شخصا ما لطول‬ ‫لحيته‪ ،‬أو لعمامته‪ ،‬أو للباسه المتواضع‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى‬ ‫إشارات الصلح‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة‬ ‫يقينية‪ .‬وهذا الصنف من أضل الناس‪.‬‬ ‫الصنف الثاني‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬ ‫القوال والتصريحات الدعائية فقط‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى‬ ‫إشارات الصلح‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة‬ ‫يقينية‪.‬‬ ‫ض للتضليل‪ ،‬وذلك لمكانية وقوع‬ ‫وهذا الصنف ُ‬ ‫معر ٌ‬ ‫‪21‬‬

‫مسلم برقم (‪.)2363‬‬

‫‪25‬‬

‫ل آمَنّا بِال ّلهِ وَبِاْلَي ْومِ الْآخِرِ َومَا ُهمْ ِب ُمؤْمِنِيَ‪‬‬ ‫الكذب‪ ،‬قال تعالى‪َ ):‬و ِمنْ النّاسِ َمنْ َيقُو ُ‬

‫جُبكَ َقوْلُهُ فِي اْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْ ِهدُ‬ ‫[البقرة‪ .]8:‬وقال تعالى‪):‬وَ ِمنْ النّاسِ َمنْ ُيعْ ِ‬ ‫سدَ فِيهَا وَيُ ْه ِلكَ‬ ‫خصَامِ*وَإِذَا َتوَلّى سَعَى فِي اْلأَرْضِ لُِيفْ ِ‬ ‫ال ّلهَ عَلَى مَا فِي قَلِْبهِ َو ُهوَ أََلدّ اْل ِ‬ ‫الْحَ ْرثَ وَالنّسْلَ وَال ّلهُ لَا يُحِبّ اْلفَسَادَ‪[ ‬البقرة‪.]205-204:‬‬ ‫الصنف الثالث‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬ ‫رؤية الفعال فقط‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى إشارات الصلح‬ ‫القوية‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة يقينية‪،‬‬ ‫معرض للتضليل كذلك‪ ،‬من صورتين‪:‬‬ ‫وهذا الصنف ُ‬ ‫•صورة المنافق الذي يشهد الجمعة والجماعات‪ ،‬فلو نظرت‬ ‫خدعت به‪.‬‬ ‫إلى ظاهر عمله فقط‪ُ ،‬‬ ‫• صورة المرائي ولو بأفضل العمال والطاعات‪ ،‬كقراءة‬ ‫القرآن والجهاد والصدقة‪ ،‬فهذا النوع يخالف ظاهره باطنه‪.‬‬ ‫والحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة ‪ ،‬الذي يخبرنا‬ ‫فيه النبي × عن أول ثلثة تسعّر فيهم النار يوم القيامة أدل‬ ‫دليل على صحة ذلك‪ .‬وقول النبي ×‪(( :‬إنما العمال‬ ‫بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته‬ ‫إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬ومن‬ ‫كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته‬ ‫إلى ما هاجر إليه))‪[ .‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما]‪.‬‬ ‫الصنف الرابع‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬ ‫قراءة الفكار والعقائد‪ ،‬فهذا الصنف ل يضل ول يزل بإذن الله‪،‬‬ ‫ول يلدغ من جحر واحد مرتين‪ .‬وهذا السلوب هو الدق‬ ‫والصوب‪ ،‬ول يستطيعه أو يُطيقه كثير من الناس‪.‬‬ ‫وأصحاب هذا الصنف هم الفقهاء في الواقع‪ ،‬ينذرون‬ ‫أقوامهم ويأخذون بأيديهم بعيدا ً عن مواطن الزلل والخديعة‪،‬‬ ‫قال تعالى‪):‬وََلوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى ُأوْلِي اْلَأمْرِ مِنْ ُهمْ َلعَ ِل َمهُ اّلذِينَ يَسَْتنْبِطُوَنهُ‬ ‫مِنْ ُهمْ‪[ (..‬النساء‪.]83:‬‬ ‫س الحاجة إلى هذا الصنف من الناس‬ ‫ونحن في أم ّ‬ ‫وتكثيره‪ ،‬في زمن السنوات الخدّاعات التي أخبر عنها النبي ×‪:‬‬ ‫((ثم يأتي على الناس سنوات خداعات‪ ،‬يُصدّقُ فيها‬

‫‪26‬‬

‫ب فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها الخائين‪،‬‬ ‫الكاذب‪ ،‬ويُكذّ ُ‬ ‫ون فيهيا المين‪ ،‬وينطق فيها الرويبضة‪ ،‬قييل‪:‬‬ ‫ويُخ ّ‬ ‫وما الرويبضة؟ قيال‪ :‬الرجل التافه يتكلم في أمر‬ ‫العامة))(‪.)22‬‬ ‫كي يقوم أولئك بتصحيح الصورة‪ ،‬وإحقاق الحق‪ ،‬وتصويب‬ ‫الوضاع‪ ،‬فكيف الحال بأمة ترى الصادق كاذبا ً والكاذب صادقا ً ؟‬ ‫وكيف بأمة ترى المين خائنا ً والخائن أمينا ؟!‬

‫‪22‬‬

‫((صحيح ابن ماجة))‪ ،‬رقم‪ )4036 ( :‬عن أبي هريرة ‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫أمثلة من الخدع التي وقعنا في َ‬ ‫ركِها‪:‬‬ ‫ش َ‬ ‫‪-1‬تظاهر مصطفى كمال أتاتورك اليهودي بالسلم‪ ،‬حتى‬ ‫تمكن من القضاء على الدولة العثمانية‪ ،‬وسلخ تركيا علنية‬ ‫عن السلم(‪ .)23‬فلو أن المسلمين لم يأمنوا جانبه‪،‬‬ ‫واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته يهودياً‬ ‫سابقاً لما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند اليهود تبرر‬ ‫الوسيلة‪ .‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج‬ ‫والخديعة‪.‬‬ ‫‪-2‬التحالف القديم بين السلميين والشتراكيين بقيادة لينين‬ ‫في روسيا النصرانية قبل الثورة البلشفية الشيوعية(‪،)24‬‬ ‫وبعد نجاح الثورة تم الهجوم على الجمهوريات السلمية‬ ‫المستقلة‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال‬ ‫مخادعته للمسلمين بصفته شيوعياً لما لدغوا من جحره‪،‬‬ ‫فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه‬ ‫الوسائل الكذب المبرمج والخديعة‪.‬‬ ‫‪-3‬قيام الرئيس جمال عبد الناصر الشتراكي بالنضمام إلى‬ ‫الخوان المسلمين حتى تمكن من استلم السلطة ليقضي‬ ‫على الحركة السلمية‪(( ،‬فقد قرر مجلس قيادة الثورة في‬ ‫ح ّ‬ ‫ل جماعة الخوان‬ ‫جلسته المنعقدة في ‪َ 12/1/1954‬‬ ‫المسلمين‪ ،‬واتهمهم بقلب نظام الحكم‪ ،‬والتصال بالنجليز))‬ ‫(‪.)25‬‬ ‫يقول حسين محمد حمودة أحد الضباط الحرار في‬ ‫جماعة الخوان المسلمين بهذا الشأن‪(( :‬كانت الخلية‬ ‫الرئيسية في تنظيم الخوان المسلمين داخل القوات‬ ‫المسلحة مكونة من سبعة ضباط هم‪ :‬عبد المنعم عبد‬ ‫الرءوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسن وسعد‬ ‫توفيق وخالد محي الدين وحسين حمودة وصلح خليفة))‪.‬‬ ‫وقال‪(( :‬التقينا نحن السبعة وحضر اجتماعنا الصاغ محمود‬ ‫‪23‬‬

‫‪24‬‬

‫‪25‬‬

‫((الفعى اليهودية في معاقل السلم))‪ ،‬عبد الله التل‪( ،‬ص ‪،85 ،75‬‬ ‫‪.)90‬‬ ‫طارق حجي في كتابه ((أفكار ماركسية في الميزان))‪ ،‬ص ‪ ،65‬دار‬ ‫المعارف‪.‬‬ ‫جريدة الجمهوربة‪ 15 ،‬يناير ‪ ،1954‬الصفحة الرئيسية‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫لبيب وكيل جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬وتكررت اجتماعاتنا‬ ‫مرة كل أسبوع في منزل عبد المنعم عبد الرءوف بالسيدة‬ ‫زينب‪ ،‬وفي منزل جمال عبد الناصر‪ ...‬وتكررت اجتماعاتنا‬ ‫السبوعية ولم تنقطع أبدا طيلة الفترة (‪)1948 -1944‬‬ ‫أربع سنوات وأربعة اشهر))(‪.)26‬‬ ‫فإن كان الخوان المسلمون يعلمون أن جمال عبد‬ ‫الناصر كان عضواً في خلية شيوعية قبل الثورة اسمها‬ ‫الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني( حدتو)(‪ )27‬فتلك‬ ‫مصيبة‪ ،‬وإن كانوا ل يعلمون فالمصيبة أعظم‪ .‬فلو أنهم لم‬ ‫يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين‬ ‫سابقا على أقل تقدير لما لدغوا‬ ‫ً‬ ‫بصفته شيوعياً‪ ،‬أو شيوعياً‬ ‫من جحره‪ ،‬فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس‬ ‫الوسائل الكذب المبرمج والخديعة‪.‬‬ ‫علن‬ ‫‪ -4‬تظاهر ميشيل يوسف عفلق اليهودي بالنصرانية‪ ،‬ثم أُ ْ‬ ‫منَه من‬ ‫منَه من أ ِ‬ ‫عن إسلمه بعد وفاته كذباً وزوراً (‪ .)28‬وأ ِ‬ ‫غثاء المسلمين‪ ،‬وساروا على نهجه الشتراكي‪ ،‬وصدق بعض‬ ‫الغثاء قصة إسلمه الموهومة‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا جانبه‪،‬‬ ‫واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته يهودياً أو‬ ‫شيوعياً‪ ،‬أو شيوعياً‬ ‫سابقا‪ ،‬أو اشتراكياً على أقل تقدير ما‬ ‫ً‬ ‫لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند اليهودية والشيوعية تبرر‬ ‫الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج‬ ‫والخديعة‪.‬‬ ‫‪ -5‬بعد نجاح الثورة الشيعية المامية الخمينية في إيران‪ ،‬أعلن‬ ‫عن قيام جمهورية إيران السلمية‪ ،‬قام عامة المسلمين‬ ‫بتهنئة بعضهم بعضاَ‪ ،‬وظنوا بهذه الثورة خيراً‪ ،‬علما ً أن‬ ‫الخميني يعتقد بالخط الثوري الماركسي الشيوعي‪ . .‬فلو‬ ‫أنهم لم يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته‬ ‫‪26‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪28‬‬

‫((أسرار حركة الضباط الحرار)) (ص ‪.)33‬‬ ‫المرجع السابق‪( ،‬ص ‪ ،)157‬وفيه قيام عبد الناصر بنقض التفاق بينه‬ ‫وبين الخوان على الحكم بكتاب الله‪ ،‬وفتكه بالحركة السلمية (ص‬ ‫‪ ،)167-161‬وراجع كتاب‪(( :‬فشل حركة يوليو بعدائها للتيار‬ ‫السلمي)) للدكتور جابر الحاج (ص ‪.)34‬‬ ‫نقل خبر إسلمه وسائل العلم في حينه‪ .‬وقد ذكر يهودية أبيه‬ ‫يوسف عفلق‪ ،‬الذي اعتنق النصرانية‪ ،‬عن الموقع‪:‬‬ ‫‪www.moqatel.com/mokatel/DataBehoth/Siasia2/HezbBath/Mokatel3-1-2.htm‬‬

‫‪29‬‬

‫إماميا‪ ،‬أو شيوعياً‪ ،‬أو اشتراكياً على‬ ‫ً‬ ‫للمسلمين بصفته شيعياً‬ ‫أقل تقدير ما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند الشيعة‬ ‫والشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب‬ ‫المبرمج (التقية)‪ ،‬والخديعة‪.‬‬ ‫‪ -6‬والدجال وهو أسوأ خدعة منتظرة‪ ،‬وزمان خروجه قد يكون‬ ‫خدِعَ بمن سبق ذكرهم‪ ،‬فكيف سينجو من‬ ‫قد اقترب‪ ،‬فمن ُ‬ ‫فتنته؟ مع العلم أن علم تسخير الشعوب الذي تقوم عليه‬ ‫الشتراكية اليهودية يزداد تطوراً مع الزمن‪.‬‬ ‫(ب) الكذب‪:‬‬ ‫الكذب هو عكس حقيقة الخلق‪ ،‬أو عكس الواقع‪ ،‬وهو‬ ‫من أقبح الخلق الذميمة‪ ،‬ومصيبة المصائب‪ ،‬وأشنعه ما كان‬ ‫عن قصد‪ .‬قال تعالى‪:‬‬ ‫سمْعَ وَاْلَبصَرَ وَاْل ُفؤَادَ كُلّ أُولِئكَ كَانَ عَ ْنهُ‬ ‫‪•‬وَلَ َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِ ْلمٌ إِنّ ال ّ‬ ‫سؤُولً‪[ ‬السراء‪.]36:‬‬ ‫مَ ْ‬ ‫سةُ أَنّ َلعْنَتَ ال ّلهِ عَ َل ْيهِ إِن كَانَ ِمنَ الْكَاذِبِيَ‪[ ‬النور‪.]7:‬‬ ‫‪•‬وَاْلخَامِ َ‬

‫‪َ •‬ف َمنْ حَآ ّجكَ فِيهِ مِن َب ْعدِ مَا جَاءكَ ِمنَ اْلعِ ْلمِ َفقُلْ َتعَالَوْاْ َندْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاء ُكمْ وَنِسَاءنَا‬ ‫جعَل ّلعْنَةَ ال ّلهِ َعلَى الْكَاذِبِيَ‪‬‬ ‫سنَا وأَنفُسَ ُكمْ ُثمّ نَ ْبتَهِلْ فََن ْ‬ ‫وَِنسَاء ُكمْ وَأَنفُ َ‬ ‫عمران‪.]61:‬‬ ‫ك ِذبَ َو ُهمْ َيعْ َلمُونَ‪[ ‬آل عمران‪.]95:‬‬ ‫‪•‬وََيقُولُونَ عَلَى ال ّلهِ الْ َ‬

‫[آل‬

‫وجاء في الحاديث‪:‬‬ ‫•((ثم إن الصدق يهدى إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدى إلى‬ ‫الجنة‪ ،‬وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا‪ .‬وإن‬ ‫الكذب يهدى إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدى إلى‬ ‫النار‪ ،‬وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا))‬ ‫[متفق عليه]‪.‬‬ ‫•((ثم أربع من كن فيه كان منافقا ً خالصاً ‪ ،‬ومن‬ ‫كانت فيه خصلة منهن‪ ،‬كانت فيه خصلة من النفاق‬ ‫حتى يدعها‪ :‬إذا أؤتمن خان‪ ،‬وإذا حدث كذب‪ ،‬وإذا‬ ‫عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر)) [متفق عليه]‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫ي الرجل إلى غير‬ ‫•((إن من أعظم الفرى‪ ،‬أن يدع َ‬ ‫أبيه‪ ،‬أو يري عينه ما لم تره‪ ،‬أو يقول على رسول‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل))‪[ .‬رواه‬ ‫البخاري]‪.‬‬ ‫أنواع الكذب‪:‬‬ ‫يقسم الكذب من جهة قائله إلى قسمين هما‪:‬‬ ‫‪.1‬الكذب المؤسسي‪ :‬هو الكذب المنطلق من عقيدة‪ ،‬أو‬ ‫مبدأ‪ ،‬أو دين‪ ،‬مثل الكذب في الديانة اليهودية المحرفة التي‬ ‫تجيز الكذب لتباعها في تعاملهم مع غيرهم‪ ،‬سواء كان ذلك‬ ‫لجلب منفعة أو درء مفسدة‪ ،‬بل هو عندهم قربى يتقربون‬ ‫بها إلى الله بزعمهم‪ .‬ومثلها العقيدة المامية الباطنية التي‬ ‫تتخذ الكذب والتّقيّة ديناً‪ ،‬بل فيها ـ على حد زعمهم ـ تسعة‬ ‫أعشار الدين‪.‬‬ ‫وأما الكذب في المبدأ الشتراكي الصهيوني فهو الركيزة‬ ‫الكبرى عندهم‪ .‬فأصحاب هذا النوع من الكذب يعاملون‬ ‫مل دعواهم على مبدأ المواراة‬ ‫بالحذر الشديد‪ ،‬وت ُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫والمداهنة واللف والدوران‪ ،‬ومن جهة هؤلء يكون الخوف‬ ‫والحتراس لباطنيتهم ولفسادهم‪ .‬فلو قالوا‪(( :‬نحن مع‬ ‫السلم أو نحترم الحريات الدينية أو أننا ننبذ الرهاب))‬ ‫وأمثال ذلك من الكلم الحسن‪ ،‬فل يجب علينا قبول زعمهم‬ ‫وتصديقهم‪ ،‬بل علينا حمل هذه التصريحات على المراوغة‬ ‫والخديعة‪ ،‬وإل أصبنا بنار تضليلتهم السياسية وغير‬ ‫السياسية‪ .‬فصاحب هذا النوع من الكذب تراه منشرح‬ ‫الصدر راضٍ عن فعله‪ ،‬بل يتقرب إلى الله تعالى بكذبه‪ .‬ول‬ ‫يجوز حمل هذا النوع من الكذب على أنه شخصي‪ ،‬ككذب‬ ‫زعماء اليهود والشتراكيين والشيعة المامية‪ ،‬ولو حملنا هذا‬ ‫الكذب المؤسسي على أنه شخصي لضللنا‪ ،‬فكيف بنا إذا‬ ‫صدّقناهم؟‬ ‫َ‬ ‫‪.2‬الكذب الشخصي‪ :‬وهذا الكذب يصدر عن شخص يدين‬ ‫حرّم ممارسة الكذب بين أتباعه‪ ،‬ويحرم على أتباعه‬ ‫بدين يُ َ‬ ‫(‪)29‬‬ ‫ممارسته على الخرين ‪ .‬ومن أمثلته‪ ،‬المسلم الذي يقع‬ ‫‪29‬‬

‫إل في ظروف معينة مقيدة استثنائية‪.‬‬

‫‪31‬‬

‫جه النتقاد إلى شخصه هو‪ ،‬ل‬ ‫في جريمة الكذب‪ ،‬فالعاقل يُوَ ّ‬ ‫إلى الدين السلمي الذي ينتمي إليه‪ ،‬ومن فعل ذلك فقد‬ ‫خلط المور وضلل الناس وأساء إلى السلم‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫يقاس كل دين يحرم الكذب على أتباعه‪ ،‬كالنصرانية في‬ ‫النجيل‪ .‬فصاحب هذا النوع من الكذب تراه يشعر بالذنب‬ ‫م ُ‬ ‫ل‬ ‫ن َ‬ ‫ح ْ‬ ‫فيستغفر الله ويتوب إليه‪ .‬إذن من الضلل البَي ّ ِ‬ ‫الكذب المؤسسي على الكذب الشخصي‪ ،‬وبالعكس‪.‬‬ ‫وعليه فمن ثبت كَذِبُه المؤسسي وجب ترك روايته‬ ‫والتحذير من مقولته‪ ،‬خاصة إذا اتخذ من الكذب وسيلة لتحقيق‬ ‫أهدافه‪ ،‬كما هو الحال في اليهودية والمبدأ الشتراكي والمامية‬ ‫الباطنية‪.‬‬ ‫وقد ذكر ابن تيمية عددا ً من الطرق التي يُعلم‬ ‫بها كذب المنقول‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫((أن يَْروي‪ -‬أي الراوي‪ -‬خلف ما عُلم بالتواتر‬ ‫والستفاضة‪ ،‬مثل‪ :‬أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة‪،‬‬ ‫واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين ليمانهم بهذا‬ ‫المتنبئ الكذاب‪ .‬وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر‪ ،‬كان مجوسياً كافراً‪.‬‬ ‫وان أبا الهرمزان كان مجوسياً أسلم‪ .‬وأن أبا بكر كان يصلي‬ ‫بالناس مدة مرض الرسول × ويخلفه بالمامة بالناس لمرضه‪.‬‬ ‫وأن أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع ×‪.‬‬ ‫ومثل ما يعلم من غزوات النبي × التي كان فيها القتال‪،‬‬ ‫حد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف‪.‬‬ ‫كبدر وأ ُ‬ ‫والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها‪ .‬وما نزل من‬ ‫القرآن في الغزوات‪ ،‬كنزول النفال بسبب بدر‪ ،‬ونزول آخر آل‬ ‫عمران بسبب أحد‪ ،‬ونزول أولها بسبب نصارى نجران‪ ،‬ونزول‬ ‫سورة الحشر بسبب بني النضير‪ ،‬ونزول الحزاب بسبب‬ ‫الخندق‪ ،‬ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية‪ ،‬ونزول براءة‬ ‫بسبب غزوة تبوك‪ ،‬وغيرها و أمثال ذلك‪.‬‬ ‫فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلف‬ ‫م أنه كذب‪ .‬مثل ما يروي هذا الرافضي‪ ،‬وأمثاله من‬ ‫الواقع عُل ِ َ‬ ‫الرافضة وغيرهم من الكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات‬ ‫كما تقدم التنبيه عليه‪ .‬ومثل أن يعلم نزول القرآن في أي وقت‬ ‫كان‪ .‬كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة و‬

‫‪32‬‬

‫النفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة‪ .‬وأن النعام‬ ‫والعراف ويونس وهوداً ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت‬ ‫الساعة وهل أتى على النسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة‬ ‫صفّة كانت بالمدينة‪ .‬وأن‬ ‫بمكة‪ .‬وأن المعراج كان بمكة‪ .‬وأن ال ُ‬ ‫أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى‬ ‫ة منزلً‬ ‫صفّ ُ‬ ‫الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين بل كانت ال ُ‬ ‫ينزل بها من ل أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم‬ ‫سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين‬ ‫وكالعرنيين الذين ارتدوا عن السلم))(‪.)30‬‬

‫(ج) قانون عاملي القتناع هما التكرار والزمن‪ ،‬أو‬ ‫الغزارة والزمن‪:‬‬

‫وهذا القانون أهمها وأخطرها‪ ،‬وبه انتشرت أفكار حزب‬ ‫التحرير‪ .‬فبالتكرار والزمن عبد غير الله‪ ،‬فأصبح عزير ابن الله‬ ‫عند اليهود‪ ،‬والمسيح ابن الله عند النصارى‪ ،‬وبهذا القانون‬ ‫أصبحت الوثان والصنام‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والبقر آلهة عند‬ ‫الغثاء من الناس‪.‬‬ ‫وبهذا القانون‪ ،‬انتشرت البدع والخرافات في الدين‪ .‬و‬ ‫بالتكرار والزمن كذلك‪ ،‬عاد الناس إلى التوحيد ونبذ البدع‬ ‫والخرافات مرة أخرى‪ .‬ويهمنا أن نوضح للقارىء الكريم علقة‬ ‫هذا القانون في عصرنا الراهن بمصدر الشر على وجه الرض‪،‬‬ ‫فاليهود اتخذوا الكذب وسيلة كبرى لتحقيق غاياتهم‪.‬‬

‫(د) السنوات الخداعة‪:‬‬ ‫بما أن الكذب هو عكس للواقع وللحقيقة‪ ،‬تقوم عليه‬ ‫دعوات هدامة(‪ )31‬تقصد الفساد والفساد في المجتمعات‬ ‫النسانية من خلل إثارة مجموعة من الفكار والتصورات‬ ‫والمفاهيم الكاذبة‪ .‬وبهذه التصورات المزعومة يعتقد الناس ـ أو‬ ‫فقل إن شئت الغثاء من الناس ـ بمجموعة من المصالح‬ ‫والمفاسد الموهومة‪ .‬فتصبح هذه المصالح والمفاسد هي‬ ‫الحاكمة على تصرفات من اعتقد بها باعتبارها الحقّ الذي ل‬ ‫حق غيره‪ ،‬وما علموا أن هذه المصالح هي في الحقيقة مفاسد‬ ‫حوا وتحالفوا مع‬ ‫ض ّ‬ ‫خالصة‪ ،‬بل هي خطة عدوهم فيهم‪ ،‬طالما َ‬ ‫‪30‬‬

