011

  • Uploaded by: B.I
  • 0
  • 0
  • December 2019
  • PDF

This document was uploaded by user and they confirmed that they have the permission to share it. If you are author or own the copyright of this book, please report to us by using this DMCA report form. Report DMCA


Overview

Download & View 011 as PDF for free.

More details

  • Words: 108,512
  • Pages: 255
‫الجزء الحادي عشر ‪ /‬الموسوعة الفقهية‬ ‫تخارج *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخارج في اللّغة ‪ :‬مصدر تخارج ‪ ،‬يقال ‪ :‬تخارج القوم ‪ :‬إذا أخرج كلّ واحد منهم نفقةً‬

‫على قدر نفقة صاحبه ‪ .‬وتخارج الشّركاء ‪ :‬خرج كلّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه‬

‫بالبيع ‪ .‬وفي الصطلح هو ‪ :‬أن يصطلح الورثة على إخراج بعضهم بشيء معلوم ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الصّلح ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الصّلح لغةً ‪ :‬اسم للمصالحة الّتي هي المسالمة خلف المخاصمة‪ .‬واصطلحا ‪ :‬عقد‬

‫وضع لرفع المنازعة ‪ .‬وهو أعمّ من التّخارج ‪ ،‬لنّه يشمل المصالحة في الميراث وغيره ‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬القسمة أو التّقاسم ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬القسمة لغةً ‪ ،‬اسم للقتسام أو التّقسيم ‪ ،‬وتقاسموا الشّيء ‪ :‬قسموه بينهم ‪ ،‬وهو أن يأخذ كلّ‬

‫واحد نصيبه ‪ .‬وشرعا ‪ :‬جمع نصيب شائع في مكان معيّن ‪.‬‬

‫ن الوارث الّذي‬ ‫والفرق بينهما أنّه في القسمة يأخذ جزءا من المال المشترك ‪ ،‬أمّا في التّخارج فإ ّ‬

‫يخرج يأخذ شيئا معلوما ‪ ،‬سواء أكان من التّركة أم من غيرها ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫ن عبد الرّحمن بن عوف‬ ‫‪ -‬التّخارج جائز عند التّراضي ‪ ،‬والصل في جوازه ما روي أ ّ‬

‫رضي ال عنه طلّق امرأته تماضر بنت الصبغ الكلبيّة في مرض موته ‪ ،‬ثمّ مات وهي في‬

‫العدّة ‪ ،‬فورّثها عثمان رضي ال تعالى عنه مع ثلث نسوة أخر ‪ ،‬فصالحوها عن ربع ُثمُنها‬ ‫على ثلثة وثمانين ألفا ‪ .‬قيل من الدّنانير ‪ ،‬وقيل من الدّراهم ‪.‬‬

‫حقيقة التّخارج ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬الصل في التّخارج أنّه عقد صلح بين الورثة لخراج أحدهم ‪ ،‬ولكنّه يعتبر عقد بيع إن‬

‫كان البدل المصالح عليه شيئا من غير التّركة ‪.‬‬

‫ويعتبر عقد قسمة ومبادلة ‪ ،‬إن كان البدل المصالح عليه من مال التّركة ‪ ،‬وقد يكون هبةً أو‬

‫إسقاطا للبعض ‪ ،‬إن كان البدل المصالح عليه أقلّ من النّصيب المستحقّ ‪ .‬وهذا في الجملة ‪.‬‬

‫ويشترط في كلّ حالة شروطها الخاصّة ‪.‬‬

‫من يملك التّخارج ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬التّخارج عقد صلح ‪ ،‬وهو في أغلب أحواله يعتبر من عقود المعاوضات ‪ ،‬ولذلك يشترط‬

‫فيمن يملك التّخارج أهليّة التّعاقد ‪ ،‬وذلك بأن يكون عاقلً غير محجور عليه ‪ ،‬فل يصحّ‬

‫التّخارج من الصّبيّ الّذي ل يميّز ‪ ،‬ول من المجنون وأشباهه ‪.‬‬

‫ويشترط أن يكون ذا إرادة ‪ ،‬لنّ التّخارج مبناه على الرّضا ‪ ( .‬ر ‪ :‬إكراه ) ‪.‬‬

‫ويشترط فيمن يملك التّخارج كذلك أن يكون مالكا لما يتصرّف فيه ‪ .‬وفي تصرّف الفضوليّ‬

‫خلف بين من يجيزه موقوفا على إجازة المالك ‪ ،‬وهم الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وبين من ل يجيزه ‪،‬‬

‫وهم الشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وفي ذلك تفصيل موضعه مصطلح ( فضوليّ ) ‪.‬‬

‫وقد يكون ملك التّصرّف بالوكالة ‪ ،‬وحينئذ يجب أن يقتصر التّصرّف على المأذون به للوكيل ‪.‬‬ ‫( ر ‪ :‬وكالة ) ‪ .‬وقد يكون ملك التّصرّف كذلك بالولية الشّرعيّة كالوليّ والوصيّ ‪ ،‬وحينئذ‬

‫يجب أن يقتصر تصرّفهما على ما فيه الحظّ للمولّى عليه ‪ .‬فقد نقل ابن فرحون عن مفيد‬

‫الحكّام في الب يصالح عن ابنته البكر ببعض حقّها من ميراث أو غير ذلك ‪ ،‬وحقّها بيّن ل‬

‫خصام فيه ‪ ،‬أنّ صلحه غير جائز ‪ ،‬إذ ل نظر فيه ‪ ،‬أي ل مصلحة ‪ ،‬وترجع البنة ببقيّته على‬ ‫من هو عليه ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬وصاية ‪ ،‬ولية ) ‪.‬‬

‫شروط صحّة التّخارج ‪:‬‬

‫للتّخارج شروط عامّة باعتباره عقد صلح ‪ ،‬وشروط خاصّة بصور التّخارج تختلف باختلف‬

‫الصّور ‪ ،‬وستذكر عند بيانها ‪.‬‬

‫أمّا الشّروط العامّة فهي ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬أ ‪ -‬يشترط لصحّة التّخارج أن تكون التّركة ‪ -‬محلّ التّخارج ‪ -‬معلومةً ‪ ،‬إذ التّخارج في‬

‫الغالب بيع في صورة صلح ‪ ،‬وبيع المجهول ل يجوز ‪ ،‬وكذا الصّلح عنه ‪ ،‬وذلك إذا أمكن‬

‫الوصول إلى معرفة التّركة ‪ ،‬فإذا تعذّر الوصول إلى معرفتها جاز الصّلح عن المجهول ‪ ،‬كما‬ ‫إذا صالحت الزّوجة عن صداقها ‪ ،‬ول علم لها ول للورثة بمبلغه ‪ ،‬وهذا عند المالكيّة‬

‫والشّافعيّة والمام أحمد ‪ ،‬وبعض الحنابلة الّذين ل يجيزون الصّلح عن المجهول ‪.‬‬

‫والمشهور عند الحنابلة جواز الصّلح عن المجهول مطلقا ‪ ،‬سواء تعذّر علمه أو لم يتعذّر ‪.‬‬

‫ودليل الصّلح عن المجهول عند تعذّر العلم به ‪ « :‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال لرجلين‬

‫اختصما في مواريث درست ‪ :‬اقتسما وتوخّيا الحقّ ثمّ استهما ث ّم تحالّ » ‪.‬‬

‫أمّا عند الحنفيّة فل يشترط أن تكون أعيان التّركة معلوم ًة فيما ل يحتاج إلى قبض ‪ ،‬لنّه ل‬

‫حاجة فيه إلى التّسليم ‪ ،‬وبيع ما لم يعلم قدره جائز ‪ ،‬كمن أقرّ بغصب شيء ‪ ،‬فباعه المقرّ له‬

‫من المقرّ جاز وإن لم يعرفا قدره ‪ ،‬ولنّ الجهالة هنا ل تفضي إلى المنازعة ‪ ،‬ودليل جواز‬ ‫ذلك أثر عثمان في تخارج تماضر امرأة عبد الرّحمن بن عوف ‪.‬‬

‫‪ -8‬ب ‪ -‬أن يكون البدل مالً متقوّما معلوما منتفعا به مقدورا على تسليمه ‪ ،‬فل يصحّ أن يكون‬ ‫البدل مجهولً جنسا أو قدرا أو صفةً ‪ ،‬ول أن يكون ممّا ل يصلح عوضا في البيع ‪ .‬وهذا في‬ ‫الجملة ‪ ،‬إذ عند الحنفيّة والحنابلة ‪ :‬إذا كان العوض ل يحتاج إلى تسليم ‪ ،‬وكان ل سبيل إلى‬

‫معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة ‪ ،‬فإنّه يجوز مع الجهالة ‪.‬‬

‫‪ -9‬ج ‪ -‬التّقابض في المجلس فيما يعتبر صرفا ‪ ،‬كالتّخارج عن أحد النّقدين بالخر ‪ ،‬وكذا‬ ‫فيما إذا اتّفق المصالح عنه والمصالح عليه في علّة الرّبا ‪.‬‬

‫وهذا باتّفاق في الصل ‪ ،‬مع الختلف في التّفاصيل الّتي سترد عند ذكر صور التّخارج ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬د ‪ -‬توافر شروط بيع الدّين إذا كان للتّركة دين على الغير ‪ ،‬وهذا عند من يجيز بيع‬

‫الدّين لغير من هو عليه كالمالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬أو يراعى استعمال الحيلة لجواز التّخارج‬

‫كالبراء أو الحوالة به كما يقول الحنفيّة ‪ ،‬وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر الصّور ‪.‬‬

‫صور التّخارج ‪:‬‬

‫لم ترد صور مفصّلة للتّخارج عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وإنّما ورد ذلك مفصّلً عند الحنفيّة‬

‫والمالكيّة مع الختلف في التّجاهات ‪،‬ول تظهر هذه التّجاهات إلّ بذكر كلّ مذهب على‬ ‫حدة‪.‬‬

‫صور التّخارج عند الحنفيّة ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬إذا تخارج الورثة مع أحدهم عن نصيبه في التّركة على شيء من المال يدفعونه له ‪،‬‬

‫فلذلك صور تختلف بحسب نوع البدل الّذي يدفعونه ‪،‬وبحسب نوعيّة التّركة ‪ ،‬وذلك كما يلي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬إذا كانت التّركة عقارا أو عرضا ‪ ،‬فأخرج الورثة أحدهم منها بمال أعطوه إيّاه ‪ ،‬جاز‬

‫التّخارج سواء أكان ما أعطوه أقلّ من حصّته أم أكثر ‪ ،‬لنّه أمكن تصحيحه بيعا ‪ ،‬والبيع يصحّ‬

‫ن البراء من العيان غير المضمونة ل‬ ‫بالقليل والكثير من الثّمن ‪ .‬ول يصحّ جعله إبراءً ‪ ،‬ل ّ‬ ‫يصحّ ‪ .‬ول يشترط معرفة مقدار حصّته من التّركة ‪ ،‬إذ الجهالة هنا ل تفسد البيع ‪ ،‬لنّها ل‬

‫تفضي إلى النّزاع ‪ ،‬لنّ المبيع هنا ل يحتاج إلى تسليم ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬إذا كانت التّركة ذهبا فأعطوه فضّةً ‪ ،‬أو كانت فضّةً فأعطوه ذهبا جاز الصّلح أيضا ‪،‬‬ ‫سواء أكان ما أعطوه أقلّ من نصيبه أم أكثر ‪ ،‬لنّه بيع الجنس بخلف الجنس ‪ ،‬فل يعتبر‬ ‫صرْفا ‪.‬‬ ‫التّساوي ‪ .‬لكن يشترط القبض في المجلس لكونه َ‬

‫غير أنّ الوارث الّذي في يده بقيّة التّركة إن كان جاحدا وجودها في يده يكتفي بذلك القبض ‪،‬‬ ‫لنّه قبض ضمان فينوب عن قبض الصّلح ‪.‬‬

‫والصل في ذلك أنّه متى تجانس القبضان ‪ ،‬بأن يكون قبض أمانة أو قبض ضمان ناب أحدهما‬

‫مناب الخر ‪ ،‬أمّا إذا اختلفا فالمضمون ينوب عن غيره ‪.‬‬

‫وإن كان الّذي في يده بقيّة التّركة مقرّا ‪ ،‬فإنّه ل بدّ من تجديد القبض ‪ ،‬وهو النتهاء إلى مكان‬

‫يتمكّن من قبضه ‪ ،‬لنّه قبض أمانة ‪ ،‬فل ينوب عن قبض الصّلح ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬وإن كانت التّركة دراهم ودنانير ‪ ،‬وبدل الصّلح كذلك دراهم ودنانير ‪ ،‬جاز الصّلح كيفما‬

‫كان ‪ ،‬صرفا للجنس إلى خلف جنسه كما في البيع ‪ ،‬لكن ل بدّ من القبض في المجلس لكونه‬

‫صرْفا ‪.‬‬ ‫َ‬

‫د ‪ -‬وإن كانت التّركة ذهبا وفضّةً وغير ذلك من العروض والعقار ‪ ،‬فصالحوه على أحد‬

‫النّقدين فل يجوز الصّلح ‪ ،‬إلّ أن يكون ما أعطي له أكثر من حصّته من ذلك الجنس ‪ ،‬ليكون‬

‫نصيبه بمثله ‪ ،‬والزّيادة تكون في مقابل حقّه من بقيّة التّركة احترازا عن الرّبا ‪ ،‬ول ب ّد من‬ ‫التّقابض فيما يقابل نصيبه ‪ ،‬لنّه صرف في هذا القدر ‪.‬‬

‫فإن كان ما أعطوه مساويا لنصيبه ‪ ،‬أو كان أقلّ من نصيبه بطل الصّلح لوجود الرّبا ‪ ،‬لنّه إذا‬ ‫كان البدل مساويا تبقى الزّيادة من غير جنس البدل خاليةً عن العوض ‪ ،‬فيكون ربا ‪.‬‬

‫ل من نصيبه تبقى الزّيادة من جنس ذلك ومن غير جنسه خاليةً عن العوض ‪،‬‬ ‫وإن كان البدل أق ّ‬

‫ح تجويزه بطريق البراء‬ ‫فيكون ربا ‪ .‬وتعذّر تجويزه بطريق المعاوضة للزوم الرّبا ‪ ،‬ول يص ّ‬ ‫عن الباقي ‪ ،‬لنّ البراء عن العيان باطل ‪.‬‬

‫وكذلك يبطل التّخارج إن كان نصيبه مجهولً لحتمال الرّبا ‪ ،‬لنّ الفساد على تقدير أن يكون‬

‫البدل مساويا له أو أقلّ ‪ ،‬فكان أرجح وأولى بالعتبار ‪.‬‬

‫ونقل عن الحاكم أبي الفضل أنّ الصّلح إنّما يبطل على أقلّ من نصيبه في مال الرّبا في حالة‬

‫التّصادق ‪ ،‬أمّا في حالة التّناكر بأن أنكروا وراثته فالصّلح جائز ‪ ،‬لنّه في حالة المناكرة يكون‬

‫المدفوع لقطع المنازعة ولفتداء اليمين ‪ ،‬أو لحمله على أخذ عين الحقّ في قدر المأخوذ‬ ‫ل من جنسه ‪.‬‬ ‫وإسقاط الحقّ في الباقي ‪ ،‬كما قالوا في الصّلح عن الدّين بأق ّ‬

‫هـ ‪ -‬ولو كانت التّركة ذهبا وفضّةً وغير ذلك من العروض والعقار فصالحوه على عرض‬

‫جاز الصّلح مطلقا ‪ ،‬سواء أكان ما أعطوه أقلّ من نصيبه أو أكثر ‪.‬‬

‫و ‪ -‬إذا كانت أعيان التّركة مجهولةً والصّلح على المكيل أو الموزون ففيه اختلف ‪ .‬قال‬

‫المرغينانيّ ‪ :‬ل يجوز الصّلح لما فيه من احتمال الرّبا ‪ ،‬بأن يكون في التّركة مكيل أو موزون‬

‫من جنسه ‪ ،‬فيكون في حقّه بيع المقدّر بجنسه جزافا ‪.‬‬

‫وقال الفقيه أبو جعفر ‪ :‬يجوز لحتمال أن ل يكون في التّركة من ذلك الجنس ‪ ،‬وإن كان فيها‬

‫فيحتمل أن يكون نصيبه من ذلك الجنس في التّركة أقلّ ممّا وقع عليه الصّلح فل يلزم الرّبا ‪،‬‬

‫واحتمال أن يكون نصيبه من ذلك أكثر ‪ ،‬أو مثل ما وقع عليه الصّلح هو احتمال الحتمال ‪،‬‬

‫ففيه شبهة الشّبهة وليست بمعتبرة ‪.‬‬

‫وقول أبي جعفر هو الصّحيح على ما في الزّيلعيّ وفتاوى قاضي خان ‪.‬‬

‫ز ‪ -‬وإن كانت أعيان التّركة مجهولةً ‪ ،‬وهي غير مكيل أو موزون في يد بقيّة الورثة ‪ ،‬وكان‬

‫الصّلح على المكيل أو الموزون قيل ‪ :‬ل يجوز ‪ ،‬لنّه بيع المجهول ‪ ،‬لنّ المصالح باع نصيبه‬

‫من التّركة وهو مجهول بما أخذ من المكيل والموزون ‪.‬‬

‫والصحّ أنّه يجوز ‪ ،‬لنّ الجهالة هنا ل تفضي إلى المنازعة لعدم الحاجة إلى التّسليم ‪ ،‬لقيام‬

‫التّركة في يدهم ‪ ،‬حتّى لو كانت في يد المصالح أو بعضها لم يجز الصّلح ‪ ،‬ما لم يعلم جميع ما‬ ‫في يده للحاجة إلى التّسليم ‪.‬‬

‫صور التّخارج عند المالكيّة ‪:‬‬

‫يفرّق المالكيّة بين أن يكون بدل التّخارج من نفس التّركة ‪ ،‬وبين أن يكون من غيرها ‪.‬‬

‫أوّلً ‪ :‬إذا كان بدل التّخارج من نفس التّركة ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬إذا كانت التّركة قد اشتملت على عرض وفضّة وذهب ‪ ،‬وصالح الورثة أحدهم عن إرثه‬

‫‪ .‬كزوجة مثلً مات زوجها فصالحها البن على ما يخصّها من التّركة ‪ ،‬فإنّ الصّلح يجوز في‬

‫الحالت التية ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬إذا أخذت ذهبا من التّركة قدر حصّتها من ذهب التّركة أو أقلّ ‪ ،‬أو أخذت دراهم من‬

‫ل والذّهب‬ ‫التّركة قدر حصّتها من دراهم التّركة أو أقلّ ‪ ،‬وذلك كصلحها بعشرة دنانير أو أق ّ‬

‫ثمانون عند الفرع الوارث ‪ ،‬لنّها أخذت حظّها ( أي ‪ :‬الّثمُن ) من الدّنانير أو بعضه فيكون‬

‫الباقي كأنّه هبة للورثة ‪ .‬ولكن يشترط أن يكون الذّهب الّذي أخذت منه حاضرا كلّه ‪ ،‬أو تكون‬

‫الدّراهم حاضر ًة كلّها إن أخذت منها ‪ ،‬وسواء حضر ما عدا ذلك من التّركة أم غاب ‪ ،‬لنّ‬

‫النّوع الّذي أخذت منه لو كان بعضه غائبا ترتّب على ذلك صورة ممنوعة ‪ ،‬وهي ‪ :‬اشتراط‬

‫تعجيل الثّمن في بيع الشّيء الغائب بيعا لزما ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬إذا أخذت ذهبا من التّركة زائدا على حظّها دينارا واحدا فقط ‪ .‬كصلحها بأحد عشر من‬

‫الثّمانين الحاضرة ‪ ،‬لنّها أخذت نصيبها من الدّنانير ‪ ،‬وباعت لباقي الورثة حظّها من الدّراهم‬ ‫والعرض بالدّينار الزّائد ‪ ،‬فجم يع ما ف يه من الب يع وال صّرف دينار ‪ ،‬لنّه ل يجوز أن يجت مع‬

‫البيع والصّرف في أكثر من دينار ‪.‬‬

‫ولكن يشترط في هذه الحالة أن تكون التّركة كلّها من عرض ونقد حاضر ًة ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬إذا صولحت بذهب من ذهب التّركة ‪ ،‬وكان ما أخذته يزيد عمّا يخ صّها من الذّهب أكثر‬ ‫من دينار ‪ ،‬جاز هذا ال صّلح إن قلّت الدّرا هم اّل تي ت ستحقّها عن صرف دينار ‪ ،‬أو قلّت قي مة‬

‫العروض الّتـي تسـتحقّها عـن صـرف دينار ‪ ،‬أو قلّت الدّراهـم والعروض عـن صـرف دينار ‪.‬‬ ‫وإنّ ما جاز في هذه الحالت لجتماع الب يع وال صّرف في دينار وا حد ف قط ‪ ،‬لنّه ل يجوز أن‬

‫يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار ‪.‬‬

‫ويشترط أن تكون التّركة كلّها معلومةً وحاضر ًة ‪ .‬فإن كانت الدّراهم وقيمة العروض أكثر من‬ ‫صرف دينار منع الصّلح حينئذ ‪ ،‬لنّه يؤدّي إلى اجتماع البيع والصّرف في أكثر من دينار ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬إذا صولحت بعرض من عروض التّركة جاز الصّلح مطلقا ‪ ،‬سواء أكان ما أخذته قدر‬

‫نصيبها أم أقلّ أم أكثر ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬إذا كان بدل التّخارج من غير التّركة ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫ن حكم الصّلح يختلف تبعا لختلف الحالت‬ ‫‪ -‬إذا كان بدل التّخارج من غير التّركة فإ ّ‬

‫وهي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬إذا كانت التّركة عروضا وفضّةً وذهبا ‪ ،‬وصالحها الورثة بذهب من غير ذهب التّركة ‪،‬‬

‫أو بفضّة من غير فضّة التّركة ‪ ،‬فل يجوز هذا الصّلح ‪ ،‬قلّ ما أخذته عن نصيبها أو كثر ‪،‬‬ ‫لنّه بيع ذهب وفضّة وعرض بذهب أو فضّة ‪ ،‬وهذا ربا فضل ‪ ،‬وفيه ربا النّساء إن غابت‬

‫ن حكمه حكم النّقد إذا صاحبه النّقد ‪.‬‬ ‫التّركة كلّها أو بعضها ‪ ،‬ل ّ‬

‫ب ‪ -‬إذا كانت التّركة كما ذكر في الصّورة السّابقة ‪ ،‬وصالح الورثة الزّوجة بعرض من غير‬ ‫عرض التّركة جاز هذا الصّلح بشروط هي ‪:‬‬

‫أن تكون التّركة كلّها معلوم ًة للمتصالحين ليكون الصّلح على معلوم ‪ ،‬وأن تكون التّركة جميعها‬

‫حاضرةً حقيقةً في العين أو حكما في العرض ‪ ،‬بأن كانت قريبة الغيبة بحيث يجوز النّقد فيه‬ ‫فهو في حكم الحاضر ‪ ،‬وأن يكون الصّلح عن إقرار ‪ ،‬وأن يقرّ المدين بما عليه إن كان في‬

‫التّركة دين ‪ ،‬وأن يحضر وقت الصّلح إذ لو غاب لحتمل إنكاره ‪ ،‬وأن يكون مكلّفا ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬إذا كا نت التّر كة درا هم وعرضا ‪ ،‬أو ذهبا وعرضا ‪ ،‬جاز ال صّلح بذ هب من غ ير ذ هب‬

‫التّركة ‪ ،‬أو بفضّة من غير التّركة بشرط أن ل يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار ‪.‬‬

‫مذهب الشّافعيّة ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬يفرّق الشّافعيّة في تخارج الورثة بين ما إذا كان الصّلح بينهم عن إقرار أو عن إنكار ‪،‬‬

‫فإن كان عن إقرار ‪ ،‬وكان البدل من غير المتصالح عليه كان بيعا تثبت فيه أحكام البيع ‪،‬‬

‫كاشتراط القبض إن اتّفق المصالح عنه والمصالح عليه في علّة الرّبا ‪ ،‬وكاشتراط التّساوي إذا‬ ‫كان جنسا ربويّا وغير ذلك ‪.‬‬

‫وإن جرى الصّلح على بعض المتصالح عنه فهو هبة للبعض ‪ ،‬وتثبت فيه أحكام الهبة ‪.‬‬

‫هذا بالنّ سبة لل صّلح عن إقرار ‪ ،‬أمّا ال صّلح عن إنكار ف هو با طل عند هم ‪ ،‬لكنّ هم ي ستثنون من‬ ‫بطلن ال صّلح على النكار صلح الورثة فيما بينهم للضّرورة ‪ ،‬لكن يشترط أن يكون ما يعطى‬ ‫للمتصالح من نفس التّركة ل من غيرها ‪ ،‬ويستوي أن يكون التّصالح على تساو أو تفاوت ‪.‬‬

‫مذهب الحنابلة ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬لم يذكر الحنابلة صورا للتّخارج ‪ ،‬وهو يجري على قواعد الصّلح العامّة الّتي قد تكون‬

‫بيعا أو هبةً أو إبراءً ‪.‬‬

‫ويجوز أن يكون البدل من جنس المتصالح عليه ومن غير جنسه ‪ ،‬فإن كان من جنس حقّه‬

‫بقدره فهو استيفاء له ‪ ،‬وإن كان دونه فهو استيفاء لبعضه وترك للبعض الخر ‪ :‬إمّا على سبيل‬ ‫البراء أو على سبيل الهبة ‪.‬‬

‫وإن كان البدل من غير جنس المتصالح عليه كان بيعا تجري فيه أحكام البيع ‪ ،‬وتراعى شروط‬

‫الصّرف إن كان عن نقد بنقد وهكذا ‪ .‬ويشترط ‪ -‬إن كان الصّلح عن إنكار ‪ -‬أن ل يأخذ‬

‫المتصالح من جنس حقّه أكثر ممّا يستحقّ ‪ ،‬لنّ الزّائد ل مقابل له ‪ ،‬فيكون ظالما بأخذه ‪،‬‬

‫بخلف ما إذا أخذ من غير جنسه ‪ ،‬لنّه يكون بيعا في حقّ المدّعي ‪ ،‬لعتقاده أخذه عوضا ‪،‬‬

‫ويكون في حقّ المنكر بمنزلة البراء ‪ ،‬لنّه دفع المال افتداءً ليمينه ورفعا للضّرر عنه ‪.‬‬

‫كون بعض التّركة دينا قبل التّخارج ‪:‬‬

‫لو كان بعض التّركة دينا على النّاس وصالح الورثة أحدهم على أن يخرجوه من الدّين ويكون‬

‫لهم ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في جواز الصّلح حسب التّجاهات التية ‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫‪ -‬فعند الحنفيّة الصّلح باطل في العين والدّين ‪ ،‬أمّا في الدّين فلنّ فيه تمليك الدّين ‪ -‬وهو‬

‫حصّة المصالح ‪ -‬من غير من عليه الدّين وهم الورثة ‪ ،‬وأمّا في العين فلنّ الصّفقة واحدة ‪،‬‬

‫سواء بيّن حصّة الدّين أو لم يبيّن عند أبي حنيفة ‪ ،‬وهو قول صاحبيه على الصحّ ‪ .‬وقد ذكر‬ ‫الحنفيّة بعض الصّور لتصحيح هذا الصّلح وهي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أن يشترط الورثة أن يبرئ المصالح الغرماء من حصّته من الدّين ‪ ،‬لنّه حينئذ يكون‬

‫إسقاطا ‪ ،‬أو هو تمليك الدّين ممّن عليه الدّين وهو جائز ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬أن يعجّل الورثة قضاء نصيب المصالح من الدّين متبرّعين ويحيلهم بحصّته ‪.‬‬

‫وفي هذين الوجهين ضرر بقيّة الورثة ‪ ،‬لنّ في الولى ل يمكنهم الرّجوع على الغرماء بقدر‬ ‫المصالح به ‪ .‬وكذا في الثّانية ‪ ،‬لنّ النّقد خير من النّسيئة ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪ -‬والحنابلة كالحنفيّة ل يجوز عندهم بيع الدّين لغير من عليه الدّين ‪ ،‬ولكن يصحّ إبراء‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬أمّا عند المالكيّة ‪ :‬فإنّه يجوز بيع الدّين لغير من عليه الدّين بشروطه ‪ ،‬وعلى ذلك فإنّه‬

‫الغريم منه أو الحوالة به عليه ‪.‬‬

‫يجوز الصّلح عن الدّين الّذي على الغير ‪ ،‬حيث يجوز بيع الدّين ‪ ،‬ويمتنع الصّلح عنه حيث‬

‫يمتنع بيعه ‪ .‬فيجوز الصّلح عن الدّين إذا كان الدّين حيوانا أو عرضا أو طعاما من قرض ‪،‬‬

‫وبشرط أن يكون المدين حاضرا ‪ ،‬وأن يكون مقرّا بالدّين ‪ ،‬وأن يكون مكلّفا ‪ ،‬ويمتنع في غير‬ ‫ما تقدّم ‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬والظهر عند الشّافعيّة ‪ -‬على ما جاء في مغني المحتاج ‪ -‬بطلن بيع الدّين لغير من‬

‫عليه ‪ ،‬والمعتمد جواز بيعه لغير من عليه بشروطه ‪ ،‬بأن يكون المدين مليّا مقرّا والدّين حالّا‬

‫مستقرّا ‪ .‬وقال النّوويّ ‪ :‬لو قال أحد الوارثين لصاحبه ‪ :‬صالحتك من نصيبي على هذا‬

‫الثّوب ‪ ،‬فإن كانت التّركة ديونا على غيره فهو بيع دين لغير من عليه ‪ ،‬وإن كان فيها عين‬ ‫ودين على الغير ‪ -‬ولم نجوّز بيع الدّين لغير من هو عليه ‪ -‬بطل الصّلح في الدّين ‪ ،‬وفي‬

‫العين القولن في تفريق الصّفقة ‪.‬‬

‫ولو مات شخص عن ابنين ‪ ،‬والتّركة ألفا درهم ومائة دينار ‪ ،‬وهي دين في ذمّة الغير ‪،‬‬

‫فصالح أحدهما أخاه من الدّين على ألفي درهم جاز ‪ ،‬لنّه إذا كان في ال ّذمّة فل ضرورة إلى‬

‫تقدير المعاوضة فيه ‪ ،‬فيجعل مستوفيا لحد اللفين ومعتاضا عن الدّنانير اللف الخر ‪.‬‬

‫ظهور دين على التّركة بعد التّخارج ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬الصل أنّ الدّين يتعلّق بالتّركة ‪ ،‬ويقدّم سداده على تقسيم التّركة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬

‫{ مِنْ بعدِ وَصيّةٍ يُوصَى بها أو َديْنٍ } ‪.‬‬

‫لكن الفقهاء يختلفون في وقت ابتداء ملكيّة الوارث للتّركة إذا كانت مدينةً ‪ .‬فعند الحنفيّة‬ ‫والمالكيّة ل تنتقل ملكيّة التّركة إلى الورثة إلّ بعد سداد الدّين ‪.‬‬

‫والصّحيح عند الشّافعيّة ‪ ،‬وإحدى الرّوايات عند الحنابلة ‪ .‬تنتقل ملكيّة التّركة للوارث قبل سداد‬

‫الدّين مع تعلّق الدّين بها ‪ ،‬وهذا في الجملة ‪.‬‬

‫وفائدة هذا الخلف أنّ الغلّة الّتي تحدث من وقت الوفاة إلى وقت السّداد يتعلّق بها الدّين عند‬

‫ن التّركة ل تدخل في ملك الوارث مع تعلّق الدّين بها ‪.‬‬ ‫من يقول ‪ :‬إ ّ‬

‫وتكون للوارث عند من يقول ‪ :‬إنّ التّركة تدخل في ملك الوارث ولو كانت مدينةً ‪.‬‬

‫ومع هذا الختلف فإنّه إذا تصالح الورثة فيما بينهم ‪ ،‬وأخرجوا أحدهم ‪ ،‬واقتسموا التّركة ‪ ،‬ثمّ‬

‫ظهر دين بعد الصّلح محيط بالتّركة ‪ ،‬فإنّه إذا قضى الورثة الدّين ‪ ،‬أو أبرأ الغرماء ‪ ،‬أو ضمن‬

‫رجل بشرط أن ل يرجع على الورثة مضى الصّلح ول يبطل ‪.‬‬

‫وإن امتنع الورثة من الداء ‪ ،‬ولم يضمن أحد ‪ ،‬ولم يبرئ الغرماء بطل الصّلح ‪.‬‬

‫وهذا باتّفاق في الجملة ‪ .‬إذ في قول عند المالكيّة يقيّد البطلن بما إذا كان المقسوم مقوّما ‪.‬‬

‫بخلف ما لو كان عينا أو مثليّا ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( صلح ‪ -‬قسمة ‪ -‬دين ‪ -‬تركة ) ‪.‬‬

‫ظهور دين للميّت بعد التّخارج ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬لو صالح الورثة أحدهم وخرج من بينهم ‪ ،‬ثمّ ظهر للميّت شيء ‪ ،‬فإمّا أن يكون عينا وإمّا‬

‫أن يكون دينا ‪ :‬فإن كان عينا فالشهر أنّها ل تندرج تحت الصّلح الّذي تمّ بين الورثة ‪ .‬وإنّما‬

‫تقسم بين الكلّ ‪ ،‬أي يكون هذا الّذي ظهر بين الكلّ ‪ .‬وتسمع الدّعوى بها على هذا ‪ .‬وقيل ‪:‬‬ ‫تدخل في الصّلح فل تسمع الدّعوى بها ‪.‬‬

‫وكذا الحكم لو صدر بعد الصّلح إبراء عامّ ‪ ،‬ثمّ ظهر للمصالح عين ‪ ،‬فالصحّ سماع الدّعوى‬

‫بناءً على القول بعدم دخولها تحت الصّلح ‪ ،‬ول تسمع بناءً على القول بدخولها ‪.‬‬

‫وهذا إذا اعترف بقيّة الورثة بأنّ العين من التّركة ‪ ،‬وإلّ فل تسمع دعواه بعد البراء ‪.‬‬

‫وإن كان ما ظهر في التّركة دينا فعلى القول بعدم دخوله في الصّلح يصحّ الصّلح ويقسم الدّين‬

‫بين الكلّ ‪ ،‬وعلى القول بالدّخول فالصّلح فاسد كما لو كان الدّين ظاهرا وقت الصّلح ‪ ،‬إلّ أن‬

‫يكون مخرجا من الصّلح ‪ ،‬بأن وقع التّصريح بالصّلح عن غير الدّين من أعيان التّركة فل‬

‫يفسد الصّلح ‪ .‬وإن وقع الصّلح على جميع التّركة فسد كما لو كان الدّين ظاهرا وقت الصّلح ‪،‬‬

‫هذا مذهب الحنفيّة وقواعد المذاهب الخرى تساير ما قاله الحنفيّة في الجملة ‪ .‬وينظر تفصيل‬ ‫ذلك في ( صلح ‪ -‬إبراء ‪ -‬دعوى ‪ -‬قسمة ) ‪.‬‬

‫كيفيّة تقسيم التّركة بعد التّخارج ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬إذا تصالح الورثة مع أحدهم على أن يترك حصّته لهم ‪ ،‬ويأخذ بدلها جزءا معيّنا من‬

‫التّركة ‪ ،‬فإنّ طريقة التّقسيم أن تصحّح المسألة باعتبار المصالح موجودا بين الورثة ‪ ،‬ثمّ‬

‫تطرح سهامه من التّصحيح ‪ ،‬ثمّ يقسم باقي التّركة على سهام الباقين من الورثة ‪.‬‬

‫مثال ذلك ‪ :‬توفّيت امرأة عن زوج وأمّ وعمّ ‪ ،‬فمع وجود الزّوج تكون المسألة من ستّة ‪،‬‬

‫للزّوج منها ثلثة أسهم ‪ ،‬وللمّ سهمان ‪ ،‬وللعمّ الباقي وهو سهم واحد ‪ .‬فإن صالح الزّوج عن‬

‫نصيبه ‪ -‬الّذي هو النّصف ‪ -‬على ما في ذمّته للزّوجة من المهر على أن يخرج من التّركة ‪،‬‬

‫فإنّ سهامه تسقط في نظير ما أخذ ‪ ،‬والباقي من التّركة ‪ -‬وهو ما عدا المهر ‪ -‬يقسم بين المّ‬ ‫والعمّ بقدر سهامهما من أصل المسألة فيكون للمّ سهمان وللع ّم سهم ‪.‬‬

‫ول يجوز أن يجعل الزّوج كأنّه غير موجود ما دام قد خرج عن نصيبه ‪ ،‬لنّه لو جعل كذلك‬

‫وجعلت التّركة ما وراء المهر ‪ ،‬وتمّ التّقسيم على هذا الساس ‪ ،‬لنقلب فرض المّ من ثلث‬

‫أصل المال إلى ثلث ما بقي ‪ ،‬إذ يقسم الباقي بينهما أثلثا ‪ ،‬فيكون للمّ سهم وللع ّم سهمان ‪،‬‬

‫ستّة‬ ‫وهو خلف الجماع إذ حقّها ثلث الصل ‪ ،‬أمّا إذا أدخلنا الزّوج كان للمّ سهمان من ال ّ‬

‫وللعمّ سهم واحد ‪ ،‬فيقسم الباقي بينهما على هذه الطّريقة فتكون مستوفيةً حقّها من الميراث ‪.‬‬

‫هذا إذا كان التّخارج على شيء من التّركة ‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪ -‬أمّا إذا كان التّخارج على شيء من المال من غير التّركة ‪ ،‬فإنّ المتخارج يكون قد باع‬

‫نصيبه من التّركة نظير الثّمن الّذي دفعه سائر الورثة من أموالهم الخاصّة ‪ ،‬لتخلص التّركة‬ ‫كلّها لهم ‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫‪ -‬فإذا كان ما دفعه الورثة هو بنسبة سهام كلّ منهم ‪ ،‬فإنّ التّركة تقسم كما قسمت في‬

‫ل وارث قبل التّخارج ‪،‬‬ ‫صكّ‬ ‫الصّورة السّابقة ‪ ،‬وذلك بأن يعرف أصل المسألة والسّهام الّتي تخ ّ‬

‫ثمّ تسقط حصّة المتخارج في نظير ما تخارج عليه وتقسم التّركة على باقي الورثة بقدر‬

‫ل منهم ‪ ،‬لنّهم دفعوا‬ ‫سهامهم من أصل المسألة ‪ ،‬ثمّ تقسم حصّة المتخارج بينهم بنسبة سهام ك ّ‬ ‫البدل على هذه النّسبة ‪.‬‬

‫ن حصّة الخارج تقسم بينهم بالتّساوي ‪ ،‬وذلك بعد أن يأخذ‬ ‫وإذا كان ما دفعه الورثة بالتّساوي فإ ّ‬

‫كلّ منهم نصيبه من التّركة بنسبة سهامه فيها على اعتبار أنّه لم يحصل تخارج من أحد ‪ .‬وإن‬

‫كان ما دفعه الورثة متفاوتا في القدر فإنّ حصّة الخارج تقسم بينهم على قدر هذا التّفاوت ‪ ،‬بعد‬

‫ل منهم نصيبه من التّركة بنسبة سهامه ‪.‬‬ ‫أخذ ك ّ‬ ‫‪25‬‬

‫‪ -‬وإذا تخارج وارث مع وارث آخر على أن يترك له نصيبه ‪ ،‬فإنّ التّركة تقسم بين الورثة‬

‫جميعا على اعتبار أنّه لم يحصل تخارج ‪ ،‬ويئول نصيب المتخارج بعد ذلك لمن دفع له البدل ‪.‬‬

‫تخارج الموصى له بشيء من التّركة ‪:‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ -‬الموصى له بشيء من التّركة ‪ .‬يجوز أن يتخارج معه الورثة عن نصيبه الموصى له به‬

‫‪ .‬والحكم في ذلك كالحكم في تخارج الورثة مع أحدهم ‪ ،‬فيراعى فيه الشّروط الّتي سبق ذكرها‬

‫في صور التّخارج ‪ ،‬من اعتبار كون البدل نقدا أو غيره ‪ ،‬وكونه أقلّ ممّا يستحقّ أو مساويا أو‬

‫أكثر ‪ ،‬واعتبار شروط الصّرف والتّحرّز عن الرّبا وغير ذلك من الشّروط ‪.‬‬

‫وفي كيفيّة تخارج الورثة مع الموصى له يقول ابن عابدين ‪ :‬الموصى له بمبلغ من التّركة‬ ‫كوارث ‪ .‬وصورة ذلك ‪ :‬رجل أوصى لرجل بدار وترك ابنا وابنةً فصالح البن والبنة‬

‫الموصى له بالدّار على مائة درهم ‪ ،‬قال أبو يوسف ‪ :‬إن كانت المائة من مالهما غير الميراث‬

‫كانت الدّار بينهما نصفين ‪ ،‬وإن صالحاه من المال الّذي ورثاه عن أبيهما كان المال بينهما‬ ‫أثلثا ‪ ،‬لنّ المائة كانت بينهما أثلثا ‪.‬‬

‫وذكر الخصّاف في الحيل ‪ :‬إن كان الصّلح عن إقرار كانت الدّار الموصى بها بينهما نصفين ‪،‬‬ ‫وإن كان الصّلح عن إنكار فعلى قدر الميراث ‪ .‬وعلى هذا بعض المشايخ ‪ .‬وكذلك الصّلح عن‬

‫الميراث ‪ .‬كذا في قاضي خان وللتّفصيل ينظر ( صلح ‪ -‬قسمة ‪ -‬تركة ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تخاير *‬

‫‪ -‬التّخاير هو ‪ :‬اختيار المتعاقدين لزوم العقد في المجلس ‪ ،‬سواء أكان صريحا أم ضمنا ‪.‬‬

‫أمّا الصّريح ‪ :‬فكقولهما بهذا اللّفظ ‪ :‬تخايرنا ‪ ،‬أو اخترنا إمضاء العقد ‪ ،‬أو ألزمناه ‪ ،‬أو‬

‫أجزناه ‪ ،‬وما أشبهها ‪ ،‬لنّ الخيار حقّهما ‪ ،‬فسقط بإسقاطهما ‪ .‬ومن صيغ ذلك أيضا قولهما ‪:‬‬

‫أبطلنا الخيار ‪ .‬أو أفسدناه ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة ‪ .‬وأمّا الضّمنيّ ‪ :‬فكأن يتبايع العاقدان‬ ‫العوضين بعد قبضهما في المجلس ‪ ،‬لنّ ذلك يتضمّن الرّضا بلزوم العقد الوّل ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪ ،‬ومواطن البحث ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬اتّفق الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في الصحّ ‪ ،‬وابن حبيب من المالكيّة على أ نّ كلّ عقد ثبت فيه‬

‫خيار المجلس فإنّ الخيار ينقطع بالتّخاير ‪ ،‬وهذا لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫« المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا ‪ ،‬أو يقول أحدهما للخر ‪ :‬اختر » ‪.‬‬

‫وينقطع الخيار بالتّخاير ‪ ،‬بأن يختارا لزوم العقد بهذا اللّفظ أو نحوه ‪ :‬كأمضيناه ‪ ،‬أو ألزمناه ‪،‬‬ ‫أو أجزناه ‪ .‬فلو اختار أحدهما لزومه سقط حقّه في الخيار وبقي الحقّ فيه للخر ‪.‬‬

‫ولو قال أحدهما للخر ‪ :‬اختر سقط خياره لتضمّنه الرّضا باللّزوم ‪ ،‬ويدلّ عليه الحديث‬

‫السّابق ‪ ،‬وبقي خيار الخر ‪ ،‬ولو اختار أحدهما لزوم العقد والخر فسخه قدّم الفسخ ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬ثمّ التّخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد عند الحنابلة ‪ ،‬والتّخاير في ابتداء العقد‬

‫أن يقول البائع ‪ :‬بعتك ول خيار بيننا ‪ ،‬ويقبل الخر على ذلك ‪ ،‬فل يكون لهما خيار المجلس‬

‫في هذه الحالة ‪ ،‬وأمّا عند الشّافعيّة فلو تبايعا بشرط نفي خيار المجلس فثلثة أوجه ‪ :‬أصحّها ‪:‬‬

‫البيع باطل ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬البيع صحيح ول خيار ‪ ،‬والثّالث ‪ :‬البيع صحيح ‪ ،‬والخيار ثابت ‪.‬‬

‫وطالما أنّ التّخاير يرد على خيار المجلس ‪ ،‬فل مجال للكلم عنه عند الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ما‬ ‫عدا ابن حبيب ‪ ،‬لنّهم ل يرون جواز خيار المجلس ول يقولون به ‪.‬‬

‫وتفصيل ذلك في مصطلح ( خيار المجلس ) وقد تحدّث الفقهاء عنه في كتاب البيوع عند الكلم‬ ‫عن الخيار ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تخبيب *‬

‫‪ -‬التّخبيب ‪ :‬مصدر خبّب ‪ ،‬ومعناه في اللّغة ‪ :‬إفساد الرّجل عبدا أو أمةً لغيره أو صديقا‬

‫خبّ ‪ :‬فمعناه‬ ‫على صديقه ‪ ،‬يقال ‪ :‬خبّبها فأفسدها ‪ .‬وخبّب فلن غلمي ‪ :‬أي خدعه ‪ .‬وأمّا ال َ‬

‫ش ّر بخلف الخبّ ‪ .‬ول‬ ‫الفساد والخبث والغشّ ‪ ،‬وهو ضدّ ال ِغرّ ‪ ،‬إذ الغرّ ‪ :‬هو الّذي ل يفطن لل ّ‬

‫يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الغراء ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الغراء في اللّغة ‪ :‬مصدر أغرى ‪ ،‬وأغري بالشّيء ‪ :‬أولع به ‪ ،‬يقال ‪ :‬أغريت الكلب‬

‫بالصّيد ‪ ،‬وأغريت بينهم العداوة ‪.‬‬

‫ول يخرج الستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى وهو أعمّ من التّخبيب ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬إفساد ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬الفساد ‪ :‬مصدر أفسد ‪ ،‬وهو في اللّغة يقابل الصلح ‪.‬‬

‫وأمّا في الصطلح ‪ ،‬فقد ذكر صاحب الكّليّات أنّه ‪ :‬جعل الشّيء فاسدا خارجا عمّا ينبغي أن‬

‫يكون عليه وعن كونه منتفعا به ‪ ،‬وفي الحقيقة ‪ :‬هو إخراج الشّيء عن حالة محمودة ل‬ ‫لغرض صحيح ‪.‬‬

‫والفساد أعمّ ‪ ،‬لنّه يكون في المور الما ّديّة والمعنويّة ‪ ،‬بخلف التّخبيب لنّه إفساد خاصّ ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّحريض ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّحريض ‪ :‬مصدر حرّض ‪ ،‬ومعناه ‪ :‬الحثّ على الشّيء والحماء عليه ‪ ،‬ومنه قوله‬

‫حرّض المؤمنينَ على القتالِ } ‪.‬‬ ‫تعالى { يا أيّها النّبيّ َ‬

‫شرّ ‪.‬‬ ‫ل في ال ّ‬ ‫شرّ ‪ ،‬بخلف التّخبيب فإنّه ل يكون إ ّ‬ ‫وهو أعمّ ‪ ،‬لنّه يكون في الخير وال ّ‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫ب ول بخيل ول منّان » ‪ ،‬وحديث « الفاجر‬ ‫‪ -‬التّخبيب حرام ‪ ،‬لحديث « لن يدخل الجنّة خ ّ‬

‫خبّ لئيم » وحديث « من خبّب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منّا » أي خدعه وأفسده ‪ ،‬ولما‬

‫يترتّب عليه من الفساد والضرار ‪ .‬وتخبيب زوجة الغير خداعها وإفسادها ‪ ،‬أو تحسين‬

‫الطّلق إليها ليتزوّجها أو يزوّجها غيره ‪ ،‬ولفظ المملوك الوارد في الحديث يتناول المة ‪.‬‬

‫خبّب بمن خبّبها ‪:‬‬ ‫حكم زواج الم َ‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬انفرد المالكيّة بذكرهم الحكم في هذه المسألة ‪ ،‬وصورتها ‪ :‬أن يفسد رجل زوجة رجل‬

‫آخر ‪ ،‬بحيث يؤدّي ذلك الفساد إلى طلقها منه ‪ ،‬ثمّ يتزوّجها ذلك المفسد ‪.‬‬

‫ن النّكاح يفسخ قبل الدّخول وبعده بل خلف عندهم ‪ ،‬وإنّما الخلف عندهم في تأبيد‬ ‫فقد ذكروا أ ّ‬ ‫تحريمها على ذلك المفسد أو عدم تأبيده ‪ ،‬فذكروا فيه قولين ‪:‬‬

‫أحدهما وهو المشهور ‪ :‬أنّه ل يتأبّد ‪ ،‬فإذا عادت لزوجها الوّل وطلّقها ‪ ،‬أو مات عنها جاز‬ ‫لذلك المفسد نكاحها ‪.‬‬

‫الثّاني ‪ :‬أنّ التّحريم يتأبّد ‪ ،‬وقد ذكر هذا القول يوسف بن عمر كما جاء في شرح الزّرقانيّ ‪،‬‬

‫وأفتى به غير واحد من المتأخّرين في فاس ‪.‬‬

‫هذا ومع أنّ غير المالكيّة من الفقهاء لم يصرّحوا بحكم هذه المسألة ‪ ،‬إلّ أنّ الحكم فيها وهو‬ ‫التّحريم معلوم ممّا سبق في الحديث المتقدّم ‪.‬‬

‫عقوبة المخبّب ‪:‬‬

‫‪ - 7‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ المعصية الّتي ل ح ّد فيها ول كفّارة عقوبتها التّعزير بما يراه‬

‫المام مناسبا ‪ ،‬وفعل المخبّب هذا ل يخرج عن كونه معصيةً ل حدّ فيها ول كفّار ًة ‪.‬‬

‫وقد ذكر الحنفيّة أنّ من خدع امرأة رجل أو ابنته وهي صغيرة ‪ ،‬وزوّجها من رجل ‪ ،‬قال‬

‫ن هذا‬ ‫محمّد رحمه ال تعالى ‪ :‬أحبسه بهذا أبدا حتّى يردّها أو يموت ‪ .‬وذكر ابن نجيم أ ّ‬

‫المخادع يحبس إلى أن يحدث توبةً أو يموت ‪ ،‬لنّه ساع في الرض بالفساد ‪.‬‬

‫وذكر الحنابلة في ( القوّادة ) الّتي تفسد النّساء والرّجال ‪ ،‬أنّ أقلّ ما يجب عليها الضّرب‬ ‫ج َتنَب ‪.‬‬ ‫البليغ ‪ ،‬وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في النّساء والرّجال ل ُت ْ‬

‫وإذا أركبت القوّادة دابّةً وضمّت عليها ثيابها ‪ ،‬ليؤمن كشف عورتها ‪ ،‬ونودي عليها هذا جزاء‬

‫من يفعل كذا وكذا ( أي يفسد النّساء والرّجال ) كان من أعظم المصالح ‪ ،‬قاله الشّيخ ( أي ابن‬ ‫ي المر كصاحب الشّرطة أن يعرّف ضررها ‪ ،‬إمّا‬ ‫قدامة ) ليشتهر ذلك ويظهر ‪ .‬وقال ‪ :‬لول ّ‬

‫بحبسها أو بنقلها عن الجيران أو غير ذلك ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تختّم *‬

‫‪ -‬التّختّم مصدر تختّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬تختّم بالخاتم أي لبسه ‪ ،‬وأصله الثّلثيّ ختم ‪.‬‬

‫ومن معاني الختم أيضا ‪ :‬الثر الحاصل عن النّقش ‪ ،‬ويتجوّز به في الستيثاق من الشّيء‬

‫والمنع منه ‪ ،‬اعتبارا لما يحصل من المنع بالختم على الكتب والبواب ‪.‬‬

‫وختم الشّيء ‪ :‬إنهاؤه ‪ ،‬ومنه ‪ :‬ختم القرآن وخاتم الرّسل ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬ما كانَ محمّدٌ‬

‫أبا أحدٍ من رجالِكم ولكنْ رسولَ الّل ِه وخا َتمَ النّبيّين } أي ‪ :‬آخرهم ‪ ،‬لنّه ختمت به النّبوّة‬

‫والرّسالت ‪ .‬ومن المجاز ‪ :‬لبس الخاتم ‪ ،‬وهو حليّ للصبع ‪ ،‬كالخاتم ‪ -‬بكسر التّاء ‪ -‬ويطلق‬

‫على الخاتم أيضا والخاتم والختم والخاتام والخيتام ‪ ،‬وثمّة ألفاظ أخرى مشتقّة من هذه المادّة‬

‫بالمعنى نفسه ‪ ،‬وصل بعضهم بها إلى عشرة ألفاظ ‪.‬‬

‫ي كأنّه أوّل وهلة ختم به ‪ ،‬فدخل بذلك في باب الطّابع ‪ ،‬ثمّ كثر استعماله‬ ‫والخاتم من الحل ّ‬

‫لذلك ‪ ،‬وإن أع ّد الخاتم لغير الطّبع ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء للتّختّم عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬التّزيّن ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّزيّن ‪ :‬مصدر تزيّن ‪ ،‬يقال ‪ :‬تزيّنت المرأة ‪ :‬أي لبست الزّينة أو اتّخذتها ‪ ،‬وتزيّنت‬

‫الرض بالنّبات ‪ :‬أي حسنت وبهجت ‪ ،‬والزّينة اسم جامع لما يتزيّن به ‪ ،‬ومعنى الزّينة عند‬

‫الرّاغب ‪ :‬ما ل يشين النسان في شيء من أحواله ل في الدّنيا ول في الخرة ‪ ،‬وهي نفسيّة‬

‫وبدنيّة وخارجيّة ‪ .‬والتّزيّن أع ّم من التّختّم ‪ ،‬لنّه يكون بالتّختّم وبغيره ‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬ال َف ْتخَة ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬الفتخة قريبة في المعنى والستعمال من الخاتم ‪ ،‬فهي مثله من الحليّ ‪ ،‬وقد تعدّدت القوال‬

‫في معناها ‪ .‬فقيل ‪ :‬هي خاتم كبير يكون في اليد والرّجل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي كالخاتم أيّا كان ‪ ،‬وقيل‬ ‫‪ :‬هي خاتم يكون في اليد والرّجل بفصّ وبغير فصّ ‪ ،‬وقيل ‪ .‬هي حلقة تلبس في الصبع‬

‫ص فيها ‪ ،‬فإذا كان فيها فصّ فهي الخاتم ‪ ،‬وروي‬ ‫كالخاتم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هي حلقة من فضّة ل ف ّ‬

‫ن إلّ ما ظَ َه َر منها }‬ ‫عن عائشة رضي ال عنها في تفسير قول اللّه تعالى ‪ { :‬ول ُي ْب ِديْنَ زِي َنتَه ّ‬

‫أنّها قالت ‪ :‬المراد بالزّينة في الية القلب والفتخة ‪ ،‬وقالت ‪ :‬الفتخ ‪ :‬حلق من فضّة يكون في‬ ‫أصابع الرّجلين ‪ ،‬قال ابن ب ّريّ ‪ :‬حقيقة الفتخة أن تكون في أصابع الرّجلين ‪ .‬فيتّفق الخاتم‬ ‫ل منهما ‪ ،‬وفي المادّة الّتي‬ ‫ل منهما ‪ ،‬ويختلفان في موضع لبس ك ّ‬ ‫والفتخة في أنّه يتزيّن بك ّ‬

‫يصنع منها ‪ ،‬وفي شكله ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّسوّر ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّسوّر مصدر تسوّر ‪ ،‬ويأتي في اللّغة بمعنى العلوّ والتّسلّق ‪ ،‬يقال ‪ :‬تسوّرت الحائط إذا‬

‫علوته وتسلّقته ‪ ،‬وبمعنى التّزيّن بالسّوار والتّحلّي به ‪ ،‬يقال ‪ :‬سوّرته أي ألبسته السّوار من‬

‫س ّو َركَ اللّهُ بهما يومَ القيامةِ سوارين من نار » ‪.‬‬ ‫س ّركَ أنْ ُي َ‬ ‫الحليّ فتسوّر ‪ ،‬وفي الحديث ‪َ « :‬أ َي ُ‬ ‫فيتّفق التّختّم مع التّسوّر في أنّهما من الزّينة ‪ ،‬ويختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬التّدملج ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬التّدملج مصدر تدملج ‪ ،‬يقال ‪ :‬تدملج أي لبس الدّملج ‪ -‬بفتح اللم وضمّها ‪ -‬أو الدّملوج‬

‫وهو المعضّد من الحليّ ‪ ،‬وهو ما يلبس في العضد ‪ ،‬ويقال أيضا ‪ :‬ألقى عليه دماليجه ‪.‬‬

‫ل منهما ‪ ،‬غير أنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع‬ ‫فالتّدملج كالتّختّم في أنّه يتزيّن بك ّ‬ ‫اللّبس ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬التّطوّق ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ي للعنق ‪ ،‬وك ّل شيء‬ ‫‪ -‬التّطوّق مصدر تطوّق ‪ ،‬يقال ‪ :‬تطوّق أي لبس الطّوق ‪ ،‬وهو حل ّ‬

‫استدار فهو طوق ‪ ،‬كطوق الرّحى الّذي يدير القطب ونحو ذلك ‪.‬‬

‫ل منهما ‪ ،‬لكنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة‬ ‫فالتّطوّق كالتّختّم في أنّه يتحلّى ويتزيّن بك ّ‬ ‫والموضع الّذي يلبس فيه كلّ منهما ‪.‬‬

‫و ‪ -‬التّنطّق ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬التّنطّق مصدر تنطّق ‪ ،‬يقال ‪ :‬تنطّق الرّجل وانتطق أي لبس المنطق ‪ ،‬والمنطق والنّطاق‬

‫والمنطقة ‪ :‬كلّ ما شددت به وسطك ‪ ،‬وقيل لسماء بنت أبي بكر رضي ال تعالى عنهما ذات‬

‫النّطاقين ‪ :‬لنّها كانت تطارق ( أي تطابق ) نطاقا على نطاق ‪ ،‬أو لنّها شقّت نطاقها ليلة‬

‫خروج النّبيّ صلى ال عليه وسلم إلى الغار ‪ ،‬فجعلت واحدةً لزاد رسول اللّه صلى ال عليه‬

‫ل وحجما‬ ‫وسلم والخرى حمّالةً له فالنّطاق كالخاتم في الحاطة ‪ ،‬لكنّهما يختلفان ما ّدةً وشك ً‬ ‫وموضعا ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫يختلف الحكم التّكليفيّ للتّختّم باختلف موضعه ‪:‬‬

‫أوّلً ‪ :‬التّختّم بالذّهب ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للنّساء التّختّم بالذّهب ‪ ،‬ويحرم على الرّجال ذلك ‪ ،‬لما روي أنّ‬

‫حرّمَ على ذكورِها‬ ‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال « ُأحِلّ الذّهبُ والحريرُ لِناثِ ُأمّتي ‪ ،‬و ُ‬ ‫» ‪ .‬واختلفوا في تختّم الصّبيّ بالذّهب ‪:‬‬

‫ن تختّم الصّبيّ بالذّهب مكروه ‪ ،‬والكراهة على من‬ ‫فذهب المالكيّة ‪ -‬في الرّاجح عندهم ‪ -‬إلى أ ّ‬

‫ألبسه أو على وليّه ‪ ،‬ومقابل الرّاجح عند المالكيّة الحرمة ‪.‬‬

‫ص الحنابلة ‪ -‬وهو قول مرجوح للمالكيّة ‪ -‬على حرمة إلباس الصّبيّ الذّهب ‪ ،‬ومنه الخاتم‬ ‫ون ّ‬ ‫‪ .‬وأطلق الحنفيّة هنا الكراهة في التّحريم ‪ ،‬واستدلّوا بحديث جابر رضي ال عنه قال ‪ « :‬كنّا‬

‫ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري » وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم ‪ -‬وعبّر‬

‫بعضهم بالصحّ ‪ -‬إلى أنّ الصّبيّ غير البالغ مثل المرأة في جواز التّختّم بالذّهب ‪ ،‬وأنّ للوليّ‬ ‫تزيينه بالحليّ من الذّهب أو الفضّة ‪ ،‬ولو في غير يوم عيد ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التّختّم بالفضّة ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز تختّم المرأة بالفضّة ‪ .‬وأمّا تختّم الرّجل بالفضّة فعلى التّفصيل‬

‫التي ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للرّجل التّختّم بالفضّة ‪ ،‬لما روي أنّ « النّبيّ صلى ال عليه‬ ‫وسلم اتّخذ خاتما من ورق ‪ ،‬وكان في يده ‪ ،‬ثمّ كان في يد أبي بكر رضي ال عنه ‪ ،‬ثمّ كان‬

‫في يد عمر رضي ال عنه ‪ ،‬ثمّ كان في يد عثمان رضي ال عنه ‪ ،‬حتّى وقع في بئر أريس ‪.‬‬

‫نقشه ‪ :‬محمّد رسول اللّه » ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّ التّختّم سنّة لمن يحتاج إليه ‪ ،‬كالسّلطان والقاضي‬ ‫ومن في معناهما ‪ ،‬وتركه لغير السّلطان والقاضي وذي حاجة إليه أفضل ‪.‬‬

‫وذهب المالكيّة إلى أنّه ل بأس بالخاتم من الفضّة ‪ ،‬فيجوز اتّخاذه ‪ ،‬بل يندب بشرط قصد‬

‫القتداء برسول اللّه صلى ال عليه وسلم ول يجوز لبسه عجبا ‪.‬‬

‫ل لبسه ‪،‬‬ ‫ل للرّجل الخاتم من الفضّة ‪ ،‬سواء من له ولية وغيره ‪ ،‬فيجوز لك ّ‬ ‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يح ّ‬

‫بل يسنّ ‪ .‬وقال الحنابلة ‪ :‬يباح للذّكر الخاتم من الفضّة ‪ ،‬لنّه صلى ال عليه وسلم « اتّخذ‬

‫ن ابن عمر‬ ‫خاتما من ورق » ‪ ،‬قال أحمد في خاتم الفضّة للرّجل ‪ :‬ليس به بأس ‪ ،‬واحتجّ بأ ّ‬

‫رضي ال عنهما كان له خاتم ‪ ،‬وظاهر ما نقل عن أحمد أنّه ل فضل فيه ‪ .‬وجزم به في‬

‫التّلخيص وغيره ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يستحبّ ‪ ،‬قدّمه في الرّعاية ‪ .‬وقيل ‪ :‬يكره لقصد الزّينة ‪ .‬جزم به‬ ‫ابن تميم ‪ .‬وأمّا تختّم الصّبيّ بالفضّة فجائز عند الفقهاء ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬التّختّم بغير الذّهب والفضّة ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫ن التّختّم بالحديد والنّحاس‬ ‫‪ -‬ذهب المالكيّة ‪ -‬في المعتمد عندهم ‪ -‬والحنابلة إلى أ ّ‬

‫ل جاء إلى رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫ن رج ً‬ ‫والرّصاص مكروه للرّجال والنّساء ‪ ،‬لما روي « أ ّ‬

‫وسلم عليه خاتم شبه ‪ -‬نحاس أصفر ‪ -‬فقال له ‪ :‬إنّي أجد منك ريح الصنام فطرحه ‪ .‬ثمّ جاء‬

‫وعليه خاتم حديد فقال ‪ :‬ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ :‬من‬

‫ل»‪.‬‬ ‫أيّ شيء أتّخذه ؟ قال ‪ :‬اتّخذه من ورق ول تتمّه مثقا ً‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ التّختّم بالجلد والعقيق والقصدير والخشب جائز للرّجال والنّساء ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬إنّه يباح للرّجل والمرأة التّحلّي بالجوهر والزّمرّد والزّبرجد والياقوت والفيروز‬

‫واللّؤلؤ ‪ ،‬أمّا العقيق فقيل ‪ :‬يستحبّ تختّمهما به ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يباح التّختّم بالعقيق لما في رواية مهنّا‬ ‫سنّة ؟ يعني في التّختّم ‪ ،‬فأجاب بقوله ‪ :‬لم تكن خواتيم القوم إلّ‬ ‫‪ ،‬وقد سئل المام أحمد ‪ :‬ما ال ّ‬

‫من الفضّة ‪ .‬قال صاحب كشّاف القناع ‪ :‬الدّملج في معنى الخاتم ‪.‬‬ ‫واختلف الحنفيّة في التّختّم بغير الذّهب والفضّة ‪.‬‬

‫ن التّختّم بالفضّة حلل للرّجال بالحديث ‪ ،‬وبالذّهب والحديد‬ ‫والحاصل كما قال ابن عابدين ‪ :‬أ ّ‬ ‫والصّفر حرام عليهم بالحديث ‪ ،‬وبالحجر حلل على اختيار شمس الئمّة وقاضي خان أخذا‬

‫ل سائر‬ ‫ن حلّ العقيق لمّا ثبت بهما ثبت ح ّ‬ ‫من قول الرّسول وفعله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ل ّ‬

‫الحجار لعدم الفرق بين حجر وحجر ‪ ،‬وحرام على اختيار صاحب الهداية والكافي أخذا من‬

‫ل بالفضّة ‪ .‬فإنّها يحتمل أن يكون القصر فيها بالضافة إلى‬ ‫عبارة الجامع الصّغير ‪ :‬ول يتختّم إ ّ‬

‫الذّهب ‪ ،‬ول يخفى ما بين المأخذين من التّفاوت ‪.‬‬

‫واختلف الشّافعيّة أيضا في التّختّم بغير الذّهب والفضّة ‪ ،‬وقد ورد في المجموع طرف من هذا‬

‫الخلف ‪ ،‬وهو ‪ :‬قال صاحب البانة ‪ :‬يكره الخاتم من حديد أو شبه ‪ -‬نوع من النّحاس ‪-‬‬

‫وتابعه صاحب البيان ‪ ،‬وأضاف إليهما الخاتم من رصاص ‪ ،‬وقال صاحب التّتمّة ‪ :‬ل يكره‬

‫الخاتم من حديد أو رصاص لحديث الواهبة نفسها ‪ ،‬ففيه قوله للّذي أراد تزوّجها ‪ « :‬انظر ولو‬

‫خاتما من حديد » ‪.‬‬

‫وفي حاشية القليوبيّ ‪ :‬ول بأس بلبس غير الفضّة من نحاس أو غيره ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬موضع التّختّم ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬لم يختلف الفقهاء في موضع التّختّم بالنّسبة للمرأة ‪ ،‬لنّه تزيّن في حقّها ‪ ،‬ولها أن تضع‬

‫خاتمها في أصابع يديها أو رجليها أو حيث شاءت ‪.‬‬

‫ولكنّ الفقهاء اختلفوا في موضع التّختّم للرّجل ‪ ،‬بل إنّ فقهاء بعض المذاهب اختلفوا فيما بينهم‬

‫في ذلك ‪ :‬فذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه ينبغي أن يكون تختّم الرّجل في خنصر يده اليسرى ‪،‬‬ ‫دون سائر أصابعه ‪ ،‬ودون اليمنى ‪.‬‬

‫وذهب بعضهم إلى أنّه يجوز أن يجعل خاتمه في يده اليمنى ‪ ،‬وسوّى الفقيه أبو اللّيث في شرح‬

‫الجامع الصّغير بين اليمين واليسار ‪ ،‬لنّه قد اختلفت الرّوايات عن رسول اللّه صلى ال عليه‬

‫وسلم في ذلك ‪ ،‬وقول بعضهم ‪ :‬إنّه في اليمين من علمات أهل البغي ليس بشيء ‪ ،‬لنّ النّقل‬

‫الصّحيح عن « رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ينفي ذلك » ‪.‬‬

‫والمختار عند مالك رحمه ال التّختّم في اليسار على جهة النّدب ‪ ،‬وجعل الخاتم في الخنصر ‪،‬‬ ‫وكان مالك يلبسه في يساره ‪ ،‬قال أبو بكر بن العربيّ في القبس شرح الموطّأ ‪ :‬صحّ عن‬

‫« رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه تختّم في يمينه وفي يساره ‪ ،‬واستقرّ الكثر على أنّه كان‬ ‫سنّة‬ ‫يتختّم في يساره » ‪ ،‬فالتّختّم في اليمين مكروه ‪ ،‬ويتختّم في الخنصر ‪ ،‬لنّه بذلك أتت ال ّ‬

‫عنه صلى ال عليه وسلم والقتداء به حسن ‪ .‬ولنّ كونه في اليسار أبعد عن العجاب ‪ .‬وقال‬

‫الشّافعيّة ‪ :‬يجوز للرّجل لبس خاتم الفضّة في خنصر يمينه ‪ ،‬وإن شاء في خنصر يساره ‪،‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم لكنّ الصّحيح المشهور أنّه في اليمين أفضل‬ ‫ح فعله عن النّب ّ‬ ‫كلهما ص ّ‬ ‫لنّه زينة ‪ ،‬واليمين أشرف ‪.‬‬

‫وقال بعضهم ‪ :‬في اليسار أفضل ‪ .‬وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أنّ ابن عمر رضي ال‬

‫عنهما كان يتختّم في يساره ‪ ،‬وبإسناد حسن أنّ ابن عبّاس رضي ال عنهما تختّم في يمينه‪.‬‬

‫سبّابة منهيّ عنه لما ورد عن عليّ رضي ال تعالى‬ ‫وعند الشّافعيّة أنّ التّختّم في الوسطى وال ّ‬ ‫عنه قال ‪ « :‬نهاني رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن أتختّم في أصبعي هذه أو هذه قال ‪:‬‬

‫فأومأ إلى الوسطى والّتي تليها » ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬لبس الخاتم في خنصر اليسار أفضل من لبسه في خنصر اليمين ‪ ،‬نصّ عليه‬

‫في رواية صالح ‪ ،‬وضعّف في رواية الثرم وغيره التّختّم في اليمنى ‪ ،‬قال الدّارقطنيّ وغيره‬ ‫‪ :‬المحفوظ أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يتختّم في يساره ‪ ،‬وأنّه إنّما كان في الخنصر‬

‫لكونه طرفا ‪ ،‬فهو أبعد عن المتهان فيما تتناوله اليد ‪ ،‬ولنّه ل يشغل اليد عمّا تتناوله ‪ .‬وعند‬ ‫الحنابلة أنّه يكره لبس الخاتم في سبّابة ووسطى للنّهي الصّحيح عن ذلك ‪.‬‬

‫وظاهره ل يكره لبسه في البهام والبنصر ‪ ،‬وإن كان الخنصر أفضل اقتصارا على الّنصّ ‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬وزن خاتم الرّجل ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في الوزن المباح لخاتم الرّجل ‪ :‬فعند الحنفيّة ‪ ،‬قال الحصكفيّ ‪ :‬ل يزيد‬

‫الرّجل خاتمه على مثقال ‪ .‬ورجّح ابن عابدين قول صاحب الذّخيرة أنّه ل يبلغ به المثقال ‪،‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قائلً ‪ :‬من أيّ شيء أتّخذه ؟ ‪-‬‬ ‫ل سأل النّب ّ‬ ‫ن « رج ً‬ ‫واستدلّ بما روي أ ّ‬

‫يعني الخاتم ‪ -‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اتّخذه من ورق ‪ ،‬ول تتمّه مثقالً » ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬يجوز للذّكر لبس خاتم الفضّة إن كان وزن درهمين شرعيّين أو أقلّ ‪ ،‬فإن زاد‬ ‫عن درهمين حرم ‪.‬‬

‫ولم يحدّد الشّافعيّة وزنا للخاتم المباح ‪ ،‬قال الخطيب الشّربينيّ ‪ :‬لم يتعرّض الصحاب لمقدار‬