‫((منهاج السنة النبوية)) (‪.)438 -7/437‬‬

‫‪31‬‬

‫مثل‪ :‬اليهودية والشتراكية والشيعة المامية وحزب التحرير‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫أعدائهم ـ أمثال الشتراكية والمامية الباطنية الحاقدة ـ من‬ ‫أجل تحقيقها‪ .‬وما علموا كذلك أن المفاسد التي تصوروها‪ ،‬إنما‬ ‫هي مصالح‪ ،‬أو أنها تصنف ضمن باب ((درء المفسدة الكبرى‬ ‫بالمفسدة الصغرى))‪.‬‬ ‫مطَبّقة في هذا الباب اتهام‬ ‫ومن أخطر الساليب ال ُ‬ ‫الصادق بالكذب‪ ،‬والمين بالخيانه‪ ،‬وبالعكس‪ .‬ففي الوقت الذي‬ ‫خوَنة من الشتراكيين الشيوعيين‪،‬‬ ‫يُخدع فيه الناس بالكَذ َبَةِ ال َ‬ ‫والشيعة المامية‪ ،‬تجدهم يتهمون الصادق والمين من‬ ‫السلميين والوطنيين العادلين‪ ،‬فيعيش الناس في بيئة سياسية‬ ‫واجتماعية موبوءة‪ ،‬خداعة كما وصفها الرسول × في قوله‪:‬‬ ‫((إن بين يدي الساعة سنين خداعة‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب‬ ‫فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخون فيها المين‪ ،‬وينطق‬ ‫فيها الرويبضة‪ .‬قيل‪ :‬وما الرويبضة؟ قيل‪ :‬المرء التافه يتكلم‬ ‫في أمر العامة))(‪.)32‬‬ ‫وبسبب هذه الحالة التي تصيب الناس‪ ،‬يصبح الناس‬ ‫((غثاء كغثاء السيل))‪ .‬فتجدهم ينطلقون مع هذا التيار الفكري‬ ‫المخادع‪ ،‬إلى الهداف التي حددها لهم مسبقا‪ ،‬أو حيّدها‪ ،‬وهم ل‬ ‫يشعرون بخطته فيهم‪ ،‬ول بوجوده أصلً‪ .‬فتجدهم يقاتلون‬ ‫إخوانهم‪ ،‬كقتالهم لبعض الدول السلمية التي ل زالت من خير‬ ‫الدول في تطبيق السلم‪ ،‬ويقاتلون أصدقاءهم‪ ،‬كبعض الدول‬ ‫الغربية غير المحاربة لنا في الدين‪ ،‬بل تجدهم ينصرون أعداءهم‬ ‫من الشتراكيين اليهود‪ ،‬والمامية الباطنية تحت باب التقاء‬ ‫المصالح في صراعنا مع الصليبية أو اليهود‪ .‬فانطبق علينا قول‬ ‫الرسول الله ×‪(( :‬يوشك المم أن تداعى عليكم كما‬ ‫تداعى الكلة إلى قصعتها))‪ .‬فقال قائل‪ :‬ومن قلة نحن‬ ‫يومئذ؟ قال‪(( :‬بل أنتم يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء‬ ‫السيل‪ ،‬ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم‪،‬‬ ‫وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))‪ .‬فقال قائل‪ :‬يا رسول‬ ‫الله وما الوهن؟ قال‪(( :‬حب الدنيا وكراهية الموت))(‪.)33‬‬

‫(هي) قانون إماتة الحتمالت الحية وإحياء‬ ‫الحتمالت الميتة‪:‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪33‬‬

‫(صحيح)‪(( ،‬السلسلة الصحيحة))‪ .‬برقم (‪.)2253‬‬ ‫((السلسلة الصحيحة)) رقم (‪ ،)647‬قال الشيخ اللباني‪ :‬صحيح‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫يقوم هذا القانون على إثارة الغثاء ضد أمر موهوم ل‬ ‫وجود له‪ ،‬أو تضخيم أحد الخطار المتوقعة قليلة الثر‪ .‬وفي‬ ‫المقابل يتم إماتة الخطر الول والعظم بعدم الشارة إليه‬ ‫بالمرة‪ ،‬أو التقليل من خطره‪.‬‬ ‫فقد عانى الناس ول زالوا‪ ،‬من هذا القانون القاتل‪ ،‬إذ به‬ ‫يتوجه الناس لقتال السراب‪ ،‬ويتركون عدوهم الكبر يعيث في‬ ‫الرض الفساد‪ .‬فقد قتلت الشيوعية (الشرق) من المسلمين‪،‬‬ ‫حوالي (‪ )200‬مليون مسلم‪ ،‬في غضون (‪ )70‬سنة فقط‪ ،‬في‬ ‫حين لم تقتل الصليبية (الغرب) من المسلمين ماضياً وحاضراً‬ ‫على مر التاريخ السلمي‪ ،‬أكثر من (‪ )5‬مليين مسلم‪ ،‬منهم‬ ‫مليون مسلم في الجزائر‪ ،‬وهدمت الشيوعية (الشرق) من‬ ‫مساجد المسلمين مئات اللف‪ ،‬في حين يزداد عددها في‬ ‫الغرب‪ ،‬وأغلقت الشيوعية (الشرق) مئات اللف من دور‬ ‫القرآن والمدارس السلمية‪ ،‬في حين يزداد عددها في الغرب‪.‬‬ ‫وألغت الشيوعية (الشرق) اللغة العربية لغة القرآن‬ ‫الكريم‪ ،‬وانتشرت في الغرب‪ .‬ثم بعد كل هذا مات الخطر‬ ‫الشيوعي (الشرق)‪ .‬مع العلم أنه يوجد حاليا ً في عام (‪1427‬هـ‪/‬‬ ‫‪2006‬م)‪ ،‬حوالي مائـة حزب يسـاري منتشرة في الدول‬ ‫العربيـة(‪ .)34‬وليس المقصود أنها غير مؤثرة في واقعنا‪ ،‬بل هي‬ ‫على العكس تماماً‪ ،‬بل منها أنظمة قائمة على سدة الحكم‪.‬‬ ‫وبهذا فقد تضخم الخطر الغربي وتضخم لدى المسلمين!!!‬ ‫ولم نلتفت إلى تحذير النبي × المتكرر‪ :‬أن الخطر القادم‬ ‫من الشرق‪ .‬أل يدل ذلك أننا فعلً غثاء كغثاء السيل‪ ،‬فقد وجهنا‬ ‫سيل الدعاية الفكري الجارف لن نوجه كل عدائنا إلى الغرب‬ ‫ونترك الشرق‪ ،‬فاستجبنا لندائه‪.‬‬ ‫ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس‬ ‫فهم الواقع لدى المسلمين‪ ،‬أن أصحاب القلم والتحليل‬ ‫السياسي المتأثرين بدعاية حزب التحرير‪ ،‬المدافعة عن‬ ‫الماركسية الشتراكية بطريقة مدروسة‪ ،‬يصفون دائماً وبكل‬ ‫إصرار‪ ،‬الجرائم التي ارتكبتها الشتراكية في طول بلد السلم‬ ‫وعرضها‪ ،‬بأنها من صنع الغرب‪ ،‬وبمخططات أمريكية على وجه‬ ‫‪34‬‬

‫((الحزاب السياسية في العالم العربي))‪ ،‬إصدار مركز القدس‬ ‫للدراسات السياسية‪( ،‬ص ‪ .)200-150‬وهو عبارة عن توثيق لفعاليات‬ ‫مان ‪ 13-12‬حزيران‪.2004/‬‬ ‫المؤتمر الذي عقد في ع ّ‬

‫‪35‬‬

‫الخصوص‪ ،‬ويتهمون حكام هذه الدول الشتراكية التي ذاق فيها‬ ‫المسلمون أقسى أنواع العذاب والقتل والتشريد والجوع‬ ‫والفقر‪ ،‬بالعمالة لمريكا أو لبريطانيا‪ .‬كجرائم النظم‬ ‫الشتراكية‪ ،‬في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن‪ ،‬والجزائر‪،‬‬ ‫والصومال‪ ،‬وإثيوبيا واندونيسيا وأفغانستان وغيرها من الدول‪،‬‬ ‫بل ذهبت هذه القلم إلى صرف النظر عن جرائم التحاد‬ ‫السوفيتي نفسه‪ ،‬باعتباره صاحب النظرية الشتراكية‬ ‫المريكية!!!‬ ‫وكذلك جرائم الشتراكية في البوسنة والهرسك‪،‬‬ ‫وكوسوفا‪ ،‬بل ذهبت هذه القلم إلى ما هو أبعد من ذلك‪،‬‬ ‫فاعتبرت تحرك حلف شمال الطلسي بقيادة الوليات المتحدة‬ ‫المريكية ضد الشتراكيين الصرب‪ ،‬كان لتصفية السلم في‬ ‫دول البلقان‪ ،‬وهكذا يضلل الغثاء من الناس حين يصدقون هذه‬ ‫الكاذيب والكاذيب التي ليس لها حدود‪.‬‬ ‫ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس‬ ‫فهم الواقع لدى المسلمين كذلك‪ ،‬وصفهم لكل ما تقوم به‬ ‫أمريكا من تضييق وفرض عقوبات و حرب‪ ،‬تقصدها ضد الدول‬ ‫الشتراكية العربية وغير العربية‪ ،‬إنما هو موجه ضد السلم‬ ‫والمسلمين‪ ،‬مثل حربها ضد نظام البعث العربي الشتراكي‬ ‫العراقي‪ ،‬وتضييقها على النظام الشتراكي في سورية‪،‬‬ ‫ومراقبتها الحثيثة والموجهة ضد إيران‪ ،‬والعقوبات على ليبيا‬ ‫والسودان‪ .‬وجرائم الشتراكية في البوسنة والهرسك‪ ،‬وكوسوفا‬ ‫كما مر من قريب‪.‬‬ ‫وقد انتقل هذا النحراف الول المتمثل بالتضليل‬ ‫العلمي‪ ،‬إلى قلب الحقائق وانعكاس فهم الواقع لدى كثير من‬ ‫المسلمين‪ ،‬بفعل قانون التكرار والزمن‪ ،‬ومنهم إخوة لنا في‬ ‫العقيدة والمنهج الصحيح‪ ،‬القائم على الكتاب والسنة قولً‬ ‫وعملً‪ ،‬مما أدى إلى شق الصف الواحد الذي لزال متماسكا‬ ‫قويا إلى وقت ليس ببعيد‪ ،‬فأدى بهؤلء الذين وقعوا في هذا‬ ‫التضليل العلمي ممن يرون الواقع بآذانهم ل بأعينهم‪ ،‬إلى‬ ‫انحراف ثان‪ ،‬وهو‪ :‬تكفير بعضهم للنظمة السلمية كلها‪،‬‬ ‫وخاصة الدول السلمية التي تعادي الشتراكية اليهودية‪ ،‬وعلى‬ ‫رأسها المملكة العربية السعودية‪ ،‬ثم الردن‪.‬‬ ‫وهذا النحراف أدى إلى انحراف ثالث‪ :‬وهو رمي كبار‬ ‫علماء المسلمين‪ ،‬ممن ل يرون كفر هذه النظمة التي تعادي‬

‫‪36‬‬

‫الشتراكية‪ ،‬من باب‪ :‬من لم يكفر الكافر ـ على حد زعمهم ـ‬ ‫فهو كافر‪ ،‬سواء كان هؤلء العلماء يعملون داخل حكومات تلك‬ ‫النظمة‪ ،‬أو خارجها‪ ،‬وعلى رأس هؤلء العلماء هيئة كبار العلماء‬ ‫في السعودية‪ ،‬وعلماء الزهر الشريف في مصر‪ ،‬ومشيخة‬ ‫الشام‪ ،‬وأولهم الشيخ ناصر الدين اللباني رحمه الله‪ ،‬فقد رموا‬ ‫كل هؤلء العلماء وأمثالهم‪ ،‬بالخيانة ووصفوهم بالرجاء‪،‬‬ ‫والتخذيل أو بـ (أئمة القعدة)‪ ،‬أو التزلف للسلطين‪ ،‬فأدى ذلك‬ ‫إلى انحراف رابع وهو‪ :‬التشكيك في منهج هؤلء العلماء لدى‬ ‫بعضهم‪ ،‬والتحذير منهم‪ ،‬فأدى إلى تناحر فئتين من مدرسة‬ ‫واحدة‪ ،‬تراشقا بالتهم والخيانة‪ ،‬بل وصل المر ببعضهم إلى‬ ‫رمي الخر بالكفر‪ ،‬عياذاً بالله‪.‬‬ ‫هذه النحرافات المتتالية التي قد تصل في المستقبل‪،‬‬ ‫إلى حد الحتراب بين أصحاب الفئة الواحدة‪ ،‬بل وصلت‪ ،‬لتدلنا‬ ‫على مدى خطورة التهاون بفقه السياسة الشرعية في السلم‪،‬‬ ‫فالعالم ل غنى له عن هذا الفقه‪ ،‬الذي ل تكون النجاة من‬ ‫علميا دقيقاً‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الفتن‪ ،‬إل بضبطه وتأصيله تأصيلً‬ ‫فقد أدت هذه الفتن إلى التطاول على خير الناس‪ ،‬إذ‬ ‫بمثلها أو بأسلوبها المشابه‪ ،‬البعيد عن التأصيل العلمي‪ ،‬قتل‬ ‫عثمان بن عفان ‪ ،‬حتى وصل الكره له إلى حد التذمر من‬ ‫حكمه ودعاء الله تعالى لتغيير حكمه‪.‬‬ ‫فقد نقل لنا ابن كثير في قصة قتله‪ ،‬أن المرأة كانت‬ ‫تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل حملها من‬ ‫(‪)35‬‬ ‫الخيرات من بيت المال‪ ،‬وتقول‪(( :‬اللهم بدل اللهم غير)) ‪.‬‬ ‫وهذه المرأة وأمثالها هي من المسلمين‪ ،‬الذين خدعوا‬ ‫بالدعاية السبئية الباطنية‪ ،‬ليست عدوة لله تعالى عن قصد‬ ‫أبداً‪ ،‬فكيف يكون أمر الدعاية المغرض مع من هم أدنى شأناً‬ ‫ومنزلة من عثمان ؟‬ ‫تقول البروتوكولت‪:‬‬ ‫((ولضمان الرأي العام يجب أولً ‪ :‬أن نحيره كل الحيرة‬ ‫بتغييرات من جميع النواحي لكل أساليب الراء المتناقضة حتى‬ ‫يضيع المميون (غير اليهود) في متاهتهم‪ .‬وعندئذ سيفهمون أن‬ ‫خير ما يسلكون من طرق هو أن ل يكون لهم رأي في‬ ‫‪35‬‬

‫((البداية والنهاية))‪.)194 / 7( ،‬‬

‫‪37‬‬

‫السياسية‪ :‬هذه المسائل ل يقصد منها أن يدركها الشعب‪ ،‬بل‬ ‫يجب أن تظل من مسائل القادة الموجهين فحسب‪ .‬وهذا هو‬ ‫السر الول‪ .‬والسر الثاني(‪ )36‬وهو ضروري لحكومتنا الناجحة ـ‬ ‫أن تتضاعف وتتضخم الخطاء والعادات والعواطف والقوانين‬ ‫العرفية في البلد‪ ،‬حتى ل يستطيع إنسان أن يفكر بوضوح في‬ ‫ظلمها المطبق‪ ،‬وعندئذ يتعطل فهم الناس بعضهم بعضاً ))(‬ ‫‪.)82-5/81‬‬ ‫((من الخطير جدا ً في سياستنا أن تتذكروا التفصيل‬ ‫المذكور آنفاً‪ ،‬فإنه سيكون عونا ً كبيرا ً لنا حينما تناقش مثل هذه‬ ‫المسائل‪ :‬توزيع السلطة‪ ،‬وحرية الكلم‪ ،‬وحرية الصحافة‬ ‫والعقيدة‪ ،‬وحقوق تكوين الهيئات‪ ،‬والمساواة في نظر القانون‪،‬‬ ‫وحرمة الممتلكات والمساكن‪ ،‬ومسألة فرض الضرائب (فكرة‬ ‫سرية فرض الضرائب) والقوة الرجعية للقوانين‪ .‬كل المسائل‬ ‫المشابهة لذلك ذات طبيعة تجعل من غير المستحسن مناقشتها‬ ‫علنا ً أمام العامة‪ .‬فحيثما تستلزم الحوال ذكرها للرعاع يجب‬ ‫أن ل تحصى‪ ،‬ولكن يجب أن تنشر عنها بعض قرارات بغير‬ ‫مضي في التفصيل‪ .‬ستعمل قرارات مختصة بمبادئ الحق‬ ‫المستحدث على حسب ما ترى‪ .‬وأهمية الكتمان تكمن في‬ ‫حقيقة أن المبدأ الذي ل يذاع علنا ً يترك لنا حرية العمل‪ ،‬مع أن‬ ‫مبدأ كهذا إذا أعلن مرة واحدة يكون كأنه قد تقرر))(‪-10/108‬‬ ‫‪.)109‬‬ ‫((وسنصور الخطاء التي ارتكبها المميون (غير اليهود)‬ ‫في إدارتهم بأفضح اللوان‪ .‬وسنبدأ بإثارة شعور الزدراء نحو‬ ‫منهج الحكم السابق‪ ،‬حتى إن المم ستفضل حكومة السلم في‬ ‫جو العبودية على حقوق الحرية التي طالما مجدوها ‪ ...‬وسنوجه‬ ‫عناية خاصة إلى الخطاء التاريخية للحكومات الممية‪())..‬‬ ‫‪.)158-14/156‬‬ ‫((وسنتقدم بدراسة مشكلت المستقبل بدل ً من‬ ‫الكلسيكيات (‪ )Classics‬وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل‬ ‫على مثل (‪ )Examples‬سيئة أكثر من اشتماله على مثل‬ ‫‪36‬‬

‫هذان السران من أخطر الأسرار السياسية‪ ،‬وعليهما تبنى النتائج‬ ‫الخطيرة المشار إلى بعضها في الفقرة التالية لهما (من كلم‬ ‫المترجم)‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫حسنة(‪ ،)37‬وسنطمس في ذاكرة النسان العصور الماضية التي‬ ‫قد تكون شؤما علينا‪ ،‬ول نترك إل الحقائق التي ستظهر أخطاء‬ ‫الحكومات في ألوان قاتمة فاضحة))(‪.)188-16/187‬‬ ‫((غير أني سأسألكم توجيه عقولكم إلى أنه ستكون بين‬ ‫النشرات الهجومية نشرات نصدرها نحن لهذا الغرض‪ ،‬ولكنها ل‬ ‫تهاجم إل النقط التي نعتزم تغييرها في سياستنا‪ .‬ولن يصل‬ ‫طرف من خبر إلى المجتمع من غير أن يمر على إرادتنا‪ .‬وهذا‬ ‫ما قد وصلنا إليه حتى في الوقت الحاضر كما هو واقع‪ :‬فالخبار‬ ‫تتسلمها وكالت (‪ )Agencies‬قليلة(‪ )38‬تتركز فيها الخبار من كل‬ ‫أنحاء العالم‪ .‬وحينما نصل إلى السلطة ستنضم هذه الوكالت‬ ‫ً‬ ‫جميعا إلينا‪ ،‬ولن تنشر إل ما نختار نحن التصريح به من الخبار))‬ ‫(‪.)136-12/135‬‬ ‫((إن القيود التي سنفرضها على النشرات الخاصة‪ ،‬كما‬ ‫بينت‪ ،‬ستمكننا من أن نتأكد من النتصار على أعدائنا‪ .‬إذ لن‬ ‫تكون لديهم وسائل صحفية تحت تصرفهم يستطيعون حقيقة‬ ‫أن يعبروا بها تعبيرا ً كامل ً عن آرائهم‪ ،‬ولن نكون مضطرين ولو‬ ‫إلى عمل تنفيذ كامل لقضاياهم))(‪.)12/145‬‬ ‫‪ .‬وبهذا يتذكر العقلء‪ ،‬قول الرسول ×‪(( :‬إن بين يدي‬ ‫الساعة سنين خداعة‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب فيها الصادق‪،‬‬ ‫ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخوّن فيها المين‪ ،‬وينطق فيها الرويبضة‬ ‫‪ .‬قيل‪ :‬وما الرويبضة ؟ قال‪ :‬المرء (الرجل) التافه يتكلم في‬ ‫أمر العامة))(‪. )39‬‬

‫‪37‬‬

‫‪38‬‬

‫‪39‬‬

‫أي‪ :‬إن اليهود سيدرسون يومئذ للشباب صفحات التاريخ السود‬ ‫ليعرفوهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت‬ ‫حياتها سيئة ول يدرسون لهم الفترات التي كانت الشعوب فيها‬ ‫سعيدة‪ ،‬لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الكاذبة الزائفة أن النظام‬ ‫الجديد أفضل من القديم‪ ،‬وهذا ما يجري في روسيا الن‪ .‬وفي كل‬ ‫بلد عقب كل انقلب سياسي(من كلم المترجم)‪.‬‬ ‫أي الوكالت الإخبارية‪ ،‬ويلحظ أن معظم هذه الوكالت تخضع لليهود‬ ‫الن‪ ،‬فمعظم ما كانوا يشتهونه قد تحقق لهم الن (من كلم‬ ‫المترجم)‪.‬‬ ‫(صحيح )‪(( ،‬السلسلة الصحيحة))‪ ،‬للشيخ اللباني رحمه الله‪ ،‬رقم (‬ ‫‪. )2253‬‬

‫‪39‬‬

‫وساحة هذا القانون‪( ،‬قانون إماتة الحتمالت الحية‬ ‫وإحياء الحتمالت الميتة)‪ :‬الشعوب الغافلة (الغثاء) التي‬ ‫تسعى الصهيونية والشيوعية الشتراكية إلى فصل قوتها عن‬ ‫القوى الحاكمة‪ ،‬بل جعل قوة الشعب سندا ً إلى جانبهم‪ ،‬وهذا‬ ‫السلوب من أمضى الساليب المستخدمة لسقاط النظمة‪،‬‬ ‫لن تحالف القوى الحاكمة مع شعوبها يحول دون هدم اليهود‬ ‫للدول المستهدفة‪ .‬وليت المسلمين يدركون ما يحاك ضدهم‪،‬‬ ‫وما ينتظرهم من مصائب بعد سقوط النظمة المعتدلة‬ ‫السلمية والوطنية المتبقية في ديارنا ـ السعودية‪ ،‬والردن‬ ‫وأخواتهما ـ التي طالما تعمل اليهودية للفصل بينها وبين‬ ‫ساحقا بأساليب‬ ‫ً‬ ‫شعوبها‪ ،‬وقد نجحت في تحقيق ذلك نجاحاً‬ ‫شتى‪.‬‬ ‫تقول البروتوكولت الصهيونية اليهودية‪:‬‬ ‫((إننا نخشى تحالف القوة الحاكمة في المميين (غير‬ ‫اليهود) مع قوة الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل‬ ‫الحتياطات لنمنع احتمال وقوع هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين‬ ‫القوتين سدا ً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان‪ ،‬كل من‬ ‫الخرى‪ .‬وهكذا تبقى قوة الشعب سندا ً إلى جانبنا‪ ،‬وسنكون‬ ‫وحدنا قادتها‪ ،‬وسنوجهها لبلوغ أغراضنا))(‪.)40‬‬

‫المثلة التطبيقية على هذا القانون‪:‬‬ ‫هذه بعض المثلة الواقعية التي أظهرت مدى تأثرنا‬ ‫بقانون‪(( :‬إماتة الحتمالت الحية وإحياء الحتمالت الميتة))‪.‬‬ ‫‪.1‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية والردن‪ ،‬في‬ ‫حين هدأت ونامت ضد سياسة الشتراكية اليهودية في ليبيا‬ ‫الذي اقترح تسليم المسجد القصى لليهود وبناء مسجد‬ ‫آخر‪ ،‬واقترح إنشاء دولة إسرائيلية فلسطينية سماها‬ ‫مه (زمردة)‬ ‫(إسراطين)؟؟؟ علماً بأن القذافي ربته أ ّ‬ ‫اليهودية؟؟؟‬ ‫‪.2‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة وجود القوات المريكية في‬ ‫السعودية ودول الخليج‪ ،‬بينما ل ترى القوات الروسية‬ ‫والخبراء الروس بعشرات اللف في الدول الشتراكية‬ ‫‪40‬‬

‫البروتوكول‪.)9( :‬‬

‫‪40‬‬

‫العربية‪ ،‬مثل سوريا والعراق واليمن الجنوبي سابقا‪ ،‬وإيران‬ ‫الفارسية؟؟؟‬ ‫‪.3‬ألم يَثُْر العالم السلمي‪ ،‬بل العالم كله ضد تنفيذ قرار‬ ‫التحالف بإزالة النظام الشتراكي في العراق‪ ،‬في حين‬ ‫سكت العالم إلى حد كبير أمام قرار الحرب ضد حركة‬ ‫طالبان؟؟؟!!!‪.‬‬ ‫‪.4‬ألم يتحرك العالم السلمي ومؤسساته الرسمية ليستنكر‬ ‫جريمة العتداء على القرآن الكريم ـ وهذا حسن ـ في حين‬ ‫هدأ الشارع السلمي ومؤسساته ضد قيام الشتراكية في‬ ‫أوزبكستان ـ وهي إحدى الجمهوريات السلمية ذات‬ ‫الستقلل الصوري عن التحاد السوفيتي السابق ـ في تلك‬ ‫الثناء‪ ،‬بقتل (‪ )750‬مسلم؟ لماذا؟ لن جريمة العتداء على‬ ‫القرآن الكريم كانت على يد أمريكا المعادية للشتراكية‬ ‫اليهودية‪ ،‬علما ً أن معاداة الشتراكية هي في الحقيقة ضد‬ ‫المشروع الصهيوني الكبر للسيطرة على العالم كله‪ ،‬لذا‬ ‫ثارت الشعوب‪ .‬وأما الجريمة الثانية التي قتل فيها (‪)750‬‬ ‫مسلما كانت على يد الشتراكية ربيبة اليهودية‪ ،‬فتجد‬ ‫الشعوب قد تخدرت‪.‬‬ ‫‪.5‬ألم تثر الصحافة العالمية ضد معاملة المريكان للسجناء‬ ‫في سجن أبو غريب ول زالت منذ أكثر من ثلثة أشهر‪ ،‬في‬ ‫حين لم تسمع تلك الصحافة بجرائم الشتراكية والمقابر‬ ‫الجماعية في نفس السجن في حكم البعث الشتراكي‪ ،‬بل‬ ‫لم تعرف الصحافة‪ ،‬ول نحن معها اسمه قبل ذلك‪ ،‬إل‬ ‫قليل؟؟؟!!!‬ ‫ً‬ ‫‪.6‬أين حركة الغثاء ضد بناء جدار الفصل العنصري في‬ ‫فلسطين على يد اليهود؟؟؟!!!‬ ‫‪.7‬أين حركة الغثاء ضد المقابر الجماعية وهتك العراض‬ ‫المنظم من الشتراكيين في البوسنة والهرسك وكوسوفو‬ ‫والعراق والصومال والتحاد السوفيتي والصين؟؟؟‬ ‫ألم تقتل الشتراكية من المسلمين حوالي (‪)200‬‬ ‫مليون مسلم‪ ،‬ول زالت تقتل؟؟؟ ألم تهدم مئات اللف‬ ‫من المساجد ول زالت تهدم؟؟؟ ألم تُلِْغ اللغة العربية‬