‫الخاتم المباح ‪ ،‬ولعلّهم اكتفوا فيه بالعرف ‪ ،‬أي عرف البلد وعادة أمثاله فيها ‪ ،‬فما خرج عن‬

‫ذلك كان إسرافا ‪ ...‬هذا هو المعتمد ‪ ،‬وإن قال الذرعيّ ‪ :‬الصّواب ضبطه بدون مثقال ‪ ،‬لما‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال‬ ‫في صحيح ابن حبّان وسنن أبي داود عن أبي هريرة « أ ّ‬

‫للبس الخاتم الحديد ‪ :‬ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه وقال ‪ :‬يا رسول اللّه من أيّ‬

‫شيء أتّخذه ؟ قال ‪ :‬اتّخذه من ورق ول تتمّه مثقالً » قال ‪ :‬وليس في كلمهم ما يخالفه ‪ .‬وهذا‬ ‫ل ينافي ما ذكر لحتمال أنّ ذلك كان عرف بلده وعادة أمثاله ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل بأس بجعله مثقالً فأكثر ‪ ،‬لنّه لم يرد فيه تحديد ‪ ،‬ما لم يخرج عن العادة ‪،‬‬ ‫وإلّ حرم ( قالوا ) لنّ الصل التّحريم ‪ ،‬وإنّما خرج المعتاد لفعله صلى ال عليه وسلم وفعل‬

‫الصّحابة ‪.‬‬

‫سادسا ‪ :‬عدد خواتم الرّجل ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في حكم تعدّد خواتم الرّجل ‪:‬‬

‫فنصّ المالكيّة على أنّه ل يباح للرّجل أكثر من خاتم واحد ‪ ،‬فإن تعدّد الخاتم حرم ولو كان في‬ ‫حدود الوزن المباح شرعا ‪.‬‬

‫واختلف فقهاء الشّافعيّة في تعدّد الخاتم ‪ ،‬ونقل صاحب مغني المحتاج جانبا من هذا الخلف في‬ ‫قوله ‪ :‬وفي الرّوضة وأصلها ‪ :‬ولو اتّخذ الرّجل خواتيم كثيرةً ليلبس الواحد منها بعد الواحد‬

‫جاز ‪ ،‬فظاهره الجواز في التّخاذ دون اللّبس ‪ ،‬وفيه خلف مشهور ‪ ،‬والّذي ينبغي اعتماده فيه‬

‫أنّه جائز ما لم يؤ ّد إلى سرف ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬لو اتّخذ الرّجل لنفسه عدّة خواتيم ‪ ،‬فالظهر جوازه إن لم يخرج عن العادة ‪،‬‬

‫والظهر جواز لبس الرّجل خاتمين فأكثر جميعا إن لم يخرج عن العادة ‪.‬‬ ‫ولم نجد كلما للحنفيّة في هذه المسألة ‪.‬‬

‫سابعا ‪ :‬النّقش على الخاتم ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز النّقش على الخاتم ‪ ،‬وعلى أنّه يجوز نقش اسم صاحب الخاتم‬

‫عليه ‪ ،‬واختلفوا في نقش لفظ الجللة أو ال ّذكْر ‪:‬‬

‫فقال الحنفيّة والشّافعيّة ‪ :‬يجوز أن ينقش لفظ الجللة أو ألفاظ الذّكر على الخاتم ‪ ،‬ولكنّه يجعله‬ ‫في كمّه إن دخل الخلء ‪ ،‬وفي يمينه إذا استنجى ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬يكره أن يكتب على الخاتم ذكر اللّه تعالى من القرآن أو غيره نصّا ‪ ،‬قال‬

‫إسحاق بن راهويه ‪ :‬ل يدخل الخلء به ‪ ،‬وقال في الفروع ‪ :‬ولعلّ أحمد كرهه لذلك ‪ ،‬قال ‪:‬‬

‫ولم أجد للكراهة دليلً سوى هذا ‪ ،‬وهي تفتقر إلى دليل والصل عدمه ‪ .‬وقال الحنابلة أيضا ‪:‬‬

‫يحرم أن ينقش عليه صورة حيوان ‪ ،‬ويحرم لبسه والصّورة عليه كالثّوب المصوّر ‪ ،‬ولم ير‬ ‫بعض الحنفيّة بأسا في نقش ذلك إذا كان صغيرا بحيث ل يبصر عن بعد ‪.‬‬

‫ثامنا ‪ :‬فصّ الخاتم ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يجوز أن يكون لخاتم الرّجل المباح فصّ من مادّته‬

‫ضيّة أو من مادّة أخرى على التّفصيل التي ‪:‬‬ ‫الف ّ‬

‫ص خاتمه عقيقا أو فيروزجا أو ياقوتا أو نحوه ‪ ،‬ول‬ ‫قال الحنفيّة ‪ :‬يجوز للرّجل أن يجعل ف ّ‬

‫بأس بس ّد ثقب الفصّ بمسمار الذّهب ليحفظ به الفصّ ‪ ،‬لنّه قليل ‪ ،‬فأشبه العلم في الثّوب فل‬

‫يعدّ لبسا له ‪ ،‬ويجعل الرّجل فصّ خاتمه إلى بطن كفّه بخلف النّساء ‪ ،‬لنّه للزّينة في حقّهنّ‬

‫دون الرّجال ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬ل بأس بالفضّة في حلية الخاتم ‪ ...‬ثمّ اختلفوا في الشّرح ‪ ،‬فقال‬

‫بعضهم ‪ :‬تكون الحلية من الفضّة في خاتم من شيء جائز غير الحديد والنّحاس والرّصاص ‪،‬‬ ‫كالجلد والعود أو غير ذلك ممّا يجوز ‪ ،‬فيجعل الفصّ فيه ‪.‬‬

‫وقال بعضهم ‪ :‬يكون الخاتم كلّه من الفضّة لما في صحيح مسلم ‪ « :‬كان خاتم رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم من ورق ‪ ،‬وكان فصّه حبشيّا » أي كان صانعه حبشيّا ‪ ،‬أو كان مصنوعا‬ ‫كما يصنعه أهل الحبشة فل ينافي رواية ‪ :‬أنّ فصّه منه ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل يجوز للذّكر خاتم بعضه ذهب ولو قلّ ‪.‬‬

‫سنّة عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫ص الخاتم ممّا يلي الكفّ ‪ ،‬لنّه بذلك أتت ال ّ‬ ‫وقالوا ‪ :‬يجعل ف ّ‬ ‫والقتداء به حسن ‪ ،‬فإذا أراد الستنجاء خلعه كما يخلعه عند إرادة الخلء ‪.‬‬

‫ص وبغير فصّ ‪ ،‬وأضاف النّوويّ ‪ :‬ويجعل الفصّ من باطن‬ ‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يجوز الخاتم بف ّ‬

‫كفّه أو ظاهرها ‪ ،‬وباطنها أفضل للحاديث الصّحيحة فيه ‪ .‬وقال القليوبيّ ‪ :‬ويسنّ جعل فصّ‬ ‫الخاتم داخل الكفّ ‪ .‬وقال الحنابلة ‪ :‬للرّجل جعل فصّ خاتمه منه أو من غيره ‪ ،‬لنّ في‬

‫البخاريّ من حديث أنس رضي ال عنه « كان فصّه منه » ولمسلم « كان فصّه حبشيّا » ‪.‬‬

‫وقالوا ‪ :‬يباح للذّكر من الذّهب فصّ خاتم إذا كان يسيرا ‪ ...‬اختاره أبو بكر عبد العزيز ومجد‬

‫الدّين ابن تيميّة وتقيّ الدّين ابن تيميّة ‪ ،‬وهو ظاهر كلم المام أحمد ‪ ،‬وإليه ميل ابن رجب ‪،‬‬

‫قال في النصاف ‪ :‬وهو الصّواب وهو المذهب ‪ ،‬وفي الفتاوى المصريّة ‪ :‬يسير الذّهب التّابع‬ ‫لغيره كالطّراز ونحوه جائز في الصحّ من مذهب المام أحمد ‪.‬‬

‫واختار القاضي وأبو الخطّاب التّحريم ‪ ،‬وقطع به في شرح المنتهى في باب النية ‪.‬‬

‫ص الخاتم ممّا يلي ظهر كفّه لنّ النّبيّ صلى ال‬ ‫وقال الحنابلة ‪ :‬الفضل أن يجعل الرّجل ف ّ‬

‫عليه وسلم ‪ « :‬كان يفعل ذلك » وكان ابن عبّاس رضي ال عنهما وغيره يجعله ممّا يلي ظهر‬

‫كفّه ‪.‬‬

‫تاسعا ‪ :‬تحريك الخاتم في الوضوء ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء تحريك الخاتم أثناء غسل اليد ‪ ،‬إن كان‬

‫ضيّقا ول يعلم وصول ماء الوضوء إلى ما تحته ‪ ،‬فإن كان الخاتم واسعا ‪ ،‬أو كان ضيّقا وعلم‬

‫وصول الماء إلى ما تحته فإنّ تحريكه ل يجب ‪ ،‬بل يكون مستحبّا ‪.‬‬

‫وذهب المالكيّة إلى أنّه ل يجب تحويل خاتم المتوضّئ من موضعه ولو كان ضيّقا إن كان‬

‫ل فل‬ ‫مأذونا فيه ‪ ،‬وعلى المتوضّئ إزالة غير المأذون فيه إن كان يمنع وصول الماء للبشرة وإ ّ‬

‫‪ ،‬وليس الحكم بإزالة ما يمنع وصول الماء للبشرة خاصّا بالخاتم غير المأذون فيه ‪ ،‬بل هو عامّ‬

‫في كلّ حائل كشمع وزفت ووسخ ‪.‬‬

‫عاشرا ‪ :‬تحريك الخاتم في الغسل ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬قال جمهور الفقهاء ‪ :‬ممّا يتحقّق به الغسل المجزئ أن يعمّم بدنه بالغسل ‪ ،‬حتّى ما تحت‬

‫خاتم ونحوه ‪ ،‬فيحرّكه ليتحقّق وصول الماء إلى ما تحته ‪ ،‬ولو كان الخاتم ضيّقا ل يصل الماء‬ ‫إلى ما تحته نزعه وجوبا ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬يجب غسل ظاهر الجسد في الغسل ‪ ،‬وأمّا الخاتم فل يلزم تحريكه ‪ ،‬كالوضوء‬ ‫‪ .‬كما نصّ عليه ابن الموّاز خلفا لبن رشد ‪.‬‬

‫حادي عشر ‪ :‬نزع الخاتم في التّيمّم ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب على من يريد التّيمّم نزع خاتمه ليصل‬

‫التّراب إلى ما تحته عند المسح ‪ ،‬ول يكفي تحريك الخاتم ‪ ،‬لنّ التّراب كثيف ل يسري إلى ما‬

‫تحت الخاتم بخلف الماء في الوضوء ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ :‬يجب على المتيمّم أن يستوعب بالمسح‬ ‫وجهه ويديه فينزع الخاتم أو يحرّكه ‪.‬‬

‫ثاني عشر ‪ :‬العبث بالخاتم في الصّلة ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫ن العبث في الصّلة مكروه ‪ ،‬والعبث ‪ :‬هو كلّ فعل ليس بمفيد للمصلّي‬ ‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬

‫‪ ،‬ومنه كفّه لثوبه وعبثه به وبجسده وبالحصى وبالخاتم ‪ ،‬وتفصيله والخلف فيه ينظر في‬

‫الصّلة عند الكلم عن المكروهات والمبطلت ‪.‬‬

‫ثالث عشر ‪ :‬التّختّم في الحرام ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ للمحرم التّختّم بخاتمه حال إحرامه ‪ ،‬لنّ التّختّم‬

‫ليس لبسا ول تغطيةً ‪ ،‬وقد روي عن عبد اللّه بن عبّاس رضي ال تعالى عنهما أنّه قال ‪:‬‬ ‫أوثقوا عليكم نفقاتكم ‪ -‬أي بشدّ الهميان في الوسط وفيه كيس النّفقة ‪ -‬ورخّص في الخاتم‬

‫والهميان للمحرم ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬يحرم على الرّجل المحرم لبس الخاتم في الحرام ولو فضّةً‬

‫زنته درهمان ‪ ،‬وفيه الفدية إن طال ‪.‬‬

‫رابع عشر ‪ :‬زكاة الخاتم ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫ن الحلية المباحة ‪ -‬ومنها‬ ‫‪ -‬اتّفق المالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬في الظهر عندهم ‪ -‬والحنابلة على أ ّ‬

‫خاتم الذّهب أو الفضّة للمرأة ‪ ،‬وخاتم الفضّة المباح للرّجل ‪ -‬ل زكاة فيه ‪ ،‬لنّه مصروف عن‬

‫جهة النّماء إلى استعمال مباح ‪ ،‬فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية ‪.‬‬

‫وقال الحنفيّة ‪ ،‬وهو مقابل الظهر عند الشّافعيّة ‪ :‬في خاتم الفضّة المباح للرّجل الزّكاة ‪-‬‬

‫بشرط النّصاب ‪ -‬لنّ الفضّة خلقت ثمنا ‪ ،‬فيزكّيها كيف كانت ‪ .‬وتفصيله في الزّكاة ‪.‬‬

‫خامس عشر ‪ :‬دفن الخاتم مع الشّهيد وغيره ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬ينزع عن الميّت قبل دفنه ما عليه من الحلية من خاتم وغيره ل نّ دفنه مع الميّت إضاعة‬

‫للمال ‪ ،‬وهو منه يّ ع نه ‪ .‬أمّا الشّه يد ف قد اتّ فق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه ينزع ع نه‬ ‫ف والمنطقة والقلنسوة وك ّل ما ل يعتاد لبسه غالبا‬ ‫عند دفنه الجلد وال سّلح والفرو والحشو والخ ّ‬ ‫‪ ،‬والخاتم مثل هذه بل أولى ‪ ،‬لحديث ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما ‪:‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ‪ ،‬وأن يدفنوا في‬ ‫«أّ‬

‫ثيابهم بدمائهم » ولنّ ما يترك على الشّهيد يترك ليكون كفنا ‪ ،‬والكفن ما يلبس للسّتر ‪ ،‬والخاتم‬ ‫ل يلبس للسّتر فينزع ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬ندب دفن الشّهيد بخفّ وقلنسوة ومنطقة قلّ ثمنها ‪،‬‬

‫وبخاتم قلّ فصّه أي قيمته ‪ ،‬فل ينزع إلّ أن يكون نفيس الفصّ ‪.‬‬

‫تخدير *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬الخدر ‪ -‬بالتّحريك ‪ -‬استرخاء يغشى بعض العضاء أو الجسد كلّه ‪ .‬والخدر ‪ :‬الكسل‬

‫والفتور ‪ .‬وخدّر العضو تخديرا ‪ :‬جعله خدرا ‪ ،‬وحقنه بمخدّر لزالة إحساسه ‪.‬‬

‫ويقال ‪ :‬خدّره الشّراب وخدّره المرض ‪.‬‬

‫والمخدّر ‪ :‬مادّة تسبّب في النسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة ‪ ،‬كالبنج والحشيش‬ ‫والفيون ‪ ،‬والجمع مخدّرات ‪ ،‬وهي محدثة ‪.‬‬

‫ول يخرج استعمال الفقهاء للتّخدير عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّفتير ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬فتر عن العمل فتورا ‪ :‬انكسرت حدّته ولن بعد شدّته ‪ ،‬ومنه ‪ :‬فتر الحرّ إذا انكسر ‪،‬‬

‫فيكون التّفتير تكسيرا للحدة ‪ ،‬وتليينا بعد الشّدّة ‪.‬‬

‫وعلى هذا فالتّفتير أع ّم من التّخدير ‪ ،‬إذ التّخدير نوع من التّفتير ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الغماء ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬أغمي عليه ‪ :‬عرض له ما أفقده الحسّ والحركة ‪ .‬والغماء ‪ :‬فتور غير أصليّ يزيل‬

‫عمل القوى ل بمخدّر ‪ .‬فالتّخدير مباين للغماء ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬السكار ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬أسكره الشّراب أزال عقله ‪ ،‬فالسكار ‪ :‬إزالة الشّراب للعقل دون الحسّ والحركة ‪ ،‬فيكون‬

‫التّخدير أعمّ من السكار ‪ .‬وهناك ألفاظ أخرى لها صلة بالتّخدير كالمفسد والمرقّد ‪ .‬قال‬

‫الحطّاب ‪ :‬فائدة تنفع الفقيه ‪ ،‬يعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرقد ‪ ،‬فالمسكر ‪ :‬ما‬

‫غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوة وفرح ‪ ،‬والمفسد ‪ :‬ما غيّب العقل دون الحواسّ ل مع نشوة‬

‫س كالسيكران ‪.‬‬ ‫وفرح كعسل البلدر ‪ ،‬والمرقد ‪ :‬ما غيّب العقل والحوا ّ‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬المخدّرات أنواع متعدّدة تختلف لختلف أصولها المستخرجة منها ‪.‬‬

‫وتناول المخدّرات كالحشيشة والفيون والقاتّ والكوكايين والبنج والكفتة وجوزة الطّيب والبرش‬ ‫وغيرها بالمضغ أو التّدخين أو غيرهما ينتج عنه تغييب العقل ‪ ،‬وقد يؤدّي إلى الدمان ‪ ،‬ممّا‬

‫يسبّب تدهورا في عقليّة المدمنين وصحّتهم ‪ ،‬وتغيّر الحال المعتدلة في الخلق والخلق ‪ .‬قال ابن‬ ‫تيميّة ‪ :‬كلّ ما يغيّب العقل فإنّه حرام ‪ ،‬وإن لم تحصل به نشوة ول طرب ‪ ،‬فإنّ تغييب العقل‬

‫حرام بإجماع المسلمين ‪ ،‬أي إلّ لغرض معتبر شرعا ‪.‬‬

‫‪ -6‬وذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة تناول المخدّرات الّتي تغشى العقل ‪ ،‬ولو كانت ل تحدث‬

‫الشّدّة المطربة الّتي ل ينفكّ عنها المسكر المائع ‪.‬‬

‫وكما أنّ ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات ‪ ،‬كذلك يحرم مطلقا ما يخدّر من الشياء‬

‫الجامدة المضرّة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد ‪ .‬وذلك إذا تناول قدرا مضرّا منها ‪ .‬دون‬

‫ما يؤخذ منها من أجل المداواة ‪ ،‬لنّ حرمتها ليست لعينها ‪ ،‬بل لضررها ‪.‬‬

‫‪ -7‬وعلى هذا يحرم تناول البنج والحشيشة والفيون في غير حالة التّداوي ‪ ،‬لنّ ذلك كلّه‬

‫مفسد للعقل ‪ ،‬فيحدث لمتناوله فسادا ‪ ،‬ويصدّ عن ذكر اللّه وعن الصّلة ‪ .‬لكن تحريم ذلك ليس‬

‫لعينه بل لنتائجه ‪.‬‬

‫‪ -8‬ويحرم القدر المسكر المؤذي من جوزة الطّيب ‪ ،‬فإنّها مخدّرة ‪ ،‬لكن حرمتها دون حرمة‬ ‫الحشيشة ‪.‬‬

‫‪ -9‬وذهب الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المقري الحرازيّ الشّافعيّ إلى تحريم القاتّ في مؤلّفه في‬

‫ت ‪ .‬حيث يقول ‪ :‬إنّي رأيت من أكلها الضّرر في بدني وديني فتركت لها ‪ ،‬فقد ذكر‬ ‫تحريم القا ّ‬ ‫العلماء ‪ :‬أنّ المضرّات من أشهر المحرّمات ‪ ،‬فمن ضررها أنّ آكلها يرتاح ويطرب وتطيب‬

‫نفسه ويذهب حزنه ‪ ،‬ث ّم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء‬

‫ج بحديث أمّ سلمة رضي ال عنها‬ ‫أخلق ‪ .‬وكذلك ذهب الفقيه حمزة النّاشريّ إلى تحريمه واحت ّ‬

‫« أنّه صلى ال عليه وسلم نهى عن كلّ مسكر ومفتر » ‪.‬‬

‫أدلّة تحريم المخدّرات ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬الصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أمّ‬

‫سلمة رضي ال عنها قالت ‪ «:‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتر» ‪.‬‬

‫قال العلماء ‪ :‬المفتر ‪ :‬كلّ ما يورث الفتور والخدر في الطراف ‪ .‬قال ابن حجر ‪ :‬وهذا‬ ‫الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه ‪ ،‬فإنّها تسكر وتخدّر وتفتر ‪.‬‬

‫وحكى القرافيّ وابن تيميّة الجماع على تحريم الحشيشة ‪ ،‬قال ابن تيميّة ‪ :‬ومن استحلّها فقد‬

‫كفر ‪ ،‬وإنّما لم تتكلّم فيها الئمّة الربعة رضي ال عنهم ‪ ،‬لنّها لم تكن في زمنهم ‪ ،‬وإنّما‬ ‫ظهرت في آخر المائة السّادسة وأوّل المائة السّابعة حين ظهرت دولة التّتار ‪.‬‬

‫طهارة المخدّرات ونجاستها ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬المخدّرات الجامدة كلّها عند جمهور الفقهاء طاهرة غير نجسة وإن حرم تعاطيها ‪ ،‬ول‬

‫تصير نجسةً بمجرّد إذابتها في الماء ولو قصد شربها ‪ ،‬لنّ الحكم الفقهيّ أنّ نجاسة المسكرات‬

‫مخصوصة بالمائعات منها ‪ ،‬وهي الخمر الّتي سمّيت رجسا في القرآن الكريم ‪ ،‬وما يلحق بها‬ ‫من سائر المسكرات المائعة ‪.‬‬

‫بل قد حكى ابن دقيق العيد الجماع على طهارة المخدّرات ‪ .‬على أنّ بعض الحنابلة رجّح‬ ‫الحكم بنجاسة هذه المخدّرات الجامدة ‪ .‬وتفصيل ذلك في موضوع النّجاسات ‪.‬‬

‫علج مدمني المخدّرات ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬سئل ابن حجر الم ّكيّ الشّافعيّ عمّن ابتلي بأكل الفيون والحشيش ونحوهما ‪ ،‬وصار إن‬

‫لم يأكل منه هلك ‪ .‬فأجاب ‪ :‬إن علم أنّه يهلك قطعا حلّ له ‪ ،‬بل وجب ‪ ،‬لضطراره إلى إبقاء‬

‫روحه ‪ ،‬كالميتة للمضطرّ ‪ ،‬ويجب عليه التّدرّج في تقليل الكميّة الّتي يتناولها شيئا فشيئا ‪ ،‬حتّى‬ ‫يزول تولّع المعدة به من غير أن تشعر ‪ ،‬قال الرّمليّ من الحنفيّة ‪ :‬وقواعدنا ل تخالفه في ذلك‬ ‫‪.‬‬

‫بيع المخدّرات وضمان إتلفها ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬لمّا كانت المخدّرات طاهرةً ‪ -‬كما سبق تفصيل ذلك ‪ -‬وأنّها قد تنفع في التّداوي بها جاز‬

‫بيعها للتّداوي عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬وضمن متلفها ‪ ،‬واستثنى بعض الفقهاء الحشيشة ‪ ،‬فقالوا‬

‫بحرمة بيعها كابن نجيم الحنفيّ ‪ ،‬وذلك لقيام المعصية بذاتها ‪ ،‬وذكر ابن الشّحنة أنّه يعاقب‬

‫بائعها ‪ ،‬وصحّح ابن تيميّة نجاستها وأنّها كالخمر ‪ ،‬وبيع الخمر ل يصحّ فكذا الحشيشة عند‬ ‫الحنابلة ‪ ،‬وذهب بعض المالكيّة إلى ما ذهب إليه ابن تيميّة ‪.‬‬

‫أمّا إذا كان بيعها ل لغرض شرعيّ كالتّداوي ‪ ،‬فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى تحريم بيع‬

‫المخدّرات لمن يعلم أو يظنّ تناوله لها على الوجه المحرّم ‪ ،‬ول يضمن متلفها ‪ ،‬خلفا للشّيخ‬

‫أبي حامد ‪ -‬أي السفرايينيّ ‪ -‬ويفهم من كلم ابن عابدين في حاشيته أنّ البيع مكروه ويضمن‬

‫متلفها ‪.‬‬

‫تصرّفات متناول المخدّرات ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬إنّ متناول القدر المزيل للعقل من المخدّرات ‪ ،‬إمّا أن يكون للتّداوي أو ل ‪ ،‬فإن كان‬

‫للتّداوي فإنّ تصرّفاته ل تصحّ عند جماهير الفقهاء ‪.‬‬

‫أمّا إذا كان زوال العقل بتناول المخدّرات ل للتّداوي ‪ ،‬فإنّ الفقهاء مختلفون فيما يصحّ من‬

‫تصرّفاته وما ل يصحّ ‪ .‬فذهب الحنفيّة إلى أنّ تصرّفاته صحيحة إذا استعمل الفيون للّهو ‪،‬‬ ‫لكونه معصيةً ‪ ،‬واستثنى الحنفيّة الرّدّة والقرار بالحدود والشهاد على شهادة نفسه فإنّها ل‬

‫تصحّ ‪ ،‬ومحلّ ذلك إذا كان ل يعرف الرض من السّماء ‪ ،‬أمّا إذا كان يعرف ذلك فهو‬

‫كالصّاحي ‪ ،‬فكفره صحيح ‪ ،‬وكذلك طلقه وعتاقه وخلعه ‪.‬‬

‫قال ابن عابدين في الحشيشة والسّكر بها ‪ :‬فلمّا ظهر من أمرها ‪ -‬أي الحشيشة ‪ -‬من الفساد‬

‫كثير وفشا ‪ ،‬عاد مشايخ المذهبين ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة ‪ -‬إلى تحريمها وأفتوا بوقوع الطّلق بها‬ ‫‪ .‬وزاد بعض الحنفيّة على ما تقدّم أنّ زوال العقل إذا كان بالبنج والفيون ‪ ،‬وكان للتّداوي ‪-‬‬

‫ن الطّلق يقع زجرا وعليه الفتوى ‪.‬‬ ‫أي على سبيل الجواز ‪ -‬أ ّ‬

‫وذهب المالكيّة إلى صحّة طلقه وعتقه وتلزمه الحدود والجنايات على نفس ومال ‪ ،‬بخلف‬ ‫عقوده من بيع وشراء وإجارة ونكاح وإقرارات فل تصحّ ول تلزم على المشهور ‪ .‬وذهب‬

‫الشّافعيّة إلى صحّة جميع تصرّفاته ‪ ،‬لعصيانه بسبب زوال عقله ‪ ،‬فجعل كأنّه لم يزل ‪.‬‬

‫ن تناول البنج ونحوه لغير حاجة ‪ -‬إذا زال العقل به كالمجنون‬ ‫والصّحيح من مذهب الحنابلة أ ّ‬ ‫‪ -‬ل يقع طلق من تناوله ‪ ،‬لنّه ل لذّة فيه ‪ ،‬وفرّق المام أحمد بينه وبين السّكران فألحقه‬

‫بالمجنون ‪ ،‬وقدّمه في " النّظم " " والفروع " وهو الظّاهر من كلم الخرقيّ فإنّه قال ‪ :‬وطلق‬ ‫الزّائل العقل بل سكر ل يقع ‪ .‬قال الزّركشيّ ‪ -‬من الحنابلة ‪ -‬وممّا يلحق بالبنج الحشيشة‬

‫ن حكمها حكم الشّراب المسكر حتّى في إيجاب الحدّ ‪،‬‬ ‫الخبيثة ‪ ،‬وأبو العبّاس ابن تيميّة يرى أ ّ‬

‫وهو الصّحيح إن أسكرت ‪ ،‬أو أسكر كثيرها وإلّ حرمت ‪ ،‬وعزّر فقط فيها ‪.‬‬

‫عقوبة متناول المخدّرات ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ متناول المخدّرات للتّداوي ولو زال عقله ل عقوبة عليه ‪ ،‬من حدّ‬

‫أو تعزير ‪ .‬أمّا إذا تناول القدر المزيل للعقل بدون عذر فإنّه ل حدّ عليه أيضا عند جماهير‬

‫العلماء ‪ -‬إلّ ما ذهب إليه ابن تيميّة في إيجاب الحدّ على من سكر من الحشيشة ‪ ،‬مفرّقا بينها‬

‫ن الحشيشة تشتهى وتطلب بخلف البنج ‪ ،‬فالحكم عنده منوط باشتهاء‬ ‫وبين سائر المخدّرات ‪ .‬بأ ّ‬ ‫النّفس ‪ .‬واتّفق الفقهاء أيضا على تعزير متناول المخدّرات بدون عذر ‪ ،‬لكن ذهب الشّافعيّة إلى‬ ‫ن الفيون وغيره إذا أذيب واشتدّ وقذف بالزّبد ‪ ،‬فإنّه يلحق بالخمر في النّجاسة والحدّ ‪،‬‬ ‫أّ‬

‫كالخبز إذا أذيب وصار كذلك ‪ ،‬بل أولى ‪ .‬وقيّد الشّافعيّة عقوبة متناول المخدّرات بما إذا لم‬

‫يصل إلى حالة تلجئه إلى ذلك كما سبق ‪ ،‬فإن وصل إلى تلك الحالة ل يعزّر ‪ ،‬بل يجب عليه‬ ‫القلع عنه إمّا باستعمال ضدّه أو تقليله تدريجيّا ‪.‬‬

‫تخذيل *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخذيل لغةً ‪ :‬حمل الرّجل على خذلن صاحبه ‪ ،‬وتثبيطه عن نصرته ‪ ،‬يقال ‪ :‬خذلته‬

‫تخذيلً ‪ :‬حملته على الفشل وترك القتال ‪.‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬ص ّد النّاس عن الغزو وتزهيدهم في الخروج إليه ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ومواطن البحث ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬يحرم تخذيل المجاهدين عن الجهاد بأيّ وسيلة حصل من قول أو فعل ‪ .‬قال اللّه تعالى في‬

‫س إلّ‬ ‫ذمّ المخذّلين ‪ { :‬قَدْ َيعْلَ ُم اللّهُ ال ُم َعوّقين منكم والقائلينَ لِخوانِهم َهلُ ّم إلينا ول َي ْأتُونَ البَأْ َ‬

‫قَلِيلً } ‪ .‬وقال أيضا في شأن المنافقين ‪َ { :‬فرِحَ ال ُمخَلّفُونَ ِبمَ ْق َعدِهم خِلفَ رسولِ اللّهِ و َك ِرهُوا‬

‫حرّا لو‬ ‫حرّ قلْ نارُ جه ّنمَ أشدّ َ‬ ‫ن ُيجَاهِدُوا بأموالِهم وأَنفسِهم في سبيلِ اللّهِ وقالوا ل َتنْفِروا في ال َ‬ ‫أْ‬

‫كانوا َي ْف َقهُون } ‪.‬‬

‫استصحاب المخذّل والمرجف ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬ل يستصحب المير معه مخذّلً ‪ ،‬وهو الّذي يثبّط النّاس عن الغزو ويزهّدهم في الخروج‬

‫إلى القتال والجهاد ‪ ،‬مثل أن يقول ‪ :‬الحرّ أو البرد شديد ‪ ،‬والمشقّة شديدة ‪ ،‬ول تؤمن هزيمة‬

‫هذا الجيش وأشباه هذا ‪ .‬ول مرجفا وهو الّذي يقول ‪ :‬قد هلكت سريّة المسلمين ‪ ،‬وما لهم مدد‬ ‫ول طاقة لهم بالكفّار ‪ ،‬والكفّار لهم قوّة ومدد وصبر ‪ ،‬ول يثبت لهم أحد ونحو هذا ‪ ،‬ول من‬

‫يعين على المسلمين بالتّجسّس للكفّار وإطلعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم‬ ‫ودللتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم ‪ ،‬ول من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى‬

‫ج لَعدّوا له عُدّ ًة ولكن َك ِرهَ الّل ُه ا ْن ِبعَاثَهم َف َثّبطَهم‬ ‫خرُو َ‬ ‫بالفساد ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬ولو أَرَادُوا ال ُ‬

‫ضعُوا خِللَكم َي ْبغُونَكم‬ ‫ل ْو َ‬ ‫خبَالً َو َ‬ ‫خ َرجُوا فيكم ما زَادُوكم إلّ َ‬ ‫وقيل اقعُدُوا مع القَاعِدين لو َ‬

‫ال ِف ْتنَةَ } ولنّ هؤلء مضرّة على المسلمين فيلزمه منعهم ‪ ،‬وإن خرج معه أحد هؤلء لم يسهم‬ ‫له ولم يرضخ وإن أظهر عون المسلمين ‪ ،‬لنّه يحتمل أن يكون أظهره نفاقا وقد ظهر دليله ‪،‬‬

‫ق ممّا غنموا شيئا ‪.‬‬ ‫فيكون مجرّد ضرر فل يستح ّ‬

‫وإن كان المير أحد هؤلء لم يستحبّ الخروج معه ‪ ،‬لنّه إذا منع خروج المخذّل ومن في‬

‫حكمه تبعا فمتبوعا أولى ‪ ،‬ولنّه ل تؤمن المضرّة على من صحبه ‪.‬‬

‫تخريب *‬

‫انظر ‪ :‬جهاد ‪.‬‬

‫تخريج المناط *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخريج والستخراج بمعنًى واحد كالستنباط والمناط ‪ :‬موضع التّعليق ‪.‬‬

‫ومناط الحكم عند الصوليّين ‪ :‬علّته ‪.‬‬

‫وتخريج المناط هو ‪ :‬النّظر والجتهاد في إثبات علّة الحكم ‪ ،‬إذا دلّ النّصّ أو الجماع على‬ ‫الحكم دون علّته ‪ ،‬وذلك أن يستخرج المجتهد العلّة برأيه ‪ .‬كالجتهاد في إثبات كون الشّدّة‬

‫المطربة علّ ًة لتحريم شرب الخمر ‪ ،‬وكون القتل العمد العدوان علّةً لوجوب القصاص في‬

‫المحدّد ‪ ،‬وكون الطّعم علّة ربا الفضل في البرّ ونحوه حتّى يقاس عليه كلّ ما سواه في علّته‬ ‫المناسبة ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬وهي ‪ :‬تعيين العلّة بإبداء وجود العلقة بين الوصف والحكم ‪ ،‬بحيث يدركه العقل السّليم‬

‫مع السّلمة من القوادح ‪ .‬ويسمّى استخراج المناسبة ‪ :‬تخريج المناط ‪.‬‬

‫وبذلك يكون تخريج المناط أعمّ من المناسبة ‪ ،‬إذ قد يكون باستخراج المناسبة أو بغيرها ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬عدّ بعض الصوليّين تخريج المناط مسلكا من مسالك العلّة ‪ ،‬إذ هو اجتهاد في استخراجها‬

‫‪ ،‬لكنّه يعتبر في الرّتبة دون تحقيق المناط وتنقيحه ‪.‬‬

‫ولذلك اختلف الصوليّون في الخذ به ‪ ،‬فأنكره أهل الظّاهر والشّيعة وطائفة من المعتزلة‬

‫البغداديّين ‪ ،‬وقال الغزاليّ عنه ‪ :‬العلّة المستنبطة عندنا ل يجوز التّحكّم بها ‪ ،‬بل قد تعلم‬

‫باليماء وإشارة النّصّ فتلحق بالمنصوص ‪ ،‬وقد تعلم بالسّبر ‪ ..‬إلخ ثمّ قال ‪ :‬وكلّ ذلك قريب‬

‫من القسمين الوّلين ( تحقيق المناط وتنقيحه ) والقسم الوّل ( تحقيق المناط ) متّفق عليه ‪،‬‬ ‫والثّاني ( تنقيح المناط ) مسلّم من الكثرين ‪ .‬وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تخصّر *‬

‫‪ -‬للتّخصّر في اللّغة معان ‪ ،‬منها ‪ :‬أنّه وضع اليد على الخصر ‪ ،‬ومثله الختصار ‪.‬‬