‫‪41‬‬

‫في الصين والتحاد السوفيتي‪ ،‬ول زالت ملغاة في‬ ‫الصين؟؟؟‬ ‫‪.8‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية ودول الخليج‬ ‫النفطية‪ ،‬في حين لم تتطرق إلى نقد سياسات الدول‬ ‫النفطية الشتراكية‪ ،‬التي أحرقت النفط في آباره‪ ،‬أو أهدته‬ ‫إلى أسيادها اليساريين بأرخص الثمان؟‬ ‫‪.9‬هل يسمع أحد بـ (قانون لينين) الذي يقضي بالعمل على‬ ‫إقامة دولة لليهود في فلسطين‪ ،‬وبناء على هذا القانون‬ ‫أقيمت دولة إسرائيل؟ بينما هل يجهل أحد (وعد بلفور)؟‬ ‫‪...‬إلخ‪.‬‬ ‫إذن هناك حقائق كبيرة وخطيرة جدا تموت ول تذكر‪،‬‬ ‫وأخرى حقيرة تحيا وتضخم على حساب الولى!!‬ ‫فمن الذي أمات الولى وأحيا الثانية لدى الغثاء من‬ ‫الناس‪ ،‬وكيف يتم ذلك؟ وهل لهذا القانون دوٌر في فتنة‬ ‫الدجال؟ أسئلة بحاجة ماسة إلى إجابات صادقة!!‬ ‫تقول بروتوكولت حكماء صهيون‪:‬‬ ‫((وبفضل هذه الجراءات سنكون قادرين على إثارة‬ ‫عقل الشعب وتهدئته في المسائل السياسية‪ ،‬حينما يكون‬ ‫ضروريا ً لنا أن نفعل ذلك))(‪ .)41‬وهذا ما هو حاصل بالفعل‪ ،‬تثور‬ ‫الشعوب للدفاع عن اليهود وابنتها الشتراكية‪ ،‬وتهدأ أمام‬ ‫مخططاتهم وجرائمهم‪.‬‬

‫(و) سياسة التشهير‪:‬‬

‫إن من أخطار الكذب وأساليبه الوضيعة سياسة التشهير‬ ‫بالمعارضين‪ ،‬فبعض الخصوم من اليهود وأفراخهم أمثال‬ ‫الشيوعية والشيعة المامية‪ ،‬ل يَقْدِرون على مواجهة الحق‬ ‫بالحجة والبيان‪ ،‬فتجدهم يسارعون إلى التشهير بالخصوم‪،‬‬ ‫وخاصة أهل العلم لتنفير الناس من الحق والحقيقة التي‬ ‫ينتهجون‪ .‬فيبقى سوق باطلهم وإفكهم رائجاً‪ ،‬ومصالحهم‬ ‫الموهومة والمزعومة قائمة‪ .‬وقد استُخدِم هذا السلوب الحقير‬ ‫م المعارضون لدعوة التوحيد أنبياءهم‬ ‫منذ زمن بعيد‪ ،‬فقد اتّهَ َ‬ ‫بشتى انواع التهم الباطلة‪ ،‬ومن صور ذلك‪:‬‬ ‫‪41‬‬

‫البروتوكول‪.)12( :‬‬

‫‪42‬‬

‫•التهام بالكذب والسحر والجنون والسفاهة‪ :‬قال‬ ‫تعالى‪َ :‬كذَِلكَ مَا َأتَى اّلذِينَ مِن َقبْلِهِم مّن رّسُولٍ ِإلّا قَالُوا سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُو ‪‬نٌ‬

‫[الذاريات‪ .]52:‬فََتوَلّى ِبرُكِْنهِ وَقَالَ سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُو ‪‬نٌ [الذاريات‪ .]39:‬قَالَ‬ ‫جبُوا أَن جَاءهُم‬ ‫اْلمَلُ مِن َق ْومِ فِ ْر َعوْنَ ِإنّ َهذَا َلسَاحِرٌ َعلِيمٌ‪[ ‬العراف‪َ  .]109:‬وعَ ِ‬ ‫مّنذِرٌ مّنْ ُهمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ َكذّابٌ‪[ ‬ص‪ .]4:‬قَالَ اْلمَلُ اّلذِينَ َكفَرُواْ مِن‬ ‫سفَا َهةٍ وِإِنّا لَنَ ُظّنكَ مِنَ الْكَاذِبِيَ‪[ ‬العراف‪.]66:‬‬ ‫َق ْومِهِ إِنّا َلنَرَاكَ فِي َ‬ ‫•حادثة الفك‪ :‬تتمثل في التشهير والتنفير من دعوة النبي‬ ‫×‪ ،‬من خلل اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها‬ ‫عفّتِها‪ .‬فقد تولى إشاعة هذه الجريمة زعيم‬ ‫ضها و ِ‬ ‫بِعِْر ِ‬ ‫مها في أكرم بيت‬ ‫المنافقين في المدينة المنورة‪ ،‬فأطلق ُ‬ ‫س ّ‬ ‫من البيوت على الله‪ ،‬ولم يَعْلم هذا المنافق‪ ،‬بل إنه يعلم أن‬ ‫في فعلته الشنيعة هذه طعناً في حكم الله سبحانه وتعالى‬ ‫وإرادته‪ ،‬الذي اختار عائشة الطاهرة زوجاً للنبي الكريم ×‪.‬‬ ‫ن الله‬ ‫وعلى الرغم من فداحة هذه الجريمة النكراء‪ ،‬إل أ ّ‬ ‫سبحانه وتعالى وصفها بالخير‪ ،‬لما فيها من دروس وعبر‬ ‫سبُوهُ شَرّا‬ ‫عظيمة‪ .‬قال تعالى‪ :‬إِنّ اّلذِينَ جَاؤُوا بِاْلإِ ْفكِ ُعصَْبةٌ مّن ُكمْ لَا َتحْ َ‬ ‫كمْ‪[ ‬النور‪.]11:‬‬ ‫لّكُم بَلْ ُهوَ خَيْرٌ لّ ُ‬ ‫من هذه العبر‪:‬‬ ‫‪.1‬تأخر نزول براءة عائشة رضي الله عنها لكثر من شهر‪،‬‬ ‫وفي ذلك امتحان لردود الفعال لدى المؤمنين‪ .‬فالشاعة‬ ‫كلما طال رواجها دون بيان زيفها‪ ،‬حصدت أكثر وجندت‬ ‫عددا ً أكبر من المتشككين من الناس‪ ،‬وفي ذلك بلء‬ ‫وتمحيص لليمان‪.‬‬ ‫‪.2‬تأثيم كل من ردد الشاعة‪ ،‬ولزعيمها الكبر العذاب العظيم‪،‬‬ ‫قال تعالى‪ :‬لِكُلّ امْرِئٍ مّنْهُم مّا اكَْتسَبَ ِمنَ اْلإِْثمِ وَاّلذِي َتوَلّى كِ ْبرَهُ مِنْ ُهمْ َلهُ‬ ‫َعذَابٌ َعظِيمٌ‪[ ‬النور‪.]11:‬‬ ‫‪.3‬على المسلم المسارعة في الذب عن عرض كل مؤمن‬ ‫عُلم صلحه وتقواه يقيناً‪ ،‬وخاصة إذا كانت التهمة كبيرة‬ ‫ومستبعدة‪ ،‬ول يجب عليه في هذه الحال التبين والتحقق‬ ‫من صدق الخبر انطلقا ً من قوله تعالى‪ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا إِن‬

‫‪43‬‬

‫سقٌ بِنََبأٍ َفتَبَيّنُوا أَن ُتصِيبُوا َق ْومًا بِجَهَاَلةٍ َفُتصْبِحُوا عَلَى مَا َفعَلُْتمْ نَا ِدمِيَ‪‬‬ ‫جَاء ُكمْ فَا ِ‬ ‫[الحجرات‪ .]6:‬فإن انتظار نتائج التحقيق ل يصلح في مثل هذا‬ ‫المقام‪.‬‬ ‫لذا فقد أنّب القرآن الكريم المسلمين لعدم المسارعة‬ ‫إلى َرد ّ الشاعة وانتظار القول الفصل من الوحي‪ ،‬بل‬ ‫طالبهم بوصفه فورا ً بإلِفْك ال ُّ‬ ‫ن العَظِيم‪،‬‬ ‫مبِين والبُهْتا ِ‬ ‫فالنتظار في مثل هذه الحال ليس في محله‪ ،‬وهو من‬ ‫الورع البارد الذي يؤدي إلى نتائج سلبية‪ ،‬قال تعالى‪َ):‬لوْلَا إِذْ‬ ‫س ِهمْ خَيْرًا وَقَالُوا َهذَا إِ ْفكٌ مّبِيٌ‪ ‬سورة‬ ‫َس ِمعُْتمُوهُ َظنّ اْل ُمؤْمِنُونَ وَاْل ُمؤْمِنَاتُ ِبأَنفُ ِ‬

‫النــور(‪) .)12‬وََلوْلَا إِذْ َس ِمعُْتمُوهُ قُلْتُم مّا يَكُونُ َلنَا أَن نّتَ َك ّلمَ ِب َهذَا سُ ْبحَاَنكَ َهذَا‬ ‫ُبهْتَانٌ عَظِيمٌ‪[ ‬النور‪.]16:‬‬ ‫‪.4‬أثرت الشاعة في مختلف درجات المؤمنين‪ ،‬منهم من‬ ‫خاض مع الخائضين‪ ،‬مثل حسان بن ثابت‪ ،‬ومسطح بن‬ ‫أثاثة‪ ،‬وحمنة بنت جحش‪ .‬ونقل الطبري بأسانيده اختلف‬ ‫الرواة في الشخص الذي تولى كبره‪ ،‬على قولين‪:‬‬ ‫الول‪ :‬هو حسان بن ثابت والثاني‪ :‬عبد الله بن أبي بن‬ ‫سلول‪ ،‬ورجح الطبري الثاني حيث قال‪(( :‬وأولى القولين في‬ ‫ذلك بالصواب قول من قال‪ :‬الذي تولى كبره من عصبة‬ ‫الفك كان عبد الله بن أبي‪ ،‬وذلك أنه ل خلف بين أهل‬ ‫العلم بالسير أنه الذي بدأ بذكر الفك)) أ‪ .‬هـ‪.‬‬ ‫ومن الصحابة ـ علي ـ ممن نصح النبي × بطلق‬ ‫زوجه‪ ،‬ومنهم من توقف في المر ظاهراً‪ ،‬وعلى رأسهم‬ ‫النبي ×‪.‬‬ ‫ولعل قول عائشة لمن حضر من المؤمنين‪ ،‬وفيهم النبي‬ ‫مها أم رومان‪(( :‬والله لئن حلفت لتصدقوني‪ ،‬ولئن‬ ‫×‪ ،‬وأ ّ‬ ‫مثلكم كيعقوب وبنيه‪ ،‬والله‬ ‫مثَلي و َ‬ ‫قلت لتعذروني‪َ ،‬‬ ‫المستعان على ما تصفون‪ .‬قالت‪ :‬وانصرف ـ أي النبي ـ‬ ‫فلم يقل شيئا))‪ .‬وهؤلء الذين تناقلوا الخبر بألسنتهم أثموا‬ ‫فيما قالوا‪ .‬قال تعالى‪):‬لِكُلّ امْرِئٍ مّنْهُم مّا اكَْتسَبَ ِمنَ اْلإِْثمِ وَاّلذِي َتوَلّى‬ ‫كِبْرَهُ مِنْ ُهمْ َلهُ َعذَابٌ َعظِيمٌ‪ .‬أما ابن سلول فقد تولى كبره‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫خيََرة‬ ‫من هذه الحادثة يجب أن ل نستبعد خوض بعض ال ِ‬ ‫من المؤمنين بالباطل‪ ،‬وإذا حصل فعلينا أن ل نغتر بقولهم‪،‬‬ ‫وأن ل نشهر بهم‪ ،‬بل ننصحهم بالحكمة ل بالتجريح والتقبيح‪.‬‬ ‫فها هو شاعر الدعوة حسان بن ثابت‪ ،‬قد لوثته الشاعة‪،‬‬ ‫والشاعة إذا تكررت تقررت‪ ،‬وظنها الناس حقيقة‪ ،‬وأسلوب‬ ‫تكرار الشاعة مع الزمن‪ ،‬من أمضى الساليب التي‬ ‫يستخدها المغرضون‪.‬‬ ‫‪.5‬الشاعة سلح الجبناء‪ ،‬وهي ل تفرق بين صالح وغيره‪ ،‬بل‬ ‫إن مقصود الشاعة عادة‪ ،‬النيل من الصالحين الصادقين‬ ‫المناء من المؤمنين‪ ،‬لذا فعلى المؤمن ابتداءً‪ ،‬أن يظن بكل‬ ‫من ظهر صلحه خيراً‪ ،‬ولو توجهت إليه الشاعة‪ .‬أو أن‬ ‫صدْقَ وأمانة من طالته الشاعات وتكررت‬ ‫ب على ظنه ِ‬ ‫يَغْل ُ َ‬ ‫في حقه‪ ،‬سواء كان ذلك شخصا ً أم جماعة أم دولة‪ ،‬ول‬ ‫يجوز العتماد على هذه القاعدة كلياً‪ ،‬حتى يعززها بدراسة‬ ‫الفكار والمعتقدات التي من خللها سيعلم الحقيقة‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫ثانياً‪ :‬فقه الموازنات‬ ‫يُعد فقه الموازنات أو فقه التعارض والترجيح‪ ،‬من العلوم‬ ‫الأساسية الواجب معرفتها على طالب العلم لضبط فقه الواقع‪،‬‬ ‫لما له من حاجة ماسة في مختلف شؤون الحياة النسانية‪ ،‬لذا‬ ‫تجد أن هذا العلم يمارس من قبل الناس جميعا ً في حياتهم‬ ‫المعيشية‪ ،‬للترجيح بين مصلحتين‪ ،‬أو بين مفسدتين‪ ،‬أو الموازنة‬ ‫بين المصالح والمفاسد‪.‬‬ ‫وتشتد الضرورة لفقه الموازنات‪ ،‬لتقرير مسائل فقه‬ ‫ما تتعارض أمامهم‬ ‫السياسة الشرعية عند أولي المر‪ .‬فكثيرا ّ‬ ‫المصلحة والمفسدة‪ ،‬أو المنافع مع بعضها البعض‪ ،‬أوالمفاسد‬ ‫مع بعضها البعض‪ .‬وعليه جاء هذا العلم‪ ،‬الذي أرسى قواعده‬ ‫علماء الصول‪ ،‬ليضع أمام المعنيين من المراء والقضاة‬ ‫والسياسيين القواعد الضابطة للوصول إلى المصلحة المرجوة‬ ‫عند تعارض الدلة‪.‬‬

‫أقسام فقه الموازنات‪:‬‬ ‫يقسم فقه الموازنات إلى ثلثة أقسام رئيسية‪ ،‬وقد‬ ‫استنبط العلماء قواعد هذا الفقه من القرآن والسنة‪:‬‬ ‫(أ) الموازنة بين المصالح‪:‬‬ ‫المصلحة لغة‪ :‬هي المنفعة‪ .‬وضدها يسمى‪ :‬مفسدة‪.‬‬ ‫والمصلحة في الصطلح كما عرفها الغزالي هي‪(( :‬عبارة‬ ‫في الصل عن جلب منفعة أو دفع مفسدة‪...‬والمحافظة على‬ ‫مقصود الشرع‪ ،‬ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي‬ ‫(الدين‪ ,‬والنفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬والعقل‪ ,‬والمال)‪...‬فكل ما يتضمن‬ ‫حفظ هذه الصول الخمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه‬ ‫الصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة))(‪,)42‬‬ ‫ومن الدلة التي استنبط منها العلماء قاعدة‬ ‫سأَلُوَنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ قُلِ اْلعَ ْفوَ‪‬‬ ‫الموازنة بين المصالح‪ :‬قوله تعالى‪ :‬وََي ْ‬ ‫‪42‬‬

‫((المستصفى))‪( ،‬ص ‪ ،)251‬عن كتاب ((مقاصد الشريعة))‪ ،‬لليوبي (ص‬ ‫‪.)390‬‬

‫‪46‬‬

‫[البقرة‪ .]219:‬فقدم القرآن الكريم مصلحة النفاق على العيال‬ ‫في حال عدم وفرة المال‪ ،‬على مصلحة النفاق على الفقير‪.‬‬ ‫قال العز بن عبد السلم‪(( :‬واعلم أن تقديم الصلح‬ ‫فالصلح‪ ،‬ودرء الفسد فالفسد‪ ،‬مركوز في طبائع‬ ‫العباد نظرا ً لهم من رب الرباب))(‪ .)43‬ويقول‪(( :‬والشريعة‬ ‫كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح))(‪.)44‬‬ ‫يقول ابن تيمية‪(( :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل‬ ‫المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع‬ ‫ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين‬ ‫وإن حصل أدناهما))(‪ .)45‬ويقول‪(( :‬ومطلوبها ـ أي الشريعة ـ‬ ‫ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً‪،‬‬ ‫ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً))(‪.)46‬‬

‫(ب) الموازنة بين المصالح والمفاسد‪:‬‬ ‫الصلح والفساد ضدان ذكرهما الله تعالى في آية‬ ‫حِ [البقرة‪.]220:‬‬ ‫سدَ ِمنَ اْل ُمصْلِ ‪‬‬ ‫واحدة‪):‬وَال ّلهُ َيعْ َلمُ اْل ُمفْ ِ‬

‫وذكرهما منفردين في آيات أخر‪ ،‬كقوله تعالى‪ِ):‬إنّا لَ ُنضِيعُ‬ ‫سدِينَ‪‬‬ ‫صلِحُ َعمَلَ اْل ُمفْ ِ‬ ‫حيَ‪[ ‬العراف‪ .]170:‬وقوله تعالى‪):‬إِنّ ال ّلهَ لَ ُي ْ‬ ‫أَ ْجرَ اْل ُمصْلِ ِ‬ ‫[يونس‪.]81:‬‬ ‫ومن اليات الدالة على الموازنة بين المصالح‬ ‫والمفاسد‪:‬‬

‫خ ْمرِ وَاْلمَ ْيسِرِ قُلْ فِي ِهمَا إِْثمٌ كَِبيٌ َومَنَافِعُ‬ ‫سَألُوَنكَ َعنِ الْ َ‬ ‫قوله تعالى‪):‬يَ ْ‬ ‫لِلنّاسِ وَإِْثمُ ُهمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْفعِ ِهمَا‪[ ‬البقرة‪ .]219:‬ففي قوله تعالى‪):‬وَإِْث ُم ُهمَآ أَكَْبرُ‬ ‫مِن ّن ْفعِ ِهمَا‪ ،‬دللة واضحة على الموازنة بين المصالح والمفاسد‪.‬‬ ‫في قوله تعالى‪):‬وَإِْث ُم ُهمَآ أَكَْبرُ مِن ّنفْعِ ِهمَا‪.‬‬

‫‪43‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪45‬‬ ‫‪46‬‬

‫((قواعد الحكام في مصالح النام)) (ص ‪.)7‬‬ ‫المصدر السابق (ص ‪.)11‬‬ ‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬ ‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬

‫‪47‬‬

‫وقوله تعالى‪َ  :‬فإِنْ ِخفُْتمْ أَلّ َت ْعدِلُواْ َفوَا ِحدَةً َأوْ مَا مَلَكَتْ أَْيمَانُ ُكمْ ذَِلكَ‬ ‫َأدْنَى أَلّ َتعُولُواْ‪[ ‬النساء‪ .]2:‬وفيها تقديم مصلحة الزواج من واحدة‪،‬‬ ‫على مفسدة التعدد في الزواج من النساء‪.‬وقاعدتها الصولية‪:‬‬ ‫((درء المفاسد أولى من جلب المنافع))‪.‬‬ ‫يقول ابن تيمية‪ ....(( :‬فالواجبات والمستحبات لبد أن‬ ‫تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة‪ ,‬إذ بهذا بعثت الرسل‬ ‫ونزلت الكتب‪.)47())...‬‬ ‫(ج) الموازنة بين المفاسد‪:‬‬ ‫ذكر القرآن الكريم قصة الخضر حين خرق السفينة‬ ‫وهي صالحة‪ .‬فقد أحدث فيها مفسدة‪ ،‬ليدفع بها مفسدة أعظم‪،‬‬ ‫أل وهي غصب السفينة من قبل الملك‪ .‬فلول هذا الخرق أو‬ ‫المفسدة لخذها الملك‪ ،‬وضاع أهلها الذين يقتاتون بما رزقهم‬ ‫حرِ‬ ‫سفِيَنةُ فَكَانَتْ ِلمَسَا ِكيَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَ ْ‬ ‫الله من دخلها‪ .‬قال تعالى‪َ :‬أمّا ال ّ‬ ‫خذُ كُلّ سَفِيَنةٍ َغصْبًا‪[ ‬الكهف‪.]79:‬‬ ‫َفأَرَدتّ أَنْ َأعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مّ ِلكٌ َيأْ ُ‬ ‫وفي هذه القصة دليل على جواز قصد إحداث مفسدة‬ ‫ما‪ ،‬لدفع أخرى راجحة‪ ،‬ول يُعد ذلك من باب الخيانة للمانة أو‬ ‫ّ‬ ‫للمة‪.‬‬ ‫ض الواقع نفسه بضغط من‬ ‫فكيف يكون الحال إذا فََر َ‬ ‫الرعية المطالبين ببعض المور خلف الولى‪ ،‬كقيادة المرأة‬ ‫للسيارات‪ ،‬أو عملها خارج البيت‪ ،‬أو بالضغط من قبلهم‪ ،‬أو من‬ ‫قبل العداء لقبول بعض المفاسد المخالفة للشريعة‪،‬‬ ‫كالمشاركة في المجالس البرلمانية بطريقة النتخابات‪ ،‬أو‬ ‫تشكيل الحزاب‪ ،‬أو الستعانة بالجيوش غير المسلمة لدفع عدو‬ ‫صائل‪ ،‬أو توقيع معاهدة سلم مع العداء والتنازل فيها عن‬ ‫بعض الحقوق‪ ،‬أو بالضغط من قبل العداء لتسليمهم بعض‬ ‫الرعايا المسلمين في ظروف خاصة حرجة‪ ،‬ل شك أن عمل‬ ‫مثل هذه المور في مثل هذه الحوال القاهرة أولى بالجواز‪،‬‬ ‫لما سيترتب على عدم الستجابة لهذه الضغوط من مفاسد‬ ‫كبيرة تهدد وجود الدولة السلمية‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫((الفتاوى)) (‪.)28/26‬‬

‫‪48‬‬

‫فقد روى تاج الدين السبكي في أحداث سنة ‪616‬هـ‪،‬‬ ‫قصة حصلت بين جنكزخان طاغية التتار والسلطان علء الدين‬ ‫خوارزمشاه محمد بن تكش‪ ،‬أحد سلطين المماليك‪ ،‬وكان ملكاً‬ ‫عظيماً‪ ،‬اتسعت ممالكه‪ ،‬وعظمت هيبته‪ ،‬وأذعنت له العباد‪...‬‬ ‫مل هذا السلطان نتيجة ما حل بالمسلمين على يد‬ ‫والقصة ت ُ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫التتار من ألوان الدمار والقتل‪ ،‬بسبب عدم تسليم نفس واحدة‬ ‫من المسلمين لجنكيزخان‪ ،‬وتفصيل القصة بتصرف يسير‪ ،‬كما‬ ‫يلي‪:‬‬ ‫((ان جماعة من التجار المسلمين‪ ،‬خرجوا الى بلد‬ ‫جنكزخان دون إذن السلطان خوازمشاه ومعهم المستظرفات‪.‬‬ ‫فقابلهم جنكزخان وأكرمهم غاية الكرام‪ ،‬وردا ً على سؤاله لهم‪:‬‬ ‫لي شيء انقطعتم عنا؟ فقالوا‪ :‬إن السلطان خوارزمشاه منع‬ ‫التجار من المسافرة إلى بلدك‪ ،‬ولو علم بنا لهلكنا‪.‬‬ ‫فأرسل جنكزخان رسله إلى خوارزمشاه لعادة العلقات‬ ‫التجارية المتبادلة بين البلدين‪ .‬وأرسل من جهته تجارا ً معهم‬ ‫أموال ل تعد ول تحصى‪ .‬فلما انتهوا إلى الترار عمد نائب‬ ‫خوارزمشاه بها‪ ،‬فكتب إلى خوارزمشاه بأن يقتلهم ويأخذ‬ ‫أموالهم‪ .‬فأصدر خوارزمشاه مرسوما ً بقتلهم وسلب ما كان‬ ‫معهم‪ .‬فأرسل جنكزخان إلى خوارزمشاه‪ :‬هذا الذي جرى‪،‬‬ ‫أعلمني هل هو عن رضى منك؟ إن لم يكن برضاك فنحن‬ ‫نطلب بدمائهم من نائب الترار‪.‬‬ ‫فكان جواب خوارزمشاه‪ :‬أن هذا كان بعلمي وأمري‪ ،‬وما‬ ‫بيننا إل السيف‪ .‬فقام ولده السلطان جلل الدين وكان عاقلً‬ ‫وأشار على والده أن يتلطف في الجواب ويخلي بين‬ ‫جنكزخان ونائب الترار‪ ،‬ويسلطه على دم واحدة‬ ‫يحمي به المسلمين من نهر جيحون إلى قريب بلد‬ ‫الشام‪ ،‬ومساجد ل تحصى عددها‪ ،‬ومدارس‪ ،‬وأمم ل‬ ‫يحصون‪ ،‬وأقاليم‪ .‬فأبى والده إل السيف وأمر بقتل‬ ‫الرسل‪.‬‬ ‫ت كل قطرة من‬ ‫فيالها من فعلة ما كان أقبحها! أ ْ‬ ‫جَر ْ‬ ‫دمائهم سيل ً من دماء المسلمين))(‪.)48‬انتهى‬ ‫‪48‬‬

‫((طبقات الشافعية))‪ .)233-1/232( ،‬تحت عنوان‪ :‬واقعة جنكزخان‬ ‫وحفيده هولكو‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫وهذا ما حصل لحركة طالبان من قريب‪ .‬حيث‬ ‫رفضت ما كان رفضه سببا ً في ضياع دولة وسقوطها‪.‬‬ ‫وعلى الذين ل يستطيعون تقدير هذه المور‪ ،‬ترك خيار التقدير‬ ‫لولي العلم الفقهاء في الواقع‪ ،‬ثم احترام رأيهم‪ ،‬وعدم‬ ‫التعرض للحومهم‪ ،‬فهم ما قاموا بذلك إل لحفظ مقاصد‬ ‫الشريعة‪ ،‬وعلى رأسها حفظ الضرورات‪.‬‬

‫سأَلُوَنكَ‬ ‫وفي باب الترجيح بين المفاسد كذلك قوله تعالى‪َ):‬ي ْ‬ ‫جدِ‬ ‫سِ‬ ‫صدّ عَن سَبِيلِ ال ّلهِ وَ ُكفْرٌ ِبهِ وَاْلمَ ْ‬ ‫َعنِ الشّ ْهرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَِبيٌ َو َ‬ ‫الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ َأهْ ِلهِ مِ ْنهُ أَكَْبرُ عِندَ ال ّلهِ وَاْلفِتَْنةُ أَ ْكبَرُ ِمنَ اْلقَتْلِ‪[ ‬البقرة‪ .]217:‬فمن‬ ‫باب درء المفسدة الكبرى بالصغرى‪ ،‬أجاز لنا القرآن الكريم‬ ‫القتال في الشهر الحرام مع أنه كبير‪ ،‬لدفع ما هو أكبر‪.‬‬

‫جدَنّ أَ َشدّ النّاسِ َعدَاوَةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَاّلذِينَ‬ ‫وقوله تعالى‪):‬لََت ِ‬ ‫ج َدنّ أَقْ َربَ ُهمْ ّموَدّةً لّ ّلذِي َن آمَنُواْ اّلذِينَ قَاُلوَاْ ِإنّا َنصَارَى ذَِلكَ ِبأَنّ مِنْ ُهمْ‬ ‫أَ ْشرَكُواْ وََلتَ ِ‬ ‫سيَ وَ ُرهْبَانًا وَأَنّ ُهمْ لَ َيسْتَكِْبرُونَ‪[ ‬المائدة‪.]82:‬‬ ‫ِقسّي ِ‬ ‫ودللة الية‪ :‬ذكر لنا القرآن أسماء أشد الناس عداوة‬ ‫للمؤمنين من بين جميع العداء‪ ،‬لخذ الحيطة والحذر من‬ ‫جهتهم‪ .‬لذا فّرق الله سبحانه وتعالى بين المقاتلين لنا في الدين‬ ‫من العداء من غيرهم‪ ،‬كما في قوله‪):‬لَا َينْهَا ُكمُ ال ّلهُ َعنِ اّلذِينَ َلمْ‬

‫سطُوا إَِليْ ِهمْ ِإنّ ال ّلهَ ُيحِبّ‬ ‫ُيقَاتِلُو ُكمْ فِي الدّينِ وََلمْ يُخْرِجُوكُم مّن دِيَارِ ُكمْ أَن تَبَرّو ُهمْ وَُتقْ ِ‬ ‫اْل ُمقْسِطِيَ*إِّنمَا َينْهَا ُكمُ ال ّلهُ َعنِ اّلذِينَ قَاَتلُو ُكمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِ ُكمْ‬ ‫وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِ ُكمْ أَن َتوَّل ْو ُهمْ وَمَن يََتوَلّ ُهمْ َفُأوْلَِئكَ ُهمُ‬

‫الظّاِلمُونَ‪[‬الممتحنة‪-8:‬‬

‫‪ .]9‬يقول ابن تيمية‪(( :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح‬ ‫وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير‬ ‫الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل‬ ‫أدناهما))(‪ .)49‬ويقول‪(( :‬ومطلوبها ـ اي الشريعة ـ ترجيح خير‬ ‫الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شر الشرين إذا‬ ‫لم يندفعا جميعاً))(‪.)50‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪50‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬ ‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬

‫‪50‬‬

‫إذن في حالة تعارض المفاسد‪ ،‬وانطلقأ َ من قوله تعالى‪ :‬‬ ‫فَاّتقُوا ال ّلهَ مَا اسَْت َطعُْتمْ‪[ ‬التغابن‪ ،]16:‬فإنه يُصار إلى دفعهما جميعاً‪ ،‬فإذا‬ ‫لم يندفعا جميعاً‪ ،‬دفعنا الفسد فالفسد‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬ ‫ تدفع المفسدة المجمع عليها بالمفسدة المختلف فيها))(‪.)51‬‬‫ تدفع المفسدة الكبرى بالصغرى(‪.)52‬‬‫ تدفع المفسدة التي يترتب عليها ضرر عام بالتي يترتب عليها‬‫ضرٌر خاص(‪.)53‬‬ ‫الموازنة بين العداء‪:‬‬ ‫أعداء السلم ليسوا سواءً‪ ،‬كما يظن أغلب العوام في‬ ‫هذا الزمان‪ .‬وهذه الفكرة أثارها حزب التحرير والشيوعيون‬ ‫والشتراكيون بين المسلمين لضللهم وخداعهم وصرفهم عن‬ ‫أشد الناس عداوة للذين آمنوا‪ ،‬فراجت بيننا بالتكرار والزمن‪،‬‬ ‫ن)‪.‬‬ ‫مقولة‪( :‬كلهم أعداء‪ ،‬أو كلهم َ‬ ‫خوَ ٌ‬ ‫سلّمات‪ ،‬فترتب على ذلك‪،‬‬ ‫م َ‬ ‫ت هذه المقولة من ال ُ‬ ‫واعتُبَِر ْ‬ ‫ليس فقط تكذيب النظمة الصادقة وتخوين النظمة المينة‪،‬‬ ‫التي أمرنا الله تعالى أن نكون معهم‪ ،‬كما في قوله‪ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ‬ ‫آمَنُواْ اّتقُواْ ال ّلهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِيَ‪[ ‬التوبة‪ .]119:‬بل انقلب هذا العداء‬ ‫للنظمة الصادقة والمينة إلى عطف على أعدائنا البعثيين‬ ‫والشيوعيين وأمثالهم‪ .‬وهذا المر جلل وشره مستطير‪.‬‬ ‫جدَنّ أَ َشدّ النّاسِ‬ ‫فعكسوا الواقع والحقيقة في قول الله تعالى‪ :‬لََت ِ‬

‫جدَنّ أَقْرََب ُهمْ ّموَدّةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ اّلذِينَ قَاُلوَاْ‬ ‫َعدَاوَةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَاّلذِينَ أَشْ َركُواْ وَلََت ِ‬ ‫كبِرُونَ‪[ ‬المائدة‪.]82:‬‬ ‫ِإنّا َنصَارَى ذَِلكَ ِبَأنّ مِنْ ُهمْ ِقسّيسِيَ وَ ُرهْبَانًا وَأَنّ ُهمْ لَ يَسْتَ ْ‬ ‫ومن الدلة القرآنية الواردة لبيان فقه الموازنات بين‬ ‫العداء‪:‬‬

‫‪51‬‬

‫‪52‬‬ ‫‪53‬‬

‫((مقاصد الشريعة السلمية))‪ ،‬للدكتور محمد سعد اليوبي‪( ،‬ص ‪،)399‬‬ ‫ط‪ ،1/‬دار الهجرة‪.‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫قوله تعالى‪ُ ):‬غلِبَتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى اْلأَرْضِ وَهُم مّن َب ْعدِ غَلَِب ِهمْ سََيغْلِبُونَ‬ ‫* فِي ِبضْعِ سِنِيَ لِ ّلهِ اْلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن َب ْعدُ وََي ْومَِئذٍ َيفْ َرحُ اْل ُمؤْمِنُونَ‪[ ‬الرم‪. ]3-2:‬‬ ‫الملفت للنظر أن هذا الحدث‪ :‬هزيمة الروم أمام‬ ‫الفرس‪ ،‬يبعد عن المدينة المنورة مسافة ل تقل عن (‪)1000‬‬ ‫كم‪ .‬فلو لم يذكر لنا القرآن الكريم هذه الحادثة‪ ،‬لما ترتب على‬ ‫المسلمين مفسدة تلحق بهم في ديارهم حينها‪ .‬إنما أراد منا‬ ‫الشارع الحكيم أن نوظف هذا الحدث لمصلحتنا‪ ،‬ونحكم عليه‬ ‫من خلل ثوابتنا وأصولنا وقواعدنا الفقهية السياسية‪.‬‬ ‫فتجد أن المسلمين قد تعاطفوا مع الروم لنهم القرب‬ ‫إلى ديننا من الفرس‪ ,‬علما ً أن هذا التعاطف معهم ليس من‬ ‫باب الولء أو العمالة لهم في شيء‪ .‬إنما هو من باب تقليل‬ ‫الشر في الرض قدر المكان‪ ،‬ولو بتغيير الشر الكبر والكفر‬ ‫الكبر (الفرس)‪ ،‬بالشر الصغر والكفر الصغر (الروم)‪ ،‬تطبيقاً‬ ‫للقواعد الصولية‪(( :‬دفع الضرر الكبر بالضرر الصغر)) أو‪:‬‬ ‫((اختيار أدنى المفسدتين)) أو ((درء المفاسد وتقليلها))‪ ،‬ول يقال‬ ‫في مثل هذا الموضع (كلهم كفار) (‪ ،)54‬فهناك كفر وكفر أكبر‪،‬‬ ‫وشر وشر أكبر‪.‬‬ ‫وياللسف تجد البعض يوافقنا على هذه القواعد الأصولية‬ ‫نظرياً‪ ،‬لكنه يخالفنا عمليا ً وواقعياً‪ ،‬حين نقرر أن الخطر‬ ‫الشتراكي اليهودي هو الكبر والشد على مصالح المسلمين‬ ‫من الخطر الرأسمالي الغربي‪ ،‬انسجاما ً مع الواقع الذي نراه‬ ‫ضمن تقريرات الشرع‪ ،‬ول يرونه بسبب الدعايه المضللة‪ ،‬ومع‬ ‫ج َدنّ أَ َشدّ النّاسِ َعدَاوَةً لّ ّلذِي َن آمَنُواْ اْليَهُودَ وَاّلذِينَ أَشْ َركُواْ‬ ‫الية القرآنية‪َ):‬لتَ ِ‬

‫جدَنّ أَقْرََب ُهمْ ّموَدّةً لّ ّلذِي َن آمَنُواْ اّلذِينَ قَاُلوَاْ إِنّا َنصَارَى َذِلكَ ِبأَنّ مِنْ ُهمْ قِسّيسِيَ‬ ‫وَلََت ِ‬ ‫وَ ُرهْبَانًا وَأَنّ ُهمْ لَ يَسْتَكِْبرُونَ‪[ ‬المائدة‪.]82:‬‬

‫هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية‪:‬‬ ‫فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة‬ ‫النصرانية بالولء والعمالة لها‪ ،‬لقبولهم العيش في كنف‬ ‫النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر ليس كذلك‪ ،‬إنما كانت‬ ‫‪54‬‬

‫وقول‪( :‬كلهم كفار) ليس في المعاملة في الدنيا‪ ،‬بل في حكم الخرة‬ ‫أنهم كلهم في النار‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫هجرتهم إلى الحبشة‪ ،‬من باب ((اختيار أدنى المفسدتين))‪،‬‬ ‫فمفسدة قريش (الوثنية)‪ ،‬أبناء العمومة‪ ،‬أعظم من مفسدة‬ ‫الحبشة (النصارى)‪ ،‬هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح‪ ،‬مع‬ ‫أننا نسمع من يردد مقولة‪ :‬أنّا ضد أي عداء كان ضد أي عربي‪،‬‬ ‫نقول‪ :‬حتى لو كان اشتراكيا ً كافراً؟ فعجبا ً لهؤلء!!‬ ‫فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى‪ (( :‬تحصيل‬ ‫المصالح و تكميلها‪ ,‬وتعطيل المفاسد وتقليلها)) نقول باختصار‪:‬‬ ‫علينا أن ل نرفض‪ ،‬بل نؤيد كل ما يؤدي إلى تغيير الواقع من‬ ‫الشر إلى شر أقل منه‪ ،‬فإن ذلك يدفع باتجاه تقليل الشر في‬ ‫الرض‪ ،‬وبالتالي يساهم في قرب النصر‪.‬‬ ‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى‪(( :‬ليس‬ ‫العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير‬ ‫الخيرين وشر الشرين))(‪.)55‬‬ ‫ويقول‪(( :‬فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول‬ ‫دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة‬ ‫جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‬ ‫بحسب المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن‬ ‫يجتمعا جميعاً‪ ،‬ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً))(‪.)56‬‬ ‫ويقول‪(( :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح‬ ‫وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين‬ ‫بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما))(‪.)57‬‬ ‫إذن من الورع أن ندفع شر الشرين‪( :‬الشتراكية‬ ‫الصهيونية) بالشر الدنى‪( :‬الديموقراطية الغربية)‪ ،‬ول يكون‬ ‫ذلك إل في حالت الضطرار‪ ،‬أما في حالة الختيار‪ ،‬فل شرقية‬ ‫ول غربية‪.‬‬ ‫ولقد رفع الخميني الشتراكي الشيعي المامي شعار‪( :‬ل‬ ‫شرقية ول غربية) أيام شاه إيران الرأسمالي‪ ،‬فلما استلم‬ ‫الخميني الحكم جعلها شرقية اشتراكية وحارب التوجه‬ ‫الرأسمالي الغربي الذي كان سائداً أيام الشاه‪ ،‬ولو كان مسلماً‬ ‫حقا كما يدعي لرفض التوجه للشرق الشتراكي كذلك‪ ،‬إنما‬ ‫ً‬ ‫‪55‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪57‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)20/54‬‬ ‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬ ‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬

‫‪53‬‬

‫استدرج غثاء المسلمين بشعاره المضلل حينئذ‪ ،‬وخدعهم بذلك‪،‬‬ ‫وربط إيران بموسكو رأساً‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫ثالثا‪ :‬فقه الولويات‬ ‫يُعد فقه الولويات من السس المهمة المرتبط بفقه‬ ‫السياسة الشرعية‪ ،‬وفي العادة فإن ضبط فقه الموازنات‬ ‫السابق الذكر‪ ،‬يعين الفقهاء على تحديد الولويات‪.‬‬ ‫المقصود بفقه الولويات‪:‬‬ ‫ما‪،‬‬ ‫ترتيب العمال المطلوب القيام بها لتحقيق هدف ّ‬ ‫حسب الهمية والحاجة إليها في الزمان أوالمكان المحددين‪،‬‬ ‫بحيث ل نقدم المهم على الهم‪ ،‬ول ما هو من الدرجة الصغرى‬ ‫على الدرجة الكبرى‪.‬‬ ‫ولما كان الهدف المنشود لدى المسلمين عموما ً هو‬ ‫العمل بكتاب الله وسنة نبيه وتطبيقهما في المجتمع السلمي‪،‬‬ ‫للخروج من الزمات المختلفة‪ ،‬وليتحقق بذلك النصر على‬ ‫الشهوات والشبهات والعداء‪ ،‬فإن الحاجة لفقه الولويات له‬ ‫حضوره وأهميته‪ .‬وليس من الصعب على المسلمين التفاق‬ ‫على تحديد شروط النصر‪ ،‬أو شروط التغيير‪ ،‬بقدر اتفاقهم على‬ ‫تحديد الأولويات الواجب العمل بها في هذه المرحلة الحرجة‪.‬‬ ‫فقد نتفق على ضرورة هذه الشروط‪ ،‬لكن سرعان ما نختلف‬ ‫على أولويات العمل بها‪.‬‬

‫أهم الموضوعات في ترتيب سلم الولويات في‬ ‫الفقه السياسي‬ ‫•العقيدة أولً ‪:‬‬ ‫وفيه العمل على تجذير اليمان الصادق في المة‪ ،‬وعبادة‬ ‫الله وحده واجتناب الطاغوت‪ .‬قال تعالى‪َ  :‬ف َمنْ يَ ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَُيؤْمِن‬

‫سكَ بِاْلعُ ْروَةِ اْلوُْثقَىَ‪[ ‬البقرة‪ .]256:‬وََل َقدْ َبعَثْنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رّسُولً أَنِ‬ ‫بِال ّلهِ َف َقدِ اسَْت ْم َ‬ ‫ا ْعُبدُواْ ال ّلهَ وَاجْتَنِبُواْ الطّاغُوتَ‪[ ‬النحل‪.]36:‬‬ ‫فالعقيدة مقدمة على كل عمل مهما كانت سمو درجته‪،‬‬ ‫فل نصر ول عز ول كرامة مع الشرك‪ ،‬ل في الدنيا ول في‬ ‫الخرة‪ .‬ومن المهم تقديم رابطة العقيدة على كل رابطة من‬ ‫دونها مهما كانت صلتها بالفرد‪ ،‬كرابطة القرابة والنسب‪،‬‬

‫‪55‬‬

‫جدُ َقوْمًا‬ ‫ورابطة الرض‪ ،‬ورابطة القومية‪ ،‬وأمثالها‪ .‬قال تعالى‪) :‬لَا تَ ِ‬ ‫ُي ْؤمِنُونَ بِال ّلهِ وَاْلَي ْومِ الْآ ِخرِ ُيوَادّونَ َمنْ حَادّ ال ّلهَ وَرَسُولَهُ وََلوْ كَانُوا آبَاء ُهمْ َأوْ أَْبنَاءهُمْ َأوْ‬ ‫شيَتَ ُهمْ ُأوَْلِئكَ كَتَبَ فِي قُلُوِب ِهمُ اْلإِيَانَ وَأَّي َدهُم ِبرُوحٍ مّنْهُ وَُيدْخِ ُل ُهمْ جَنّاتٍ‬ ‫إِ ْخوَانَ ُهمْ َأوْ َع ِ‬ ‫َتجْرِي مِن تَحِْتهَا اْلأَْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َرضِيَ ال ّلهُ عَنْ ُهمْ وَرَضُوا عَ ْنهُ ُأوْلَِئكَ حِ ْزبُ ال ّلهِ أَلَا‬ ‫ح ْزبَ ال ّلهِ ُهمُ اْل ُمفْلِحُونَ‪[ ‬المجادلة‪.]22:‬‬ ‫ِإنّ ِ‬ ‫•الركان مقدمة على سائر الفرائض‪:‬‬ ‫بعد سلمة العقيدة‪ ،‬تأتي أركان السلم في الولوية‬ ‫لعظم شأنها‪ ،‬ويكفي أن يقال فيها‪ ،‬ما جاء عن النبي ×‪(( :‬بني‬ ‫السلم على خمس‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله وأن‬ ‫محمدا رسول الله وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وصوم‬ ‫رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلً))‪ .‬فهي من‬ ‫المعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬فمن أنكرها‪ ،‬أو استهزأ بها‪ ،‬فقد‬ ‫كفر‪.‬‬ ‫•الفرائض مقدمة على النوافل‪:‬‬ ‫عن أبي هريرة عن النبي × أنه قال‪(( :‬يقول الله‬ ‫تعالى‪ :‬من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة‪ ،‬وما‬ ‫تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ول يزال‬ ‫عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته‪)) ...‬‬ ‫[صحيح]‪.‬‬ ‫ودللة الحديث واضحة في قوله‪(( :‬وما تقرب إلي‬ ‫عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه))؛ فالفرائض أحب إلى‬ ‫الله تعالى من النوافل‪ ،‬التي تأتي بالدرجة التالية‪ ،‬وهذه‬ ‫الفرائض المقصودة هي ما انعقد عليها إجماع المة من دون‬ ‫الركان السابقة‪ .‬منها حرمة الربا‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬والحدود‪،‬‬ ‫والمواريث‪ ،‬والزواج‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫•تقديم فهم الصحابة على غيرهم‪:‬‬ ‫المقصود تقديم إجماع فهم الصحابة على غيرهم‪ ،‬لقوله‬ ‫تعالى‪َ ):‬ومَن يُشَا ِققِ الرّسُولَ مِن َب ْعدِ مَا َتبَّينَ َلهُ الْ ُهدَى وََيتّبِعْ َغيْرَ سَبِيلِ اْل ُم ْؤمِنِيَ ُنوَّلهِ‬ ‫ص ِلهِ جَهَّنمَ وَسَاءتْ َمصِيًا‪[ ‬النساء‪.]115:‬‬ ‫مَا َتوَلّى وَُن ْ‬

‫‪56‬‬

‫قال ابن كثير في تفسيرها‪(( :‬ومن يشاقق الرسول من‬ ‫طريقا غير طريق‬ ‫ً‬ ‫بعد ما تبين له الهدى‪ ،‬أي‪ :‬ومن سلك‬ ‫الشريعة التي جاء بها الرسول ×‪ ،‬فصار في شق والشرع في‬ ‫شق‪ ،‬وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح‬ ‫له‪ ،‬وقوله (وَيَتّبِعْ غَ ْيرَ سَبِيلِ اْل ُم ْؤمِنِيَ)‪ :‬هذا ملزم للصفة الولى ولكن‬ ‫قد تكون المخالفة لنص الشارع‪ ،‬وقد تكون لما اجتمعت عليه‬ ‫المة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً‪ ،‬فإنه قد ضمنت‬ ‫لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً‬ ‫لنبيهم)) اهـ‪.‬‬

‫‪‬وَالسّاِبقُونَ ا َلوّلُونَ مِنَ اْلمُهَاجِرِينَ وَالَنصَارِ وَاّلذِينَ اتَّبعُوهُم ِبإِحْسَانٍ ّرضِيَ ال ّلهُ‬ ‫جرِي َتحْتَهَا الَنْهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أََبدًا ذَِلكَ اْلفَوْزُ‬ ‫عَ ْن ُهمْ وَ َرضُواْ عَ ْنهُ وََأ َعدّ لَ ُهمْ جَنّاتٍ تَ ْ‬ ‫اْلعَظِيمُ‪[ ‬التوبة‪.]100:‬‬ ‫وقال رسول الله ×‪(( :‬خير أمتي قرني‪ ،‬ثم الذين‬ ‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم)) [رواه البخاري‪].‬‬ ‫•البناء الخلقي‪:‬‬

‫لقوله تعالى‪ُ  :‬هوَ اّلذِي َبعَثَ فِي اْلُأمّيّيَ رَسُولًا مّنْ ُهمْ َيتْلُو عَ َليْ ِهمْ آيَاِتهِ‬ ‫وَيُ َزكّي ِهمْ وَُيعَ ّلمُ ُهمُ الْكِتَابَ وَالْحِ ْك َمةَ وَإِن كَانُوا مِن َقبْلُ َلفِي ضَلَالٍ مّبِيٍ‪ ‬سورة المعة(‬ ‫‪ .)2‬قال تعال‪َ  :‬قدْ أَ ْفلَحَ مَن َزكّاه ‪َ‬ا [الشمس‪ .]9:‬فتزكية النفس المؤمنة‬ ‫بالخلق الحسن والقيم النبيلة من ضرورات التغيير المنشود‪ .‬بل‬ ‫إن بناء الهيكل الخلقي له أكبر الثر في التأثير في الخرين‪،‬‬ ‫لن حسن الخلق من مقومات ثبات المجتمع ولمعان بريقه في‬ ‫عيون الغير‪.‬‬ ‫•رعاية الضروريات‪ ،‬ثم الحاجيات‪ ،‬ثم التحسينيات‪:‬‬ ‫لقد جاءت الشريعة السلمية بجملة من المصالح للعناية‬ ‫بها وإقامتها في المجتمع‪ ،‬ولتفاوت درجات هذه المصالح في‬ ‫الهمية‪ ،‬تقدم المصالح الضرورية على المصالح الحاجية‪ ،‬وتقدم‬ ‫المصالح الحاجية على المصالح التحسينية‪.‬‬ ‫أ) الضروريات‪:‬‬ ‫يقول الشاطبي في تعريفها‪(( :‬ما ل بد منها في قيام‬

‫‪57‬‬

‫مصالح الدين والدنيا‪ ،‬بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على‬ ‫استقامة‪ ،‬بل على فساد وتهارج وفوت حياة‪ ،‬وفي الخرى فوت‬ ‫النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع بالخسران المبين)) (‪. )58‬‬ ‫وقد جاءت كل أمة بحفظها وهي‪ :‬حفظ الدين‪ ,‬والنفس‪،‬‬ ‫والنسل‪ ،‬والعقل‪ ,‬والمال‪ ,‬وقد شرع السلم لحفظ هذه‬ ‫الضروريات ما يجلبها وما يحفظها‪ ،‬وهي متفاوتة في درجاتها‪،‬‬ ‫فأولها وأولها‪ ،‬حفظ الدين‪ ،‬فهو مقصد الحياة‪ ،‬لقوله تعالى‪):‬وَمَا‬ ‫جنّ وَاْلإِنسَ إِلّا ِلَيعُْبدُونِ‪[ ‬الذاريات‪.]56:‬‬ ‫َخ َلقْتُ الْ ِ‬ ‫فل يجوز التنازل عن الدين وتركه لجل أي من هذه‬ ‫الضرورات‪ ،‬إل من أكره وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬قال تعالى‪):‬مَن‬