‫والخصر من النسان ‪ :‬وسطه وهو المستدقّ فوق الوركين ‪ ،‬والجمع خصور ‪ ،‬مثل فلس‬ ‫وفلوس ‪ .‬والخصران والخاصرتان ‪ :‬معروفان ‪.‬‬

‫والختصار والتّخصّر ‪ :‬أن يضع الرّجل يده على خصره في الصّلة أو غيرها من التّكاء‬

‫على المخصرة ‪ ،‬وهي ‪ :‬ما يتوكّأ عليه من عصا ونحوها ‪ .‬وفي رواية عن النّبيّ صلى ال‬ ‫عليه وسلم « أنّه نهى أن يصلّي الرّجل مختصرا ومتخصّرا » ‪.‬‬

‫قيل ‪ :‬هو من المخصرة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬معناه أن يصلّي الرّجل وهو واضع يده على خاصرته ‪،‬‬

‫وجاء في الحديث ‪ « :‬الختصار في الصّلة راحة أهل النّار » أي أنّه فعل اليهود في صلتهم‬ ‫‪ .‬وهم أهل النّار قال ابن منظور ‪ :‬ليس الرّاحة المنسوبة لهل النّار هي راحتهم في النّار ‪ ،‬إذ‬

‫ل راحة لهم فيها ‪ ،‬وإنّما هي راحتهم في صلتهم في الدّنيا ‪ .‬يعني أنّه إذا وضع يده على‬

‫خصره كأنّه استراح بذلك ‪ ،‬وسمّاهم أهل النّار لمصيرهم إليها ‪ ،‬ل لنّ ذلك راحتهم في النّار ‪.‬‬ ‫وهو ‪ :‬أي التّخصّر في الصطلح ل يخرج عن ذلك ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّخصّر في الصّلة مكروه ‪ ،‬أي تنزيها ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه مكروه تحريما ‪ ،‬لمنافاته هيئة الصّلة المأثورة ‪ ،‬والتّشبّه بالجبابرة ‪ ،‬وقد‬

‫نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن ذلك ‪ .‬روى أبو هريرة رضي ال عنه أنّ النّبيّ صلى ال‬

‫عليه وسلم « نهى أن يصلّي الرّجل مختصرا » وعنه رضي ال عنه « أنّ رسول اللّه صلى‬

‫ال عليه وسلم نهى عن الخصر في الصّلة » والمراد وضع اليد على الخاصرة ‪ .‬وفي رواية ‪:‬‬

‫« نهى أن يصلّي الرّجل متخصّرا » ‪ -‬بتشديد الصّاد ‪ -‬وهو أن يضع يده على خاصرته ‪-‬‬

‫وهو يصلّي ‪ -‬ما لم تكن به حاجة تدعو إلى وضعها ‪ .‬فإن كان به عذر كمن وضع يده على‬

‫خاصرته لوجع في جنبه أو تعب في قيام اللّيل ‪ ،‬فتخصّر ‪ ،‬جاز له ذلك في حدود ما تقتضي به‬ ‫الحاجة ‪ ،‬ويقدّر ذلك بقدرها ‪.‬‬

‫وفيه ورد حديث ‪ « :‬المتخصّرون يوم القيامة على وجوههم النّور » ‪ .‬وقال ثعلب ‪ :‬أي‬

‫المصلّون باللّيل ‪ ،‬فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم ‪ .‬وتابعه صاحب القاموس ففسّر‬

‫الحديث بغير ذلك ‪ .‬وروى أبو داود والنّسائيّ من طريق سعيد بن زياد قال ‪ « :‬صلّيت إلى‬

‫جنب ابن عمر فوضعت يديّ على خاصرتيّ ‪ .‬فلمّا صلّى قال ‪ :‬هذا ‪ .‬الصّلب في الصّلة ‪،‬‬ ‫وكان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ينهى عنه » ‪.‬‬

‫وأمّا التّخصّر خارج الصّلة فقد جاء في تنوير البصار وشرحه ‪ :‬أنّه مكروه تنزيها ‪.‬‬ ‫لنّه فعل المتكبّرين ( ر ‪ :‬الصّلة ‪ :‬مكروهات الصّلة ) ‪.‬‬

‫وأمّا الختصار بمعنى التّكاء في الصّلة على المخصرة أو غيرها فقد سبق تفصيل حكمه في‬

‫مصطلح ( استناد ) ‪.‬‬

‫التّكاء على المخصرة ونحوها في خطبة الجمعة ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬توكّؤ الخطيب على المخصرة في حال خطبة الجمعة مندوب عند المالكيّة ‪ ،‬وهو أيضا‬

‫من سنن الخطبة عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬ويجعلها بيمينه عند المالكيّة ‪ ،‬ويستحبّ عند الشّافعيّة‬

‫أن يجعلها في يده اليسرى كعادة من يريد الضّرب بالسّيف والرّمي بالقوس ‪ ،‬ويشغل يده اليمنى‬

‫بحرف المنبر ‪.‬‬

‫وجاء في كشّاف القناع من كتب الحنابلة ‪ :‬أن يجعلها بإحدى يديه ‪ ،‬إلّ أنّ صاحب الفروع ذكر‬

‫أنّه يتوجّه باليسرى ويعتمد بالخرى على حرف المنبر ‪ ،‬فإن لم يجد شيئا يعتمد عليه ‪ ،‬فقد ذكر‬

‫الشّافعيّة أنّه يجعل اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ول يعبث بهما ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة ‪ -‬كما جاء في الفتاوى الهنديّة ‪ -‬إلى كراهة اتّكاء الخطيب على قوس أو عصا‬

‫في أثناء الخطبة من يوم الجمعة ‪ ،‬وإنّما يتقلّد الخطيب السّيف في كلّ بلدة فتحت به ‪ .‬ومثل‬

‫العصا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬القوس والسّيف ‪ ،‬والعصا أولى من القوس والسّيف‬ ‫عند المالكيّة ‪ ،‬والمراد بالقوس كما جاء في الدّسوقيّ قوس النّشاب ‪ ،‬وهي القوس العربيّة‬

‫لطولها واستقامتها ‪ ،‬ل العجميّة لقصرها وعدم استقامتها ‪.‬‬

‫واستدلّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على ما ذهبوا إليه من اتّكاء الخطيب على المخصرة في‬

‫حال الخطبة من يوم الجمعة بما رواه أبو داود عن الحكم بن حزن ‪ :‬قال ‪ « :‬وفدت على النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة ‪ ،‬فقام متوكّئا على سيف أو قوس أو عصا مختصرا »‬ ‫‪ .‬قال مالك ‪ :‬وذلك ممّا يستحبّ للئمّة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصا ‪،‬‬

‫يتوكّئون عليها في قيامهم ‪ ،‬وهو الّذي رأينا وسمعنا ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تخصيص *‬

‫‪ -‬تخصيص النسان بالشّيء ‪ :‬تفضيله به على غيره ‪.‬‬

‫وفي اصطلح جمهور الصوليّين يطلق على ‪ :‬قصر العامّ على بعض ما يتناوله بدليل يدلّ‬ ‫على ذلك ‪ ،‬سواء أكان هذا الدّليل مستقلً أم غير مستقلّ ‪ ،‬مقارنا أم غير مقارن ‪.‬‬

‫وعند الحنفيّة ‪ :‬قصر العامّ على بعض أفراده بدليل مستقلّ مقارن ‪ ،‬فخرج الستثناء والصّفة‬

‫ونحوهما ‪ ،‬لنّ القصر حصل فيما ذكر بدليل غير مستقلّ ‪ .‬وخرج النّسخ ‪ ،‬لنّه قصر بدليل‬ ‫غير مقارن ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬النّسخ ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬النّسخ هو ‪ :‬الرّفع والزالة ‪.‬‬

‫وفي اصطلح الصوليّين ‪ :‬رفع الشّارع الحكم المتقدّم بحكم متأخّر بدليل يدلّ على ذلك ‪.‬‬

‫فالفرق بين النّسخ وبين التّخصيص ‪ :‬أنّ التّخصيص ليس فيه رفع للحكم ‪ ،‬وأمّا النّسخ فهو رفع‬ ‫الحكم بعد ثبوته ‪ .‬والتّخصيص قصر بدليل مقارن عند الحنفيّة ‪ ،‬والنّسخ فيه تراخ ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّقييد ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّقييد ‪ :‬تقليل شيوع اللّفظ المطلق باقترانه بلفظ آخر يدلّ على تقييده بشرط أو صفة أو‬

‫حال أو نحو ذلك ‪ .‬ومثاله لفظ " رجل " إذا اقترن بلفظ " مؤمن " مثلً ‪ ،‬وقيل ‪ :‬رجل مؤمن ‪،‬‬

‫فإنّ لفظ " رجل " مطلق وهو شائع ومنتشر في كلّ ما يصدق عليه معناه ‪ ،‬وهو أي ذكر بالغ‬ ‫من نوع النسان ‪ ،‬مؤمنا كان أو غير مؤمن ‪ ،‬ولمّا اقترن به لفظ " مؤمن " قلّل من شيوعه‬ ‫وانتشاره ‪ ،‬وجعله مقصورا على من كان مؤمنا دون غيره ‪.‬‬

‫فالتّقييد إنّما يكون لللفاظ المطلقة ‪ ،‬ليقلّل من شيوعها وانتشارها فيما يصدق عليه معناها ‪،‬‬

‫ويجعلها مقصور ًة على ما يوجد فيه القيد دون ما عداه ‪.‬‬

‫أمّا التّخصيص ‪ :‬فإنّه يكون في اللفاظ العامّة ‪ ،‬ليقلّل من شمولها ويقصرها على بعض ما‬

‫يصدق عليه معناها دون بعضها الخر ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬الستثناء ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫ل أو إحدى أخواتها ‪ .‬أو هو المنع من دخول بعض ما‬ ‫‪ -‬الستثناء ‪ :‬إخراج من متعدّد بإ ّ‬

‫يتناوله صدر الكلم في حكمه بإلّ أو إحدى أخواتها ‪.‬‬

‫والستثناء نوع من المخصّصات للعامّ عند جمهور الصوليّين ‪ ،‬وليس مخصّصا للعامّ عند‬

‫الحنفيّة ‪ ،‬وإنّما هو قاصر للعامّ على بعض أفراده ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬التّخصيص جائز عقلً وواقع استقراءً ‪ ،‬ويجوز التّخصيص إلى واحد ‪ ،‬إذا لم يكن لفظ‬

‫العامّ جمعا ‪ ،‬وإلى أقلّ الجمع إذا كان جمعا ‪.‬‬

‫ويجوز التّخصيص بالعقل عند الحنفيّة كما يجوز باللّفظ ‪.‬‬

‫واختلف الصوليّون في أنّ العامّ بعد التّخصيص يبقى عامّا في الباقي بطريق الحقيقة أم يصير‬

‫مجازا ؟ والشبه أنّه حقيقة في البعض الباقي ‪ ،‬وهذا رأي الحنابلة وكثير من الحنفيّة‬ ‫والشّافعيّة ‪ ،‬وقيّده بعضهم بأن كان الباقي غير منحصر ‪ ،‬وبعضهم بقيود أخرى ‪.‬‬

‫قال البزدويّ ‪ :‬من شرط في العامّ الجتماع دون الستغراق قال ‪ :‬إنّه يبقى حقيقةً في العموم‬

‫بعد التّخصيص ‪ ،‬ومن قال ‪ :‬شرطه الستيعاب والستغراق قال ‪ :‬يصير مجازا بعد التّخصيص‬ ‫ص منه فرد واحد ‪.‬‬ ‫‪ ،‬وإن خ ّ‬

‫وهل يبقى العا ّم حجّةً بعد التّخصيص أم ل ؟ قال أكثر الصوليّين ‪ ،‬وهو الصّحيح في مذهب‬

‫ن العامّ يبقى حجّ ًة بعد التّخصيص ‪ ،‬معلوما كان المخصوص أو مجهولً ‪ .‬وبعضهم‬ ‫الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬ ‫جيّته بما إذا كان المخصوص معلوما ل مجهولً ‪ .‬وقال الكرخيّ ‪ :‬ل يبقى حجّ ًة أصلً ‪،‬‬ ‫قيّد ح ّ‬

‫وهو قول أبي ثور من الشّافعيّة ‪ .‬وتفصيل ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تخطّي الرّقاب*‬

‫‪ -‬يقال في اللّغة ‪ :‬تخطّى النّاس واختطاهم أي ‪ :‬جاوزهم ‪ .‬ويقال ‪ :‬تخطّيت رقاب النّاس إذا‬

‫تجاوزتهم ‪ .‬قال ابن المنير ‪ :‬التّفرقة بين اثنين المنهيّ عنها بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬فلم‬

‫يفرّق بين اثنين » تتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه ‪.‬‬

‫وقد يطلق على مجرّد التّخطّي ‪ .‬وفي التّخطّي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما ‪،‬‬

‫وربّما تعلّق بثيابهما شيء ممّا في رجليه ‪ .‬ول يخرج في معناه الصطلحيّ عن هذا ‪.‬‬

‫حكمه الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬لتخطّي الرّقاب أحكام تختلف باختلف حالته ‪.‬‬

‫ففي الجمعة إمّا أن يكون المتخطّي هو المام أو غيره ‪.‬‬

‫فإن كان المتخطّي هو المام ‪ ،‬ولم يكن له طريق إلّ أن يتخطّى رقاب النّاس ليصل إلى‬ ‫مكانه ‪ ،‬جاز له ذلك بغير كراهة ‪ ،‬لنّه موضع حاجة ‪.‬‬

‫وإن كان غير المام ‪ :‬فعند الحنفيّة ‪ :‬إمّا أن يكون دخوله المسجد قبل أن يشرع المام في‬

‫الخطبة أو بعد الشّروع فيها ‪.‬‬

‫فإن كان قبله ‪ :‬فإنّه ل بأس بالتّخطّي إن كان ل يجد إلّ فرجةً أمامه ‪ ،‬فيتخطّى إليها‬

‫للضّرورة ‪ ،‬ما لم يؤذ بذلك أحدا ‪ ،‬لنّه يندب للمسلم أن يتقدّم ويدنو من المحراب إذا لم يكن‬ ‫أثناء الخطبة ‪ ،‬ليتّسع المكان لمن يجيء بعده ‪ ،‬وينال فضل القرب من المام ‪.‬‬

‫فإذا لم يفعل الوّل ذلك فقد ضيّع المكان من غير عذر ‪ ،‬فكان للّذي جاء بعده أن يأخذ ذلك‬

‫المكان وإن كان دخوله المسجد والمام يخطب ‪ :‬فإنّ عليه أن يستقرّ في أوّل مكان يجده ‪ ،‬لنّ‬

‫مشيه في المسجد وتقدّمه في حالة الخطبة منهيّ عنه ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬فلم‬

‫يفرّق بين اثنين » وقوله ‪ « :‬ولم يتخطّ َر َقبَةَ مسلم ‪ ،‬ولم يؤذ أحدا » وقوله « للّذي جاء‬ ‫يتخطّى رقاب النّاس ‪ :‬اجلس ‪ :‬فقد آذيت وآنيت » ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة يجوز لداخل المسجد أن يتخطّى الصّفوف لفرجة قبل جلوس الخطيب على المنبر‬ ‫‪ ،‬ول يجوز التّخطّي بعده ولو لفرجة ‪.‬‬

‫وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن لم يكن للدّاخل موضع وبين يديه فرجة ل يصل إليها‬

‫إلّ بتخطّي رجل أو رجلين لم يكره له ذلك ‪ ،‬لنّه يسير ‪ .‬وإن كان بين يديه خلق كثير ‪ ،‬فإن‬

‫رجا إذا قاموا إلى الصّلة أن يتقدّموا جلس حتّى يقوموا ‪ ،‬وإن لم يرج أن يتقدّموا جاز أن‬

‫يتخطّى ليصل إلى الفرجة ‪ ،‬لنّه موضع حاجة ‪ ،‬وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد ‪ ،‬وفي رواية‬ ‫أخرى أنّ للدّاخل إذا رأى فرجةً ل يصل إليها إلّ بالتّخطّي جاز له ذلك ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬وإذا جلس في مكان ‪ ،‬ثمّ بدت له حاجة أو احتاج الوضوء فله الخروج ولو بالتّخطّي ‪« .‬‬

‫قال عقبة ‪ :‬صلّيت وراء النّبيّ صلى ال عليه وسلم بالمدينة العصر فسلّم ‪ ،‬ثمّ قام مسرعا‬

‫فتخطّى رقاب النّاس إلى بعض حجر نسائه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ذكرت شيئا من ِتبْ ٍر عندنا ‪ ،‬فكرهت أن‬

‫ي صلى‬ ‫يحبسني ‪ ،‬فأمرت بقسمته » فإذا قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به ‪ ،‬لقول النّب ّ‬ ‫ال عليه وسلم ‪ « :‬من قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به » وحكمه في التّخطّي إلى‬

‫موضعه حكم من رأى بين يديه فرجةً على نحو ما مرّ ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬ويجوز التّخطّي بعد الخطبة وقبل الصّلة ‪ ،‬ولو لغير فرجة ‪ ،‬كمشي بين الصّفوف ولو‬

‫حال الخطبة ‪ .‬قال به المالكيّة ‪ .‬والتّخطّي للسّؤال كرهه الحنفيّة ‪ ،‬فل يمرّ السّائل بين يدي‬

‫ل إذا كان لمر ل ب ّد منه ‪.‬‬ ‫المصلّي ‪ ،‬ول يتخطّى رقاب النّاس ‪ ،‬ول يسأل النّاس إلحافا إ ّ‬

‫ويجوز تخطّي رقاب الّذين يجلسون على أبواب المساجد حيث ل حرمة لهم ‪ ،‬على ما هو‬ ‫المشهور عند الحنابلة ‪.‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬ويكره التّخطّي في غير الصّلة من مجامع النّاس بل أذًى ‪ ،‬فإن كان فيه أذًى حرم ‪.‬‬

‫‪ -‬ويحرم إقامة شخص ‪ ،‬ولو في غير المسجد ‪ ،‬ليجلس مكانه ‪ ،‬لما روى ابن عمر رضي‬

‫ال عنهما أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل يقيم الرّجل الرّجل من مجلسه ‪ ،‬ثمّ يجلس‬

‫سبَق إلى ما لم يسبق إليه‬ ‫فيه ولكن يقول تفسّحوا وتوسّعوا » وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من َ‬

‫مسلم فهو له » وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرّجل من مجلسه ‪ ،‬ثمّ يجلس مكانه ‪ .‬فإن قعد‬

‫واحد من النّاس في موضع من المسجد ‪ ،‬ل يجوز لغيره أن يقيمه حتّى يقعد مكانه ‪ ،‬لما روى‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل يقيمنّ‬ ‫مسلم عن أبي الزّبير عن جابر رضي ال عنه عن النّب ّ‬ ‫أحدكم أخاه يوم الجمعة ‪ ،‬ث ّم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه ‪ ،‬ولكن يقول ‪ :‬افسحوا » قال تعالى ‪:‬‬

‫سحُوا في المجالسِ فا ْفسَحُوا َي ْفسَحِ اللّهُ لكم } فإن قام رجل‬ ‫{ يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم َت َف ّ‬ ‫وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس ‪.‬‬

‫وأمّا صاحب الموضع فإنّه إن كان الموضع الّذي ينتقل إليه مثل الوّل في سماع كلم المام لم‬

‫يكره له ذلك ‪ ،‬وإن كان الموضع الّذي انتقل إليه دون الّذي كان فيه في القرب من المام كره‬ ‫له ذلك ‪ ،‬لنّه آثر غيره في القربة ‪ ،‬وفيه تفويت حظّه ‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكّر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه ل يكره ‪ ،‬فإذا جاء‬

‫المر يقوم من الموضع ‪ ،‬لما روي أنّ ابن سيرين كان يرسل غلمه إلى مجلس له في يوم‬ ‫الجمعة ‪ ،‬فيجلس له فيه ‪ ،‬فإذا جاء قام له منه ‪.‬‬

‫تخفيف *‬

‫انظر ‪ :‬تيسير ‪.‬‬

‫تخلّل *‬

‫انظر ‪ :‬تخليل ‪.‬‬

‫تخلّي *‬

‫انظر ‪ :‬قضاء الحاجة ‪.‬‬

‫تخليل *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخليل لغةً يأتي بمعان ‪ ،‬منها ‪ :‬تفريق شعر اللّحية وأصابع اليدين والرّجلين ‪ ،‬يقال ‪ :‬خلّل‬

‫الرّجل لحيته ‪ :‬إذا أوصل الماء إلى خللها ‪ ،‬وهو البشرة الّتي بين الشّعر ‪.‬‬

‫وأصله من إدخال الشّيء في خلل الشّيء ‪ ،‬وهو وسطه ‪ .‬ويقال ‪ :‬خلّل الشّخص أسنانه تخليلً‬ ‫‪ :‬إذا أخرج ما يبقى من المأكول بينها ‪ .‬وخلّلت النّبيذ تخليلً ‪ :‬جعلته خلً ‪.‬‬

‫ويستعمل الفقهاء كلمة التّخليل بهذه المعاني اللّغويّة ‪.‬‬

‫أحكام التّخليل بأنواعه ‪:‬‬ ‫أوّلً ‪ :‬التّخليل في الطّهارة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تخليل الصابع في الوضوء والغسل ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬إيصال الماء بين أصابع اليدين والرّجلين بالتّخليل أو غيره من متمّمات الغسل ‪ ،‬فهو‬

‫غسِلُوا وجوهَكم وأَي ِديَكم إلى‬ ‫فرض في الوضوء والغسل عند جميع الفقهاء ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬فا ْ‬ ‫ال َمرَافِقِ وا ْمسَحُوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبينِ } ‪.‬‬

‫أمّا التّخليل بعد دخول الماء خلل الصابع ‪ ،‬فعند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‬ ‫" أنّ تخليل الصابع في الوضوء سنّة ‪ « ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم لَِلقِيط بن صبرة ‪ :‬أسبغ‬ ‫الوضوء ‪ ،‬وخلّل بين الصابع » ‪ ،‬وقد صرّح الحنفيّة بأنّه سنّة مؤكّدة ‪ ،‬والحنابلة يرون أنّ‬

‫التّخليل في أصابع الرّجلين آكد ‪ ،‬وعلّلوا استحباب التّخليل بأنّه أبلغ في إزالة الدّرن والوسخ من‬ ‫بين الصابع ‪.‬‬

‫وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى وجوب التّخليل في أصابع اليدين واستحبابه في أصابع‬

‫الرّجلين ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرّجلين لعدم شدّة التصاقها ‪،‬‬

‫فأشبهت العضاء المستقلّة ‪ ،‬بخلف أصابع الرّجلين لشدّة التصاقها ‪ ،‬فأشبه ما بينها الباطن ‪.‬‬ ‫وفي القول الخر عندهم ‪ :‬يجب التّخليل في الرّجلين كاليدين ‪.‬‬ ‫ومراد المالكيّة بوجوب التّخليل إيصال الماء للبشرة بالدّلك ‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬وكذلك يسنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الغسل عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو المفهوم من كلم‬

‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬حيث ذكروا في بيان الغسل الكامل المشتمل على الواجبات والسّنن أن‬

‫يتوضّأ كاملً قبل أن يحثو على رأسه ثلثا ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ثمّ يتوضّأ كما‬ ‫يتوضّأ للصّلة » وقد سبق أنّ تخليل الصابع سنّة عندهم في الوضوء ‪،‬فكذلك في الغسل‪.‬‬ ‫وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى وجوب تخليل أصابع الرّجلين كأصابع اليدين في‬

‫الغسل ‪،‬لنّه يتأكّد فيه المبالغة على خلف ما قالوا في الوضوء من استحباب تخليل أصابع‬ ‫الرّجلين‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تخليل الصابع في التّيمّم ‪:‬‬

‫‪ - 4‬ل خلف بين فقهاء المذاهب في أنّ مسح الوجه واليدين فرض في التّيمّم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫سحُوا بِوجُو ِهكُم وَأيْ ِد ْيكُم منه } ‪.‬‬ ‫{ فَا ْم َ‬

‫ل الفرض بغير خلف بين المذاهب الربعة ‪ ،‬ولهذا صرّحوا‬ ‫كذلك يجب تعميم واستيعاب مح ّ‬

‫بوجوب نزع الخاتم والسّوار إذا كانا ضيّقين يخشى عدم وصول الغبار إلى ما تحتهما ‪ ،‬حتّى‬ ‫ن المالكيّة قالوا بوجوب نزع الخاتم ‪ ،‬ولو كان واسعا ‪ ،‬وإلّ كان حائلً ‪ .‬وعلى ذلك يجب‬ ‫إّ‬

‫تخليل أصابع اليدين في التّيمّم إن لم يدخل بينها غبار ‪ ،‬أو لم تمسح باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬

‫أمّا تخليل أصابع اليدين بعد مسحهما ‪ ،‬فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة باستحبابه احتياطا ‪ ،‬وهو‬

‫عند الشّافعيّة إن فرّق أصابعه في الضّربتين ‪ ،‬فإن لم يفرّقها فيهما ‪ ،‬أو فرّقها في الولى دون‬

‫الثّانية وجب التّخليل ‪ .‬ويفهم من كلم الحنفيّة ما يوافق ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬حيث‬ ‫قيّد الحنفيّة وجوب التّخليل بعدم وصول الغبار إلى الصابع ‪.‬‬

‫وذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم إلى أنّه يلزم تعميم يديه لكوعيه مع تخليل أصابعه مطلقا ‪.‬‬

‫كيفيّة تخليل الصابع ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّ تخليل أصابع اليدين يكون بالتّشبيك بينهما ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬يدخل أصابع إحداهما بين أصابع الخرى ‪ ،‬سواء أدخل من الظّاهر‬

‫أو الباطن ‪ ،‬ول يكرهون التّشبيك في الوضوء ‪.‬‬

‫وقال بعض المالكيّة بكراهة التّشبيك ‪ ،‬مستدلّين بحديث أبي هريرة رضي ال عنه أنّ النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا توضّأ أحدكم في بيته ‪ ،‬ثمّ أتى المسجد ‪ ،‬كان في صلة حتّى‬ ‫يرجع ‪ ،‬فل يفعل هكذا ‪ ،‬وشبّك بين أصابعه » ‪.‬‬

‫أمّا تخليل أصابع الرّجل ‪ ،‬فيستحبّ فيه أن يبدأ بخنصر الرّجل اليمنى ‪ ،‬ويختم بخنصر الرّجل‬ ‫اليسرى ليحصل التّيامن ‪ ،‬وهو محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬لحديث المستورد بن شدّاد قال ‪« :‬‬

‫رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم توضّأ فخلّل أصابع رجليه بخنصره » ولما ورد « أنّ‬ ‫ن الحنفيّة والحنابلة قالوا ‪:‬‬ ‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يحبّ التّيامن في وضوئه » إلّ أ ّ‬

‫التّخليل يكون بخنصر يده اليسرى ‪ ،‬لنّها معدّة لزالة الوسخ والدّرن من باطن رجليه ‪ ،‬لنّه‬

‫أبلغ ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬يكون بخنصر يده اليمنى أو اليسرى ‪ .‬وعند المالكيّة يكون بسبّابتيه ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬تخليل الشّعر ‪:‬‬

‫‪ - 1 -‬تخليل اللّحية ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬اللّحية الخفيفة ‪ -‬وهي الّتي تظهر البشرة تحتها ول تسترها عن المخاطب ‪ -‬يجب غسل‬

‫ظاهرها وإيصال الماء إلى ما تحتها في الوضوء والغسل ‪ ،‬ول يكفي مجرّد تخليلها بغير خلف‬ ‫غسِلُوا وجُوهَكم‬ ‫‪ ،‬وذلك لفرضيّة غسل الوجه بعموم الية في قوله تعالى ‪ { :‬فَا ْ‬

‫‪ ...‬الية } ‪ .‬أمّا اللّحية الكثيفة ‪ -‬وهي الّتي ل تظهر البشرة تحتها ‪ -‬فيجب غسل ظاهرها ‪،‬‬

‫ولو كانت مسترسلةً عند المالكيّة ‪ ،‬وهو المشهور عند الشّافعيّة ‪ ،‬وظاهر مذهب الحنابلة ‪.‬‬

‫وعند الحنفيّة ‪ -‬وهو قول آخر للشّافعيّة ‪ ،‬ورواية عند الحنابلة ‪ -‬أنّه ل يجب غسل ما استرسل‬

‫من اللّحية ‪ ،‬لنّه خارج عن دائرة الوجه ‪ ،‬فأشبه ما نزل من شعر الرّأس ‪.‬‬

‫ن اللّه تعالى أمر بغسل الوجه ‪ ،‬وهو ما تحصل به المواجهة ‪ ،‬وفي اللّحية الكثيفة تحصل‬ ‫ول ّ‬

‫المواجهة بالشّعر الظّاهر ‪.‬‬

‫أمّا باطنها فل يجب غسله اتّفاقا بين فقهاء المذاهب ‪ ،‬لما روى البخاريّ « أنّه صلى ال عليه‬

‫وسلم توضّأ فغسل وجهه ‪ ،‬أخذ غرفةً من ماء فمضمض بها واستنشق ‪ ،‬ثمّ أخذ غرفةً من ماء‬ ‫فجعل بها هكذا ‪ :‬أضافها إلى يده الخرى ‪ ،‬فغسل بها وجهه » وكانت لحيته الكريمة كثيفةً ‪،‬‬

‫وبالغرفة الواحدة ل يصل الماء إلى باطنها غالبا ‪ ،‬ويعسر إيصال الماء إليه ‪.‬‬

‫‪ -7‬ويسنّ تخليل اللّحية الكثيفة عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لما روي عن أنس رضي‬

‫ت حنكِه فخلّلَ به‬ ‫ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان إذا توضّأ أخذ كفّا من ماءٍ تح َ‬

‫لحيتَه ‪ ،‬وقال ‪ :‬هكذا أمرني ربّي » ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة في تخليل شعر اللّحية الكثيفة ثلثة أقوال ‪ :‬الوجوب ‪ ،‬والكراهة والستحباب ‪،‬‬

‫أظهرها الكراهة لما في ذلك من التّعمّق ‪.‬‬

‫‪ -8‬أمّا في الغسل فل يكفي مجرّد التّخليل ‪ ،‬بل يجب إيصال الماء إلى أصول شعر اللّحية ولو‬

‫كثيف ًة اتّفاقا بين المذاهب ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬تحت كلّ شعرة جنابة ‪ ،‬فاغسلوا‬ ‫الشّعر وأنقوا البشرة » ‪.‬‬

‫ولكي يتأكّد من وصول الماء إلى أصول الشّعر ويتجنّب السراف قالوا ‪ :‬يدخل المغتسل‬

‫أصابعه العشر يروي بها أصول الشّعر ‪ ،‬ث ّم يفيض الماء ليكون أبعد عن السراف في الماء ‪.‬‬ ‫ومن عبّر بوجوب تخليل اللّحية كالمالكيّة ‪ ،‬أراد بذلك أيضا إيصال الماء إلى أصول الشّعر ‪.‬‬

‫ ‪ - 2‬تخليل شعر الرّأس ‪:‬‬‫‪9‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه يجب إرواء أصول شعر الرّأس في الغسل ‪ ،‬سواء كان الشّعر خفيفا‬

‫أو كثيفا ‪ ،‬لما روت « أسماء رضي ال عنها أنّها سألت النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن غسل‬

‫ب على رأسها‬ ‫الجنابة فقال ‪ :‬تأخذ إحداكنّ ماءَها وسدرتَها فتطهّر فتحسن الطّهور ‪ ،‬ث ّم تص ّ‬

‫فتدلكه ‪ ،‬حتّى تبلغ شؤون رأسها ‪ ،‬ثمّ تفيض عليها الماء » ‪ ،‬وعن عليّ رضي ال عنه عن‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به من النّار‬ ‫كذا وكذا » ‪ ،‬قال عليّ ‪ :‬فمن ثَمّ عاديت شعري " وعلى ذلك فل يجزي مجرّد تخليل الشّعر في‬

‫الغسل عند الفقهاء ‪.‬‬

‫وقد صرّح فقهاء المالكيّة بوجوب تخليل شعر الرّأس ولو كثيفا ‪ ،‬للتّأكّد من وصول الماء إلى‬

‫أصوله ‪ ،‬حيث قالوا ‪ :‬ويجب تخليل شعر ولو كثيفا وضغث مضفوره ‪ -‬أي جمعه وتحريكه ‪-‬‬

‫ليعمّه بالماء ‪ ،‬وهو المعتمد عند الشّافعيّة ‪.‬‬

‫ول يختلف حكم الشّعر بالنّسبة للمحرم وغير المحرم عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لكنّ المحرم يخلّل‬

‫برفق لئلّ يتساقط الشّعر ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ :‬يكره التّخليل للمحرم ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬تخليل السنان ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬تنظيف السنان بالسّواك سنّة من سنن الفطرة ‪ ،‬وينظر تفصيله في مصطلح ‪ ( :‬استياك )‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬أمّا تخليلها بعد الكل بالخلل لخراج ما بينها من الطّعام ‪ ،‬فقد ذكره الفقهاء في آداب‬

‫‪.‬‬

‫الكل ‪ .‬قال البهوتيّ الحنبليّ ‪ :‬يستحبّ أن يخلّل أسنانه إن علق بها شيء من الطّعام ‪ ،‬قال في‬

‫المستوعب ‪ :‬روي عن ابن عمر رضي ال عنهما ‪ :‬ترك الخلل يوهن السنان ‪ .‬وروي ‪« :‬‬

‫تخلّلوا من الطّعام ‪ ،‬فإنّه ليس شيء أشدّ على الملكين أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاما وهو‬ ‫يصلّي » ‪ .‬قال الطبّاء ‪ :‬وهو نافع أيضا للّثة ومن تغيّر النّكهة ‪.‬‬

‫ول يخلّل أسنانه في أثناء الطّعام ‪ ،‬بل إذا فرغ ‪ .‬ومثله ما ذكر في كتب سائر المذاهب ‪.‬‬

‫ما تخلّل به السنان ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫ن التّخليل قبل السّواك وبعده ‪ ،‬ومن أثر الطّعام ‪ ،‬وكون الخلل من عود ‪ ،‬ويكره‬ ‫‪ -‬يس ّ‬

‫بالحديد ونحوه ‪ ،‬وبعود يضرّه كرمّان وآس ‪ ،‬ول يخلّل بما يجهله لئلّ يكون ممّا يضرّه ‪ ،‬وكذا‬

‫ما يجرحه كما صرّح به الفقهاء ‪.‬‬

‫ول يجوز تخليل السنان أو الشّعر بآلة من الذّهب أو الفضّة ‪ ،‬وهذا باتّفاق المذاهب الربعة ‪،‬‬

‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬آنية ) ‪.‬‬

‫واختلفت عبارات الفقهاء في جواز بلع ما يخرج من خلل السنان ‪ :‬فقال الشّافعيّة والحنابلة ‪،‬‬

‫يلقي ما أخرجه الخلل ‪ ،‬ويكره أن يبتلعه ‪ ،‬وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلعه كسائر ما بفمه ‪.‬‬ ‫وقال المالكيّة ‪ :‬يجوز بلع ما بين السنان إلّ لخلطه بدم ‪ ،‬فليس مجرّد التّغيّر يصيّره نجسا‬

‫خلفا لما قيل ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬تخليل الخمر ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إذا تخلّلت بغير علج ‪ ،‬بأن تغيّرت من المرارة إلى‬

‫الحموضة وزالت أوصافها ‪ ،‬فإنّ ذلك الخلّ حلل طاهر ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ِ « :‬نعْمَ‬ ‫الُدْمُ أو الِدَا ُم الخَلّ » ‪ ،‬ولنّ علّة النّجاسة والتّحريم السكار ‪ ،‬وقد زالت ‪ ،‬والحكم يدور مع‬ ‫علّته وجودا وعدما ‪.‬‬