‫صدْرًا‬ ‫َكفَرَ بِال ّلهِ مِن َب ْعدِ إيَاِنهِ إِلّ َمنْ أُ ْكرِهَ وَقَ ْلُبهُ مُ ْطمَِئنّ بِالِيَانِ وَلَكِن مّن شَ َرحَ بِالْ ُكفْرِ َ‬ ‫َفعَلَ ْي ِهمْ َغضَبٌ ّمنَ ال ّلهِ وَلَ ُهمْ َعذَابٌ َعظِيمٌ‪[ ‬النحل‪ ،]106:‬كما حصل مع عمار‬ ‫بن ياسر رضي الله عنه‪ ،‬إذ شتم نبيه‪ ،‬تحت الكراه‪.‬‬ ‫ب) الحاجيات‪:‬‬ ‫وهي التي يتعلق بها رفع الحرج في العبادات والعادات‬ ‫والمعاملت(‪ .)59‬فقد تميزت هذه الشريعة السمحاء برفع الحرج‬ ‫جٍ [الحج‪.]78:‬‬ ‫ح َر ‪‬‬ ‫عن أهلها‪ ،‬لقوله تعالى‪):‬وَمَا َجعَلَ عَلَيْ ُكمْ فِي الدّينِ مِنْ َ‬ ‫سعَه ‪َ‬ا [البقرة‪ .]286:‬والحاجة إلى‬ ‫وقوله تعالى‪):‬لَ يُ َكلّفُ ال ّلهُ َنفْسًا إِلّ وُ ْ‬ ‫الحاجيات تكون دون الضرورات التي لو فقدت لختل نظام‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫حقَ بالناس حرج ومشقة‪ ،‬في‬ ‫فالحاجيات لو فقدت لَل َ ِ‬ ‫عباداتهم‪ ،‬كالصيام في نهار رمضان للمسافر والمريض‪ ،‬وما‬ ‫يلحق بالناس من حرج في عاداتهم‪ ،‬كالمأكل والمشرب‬ ‫والمسكن والملبس‪ ،‬ودرجة الحاجيات في هذه العادات هي‬ ‫درجة التوسط‪ ،‬فالحد الدنى منها يعد من الضروريات‪ ،‬والحد‬ ‫العلى من التحسينيات‪.‬‬ ‫ج) التحسينيات‪:‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪59‬‬

‫((الموافقات)) (‪.)2/8‬‬ ‫انظر‪(( :‬الموافقات))‪ ،‬للشاطبي‪(( ،)2/11( :‬الحكام)) للمدي (‪.)3/274‬‬

‫‪58‬‬

‫تكون فيما يتعلق بمكارم الخلق(‪ .)60‬وهي‪ :‬ما ل يرجع‬ ‫إلى ضرورة ول إلى حاجة‪ ،‬وهي‪(( :‬خادم للصل الضروري‬ ‫ومحسنة لصورته الخاصة))(‪ .)61‬وبها يظهر ((كمال المة في‬ ‫نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة‪ ،‬ولها بهجة منظر المجتمع‬ ‫مرغوبا في‬ ‫ً‬ ‫في مرأى بقية المم حتى تكون الأمة السلمية‬ ‫الندماج فيها‪ ،‬أو في التقرب منها))(‪.)62‬‬

‫‪60‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪62‬‬

‫((الموافقات))‪ ،‬للشاطبي (‪.)2/11‬‬ ‫((الموافقات))‪ ،‬للشاطبي (‪.)2/42‬‬ ‫((مقاصد الشريعة))‪ ،‬لبن عاشور‪( ،‬ص ‪.)82‬‬

‫‪59‬‬

‫رابعاً‪ :‬فقه التغيير‬ ‫تسعى كل أمة من المم عبر التاريخ للحصول على‬ ‫التغيير اليجابي الذي يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد‪،‬‬ ‫وفق معتقداتها وأخلقها‪ .‬لذا فقد اختلفت مدارس التغيير‬ ‫وتباينت نتيجة لتلك المبادىء والمعتقدات‪.‬‬ ‫ففي الوقت الذي سعت فيه بعض المدارس أمثال‬ ‫الملحدين وعبدة الوثان‪ ،‬إلى المخلوق لنيل التغيير اليجابي‪،‬‬ ‫توجهت أخرى من أتباع الديانات السماوية إلى الخالق‪ .‬ثم‬ ‫تباينت بعد ذلك رؤى أصحاب المذاهب الرضية إلى طرق شتى‪،‬‬ ‫ففى الوقت الذي رأى فيه البعض النطلق إلى الهدف من‬ ‫صَرهُ آخرون في التغيير السياسي‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫التغيير القتصادي‪َ ،‬‬ ‫ح َ‬ ‫أما داخل المدرسة السلمية‪ ،‬فقد تباينت كذلك رؤى‬ ‫الصلح والتغيير‪ ،‬قديما وحديثاً‪ ،‬فمن جهة مصدر التلقي‪ ،‬انقسم‬ ‫الصلحيون إلى ثلث مدارس‪:‬‬ ‫•مدرسة النقل (الوحي)‪ :‬وهؤلء ينطلقون من العقيدة‬ ‫السليمة ومحاربة الشرك‪ ،‬والدعوة إلى التباع ونبذ‬ ‫البتداع‪ ،‬وهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‪،‬‬ ‫وشعارهم في الواقع المعاصر (التصفية والتربية)‪.‬‬ ‫•مدرسة العقل‪ :‬وهؤلء يقدمون العقل على النقل‬ ‫(الوحي)‪ .‬وأشهر رؤوسهم المعتزلة والشاعرة‪.‬‬ ‫•مدرسة الكشف والذوق‪ :‬وهؤلء ينطلقون من الكشف‬ ‫الصوفي للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وهي في نظرهم وحدة‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫•أما من جهة ساحة التغيير‪ ،‬فقد انقسمت رؤى الصلح‬ ‫والتغيير إلى‪:‬‬ ‫•مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير ما بالنفس‪،‬‬ ‫س ِهمْ‪[ ‬الرعد‪.]11:‬‬ ‫لقوله تعالى‪ :‬إِنّ ال ّلهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِبقَ ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُواْ مَا ِبأَْنفُ ِ‬ ‫وأصحاب هذه المدرسة هم السواد العظم في كل زمان‪،‬‬ ‫وهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‪ ،‬ومن‬

‫‪60‬‬

‫المعاصرين‪ :‬السلفيون‪ ،‬والخوان المسلمون‪ ،‬وجماعة‬ ‫الدعوة والتبليغ‪ ،‬والصوفيون‪.‬‬ ‫•مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير النظمة‬ ‫القائمة‪ ،‬وأصحاب هذه المدرسة هم‪ :‬الخوارج قديماً‪،‬‬ ‫و(حزب التحرير السلمي) حديثاً‪ ،‬وهم الوحيدون الذين‬ ‫خرجوا عن السواد العظم‪ ،‬ومنهج السلف الصالح عبر‬ ‫العصور‪ ،‬ومنهجهم يقوم على تغيير النظمة الحاكمة‬ ‫ليقوم السلم كله في الناس‪.‬‬ ‫ومع التكرار والزمن‪ ،‬فقد تأثر بطرح الخوارج وحزب‬ ‫التحرير‪ ،‬كثيرون ممن ينتسبون إلى الجماعات السلمية‬ ‫الخرى‪ ،‬مثل الخوان المسلمين‪ -‬في وقت مبكر‪-‬‬ ‫والسلفية‪ ،‬والصوفية‪ ،‬والدعوة والتبليغ‪ .‬ففي الوقت الذي‬ ‫اكتفى فيه بعض هؤلء من المتأثرين بالخوارج وبفكر حزب‬ ‫التحرير بالمعارضة السياسية ومناكفة النظمة القائمة‬ ‫سلمياً‪ ،‬دعا البعض الخر منهم إلى الخروج على النظمة‬ ‫بحمل السلح‪ ،‬وتطور المر ببعضهم إلى التكفير والتفجير‬ ‫العشوائي‪ .‬وإذا علمنا أن مؤسس حزب التحرير الشيخ‬ ‫تقي الدين النبهاني‪ ،‬كان بعثياً اشتراكيا ً (‪ .)63‬وكان عضواً‬ ‫في (كتلة القوميين العرب) اليسارية(‪ ،)64‬قبل تأسيسه‬ ‫لحزب التحريـر‪ ،‬تبين لنا مصدر فسـاد منهج حزب التحرير‬ ‫في التغيير‪.‬‬ ‫فالشتراكية ـ وهي من أصل يهودي ـ تقوم على تطبيق‬ ‫نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ‪ ،‬وهذه النظرية‬ ‫تعمل على قلب النظم السياسية والجتماعية القائمة في‬ ‫العالم أجمع‪ ،‬ومنها الدول السلمية التي تعادي اليسار‪،‬‬ ‫ت هذه النظرية في فكر الحزب وكتبه ومنشوراته‪،‬‬ ‫فَ َ‬ ‫سَر ْ‬ ‫ومن ثم إلى أفراده‪ ،‬ومن ثم إلى المة السلمية‪.‬‬ ‫أما من جهة طبيعة التغيير ومادته‪ ،‬فقد تباينت الجماعات‬ ‫السلمية المعاصرة فيه تباينا ً واضحاً‪ ،‬علماً بأن الجميع يقولون‬ ‫بأنهم يتخذون من الكتاب والسنة دستوراً‪ ،‬ومنهجاً في التغيير‪.‬‬ ‫‪63‬‬

‫‪64‬‬

‫((موسوعة الحركات السلمية في الوطن العربي وإيران وتركيا))‪،‬‬ ‫(ص ‪ ،)397‬إصدار مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬ ‫((القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين من ‪، ))1948 -1917‬‬ ‫تأليف‪ :‬بيان نويهض‪( ،‬ص ‪ ،)900‬طبعة بيروت‪.)1981( ،‬‬

‫‪61‬‬

‫وهذا هو أهم وأبرز جانب من الجوانب التي ركزت عليها كل‬ ‫جماعة‪:‬‬ ‫اسم‬ ‫الجماعة‬

‫أبرز جانب اشتهرت به‬

‫السلفية‬

‫العقيدة ومجانبة البدع بالمر‬ ‫والنهي‬

‫الصوفية‬

‫الذكر والدروشة‬

‫الخوان‬ ‫المسلمون‬

‫الحركة والتنظيم والتجميع‬ ‫كيفما اتفق‬

‫حزب التحرير‬

‫السياسة‬

‫الدعوة‬ ‫والتبليغ‬

‫المر بالمعروف والوعظ‬ ‫القصصي‬

‫وهذه الجوانب كلها ل شك أنها من دعوة السلم‬ ‫الشاملة‪ ،‬إل أن الصوفية اتخذت من الذكر جسرا ً لتعبر من‬ ‫خلله إلى أوحال الشرك‪ .‬وحزب التحرير اتخذ من السياسة‬ ‫جعَلَهُم‬ ‫المغرضة المخالفة للواقع طريقا ً لضلل المسلمين‪َ ،‬و َ‬ ‫سي ْ ْ‬ ‫ل الشتراكية الفكري الجارف‪.‬‬ ‫بذلك غثاء ل ِ َ‬ ‫إن الكتفاء بجانب واحد من جوانب التغيير المذكورة‪،‬‬ ‫وغيرها ممن لم تذكر كالجانب الجتماعي‪ ،‬والثقافي‬ ‫والقتصادي‪ ،‬ل يحقق التغيير المنشود‪ ،‬حتى تتكامل هذه‬ ‫الجوانب كلها في المجتمع المسلم‪ ،‬ثم ل بد أن يسير بها‬ ‫المصلحون وفق السنة الكونية التي ل تتبدل ول تتغير لتحقيق‬ ‫التغيير المنشود‪ ،‬المتمثلة في قوله تعالى‪ِ):‬إنّ ال ّلهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى‬ ‫ُيغَيّرُواْ مَا بأْنفُسِهمْ‪[ ‬الرعد‪.]11:‬ولهمية هذه السنة الكونية ولخطورة‬ ‫تجاهلها‪ ،‬أو تخطيها ل بد من إقامة الحجج والبراهين الدالة‬ ‫عليها‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫حتى يغيروا ما بأنفسهم‬ ‫وقفة قصيرة مع خطر الصراع مع النظمة‬ ‫ليعلم أولئك البعض‪ ،‬ممن قل اعتبارهم لسنن الله تعالى‬ ‫في خلقه‪ ،‬أن ما ذهبوا إليه من تصورات في طريق التغيير‬ ‫المنشود‪ ،‬سيؤدي إلى النشغال بالحاكم‪ ،‬وتركيز الصراع مع‬ ‫النظام السياسي القائم وإسقاطه‪ ،‬فينتج عن ذلك ازدياد الفساد‬ ‫والفساد في الناس لتوقف مسيرة المر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر أو إعاقتها بحجة النشغال بتغيير منكر الحكام‪.‬‬ ‫فمشروع الصراع مع النظمة الحاكمة وضرب الحاكم‬ ‫بالمحكوم من أهم الساليب المستخدمة من قبل الصهيونية‬ ‫وذراعها القوى ( الشتراكية) للسيطرة على العالم‪ ،‬فعن‬ ‫طريق الثورات الشعبية التي يقفون خلفها ويوجهونها بواسطة‬ ‫عملئهم الشتراكيين على اختلف أسمائهم‪ ،‬يقودون الثورة‬ ‫ويركبون الموجة‪ ،‬ويقومون بعد ذلك بتصفية المعارضة‪ ،‬مهما‬ ‫كان دينها أو عرقها‪.‬‬ ‫وللتدليل على ذلك نقرأ في بروتوكولت حكماء صهيون‬ ‫ما يلي‪:‬‬ ‫((وذلك حين يحين الوقت لتغيير كل الحكومات القائمة‬ ‫من أجل أوتقراطيتنا‪ ،‬أن تعرفنا لملكنا التوقراطي(‪ )65‬يمكننا أن‬ ‫نتحقق منه قبل إلغاء الدساتير‪ ،‬أعني بالضبط أن تعرف أن‬ ‫حكمنا سيبدأ في اللحظة ذاتها حين يصرخ الناس الذين مزقتهم‬ ‫الخلفات وتعذبوا تحت إفلس حكامهم (وهذا ما سيكون مدبراً‬ ‫ً‬ ‫عالميا‬ ‫على أيدينا) فيصرخون هاتفين‪ :‬اخلعوهم وأعطونا حاكماً‬ ‫واحداً يستطيع أن يوحدنا‪ ،‬ويمحق كل أسباب الخلف‪ ،‬وهي‬ ‫الحدود والقوميات والديان والديون ونحوها‪ ..‬حاكماً يستطيع أن‬ ‫يمنحنا السلم والراحة اللذين ل يمكن أن يوجدا في ظل‬ ‫وافيا أنه‬ ‫ً‬ ‫رؤسائنا وملوكنا وممثلينا‪ .‬ولكنكم تعلمون علماً دقيقاً‬ ‫لكي يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء‪ ،‬لبد أن يستمر في كل‬ ‫البلد اضطراب العلقات القائمة بين الشعوب والحكومات‪،‬‬ ‫‪65‬‬

‫الوتوقراطية هي‪ :‬نظام الحكم الفردي الستبدادي‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫فتستمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهاداً‬ ‫أيضا))(‪. )66‬‬ ‫ً‬ ‫((إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين (غير‬ ‫اليهود) مع قوة الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل‬ ‫الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين‬ ‫القوتين سداً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان كل من الخرى‪،‬‬ ‫وهكذا تبقى قوة الشعب سنداً إلى جانبنا‪ ،‬سنكون وحدنا قادتها‪،‬‬ ‫وسنوجهها لبلوغ أغراضنا))(‪.)67‬‬ ‫وتقول أيضاً‪:‬‬ ‫(‪)68‬‬ ‫ومعظما من كل رعاياه ـ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫محبوبا‬ ‫((ولكي يكون الملك‬ ‫يجب أن يخاطبهم جهاراً مرات كثيرة‪ .‬فمثل هذه الجراءات‬ ‫ستجعل القوتين في انسجام‪ ،‬أعني قوة الشعب وقوة الملك‬ ‫اللتين قد فصلنا بينهما في البلد الممية (غير اليهودية) بإبقائنا‬ ‫كل منهما في خوف دائم من الخرى‪ .‬ولقد كان لزاماً علينا أن‬ ‫نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى‪ ،‬لنهما حين انفصلتا‬ ‫وقعتا تحت نفوذنا))(‪.)69‬‬

‫وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير‬ ‫المنشود يكون بتغيير النفس أولً(‪ ،)70‬علينا أن نتذكر حقيقة‬ ‫شرعية‪ ،‬أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصاً لله‬ ‫تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح والمنافع‪ ،‬وإيمان الكراه والقهر مخالف‬ ‫لقوله تعالى‪ :‬وما أمروا إل ليعبدوا ال ملصي له الدين ‪[‬البينة‪ ،]5:‬ومخالف‬ ‫لقول الرسول ×‪(( :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما‬ ‫نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الله‬ ‫ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪،‬‬ ‫فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [متفق عليه]‪.‬‬

‫‪66‬‬ ‫‪67‬‬ ‫‪68‬‬

‫‪69‬‬ ‫‪70‬‬

‫البروتوكول العاشر‪.‬‬ ‫البروتوكول التاسع‪.‬‬ ‫المقصود بالملك‪( :‬ملك إسرائيل) بعد تتويجه لحكم العالم‪ ،‬أو أي‬ ‫حاكم أو ديكتاتور ممن يأتون بانقلب عسكري موجه من قبل اليسار‬ ‫(الماركسية)‪.‬‬ ‫البروتوكول الرابع والعشرون‪.‬‬ ‫‪...‬وعاشرا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخامسا‬ ‫ورابعا‬ ‫ً‬ ‫وثانيا وثالثاً‬ ‫ً‬

‫‪64‬‬

‫فمن تظاهر بالسلم طلبا ً لمنفعة أو دفعا ً لمفسدة‪ ،‬أو‬ ‫تزلفاً لحاكم‪ ،‬فقد نافق ومن نافق خسر خسرانا ً مبيناً‪ ،‬ومقصود‬ ‫الشريعة إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور اليمان‪،‬‬ ‫فعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة للهمية الساسية‪.‬‬

‫الدلة على أن التغيير يكون بتغيير ما بالنفس‬ ‫اليات القرآنية‪:‬‬ ‫ورد في القرآن الكريم‪ ،‬العديد من اليات الدالة على‬ ‫إثبات التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال‬ ‫بذلك‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫صالحا‪ ،‬وإذا‬ ‫ً‬ ‫أولً‪ :‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكماً‬ ‫فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسداً‪ :‬ورد هذا المفهوم‬ ‫الجلي في العديد من المواضع من كتاب الله تعالى منها‪:‬‬

‫‪-1‬قوله تعالى‪):‬وَ َكذَِلكَ ُنوَلّي َبعْضَ الظّاِل ِميَ َب ْعضًا ِبمَا‬

‫نَ [النعام‪:‬‬ ‫كسِبُو ‪‬‬ ‫كَانُوا يَ ْ‬

‫‪.]129‬‬ ‫تدل الية على أن الله تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع‬ ‫بعضاً في الحكم‪ ،‬فإذا علمنا أن الحاكم هو إفراز من المجتمع‪،‬‬ ‫وأن المجتمع يُسوّد على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه‬ ‫وغاياته‪ ،‬دل ذلك بكل تأكيد على أن القاعدة العامة تقول‪(( :‬إذا‬ ‫صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت‬ ‫ً‬ ‫صلحت الرعية أفرزت حاكماً‬ ‫فاسدا))‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حاكماً‬ ‫ينقل القرطبي قول ابن عباس وابن زيد في تفسير هذه‬ ‫الية قائلً‪:‬‬ ‫قال ابن عباس‪(( :‬إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم‬ ‫خيارهم‪ ،‬وإذا سخط الله عن قوم ولى أمرهم شرارهم))‪.‬‬ ‫وقال ابن زيد‪(( :‬نُسلّط بعض الظلمة على بعض فيهلكه‬ ‫ويذله‪ ،‬وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط الله‬ ‫عليه ظالماً آخــر‪ ،‬ويدخل في اليـة جميع من يظلم نفسه أو‬ ‫يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق‬ ‫وغيرهم))(‪ )71‬انتهى‪.‬‬ ‫قال ابن أبي العز الحنفي‪:‬‬ ‫‪71‬‬

‫((تفسير القرطبي)) (‪.)7/85‬‬

‫‪65‬‬

‫َ‬ ‫((فإذا أراد الرعية أن يتخل ّصوا من ظلم المير فليتركوا‬ ‫الظلم))(‪.)72‬‬ ‫وقال الشيخ اللباني رحمه الله‪:‬‬ ‫((وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين‬ ‫هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا‪ ،‬وهو أن يتوب المسلمون إلى‬ ‫ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم‬ ‫الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪ِ :‬إنّ ال ّلهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُواْ مَا ِبأَْنفُسِ ِهمْ‪‬‬ ‫[الرعد‪ ،]11:‬وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين(‪ )73‬بقوله‪:‬‬ ‫((أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم))‪ .‬وليس‬ ‫طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على‬ ‫الحكام‪ .‬بواسطة النقلبات العسكرية(‪ )74‬فإنها مع كونها من بدع‬ ‫العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر‬ ‫بتغيير ما بالنفس وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس‬ ‫البناء عليها‪ :‬ولينصرنّ الُ مَن يَنصُر ‪‬هُ [الحج‪ ،)75())]40:‬انتهى‪.‬‬ ‫وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة‬ ‫إلى الملك‪ ،‬قال ابن تيمية‪(( :‬وقد ذكرت في غير هذا الموضع‪،‬‬ ‫ملوك ونوابهم من الولة‪ ،‬والقضاة‬ ‫أن مصير المر إلى ال ُ‬ ‫والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪ ،‬بل لنقص في الراعي والرعية‬ ‫و ّ‬ ‫ل عليكم))(‪ ،)76‬وقد قال الله‬ ‫جميعا‪ ،‬فإنه((كما تكونوا ي ُ َ‬ ‫(‪) 77‬‬ ‫تعالى‪  :‬وكذِلكَ نول بعضَ الظاليَ بعضاً ‪[‬الحج‪، ))]40:‬انتهى‪.‬‬

‫‪-2‬قوله تعالى‪ِ  :‬إنّ ال ّلهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا ِبأَنفُسِ ِهمْ وَإِذَا أَرَادَ ال ّلهُ‬ ‫ِب َق ْومٍ سُوءًا فَلَا مَرَدّ َلهُ َومَا لَ ُهمْ ِمنْ دُوِنهِ ِمنْ وَالٍ‪[ ‬الرعد‪.]11:‬‬ ‫‪72‬‬

‫‪73‬‬

‫‪74‬‬

‫‪75‬‬

‫‪76‬‬ ‫‪77‬‬

‫((شرح العقيدة الطحاوية))‪ ،‬ط‪ 1399 ،5 /‬هـ‪( ،‬ص ‪.)430‬‬ ‫قال الشيخ اللباني رحمه الله‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه‬ ‫الله‪.-‬‬ ‫من أمثلة هذه النقلبات‪ ،‬انقلب (ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ 1952‬الشتراكية)‬ ‫في مصر‪ ،‬والثورات الشتراكية الخرى في كل من‪ ،‬سوريا وليبيا‬ ‫واليمن والعراق والصومال والسودان والجزائر وإيران وإندونيسيا‪.‬‬ ‫((العقيدة الطحاوية))‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪( 1978‬ص‬ ‫‪.)47‬‬ ‫ضعفه الشيخ ناصر في ((السلسلة الضعيفة)) (‪( ،)1/490‬رقم ‪.)320‬‬ ‫((مجموع الفتاوى)) (‪.)35/20‬‬

‫‪66‬‬

‫وهذه الية أصرح في الدللة على المراد‪ ،‬وهي عامة‬ ‫تشمل نوعي التغيير سواء من الخير إلى الشر أو العكس‪.‬‬ ‫ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم ـ أي‬ ‫الجماعة ـ وليس في شخص الحاكم دون المحكوم‪ .‬وليس‬ ‫بالضرورة أن يحصل التغيير بتغيير فئة قليلة في المجتمع‪ ،‬إنما‬ ‫المراد أن يكون التغيير غالبا فيه‪ .‬وتجدر الشارة إلي أن الله‬ ‫تعالى قد وعد بالتغيير إلى الخير والتمكين للمؤمنين في الرض‬ ‫بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء‬ ‫الله تعالى‪.‬‬ ‫يقول الطبري في تفسيرها‪(( :‬إن الله ل يغير ما بقوم من‬ ‫عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم‪ ،‬حتى يغيروا ما بأنفسهم‬ ‫من ذلك بظلم بعضهم بعضاً‪ ،‬واعتداء بعضهم على بعض‪ ،‬فتحل‬ ‫بهم حينئذ عقوبته وتغييره))(‪.)78‬‬ ‫وقال القرطبي و ابن كثير بمثله‪.‬‬ ‫ويقول ابن القيم‪:‬‬ ‫((وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته‪ ،‬فإن‬ ‫الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه‪ ،‬ول يغيرها عنه حتى‬ ‫يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه‪ِ):‬إنّ ال ّلهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى‬ ‫ُيغَيّرُوا مَا ِبأَنفُسِ ِهمْ وَِإذَا أَرَادَ ال ّلهُ ِبقَ ْومٍ سُوءًا َفلَا مَرَدّ َلهُ َومَا لَ ُهمْ مِنْ دُوِنهِ ِمنْ وَالٍ‪‬‬ ‫[الرعد‪.)79())]11:‬‬ ‫ويقول محب الدين الخطيب في كلم نفيس‪:‬‬ ‫((وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها‬ ‫أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون‪.‬‬ ‫وهذا خطأ‪ ،‬فللبيئة التأثير في الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم أكثر‬ ‫مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من‬ ‫معاني قول الله عز وجل‪ِ( :‬إنّ ال ّلهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا‬ ‫ِبأَنفُسِ ِهمْ)))(‪ ،)80‬انتهى‪.‬‬

‫‪78‬‬ ‫‪79‬‬ ‫‪80‬‬

‫((تفسير الطبري)) (‪.)13/121‬‬ ‫((بدائع الفوائد)) (‪.)2/432‬‬ ‫في كتاب ((العواصم من القواصم)) (ص ‪.)77‬‬

‫‪67‬‬

‫ثانياً‪ :‬أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى‪،‬‬ ‫وليس الولة فقط‪:‬‬ ‫وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق‬ ‫كثيراً في رسم حدود مسؤولية الحكام‪ ،‬فأناط بهم تغيير كل‬ ‫شيء في المجتمع سواء وقع المر ضمن دائرة مسؤوليته‪ ،‬أم‬ ‫ضمن دوائر أصحاب المسؤوليات الخرى‪ ،‬التي ذكرها الحديث‬ ‫الشريف‪(( :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‪.))...‬‬ ‫واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة‪،‬‬ ‫منها‪:‬‬ ‫صيُ‪[ ‬الحج‪.]48:‬‬ ‫‪•‬وَ َكأَّينْ مِنْ قَ ْرَيةٍ َأمْلَيْتُ لَهَا َوهِيَ ظَاِل َمةٌ ُثمّ أَ َخذْتُهَا وَإِلَيّ اْل َم ِ‬ ‫شأْنَا َب ْع َدهَا َقوْمًا آخَرِينَ‪[ ‬النبياء‪.]11:‬‬ ‫صمْنَا ِمنْ قَرَْيةٍ كَانَتْ ظَاِل َمةً وَأَن َ‬ ‫‪•‬وَ َكمْ َق َ‬ ‫من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء‪ ،‬أن‬ ‫السبب المباشر لوقوع العذاب‪ ،‬وقوع الظلم من أهل القرى‬ ‫عامة حكاماً ومحكومين وليس بذنوب الحكام فقط‪ .‬وأنها سنة‬ ‫الله التي قد خلت في عباده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ  :‬ف َلمْ َيكُ َي ْنفَعُ ُهمْ إِيَانُ ُهمْ‬ ‫َلمّا رََأوْا َبأْسَنَا سُّنةَ ال ّلهِ الّتِي َقدْ خَلَتْ فِي عِبَا ِدهِ وَخَسِرَ هُنَاِلكَ الْكَافِرُونَ‪[ ‬غافر‪.]85:‬‬ ‫قال ابن القيم‪:‬‬ ‫((ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال‬ ‫المم الذين أزال نعمه عنهم‪ ،‬وجد سبب ذلك جميعه إنما هو‬ ‫مخالفة أمره وعصيان رسله‪ ،‬وكذلك من نظر في أحوال أهل‬ ‫عصره وما أزال الله عنهم من نعمه‪ ،‬وجد ذلك كله من سوء‬ ‫عواقب الذنوب‪ ،‬كما قيل‪:‬‬ ‫فإن المعاصي‬ ‫تزيل النعم‬

‫إذا كنت في نعمة‬ ‫فارعها‬

‫فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته‪ ،‬ول‬ ‫حصلت فيها الزيادة بمثل شكره‪ ،‬ول زالت عن العبد بمثل‬ ‫معصيته لربه‪ ،‬فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في‬ ‫الحطب اليابس))(‪ ،)81‬انتهى‪.‬‬ ‫ويقول كذلك‪:‬‬ ‫‪81‬‬

‫((بدائع الفوائد)) (‪.)2/432‬‬

‫‪68‬‬

‫((فما أزيلت نعم الله بغير معصيته‪ ،‬إذا كنت في نعمة‬ ‫فارعها‪ ،‬فإن المعاصي تزيل النعم‪ .‬فآفتك من نفسك‪ ،‬وبلؤك‬ ‫من نفسك‪ ،‬وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك‪ ،‬وبلغت‬ ‫من معاداة نفسك ما ل يبلغ العدو منك‪ .‬كما قيل‪ :‬ما يبلغ‬ ‫العداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه))(‪ ،)82‬انتهى‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬إن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى جميعاً‬ ‫وليس الولة فقط‪.‬‬ ‫واليات في ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫سمَاءِ وَاْلأَرْضِ وَلَ ِكنْ‬ ‫حنَا عَ َليْ ِهمْ َبرَكَاتٍ ِمنْ ال ّ‬ ‫)•وََلوْ َأنّ َأهْلَ اْلقُرَى آمَنُوا وَاّت َقوْا َلفَتَ ْ‬ ‫خذْنَا ُهمْ ِبمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‪[ ‬العراف‪.]96:‬‬ ‫َكذّبُوا َفأَ َ‬ ‫رابعاً‪ :‬شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف‬ ‫(التغيير إلى الخير) متعلقة بالجماعة وليس بالولة‬ ‫فقط‪.‬‬ ‫ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي‪:‬‬

‫خ ِلفَنّهُم فِي اْلأَرْضِ َكمَا‬ ‫ستَ ْ‬ ‫)• َو َعدَ ال ّلهُ اّلذِينَ آمَنُوا مِنْ ُكمْ َو َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَيَ ْ‬ ‫خلَفَ اّلذِينَ ِمنْ َقبْلِ ِهمْ وَلَُيمَكَّننّ َل ُهمْ دِينَ ُهمْ اّلذِي ا ْرَتضَى لَ ُهمْ وَلَيَُبدَّلنّ ُهمْ ِمنْ َب ْعدِ‬ ‫ا ْستَ ْ‬ ‫شرِكُونَ بِي شَ ْيئًا َومَنْ َكفَرَ َب ْعدَ ذَِلكَ َفُأوْلَِئكَ ُهمْ‬ ‫َخوْفِ ِهمْ َأمْنًا َيعُْبدُونَنِي لَا يُ ْ‬ ‫سقُونَ‪[ ‬النور‪.]55:‬‬ ‫اْلفَا ِ‬ ‫تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد الله تعالى‬ ‫لعباده بالستخلف والتمكين في الرض‪ ،‬وهما تحقق اليمان‬ ‫والعمل الصالح‪ ،‬ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء بصيغة‬ ‫الجمع‪ ( :‬آمنوا منكم‪ ،‬ليستخلفنهم )‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد‬ ‫للتأكيد على ما نحن بصدد تقديم البراهين عليه‪ ،‬من أن التغيير‬ ‫يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد‪ ،‬كالحكام على سبيل‬ ‫ط به سلمة اليمان‬ ‫منا ٍ‬ ‫المثال‪ .‬ثم اختُتمت الية بشرط آخر ُ‬ ‫وصحته‪ ،‬وهو عدم الشرك لضمان سلمة توحيد كلمة (ل إله إل‬ ‫شرِكُونَ‬ ‫الله)‪ ،‬ولو كان شيئا ً يسيرا ً كما في قوله تعالى‪َ):‬يعُْبدُونَنِي لَا يُ ْ‬ ‫بِي شَيْئًا‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫((طريق الهجرتين)) (‪ .)111 -1/110‬وانظر‪(( :‬الفوائد)) (‪.)210 ،1/181‬‬

‫‪69‬‬

‫الحاديث النبوية‪:‬‬ ‫•عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي × دخل‬ ‫عليها فزعا يقول‪((:‬ل إله إل الله‪ ،‬ويل للعرب من شر‬ ‫قد اقترب‪ ،‬فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل‬ ‫هذه‪ ،‬وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها‪،‬‬ ‫فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أنهلك وفينا الصالحون؟‬ ‫قال‪ :‬نعم إذا كثر الخبث))(‪.)83‬‬ ‫ودللة الحديث‪ :‬أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث‪ ،‬ول‬ ‫تتحقق كثرة الخبث في المجتمع إل بفساد أكثره‪ ،‬وفساد الحاكم‬ ‫وحده دون المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث‪ ،‬فثبت أن العذاب‬ ‫ينزل بذنوب القوام من أهل القرى رعاة ورعية‪ ،‬وليس بذنوب‬ ‫الحكام فقط‪.‬‬ ‫•وعن أبي أمامة قال‪ :‬قال ×‪(( :‬لتنقضن عرى السلم‬ ‫عروة عروة‪ ،‬فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي‬ ‫تليها‪ ،‬فأولهن نقضا ً الحكم‪ ،‬وآخرهن الصلة))(‪.)84‬‬ ‫ودللة الحديث‪ :‬أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في‬ ‫التطبيق‪ ،‬ل بد أن يسبقها إعادة تطبيق العرى الخرى بدءا من‬ ‫الصلة وهكذا‪ ،‬فإن القاعدة العامة تقول‪( :‬أول قطعة تفكك‪،‬‬ ‫آخر قطعة تركب)‪.‬‬ ‫•عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‪ :‬قال رسول الله‬ ‫×‪(( :‬أل كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‪،‬‬ ‫فالمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن‬ ‫رعيته‪ ،‬والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول‬ ‫عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية على بيت زوجها وولده‬ ‫وهي مسئولة عنهم‪ ،‬وعبد الرجل راع على مال‬ ‫سيده وهو مسؤول عنه‪ ،‬أل فكلكم راع وكلكم‬ ‫مسؤول عن رعيته)) (‪.)85‬‬ ‫قال ابن حجر‪:‬‬

‫‪83‬‬

‫‪84‬‬

‫‪85‬‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫(صحيح)‪ ،‬رواه ابن حبان في ((صحيحه))‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في‬ ‫((الترغيب والترهيب))‪.‬‬ ‫متفق عليه‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫((قال الخطابي‪ :‬اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر‬ ‫في التسمية‪ ،‬أي في الوصف‪ ،‬بالراعي‪ ،‬ومعانيهم مختلفة‪،‬‬ ‫فرعاية المام العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل‬ ‫في الحكم‪ ،‬ورعاية الرجل أهله‪ ،‬سياسته لمرهم وإيصالهم‬ ‫حقوقهم‪ ،‬ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والولد والخدم‬ ‫والنصيحة للزوج في كل ذلك‪ ،‬ورعاية الخادم حفظ ما تحت‬ ‫يده‪ ،‬والقيام بما يجب عليه من خدمته))(‪ ،)86‬انتهى‪.‬‬ ‫وقال النووي‪:‬‬ ‫((قال العلماء‪ :‬الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلح‬ ‫ما قام عليه‪ ،‬وما هو تحت نظره‪ .‬ففيه أن كل من كان تحت‬ ‫نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه‬ ‫ودنياه ومتعلقاته))(‪.)87‬‬ ‫وقال القرطبي في شرح قوله تعالى‪ِ :‬إ ّن ال ّلهَ يَ ْأ ُم ُركُمْ أَن تُؤدّواْ‬ ‫ا َلمَانَاتِ إِلَى أه ِلهَا‪[ ‬النساء‪.]58:‬‬ ‫((فجعل في هذه الحاديث الصحيحة كل هؤلء رعاة‬ ‫وحكاما على مراتبهم))(‪ ،)88‬انتهى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قلت‪ :‬وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول‬ ‫تفريط‪ .‬وهذا المر يعكس عظمة السلم العظيم حيث لم‬ ‫مناطا ً بفرد‪ ،‬أو بفئة من الناس أبداً‪ ،‬فهو دين‬ ‫يجعل قيام الدين ُ‬ ‫الجماعة‪.‬‬ ‫•عن أبي أيوب قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪(( :‬ما‬ ‫بعث الله من نبي ول كان بعده من خليفة إل له‬ ‫بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن‬ ‫المنكر‪ ،‬وبطانة ل تألوه خبالً‪ ،‬فمن وقي شرها‬ ‫فقد وقي))(‪.)89‬‬ ‫قال ابن حجر في الشرح‪:‬‬ ‫‪86‬‬ ‫‪87‬‬ ‫‪88‬‬ ‫‪89‬‬

‫((فتح الباري)) (‪.)13/113‬‬ ‫((شرح النووي على صحيح مسلم)) (‪.)12/213‬‬ ‫((تفسير القرطبي)) (‪.)5/258‬‬ ‫رواه البخاري رقم (‪ ،)6237‬ورقم (‪ ،)7198‬وفي رواية صفوان بن‬ ‫سليم يقول‪(( :‬ما بعث الله من نبي ول بعده من خليفة))‪.‬‬

‫‪71‬‬

‫((ونقل ابن التين عن أشهب‪ :‬إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ‬ ‫من يستكشف له أحوال الناس في السر‪ ،‬وليكن ثقة مأموناً‬ ‫فطنا ً عاقلً ‪ ،‬لن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من‬ ‫قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به‪ ،‬فيجب‬ ‫عليه أن يتثبت في مثل ذلك))(‪ ،)90‬انتهى‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع‬ ‫اللهي‪ ،‬وقد أنيط هذا المر بالحاكم‪ ،‬وأمر الحاكم إنما يكون‬ ‫بأهل مشورته وبطانته الخيرة‪ ،‬فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا من‬ ‫أنفسهم بطانة لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس‬ ‫والجن‪ ،‬ول أن يتعففوا عن أداء هذا الواجب‪ ،‬وخاصة في الزمنة‬ ‫التي يقل فيها الكفاء من المناء الصالحين‪ ،‬فإنهم لو فعلوا ذلك‬ ‫وتخلوا عن مواقع المسؤولية‪ ،‬فقد خدموا أعداء المة وساهموا‬ ‫في تسلط بطانة السوء على رقابهم‪ ،‬في حين أنهم مأمورون‬ ‫بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪):‬يَاأَيّهَا اّلذِينَ‬

‫خذُوا بِطَاَنةً ِمنْ دُونِ ُكمْ لَا َيأْلُونَ ُكمْ خَبَالًا وَدّوا مَا عَنِّتمْ َقدْ َب َدتْ الَْب ْغضَاءُ ِمنْ‬ ‫آمَنُوا لَا تَتّ ِ‬ ‫صدُو ُر ُهمْ َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا لَ ُكمْ الْآيَاتِ إِنْ كُ ْنُتمْ َت ْعقِلُونَ * َهأَنُْتمْ ُأوْلَاءِ‬ ‫خفِي ُ‬ ‫أَ ْفوَاهِ ِهمْ وَمَا ُت ْ‬ ‫ُتحِبّونَ ُهمْ وَلَا ُيحِبّونَ ُكمْ وَُت ْؤمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُ ّلهِ وَإِذَا َلقُو ُكمْ قَالُوا آمَنّا وَإِذَا َخ َلوْا َعضّوا‬ ‫َعلَيْ ُكمْ اْلأَنَامِلَ ِمنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا ِبغَيْظِ ُكمْ إِنّ ال ّلهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ‬ ‫‪.]119-118‬‬

‫صدُورِ‪[ ‬آل عمران‪:‬‬ ‫ال ّ‬

‫يقول ابن كثير في تفسيرها‪:‬‬ ‫((يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ‬ ‫المنافقين بطانة‪ :‬أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه‬ ‫لعدائهم‪ .‬والمنافقون بجهدهم وطاقتهم ل يألون المؤمنين‬ ‫خبالً‪ ،‬أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن‪ ،‬وبما‬ ‫يستطيعون من المكر والخديعة‪ ،‬ويودّون ما يعنت المؤمنين‪،‬‬ ‫ويحرجهم ويشق عليهم ‪ ....‬ثم قال تعالى‪َ ( :‬قدْ َب َدتْ الَْب ْغضَاءُ ِمنْ‬ ‫صدُو ُر ُهمْ َأكْبَرُ)‪ ،‬أي قد لح على صفحات وجوههم‬ ‫خفِي ُ‬ ‫أَ ْفوَاهِ ِهمْ وَمَا ُت ْ‬ ‫وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في‬ ‫صدورهم من البغضاء للسلم وأهله ما ل يخفى مثله على لبيب‬ ‫عاقل))‪.‬انتهى‪.‬‬ ‫‪90‬‬

‫((فتح الباري)) (‪.)13/190‬‬

‫‪72‬‬

‫قلت‪ :‬هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم‬ ‫وأهله في هذا الزمان‪ ،‬وعلى رأسهم كثير من المنتمين‬ ‫للحركات القومية والشتراكية من بعثية وناصرية وغيرهم‪ ،‬إذ‬ ‫ينطلقون بقوة إلى مهادنة ومداهنة السلميين باعتبارهم القوة‬ ‫الكامنة (الرعاع) التي هم بحاجة ماسة لها مرحليا ً للسيطرة‬ ‫على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم السلمي‬ ‫فتنبه‪.‬‬ ‫فهم يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف‪،‬‬ ‫مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم مستغلين هامش‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬وما تخفي صدورهم أكبر‪ ،‬وهو تغيير النظام بآخر‬ ‫اشتراكي أو شيعي رافضي‪.‬‬ ‫إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة‬ ‫للحاكم دون غيرها ما استطاعت إلى ذلك سبيلً‪ ،‬حتى يستقيم‬ ‫أمره ويسعد الناس بعدله‪ .‬وعليه يلزمها قبل ذلك‪ ،‬السعي إلى‬ ‫إيجاد البطانة الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب‪ ،‬وذلك‬ ‫بتربية الجيال الناشئة‪ ،‬ول يكون ذلك بدون إيجاد السرة‬ ‫المسلمة ول الفرد المسلم‪.‬‬ ‫•وعن النعمان بن بشير قال‪ :‬قال رسول الله ×‪.. (( :‬أل‬ ‫وإن في الجسد مضغة‪ ،‬إذا صلحت صلح الجسد‬ ‫كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي‬ ‫القلب))(‪.)91‬‬ ‫نلحظ من هذا الحديث الشريف‪ ،‬أن صلح الفرد أو‬ ‫فساده مرتبط بصلح قلبه أو فساده وليس مرتبطاً بصلح‬ ‫الرعاة أو فسادهم‪ .‬فكم من قلوب صلحت مع فساد رعاتها؟‬ ‫وكم من قلوب فسدت مع صلح رعاتها؟‬ ‫فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح أو‬ ‫يفسد‪ .‬فلو كان مجرد وصول الرجل الصالح إلى الحكم في‬ ‫مجتمع فاسد‪ ،‬يغير واقع المجتمع بقرار ملزم منه‪ ,‬لتخذ من‬ ‫ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة‪ ,‬فعدوله عن ذلك‬ ‫وتركه للعروض المغرية التي تقدمت له بها قريش‪ ،‬مقابل ترك‬ ‫الدعوة‪ ،‬دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة الله تعالى في‬ ‫تغيير المجتمعات‪ .‬فترك نقل السنة‪ ،‬نقل للترك‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫متفق عليه‪.‬‬

‫‪73‬‬

‫•وقال رسول الله ×‪(( :‬من ولي منكم عملً فأراد الله‬ ‫به خيراً جعل له وزيراً صالحاً‪ ،‬إن نسي ذكره وإن‬ ‫ذكر أعانه))(‪.)92‬‬ ‫قلت‪ :‬وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق‪ .‬إذ‬ ‫كيف يتحقق مراد الله تعالى بالخير لولي المر دون وجود‬ ‫الوزير الصالح ؟ وكيف يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع‬ ‫الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون وجود السرة المسلمة والفرد‬ ‫المسلم؟‬ ‫من القصص القرآني‪:‬‬ ‫•قصة موسى‬

‫مع فرعون‪:‬‬

‫‪‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِهِ اذْكُرُوا ِن ْعمَةَ ال ّلهِ َعلَيْ ُكمْ ِإذْ َأنَا ُكمْ ِم ْن آلِ فِ ْر َعوْنَ‬ ‫َيسُومُونَ ُكمْ سُوءَ اْل َعذَابِ وَُيذَبّحُونَ أَبْنَاءَ ُكمْ وَيَسَْتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ وَفِي ذَلِ ُكمْ بَلَاءٌ ِمنْ‬ ‫كمْ عَظِيمٌ‪[ ‬ابراهيم‪.]6:‬‬ ‫َربّ ُ‬ ‫يقول ابن كثير‪:‬‬ ‫((إن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته‪ ...‬مضمونها‬ ‫أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل‪ .‬ويقال‬ ‫ماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل‬ ‫بعد تحدث ُ‬ ‫س ّ‬ ‫منهم يكون لهم به دولة ورفعة‪ ،‬وهكذا جاء حديث الفتن كما‬ ‫سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك‬ ‫أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني‬ ‫إسرائيل وأن تترك البنات))‪ ،‬انتهى‪.‬‬ ‫ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا ـ باعتباره أمرا‬ ‫إلهيا ً عند قومه ـ بقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل خشية‬ ‫أن يزول ملكه على يد رجل منهم‪ ،‬نجد أنه لم يطبق هذا المر‬ ‫على المعني بالقضية لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل‬ ‫في موسى الرضيع حين رأته‪ ،‬فقالت كلمتها‪ :‬ل تقتلوه‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫تخريج السيوطي ‪( :‬ن) عن عائشة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪( :‬صحيح)‬ ‫انظر حديث رقم‪ )6596( :‬في ((صحيح الجامع))‪ ‌.‬و((سنن النسائي)) (‬ ‫‪ ،)7/159‬بسند آخر وهو صحيح‪.‬وفي ((السلسة الصحيحة)) (‪.)1/881‬‬

‫‪74‬‬

‫خذَهُ وََلدًا‬ ‫)وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِ ْر َعوْنَ ُقرّةُ َع ْينٍ لِي وََلكَ لَا َتقْتُلُوهُ َعسَى َأنْ يَنفَعَنَا َأوْ نَتّ ِ‬ ‫شعُرُونَ‪[ ‬القصص‪ .]9:‬مما يدل على أن حكم الحاكم قد‬ ‫َو ُهمْ لَا يَ ْ‬ ‫يتخلف أحيانا بأتفه السباب ممن حوله‪ ،‬وهذا يؤكد على أثر‬ ‫البطانة في حكمه‪ .‬فثبتت ضرورة إيجاد البطانة الصالحة أول‬ ‫كي تعين الحاكم على الخير والستقامة‪.‬‬ ‫لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟‬ ‫إنها‪ ،‬طبعاً إفراز من المجتمع‪ ،‬فإن كان المجتمع صالحاً‬ ‫تكون البطانة صالحة‪ ،‬وإن كان المجتمع سيئا ً ـ كما هو واقعنا ـ‬ ‫تكون البطانة سيئة‪.‬‬ ‫فرضية‪:‬‬ ‫فاسقا‪ ،‬استيقظ يوما ما ليجد‬ ‫ً‬ ‫تقول‪ :‬لو أن مجتمعاً‬ ‫حاكمه‪ ،‬بقدرة الله تعالى‪ ،‬قد صلح أو آمن‪ ،‬فهل بالضرورة أن‬ ‫يتوب المجتمع من ساعته ويرجع إلى الله تعالى؟‬ ‫مما مضى ـ أخي القارىء ـ يتضح لنا بطلن الزعم بأن‬ ‫صلح المجتمع وفساده مناط بصلح الحاكم وفساده‪ ،‬فقد تاب‬ ‫النجاشي وآمن ولم يقدر أن يظهر إيمانه فضل ً عن أمر رعيته‬ ‫به‪ .‬وهرقل عظيم الروم لم يقدر على جبر حاشيته على اتباع‬ ‫فهذه النظرة الصنمية للحاكم‪ ،‬وإضفاء صفة اللهية‬ ‫النبي ×‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬كأنه يقول للشيء‪ :‬كن فيكون‪ ،‬نظرة خبيثة خبث الشرك‬ ‫نفسه‪ ،‬يقعد الناس بسببها عن القيام بواجباتهم من الأمر‬ ‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ويترك بذلك المجتمع للتراجع‬ ‫فاجرا بمعظمه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا‬ ‫ً‬ ‫إلى الخلف يوماً بعد يوم‪ ،‬حتى يغدو‬ ‫وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول (شرك‬ ‫القصور)‪ ،‬مع أنهم أقرب إلى التورط في ذلك‪ ،‬ذلك بأنهم‬ ‫أعطوْا الحاكم المنشود هالة العصمة التي ل تكون لغير نبي‪،‬‬ ‫ولربطهم النجاة في الدارين به‪ ،‬مع قيام الدلة الواقعية على‬ ‫خلف ذلك‪ ،‬عصمنا الله وإياهم من اتباع الهوى‪.‬‬ ‫وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في‬ ‫انحراف في الطرف الخر‪ ،‬وحتى ل نغفل حدود دوائر‬ ‫المسؤولية فيختلط بعضها ببعض فيتقاعس الحاكم عن‬ ‫الواجبات المناطة به ويلقي بالمسؤولية على عاتق الرعية‪،‬‬ ‫وكذلك حتى ل تلقي الرعية بمسؤولياتها وواجباتها على عاتق‬

‫‪75‬‬

‫الحاكم‪ ،‬بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها‪ ،‬ل بد لك أخي‬ ‫القارىء أن تستذكر ما مر معك قريباً بهذا الخصوص‪.‬‬ ‫وبالضافة إلى ذلك أقول‪ :‬إن الحاكم وحاشيته الصالحة‪،‬‬ ‫تكون سيطرتهم على الساحة المكشوفة بقدر قوة أفراد‬ ‫الحاشية‪ ،‬والجماعات التي خلف هذه الحاشية تدعمها‪ ،‬فكلما‬ ‫ضعف إيمانهم وخارت عزائمهم‪ ،‬ونخرت فيهم أسباب الفساد‬ ‫الخلقية المنافية للعدل والصدق والمانة من اعتبار‬ ‫المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية‪ ،‬أدى ذلك إلى ضعف‬ ‫واضح في الجهاز الحكومي‪ ،‬وبالتالي في تطبيق الحكام‬ ‫والقوانين مما ينعكس سلباً على سمعة الدولة والنظام الحاكم‪.‬‬ ‫فيجد كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها‪،‬‬ ‫مما يعين المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق‬ ‫أطماعهم وإسقاط أنظمتنا السلمية المعارضة والمعادية‬ ‫للشتراكية‪ .‬وبهذا المعنى يكون البعض منا قد سعى مع‬ ‫حسن النية في جلب المفاسد أو تكثيرها وهو ل‬ ‫يعلم‪.‬‬ ‫وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية‪ ،‬كانت فاعليتهم‬ ‫في تطبيق الحكام ومنع ظهور المنكرات أعظم‪ ،‬فالقضية إذن‬ ‫نسبية‪ .‬ومن جانب آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة‬ ‫المستورة‪ ،‬فكيف للحاكم وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟‬

‫وأضرب مثل لتوضيح المر‪ ،‬قال تعالى‪ :‬وَلَ َتقْرَبُواْ الزّنَى إِّنهُ‬ ‫شةً وَسَاء سَبِيلً‪[ ‬السراء‪.]32:‬‬ ‫كَانَ فَا ِح َ‬ ‫ولمنع وقوع الزنا في المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته‬ ‫في كل مكان‪ .‬فعلى الساحة المكشوفة‪ ,‬يستطيع الحاكم‬ ‫ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا المباشر‪ ,‬وكل ما يؤدي إلى‬ ‫وقوع الزنا‪ ,‬مثل حفلت الرقص العامة‪ ,‬وبرك السباحة العامة‪,‬‬ ‫ومخالفات الشواطئ المختلطة‪ ,‬ورياضة النساء التي تتكشف‬ ‫ن‪ ،‬من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص في‬ ‫فيها عوراته ّ‬ ‫الماء‪ ،‬ومسابقات ملكات الجمال وغيرها الكثير‪.‬‬ ‫كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع‬ ‫مة‬ ‫مظاهر الختلط المحرم في الساحات والماكن العا ّ‬ ‫مة‪ ,‬وكذلك أن يحد ّ من مظاهر‬ ‫والجامعات والمواصلت العا ّ‬