‫ل وعكسه عند جمهور الفقهاء‪ :‬الحنفيّة والمالكيّة وهو‬ ‫وكذلك إذا تخلّلت بنقلها من شمس إلى ظ ّ‬ ‫الصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وبه قال الحنابلة إذا كان النّقل لغير قصد التّخليل ‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬واختلفوا في جواز تخليل الخمر بإلقاء شيء فيها ‪ ،‬كالخلّ والبصل والملح ونحوه ‪ .‬فقال‬

‫ل تخليل الخمر بالعلج ‪ ،‬ول‬ ‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو رواية ابن القاسم عن مالك ‪ :‬إنّه ل يح ّ‬

‫ي صلى ال عليه وسلم‬ ‫س ِئلَ النّب ّ‬ ‫تطهر بذلك ‪ ،‬لحديث مسلم عن أنس رضي ال عنه قال ‪ُ « :‬‬ ‫عن الخمرِ ُتتّخ ُذ خلً ‪ ،‬قال ‪ :‬ل » ‪.‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أمر بإهراقها »‪ .‬ولنّ الخمر نجسة أمر اللّه تعالى‬ ‫« ول ّ‬

‫باجتنابها ‪ ،‬وما يلقى في الخمر يتنجّس بأوّل الملقاة ‪ ،‬وما يكون نجسا ل يفيد الطّهارة ‪.‬‬

‫وصرّح الحنفيّة ‪ -‬وهو الرّاجح عند المالكيّة بجواز تخليل الخمر ‪ ،‬فتصير بعد التّخليل طاهر ًة‬

‫ل » فيتناول جميع أنواعها ‪ ،‬ولنّ‬ ‫ل عندهم ‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم ‪ِ « :‬نعْمَ الِدَامُ الخَ ّ‬ ‫حل ً‬

‫بالتّخليل إزالة الوصف المفسد وإثبات الصّلح ‪ ،‬والصلح مباح كما في دبغ الجلد ‪ ،‬فإنّ‬ ‫ط ُهرَ » ‪.‬‬ ‫الدّباغ يطهّره ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪َ « :‬أّيمَا ِإهَاب ُدبِغَ فقد َ‬

‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬خمر ) ‪.‬‬

‫تخلية *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخلية لغةً ‪ :‬مصدر خلّى ‪ ،‬ومن معانيها في اللّغة ‪ :‬التّرك والعراض ‪.‬‬

‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬تمكين الشّخص من التّصرّف في الشّيء دون مانع ‪ .‬ففي البيع مثلً إذا‬ ‫أذن البائع للمشتري في قبض المبيع مع عدم وجود المانع حصلت التّخلية ‪ ،‬ويعتبر المشتري‬

‫قابضا للمبيع مطلقا ‪.‬‬

‫وتستعمل التّخلية أحيانا بمعنى الفراج ‪ ،‬كما يقولون ‪ :‬يحبس القاتل ول يخلّى بكفيل ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬القبض ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬قبض الشّيء ‪ :‬أخذه ‪ .‬واستعمله الفقهاء بمعنى حيازة الشّيء والتّمكّن من التّصرّف فيه ‪،‬‬

‫فالفرق بين التّخلية والقبض من وجهين ‪:‬‬

‫الوّل ‪ :‬أنّ التّخلية نوع من القبض ‪ ،‬ويحصل القبض بأمور أخرى أيضا ‪ ،‬كالتّناول باليد‬

‫والنّقل ‪ ،‬وكذلك التلف ‪ ،‬فإذا أتلف المشتري المبيع في يد البائع مثلً صار قابضا له ‪ .‬الثّاني‬

‫‪ :‬أنّ التّخلية تكون من قبل المعطي ‪ ،‬والقبض من قبل الخذ ‪ ،‬فإذا خلّى البائع بين المبيع وبين‬

‫المشتري برفع الحائل بينهما ‪ ،‬حصلت التّخلية من البائع والقبض من المشتري‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّسليم ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬تسليم الشّيء ‪ :‬إعطاؤه وجعله سالما خالصا ‪ ،‬يقال ‪ :‬سلّم الشّيء له أخلصه وأعطاه إيّاه ‪،‬‬

‫فهو قريب من التّخلية في المعنى ‪ ،‬حتّى إنّ الحناف قالوا ‪ :‬التّسليم عندنا هو التّخلية ‪.‬‬

‫والجمهور على أنّ التّخلية تسليم إذا كان المبيع عقارا ‪ ،‬أمّا في المنقول فبحسبه أو بالعرف ‪،‬‬

‫كما سيأتي ‪ .‬والصل أنّ التّخلية نوع من أنواع التّسليم ‪ ،‬والقبض أثر لهما ‪ ،‬فالتّسليم قد يكون‬ ‫بالنّقل والتّحويل ‪ ،‬وقد يكون بالتّخلية ‪ ،‬فإذا باع دارا مثلً ‪ ،‬وخلّى البائع بين المبيع وبين‬

‫المشتري ‪ ،‬برفع الحائل بينهما على وجه يتمكّن من التّصرّف فيه ‪ ،‬أصبح البائع مسلّما للمبيع‬ ‫والمشتري قابضا له ‪.‬‬

‫الحكام الجمالية للتخلية ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬التخلية القبض في العقار اتفاقا ‪ ،‬وكذلك في بيع الثمر على الشجر عند الحنفية والشافعية ‪،‬‬

‫خلفا للمالكية والحنابلة ‪.‬‬

‫أما تخلية ما يمكن نقله من العيان فاختلفوا فيها ‪:‬‬

‫قال الحنفية ‪ ،‬وهو قول عند الشافعية ‪ ،‬ورواية عند الحنابلة ‪ :‬إن التخلية قبض حكما مع القدرة‬

‫عليه بل كلفة ‪ ،‬وذلك يختلف بحسب اختلف المبيع ‪ ،‬ففي نحو حنطة في بيت مثلً دفع المفتاح‬

‫إذا أمكنه الفتح بل كلفة قبض ‪ ،‬وفي نحو بقر في مرعى بحيث يرى ويشار إليه قبض ‪ ،‬وفي‬

‫نحو ثوب بحيث لو مدّ يده فتصل إليه قبض ‪ ،‬وفي نحو فرس أو طير في بيت يمكن أخذه منه‬ ‫بل معين قبض ‪.‬‬

‫واشترط الحنفية ل عتبار التخلية قبضا أن يقول البائع ‪ :‬خليت بينك وبين المبيع ‪ ،‬فلو لم يقله ‪،‬‬

‫أو كان بعيدا لم يصر قابضا ‪ ،‬والمراد به الذن بالقبض ‪ ،‬ل خصوص لفظ التخلية ‪.‬‬

‫وقال الشافعية في المعتمد ‪ :‬إن ما ينقل في العادة ‪ ،‬كالخشاب والحبوب ونحوها ‪ ،‬فقبضه‬

‫بالنقل إلى مكان ل اختصاص للبائع به ‪ ،‬وما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب والكتاب‬ ‫فقبضه بالتناول ‪ .‬وهو ما ذهب إليه الحنابلة ‪ .‬فل تكفي التخلية في المنقول عندهم ‪.‬‬

‫وصرح المالكية بأن قبض العقار يكون بالتخلية للمشتري وتمكينه من التصرف فيه ‪ ،‬بتسليم‬

‫مفاتيحه إن كانت ‪ ،‬وقبض غيره يكون حسب المتعارف بين الناس كحيازة الثوب واستلم مقود‬ ‫الدابة ‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬وفي المواضع التي تعتبر التخلية فيها تسليما وقبضا ينتقل الضمان من ذمة المخلي إلى‬

‫ذمة القابض ‪ ،‬وهو يتحمل الخسارة ‪ ،‬ففي عقد البيع مثلً إذا حصل القبض بالتخلية بين المبيع‬

‫والمشتري فالضمان على المشتري ‪ ،‬لن ضمان المبيع بعد القبض على المشتري بالتفاق ‪.‬‬

‫انظر مصطلح ‪ ( :‬ضمان ) ‪.‬‬

‫وزاد المالكية أن الضمان يحصل في البيع الصحيح بمجرد العقد ‪ ،‬ول يحتاج إلى القبض إل‬

‫في مواضع منها ‪ :‬بيع الغائب والبيع الفاسد والبيع بالخيار ‪ ،‬وبيع مافيه حق التوفية بالكيل أو‬

‫الوزن أو العدد ‪ .‬وهناك عقود ل تتم إل بالقبض ‪ ،‬كعقد الرهن والقرض والعارية والهبة‬

‫ونحوها ‪ ،‬مع تفصيل في بعضها ‪ ،‬ففي هذه العقود إذا حصلت التخلية بشروطها ‪ ،‬واعتبرت‬ ‫قبضا ‪ ،‬تم العقد وترتبت عليه آثاره ‪.‬‬

‫وتفصيل هذه المسائل وما يتعلق بآثار القبض والتخلية ينظر في مصطلح ‪ ( :‬قبض ) ‪.‬‬

‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬بحث الفقهاء التخلية في عقد البيع في بحث كيفية تسليم المبيع ‪ ،‬وفي السلم والرهن والهبة‬

‫وغيرها من العقود والتصرفات التي يذكر فيها حكم القبض فيما إذا كان موضوعها عقارا أو‬

‫منقولً ‪ ،‬كما ذكرها بعضهم بمعنى الفراج في بحث الجنايات وتخلية المحبوس بالكفالة ‪.‬‬

‫وبحث بعض الفقهاء تخلية الطريق بمعنى كون الطريق خاليا من مانع ‪ ،‬كعدو ونحوه ‪ ،‬في‬ ‫كتاب الحج ‪.‬‬

‫تخميس *‬

‫التعريف ‪:‬‬

‫‪ -1‬التخميس في اللغة ‪ :‬جعل الشيء خمسة أخماس ‪ ،‬واشتهر استعمال هذا اللفظ عند الفقهاء‬ ‫في أخذ خمس الغنائم ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬تخميس الغنيمة ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫الحكم الجمالي ‪:‬‬

‫‪ -‬يجب على المام تخميس الغنيمة وتوزيع الربعة الخماس على الغانمين ‪ ،‬بعد إخراج‬

‫خمُسَه ولِل َرسُولِ ولِ ِذيْ ال ُق ْربَى‬ ‫نل ُ‬ ‫غ ِن ْمتُم منْ شَي ٍء َفأَ ّ‬ ‫الخمس ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬واعَْلمُوا َأنّما َ‬

‫س ِبيْل } ‪ ،‬ول يعلم خلف بين الفقهاء في أن ما يعتبر غنيمة يخمس‬ ‫وال َيتَامَى وال َمسَاكِينِ وابنِ ال َ‬ ‫‪ .‬وأما ما حكاه ابن كج وجها عند الشافعية من عدم تخميس الغنيمة إذا شرطه المام‬

‫لضرورة ‪ ،‬فقد قال عنه النووي ‪ :‬شاذ وباطل ‪.‬‬

‫وللفقهاء فيما يعتبر غنيمة وما ل يعتبر ‪ ،‬ومصرف خمس الغنيمة ‪ ،‬وكيفية قسمة الربعة‬

‫أخماس ‪ ،‬وشروط من يستحقها خلف وتفصيل ينظر في ‪ ( :‬غنيمة ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تخميس الفيء ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬وهو ظاهر مذهب الحنابلة ‪ -‬إلى أنّ الفيء ل يخمّس ‪ ،‬لقوله‬

‫خ ْيلٍ ول ِركَابٍ } فجعله كلّه‬ ‫ج ْفتُم عليه مِنْ َ‬ ‫تعالى ‪ { :‬وَما أَفَا َء اللّهُ على َرسُولِه منهم فَمَا أَو َ‬

‫لجميع المسلمين ‪ .‬قال عمر رضي ال عنه لمّا قرأ هذه الية ‪ ":‬استوعبت المسلمين ‪ ،‬ولئن‬ ‫عشت ليأتينّ الرّاعي ‪ -‬وهو بسرو حمير ‪ -‬نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه "‪.‬‬

‫ويرى الشّافعيّة والخرقيّ من الحنابلة ‪ -‬وهو إحدى الرّوايتين عن المام أحمد ‪ -‬تخميس الفيء‬ ‫‪ ،‬وصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة ‪.‬‬

‫وقال القاضي من الحنابلة ‪ :‬إنّ الفيء لهل الجهاد خاصّةً دون غيرهم من العراب ومن ل‬

‫ي صلى ال عليه وسلم لحصول النّصرة به ‪ ،‬فلمّا مات‬ ‫يعدّ نفسه للجهاد ‪ ،‬لنّ ذلك كان للنّب ّ‬ ‫أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك ‪ ،‬وهم المقاتلة دون غيرهم ‪.‬‬

‫وللفقهاء في تعريف الفيء ومصرفه تفاصيل تنظر في ( فيء ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬تخميس الرض المغنومة عنو ًة ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬يرى الشّافعيّة ‪ -‬وهو قول للمالكيّة ‪ ،‬ورواية للحنابلة ذكرها أبو الخطّاب ‪ -‬تخميس‬

‫ن الرض غنيمة كسائر ما ظهر عليه المام من قليل أموال‬ ‫الرض الّتي فتحت عنو ًة ‪ ،‬ل ّ‬

‫المشركين أو كثيره ‪ ،‬وحكم اللّه عزّ وجلّ في الغنيمة أن تخمّس ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو قول للمالكيّة ‪ -‬إلى أنّ المام مخيّر بين تخميس الرض الّتي فتحت‬

‫عنوةً وتقسيمها بين الغانمين ‪ ،‬كسائر المغنم بعد إخراج الخمس لجهاته ‪ « ،‬كما فعل رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم بخيبر » ‪ ،‬وبين إقرار أهلها عليها ووضع الجزية عليهم وضرب الخراج‬ ‫على أراضيهم ‪ ،‬كما فعل عمر رضي ال عنه بسواد العراق بموافقة من الصّحابة ‪ ،‬وقال‬

‫صاحب ال ّدرّ المختار ‪ :‬الوّل أولى عند حاجة الغانمين ‪.‬‬

‫قال ابن عابدين ‪ :‬إنّ ما فعله عمر إنّما فعله لنّه كان هو الصلح إذ ذاك ‪ ،‬كما يعلم من القصّة‬ ‫‪ ،‬ل لكونه هو اللزم ‪ .‬كيف وقد « قسّم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أرض خيبر بين‬

‫الغانمين » ‪ ،‬فعلم أنّ المام مخيّر في فعل ما هو الصلح فيفعله ‪.‬‬

‫ن الرض المفتوحة عنو ًة‬ ‫وذهب المالكيّة على المشهور ‪ -‬وهو رواية عن المام أحمد ‪ -‬إلى أ ّ‬ ‫ل تخمّس ول تقسم ‪ ،‬بل توقف ويصرف خراجها في مصالح المسلمين ‪ ،‬لنّ الئمّة بعد النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم لم يقسموا أرضا افتتحوها ‪.‬‬

‫والمذهب عند الحنابلة أنّ المام يخيّر في الرض المغنومة عنو ًة ‪ ،‬بين قسمتها كمنقول ‪ ،‬وبين‬

‫وقفها على المسلمين ‪ .‬قال ابن تيميّة ‪ :‬إذا قسّم المام الرض بين الغانمين ‪ ،‬فمقتضى كلم‬

‫المجد وغيره ‪ :‬أنّه يخمّسها حيث قالوا " كالمنقول " قال ‪ :‬وعموم كلم أحمد والقاضي وقصّة‬

‫خيبر ‪ ،‬تدلّ على أنّها ل تخمّس ‪ ،‬لنّها فيء وليست بغنيمة ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬تخميس السّلَب ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬إنّ السّلب ل يخمّس ‪ ،‬سواء أقال المام ‪ :‬من قتل قتيلً فله سلبه ‪ ،‬أم لم يقله ‪ .‬لما روى‬

‫عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي ال عنهما « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قضى في‬

‫السّلب للقاتل ‪ ،‬ولم يخمّس السّلب » ‪ .‬وبهذا قال الشّافعيّة على المشهور ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وهو قول‬ ‫الوزاعيّ واللّيث وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة إلى أنّ للمام تنفيل السّلب قبل حصول الغنيمة في يد الغانمين ‪ ،‬ول خمس فيما‬

‫ينفّل ‪ ،‬لنّ الخمس إنّما يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين ‪ ،‬والنّفل ما أخلصه المام‬ ‫لصاحبه وقطع شركة الغيار عنه ‪ ،‬فل يجب فيه الخمس ‪.‬‬

‫ويرى المالكيّة أنّ السّلب من جملة النّفل ‪ ،‬يستحقّه كلّ من قتل قتيلً بعد قول المام ‪ :‬من قتل‬ ‫ن النّفل ل يكون إلّ‬ ‫قتيلً فله سلبه ‪ ،‬ول يعطيه المام إلّ من الخمس على حسب اجتهاده ‪ ،‬ل ّ‬

‫من الخمس ‪ ،‬أي ل من الربعة الخماس ‪ ،‬فكذا السّلب ‪ .‬أمّا إذا لم يجعل المام السّلب للقاتل ‪،‬‬ ‫فيرى الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬وهو قول الثّوريّ ‪ ،‬ورواية عن أحمد ‪ -‬أنّ القاتل ل يستحقّ سلب‬

‫المقتول في هذه الحالة ‪ ،‬فهو من جملة الغنيمة ‪ ،‬بمعنى أنّ السّلب يخمّس ‪ ،‬فيدفع خمسه لهل‬

‫الخمس ‪ ،‬ثمّ يقسم باقيه كسائر المغنم ‪ ،‬القاتل وغيره في ذلك سواء ‪.‬‬

‫وهناك قول آخر للشّافعيّة يقابل المشهور ‪ ،‬بتخميس السّلب ودفع خمسه لهل الخمس باقيه‬

‫للقاتل ‪ ،‬ثمّ تقسيم باقي الغنيمة ‪ .‬وللفقهاء في تعريف السّلب وشروط استحقاقه تفاصيل يرجع‬ ‫إليها في ( تنفيل ‪ ،‬وسلب ‪ ،‬وغنيمة ) ‪.‬‬

‫هـ – تخميس الرّكاز ‪:‬‬

‫‪ - 6‬ل خلف بين الفقهاء في تخميس الرّكاز بشروط ذكروها ‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال‬ ‫عنه عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬العجماء جبار ‪ ،‬والبئر جبار ‪ ،‬والمعدن‬

‫جبار ‪ ،‬وفي الرّكاز الخمس » ولنّه مال كافر مظهور عليه بالسلم فوجب فيه الخمس‬

‫كالغنيمة ‪ .‬وفي تعريف الرّكاز وأنواعه وحكم كلّ نوع وشروط إخراج الخمس منه ومصرفه‬ ‫خلف وتفصيل موطنه ( ركاز ‪ ،‬وزكاة ) ‪.‬‬

‫خرْص ‪.‬‬ ‫انظر ‪َ :‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تَخْمين *‬ ‫تخنّث *‬

‫خنّث ‪.‬‬ ‫خنّث الرّجل إذا فعل فعل ال ُم َ‬ ‫‪ -‬التّخنّث في اللّغة بمعنى ‪ :‬التّثنّي والتّكسّر ‪ ،‬و َت َ‬

‫وخنّث الرّجل كلمه ‪ :‬إذا شبّهه بكلم النّساء لينا ورخامةً ‪.‬‬

‫ي النّساء والتّشبّه‬ ‫والتّخنّث اصطلحا كما يؤخذ من تعريف ابن عابدين للمخنّث ‪ :‬هو التّزيّي بز ّ‬

‫ن في تليين الكلم عن اختيار ‪ ،‬أو الفعل المنكر ‪ .‬وقال صاحب ال ّدرّ ‪ :‬المخنّث بالفتح من‬ ‫به ّ‬

‫يفعل الرّديء ‪ .‬وأمّا بالكسر فالمتكسّر المتليّن في أعضائه وكلمه وخلقه ‪ .‬ويفهم من القليوبيّ‬ ‫أنّه ل فرق بين الفتح والكسر في المعنى ‪ ،‬فهو عنده المتشبّه بحركات النّساء ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬يحرم على الرّجال التّخنّث والتّشبّه بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ‪،‬‬

‫وكذلك في الكلم والمشي ‪ ،‬لما روي عن ابن عبّاس رضي ال عنهما أنّه قال ‪ « :‬لعن النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم المخنّثين من الرّجال والمترجّلت من النّساء » وفي رواية أخرى ‪:‬‬

‫« لعن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ‪ ،‬والمتشبّهات من النّساء‬

‫بالرّجال » قال ابن حجر في الفتح ‪ :‬والنّهي مختصّ بمن تعمّد ذلك ‪ ،‬وأمّا من كان أصل خلقته‬ ‫‪ ،‬فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والدمان على ذلك بالتّدريج ‪ ،‬فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ ‪ ،‬ول‬

‫سيّما إذا بدا منه ما يدلّ على الرّضا به ‪ ،‬وأمّا إطلق من قال ‪ :‬إنّ المخنّث خلقةً ل يتّجه عليه‬

‫الذّمّ ‪ ،‬فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التّثنّي والتّكسّر في المشي والكلم بعد تعاطيه‬ ‫المعالجة لترك ذلك ‪.‬‬

‫إمامة المخنّث ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬المخنّث بالخلقة ‪ ،‬وهو من يكون في كلمه لين وفي أعضائه تكسّر خلقةً ‪ ،‬ولم يشتهر‬

‫بشيء من الفعال الرّديئة ل يعتبر فاسقا ‪ ،‬ول يدخله الذّمّ واللّعنة الواردة في الحاديث ‪،‬‬

‫فتصحّ إمامته ‪ ،‬لكنّه يؤمر بتكلّف تركه والدمان على ذلك بالتّدريج ‪ ،‬فإذا لم يقدر على تركه‬ ‫فليس عليه لوم ‪ .‬أمّا المتخلّق بخلق النّساء حركةً وهيئةً ‪ ،‬والّذي يتشبّه بهنّ في تليين الكلم‬

‫وتكسّر العضاء عمدا ‪ ،‬فإنّ ذلك عادة قبيحة ومعصية ويعتبر فاعلها آثما وفاسقا ‪.‬‬ ‫والفاسق تكره إمامته عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو رواية عند المالكيّة ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ ،‬والمالكيّة في رواية أخرى ‪ ،‬ببطلن إمامة الفاسق ‪ ،‬كما هو مبيّن في مصطلح‬ ‫ل من‬ ‫‪ ( :‬إمامة ) ‪ .‬ونقل البخاريّ عن الزّهريّ قوله ‪ :‬ل نرى أن يصلّى خلف المخنّث إ ّ‬

‫ضرورة ل ب ّد منها ‪.‬‬

‫شهادة المخنّث ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬صرّح الحنفيّة أنّ المخنّث الّذي ل تقبل شهادته هو الّذي في كلمه لين وتكسّر ‪ ،‬إذا كان‬

‫يتعمّد ذلك تشبّها بالنّساء ‪ .‬وأمّا إذا كان في كلمه لين ‪ ،‬وفي أعضائه تكسّر خلقةً ‪ ،‬ولم يشتهر‬ ‫بشيء من الفعال الرّديئة ‪ ،‬فهو عدل مقبول الشّهادة ‪.‬‬

‫واعتبر الشّافعيّة والحنابلة التّشبّه بالنّساء محرّما تردّ به الشّهادة ‪ ،‬ول يخفى أنّ المراد بالتّشبّه‬

‫التّعمّد ‪ ،‬ل المشابهة الّتي تأتي طبعا ‪.‬‬

‫واعتبر المالكيّة المجون ممّا تردّ به الشّهادة ‪ ،‬ومن المجون التّخنّث ‪.‬‬

‫وعليه تكون المذاهب متّفقةً في التّفصيل الّذي أورده الحنفيّة ‪ ،‬وتفصيله في ( شهادة ) ‪.‬‬

‫نظر المخنّث للنّساء ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬المخنّث بالمعنى المتقدّم ‪ ،‬والّذي له أرب في النّساء ‪ ،‬ل خلف في حرمة اطّلعه على‬

‫النّساء ونظره إليهنّ ‪ ،‬لنّه فحل فاسق ‪ -‬كما قال ابن عابدين ‪.‬‬

‫أمّا إذا كان مخنّثا بالخلقة ‪ ،‬ول إرب له في النّساء ‪ ،‬فقد صرّح المالكيّة والحنابلة وبعض‬

‫الحنفيّة بأنّه يرخّص بترك مثله مع النّساء ‪ ،‬ول بأس بنظره إليهنّ ‪ ،‬استدللً بقوله تعالى فيمن‬

‫يحلّ لهم النّظر إلى النّساء ‪ ،‬ويحلّ للنّساء الظّهور أمامهم متزيّنات ‪ ،‬حيث عدّ منهم أمثال‬

‫ل ْربَةِ من ال ّرجَالِ ‪. }...‬‬ ‫غيْ ِر أُولي ا ِ‬ ‫هؤلء ‪ ،‬وهو { أو التّابِعينَ َ‬

‫ن المخنّث ‪ -‬ولو كان ل إرب له في النّساء ‪ -‬ل يجوز‬ ‫وذهب الشّافعيّة وأكثر الحنفيّة إلى أ ّ‬

‫ن هؤلءِ عليكنّ » ‪.‬‬ ‫نظره إلى النّساء ‪ ،‬وحكمه في هذا كالفحل ‪ :‬استدللً بحديث « ل يَدخل ّ‬

‫عقوبة المخنّث ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬المخنّث بالختيار من غير ارتكاب الفعل القبيح معصية ل حدّ فيها ول كفّار ًة ‪ ،‬فعقوبته‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫عقوبة تعزيريّة تناسب حالة المجرم وشدّة الجرم ‪ .‬وقد ورد « أ ّ‬

‫عزّر المخنّثين بالنّفي ‪ ،‬فأمر بإخراجهم من المدينة ‪ ،‬وقال ‪ :‬أخرجوهم من بيوتكم » وكذلك‬ ‫فعل الصّحابة من بعده ‪ .‬أمّا إن صدر منه مع تخنّثه تمكين الغير من فعل الفاحشة به ‪ ،‬فقد‬

‫اختلف في عقوبته ‪ ،‬فذهب كثير من الفقهاء إلى أنّه تطبّق عليه عقوبة الزّنى ‪.‬‬

‫وذهب أبو حنيفة إلى أنّ عقوبته تعزيريّة قد تصل إلى القتل أو الحراق أو الرّمي من شاهق‬

‫جبل مع التّنكيس ‪ ،‬لنّ المنقول عن الصّحابة اختلفهم في هذه العقوبة ‪ ،‬ويراجع في هذا‬

‫مصطلح ‪ (:‬حدّ عقوبة ‪ ،‬تعزير ‪ ،‬ولواط ) ‪.‬‬

‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬يذكر الفقهاء أحكام التّخنّث في مباحث خيار العيب إذا كان العبد المبيع مخنّثا ‪ ،‬ويذكرونها‬

‫في بحث الشّهادة ‪ ،‬والنّكاح ‪ ،‬والنّظر إلى المرأة الجنبيّة ‪ ،‬وفي مسائل اللّباس والزّينة وأبواب‬

‫الحظر والباحة ونحوها ‪.‬‬

‫تخويف *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخويف مصدر من باب التّفعيل ‪ ،‬ومعناه في اللّغة ‪ :‬جعل الشّخص يخاف ‪ ،‬أو جعله‬

‫بحالة يخاف النّاس ‪ .‬يقال ‪ :‬خوّفه تخويفا ‪ :‬أي جعله يخاف ‪ ،‬أو صيّره بحال يخافه النّاس ‪.‬‬

‫ف أَوْلِياءَه } أي يجعلكم تخافون أولياءه ‪ ،‬وقال‬ ‫ش ْيطَانُ يُخ ّو ُ‬ ‫وفي التّنزيل العزيز ‪ِ { :‬إّنمَا ذَِلكُم ال ّ‬

‫ثعلب ‪ :‬معناه يخوّفكم بأوليائه ‪.‬‬

‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬

‫النذار ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬النذار هو ‪ :‬التّخويف مع إعلم موضع المخافة ‪ .‬فإذا خوّف النسان غيره وأعلمه حال‬

‫ما يخوّفه به ‪ ،‬فقد أنذره ‪ .‬فالنذار أخصّ من التّخويف ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ومواطن البحث ‪:‬‬ ‫ما يكون التّخويف به إكراها ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّخويف بالقتل والضّرب والحبس ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫ن الكراه يحصل‬ ‫‪ -‬يرى الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬وهو رواية عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬أ ّ‬

‫بتخويف بقتل أو ضرب شديد أو حبس طويل ‪.‬‬

‫أمّا التّخويف بالضّرب والحبس اليسيرين فيختلف باختلف طبقات النّاس وأحوالهم ‪ ،‬فالتّخويف‬

‫بضرب سوط أو حبس يوم في حقّ من ل يبالي ليس بإكراه ‪ ،‬إلّ أنّ التّخويف بهما يعتبر‬

‫إكراها في حقّ ذي جاه يعلم أنّه يستضرّ بهما ‪ ،‬كما يتضرّر واحد من أوساط النّاس بالضّرب‬

‫ن مطلق القيد والحبس إكراه في حقّه ‪ .‬وقال القاضي‬ ‫الشّديد ‪ ،‬وذلك كالقاضي وعظيم البلد ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫من الحنابلة ‪ ،‬وهو وجه عند الشّافعيّة ‪ -‬حكاه الحنّاطيّ ‪ -‬أنّ الكراه يحصل بالتّخويف بالقتل‬

‫فقط ‪.‬وهناك وجه آخر عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّ التّخويف بالحبس ل يكون إكراها‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّخويف بأخذ المال وإتلفه ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬يرى الحنفيّة ‪ -‬وهو قول عند المالكيّة ‪ -‬حصول الكراه بالتّخويف بأخذ المال ‪ ،‬إذا قال‬

‫متغلّب لرجل ‪ :‬إمّا أن تبيعني هذه الدّار أو أدفعها إلى خصمك ‪ ،‬فباعها منه ‪ ،‬فهو بيع مكره ‪.‬‬

‫ويشترط القهستانيّ من الحنفيّة لحصول الكراه ‪ -‬كما يفهم من سياق عبارة ردّ المحتار ‪ -‬كون‬ ‫التّخويف بإتلف كلّ المال ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة في وجه ‪ -‬وهو المذهب عند الحنابلة ‪ ،‬وقول عند المالكيّة ‪ -‬إنّ الكراه يحصل‬

‫بأخذ المال الكثير بإتلفه ‪ .‬وهناك وجه عند الشّافعيّة ‪ -‬وهو أحد القوال الثّلثة للمالكيّة ‪ -‬أنّ‬ ‫التّخويف بأخذ المال ليس إكراها ‪.‬‬

‫وللفقهاء تفاصيل في معنى الكراه وأنواعه وشروطه وأثره وما يكون التّخويف به إكراها تنظر‬

‫في مواطنها من كتب الفقه ‪ ،‬وفي مصطلح ( إكراه ) ‪.‬‬

‫القتل تخويفا ‪:‬‬

‫‪ - 5‬ل خلف بين الفقهاء في إمكان حصول القتل بالتّخويف ‪ .‬كمن شهر سيفا في وجه إنسان ‪،‬‬ ‫أو دله من مكان شاهق فمات من روعته ‪ ،‬وكمن صاح في وجه إنسان فجأ ًة فمات منها ‪،‬‬ ‫وكمن رمى على شخص حيّةً فمات رعبا وما إلى ذلك ‪.‬‬

‫وتنظر التّفاصيل المتعلّقة بأنواع القتل ‪ ،‬وصفة كلّ نوع ‪ ،‬وحكم القتل بالتّخويف في مختلف‬

‫صوره في مصطلح ( قتل ) ‪.‬‬

‫الجهاض بسبب التّخويف ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬يرى الفقهاء وجوب الضّمان على من خوّف امرأةً فأجهضت بسبب التّخويف ‪ ،‬على‬

‫خلف وتفصيل في الجهاض المعاقب عليه ‪ ،‬وعقوبة الجهاض يرجع إليه في مصطلح‬ ‫( إجهاض ) ‪.‬‬

‫تخيير *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّخيير لغةً ‪ :‬مصدر خيّر ‪ ،‬يقال خيّرته بين الشّيئين ‪ ،‬أي ‪ :‬فوّضت إليه الخيار ‪ ،‬وتخيّر‬

‫الشّيء ‪ :‬اختاره ‪ ،‬والختيار ‪ :‬الصطفاء وطلب خير المرين ‪ ،‬وكذلك التّخيّر ‪ .‬والستخارة ‪:‬‬

‫طلب الخيرة في الشّيء ‪ ،‬وخار اللّه لك أي ‪ :‬أعطاك ما هو خير لك ‪.‬‬ ‫والخيرة ‪ -‬بسكون الياء ‪ -‬السم منه ‪.‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬ل يخرج استعمال الفقهاء لمصطلح ( تخيير ) عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬

‫فهو عندهم ‪ :‬تفويض المر إلى اختيار المكلّف في انتقاء خصلة من خصال معيّنة شرعا ‪،‬‬

‫ويوكل إليه تعيين أحدها ‪ ،‬بشروط معلومة ‪ ،‬كتخييره بين خصال الكفّارة ‪ ،‬وتخييره بين‬

‫القصاص والعفو ‪ ،‬وتخييره في جنس ما يخرج في الزّكاة ‪ ،‬وتخييره في فدية الحجّ ‪ ،‬وتخييره‬ ‫في التّصرّف في السرى ‪ ،‬وتخييره في حدّ المحارب ‪ ،‬وغيرها من الحكام ‪ .‬والتّخيير بهذا‬ ‫دليل على سماحة الشّريعة ويسرها ومراعاتها لمصالح العباد فيما فوّضت إليهم اختياره ‪ ،‬ممّا‬

‫ضرّ عنهم ‪.‬‬ ‫يجلب النّفع لهم ويدفع ال ّ‬

‫التّخيير عند الصوليّين ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬يتكلّم الصوليّون على التّخيير في المباح ‪ ،‬والمندوب ‪ ،‬والواجب المخيّر ‪ ،‬والواجب‬

‫الموسّع ‪ ،‬والنّهي على جهة التّخيير ‪ ،‬والرّخصة ‪ .‬وتفصيل ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الباحة ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الباحة في اللّغة ‪ :‬الحلل ‪ ،‬يقال ‪ :‬أبحتك الشّيء أي ‪ :‬أحللته لك ‪ ،‬والمباح خلف‬

‫المحظور ‪.‬‬

‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬الذن بالتيان بالفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الذن ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّفويض ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّفويض مصدر فوّض ‪ ،‬يقال ‪ :‬فوّض إليه الختيار بين الشّيئين ‪ ،‬فاختار أحدهما ‪ ،‬ومنه‬

‫تفويض الزّوج إلى زوجته طلق نفسها أو بقاءها في عصمته ‪.‬‬

‫أحكام التّخيير ‪:‬‬

‫للتّخيير أحكام خاصّة في الشّريعة السلميّة نبيّنها فيما يلي ‪:‬‬

‫أ ّولً ‪ :‬تخيير المصلّي في أداء الصّلة في الوقت الموسّع ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على القول بتخيير المصلّي في أداء الصّلة في الوقت الموسّع ‪ ،‬وهو الوقت‬

‫الّذي وكّل إيقاع الصّلة فيه لختيار المصلّي ‪ ،‬فإن شاء أوقعها في أوّله ‪ ،‬أو في وسطه ‪ ،‬أو‬

‫في آخره ‪ ،‬ول إثم عليه فيما يختار ‪ .‬وذهب بعض الفقهاء إلى القول بالثم إن أخّر إلى وقت‬

‫الكراهة في بعض الوقات ‪ .‬وتفصيل ذلك في ( أوقات الصّلة ) ‪.‬‬

‫‪ -6‬وتجب الصّلة عند الجمهور بأوّل الوقت وجوبا موسّعا ‪ ،‬بمعنى أنّه ل يأثم بتأخيرها ‪ .‬فلو‬

‫أخّرها عازما على فعلها من غير عذر ‪ ،‬فمات في أثناء الوقت لم يأثم ‪ ،‬لنّه فعل ما يجوز له‬

‫ي جزء من وقتها ‪ ،‬والموت ليس من فعله ‪ ،‬فل يأثم‬ ‫فعله ‪ ،‬إذ هو بالخيار في أداء الصّلة في أ ّ‬

‫ن الموت ‪ ،‬ولم يؤ ّد حتّى مات ‪ ،‬فإنّه يموت عاصيا ‪.‬‬ ‫بالتّخيّر ‪ .‬إلّ أن يظ ّ‬

‫وكذا إذا تخلّف ظنّه فلم يمت ‪ ،‬لنّ الموسّع صار في حقّه مضيّقا ‪ ،‬وانتفى بذلك اختياره ‪.‬‬

‫فإن أخّرها غير عازم على الفعل أثم بالتّأخير ‪ ،‬وإن أخّرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتّسع‬

‫لجميع الصّلة أثم أيضا ‪ .‬وعند الحنفيّة أنّ الصّلة ل تجب في أوّل الوقت على التّعيين ‪ ،‬وإنّما‬ ‫تجب في جزء من الوقت غير معيّن ‪ ،‬والتّعيين للمصلّي باختياره من حيث الفعل ‪.‬‬

‫فإذا شرع في أوّل الوقت يجب في ذلك الوقت ‪ ،‬وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره ‪.‬‬

‫ومتى لم يعيّن بالفعل حتّى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصّلة يجب عليه تعيين ذلك الوقت‬

‫للداء فعلً ‪ ،‬حتّى يأثم بترك التّعيين ‪ ،‬لنّه ل خيار له في غيره ‪.‬‬

‫‪ -7‬ودليل التّخيير في أداء الصّلة في الوقت الموسّع حديث جبريل ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬الّذي‬

‫يرويه ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ « -‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪َ :‬أمّنِي جبريل‬ ‫عند البيت مرّتين ‪ ،‬فصلّى الظّهر في الولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ‪ ،‬ثمّ صلّى‬

‫ل شيء مثل ظلّه ‪ ،‬ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ‪،‬‬ ‫العصر حين كان ك ّ‬

‫ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق ‪ ،‬ث ّم صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على‬

‫الصّائم ‪ ،‬وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ‪ ،‬لوقت العصر بالمس ‪ ،‬ثمّ‬

‫صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه ‪ ،‬ثمّ صلّى المغرب لوقته الوّل ‪ ،‬ث ّم صلّى العشاء‬ ‫ي جبريل‬ ‫الخرة حين ذهب ثلث اللّيل ‪ ،‬ثمّ صلّى الصّبح حين أسفرت الرض ‪ ،‬ثمّ التفت إل ّ‬ ‫وقال ‪ :‬يا محمّد هذا وقت النبياء من قبلك ‪ ،‬والوقت فيما بين هذين الوقتين » ‪.‬‬

‫وفي حديث بريدة عن مسلم ‪ « :‬وقت صلتكم بين ما رأيتم » ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التّخيير في نوع ما يجب إخراجه في الزّكاة‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ البقر إذا بلغت مائ ًة وعشرين يخيّر في أخذ زكاتها بين ثلث مسنّات‬

‫أو أربع تبيعات ‪ .‬والخيار في ذلك للسّاعي عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وللمالك عند‬

‫الحنفيّة ‪ ،‬وهكذا كلّما أمكن أداء الواجب من التبعة أو المسنّات ‪.‬‬

‫أمّا البل فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين ‪ ،‬فعند المالكيّة زكاتها حقّتان أو ثلث بنات لبون ‪،‬‬ ‫والخيار فيه للسّاعي ‪.‬‬

‫ب المال من الصّنف الخر أفضل أجزأه ما‬ ‫فإن اختار السّاعي أحد الصّنفين ‪ ،‬وكان عند ر ّ‬

‫أخذه السّاعي ‪ ،‬ول يستحبّ له إخراج شيء زائد ‪ .‬وعند الشّافعيّة والحنابلة زكاتها ثلث بنات‬ ‫لبون بل تخيير ‪ .‬وعند الحنفيّة تستأنف الفريضة ‪ ،‬وتفصيل ذلك في مصطلح ( زكاة ) ‪.‬‬

‫‪ -9‬أمّا إذا ضمّت أنواعا مختلفةً من جنس واحد لتكميل نصاب السّائمة ‪ ،‬كأن تضمّ العراب إلى‬ ‫البخاتيّ من البل ‪ ،‬والجواميس إلى البقر ‪ ،‬والضّأن إلى المعز من الغنم ‪ :‬فعند المالكيّة يخيّر‬

‫السّاعي في الخذ من أيّها شاء إذا تساوى النّوعان المضمومان ‪ ،‬وإذا لم يتساويا أخذ من‬ ‫الكثر إذ الحكم للغلب ‪ .‬وعند الشّافعيّة ثلثة أقوال في المذهب ‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬أنّه يؤخذ من الغلب ‪ ،‬فإن استويا يؤخذ من الغبط للمساكين على المذهب ‪ ،‬وذلك‬

‫باعتبار القيمة ‪ ،‬كاجتماع الحقاق وبنات اللّبون ‪.‬‬

‫والقول الثّاني ‪ :‬أنّه يؤخذ من العلى ‪ ،‬كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض ‪.‬‬

‫والقول الثّالث ‪ :‬أنّه يؤخذ من الوسط كما في الثّمار ‪ ،‬وهو مذهب الحنفيّة ‪.‬‬

‫وعند الحنابلة أنّه يؤخذ من أحدهما على قدر قيمة المالين المزكّيين ‪ ،‬فإذا كان النّوعان سواءً ‪،‬‬

‫وقيمة المخرج من أحدهما اثنا عشر ‪ ،‬والمخرج من الخر خمسة عشر ‪ ،‬أخرج من أحدهما ما‬ ‫قيمته ثلثة عشر ونصف ‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬فإن اتّفق في نصاب فرضان ‪ ،‬كالمائتين من البل ‪ ،‬وهي نصاب خمس بنات لبون‬

‫ونصاب أربع حقاق ‪ ،‬فيخيّر بينهما ‪ ،‬فإن شاء أخرج أربع حقاق ‪ ،‬وإن شاء أخرج خمس بنات‬ ‫لبون ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون » ‪ ،‬ولنّه وجد ما‬

‫يقتضي إخراج كلّ نوع منهما ‪.‬‬

‫والخيار في هذا للمالك ‪ ،‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬وللشّافعيّ في القديم أنّه تجب أربع حقاق ‪ ،‬لنّه‬ ‫إذا أمكن تغيّر الفرض بالسّنّ ‪ ،‬لم يغيّر بالعدد ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬التّخيير في فدية الجناية على الحرام في الحجّ‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم إذا جنى على إحرامه بأن حلق شعره ‪ ،‬أو قلّم أظفاره ‪ ،‬أو‬

‫تطيّب ‪ ،‬أو لبس مخيطا ‪ ،‬أنّه تجب عليه الفدية وهي على التّخيير بين خصال ثلث ‪ :‬فإمّا أن‬ ‫يهدي شاةً ‪ ،‬أو يطعم ستّة مساكين ‪ ،‬أو يصوم ثلثة أيّام ‪.‬‬

‫وتفصيل موجب الفدية تقدّم في مصطلح ‪ ( :‬إحرام ) ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫صيَامٍ أو‬ ‫ن ِ‬ ‫‪ -‬ودليل ذلك قوله تعالى ‪ { :‬فَمَنْ كانَ ِمنْكم َم ِر ْيضَا أو به َأذًى منْ َر ْأسِه فَفِ ْديَةٌ م ْ‬

‫صدَقَةٍ أو ُنسُك } ‪ .‬ولحديث كعب بن عجرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ « -‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه‬ ‫َ‬

‫وسلم قال له ‪ :‬لعلّك آذاك هوا ّم رأسك ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم يا رسول اللّه ‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫احلق رأسك وصم ثلثةً ‪ ،‬أو أطعم ستّة مساكين ‪ ،‬أو انسك شاةً » ‪.‬‬

‫وقصر الحنفيّة التّخيير في الفدية على أصحاب العذار ‪ ،‬أمّا غير المعذور فيفدي بذبح شاة ‪،‬‬ ‫ول خيار له في غيرها ‪ .‬ولم يفرّق الجمهور بينهما ‪.‬‬

‫ن الية واردة في المعذور بدليل حديث كعب بن عجرة‬ ‫ودليل الحنفيّة على ما ذهبوا إليه ‪ ،‬أ ّ‬

‫المفسّرة للية ‪ ،‬فجاء في رواية ‪ « :‬قال ‪ :‬حملت إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم والقمل‬

‫يتناثر على وجهي ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ‪ ،‬أو ما كنت أرى الجهد بلغ‬

‫بك ما أرى ‪ .‬أتجد شا ًة ؟ فقلت ‪ :‬ل ‪ ،‬فقال ‪ :‬صم ثلثة أيّام ‪ ،‬أو أطعم ستّة مساكين لكلّ مسكين‬

‫نصف صاع » ‪ .‬فدلّ على أنّه كان معذورا وحملت الية عليه ‪.‬‬

‫ودليل الجمهور ما تقدّم في الية والحديث من التّخيير بلفظ " أو " ‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬والحكم ثابت في غير المعذور بطريق التّنبيه تبعا للمعذور ‪ ،‬لنّ كلّ كفّارة ثبت التّخيير‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬كما يثبت التّخيير في كفّارة قتل الصّيد في الحرم ‪.‬‬

‫فيها مع العذر ثبت مع عدمه ‪.‬‬

‫ويخيّر فيه قاتله بين ثلث خصال ‪ :‬فإمّا أن يهدي مثل ما قتله من ال ّنعَم لفقراء الحرم ‪ ،‬إن كان‬

‫الصّيد له مثل من البل أو البقر أو الغنم ‪ .‬أو أن يقوّمه بالمال ‪ ،‬ويقوّم المال طعاما ‪ ،‬ويتصدّق‬

‫بالطّعام على الفقراء ‪ .‬وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ‬

‫الصّيد يقوّم ابتدا ًء بالطّعام ‪ ،‬ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاما أجزأه ‪ .‬والخصلة الثّالثة الّتي‬

‫ل مدّ من الطّعام يوما ‪ .‬ودليل التّفاق على التّخيير في‬ ‫يخيّر فيها قاتل الصّيد أن يصوم عن ك ّ‬

‫عدْلُ ذلك صيامَا }‬ ‫كفّارة صيد الحرم قوله تعالى ‪ { :‬هَ ْديَا بَاِلغَ الكعبَةِ أو كفّارةٌ طعامُ مساكين أو َ‬ ‫و" أو " تفيد التّخيير ‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫رابعا ‪ :‬من أسلم على أكثر من أربع نسوة ‪:‬‬

‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة ومحمّد بن الحسن إلى تخيير من أسلم وتحته أكثر من‬

‫أربع نسوة ‪ ،‬أو أختان ‪ ،‬أو من ل يحلّ له الجمع بينهنّ بنسب أو رضاع ‪ ،‬فيخيّر في إمساك‬

‫من أراد منهنّ ‪ ،‬بأن يمسك أربعا أو أقلّ ‪ ،‬أو أن يمسك إحدى الختين ‪ ،‬وهكذا ‪ .‬ويفسخ نكاحه‬

‫ت وتحتي ثمان نسوة ‪،‬‬ ‫ممّن سوى من اختارهنّ ‪ .‬وذلك لحديث قيس بن الحارث قال ‪ « :‬أسلم ُ‬

‫فأتيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم فذكرت له ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬اختر منهنّ أربعا » ‪ .‬ولحديث محمّد‬ ‫بن سويد الثّقفيّ ‪ « :‬أنّ غيلن بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة ‪ ،‬فأسلمن معه ‪ ،‬فأمره النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم أن يختار منهنّ أربعا » ‪.‬‬

‫وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّ الكافر إذا أسلم وتحته خمس نسوة فصاعدا أو أختان بطل‬

‫نكاحهنّ ‪ ،‬إن كان قد تزوّجهنّ بعقد واحد ‪ ،‬فإن كان قد رتّب فالخر هو الّذي يبطل ‪ .‬ودليلهم‬ ‫على ما ذهبوا إليه أنّ هذه العقود فاسدة ‪ ،‬ولكنّا ل نتعرّض لهم ‪ ،‬لنّا أمرنا بتركهم وما‬

‫يدينون ‪ ،‬فإذا أسلموا بطلت النكحة الفاسدة ‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬ومن أحكام التّخيير في هذا الباب وآثاره ‪ :‬أنّ الختيار يحصل باللّفظ الصّريح كأن يقول‬

‫ن الطّلق ل‬ ‫‪ :‬اخترت نكاح هؤلء ‪ ،‬أو اخترت إمساكهنّ ‪ ،‬كما يحصل بأن يطلّق بعضهنّ ‪ ،‬ل ّ‬

‫يكون إلّ لزوجة ‪ .‬كما يحصل إذا وطئها ‪ ،‬وإذا وطئ الكلّ يتعيّن الربع الول للمساك ‪ ،‬وما‬ ‫عداهنّ يتعيّن للتّرك ‪.‬‬

‫وخالف الشّافعيّة في اعتبار الوطء اختيارا ‪ ،‬لنّ الختيار رهنا كالبتداء ‪ ،‬ول يصحّ ابتداء‬

‫النّكاح واستدامته إلّ بالقول ‪ .‬وإذا لم يختر أجبر على الختيار بالحبس أو بالتّعزير بالضّرب‬ ‫وغيره ‪ ،‬لنّ الختيار حقّ عليه ‪ ،‬فألزم بالخروج منه إن امتنع كسائر الحقوق ‪.‬‬

‫وعن ابن أبي هريرة من الشّافعيّة أنّه ل يضرب مع الحبس ‪ ،‬بل يشدّد عليه الحبس ‪ ،‬فإن أصرّ‬

‫عزّر ثانيا وثالثا إلى أن يختار ‪ .‬وإذا حبس ل يعزّر على الفور ‪ .‬فلعلّه يؤخّر ليفكّر فيتخيّر بعد‬

‫رويّة وإمعان نظر ‪ .‬ومدّة المهال ثلثة أيّام ‪ .‬وليس للحاكم أن يختار على الممتنع ‪ ،‬لنّ الحقّ‬ ‫ق الزّوج ‪.‬‬ ‫لغير معيّن ‪ ،‬وهو اختيار رغبة ‪ ،‬فكان من ح ّ‬

‫ومن الحكام كذلك ‪ :‬أنّه إذا أسلم بعض زوجاته ‪ ،‬وليس البواقي كتابيّات ‪ ،‬فينحصر تخييره في‬

‫المسلمات فقط ‪ ،‬وليس له أن يختار من لم يسلمن ‪ ،‬لعدم حلّهنّ له ‪.‬‬

‫ومن الحكام أنّه يلزم الزّوج النّفقة لجميعهنّ في مدّة التّخيير إلى أن يختار ‪ ،‬لنّهنّ محبوسات‬ ‫لجله ‪ ،‬وهنّ في حكم الزّوجات ‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬تخيير الطّفل في الحضانة ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى تخيير المحضون بين أبيه وأمّه إذا تنازعا فيه على ما يأتي‬

‫من التّفصيل ‪ ،‬فيلحق بأيّهما اختار ‪ .‬فإن اتّفقا على أن يكون المحضون عند أحدهما جاز ‪،‬‬

‫وعند الشّافعيّة يبقى التّخيير وإن أسقط أحدهما حقّه قبل التّخيير ‪ -‬خلفا للماورديّ والرّويانيّ ‪-‬‬

‫ول فرق في التّخيير بين الذّكر والنثى ‪.‬‬

‫ن الّتي أمر الشّرع فيها‬ ‫وعند الحنابلة ‪ :‬يخيّر الغلم إذا بلغ سبع سنين عاقلً ‪ ،‬لنّها السّ ّ‬

‫بمخاطبته بالصّلة ‪ .‬وحدّه الشّافعيّة بالتّمييز بأن يأكل وحده ‪ ،‬ويشرب وحده ‪ ،‬ولم يعتبروا‬ ‫بلوغه السّابعة حدّا ‪ ،‬فلو جاوز السّبع بل تمييز بقي عند أمّه ‪ ،‬ول فرق في هذا بين الذّكر‬

‫والنثى ‪ .‬وهذا يخالف في ظاهره ما ورد من أمره بالصّلة إذا بلغ سبع سنين ‪ ،‬وعدم أمره بها‬ ‫قبل أن يبلغها وإن ميّز ‪ .‬والفرق بينهما أنّ في أمره بالصّلة قبل السّبع مش ّقةً ‪ ،‬فخفّف عنه ذلك‬ ‫‪ .‬بخلف الحضانة ‪ ،‬لنّ المدار في التّخيير على معرفة ما فيه صلح نفسه وعدمه ‪ ،‬فيقيّد‬

‫بالتّمييز ‪ ،‬وإن لم يجاوز السّبع ‪.‬‬

‫وفرّق الحنابلة بين الذّكر والنثى ‪ ،‬فيخيّر الصّبيّ إذا بلغ سبع سنين ‪ ،‬أمّا البنت فتكون في‬

‫حضانة والدها إذا تمّ لها سبع سنين ‪ ،‬حتّى سنّ البلوغ ‪ ،‬وبعد البلوغ تكون عند الب أيضا إلى‬

‫الزّفاف وجوبا ‪ ،‬ولو تبرّعت ال ّم بحضانتها ‪ ،‬لنّ الغرض من الحضانة الحفظ ‪ ،‬والب أحفظ‬

‫لها ‪ .‬ولنّها تخطب منه ‪ ،‬فوجب أن تكون تحت نظره ‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫‪ -‬والتّخيير في الحضانة مشروط بالسّلمة من الفساد ‪ ،‬فإذا علم أنّه يختار أحدهما ليمكّنه‬

‫من الفساد ‪ ،‬ويكره الخر لما سيلزمه به من أدب ‪ ،‬لم يعمل بمقتضى اختياره ‪ ،‬لنّه مبنيّ على‬

‫الشّهوة ‪ ،‬فيكون فيه إضاعة له ‪.‬‬

‫كما أنّه مشروط بأن يظهر للحاكم معرفته بأسباب الختيار ‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪ -‬ودليل التّخيير ما رواه أبو هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ « :‬جاءت امرأة إلى النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم فقالت ‪ :‬إنّ زوجي يريد أن يذهب بابني ‪ ،‬وقد سقاني من بئر أبي عنبة‬

‫ونفعني ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬هذا أبوك وهذه أمّك ‪ ،‬فخذ بيد أيّهما شئت ‪ ،‬فأخذ‬

‫بيد أمّه ‪ ،‬فانطلقت به » وما ورد من قضاء عمر بذلك ‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪ -‬ومن أحكام التّخيير ‪ :‬أنّه لو امتنع المختار من كفالة المحضون كفله الخر ‪ ،‬فإن رجع‬

‫الممتنع منها أعيد التّخيير ‪ .‬وإن امتنعا أي الب والمّ ‪ ،‬خيّر بين الج ّد والجدّة ‪ ،‬وإلّ أجبر‬ ‫عليها من تلزمه نفقته ‪ ،‬لنّها من جملة الكفالة ‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز الّذي ل أب له يخيّر بين أمّ وإن علت وج ّد وإن عل ‪ ،‬عند‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز إن اختار أحد البوين ‪ ،‬ثمّ اختار الخر حوّل إليه ‪ ،‬لنّه قد‬

‫فقد من هو أقرب منه ‪ ،‬أو قيام مانع به لوجود الولدة في الكلّ ‪.‬‬

‫يظهر المر على خلف ما ظنّه ‪ ،‬أو يتغيّر حال من اختاره أ ّولً ‪.‬‬

‫إلّ إذا ظهر أنّ سبب اختياره للخر قلّة عقله ‪ ،‬فيجعل عند أمّه وإن بلغ ‪ ،‬كما قبل التّمييز ‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪ -‬ومن الحكام كذلك ‪ :‬أنّ المحضون إذا اختار أبويه معا أقرع بينهما لنتفاء المرجّح ‪ .‬أمّا‬

‫إذا لم يختر واحدا منهما ‪ ،‬فعند الشّافعيّة المّ أولى ‪ ،‬لنّها أشفق واستصحابا لما كان عليه ‪.‬‬

‫وعند الحنابلة ‪ :‬يقرع بينهما ‪ ،‬لنّه ل أولويّة حينئذ لحدهما ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة ‪ .‬فإذا اختار‬

‫المحضون غير من قدّم بالقرعة ردّ إليه ‪ ،‬كما لو اختاره ابتداءً ‪.‬‬

‫ول يخيّر الغلم إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة ‪ ،‬لنّه غير أهل فيكون وجوده كعدمه‬ ‫‪ ،‬ويتعيّن أن يكون الغلم عند الخر ‪ .‬وإن اختار ابن سبع أباه ثمّ زال عقله ر ّد إلى المّ ‪،‬‬

‫لحاجته إلى من يتعهّده كالصّغير ‪ ،‬وبطل اختياره لنّه ل حكم لكلمه ‪.‬‬

‫أمّا الحنفيّة والمالكيّة فذهبوا إلى أنّه ل خيار للصّغير ذكرا كان أو أنثى ‪ ،‬وأنّ المّ أحقّ بهما‪.‬‬ ‫وعند الحنفيّة يبقى الصّبيّ عند أمّه إلى أن يستغني بنفسه ‪ ،‬بأن يأكل وحده ويشرب وحده‬

‫ويستنجي وحده ويلبس وحده ‪ .‬وعند المالكيّة إلى البلوغ في المشهور من المذهب ‪ ،‬ويقابل‬ ‫المشهور ما قاله ابن شعبان ‪ :‬إنّ أمد الحضانة في الذّكر حتّى يبلغ عاقلً غير زمن ‪.‬‬

‫أمّا البنت فعند الحنفيّة تبقى حضانة أمّها إلى أن تحيض ‪ .‬وبعد البلوغ تحتاج إلى التّحصين‬ ‫والحفظ والب فيه أقوى ‪ .‬وعن محمّد بن الحسن أنّ البنت تدفع إلى الب إذا بلغت حدّ‬

‫الشّهوة ‪ ،‬لتحقّق الحاجة إلى الصّيانة ‪ .‬أمّا عند المالكيّة فتبقى عند أمّها إلى أن يدخل بها زوجها‬ ‫‪ ،‬لنّها تحتاج إلى معرفة آداب النّساء ‪ ،‬والمرأة على ذلك أقدر ‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫‪ -‬والعلّة في عدم تخيير المحضون عند الحنفيّة والمالكيّة هي ‪ :‬قصور عقله الدّاعي إلى‬

‫قصور اختياره ‪ .‬فقد يختار من عنده الدّعة والتّخلية بينه وبين اللّعب ‪ ،‬فل يتحقّق المقصود من‬

‫الحضانة وهو النّظر في مصالح المحضون ‪.‬‬

‫وما ورد من أحاديث تفيد تخيير الطّفل ‪ ،‬جاء فيها أنّ اختياره كان لدعاء النّبيّ صلى ال عليه‬

‫وسلم أن يهديه إلى الصلح ‪ .‬كما جاء في حديث « رافع بن سنان أنّه أسلم ‪ ،‬وأبت امرأته أن‬

‫ي صلى ال عليه وسلم المّ‬ ‫تسلم فقالت ‪ :‬ابنتي وهي فطيم ‪ ،‬وقال رافع ‪ :‬ابنتي ‪ .‬فأقعد النّب ّ‬

‫ناحيةً ‪ ،‬والب ناحيةً ‪ ،‬وأقعد الصّبيّة ناحيةً وقال لهما ‪ :‬ادعواها فمالت الصّبيّة إلى أمّها ‪،‬‬ ‫فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ ":‬اللّهمّ اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها » ‪.‬‬ ‫وجاء في رواية أنّه ابنهما وليست بنتهما ‪ ،‬ولعلّهما قضيّتان مختلفتان ‪.‬‬

‫كما يحمل ما ورد في تخيير الغلم على أنّه كان بالغا ‪ ،‬بدليل أنّه كان يستسقي من بئر أبي‬ ‫عنبة ‪ ،‬ومن يكون دون البلوغ ل يرسل إلى البار للخوف عليه من السّقوط ‪.‬‬ ‫سادسا ‪ :‬تخيير المام في السرى ‪:‬‬

‫‪25‬‬

‫‪ -‬اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على تخيير إمام المسلمين في أسرى الحرب بين خمس‬

‫خصال ‪ :‬فإمّا أن يسترقّهم ‪ ،‬وإمّا أن يقتلهم ‪ ،‬وإمّا أن يأخذ الجزية منهم ‪ ،‬وإمّا أن يطلب الفدية‬

‫مقابل إعتاقهم سواء بالمال ‪ ،‬أو بمفاداتهم بأسرى المسلمين الّذين في أيدي الكفّار ‪ ،‬وإمّا أن يمنّ‬ ‫عليهم فيعتقهم ‪ .‬واستثنى الحنفيّة الخصلتين الخيرتين ‪ ،‬وهما الفداء والمنّ ‪ ،‬فقالوا بعدم جواز‬ ‫المنّ ‪ ،‬وعدم جواز المفاداة بالمال في المشهور من المذهب ‪ ،‬أمّا المفاداة بأسرى المسلمين فل‬

‫يجوز في قول لبي حنيفة ‪ ،‬وجائز في قول الصّاحبين ‪ ،‬وهو قول لبي حنيفة كذلك ‪ .‬وفي‬

‫المسألة تفصيلت يرجع إليها في بحث ( أسرى ) ‪.‬‬

‫غرُون } ‪.‬‬ ‫ج ْزيَةَ عن يَ ٍد وهم صَا ِ‬ ‫ودليل جواز أخذ الجزية قوله تعالى ‪ { :‬حتّى ُي ْعطُوا ال ِ‬

‫وكذلك ما جاء أنّ عمر رضي ال عنه فعل ذلك في أهل السّواد ‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫‪ -‬وما تقدّم من تخيير المام في السرى محلّه في الرّجال البالغين ‪ ،‬أمّا النّساء والصّبيان‬

‫فل خيار فيهم ‪ ،‬ول يحكم فيهم إلّ بالسترقاق ‪ ،‬وحكمهم حكم سائر أموال الغنيمة ‪ .‬كما في‬

‫سبايا هوازن وخيبر وبني المصطلق ‪ .‬وجاء عنه صلى ال عليه وسلم أنّه « نهى عن قتل‬ ‫النّساء والولدان » ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬للمام الخيرة فيهم بين السترقاق والفداء ‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫‪ -‬وتخيير‬

‫المام بين هذه الخصال مقيّد بما يظهر له من المصلحة الرّاجحة في أحدها ‪ ،‬فيختار الصلح‬

‫للمسلمين من بينها ‪ .‬فإن كان السير ذا قوّة وشوكة فقتله هو المصلحة ‪ ،‬وإن كان ضعيفا‬

‫صاحب مال كانت المصلحة في أخذ الفدية منه ‪ ،‬وإن كان ممّن يرجى إسلمه فيمنّ عليه تقريبا‬

‫وتأليفا لقلبه على السلم ‪ .‬وإن تردّد نظر المام ورأيه في اختيار الصلح ‪ ،‬فعند الحنابلة القتل‬ ‫أولى لما فيه من كفاية شرّهم ‪.‬‬

‫وعند الشّافعيّة يحبسهم حتّى يظهر له الصلح ‪.‬‬

‫فالتّخيير في تصرّف المام في السرى مقيّد بالمصلحة بخلف التّخيير في خصال الكفّارة ‪ ،‬إذ‬ ‫هو تخيير مطلق أبيح للحانث بموجبه أن يختار أيّ خصلة دون النّظر إلى المصلحة ‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪ -‬أمّا إذا اختار المام خصل ًة بعد الجتهاد وتقليب وجوه المصالح ‪ ،‬ثمّ ظهر له بالجتهاد أنّ‬

‫المصلحة في غيرها ‪ ،‬فقد قال ابن حجر في تحفة المحتاج ‪ :‬الّذي يظهر لي في ذلك تفصيل ل‬

‫بدّ منه أ ّولً ‪ :‬فإن كانت رقّا لم يجز له الرّجوع عنها مطلقا ‪ ،‬سواء استرقّهم لسبب أم لغير‬

‫سبب ‪ ،‬وذلك لنّ أهل الخمس ملكوهم بمجرّد ضرب ال ّرقّ ‪ ،‬فلم يملك إبطاله عليهم إلّ برضا‬

‫من دخلوا في ملكهم ‪ .‬وإن اختار القتل جاز له الرّجوع عنه تغليبا لحقن الدّماء ‪ ،‬كما في جواز‬

‫رجوع المقرّ بالزّنى وسقوط القتل عنه ‪ ،‬بل إنّ الرّجوع عن قتل السير أولى ‪ ،‬لنّه محض‬ ‫حقّ للّه تعالى ‪ ،‬أمّا حدّ الزّنا ففيه شائبة حقّ آدميّ ‪.‬‬

‫أمّا إذا كان ما اختاره المام أ ّولً هو المنّ أو الفداء فل يرجع عنه باجتهاد آخر ‪ ،‬لنّه من قبيل‬

‫نقض الجتهاد بالجتهاد من غير موجب ‪ ،‬كما أنّ الحاكم إذا اجتهد في قضيّة فل ينقض‬

‫اجتهاده باجتهاد آخر ‪ .‬أمّا إذا اختار أحدهما لسبب ‪ ،‬ثمّ زال ذلك السّبب ‪ ،‬وظهرت المصلحة‬ ‫في اختيار الثّاني لزمه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ثانيا ‪ ،‬وليس هذا من قبيل نقض الجتهاد‬

‫بالجتهاد ‪ ،‬لنّه انتقال إلى الختيار الثّاني لزوال موجب الختيار الوّل ‪ .‬ويشترط في‬

‫السترقاق والفداء اللّفظ الدّالّ على اختيارهما ‪ ،‬ول يكفي مجرّد الفعل ‪ ،‬لنّه ل يدلّ عليه دللةً‬

‫صريحةً ‪ .‬أمّا في غيرهما من الخصال ‪ ،‬فيكفي الفعل لدللته الصّريحة على اختيارها ‪.‬‬ ‫سابعا ‪ :‬تخيير المام في حدّ المحارب ‪:‬‬

‫‪29‬‬

‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حدّ المحارب يختلف باختلف الجناية ‪ ،‬فلكلّ جناية‬

‫سعَونَ في الرضِ‬ ‫جزَاءُ الّذينَ ُيحَا ِربُونَ اللّهَ و َرسُولَه َو َي ْ‬ ‫عقوبتها ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ { :‬إ ّنمَا َ‬ ‫ض ذلك لهم‬ ‫فَسَادَا أنْ يُ َقتّلُوا أو ُيصَلّبُوا أو تُ َقطّعَ َأ ْيدِيهِم وَأ ْرجُلُهم منْ خِلفٍ أو ُينْفَوا منْ الر ِ‬

‫خ ْزيٌ في الدّنيا ولهم في الخرةِ عذابٌ عظيمٌ } ‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وذهب الحنفيّة إلى أنّ المام مخيّر في بعض جنايات المحارب دون بعضها على تفصيل عندهم‬ ‫‪ .‬وذهب المالكيّة إلى أنّ المام بالخيار في المحارب بين أربعة أمور ‪:‬‬

‫أن يقتله بل صلب ‪ ،‬أو أن يصلبه مع القتل ‪ ،‬أو أن ينفي الذّكر الحرّ البالغ العاقل في مكان‬

‫بعيد ويسجن حتّى تظهر توبته أو يموت ‪ ،‬أو أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ‪.‬‬

‫ن القتل أو القطع ‪.‬‬ ‫وهذه الربعة في حقّ الرّجال ‪ ،‬أمّا النّساء فل يصلبن ول ينفين ‪ ،‬وحدّه ّ‬

‫وتخيير المام بين هذه المور يكون على أساس المصلحة ‪.‬‬

‫ثامنا ‪ :‬تخيير ملتقط اللّقطة بعد التّعريف بها ‪:‬‬

‫‪30‬‬

‫ن الملتقط مخيّر بين أن يتملّك ما التقطه وينتفع به ‪ ،‬أو‬ ‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أ ّ‬

‫يتصدّق به ‪ ،‬أو يحفظه أمان ًة إلى أن يظهر صاحب اللّقطة فيدفعها إليه ‪ ،‬وهذا بعد التّعريف بها‬

‫‪ .‬وذهب الحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ الملتقط يملك ما التقطه حتما ‪ -‬كالميراث ‪ -‬بمجرّد‬

‫تمام التّعريف بها ‪ ،‬على التّفصيل المذكور في مصطلح ‪ ( :‬لقطة ) ‪.‬‬

‫وفي الصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة ‪ :‬أنّه ل يملك اللّقطة حتّى‬

‫يختار التّملّك بلفظ صريح أو كناية مع الّنيّة ‪ ،‬وفي وجه آخر عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه يملك بمجرّد‬ ‫ال ّنيّة بعد التّعريف ‪ .‬ودليل التّملّك والنتفاع بمجرّد التّعريف ما جاء في روايات الحديث عن‬

‫ي رضي ال عنه قال ‪ « :‬جاء أعرابيّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم فسأله عمّا‬ ‫زيد بن خالد الجهن ّ‬ ‫يلتقطه فقال ‪ :‬عرّفها سنةً ‪ ،‬ثمّ اعرف عفاصها ووكاءها ‪ ،‬فإن جاء أحد يخبرك بها ‪ ،‬وإلّ‬

‫فاستنفقها » وفي أخرى ‪ « :‬وإلّ فهي كسبيل مالك » وفي لفظ ‪ « :‬ثمّ كلها » وفي لفظ ‪:‬‬

‫« فانتفع بها » وفي لفظ ‪ « :‬فشأنك بها »‬ ‫‪31‬‬

‫ن النّبيّ صلى‬ ‫‪ -‬أمّا دليل أنّه ل يتملّك حتّى يختار فما ورد في حديث زيد بن خالد الجهنيّ أ ّ‬

‫ال عليه وسلم قال ‪ « :‬فإن جاء صاحبها وإلّ فشأنك بها » فجعله إلى اختياره ‪ ،‬ولنّه تملّك‬

‫ن فيه‬ ‫ببدل فاعتبر فيه اختيار التّملّك كالملك بالبيع ‪ .‬وإنّما جاز للملتقط اختيار التّصدّق ‪ ،‬ل ّ‬ ‫إيصالً للحقّ إلى المستحقّ ‪ ،‬وهو واجب بقدر المكان ‪ ،‬فإمّا أن يكون بإيصال العين‬

‫لصاحبها ‪ ،‬وإمّا أن يكون بإيصال العوض عند تعذّره ‪ ،‬وهو الثّواب على اعتبار إجازة صاحب‬

‫اللّقطة التّصدّق بها ‪ .‬ولهذا كان له الخيار عند ظهوره بين إمضاء الصّدقة أو الرّجوع بالضّمان‬ ‫على الملتقط ‪ .‬وفي المسألة تفصيلت أخرى تنظر في ( لقطة ) ‪.‬‬ ‫تاسعا ‪ :‬التّخيير في كفّارة اليمين ‪:‬‬

‫‪32‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على التّخيير في كفّارة اليمين بين أربع خصال ‪ :‬إطعام عشرة مساكين ‪ ،‬أو‬

‫كسوتهم ‪ ،‬أو عتق رقبة ‪ ،‬فإن لم يجد ما يكفّر به من هذه الثّلثة ‪ -‬بأن عجز عن الطعام‬ ‫والكسوة والعتق ‪ -‬صام ثلثة أيّام ‪.‬‬

‫فهي كفّارة على التّخيير في الثّلثة الولى ‪ ،‬وعلى التّرتيب بينها وبين الخصلة الرّابعة ‪.‬‬

‫والصل في التّخيير في كفّارة اليمين قوله تعالى ‪ { :‬ل ُيؤَاخِ ُذكُم اللّهُ بِالّلغْ ِو في َأ ْيمَا ِنكُم ولكنْ‬