‫‪76‬‬

‫السفور والعريّ المنتشر في الشوارع‪ ,‬والسينما والصور‬ ‫الفاضحة‪ ,‬وأن يراقب ما يجوز وما ل يجوز نشره من مطبوعات‬ ‫ومنشورات وصحف ومجلت‪ ،‬وما شاكل ذلك من أمور‪.‬‬ ‫أما على الساحة المستورة فإن دور الحاكم وبطانته‬ ‫الصالحة ينتهي ليبدأ دور أصحاب المسؤوليات الخرى من آباء‬ ‫وأمهات ومربين وكل من له علقة بالمنكر‪ ،‬أي‪ :‬إن الحاكم ل‬ ‫يستطيع منع الزنا في البيوت المستورة‪ ,‬ول الختلط المحرم‬ ‫ول المنكرات في السر‪ .‬كما أنه ل يفعل شيئا ً لما بجري من‬ ‫مخالفات ومحرمات داخل المؤسسات الخاصة‪ ،‬والمكاتب‪ ،‬ول‬ ‫داخل سيارات الجرة الخاصة والعامة‪ ،‬ول التعري بين القارب‬ ‫ومع الصحاب‪ ,‬وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس‪،‬‬ ‫ول يستطيع كذلك أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير‬ ‫الملتزمة الفضائية وغير الفضائية على شاشات التلفاز‬ ‫والنترنت‪ ،‬ول ما يجري تبادله كذلك من مخالفات وصور‬ ‫فاضحة بين الشباب وال ّ‬ ‫شابّات في أجهزة الهواتف النقالة‪ .‬ول‬ ‫يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيه النساء‬ ‫الكاسيات العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيداً‬ ‫عن أعين السلطة‪.‬‬ ‫وهنا تجدر الملحظة بأنه‪ ،‬أينما غاب الرقيب انتهكت‬ ‫المحرمات‪ ،‬حتى لو فرضت القوانين الرادعة لذلك‪ ،‬خصوصاً‬ ‫في مجتمع منهارٍ أخلقيا ً وسلوكياً‪ ،‬لذا أكد السلم على مراقبة‬ ‫الله تعالى في السر والعلن‪.‬‬ ‫فكلما ضعف الجهاز التنفيذي(‪ )93‬عند الحاكم ومراقبته لله‬ ‫تعالى انتشرت مظاهر المحرمات لضعف المتابعة‪ ،‬بل يؤدي‬ ‫إلى وقوع هذا الجهاز فيما حرم الله أو خالف القانون‪.‬‬ ‫وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في المكاتب‬ ‫مة‪ ,‬ويقضي بدفع غرامة ماليّة على كل مخالف‪،‬‬ ‫والماكن العا ّ‬ ‫ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة‪ ,‬إل أننا لم نر لهذا‬ ‫القانون أثراً‪ ,‬لنتهاكه من قبل الكبير والصغير‪ ,‬من داخل الجهاز‬ ‫التنفيذي أو من خارجه‪ ,‬فغدا حبرا ً على ورق‪ ،‬وذلك بسبب‬ ‫غياب البطانة الصالحة‪ ،‬بل غياب البطانة الصالحة المؤثرة‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي في الدولة يتشكلن من أشخاص‬ ‫مواطنين في الصل‪ ،‬قبل أن يكونوا حكوميين‪.‬‬

‫‪77‬‬

‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية‬ ‫ورفع ظلمهم لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫درجات التغيير ومراتبه‬ ‫لما خلق الله تعالى الخلق ابتلهم أيهم أحسن عملً‪ ,‬فل‬ ‫زالوا على التوحيد حتى اجتالتهم الشياطين‪ ،‬فأرسل الله لهم‬ ‫النبيين تترى يدعونهم إلى السلم ـ دين النبياء جميعاً ـ من‬ ‫جديد‪ ,‬وهو دين الرحمة‪ ,‬يرحم الله به عباده الصالحين‪ ,‬فكانت‬ ‫هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها‪ ,‬وهي أسمى مقصد من‬ ‫مقاصد الديانات السماوية جميعها‪.‬‬ ‫لذا حرص السلم باعتباره آخر الشرائع وناسخا ً لها كل‬ ‫الحرص على إخراج العباد من الظلمات إلى النور‪ ,‬وأوجب‬ ‫لأجل ذلك المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬وذلك لتحقيق‬ ‫أمرين اثنين‪:‬‬ ‫الول‪ :‬زيادة الخير في المم من خلل المر بالمعروف‪،‬‬ ‫وأعظمه تحقق التوحيد وأركان السلم‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬التقليل من المنكرات من خلل النهي عن‬ ‫المنكر‪ ,‬وأكبره الشرك بالله والكبائر‪.‬‬ ‫وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم‪,‬‬ ‫وأهل الشر كذلك‪ ،‬فإن المطلوب‪:‬‬ ‫‪-1‬رفع نسبة الخير في المجتمع‪ ,‬وذلك بزيادة الخير من درجة‬ ‫إلى أخرى ـ أي من درجة الكمال إلى الكمل ـ‪.‬‬ ‫‪-2‬التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السـوأ‪،‬‬ ‫إلى الدرجة القــل ســوءاً‪.‬‬ ‫صل أهل الفقه قواعد أصوليّة‪,‬‬ ‫وتحقيقا ً للمعاني السابقة أ ّ‬ ‫منها قاعدة((ترجيح خير الخيرين‪ ،‬ودفع شر الشرين))‪ ،‬وهذا باب‬ ‫عظيم من أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬إذ بالعمل‬ ‫به تتنّزل رحمة الله تعالى على العباد وينجون من عذابه‪.‬‬ ‫يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى‪:‬‬ ‫((فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول دفع أخف‬

‫‪78‬‬

‫الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة جاءت‬ ‫بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب‬ ‫المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا‬ ‫جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً ))(‪.)94‬‬ ‫ويقول‪:‬‬ ‫((إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها‬ ‫وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت‬ ‫أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما))(‪.)95‬‬ ‫ولتوضيح المر‪ ,‬علينا أن نتصوّر الرسم التالي‪:‬‬

‫‪94‬‬ ‫‪95‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬ ‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬

‫‪79‬‬

‫شكل(‪)1‬‬ ‫اتجاه‬ ‫ايجابي‬ ‫(خير‬

‫اتجاه‬ ‫سلبي‬ ‫(شر‬

‫موقف‬ ‫محايد‬

‫عم عمل عمل بذل‬ ‫م‬ ‫بذل عمل عمل عمل‬ ‫الما الركا اللس القل وقف ل اللس الركا المال‬ ‫والنف‬ ‫ن‬ ‫ب محايد القل ان‬ ‫ان‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫موقف متعاطف مع‬ ‫السل‬ ‫موقف متآمر ضد السلم‬ ‫السلم تدرج في الولء‬ ‫م‬ ‫تدرج في البراء‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫س‬ ‫س‬ ‫س‬ ‫وج‬ ‫وج وجب وج‬ ‫الب‬ ‫صفر الب الب الب‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬

‫اتجاه‬ ‫إيجابي‬ ‫قاعدة‪ :‬تحصيل‬ ‫المصالح وتكميلها‬ ‫(ترجيح خير الخيرين)‬

‫‪1‬‬

‫اتجاه‬ ‫سلبي‬

‫‪2‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫موقف‬ ‫محايد‬

‫موقف محايد‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫قاعدة‪ :‬تعطيل‬ ‫المفاسد وتقليلها‬ ‫(دفع شر الشرين)‬

‫يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو‬ ‫الدولة من السلم كما يلي‪:‬‬ ‫أ‪ -‬نقطة المنتصف ( الصفر)‪ ,‬وتمثل موقف الحياد من السلم‪,‬‬ ‫غير مؤيد وغير معارض‪.‬‬ ‫ب‪ -‬التجاه إلى اليمين‪ ,‬ويمثل أربع درجات‪:‬‬ ‫‪-1‬عمل القلب باليمان‪ ،‬ويشمل (قول القلب‪ ،‬أي تصديقه‪،‬‬ ‫وعمل القلب‪ ،‬أي خضوعه وانقياده) وهو أصل اليمان‪ ،‬أو‬ ‫حدّه الدنى(‪.)96‬‬ ‫‪96‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)7/637،263،644،377،639‬‬

‫‪80‬‬

‫‪-2‬عمل باللسان‪ :‬وتشمل الدرجة السابقة‪ ,‬ويضاف إليها‬ ‫التعبير عن التعاطف مع السلم باللسان‪ ,‬كأن يقول‪:‬‬ ‫السلم دين الحق وهكذا‪.‬‬ ‫‪-3‬عمل بالركان‪ :‬وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان‬ ‫السلم في النفس (صلة‪ ,‬صوم‪)...‬‬ ‫‪-4‬بذل النفس والمال‪ ,‬وتشمل الدرجات السابقة جميعاً‪،‬‬ ‫ويضاف إليها بذل المال والنفس دفاعا ً عن السلم والدعوة‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫ج‪ -‬التجاه إلى اليسار‪ ,‬ويمثل بأربع درجات‪:‬‬ ‫‪-1‬عمل القلب بالكفر‪ ,‬ويشمل ( قول القلب‪ ،‬أي تكذيبه‪،‬‬ ‫وعمل القلب‪ ،‬أي عدم الخضوع والنقياد) وهو حد الكفر‬ ‫الدنى‪.‬‬ ‫‪-2‬عمل باللسان‪ ,‬ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها‬ ‫استعمال اللسان في الصد عن السلم‪ ,‬كأن يقول‪ :‬السلم‬ ‫دين رجعي وباطل‪ ،‬أو يسخر من العلماء‪.‬‬ ‫‪-3‬عمل بالركان‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة‪ ،‬ويضاف إليها ترك‬ ‫الواجبات‪ ،‬وفعل المحرمات‪.‬‬ ‫‪ -4‬بذل النفس والمال‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة ويضاف‬ ‫إليها بذل المال والنفس في محاربة السلم‪.‬‬ ‫درجات المر بالمعروف‪:‬‬ ‫درجات اليمان‪ ,‬ويمثلها الدرجات من موجب (‪ )1+‬إلى‬ ‫موجب(‪ ,)4+‬أدناها الدرجة الولى (عمل القلب) وأعلها الرابعة‬ ‫بذل النفس والمال‪ ,‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصاً‬ ‫من الدرجة الولى(عمل القلب‪ :‬أي تصديقه وخضوعه)‪ ،‬إلى‬ ‫الدرجة الثانية (عمل اللسان‪ :‬أي التعاطف مع السلم بالقول)‬ ‫لكانت نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله إلى الدرجتين‬ ‫الثالثة أو الرابعة؟‪.‬‬ ‫وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا ً من الدرجة الثالثة إلى‬ ‫الرابعة أو من الثانية إلى الثالثة‪ ,‬إذن فكل نقلة باتجاه اليمين‬ ‫تعتبر نقلة إيجابية‪ ،‬وبهذا العمل نكون قد طبقنا قاعدة تحصيل‬

‫‪81‬‬

‫المصالح وتكميلها‪ ،‬أو ترجيح خير الخيرين‪ .‬ونكون قد والينا‬ ‫المؤمنين بقدر درجة إيمانهم وبذلهم للسلم‪.‬‬ ‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات (‪ )1+‬و(‪،)4+‬‬ ‫ل يلحظه البعض من الناس‪ ،‬وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها‬ ‫مباشرة‪ ،‬مع انه باب من أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يزداد المعروف‬ ‫في الرض تدريجياً‪ ،‬وهذا مقصود لذاته‪.‬‬ ‫درجات النهي عن المنكر‪:‬‬ ‫درجات الكفر‪ ,‬ويمثلها الدرجات من (‪ )1-‬إلى (‪ )4-‬أدناها‬ ‫الدرجة (‪ :)1-‬درجة (كفر القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع‬ ‫والنقياد) وأعلها (‪( :)4-‬بذل النفس والمال في الصد عن‬ ‫السلم)‪ .‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا ً من الدرجة‬ ‫(‪ )4-‬درجة‪ :‬بذل المال والنفس في محاربة السلم‪ ،‬إلى‬ ‫الدرجــة (‪ :)3-‬التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات‪ ,‬لكانت نقلة‬ ‫في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله من الدرجة (‪ )4-‬الـى (‪:)1-‬‬ ‫درجة (كفر القلب)؟‪.‬‬ ‫إذا ً بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج‬ ‫الشخص من الكفر إلى اليمان‪ ،‬نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل‬ ‫المفاسد وتقليلها‪ ،‬أو دفع شر الشرين‪ .‬وعادينا الكافرين بقدر‬ ‫درجة كفرهم وصدهم عن دين السلم‪ ،‬فكلما ازدادوا بموقفهم‬ ‫صدّوا َعنْ سَبِيلِ ال ّلهِ زِ ْدنَا ُهمْ‬ ‫سوءاً‪ ،‬زيد عذابهم‪ .‬قال تعالى‪):‬اّلذِينَ َكفَرُوا َو َ‬ ‫سدُونَ‪[ ‬النحل‪ .]88:‬ومن المعلوم أن‬ ‫َعذَابًا َفوْقَ ال َعذَابِ ِبمَا كَانُوا ُيفْ ِ‬ ‫النتقال ما بين الدرجـات (‪ )4-‬و(‪ ،)1-‬ل يلحظه كثير من الناس‪،‬‬ ‫وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة‪ ،‬مع أنه باب من‬ ‫أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به ينحسر الفساد في الرض تدريجيا‪ ،،‬وهذا‬ ‫مقصود لذاته كذلك‪ .‬فلو أن مسلما‪ ، ،‬قام بعمل كانت نتيجته‬ ‫بقاء الكفر‪ ،‬ولكن انتقل موقف أهله من (‪ )1-‬الى (‪ ،)2-‬أو من‬ ‫(‪ )3-‬الــى (‪ ،)4-‬كان عمله محرماً‪ .‬فكيف به لو قام بعمل أخرج‬ ‫به البعض من دائرة السلم إلى الكفر‪ ،‬وهو يظن نفسه‬ ‫محسناً؟‬ ‫ومما يجدر التنبيه إليه‪ :‬أن البعض ممن قل علمهم بهذا‪،‬‬ ‫قد يصنف العلماء العاملين بهذا المنهج الصولي بالعمالة‪ ،‬إذا‬

‫‪82‬‬

‫أفتوا بدفع الشر الكبر بالشر الصغر‪ ،‬إذا لم يندفعا جميعاً‪،‬‬ ‫ومثاله‪ ،‬انظر الحاشية(‪.)97‬‬ ‫ولتوضيح المر أكثر نضرب مثلً بما حدث في صلح‬ ‫الحديبية‪ ،‬ولماذا سمي بالفتح المبين ؟‬ ‫لقد بدأت دعوة رسول الله × بمفرده‪ ،‬ومع الزمن‬ ‫والصبر على أذى المشركين‪ ،‬بدأ الناس بالنتقال من درجات‬ ‫الكفر{(‪ })1-(-)4-‬إلى درجات اليمان {(‪ ،})4+(-)1+‬ولقد‬ ‫كانوا متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه‪،‬‬ ‫فلم يكونوا كلهم في الدرجة (‪ )4-‬المعادية للسلم بالمال‬ ‫والنفس‪ ،‬كموقف أبي جهل لعنه الله‪ ،‬ومع استمرار الدعوة أخذ‬ ‫المشركون بالنتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه السلم‪،‬‬ ‫ومنهم من دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات السلم‬ ‫{(‪+‬موجب ‪+(-)1‬موجب ‪ ،})4‬إل أن الدرجة الرابعة (‪+‬موجب‬ ‫‪ )4‬في العهد المكي‪ ،‬كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط‪،‬‬ ‫ولم يكن قد فرض الجهاد بعد‪.‬‬ ‫وبعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬قويت شوكة المسلمين‪،‬‬ ‫وقاموا بالعديد من الغزوات‪ ،‬وعلى رأسها (بدر الكبرى)‪ .‬وفي‬ ‫السنة السادسة من الهجرة وقّعَ الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫صلح الحديبية مع قريش‪ ،‬وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة‬ ‫المنورة مستغلً فترة وضع القتال لمدة عشر سنين‪ ،‬فازداد عدد‬ ‫المسلمين‪ ،‬فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في‬ ‫تسعة عشر عاماً مضت‪ ،‬وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن‬ ‫الوليد رضي الله عنه‪.‬‬ ‫يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح‪:‬‬ ‫نا ظاهراً‪ ،‬والمراد به‬ ‫((فقوله‪( :‬إنا فَتحنا لك فتحا مُبينا) أي‪ :‬بَيّ ً‬ ‫صلح الحديبية‪ .‬فإنه حصل بسببه خير جزيل‪ ،‬وآمن الناس‬ ‫‪97‬‬

‫دفع الخطر الاشتراكي الكبر‪ ،‬بالخطر الرأسمالي‪ ،‬ومن صور‬ ‫الاشتراكية (النظام اليراني الخميني‪ ،‬والنظام البعثي الشتراكي في‬ ‫العراق وسوريا‪ ،‬ونظام كل من ليبيا‪ ،‬وتونس‪ ،‬والجزائر‪ ،‬والصين‪،‬‬ ‫وكوريا الشمالية‪ ،‬وكوبا‪ ،‬وروسيا التحادية وهكذا‪ .‬ومن صور‬ ‫الرأسمالية‪ :‬دول أوروبا‪ ،‬وأمريكا وأمثالها‪ .‬انظر كتابنا‬ ‫((المنابرالعلمية بين تجاهل الخطر الشتراكي وظاهرة معاداة‬ ‫أمريكا))‪.‬‬

‫‪83‬‬

‫واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم‬ ‫النافع واليمان))‬ ‫ويقول الطبري في تفسيره‪:‬‬ ‫((قوله‪َ ( :‬فجَعلَ مِن دُون ذَلِك فَتحاً قريباً) يعني‪ :‬صلح الحديبية؛‬ ‫وما فتح في السلم فتح كان أعظم منه‪ ،‬إنما كان القتال حيث‬ ‫التقى الناس‪ ،‬فلما كانت الهدنة وضعت الحرب وآمن الناس‬ ‫كلهم بعضهم بعضاً‪ ،‬فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة‪،‬‬ ‫فلم يكلم أحد بالسلم يعقل شيئا إل دخل فيه‪ ،‬فلقد دخل‬ ‫في تينك السنتين في السلم مثل من كان في‬ ‫السلم قبل ذلك وأكثر))‪.‬‬ ‫أقول‪ :‬لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين‬ ‫فقط؟‬ ‫نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما‪ ،‬أن‬ ‫السبب في ذلك‪ ،‬هو توقيع الهدنة ووضع الحرب‪ ،‬لن مناخ‬ ‫الحروب يؤجج النفوس ويشحنها للدفاع عن المعتقدات والرض‬ ‫والعرض‪ ،‬فتأخذ المشركين حمية الجاهلية‪.‬‬ ‫فلو نزل الرسول ×‪ ،‬على رأي عمر بن الخطاب وعامة‬ ‫الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وقاتلوا المشركين حين منعوهم من‬ ‫أداء العمرة‪ ،‬وقامت الحرب‪ ،‬لتراجع كل أؤلئك الذين كانوا قد‬ ‫اقتربوا من السلم عدة درجات عن درجاتهم‪ ،‬فبعضهم كان قد‬ ‫أوشك على الدخول في السلم‪ ،‬فوصل إلى الدرجة (الصفر)‬ ‫درجة الحياد‪ ،‬وبعضهم وصل إلى الدرجة (‪ :)1-‬درجة (كفر‬ ‫القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع والنقياد)‪ ،‬وبعضهم إلى‬ ‫الدرجة (‪ :)2-‬درجة (استعمال اللسان في الصد عن السلم)‪،‬‬ ‫وهكذا‪ .‬وبهذا يتبين لنا أن النصر الحقيقي والفتح المبين‪ ،‬هو فتح‬ ‫القلوب للدخول في السلم‪ ،‬ويكون أحياناً في الموطن الذي‬ ‫يراه الناس‪ ،‬موطن ذل وهزيمة‪ ،‬فمن كان يتصور أن في هاتين‬ ‫السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر من عدد من‬ ‫وجيها آخر‬ ‫ً‬ ‫أسلم منذ تسعة عشر عاما ً مضت؟ فكان ذلك سبباً‬ ‫لفتح مكة‪ .‬ألم يرتجف أبو سفيان من عدد جيش فتح مكة‬ ‫المقدر بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟‬

‫‪84‬‬

‫لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب‬ ‫حسن يقرب المشركين من السلم ولو خطوة‪ ،‬وأن‬ ‫يتجنبوا كل ما يبعدهم عن السلم ولو خطوة‪.‬‬ ‫فهل ما يقوم به بعض الجهلة باسم السلم‬ ‫وتحت يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى‬ ‫حد ذبح البرياء‪ 98‬والتفاخر بذلك ونشره مصوراً في‬ ‫وسائل العلم‪ ،‬يقرب غير المسلمين من السلم‪،‬‬ ‫أم أن هذه العمال ستشكك حديثي العهد بهذا الدين‪،‬‬ ‫فضل عن أن يدخلوا فيه؟‬ ‫ً‬

‫ألم يقل الله تعالى‪ :‬لَا َينْهَاكُمُ ال ّلهُ َعنْ اّلذِينَ َلمْ ُيقَاِتلُو ُكمْ فِي الدّينِ‬ ‫سطُوا ِإلَيْ ِهمْ إِنّ ال ّلهَ يُحِبّ اْل ُمقْسِ ِطيَ‪‬‬ ‫وََلمْ يُخْرِجُو ُكمْ ِمنْ دِيَارِ ُكمْ أَنْ تََبرّو ُهمْ وَُتقْ ِ‬ ‫[الممتحنة‪]8:‬؟‬ ‫ألم تحمل الية ردا ً مسبقا ً على تصورات البعض الخاطئة‬ ‫في هذه اليام‪ ،‬ممن يعتقدون أن مجرد معاملة من لم يقاتلوننا‬ ‫في ديننا من غير المسلمين‪ ،‬بالبر والحسان يُعَد ّ من باب‬ ‫الموالة لهم؟‬ ‫بناء على ما سبق ذكره‪ ،‬فإنه يحسن أن نبين العلقة‬ ‫الطردية بين العمال الصالحة من جهة ودرجة التغيير إلى‬ ‫الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪ .‬وكذلك العلقة العكسية‬ ‫القائمة بين العمال السيئة من جهة‪ ،‬ودرجة التغيير إلى‬ ‫الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪.‬‬ ‫فقد مضت سنة الله تعالى أن تغيير النفس في‬ ‫م فيه وتظهر‪ ،‬وتكون‬ ‫المجتمع بما يرضي الله تعالى بنسبة تع ّ‬ ‫هي الغلب‪ ،‬سيؤدي ذلك بإذن الله وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم‬ ‫إلى الحسن‪ .‬والتغيير الكلي المطلوب‪ ،‬هو محصلة‬ ‫إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية من‬ ‫الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها العمال‬ ‫والقوال‪.‬‬

‫‪98‬‬

‫ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في‬ ‫النتخابات في العراق‪ ،‬ومن ثم قتلهم في مراكز القتراع‪ ،‬إذ قاموا‬ ‫يوم القتراع بـ (‪ )13‬عملية قتل فيها العشرات من المقترعين‪ ،‬كما‬ ‫تناقلته وسائل العلم‪.‬‬

‫‪85‬‬

‫وعليه فإنه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على‬ ‫ما يلي‪:‬‬ ‫‪-1‬أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم‪ ،‬هل هي مؤيدة‬ ‫بالقلب فقط‪ ،‬أم أنها بالقلب واللسان‪ ،‬أم أنها أرفع من‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫‪-2‬المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حالياً‪ ،‬إلى‬

‫الدرجة التي تليها‪ ،‬والتي تليها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬لقوله تعالى‪ :‬وَسَا ِرعُوا‬ ‫سمَاوَاتُ وَاْلأَ ْرضُ ُأ ِع ّدتْ ِل ْلمُّتقِيَ‪[ ‬آل‬ ‫ِإلَى َمغْفِرَةٍ ِمنْ رَبّ ُكمْ وَجَنّةٍ َع ْرضُهَا ال ّ‬ ‫عمران‪ .]133:‬وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى‬ ‫أخرى‪ ،‬عليه أن يترقى في الدرجة الواحدة‪ ،‬وذلك لتفاوت‬ ‫أهل التوحيد في الدرجة الواحدة‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪،‬‬ ‫يتفاوت المصلون في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة‪:‬‬ ‫أركانها‪ ،‬وطهورها‪ ،‬وخشوعها‪ ،‬ونوافلها‪ ،‬وموضعها‪ .‬وكذلك‬ ‫يتفاوتون في الصدقات‪ ،‬وغيره‪.‬‬ ‫‪ -3‬أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى‬ ‫تليها في اليجابية‪ ،‬ليزداد اليمان في المجتمع‪ ،‬فتقترب‬ ‫محصلته من الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق‬ ‫التغيير اليجابي المنشود في القوم‪.‬‬ ‫‪-4‬على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد‬ ‫المجتمع‪ ،‬من درجة إيجابية إلى أخرى‪ ،‬يزداد اليمان في‬ ‫المجتمع‪ ،‬فيقترب من الدرجة التي يرضاها الله تعالى‬ ‫لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم‪ .‬فإن أي‬ ‫زيادة في المعروف مهما ق ّ‬ ‫ل شأنه في نظر فاعله‪ ،‬يعدّ‬ ‫ً‬ ‫بركة‪ ،‬قال ×‪(( :‬ل تحقرن من المعروف شيئا‪ ،‬ولو أن‬ ‫تلقى أخاك بوجه طليق)) [رواه مسلم]‪.‬‬ ‫‪-5‬على المسلم العتراف‪ ،‬بأن تراجعه‪ ،‬أو أي فرد من أفراد‬ ‫المجتمع‪ ،‬من درجة إلى التي تليها في التجاه السلبي‪،‬‬ ‫سيؤدي إلى نقصان درجة اليمان في المجتمع‪ ،‬وبالتالي‬ ‫نقصان معدله‪ ،‬أي أنه بهذا التراجع يساهم بالبتعاد عن‬ ‫الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق التغيير اليجابي‬ ‫المنشود في القوم‪ ،‬وبالتالي يساهم في الهزيمة التي‬ ‫صائم‬ ‫ل صلته‪ ،‬أو‬ ‫ستلحق بالمسلمين‪ .‬أي‪ :‬إذا ترك مص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ة‬ ‫ة دعوته‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬أو ارتكب معصي ً‬ ‫صومه‪ ،‬أو داعي ٌ‬