‫ط ِعمُونَ َأهْلِيكُم أو‬ ‫ش َرةِ َمسَاكِين مِنْ أَ ْوسَطِ ما تُ ْ‬ ‫عَ‬ ‫طعَامُ َ‬ ‫ل ْيمَانَ َفكَفّا َرتُه إِ ْ‬ ‫عقّ ْدتُم ا َ‬ ‫ُيؤَاخِ ُذكُم ِبمَا َ‬

‫صيَامُ ثَل َث ِة أيّامٍ ذلك كَفّا َر ُة َأ ْيمَا ِنكُم إذا حَلَ ْفتُم واحْفَظُوا‬ ‫حرِيرُ َر َقبَةٍ ‪َ .‬فمَنْ لم َيجِدْ َف ِ‬ ‫ِكسْ َوتُهم أو َت ْ‬ ‫ش ُكرُون } ‪.‬‬ ‫ن اللّهُ لكم آياتِه لعّلكُم َت ْ‬ ‫َأ ْيمَا ِنكُم كذلك ُي َبيّ ُ‬

‫والمقصود بالتّخيير في كفّارة اليمين أنّ للمكفّر أن يأتي بأيّ خصلة شاء ‪ ،‬وأن ينتقل عنها إلى‬

‫غيرها بحسب ما يراه ويميل إليه وما يراه السهل في حقّه ‪ ،‬فإنّ اللّه سبحانه وتعالى ما خيّره‬

‫إلّ لطفا به ‪ .‬وهذا ما يفترق به التّخيير في كفّارة اليمين عن التّخيير في حدّ المحارب‬ ‫والتّصرّف بالسرى حيث قيّدا بالمصلحة ‪.‬‬

‫عاشرا ‪ :‬التّخيير بين القصاص والدّية والعفو ‪:‬‬

‫‪33‬‬

‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أنّ وليّ الدّم مخيّر في الجناية على النّفس بين ثلث خصال ‪ :‬فإمّا أن‬

‫يقتصّ من القاتل ‪ ،‬أو يعفو عنه إلى الدّية أو بعضها ‪ ،‬أو أن يصالحه على مال مقابل العفو ‪،‬‬ ‫أو يعفو عنه مطلقا ‪.‬‬

‫حرّ وال َعبْدُ‬ ‫ح ّر بال ُ‬ ‫ودليل ذلك قوله تعالى ‪ { :‬يا أيّها اّلذِينَ آ َمنُوا ُك ِتبَ عليكم ال ِقصَاصُ في ال َق ْتلَى ال ُ‬

‫حسَانٍ ذلك‬ ‫ع بِال َم ْعرُوفِ وأَدَاءٌ إليه ِبِإ ْ‬ ‫ل ْنثَى َفمَنْ عُ ِفيَ له منْ َأخِيه شَي ٌء فَاتّبَا ٌ‬ ‫ل ْنثَى با ُ‬ ‫بال َع ْبدِ وا ُ‬

‫ن النّفْسَ بالنّفْسِ } إلى‬ ‫حمَة } الية ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬و َك َت ْبنَا عليهم فيها أَ ّ‬ ‫خ ِف ْيفٌ منْ َرّبكُم َو َر ْ‬ ‫َت ْ‬

‫قوله { والجُرُوحَ ِقصَاصٌ فَمَنْ َتصَ ّدقَ به فهو كَفّا َر ٌة له } الية ‪ :‬أي كفّارة للعافي بصدقته على‬

‫الجاني ‪ .‬وفي الحديث عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪« :‬‬

‫ظرَين ‪ :‬إمّا أن يودي ‪ ،‬وإمّا أن يقاد »‬ ‫من ُق ِتلَ له قتيلٌ فهو بخير ال ّن َ‬

‫وعن أنس ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ « :‬ما رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رفع إليه‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫شيء فيه قصاص إلّ أمر فيه بالعفو » ‪ .‬وفي الحديث أنّ النّب ّ‬

‫« إنّكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرّجل من هذيل ‪ ،‬وإنّي عاقله ‪ ،‬فمن قتل له قتيل بعد اليوم‬ ‫فأهله بين خيرتين ‪ :‬إمّا أن يقتلوا ‪ ،‬أو يأخذوا العقل » ‪.‬‬

‫واختلف الفقهاء في توقّف تخيير وليّ الدّم في أخذ الدّية على رضا الجاني ‪.‬‬

‫ي الدّم إلى الدّية إلّ برضا الجاني ‪ ،‬وأنّه‬ ‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه ل يجوز أن يعفو ول ّ‬

‫ليس لوليّ الدّم جبر الجاني على دفع الدّية إذا سلّم نفسه للقصاص ‪ .‬وذهب الشّافعيّة في الظهر‬ ‫‪ ،‬والحنابلة في المعتمد إلى أنّ موجب القتل العمد هو القود ‪ ،‬وأنّ الدّية بدل عنه عند سقوطه ‪.‬‬

‫فإذا عفا عن القصاص واختار الدّية وجبت دون توقّف على رضا الجاني ‪ .‬وهو قول أشهب‬ ‫من المالكيّة ‪ .‬وفي قول آخر للشّافعيّة ‪ ،‬وهو رواية عند الحنابلة أنّ موجب القتل العمد هو‬ ‫القصاص أو الدّية أحدهما ل بعينه ‪ ،‬ويتخيّر وليّ الدّم في تعيين أحدهما ‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫‪ -‬أمّا دليل الحنفيّة والمالكيّة فيما ذهبوا إليه فهو ما ورد من نصوص توجب القصاص ‪،‬‬

‫ن آ َمنُوا ُك ِتبَ عليكم ال ِقصَاصُ في ال َقتْلى } ممّا يعيّن القصاص‪.‬‬ ‫كقوله تعالى ‪ { :‬يا أيّها الّذي َ‬

‫فهو إخبار عن كون القصاص هو الواجب ‪ ،‬وهذا يبطل القول بأنّ الدّية واجبة كذلك ‪ .‬ولمّا‬

‫كان القتل ل يقابل بالجمع بين القصاص والدّية ‪ ،‬كان القصاص هو عين حقّ الوليّ ‪ ،‬والدّية‬

‫بدل حقّه ‪ ،‬وليس لصاحب الحقّ أن يعدل من عين الحقّ إلى بدله من غير رضا من عليه الحقّ‬ ‫‪ ،‬ولهذا ل يجوز اختيار الدّية من غير رضا القاتل ‪.‬‬

‫وأمّا دليل الشّافعيّة والحنابلة فهو ما تقدّم من أدلّة جواز العفو إلى الدّية ‪ ،‬وقوله تعالى ‪:‬‬

‫حسَانٍ } فأوجب سبحانه على القاتل‬ ‫ف وأَدَاءٌ إليه ِبِإ ْ‬ ‫ي له منْ أخِيه شَيءٌ فَا ّتبَاعٌ بِال َم ْعرُو ِ‬ ‫{ َفمَنْ عُ ِف َ‬ ‫أداء الدّية إلى الوليّ مطلقا عن شرط الرّضا ‪ ،‬دفعا للهلك عن نفسه ‪.‬‬

‫ولمّا كان المقصود من تشريع القصاص والدّية هو الزّجر ‪ ،‬فكان ينبغي الجمع بينهما ‪ ،‬كما في‬

‫ل أنّه تعذّر الجمع ‪ ،‬لنّ الدّية بدل النّفس ‪ ،‬وفي القصاص معنى البدليّة‬ ‫شرب خمر ال ّذ ّميّ ‪ ،‬إ ّ‬

‫كما في قوله تعالى ‪ { :‬أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ } والباء تفيد البدليّة ‪ ،‬فيؤدّي إلى الجمع بين البدلين ‪،‬‬

‫وهو غير جائز ‪ ،‬فخيّر وليّ الدّم بينهما ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تداخل *‬

‫‪ -‬التّداخل في اللّغة ‪ :‬تشابه المور والتباسها ودخول بعضها في بعض ‪.‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬دخول شيء في شيء آخر بل زيادة حجم ومقدار ‪ .‬وتداخل العددين أن يعدّ‬ ‫أقلّهما الكثر ‪ ،‬أي يفنيه ‪ ،‬مثل ثلثة وتسعة ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬الندراج ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الندراج مصدر اندرج ‪ ،‬ومن معانيه في اللّغة ‪ :‬النقراض ‪ .‬ويستعمله الفقهاء بمعنى‬

‫دخول أمر في أمر آخر أعمّ منه ‪ ،‬كالحدث الصغر مع الجنابة في الطّهارة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّباين ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬معنى التّباين في اللّغة ‪ :‬التّهاجر والتّباعد ‪ .‬وفي الصطلح ‪ :‬عبارة عمّا إذا نسب أحد‬

‫الشّيئين إلى الخر لم يصدق أحدهما على شيء ممّا صدق عليه الخر ‪ ،‬فإن لم يتصادقا على‬

‫ل فبينهما التّباين الكّليّ ‪ ،‬وإن صدقا في الجملة فبينهما التّباين الجزئيّ ‪ .‬كالحيوان‬ ‫شيء أص ً‬

‫والبيض وبينهما العموم من وجه ‪ .‬والفرق بينه وبين التّداخل واضح ‪ ،‬إذ التّداخل إنّما يكون‬

‫في المور المتشابهة والمتقاربة ‪ ،‬أمّا التّباين فيكون في المور المتفاوتة كّليّا أو جزئيّا ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّماثل ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّماثل ‪ :‬مصدر تماثل ‪ ،‬ومادّة مثل في اللّغة تأتي بمعنى الشّبه ‪ ،‬وبمعنى نفس الشّيء‬

‫وذاته‪ .‬والفقهاء يستعملون التّماثل بمعنى التّساوي ‪ ،‬كما في تماثل العددين في مسائل الرث‪.‬‬ ‫د ‪ -‬التّوافق ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬معنى التّوافق في اللّغة ‪ :‬التّفاق والتّظاهر ‪.‬‬

‫وتوافق العددين ‪ :‬ألّ يعدّ أقلّهما الكثر ‪ ،‬ولكن يعدّهما عدد ثالث ‪ ،‬كالثّمانية مع العشرين ‪،‬‬ ‫يعدّهما أربعة ‪ ،‬فهما متوافقان بالرّبع ‪ ،‬لنّ العدد العادّ مخرج لجزء الوفق ‪.‬‬

‫محلّ التّداخل ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬ذكر الحنفيّة أنّ التّداخل ‪ :‬إمّا أن يكون في السباب ‪ :‬وإمّا أن يكون في الحكام ‪ .‬والليق‬

‫بالعبادات الوّل ‪ ،‬وبالعقوبات الثّاني ‪ ،‬وذلك ما جاء في العناية ‪ :‬أنّ التّداخل في العبادات إذا‬ ‫كان في الحكم دون السّبب كانت السباب باقيةً على تعدّدها ‪ ،‬فيلزم وجود السّبب الموجب‬

‫للعبادة بدون العبادة ‪ ،‬وفي ذلك ترك الحتياط فيما يجب فيه الحتياط ‪ ،‬فقلنا بتداخل السباب‬ ‫فيها ليكون جميعها بمنزلة سبب واحد ترتّب عليه حكمه إذا وجد دليل الجمع وهو اتّحاد‬

‫المجلس ‪ ،‬وأمّا العقوبات فليس ممّا يحتاط فيها ‪ ،‬بل في درئها احتياط فيجعل التّداخل في الحكم‬ ‫‪ ،‬ليكون عدم الحكم مع وجود الموجب مضافا إلى عفو اللّه وكرمه ‪ ،‬فإنّه هو الموصوف‬

‫بسبوغ العفو وكمال الكرم ‪.‬‬

‫وفائدة ذلك تظهر فيما لو تل آية سجدة في مكان فسجدها ‪ ،‬ثمّ تلها فيه مرّات فإنّه يكفيه تلك‬

‫الواقعة أ ّولً ‪ ،‬إذ لو لم يكن التّداخل في السّبب لكانت التّلوة الّتي بعد السّجدة سببا ‪ ،‬وحكمه قد‬

‫تقدّم ‪ ،‬وذلك ل يجوز ‪ .‬وأمّا في العقوبات ‪ :‬فإنّه لو زنى ‪ ،‬ثمّ زنى ثاني ًة قبل أن يحدّ الولى ‪،‬‬ ‫فإنّ عليه حدّا واحدا ‪ ،‬بخلف ما لو زنى فحدّ ‪ ،‬ثمّ زنى فإنّه يحدّ ثانيا ‪.‬‬

‫وذكر صاحب الفروق من المالكيّة أنّ التّداخل محلّه السباب ل الحكام ‪ ،‬ولم يفرّق في ذلك‬ ‫بين الطّهارات والعبادات ‪ ،‬كالصّلة والصّيام والكفّارات والحدود والموال ‪.‬‬

‫ن الحدود المتماثلة إن اختلفت أسبابها كالقذف وشرب الخمر ‪ ،‬أو تماثلت كالزّنى‬ ‫بل ذكر أ ّ‬

‫مرارا والسّرقة مرارا والشّرب مرارا قبل إقامة الحدّ عليه ‪ ،‬فإنّها من أولى السباب بالتّداخل ‪،‬‬ ‫ن تكرّرها مهلك ‪ .‬ويظهر ممّا ذكره الحنابلة في الطّهارات وكفّارة الصّيام ‪ ،‬فيما لو تكرّر‬ ‫لّ‬

‫منه الجماع في يوم واحد قبل التّكفير ‪ ،‬وفي الحدود إن كانت من جنس واحد أو أجناس أنّ‬

‫التّداخل عندهم أيضا إنّما يكون في السباب دون الحكام ‪.‬‬

‫ن التّداخل إنّما يكون في الحكام دون السباب ‪،‬‬ ‫ي في المنثور أ ّ‬ ‫هذا ويظهر ممّا ذكره الزّركش ّ‬ ‫ول فرق في ذلك بين العبادات والعقوبات والتلفات ‪.‬‬

‫آثار التّداخل الفقهيّة ومواطنه ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬ذكر القرافيّ في الفروق أنّ التّداخل وقع في الشّريعة في ستّة أبواب ‪ ،‬وهي الطّهارات‬

‫والصّلوات والصّيام والكفّارات والحدود والموال ‪.‬‬

‫وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّه يدخل في ضروب ‪ ،‬وهي ‪ :‬العبادات والعقوبات والتلفات ‪.‬‬ ‫وذكر السّيوطيّ وابن نجيم أنّه إذا اجتمع أمران من جنس واحد ‪ ،‬ولم يختلف مقصودهما ‪،‬‬

‫دخل أحدهما في الخر غالبا ‪ ،‬كالحدث مع الجنابة ‪ .‬هذا والتّداخل يذكره الفقهاء في الطّهارة‬

‫والصّلة والصّوم والحجّ ‪ ،‬والفدية والكفّارة والعدد ‪ ،‬والجناية على النّفس والطراف والدّيات ‪،‬‬ ‫والحدود والجزية ‪ ،‬وفي حساب المواريث ‪ .‬وبيان ذلك فيما يلي ‪:‬‬

‫أوّلً ‪ -‬الطّهارات ‪:‬‬

‫‪ - 8‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ من سنن الغسل ‪ :‬الوضوء قبله ‪ ،‬لنّه صفة غسل النّبيّ صلى‬

‫ال عليه وسلم كما في حديث عائشة وميمونة رضي ال عنهما ونصّ حديث عائشة رضي ال‬ ‫عنها « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ‪ ،‬ثمّ يفرغ‬

‫بيمينه على شماله فيغسل فرجه ‪ ،‬ثمّ يتوضّأ وضوءه للصّلة ‪ ،‬ثمّ يأخذ الماء ويدخل أصابعه في‬ ‫أصول الشّعر ‪ ،‬حتّى إذا رأى أن قد استبرأ ‪ ،‬حفن على رأسه ثلث حثيات ‪ ،‬ثمّ أفاض على‬

‫سائر جسده ‪ ،‬ثمّ غسل رجليه » ‪.‬‬

‫ن الطّهارات كالوضوء والغسل‬ ‫سنّة ‪ .‬أمّا الجزاء فيرى الحنفيّة والمالكيّة أ ّ‬ ‫هذا عن تحصيل ال ّ‬

‫إذا تكرّرت أسبابهما المختلفة كالحيض والجنابة ‪ ،‬أو المتماثلة كالجنابتين ‪ ،‬والملمستين ‪ ،‬فإنّ‬

‫تلك السباب تتداخل ‪ ،‬فيكفي في الجنابتين ‪ ،‬أو في الحيض والجنابة ‪ ،‬أو في الجنابة والملمسة‬ ‫غسل واحد ‪ ،‬ل يحتاج بعده إلى وضوء ‪،‬لندراج سببه في السّبب الموجب للغسل‪ .‬وذكر‬

‫ن الفعلين في العبادات ‪ ،‬إن كانا في واجب ولم يختلفا في القصد ‪،‬‬ ‫ي في المنثور أ ّ‬ ‫الزّركش ّ‬

‫تداخل ‪ ،‬كغسل الحيض مع الجنابة ‪ ،‬فإذا أجنبت ثمّ حاضت ‪ ،‬كفى لهما غسل واحد ‪.‬‬

‫هذا وقد ذكر الشّافعيّة والحنابلة في تداخل الوضوء والغسل إذا وجبا عليه ‪ -‬كما لو أحدث ثمّ‬

‫أجنب أو عكسه ‪ -‬أربعة أوجه ‪ ،‬انفرد الشّافعيّة بأوّلها ‪ ،‬واتّفقوا مع الحنابلة في الباقي ‪ .‬أحدهما‬ ‫ن ابن تيميّة اختاره ‪ :‬أنّه يكفيه‬ ‫‪ ،‬وهو المذهب عند الشّافعيّة ‪ ،‬وقد انفردوا فيه عن الحنابلة ‪ ،‬لك ّ‬

‫الغسل ‪ ،‬نوى الوضوء معه أو لم ينوه ‪ ،‬غسل العضاء مرتّبةً أم ل ‪ ،‬لنّهما طهارتان ‪،‬‬ ‫فتداخلتا ‪.‬‬

‫والثّاني ‪ ،‬وذهب إليه أيضا الحنابلة في إحدى الرّوايات عن أحمد ‪ ،‬وهو من مفردات المذهب‬

‫عندهم ‪ :‬أنّه يجب عليه الوضوء والغسل ‪ ،‬لنّهما حقّان مختلفان يجبان بسببين مختلفين ‪ ،‬فلم‬

‫يدخل أحدهما في الخر كح ّد الزّنى والسّرقة ‪ ،‬فإن نوى الوضوء دون الغسل أو عكسه ‪ ،‬فليس‬ ‫له غير ما نوى ‪.‬‬

‫الثّالث ‪ ،‬واختاره أيضا أبو بكر من الحنابلة ‪ ،‬وقطع به في المبهج ‪ :‬أنّه يأتي بخصائص‬

‫الوضوء ‪ ،‬بأن يتوضّأ مرتّبا ‪ ،‬ثمّ يغسل سائر البدن ‪ ،‬لنّهما متّفقان في الغسل ومختلفان في‬

‫التّرتيب ‪ ،‬فما اتّفقا فيه تداخل ‪ ،‬وما اختلفا فيه لم يتداخل ‪.‬‬

‫الرّابع ‪ ،‬وهو ما حكاه أبو حاتم القزوينيّ من الشّافعيّة ‪ ،‬وهو المذهب مطلقا عند الحنابلة ‪،‬‬

‫وعليه جماهير أصحابهم ‪ ،‬وقطع به كثير منهم ‪ :‬أنّهما يتداخلن في الفعال دون ال ّنيّة ‪ ،‬لنّهما‬

‫عبادتان متجانستان صغرى وكبرى ‪ ،‬فدخلت الصّغرى في الكبرى في الفعال دون ال ّنيّة ‪،‬‬

‫كالحجّ والعمرة ‪ .‬هذا ‪ ،‬وجاء في النصاف عن الدّينوريّ في وجه حكاه ‪ :‬أنّه إن أحدث ثمّ‬

‫أجنب فل تداخل ‪ ،‬وجاء فيه أيضا أنّ من أحدث ثمّ أجنب ‪ ،‬أو أجنب ث ّم أحدث يكفيه الغسل‬ ‫على الصحّ ‪ ،‬وهو مماثل لما حكاه الشّافعيّة في الوجه الوّل ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التّداخل في الصّلة وله أمثلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تداخل تحيّة المسجد وصلة الفرض ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪ -‬ذكر ابن نجيم في الشباه ‪ ،‬والقرافيّ في الفروق ‪ :‬أنّ تحيّة المسجد تدخل في صلة‬

‫ل هو‬ ‫الفرض مع تعدّد سببهما ‪ ،‬فإنّ سبب التّحيّة هو دخول المسجد ‪ ،‬وسبب الظّهر مث ً‬ ‫الزّوال ‪ ،‬فيقوم سبب الزّوال مقام سبب الدّخول ‪ ،‬فيكتفي به ‪.‬‬

‫وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل في العبادات إن كان في مسنون ‪ ،‬وكان ذلك المسنون‬

‫من جنس المفعول ‪ ،‬دخل تحته ‪ ،‬كتحيّة المسجد مع صلة الفرض ‪.‬‬

‫سنّة الرّاتبة ‪.‬‬ ‫وذهب الحنابلة إلى أنّ تحيّة المسجد تدخل في الفرض وال ّ‬

‫ب ‪ -‬تداخل سجود السّهو ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬جاء صريحا في حاشية ابن عابدين ‪ -‬من كتب الحنفيّة ‪ -‬فيمن تكرّر سهوه بحيث أدّى‬

‫ذلك إلى ترك جميع واجبات الصّلة ‪ ،‬فإنّه ل يلزمه إلّ سجدتان ‪.‬‬

‫وقريب من ذلك ما جاء في المدوّنة من كتب المالكيّة فيمن نسي تكبير ًة أو تكبيرتين ‪ ،‬أو نسي "‬

‫سمع اللّه لمن حمده " م ّرةً أو مرّتين ‪ ،‬أو نسي التّشهّد أو التّشهّدين ‪.‬‬

‫ن جبرانات الصّلة تتداخل لتّحاد الجنس ‪،‬‬ ‫وجاء في المنثور والشباه من كتب الشّافعيّة أ ّ‬

‫فسجود السّهو وإن تعدّد سجدتان ‪ ،‬لنّ القصد بسجود السّهو إرغام أنف الشّيطان ‪ ،‬وقد حصل‬

‫ن القصد جبر النّسك وهو ل‬ ‫بالسّجدتين آخر الصّلة ‪ ،‬بخلف جبرانات الحرام فل تتداخل ‪ ،‬ل ّ‬

‫يحصل إلّ بالتّعدّد ‪ .‬وقال صاحب المغني ‪ :‬إذا سها سهوين أو أكثر من جنس كفاه سجدتان‬

‫للجميع ‪ ،‬ل نعلم أحدا خالف فيه ‪ .‬وإن كان السّهو من جنسين ‪ ،‬فكذلك ‪ ،‬حكاه ابن المنذر قولً‬

‫ي وأصحاب‬ ‫ي والثّوريّ ومالك واللّيث والشّافع ّ‬ ‫لحمد ‪ ،‬وهو قول أكثر أهل العلم ‪ ،‬منهم ‪ :‬النّخع ّ‬

‫الرّأي ‪ .‬وذكر أبو بكر من الحنابلة فيه وجهين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬ما ذكرنا ‪ .‬والثّاني ‪ :‬يسجد سجودين‬ ‫‪ ،‬قال الوزاعيّ وابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة ‪ :‬إذا كان عليه سجودان ‪ ،‬أحدهما‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬لكلّ‬ ‫قبل السّلم ‪ ،‬والخر بعده سجدهما في محلّيهما ‪ ،‬لقول النّب ّ‬

‫سهو سجدتان » ‪ .‬وهذان سهوان ‪ ،‬فلكلّ واحد منهما سجدتان ‪،‬ولنّ كلّ سهو يقتضي سجودا ‪،‬‬ ‫وإنّما تداخل في الجنس الواحد لتّفاقهما ‪ ،‬وهذان مختلفان‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّداخل في سجود التّلوة ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ -‬ذكر الحنفيّة أنّ سجدة التّلوة مبناها على التّداخل دفعا للحرج ‪.‬‬

‫والتّداخل فيها تداخل في السّبب دون الحكم ‪ ،‬لنّها عبادة ‪ ،‬فتنوب الواحدة عمّا قبلها وعمّا‬

‫بعدها ‪ ،‬ول يتكرّر وجوبها إلّ باختلف المجلس أو اختلف التّلوة ( أي الية ) أو السّماع ‪،‬‬

‫فمن تل آيةً واحدةً في مجلس واحد مرارا تكفيه سجدة واحدة وأداء السّجدة بعد القراءة الولى‬

‫ن جبريل عليه السلم كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السّجدة‬ ‫أولى ‪ .‬والصل في ذلك ما روي « أ ّ‬ ‫على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان يسمع ويتلقّن ‪ ،‬ثمّ‬

‫يقرأ على أصحابه ‪ ،‬وكان ل يسجد إلّ م ّرةً واحد ًة » ‪.‬‬

‫وإن تلها في غير الصّلة فسجد ‪ ،‬ثمّ دخل في الصّلة فتلها فيها ‪ ،‬سجد أخرى ‪ .‬ولو لم‬

‫ل كفته واحدة ‪ ،‬لنّ الصّلتيّة أقوى من غيرها ‪ ،‬فتستتبع غيرها وإن اختلف المجلس ‪.‬‬ ‫يسجد أ ّو ً‬ ‫ولو لم يسجد في الصّلة سقطتا في الصحّ ‪.‬‬

‫وأمّا المالكيّة فقاعدة المذهب عندهم تكرير سجدة التّلوة ‪ ،‬إن كرّر حزبا فيه سجدةً ‪ ،‬ول تكفيه‬

‫السّجدة الولى ‪ ،‬لوجود المقتضي للسّجود ‪ ،‬باستثناء المعلّم والمتعلّم فقط عند المام مالك وابن‬

‫القاسم ‪ ،‬واختاره المازريّ ‪ ،‬خلفا لصبغ وابن عبد الحكم القائلين بعدم السّجود عليهما ول في‬ ‫أوّل مرّة ‪.‬‬

‫ل الخلف كما في حاشية الدّسوقيّ إذا حصل التّكرير لحزب فيه سجدة ‪ ،‬وأمّا قارئ القرآن‬ ‫ومح ّ‬

‫بتمامه فإنّه يسجد جميع سجداته في غير الصّلة وفي الصّلة ‪ ،‬حتّى لو قرأه كلّه في ركعة‬

‫واحدة ‪ ،‬سواء أكان معلّما أم متعلّما اتّفاقا ‪ .‬وجاء في الرّوضة وغيرها من كتب الشّافعيّة ‪ :‬أنّه‬ ‫إذا قرأ آيات السّجدات في مكان واحد ‪ ،‬سجد لكلّ واحدة ‪ ،‬ومثل ذلك قراءته الية الواحدة في‬

‫مجلسين ‪ .‬فلو كرّر الية الواحدة في المجلس الواحد نظر ‪ ،‬إن لم يسجد للمرّة الولى كفاه‬

‫سجود واحد ‪ ،‬وإن سجد للولى فثلثة أوجه ‪ :‬أصحّها يسجد م ّرةً أخرى لتجدّد السّبب ‪ ،‬والثّاني‬

‫تكفيه الولى ‪ ،‬والثّالث إن طال الفصل سجد أخرى ‪ ،‬وإلّ فتكفيه الولى ‪ .‬ولو كرّر الية‬

‫الواحدة في الصّلة ‪ ،‬فإن كان في ركعة فكالمجلس الواحد ‪ ،‬وإن كان في ركعتين فكالمجلسين‬ ‫‪ .‬ولو قرأ م ّر ًة في الصّلة ‪ ،‬وم ّرةً خارجها في المجلس الواحد وسجد للولى ‪ ،‬فلم ير النّوويّ‬

‫فيه نصّا للصحاب ‪ ،‬وإطلقهم يقتضي طرد الخلف فيه ‪.‬‬

‫وتذكر كتب الحنابلة أيضا أنّ سجود التّلوة يتكرّر بتكرّر التّلوة ‪ ،‬حتّى في طواف مع قصر‬

‫فصل ‪ .‬وذكر صاحب النصاف وجهين في إعادة سجود من قرأ بعد سجوده ‪ ،‬وكذا يتوجّه في‬

‫تحيّة المسجد إن تكرّر دخوله ‪.‬‬

‫وقال ابن تميم ‪ :‬وإن قرأ سجدةً فسجد ‪ ،‬ثمّ قرأها في الحال م ّرةً أخرى ‪ ،‬ل لجل السّجود ‪،‬‬ ‫فهل يعيد السّجود ؟ على وجهين ‪ .‬وقال القاضي في تخريجه ‪ :‬إن سجد في غير الصّلة ثمّ‬

‫صلّى فقرأها فيها أعاد السّجود ‪ ،‬وإن سجد في صلة ثمّ قرأها في غير صلة لم يسجد ‪ .‬وقال‬ ‫‪ :‬إذا قرأ سجدةً في ركعة فسجد ‪ ،‬ث ّم قرأها في الثّانية ‪ ،‬فقيل يعيد السّجود ‪ ،‬وقيل ل ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬تداخل صوم رمضان وصوم العتكاف ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬من المقرّر عند المالكيّة والحنفيّة ‪ ،‬وفي رواية عن أحمد اشتراط الصّوم لصحّة‬

‫ن صوم العتكاف يدخل في صوم رمضان ‪،‬‬ ‫العتكاف مطلقا ‪ ،‬وبناءً على ذلك ذكر القرافيّ أ ّ‬ ‫ن العتكاف سبب لتوجّه المر بالصّوم ‪ ،‬ورؤية هلل رمضان هي سبب توجّه المر‬ ‫وذلك ل ّ‬

‫بصوم رمضان ‪ ،‬فيدخل السّبب الّذي هو العتكاف في السّبب الخر وهو رؤية الهلل فيكتفي‬ ‫به ويتداخل العتكاف ورؤية الهلل ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬تداخل الطّواف والسّعي للقارن ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫ن من قرن بين الحجّ والعمرة‬ ‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والمام أحمد فيما اشتهر عنه إلى أ ّ‬

‫في إحرام واحد ‪ ،‬فإنّه يطوف لهما طوافا واحدا ‪ ،‬ويسعى لهما سعيا واحدا ‪ ،‬وهو قول ابن‬

‫عمر وجابر بن عبد اللّه رضي ال عنهم ‪ ،‬وبه قال عطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد‬

‫وطاوس وإسحاق وأبو ثور ‪ ،‬لحديث عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬خرجنا مع رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ‪ . » ...‬الحديث ‪ .‬وفيه ‪:‬‬

‫ج والعمرة فإنّما طافوا طوافا واحدا » ‪ .‬ولنّ الحجّ والعمرة‬ ‫« وأمّا الّذين جمعوا بين الح ّ‬ ‫عبادتان من جنس واحد ‪ ،‬فإذا اجتمعتا دخلت أفعال الصّغرى في الكبرى كالطّهارتين ‪.‬‬

‫وأيضا فإنّ الجامع بينهما ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد ‪ ،‬فكفاه طواف واحد وسعي واحد‬

‫كالفرد ‪ .‬وذهب الحنفيّة والمام أحمد في رواية أخرى لم تشتهر إلى أنّ عليه طوافين‬

‫وسعيين ‪ ،‬وقد روي هذا القول عن عليّ وابن مسعود رضي ال عنهما ‪ ،‬وبه قال الشّعبيّ وابن‬

‫أبي ليلى مستدلّين بقوله تعالى ‪ { :‬وَأ ِتمّوا الحَجّ وال ُع ْم َرةَ للّه } وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على‬

‫الكمال بل فرق بين القارن وغيره ‪.‬‬

‫وبما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬من جمع بين الحجّ والعمرة فعليه‬

‫طوافان » ولنّهما نسكان ‪ ،‬فكان لهما طوافان ‪ ،‬كما لو كانا منفردين ‪ .‬وأثر هذا الخلف يظهر‬ ‫في القارن إذا قتل صيدا فإنّه يلزمه جزاء واحد عند القائلين بالتّداخل ‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬تداخل الفدية ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫ن الفدية تتداخل ‪ .‬وقد صرّح الحنفيّة بأنّ من قلّم أظافر يديه‬ ‫‪ -‬ذكر الحنفيّة والشّافعيّة أ ّ‬

‫ورجليه في مجلس واحد ‪ ،‬وهو محرم ‪ ،‬فإنّ عليه دما واحدا ‪ ،‬لنّها من المحظورات ‪ ،‬لما فيه‬ ‫من قضاء التّفث ‪ ،‬وهي من نوع واحد ‪ ،‬فل يزاد على دم واحد ‪.‬‬

‫ن مبناها على التّداخل ككفّارة الفطر ‪ .‬وعند‬ ‫وإن كان قلّمها في مجالس ‪ ،‬فكذلك عند محمّد ‪ ،‬ل ّ‬

‫أبي حنيفة وأبي يوسف يجب لكلّ يد دم ‪ ،‬ولكلّ رجل دم إذا تعدّد المجلس ‪ ،‬لنّ الغالب في‬ ‫الفدية معنى العبادة فيتقيّد التّداخل باتّحاد المجلس كما في آية السّجدة ‪ ،‬ولنّ هذه العضاء‬

‫متباينة حقيقةً ‪ ،‬وإنّما جعلت الجناية ‪ -‬وهي تقليم الظافر في مجلس واحد ‪ -‬جنايةً واحدةً في‬ ‫المعنى لتّحاد المقصود وهو الرّفق ‪.‬‬

‫وصرّح الشّافعيّة بمثل ذلك فيمن فعل شيئا من مقدّمات الجماع ‪ ،‬وجامع بعده ‪ ،‬فقد ذكروا أنّ‬ ‫فدية المقدّمة تدخل في البدنة الواجبة جزاءً عن الجماع ‪.‬‬

‫وقريب من ذلك ما ذكره الحنابلة فيمن حلق شعر رأسه وبدنه ‪ ،‬بأنّ عليه فديةً واحدةً في أصحّ‬

‫الرّوايتين عن أحمد ‪ ،‬وهو الصّحيح من المذهب أيضا ‪ ،‬لنّ شعر الرّأس والبدن واحد ‪ ،‬وفي‬

‫رواية أخرى عنه ‪ :‬إنّ لكلّ منهما حكما منفردا ‪ .‬وكذا لو لبس أو تطيّب في ثوبه وبدنه ففيه‬ ‫الرّوايتان والمنصوص عن أحمد أنّ عليه فديةً واحدةً ‪.‬‬

‫وأمّا المالكيّة فإنّهم وإن لم يصرّحوا بتداخل الفدية ‪ ،‬إلّ أنّهم أوردوا أربع صور تتّحد فيها الفدية‬

‫ن الفاعل الباحة ‪:‬‬ ‫وهي أن يظ ّ‬

‫ل منها يوجب الفدية ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬بأن يعتقد أنّه خرج من إحرامه فيفعل أمورا ك ّ‬

‫ب ‪ -‬أو يتعدّد موجبها من لبس وتطيّب وقلم أظفار وقتل دوابّ بفور ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬أو يتراخى ما بين الفعلين ‪ ،‬لكنّه عند الفعل الوّل أو إرادته نوى تكرار الفعل الموجب لها‬ ‫‪.‬‬

‫د ‪ -‬أو يتراخى ما بين الفعلين ‪ ،‬إلّ أنّه لم ينو التّكرار عند الفعل الوّل منهما ‪ ،‬لكنّه قدّم ما‬

‫نفعه أعمّ ‪ ،‬كتقديمه لبس الثّوب على لبس السّراويل ‪.‬‬ ‫وتفصيله في محظورات الحجّ من كتب الفقه ‪.‬‬

‫سادسا ‪ :‬تداخل الكفّارات ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تداخلها في إفساد صوم رمضان بالجماع ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في وجوب كفّارة واحدة على من تكرّر منه الجماع في يوم واحد‬

‫من أيّام رمضان ‪ ،‬لنّ الفعل الثّاني لم يصادف صوما ‪ ،‬وإنّما الخلف بينهم فيمن تكرّر منه‬ ‫ذلك الفعل في يومين ‪ ،‬أو في رمضانين ‪ ،‬ولم يكفّر للوّل ‪ ،‬فذهب محمّد من الحنفيّة ‪،‬‬