‫‪86‬‬

‫صغرت أم كبرت‪ ،‬فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو الجرأة‬ ‫على فعل محرم‪ ،‬يؤدي إلى ما ذكرنا‪ .‬وبهذا سندرك المعاني‬ ‫العظيمة‪ ،‬والعبر في قوله ×‪(( :‬مثل القائم في حدود‬ ‫الله والواقع فيها‪ ،‬كمثل قوم استهموا على‬ ‫سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪.‬‬ ‫فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا‬ ‫على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا‬ ‫خرقا ً ولم نؤذ من فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا‬ ‫هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا‬ ‫جميعاً ))‪[ .‬رواه البخاري والترمذي]‪.‬‬ ‫‪-6‬فإنه من الخير‪ ،‬أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر‬ ‫هذه المفاهيم في الناس‪ ،‬ليقبلوا على الخير أو يزدادوا بها‬ ‫خيرا‪ ،‬وليجتنبوا الشر‪ ،‬أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك‬ ‫سبيلً‪.‬‬

‫قواعد يجب مراعاتها عند التغيير‪:‬‬ ‫‪ -1‬التدرج في تطبيق السلم العام حسب الحال‬ ‫والقدرة‪:‬‬ ‫لقد اتسم التشريع السلمي بالتدرج‪ ،‬سواء كان ذلك في‬ ‫العقائد أم في الحكام‪ ،‬ففي الوقت الذي كان فيه التركيز على‬ ‫العقائد في المراحل الولى من الدعوة في مكة المكرمة‪ ،‬تأخر‬ ‫فرض كثير من الحكام بعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬حتى إن الكفار‬ ‫ضاقوا بهذه السنة الكونية‪ ،‬وطالبوا بإنزال القرآن جملة واحدة‪.‬‬

‫قال تعالى‪):‬وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا نُزّلَ عَلَ ْيهِ اْلقُرْآنُ ُجمْ َلةً وَا ِحدَةً َكذَِلكَ‬ ‫ِلنُثَبّتَ ِبهِ ُفؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلًا‪[ ‬الفرقان‪ .]32:‬ثم أكد القرآن الكريم على‬ ‫هذه السنة الكونية‪ ،‬سنة التدرج في تطبيق السلم في قوله‬ ‫لً [السراء‪.]106:‬‬ ‫تعالى‪):‬وَقُرْآنا فَرَ ْقنَاهُ ِلَتقْرَأَهُ َعلَى النّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزّْلنَاهُ َتنِي ‪‬‬ ‫وهذا التدرج الذي نعنيه يكون في التطبيق وليس في‬ ‫التشريع‪ .‬فقد اكتمل الدين والحمد لله‪ .‬ول يصار إلى تطبيق‬ ‫هذه السنة إل في المجتمعات التي قد غلب الجهل في الدين‬ ‫على أفرادها‪ ،‬أو جديدة العهد باللتزام بالسلم‪ ،‬أو جديدة العهد‬ ‫بالكفر‪ ،‬قال تعالى‪):‬قَالَتِ اْلَأعْرَابُ آمَنّا قُل ّلمْ ُتؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْ َلمْنَا وََلمّا‬

‫‪87‬‬

‫َيدْخُلِ اْلإِيَانُ فِي ُقلُوبِ ُكمْ وَإِن تُطِيعُوا ال ّلهَ وَرَسُوَلهُ لَا َيلِتْكُم ّمنْ َأ ْعمَالِ ُكمْ َشيْئًا ِإنّ ال ّلهَ‬ ‫َغفُورٌ رّحِيمٌ‪[ ‬الحجرات‪.]14:‬‬ ‫لذا فقد بدأ السلم بغرس العقيدة وتقوية اليمان في‬ ‫النفوس أول ً لتهيئتها لقبول الحكام التي أخذت بالنزول فيما بعد‬ ‫تترى‪ .‬ففرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬أما‬ ‫الحج ((ففرض في السنة السادسة على قول جمهور العلماء‪,‬‬ ‫وفي التاسعة أو العاشرة على قول ابن القيم))(‪ .)99‬أما النهي‬ ‫عن المحرمات‪ ،‬فحرمت الخمر‪ ،‬وفرضت الحدود في المدينة‬ ‫المنورة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ومن الدلة على اعتبار سنة التدرج في التغيير‪:‬‬ ‫(أ) أن السلم لم يمنع الرق دفعة واحدة‪ ،‬ولم يحسم أمره‬ ‫سريعاً‪ ،‬وذلك لحاجة المجتمعات النسانية إليه‪ ،‬ولكنه قام‬ ‫بخطوات مع الزمن أدت إلى تجفيفه وتطهيره من المجتمع‪.‬‬ ‫والخشية تساورني من أن بعض الجهال بمقاصد الشريعة‬ ‫السلمية سيعيدون العبودية باسم تطبيق أحكام السلم‪،‬‬ ‫ضاربين عرض الحائط بما سيترتب على خطوتهم هذه من‬ ‫الساءة إلى سمعة السلم في واقعنا المعاصر الذي ينتقص‬ ‫فيه العالم العبودية وعصورها الجاهلية‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى إغلق‬ ‫قلوب غير المسلمين أمام المد السلمي الزاحف‪ ،‬وتشكك‬ ‫قريبي العهد بالكفر منهم فيه‪.‬‬ ‫سلم‬ ‫لذا فتطبيق السلم دفعة واحدة على مجتمع لم ي ُ ْ‬ ‫أمره لله تعالى ينطوي على مخاطر كثيرة‪ ،‬وهو ضد سنة الله‬ ‫تعالى في التغيير‪ ،‬ويؤيد هذا القاعدة الفقهية المعروفة‪ :‬أنه‬ ‫يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة‪ .‬وقد حاولت حركة طالبان‬ ‫في أفغانستان فرض أحكام السلم دفعة واحدة‪ ،‬كما ينادي‬ ‫بذلك حزب التحرير‪ ،‬فكّرهت الدنيا في السلم وفي المسلمين‪،‬‬ ‫وكان نهاية أمرها خسرانا ً مبيناً‪ ،‬وأدى ذلك إلى زوالها في وقت‬ ‫مبكر‪ .‬ولو أنها اتخذت أسلوب التدرج والحكمة الحسنة في‬ ‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬لكان أقرب إلى مراعاة‬ ‫مقاصد الشريعة السمحة‪ ،‬ولكن ما هكذا يا سعد تورد البل!!‬ ‫(ب) التدرج في تحريم الخمر على ثلث مراحل‪:‬‬ ‫‪99‬‬

‫((فقه السنة))‪ ،‬لسيد سابق‪ ،‬كتاب‬

‫الحج‪.‬‬

‫‪88‬‬

‫الولى‪ :‬بين فيها القرآن الكريم أن من نعم الله تعالى‬ ‫على العباد‪ ،‬ما سخر لهم من ثمرات النخيل والعناب‪ ،‬وما‬ ‫سكَر ومن رزق حسن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬‬ ‫يتخذون منه من َ‬

‫خذُونَ مِ ْنهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنّ فِي َذِلكَ لَيةً ّل َق ْومٍ‬ ‫َومِن َثمَرَاتِ النّخِيلِ وَا َلعْنَابِ تَتّ ِ‬ ‫َي ْعقِلُونَ‪[ ‬النحل‪ .]67:‬فقد لفت القرآن أنظار المسلمين‪ ،‬إلى أن‬ ‫سكََر ليس من الرزق الحسن‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫الثانية‪ :‬أمرهم بعد ذلك بأن ل يقربوا الصلة وهم‬ ‫سكارى‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُواْ لَ َتقْرَبُواْ الصّلَةَ وَأَنُتمْ‬ ‫حتّىَ َتعْ َلمُواْ مَا َتقُولُونَ‪[ ‬النساء‪.]43:‬‬ ‫سُكَارَى َ‬

‫الثالثة‪ :‬نزل التحريم كما في قوله تعالى‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُواْ‬ ‫سرُ وَالَنصَابُ وَالَزْ َلمُ رِجْسٌ مّنْ َعمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَلّ ُكمْ‬ ‫خمْرُ وَاْلمَيْ ِ‬ ‫ِإّنمَا اْل َ‬ ‫ُتفْ ِلحُونَ‪[ ‬المائدة‪.]90:‬‬ ‫‪ -2‬تغير الفتوى بحسب تغير الزمنة والمكنة‬ ‫والحوال‪:‬‬ ‫يقول ابن القيم تحت عنوان‪( :‬فصل في تغير الفتوى‬ ‫واختلفها بحسب تغير الزمنة والمكنة والحوال والنيات‬ ‫والعوائد)‪:‬‬ ‫((هذا فصل عظيم النفع جداً‪ ،‬وقع بسبب الجهل به غلط‬ ‫عظيم على الشريعة‪ ،‬أوجب من الحرج والمشقة‪ ،‬وتكليف ما ل‬ ‫سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب‬ ‫المصالح ل تأتي به‪ ،‬فإن الشريعة مبناها وأساسها على‬ ‫الحكم‪ ،‬ومصالح العباد‪ ،‬في المعاش والمعاد‪ ،‬وهي‬ ‫عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ ،‬ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة كلها‪،‬‬ ‫فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور‪ ،‬وعن الرحمة إلى‬ ‫ضدها‪ ،‬وعن المصلحة إلى المفسدة‪ ،‬وعن الحكمة إلى العبث‪،‬‬ ‫فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل‪ .‬فالشريعة عدل‬ ‫الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته‬ ‫الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دللة‬ ‫وأصدقها ‪...‬‬

‫‪89‬‬

‫ونحن نذكر ـ والقول لبن القيم ـ تفصيل ما أجملناه في‬ ‫هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة))‪.‬‬ ‫ثم يتابع ابن القيم القول تحت عنوان‪( :‬النكار له‬ ‫شروط)‪:‬‬ ‫المثال الول‪:‬‬ ‫أن النبي × شرع لمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل‬ ‫بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار‬ ‫المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه ل‬ ‫يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله‪ ،‬وهذا كالنكار‬ ‫على الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة‬ ‫إلى آخر الدهر‪ ،‬وقد استأذن الصحابة رسول الله × في قتال‬ ‫المراء الذين يؤخرون الصلة عن وقتها‪ ،‬وقالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟‬ ‫فقال‪(( :‬ل‪ ،‬ما أقاموا الصلة)) وقال‪(( :‬من رأى من أميره‬ ‫ما يكرهه فليصبر‪ ،‬ول ينزعن يدا ً من طاعته))‪ .‬ومن‬ ‫تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار‪،‬‬ ‫رآها من إضاعة هذا الصل‪ ،‬وعدم الصبر على منكر‬ ‫فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه‪ ،‬فقد كان رسول‬ ‫الله × يرى بمكة أكبر المنكرات‪ ،‬ول يستطيع تغييرها‪ ،‬بل لما‬ ‫فتح الله مكة وصارت دار إسلم‪ ،‬عزم على تغيير البيت ورده‬ ‫على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية‬ ‫وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب‬ ‫عهدهم بالسلم وكونهم حديثي عهد بكفر‪ .‬ولهذا لم يأذن في‬ ‫النكار على المراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم‬ ‫منه كما وجد سواء‪.‬‬ ‫أربع درجات للنكار‪:‬‬ ‫فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬ ‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪.‬‬ ‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫فالدرجتان الوليان مشروعتان‪ ،‬والثالثة موضع اجتهاد‪،‬‬ ‫والرابعة محرمة‪.‬‬ ‫فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج‪ ،‬كان‬ ‫إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إل إذا نقلتهم منه إلى‬ ‫ما هو أحب إلى الله ورسوله‪ ،‬كرمي النشاب وسباق الخيل‬ ‫ونحو ذلك‪ .‬وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو‬ ‫سماع مكاء وتصدية‪ ،‬فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو‬ ‫المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيرا ً من أن تفرغهم لما هو‬ ‫أعظم من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغل ً لهم عن ذلك‪ ،‬وكما إذا‬ ‫كان الرجل مشتغل ً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها‬ ‫انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر‪ ،‬فدعه وكتبه الولى‬ ‫وهذا باب واسع‪.‬‬ ‫وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس الله روحه ونور‬ ‫ضريحه يقول‪ :‬مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم‬ ‫منهم يشربون الخمر‪ ،‬فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه‬ ‫وقلت له‪ :‬إنما حرم الله الخمر لنها تصد عن ذكر الله وعن‬ ‫الصلة‪ ،‬وهؤلء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية‬ ‫وأخذ الموال فدعهم))(‪ ،)100‬انتهى‪.‬‬ ‫ثم ذكر ابن القيم فصول ً عديدة مستدل ً بها على تغير‬ ‫الفتوى منها‪( :‬فصل‪ :‬النهي عن قطع اليدي في الغزو)‪،‬و(فصل‪:‬‬ ‫سقوط حد السرقة في المجاعة)‪.‬‬

‫المجالس النيابية الديموقراطية وتغير الفتوى‪:‬‬ ‫ومن المثلة المعاصرة على تغير الفتوى بتغير المكان‬ ‫والزمان والحوال‪ ،‬حكم المشاركة في المجالس النيابية‪.‬‬ ‫فالحكم فيها على وجوه‪:‬‬ ‫•عدم جواز‪ ،‬بل تحريم المطالبة بالمجالس النيابية‬ ‫الديموقراطية في الدول السلمية التي تكون فيها كلمة‬ ‫الله هي العليا‪ ،‬وكلمة الذين كفروا السفلى‪ ،‬والتي تحفظ‬ ‫فيها الضرورات الخمس وتصان‪ ،‬مثل المملكة العربية‬ ‫السعودية‪ ،‬لما يترتب على إقرار الحكم النيابي فيها‪ ،‬جعل‬ ‫كلمة الذين كفروا مساوية لكلمة الله تعالى‪ ،‬بحجة‬ ‫‪100‬‬

‫((إعلم الموقعين)) (‪.)6-3/3‬‬

‫‪91‬‬

‫المساواة في الحريات العامة‪ ،‬وخصوصا ً حرية التعبير عن‬ ‫الرأي‪.‬‬ ‫ولكن لو قامت الدولة بإقرار هذا النظام الديموقراطي‬ ‫تحت ضغط الواقع والجماهير ـ كما حصل في الكويت‬ ‫والردن ـ وترتب على عدم الستجابة لهذه المطالب‬ ‫مفسدة أعظم من وجود مفسدة الحكم الديموقراطي‪ ،‬أو‬ ‫فرض هذا النظام الديموقراطي بالقوة‪ -‬كما حصل في‬ ‫العراق‪ -‬فإنه ل يجوز للمسلمين ترك المشاركة في الحكم‬ ‫الديموقراطي بحجة كفره‪ ،‬لما في هذا الترك من ترك‬ ‫لمقاصد الشريعة‪ ،‬وفقه الموازنات‪ ،‬وإخلء مواقع صنع‬ ‫القرار لغير المسلمين‪ ،‬وهذا يؤدي إلى الضرار بالضرورات‬ ‫الخمس‪ ،‬ومصالح السلم والمسلمين عامة في هذا البلد‪.‬‬ ‫•جواز المطالبة بالمجالس النيابية الديموقراطية في الدول‬ ‫السلمية التي تكون فيها كلمة الذين كفروا العليا‪ ،‬ول‬ ‫تحفظ فيها الضرورات الخمس ول تصان‪ ،‬مثل سوريا‪،‬‬ ‫والجزائر‪ ،‬وتونس‪ ،‬وليبيا‪ ،‬والعراق ـ قبل سقوط النظام‬ ‫الشتراكي ـ وسائر الدول الشتراكية عموماً‪ .‬لما يترتب‬ ‫على إقرار الحكم النيابي فيها‪ ،‬من رفع القيود على‬ ‫الضرورات الخمس‪ ،‬وبالتالي رفع كلمة الله تعالى في‬ ‫المجتمع من خلل إتاحة الفرصة للدعوة إلى الله تعالى‪،‬‬ ‫ول تقدح عملية‬ ‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫المشاركة في المجالس النيابية الديموقراطية في براءة‬ ‫المشاركين من الشرك وأهله‪ .‬وقد ارتكب أهل السنة في‬ ‫العراق أبشع جريمة في التاريخ الحديث‪ -‬بعد سقوط الحكم‬ ‫الشتراكي في العراق‪ -‬حين تركوا مراكز صنع القرار للد‬ ‫أعدائهم من الشيوعيين والشيعة والشتراكيين‪ ،‬بحجج‬ ‫(‪)101‬‬ ‫وأوهام‪ ،‬ل علقة لها بمقاصد الشريعة‪ ،‬وفقه الموازنات ‪،‬‬ ‫فأدى ذلك إلى تمكين هؤلء العداء من ديننا ورقابنا وأموالنا‬ ‫وأعراضنا حين تركوا لهم معظم مؤسسات الدولة المدنية‬ ‫والعسكرية والمنية‪ ،‬ومعظم مراكز النفوذ في السلطات‬ ‫التشريعية والتنفيذية والقضائية‪ ،‬وخاصة‪ ،‬أن أهل السنة في‬ ‫العراق‪ ،‬بما فيهم الكراد‪ ،‬يشكلون أغلبية راجحة‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫فقد أفتى السيستاني الشيعة بالنار لكل من ل يشارك في النتخابات‪ ،‬في حين‬ ‫أفتى الزرقاوي ـ وليس من أهل الفتيا ـ بالنار والتفجير لكل من يشارك من أهل‬ ‫السنة‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫كما أنه من أعجب العجب أن يترفع‪ ،‬أو يزهد المسلمون‪،‬‬ ‫في استلم الحكم في الدولة وإدارة شؤونها بعد تمكنهم‬ ‫منها‪-‬كما حصل في مصر بعد النقلب على حكم الملك‬ ‫فاروق‪ -‬وتركها لجمال عبد الناصر الشتراكي وزبانيته‪،‬‬ ‫ليفسد في أرض مصر وأهلها كما يشاء‪.‬‬ ‫‪ -3‬مراعاة الضرورات‪:‬‬ ‫الضرورات هي غير المصالح الضرورية للحياة‪ .‬وهي‬ ‫تعني في الصطلح‪(( :‬بلوغ المرء حدا ً إذا لم يتناول الممنوع‬ ‫هلك أو قارب))(‪. )102‬‬ ‫وقد أولت الشريعة السلمية قاعدة الضرورات أهمية‬ ‫خاصة‪ ،‬استنبطها الفقهاء من الدلة الفقهية التفصيلية‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)‪ ،‬وقاعدة (الضرورات تقدر‬ ‫بقدرها)‪ .‬وهذه القواعد معلومة لعامة طلبة العلم‪ ،‬ومشتهرة‬ ‫بينهم‪ .‬وهم يحسنون استعمالها في الحكام المتعلقة‬ ‫بالضرورات الفردية فقط‪ ،‬خاصة في أبواب الطعمة والشربة‪.‬‬ ‫علما ً أن للفراد ضروراتهم‪ ،‬وللمجتمع ضروراته‪ .‬يقول الدكتور‬ ‫يوسف القرضاوي‪:‬‬ ‫((والضرورات الشرعية ليست كلها فردية‪ ،‬كما قد يتوهم‪.‬‬ ‫فللمجتمع ضروراته‪ ،‬كما للفرد ضروراته‪ ،‬فهناك ضرورات‬ ‫اقتصادية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬وعسكرية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬لها أحكامها‬ ‫الستثنائية التي توجبها الشريعة‪ ،‬مراعاة لمصالح البشر‪ ،‬التي‬ ‫هي أساس التشريع السلمي كله))(‪ ،)103‬انتهى‪.‬‬ ‫لعل البعض ل يعجبه هذا القتباس عن الدكتور‬ ‫القرضاوي‪ ،‬بحجة مخالفتنا له في بعض المسائل الفقهية‪ ،‬أو‬ ‫لعل هذا البعض من الناس‪ ،‬سيحذر من قراءة هذا الكتاب أو‬ ‫سيشهر بكاتبه لجل هذا القتباس‪ .‬والجواب على ذلك من‬ ‫وجوه‪:‬‬ ‫دلنا هذا العتراض الذي ليس في محله‪ ،‬على الزمة التي‬‫يعيشها البعض في فهم فقه السياسة الشرعية‪ ،‬وسياسة‬ ‫التعامل مع المخالف‪ .‬فهؤلء بحاجة ماسة لعلج أمرهم في‬ ‫هذا الباب بأسرع ما يمكن‪ ،‬كي ل يتطور المر بهم إلى جعل‬ ‫‪(( 102‬الشباه والنظائر))‪( ،‬ص‪.)85/‬‬ ‫‪(( )(103‬السياسة الشرعية)) ‪( ،‬ص ‪ ،)326‬ط‪.1998 ،1/‬‬

‫‪93‬‬

‫المر من باب الولء والبراء الذي يؤدي إلى التدابر‬ ‫والتباغض والتلعن‪ ،‬وقد يؤدي ببعض حدثاء السنان‪ ،‬سفهاء‬ ‫الحلم إلى التقاتل‪.‬‬ ‫ينظر في القتباس هل هو موافق للحق أم مخالف له‪ ،‬فإن‬‫كان موافقاً‪ ،‬ففيم العتراض إذن‪ ،‬وقد اقتبسنا عن أبي‬ ‫حامد الغزالي من قبل‪ ،‬وما أدراك ما الغزالي؟ فهو إمام‬ ‫مقَعّدُها‪ ،‬ولكن أهل العلم قد شهدوا له بالحجة‬ ‫الصوفية و ُ‬ ‫في علم الصول‪ .‬والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها‬ ‫التقطها‪.‬‬ ‫أما إذا كان القتباس غير موافق للحق‪ ،‬فل يصار إلى ترك‬‫جميع أقوال صاحبه لجله‪ .‬ولو كان الصل ترك جميع أقوال‬ ‫المخالف لنا في بعض المسائل‪ ،‬لتركنا جميع أقوال أهل‬ ‫العلم قاطبة‪ .‬فما من عالم إل وله من المسائل ما خالف‬ ‫بعض ما تراه أنت حقاً‪ .‬فهل يجوز لك لجل ذلك‪ ،‬ترك جميع‬ ‫أقوال المام أبي حنيفة‪ ،‬والمام مالك‪ ،‬والمام الشافعي‪،‬‬ ‫لعدم تكفيرهم تارك الصلة تكاسلً؟ أو ترك جميع أقوال‬ ‫المام أحمد لتكفيره تارك الصلة؟ وهل يجوز لمن ل يرى‬ ‫جواز دخول الوزارات الحكومية والمناصب الرسمية في‬ ‫الحكومات الطاغوتية أن يترك جميع أقوال ابن تيمية‪ ،‬بحجة‬ ‫أنه يرى جواز ذلك؟ وهل يجوز لمن يرى كفر تارك عمل‬ ‫الجوارح بالكلية‪ ،‬ترك جميع أقوال الئمة العلم الربعة‪،‬‬ ‫وابن حزم‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬بحجة أنهم ل يكفرونه؟ ما‬ ‫لكم كيف تحكمون؟!‬

‫كتبه‪:‬‬ ‫عدنان عبد الرحيم الصوص‬ ‫شهر تموز من عام ‪2006‬‬ ‫‪[email protected]‬‬ ‫‪079-5928729‬‬

‫‪94‬‬

‫الفهرس‬ ‫‪5.........................................................................................‬‬ ‫مقدمات تأصيلية‪6.....................................................................‬‬ ‫تعريف قواعد الفقه السياسي‪12.............................................................................‬‬ ‫أول ً‪ :‬فقه الواقـــع‪18........................................................................................‬‬ ‫هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية‪52................................:‬‬ ‫فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة النصرانية بالولء‬ ‫والعمالة لها‪ ،‬لقبولهم العيش في كنف النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر‬ ‫ليس كذلك‪ ،‬إنما كانت هجرتهم إلى الحبشة‪ ،‬من باب ((اختيار أدنى‬ ‫المفسدتين))‪ ،‬فمفسدة قريش (الوثنية)‪ ،‬أبناء العمومة‪ ،‬أعظم من‬ ‫مفسدة الحبشة (النصارى)‪ ،‬هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح‪ ،‬مع أننا‬ ‫نسمع من يردد مقولة‪ :‬أنّا ضد أي عداء كان ضد أي عربي‪ ،‬نقول‪ :‬حتى لو‬ ‫كان اشتراكيا ً كافراً؟ فعجبا ً لهؤلء!!‪52............................................‬‬ ‫فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى‪ (( :‬تحصيل المصالح و تكميلها‪,‬‬ ‫وتعطيل المفاسد وتقليلها)) نقول باختصار‪ :‬علينا أن ل نرفض‪ ،‬بل نؤيد كل‬ ‫ما يؤدي إلى تغيير الواقع من الشر إلى شر أقل منه‪ ،‬فإن ذلك يدفع‬ ‫باتجاه تقليل الشر في الرض‪ ،‬وبالتالي يساهم في قرب النصر‪53..........‬‬

‫‪95‬‬

More Documents from "Adnan Sous"

June 2020 7
June 2020 5
Anti Semitism
June 2020 2
April 2020 0