‫والحنابلة في وجه ‪ ،‬والزّهريّ والوزاعيّ إلى أنّه تكفيه كفّارة واحدة ‪ ،‬لنّها جزاء عن جناية‬

‫تكرّر سببها قبل استيفائها ‪ ،‬فتتداخل كالحدّ ‪ .‬وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية الّذي اختاره‬

‫بعضهم للفتوى وهو الصّحيح ‪ ،‬والمالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو أيضا المذهب عند الحنابلة ‪ :‬إلى أنّ‬ ‫الكفّارة الواحدة ل تجزئه ‪ ،‬بل عليه كفّارتان ‪ ،‬لنّ كلّ يوم عبادة منفردة ‪ ،‬فإذا وجبت الكفّارة‬

‫بإفساده لم تتداخل كالعمرتين والحجّتين ‪ ،‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬كفّارة ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تداخل الكفّارات في اليمان ‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫ن من حلف يمينا فحنث فيها وأدّى ما وجب عليه من الكفّارة ‪ ،‬أنّه لو‬ ‫‪ -‬ل خلف في أ ّ‬

‫حلف يمينا أخرى وحنث فيها تجب عليه كفّارة أخرى ‪ ،‬ول تغني الكفّارة الولى عن كفّارة‬

‫الحنث في هذه اليمين الثّانية ‪ ،‬وإنّما الخلف فيمن حلف أيمانا وحنث فيها ‪ .‬ثمّ أراد التّكفير ‪،‬‬

‫هل تتداخل الكفّارات فتجزئه كفّارة واحدة ؟ أو ل تتداخل فيجب عليه لكلّ يمين كفّارة ؟ تتداخل‬ ‫الكفّارات على أحد القولين عند الحنفيّة ‪ ،‬وأحد القوال عند الحنابلة ‪ ،‬ول تتداخل عند المالكيّة‬ ‫ول الشّافعيّة ‪ ،‬وتفصيل ذلك في الكفّارات ‪.‬‬

‫سابعا ‪ :‬تداخل العدّتين ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬معنى التّداخل في العدد ‪ :‬أن تبتدئ المرأة ع ّد ًة جديدةً وتندرج بقيّة العدّة الولى في العدّة‬

‫الثّانية ‪ ،‬والعدّتان إمّا أن تكونا من جنس واحد لرجل واحد أو رجلين ‪ ،‬وإمّا أن تكونا من‬

‫جنسين كذلك أي لرجل واحد أو رجلين ‪ ،‬وعلى هذا فإنّ المرأة إذا لزمها عدّتان من جنس‬

‫واحد ‪ ،‬وكانتا لرجل واحد ‪ ،‬فإنّهما تتداخلن عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لتّحادهما في‬

‫الجنس والقصد ‪ .‬مثال ذلك ‪ :‬ما لو طلّق زوجته ثلثا ‪ ،‬ثمّ تزوّجها في العدّة ووطئها ‪ ،‬وقال ‪:‬‬

‫ظننت أنّها تحلّ لي ‪ .‬أو طلّقها بألفاظ الكناية ‪ ،‬فوطئها في العدّة ‪ ،‬فإنّ العدّتين تتداخلن ‪ ،‬فتعتدّ‬ ‫ثلثة أقراء ابتداءً من الوطء الواقع في العدّة ‪ ،‬ويندرج ما بقي من العدّة الولى في العدّة الثّانية‬ ‫‪ .‬أمّا إذا كانتا لرجلين فإنّهما تتداخلن عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّ المقصود التّعرّف على فراغ الرّحم ‪،‬‬

‫وقد حصل بالواحدة فتتداخلن ‪.‬‬

‫ومثاله ‪ :‬المتوفّى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة ‪ ،‬فهاتان عدّتان من رجلين ومن جنسين ‪.‬‬

‫ومثال العدّتين من جنس واحد ومن رجلين ‪ :‬المطلّقة إذا تزوّجت في عدّتها فوطئها الثّاني ‪،‬‬

‫وفرّق بينهما ‪ ،‬تتداخلن وتعت ّد من بدء التّفريق ‪ ،‬ويندرج ما بقي من العدّة الولى في العدّة‬ ‫الثّانية ‪ .‬وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فل تتداخلن ‪ ،‬لنّهما حقّان مقصودان لدميّين ‪ ،‬فلم‬

‫ن العدّة احتباس يستحقّه الرّجال على النّساء ‪ ،‬فلم يجز أن تكون المرأة‬ ‫يتداخل كالدّينين ‪ ،‬ول ّ‬ ‫المعتدّة في احتباس رجلين كاحتباس الزّوجة ‪.‬‬

‫وأمّا إذا اختلفت العدّتان في الجنس ‪ ،‬وكانتا لرجلين ‪ ،‬فإنّهما تتداخلن أيضا عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّ‬

‫ل منهما أجل ‪ ،‬والجال تتداخل ‪.‬‬ ‫كً‬

‫ق مقصود للدميّ ‪ ،‬فعليها أن تعتدّ‬ ‫ول تداخل بينهما عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لنّ كلً منهما ح ّ‬

‫للوّل لسبقه ‪ ،‬ثمّ تعتدّ للثّاني ‪ ،‬ول تتقدّم عدّة الثّاني على عدّة الوّل إلّ بالحمل ‪.‬‬

‫وإن كانتا من جنسين لشخص واحد تداخلتا أيضا عند الحنفيّة ‪ ،‬وفي أصحّ الوجهين عند‬

‫الشّافعيّة ‪ ،‬وفي أحد الوجهين عند الحنابلة ‪ ،‬لنّهما لرجل واحد ‪ .‬ول تداخل بينهما على مقابل‬ ‫الصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وعلى الوجه الثّاني عند الحنابلة لختلفهما في الجنس ‪.‬‬

‫وأمّا المالكيّة فقد لخصّ ابن جزيّ مذهبهم في تداخل العدد بقوله ‪ :‬فروع في تداخل العدّتين ‪:‬‬

‫الفرع الوّل ‪ :‬من طلقت طلقا رجعيّا ‪ ،‬ثمّ مات زوجها في العدّة انتقلت إلى عدّة الوفاة ‪ ،‬لنّ‬ ‫الموت يهدم عدّة الرّجعيّ بخلف البائن ‪.‬‬

‫الفرع الثّا ني ‪ :‬إن طلّق ها رجعيّا ث مّ ارتجع ها في العدّة ‪ ،‬ث ّم طلّق ها ‪ ،‬ا ستأنفت العدّة من الطّلق‬

‫الثّا ني ‪ ،‬سواء كان قد وطئ ها أم ل ‪ ،‬ل نّ الرّج عة تهدم العدّة ‪ ،‬ولو طلّق ها ثانيةً في العدّة من‬ ‫غ ير رج عة َب َن تْ اتّفاقا ‪ ،‬ولو طلّق ها طلقةً ثانيةً ث مّ راجع ها في العدّة أو بعد ها ‪ ،‬ث مّ طلّق ها ق بل‬

‫المسيس َب َنتْ على عدّتها الولى ‪ ،‬ولو طلّقها بعد الدّخول استأنفت من الطّلق الثّاني ‪.‬‬

‫الفرع الثّالث ‪ :‬إذا تزوّجت في عدّتها من الطّلق ‪ ،‬فدخل بها الثّاني ‪ ،‬ثمّ فرّق بينهما ‪ ،‬اعتدّت‬

‫بقيّة عدّتها من الوّل ‪ ،‬ثمّ اعتدّت من الثّاني ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تعتدّ من الثّاني وتجزيها عنهما ‪ ،‬وإن‬ ‫كانت حاملً فالوضع يجزي عن العدّتين اتّفاقا ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬عدّة ) ‪.‬‬

‫ثامنا ‪ :‬تداخل الجنايات على النّفس والطراف ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬ذكر الحنفيّة أنّ الجنايات على النّفس والطراف إذا تعدّدت ‪ ،‬كما لو قطع عضوا من‬

‫أعضائه ‪ ،‬ثمّ قتله ‪ ،‬فإنّها ل تتداخل إلّ في حالة اجتماع جنايتين على واحد ‪ ،‬ولم يتخلّلهما‬

‫برء ‪ ،‬وصورها ستّ عشرة ‪ ،‬كما ذكر ابن نجيم في الشباه ‪ ،‬لنّه إذا قطع ثمّ قتل ‪ ،‬فإمّا أن‬

‫يكونا عمدين أو خطأين ‪ ،‬أو أحدهما عمدا والخر خطأً ‪ ،‬وكلّ من الربعة إمّا على واحد أو‬ ‫اثنين ‪ ،‬وكلّ من الثّمانية ‪ .‬إمّا أن يكون الثّاني قبل البرء أو بعده ‪.‬‬

‫وذكر المالكيّة أنّ الجناية على الطّرف تندرج في الجناية على النّفس ‪ ،‬أي في القصاص ‪ ،‬إن‬

‫تعمّدها الجاني ‪ ،‬سواء أكان الطّرف للمقتول أم لغيره بأن قطع يد شخص عمدا ‪ ،‬وفقأ عين‬

‫آخر عمدا ‪ ،‬فيقتل فقط ول يقطع شيء من أطرافه ول تفقأ عينه ‪ ،‬إن لم يقصد الجاني بجنايته‬

‫على الطّرف مثلةً ‪ -‬أي تمثيلً وتشويها ‪ -‬فإن قصدها فل يندرج الطّرف في القتل ‪ ،‬فيقتصّ‬

‫من الطّرف ‪ ،‬ث ّم يقتل ‪.‬‬

‫أمّا إذا لم يتعمّد الجاني الجناية على الطّرف ‪ ،‬فإنّها ل تندرج في الجناية على النّفس ‪ ،‬كما لو‬ ‫قطع يد شخص خطأً ‪ ،‬ثمّ قتله عمدا عدوانا ‪ ،‬فإنّه يقتل به ‪ ،‬ودية اليد على عاقلته ‪.‬‬

‫ن الجناية على النّفس والطراف إذا اتّفقتا في العمد أو الخطأ ‪ ،‬وكانت الجناية‬ ‫وذكر الشّافعيّة أ ّ‬ ‫على النّفس بعد اندمال الجناية على الطّرف وجبت دية الطّرف بل خلف ‪ .‬أمّا إذا كانت‬

‫الجناية على النّفس قبل اندمال الجناية على الطّرف فوجهان ‪ ،‬أصحّهما ‪ :‬دخول الجناية على‬

‫الطّرف في الجناية على النّفس ‪ ،‬بحيث ل يجب إلّ ما يجب في النّفس كالسّراية ‪ .‬وثانيهما ‪:‬‬

‫عدم التّداخل بين الجنايتين ‪ ،‬خرّجه ابن سريج ‪ ،‬وبه قال الصطخريّ ‪ ،‬واختاره إمام الحرمين‬

‫‪ .‬أمّا إذا كانت إحداهما عمدا والخرى خطأً ‪ ،‬وقلنا بالتّداخل عند التّفاق ‪ ،‬فهنا وجهان ‪:‬‬

‫أحدهما التّداخل أيضا ‪ .‬وأصحّهما ‪ :‬ل ‪ ،‬لختلفهما ‪.‬‬

‫والحنابلة يقولون ‪ :‬التّداخل في القصاص في إحدى الرّوايتين عن أحمد فيما لو جرح رجل‬

‫ي إلّ‬ ‫رجلً ‪ ،‬ث ّم قتله قبل اندمال جرحه ‪ ،‬واختار الوليّ القصاص ‪ ،‬فعلى هذه الرّواية ليس للول ّ‬

‫ضرب عنقه بالسّيف ‪ .‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل قَوَدَ إلّ بالسّيفِ » ‪ ،‬وليس له جرحه‬

‫أو قطع طرفه ‪ ،‬لنّ القصاص أحد بدلي النّفس ‪ ،‬فدخل الطّرف في حكم الجملة كالدّية‪.‬‬

‫والرّواية الثّانية ‪ :‬أنّ للوليّ أن يفعل بالجاني مثلما فعل ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وإنْ عَا َق ْبتُم َفعَا ِقبُوا‬

‫ِب ِم ْثلِ ما عُو ِق ْبتُم به } ‪ .‬أمّا إذا عفا الوليّ عن القصاص ‪ ،‬أو صار المر إلى الدّية لكون الفعل‬ ‫خطًأ أو شبه عمد ‪ ،‬فالواجب حينئذ دية واحدة ‪ ،‬لنّه قتل قبل استقرار الجرح ‪ ،‬فدخل أرش‬

‫الجراحة في أرش النّفس والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬جناية ) ‪.‬‬

‫تاسعا ‪ :‬تداخل الدّيات ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ الدّيات قد تتداخل ‪ ،‬فيدخل الدنى منها في العلى ‪ ،‬ومن‬

‫ذلك دخول دية العضاء والمنافع في دية النّفس ‪ ،‬ودخول أرش الموضحة المذهبة للعقل في‬

‫دية العقل ‪ ،‬ودخول حكومة الثّدي في دية الحلمة إلى غير ذلك من الفروع ‪.‬‬ ‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬دية ) ‪.‬‬

‫عاشرا ‪ :‬تداخل الحدود ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الحدود ‪ -‬كحدّ الزّنى والسّرقة والشّرب ‪ -‬إذا اتّفقت في الجنس‬

‫والموجب أي الحدّ فإنّها تتداخل ‪ ،‬فمن زنى مرارا ‪ ،‬أو سرق مرارا ‪ ،‬أو شرب مرارا ‪ ،‬أقيم‬ ‫عليه ح ّد واحد للزّنى المتكرّر ‪ ،‬وآخر للسّرقة المتكرّرة ‪ .‬وآخر للشّرب المتكرّر ‪ ،‬لنّ ما‬

‫تكرّر من هذه الفعال هو من جنس ما سبقه ‪ ،‬فدخل تحته ‪ .‬ومثل ذلك حدّ القذف إذا قذف‬

‫شخصا واحدا مرارا ‪ ،‬أو قذف جماع ًة بكلمة واحدة ‪ ،‬فإنّه يكتفي فيه بح ّد واحد اتّفاقا ‪ ،‬بخلف‬

‫ل واحد منهم بقذف ‪.‬‬ ‫صكّ‬ ‫ما لو قذف جماعةً بكلمات ‪ ،‬أو خ ّ‬

‫واتّفق الفقهاء أيضا على أنّ من زنى أو سرق أو شرب ‪ ،‬فأقيم عليه الحدّ ‪ ،‬ثمّ صدر منه أحد‬

‫هذه الفعال م ّرةً أخرى ‪ ،‬فإنّه يحدّ ثانيا ‪ ،‬ول يدخل تحت الفعل الّذي سبقه ‪ ،‬واتّفقوا أيضا على‬ ‫عدم التّداخل بين هذه الفعال عند اختلفها في الجنس والقدر الواجب فيها ‪ ،‬فمن زنى وسرق‬

‫وشرب حدّ لكلّ فعل من هذه الفعال ‪ ،‬لختلفها في الجنس والقدر الواجب فيها ‪ ،‬فل تتداخل ‪.‬‬

‫أمّا إذا اتّحدت في القدر الواجب واختلفت في الجنس ‪ ،‬كالقذف والشّرب مثلً ‪ ،‬فل تداخل بينها‬ ‫عند غير المالكيّة ‪ ،‬وأمّا عند المالكيّة فتتداخل ‪ ،‬لتّفاقها في القدر الواجب فيها ‪ ،‬وهو الحدّ ‪،‬‬

‫فإنّ الواجب في القذف ثمانون جلدةً وفي الشّرب أيضا مثله ‪ ،‬فإذا أقيم عليه أحدهما سقط عنه‬ ‫ل واحدا فقط ‪ ،‬ث ّم ثبت أنّه شرب أو قذف ‪ ،‬فإنّه يكتفي‬ ‫الخر ‪ .‬ولو لم يقصد عند إقامة الحدّ إ ّ‬

‫بما ضرب له عمّا ثبت ‪.‬‬

‫ومثل ذلك عندهم ‪ -‬أي المالكيّة ‪ -‬ما لو سرق وقطع يمين آخر ‪ ،‬فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد ‪.‬‬

‫وهذا كلّه إذا لم يكن في تلك الحدود القتل ‪ ،‬فإن كان فيها القتل ‪ ،‬فإنّه يكتفي به عند الحنفيّة‬ ‫والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬لقول ابن مسعود ‪ :‬ما كانت حدود فيها قتل إلّ أحاط القتل بذلك كلّه ‪،‬‬

‫ن المقصود الزّجر وقد حصل ‪ .‬واستثنى المالكيّة من ذلك حدّ القذف ‪ ،‬فقد ذكروا أنّه ل‬ ‫ول ّ‬

‫يدخل في القتل ‪ ،‬بل ل بدّ من استيفائه قبله ‪.‬‬

‫وأمّا الشّافعيّة فإنّهم ل يكتفون بالقتل ‪ ،‬ولم يقولوا بالتّداخل في هذه المسألة ‪ ،‬بل يقدّمون الخفّ‬

‫ثمّ الخفّ ‪ ،‬فمن سرق وزنى وهو بكر ‪ ،‬وشرب ولزمه قتل بردّة ‪ ،‬أقيمت عليه الحدود الواجبة‬ ‫فيها بتقديم الخفّ ثمّ الخفّ ‪.‬‬

‫الحادي عشر ‪ :‬تداخل الجزية ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الجزية تتداخل كما إذا اجتمع على الذّ ّميّ جزية عامين ‪ ،‬فل يؤخذ‬

‫منه إلّ جزية عام واحد ‪ ،‬لنّ الجزية وجبت عقوبةً للّه تعالى تؤخذ من ال ّذ ّميّ على وجه‬

‫الذلل ‪ .‬والعقوبات الواجبة للّه تعالى إذا اجتمعت ‪ ،‬وكانت من جنس واحد ‪ ،‬تداخلت كالحدود‬ ‫‪ ،‬ولنّها وجبت بدلً عن القتل في حقّهم وعن النّصرة في حقّنا ‪ ،‬لكن في المستقبل ل في‬

‫الماضي ‪ ،‬لنّ القتل إنّما يستوفى لحراب قائم في الحال ‪ ،‬ل لحراب ماض ‪ ،‬وكذا النّصرة في‬

‫المستقبل لنّ الماضي وقعت ال ُغنْية عنه ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّها ل تتداخل ‪ ،‬ول تسقط بمضيّ المدّة ‪،‬‬ ‫ن مضيّ المدّة ل تأثير له في إسقاط الواجب كالدّيون ‪.‬‬ ‫لّ‬

‫وأمّا خراج الرض فقيل على هذا الخلف ‪ ،‬وقيل ل تداخل فيه بالتّفاق ‪.‬‬

‫وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بتداخل الجزية ‪ ،‬ولكن يفهم التّداخل من قول أبي الوليد ابن‬

‫رشد ‪ :‬ومن اجتمعت عليه جزية سنين ‪ ،‬فإن كان ذلك لفراره بها أخذت منه لما مضى ‪ ،‬وإن‬ ‫كان لعسره لم تؤخذ منه ‪ ،‬ول يطالب بها بعد غناه ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬جزية ) ‪.‬‬

‫الثّاني عشر ‪ :‬تداخل العددين في حساب المواريث ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬العددان في حساب المواريث إمّا أن يكونا متماثلين ‪ ،‬وإمّا أن يكونا مختلفين ‪.‬‬

‫وفي حال اختلفهما إمّا أن يفنى الكثر بالقلّ ‪ ،‬وإمّا أن يفنيهما عدد ثالث ‪ ،‬وإمّا أن ل يفنيهما‬ ‫إلّ واحد ليس بعدد ‪ ،‬بل هو مبدؤه ‪ ،‬فهذه أربعة أقسام ‪.‬‬

‫وقد وقع التّداخل في القسم الثّاني منها ‪ ،‬وهو ما إذا اختلفا وفني الكثر بالقلّ عند إسقاطه من‬

‫الكثر مرّتين فأكثر منهما ‪ ،‬فيقال حينئذ ‪ :‬إنّهما متداخلن ‪ ،‬كثلثة مع ستّة أو تسعة أو خمسة‬

‫ستّة تفنى بإسقاط الثّلثة مرّتين ‪ ،‬والتّسعة بإسقاطها ثلث مرّات ‪ ،‬والخمسة عشر‬ ‫عشر ‪ ،‬فإنّ ال ّ‬

‫بإسقاطها خمس مرّات ‪ ،‬لنّها خمسها ‪ ،‬وسمّيا متداخلين لدخول القلّ في الكثر ‪ .‬وحكم‬ ‫العداد المتداخلة ‪ :‬أنّه يكتفى فيها بالكبر ويجعل أصل المسألة ‪.‬‬

‫أمّا في القسام الخرى ‪ ،‬وهي الوّل والثّالث والرّابع ‪ ،‬فل تداخل بين العددين فيها ‪ ،‬لنّ‬

‫العددين إن كانا متماثلين ‪ -‬كما في القسم الوّل ‪ -‬فإنّه يكتفى بأحدهما ‪ ،‬فيجعل أصلً للمسألة‬

‫كالثّلثة والثّلثة مخرجي الثّلث والثّلثين ‪ ،‬لنّ حقيقة المتماثلين إذا سلّط أحدهما على الخر‬

‫أفناه م ّرةً واحدةً ‪ .‬وإن كانا مختلفين ‪ ،‬ول يفنيهما إلّ عدد ثالث ‪ -‬وهو القسم الثّالث ‪ -‬فهما‬

‫ن الفناء حصل بغيرهما ‪ ،‬كأربعة وستّة بينهما موافقة‬ ‫متوافقان ‪ ،‬ول تداخل بينهما أيضا ‪ ،‬ل ّ‬

‫ستّة يبقى منهما اثنان ‪ ،‬سلّطهما على الربعة مرّتين‬ ‫بالنّصف ‪ ،‬لنّك إذا سلّطت الربعة على ال ّ‬

‫ستّة ‪ ،‬فهما متوافقان بجزء‬ ‫تفنى بهما ‪ ،‬فقد حصل الفناء باثنين وهو عدد غير الربعة وال ّ‬ ‫الثنين وهو النّصف ‪.‬‬

‫وحكم المتوافقين ‪ :‬أن تضرب وفق أحدهما في كامل الخر ‪ ،‬والحاصل أصل المسألة ‪.‬‬

‫وإن كانا مختلفين ل يفنى أكثرهما بأقلّهما ول بعدد ثالث ‪ ،‬بأن لم يفنهما إلّ الواحد كما في‬

‫القسم الرّابع فهما متباينان ‪ ،‬ول تداخل بينهما أيضا كثلثة وأربعة ‪ ،‬لنّك إذا أسقطت الثّلثة‬

‫من الربعة يبقى واحد ‪ ،‬فإذا سلّطته على الثّلثة فنيت به ‪ .‬وحكم المتباينين أنّك تضرب أحد‬ ‫العددين في الخر ‪ .‬والتّفصيل في باب حساب الفرائض ‪ ،‬وينظر مصطلح ‪ ( :‬إرث ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تدارك *‬

‫‪ -‬التّدارك ‪ :‬مصدر تدارك ‪ ،‬وثلثيّه ‪ :‬درك ‪ ،‬ومصدره الدّرك بمعنى ‪ :‬اللّحاق والبلوغ ‪.‬‬

‫ومنه الستدراك وللستدراك في اللّغة استعمالن ‪:‬‬ ‫الوّل ‪ :‬أن يتستدرك الشّيء بالشّيء ‪.‬‬

‫الثّاني ‪ :‬أن يتلفى ما فرّط في الرّأي أو المر من الخطأ أو النّقص ‪.‬‬ ‫وللستدراك في الصطلح معنيان أيضا ‪:‬‬

‫الوّل ‪ ،‬للصوليّين والنّحويّين ‪ :‬وهو رفع ما يتوهّم ثبوته ‪ ،‬أو إثبات ما يتوهّم نفيه ‪.‬‬

‫والثّاني ‪ :‬يرد في كلم الفقهاء ‪ :‬وهو إصلح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور‬

‫أو فوات ‪ .‬وقد ورد في كلم الفقهاء التّعبير بالتّدارك في موضع الستدراك ‪ ،‬الّذي هو بمعنى‬ ‫فعل الشّيء المتروك بعد محلّه ‪ ،‬سواء أترك سهوا أم عمدا ‪ ،‬ومن ذلك قول الرّمليّ ‪ :‬إذا سلّم‬

‫المام من صلة الجنازة ‪ ،‬تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها ‪.‬‬

‫وقوله ‪ :‬لو نسي تكبيرات صلة العيد فتذكّرها قبل ركوعه ‪ ،‬أو تعمّد تركها بالولى ‪ -‬وشرع‬ ‫في القراءة وإن لم يتمّ فاتحته ‪ -‬فاتت في الجديد فل يتداركها ‪.‬‬

‫ومن ذلك أيضا ما ذكره البهوتيّ ‪ ،‬من أنّه لو دفن الميّت قبل الغسل ‪ ،‬وقد أمكن غسله ‪ ،‬لزم‬

‫نبشه ‪ ،‬وأن يخرج ويغسّل ‪ ،‬تداركا لواجب غسله ‪.‬‬

‫وعلى هذا يمكن تعريف التّدارك في الصطلح الفقهيّ بأنّه ‪ :‬فعل العبادة ‪ ،‬أو فعل جزئها إذا‬

‫ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعا ما لم يفت ‪.‬‬

‫وبالتّتبّع وجدنا الفقهاء ل يطلقون التّدارك إلّ على ما كان استدراكا في العبادة ‪.‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬منها القضاء والعادة والستدراك ‪ ،‬وكذلك الصلح في اصطلح المالكيّة وقد سبق بيان‬

‫معانيها ‪ ،‬والتّفريق بينها وبين التّدارك في مصطلح ( استدراك ) ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬الصل أنّ تدارك ركن العبادة المفروضة فرض ‪ ،‬وذلك إن فات الرّكن لعذر ‪ -‬كنسيان أو‬

‫جهل ‪ -‬مع القدرة عليه ‪ ،‬أو فعل على وجه غير مجزئ ‪.‬‬

‫ول يحصل الثّواب المرتّب على الرّكن مع تركه ‪ ،‬لعدم المتثال ‪.‬‬

‫ول تصحّ العبادة إلّ بالتّدارك ‪ .‬فإن لم يتدارك الرّكن في الوقت الّذي يمكن تداركه فيه فسدت‬

‫العبادة ‪ ،‬ووجب الستدراك باستئناف العبادة أو قضائها ‪ ،‬بحسب اختلف الحوال ‪ .‬وأمّا‬

‫تدارك الواجبات والسّنن ففيه تفصيل ‪ .‬ويتّضح ذلك من المثلة المختلفة ‪،‬وبها يتبيّن الحكم ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التّدارك في أركان الوضوء ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫التّدارك في الوضوء ‪:‬‬

‫‪ -‬أركان الوضوء يتحتّم التيان بها ‪ ،‬فإن ترك غسل عضو من الثّلثة أو جزءا منه ‪ ،‬أو‬

‫ترك مسح الرّأس ‪ ،‬فإنّه ل بدّ من تداركه ‪ ،‬بالتيان بالفائت من غسل أو مسح ث ّم التيان بما‬

‫بعده ‪ ،‬فمن نسي غسل اليدين ‪ ،‬وتذكّره بعد غسل الرّجلين ‪ ،‬لم يصحّ وضوءه حتّى يعيد غسل‬ ‫اليدين ويمسح برأسه ويغسل رجليه ‪.‬‬

‫وهذا على قول من يجعل التّرتيب فرضا في الوضوء ‪ ،‬وهم الشّافعيّة ‪ ،‬وعلى القول المقدّم عند‬ ‫الحنابلة ‪ .‬أمّا من أجازوا الوضوء دون ترتيب ‪ ،‬وهم الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬فيجزئ عندهم‬ ‫التّدارك بغسل المتروك وحده ‪ .‬وإعادة ما بعده مستحبّ ‪ ،‬وليس واجبا ‪.‬‬

‫ولو ترك غسل اليمنى من اليدين أو الرّجلين ‪ ،‬وتذكّره بعد غسل اليسرى ‪ ،‬أجزأه غسل اليمنى‬

‫فقط ‪ ،‬ول يلزمه غسل اليسرى اتّفاقا ‪ ،‬لنّهما بمنزلة عضو واحد ‪.‬‬

‫وإنّما يجزئ التّدارك بالتيان بالفائت وما بعده ‪ ،‬أو بالفائت وحده ‪ -‬على القولين المذكورين ‪-‬‬

‫إن لم تفت الموالة عند من أوجبها ‪ ،‬فإن طال الفصل ‪ ،‬وفاتت الموالة ‪ ،‬فل ب ّد من إعادة‬

‫الوضوء كلّه ‪ .‬أمّا من لم يوجب الموالة ‪ -‬وذلك مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ‪ -‬فإنّه يجزئ عندهم‬ ‫التّدارك بغسل الفائت وحده ‪ .‬وفي المسألة تفصيلت يرجع إليها في ( وضوء ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّدارك في واجبات الوضوء ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬ليس للوضوء ول للغسل واجبات عند بعض الفقهاء ‪.‬‬

‫ومن واجبات الوضوء عند الحنابلة مثلً التّسمية في أوّله ‪ -‬وليست ركنا في الوضوء عندهم ‪-‬‬

‫قالوا ‪ :‬وتسقط لو تركها سهوا ‪ .‬وإن ذكرها في أثناء الوضوء سمّى وبنى ‪ ،‬أي فل يلزمه‬

‫الستئناف ‪ .‬قالوا ‪ :‬لنّه لمّا عفي عنها مع السّهو في جملة الطّهارة ‪ ،‬ففي بعضها أولى ‪ .‬وهو‬

‫المذهب خلفا لما صحّحه في النصاف ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّدارك في سنن الوضوء ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬أمّا سنن الوضوء فقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بعدم مشروعيّة تداركها إذا فات‬

‫محلّها ‪ .‬فيرى المالكيّة أنّ سنّة الوضوء يطالب بإعادتها لو نكّسها سهوا أو عمدا ‪ ،‬طال الوقت‬ ‫أو قصر ‪ .‬أمّا لو تركها بالكّليّة عمدا أو سهوا ‪ -‬وذلك منحصر عندهم في المضمضة‬

‫والستنشاق ومسح الذنين ‪ -‬قال الدّردير ‪ :‬يفعلها استنانا دون ما بعدها طال التّرك أو ل ‪.‬‬ ‫وإنّما لم تجب إعادة ما بعده لندب ترتيب السّنن في نفسها ‪ ،‬أو مع الفرائض ‪.‬‬

‫والمندوب ‪ -‬كما قال الدّسوقيّ ‪ -‬إذا فات ل يؤمر بفعله لعدم التّشديد فيه ‪ ،‬وإنّما يتداركها لما‬

‫يستقبل من الصّلوات ‪ ،‬ل إن أراد مجرّد البقاء على طهارة ‪ ،‬إلّ أن يكون بالقرب ‪ ،‬أي‬ ‫بحضرة الماء وقبل فراغه من الوضوء ‪.‬‬

‫وكذلك عند الشّافعيّة ‪ :‬لو قدّم مؤخّرا ‪ ،‬كأن استنشق قبل المضمضة ‪ -‬وهما عندهم سنّتان ‪-‬‬

‫قال الرّمليّ ‪ :‬يحتسب ما بدأ به ‪ ،‬وفات ما كان محلّه قبله على الصحّ في الرّوضة ‪ ،‬خلفا لما‬ ‫في المجموع ‪ ،‬أي فل يتداركه بعد ذلك ‪ ،‬وهذا قولهم في سنن الوضوء بصفة عامّة ‪ ،‬فيحسب‬

‫منها ما أوقعه أوّلً ‪ ،‬فكأنّه ترك غيره ‪ ،‬فل يعتدّ بفعله بعد ذلك ‪.‬‬

‫لكن في التّسمية في أوّل الوضوء ‪ -‬وهي سنّة عندهم ‪ -‬قالوا ‪ :‬إن تركها عمدا أو سهوا ‪ -‬أو‬

‫فـي أوّل طعام أو شراب كذلك ‪ -‬يأتـي بهـا فـي أثنائه تداركا لمـا فاتـه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬بسـم اللّه أوّله‬

‫وآخره ‪ ،‬ول يأ تي ب ها ب عد فرا غه من الوضوء ‪ ،‬بخلف ال كل ‪ ،‬فإنّه يأ تي ب ها بعده ‪ .‬و شبيه‬

‫سنّة ‪ ،‬بل‬ ‫بهذا ما عند الحنفيّة ‪ .‬حيث قالوا ‪ :‬لو نسيها ‪ ،‬فسمّى في خلل الوضوء ل تحصل ال ّ‬

‫سنّة في باقيه ‪ .‬وهل‬ ‫المندوب ‪ ،‬فيأتي بها لئلّ يخلو وضوءه منها ‪ .‬وأمّا في الطّعام فتحصل ال ّ‬ ‫تكون التّسمية أثناءه استدراكا لما فات ‪ ،‬فتحصل فيه ‪ ،‬أم ل تحصل ؟ ‪.‬‬

‫قال شارح المنية ‪ :‬الولى أنّها استدراك ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا أكل أحدكم‬ ‫فلْيذكر اسم اللّه تعالى ‪ ،‬فإن نسي أن يذكرَ اسمَ اللّه في أوّله فليقل ‪ :‬بسم اللّه أوّله وآخره »‬

‫سنّة أيضا‪،‬‬ ‫‪.‬وقال ابن عابدين ‪ :‬إذا قال في الوضوء بسم اللّه أوّله وآخره ‪ ،‬حصل استدراك ال ّ‬

‫بدللة الّنصّ ‪.‬‬

‫‪ -7‬أمّا المضمضة والستنشاق في الوضوء عند الحنابلة ففعلهما فرض ‪ ،‬لنّ الفم والنف من‬

‫أجزاء الوجه ‪ ،‬وليسا من سنن الوضوء ‪ ،‬ولذا فل يجب التّرتيب فيما بينهما ‪.‬‬

‫ويجب أن يتدارك المضمضة بعد الستنشاق ‪ ،‬أو بعد غسل الوجه ‪ ،‬وحتّى بعد غسل سائر‬ ‫العضاء ‪ ،‬إلّ أنّه إن تذكّرهما بعد غسل اليدين تداركهما وغسل ما بعدهما كما تقدّم ‪.‬‬

‫التّدارك في الغسل ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬التّرتيب والموالة في الغسل غير واجبين عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬

‫وقال اللّيث ‪ :‬ل بدّ من الموالة ‪ .‬واختلف فيه عن المام مالك ‪ ،‬والمقدّم عند أصحابه ‪ :‬وجوب‬

‫الموالة ‪ ،‬وفيه وجه لصحاب المام الشّافعيّ ‪ .‬فعلى قول الجمهور ‪ :‬إذا توضّأ مع الغسل لم‬

‫يلزم التّرتيب بين أعضاء الوضوء ‪ .‬من أجل ذلك فإنّه لو ترك غسل عضو أو لمعة من عضو‬ ‫‪ ،‬سواء أكان في أعضاء الوضوء أم في غيرها ‪ ،‬تدارك المتروك وحده بعد ‪ ،‬طال الوقت أو‬

‫قصر ‪ ،‬ولو غسل بدنه إلّ أعضاء الوضوء تداركها ‪ ،‬ولم يجب التّرتيب بينها ‪ .‬ومن أجل ذلك‬

‫قال الشّافعيّة ‪ :‬لو ترك الوضوء في الغسل ‪ ،‬أو المضمضة أو الستنشاق كره له ‪ ،‬ويستحبّ له‬ ‫أن يأتي به ولو طال الفصل دون إعادة للغسل ‪.‬‬

‫ويجب تداركهما عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬إذ هما واجبان في الغسل عندهم ‪ ،‬بخلفهما في‬ ‫الوضوء ‪ ،‬فهما فيه سنّة عند الحنفيّة ‪ ،‬وليسا بواجبين ‪.‬‬

‫تدارك غسل الميّت ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لو دفن الميّت دون غسل ‪ ،‬وقد أمكن غسله ‪ ،‬لزم نبشه‬

‫وأن يخرج ويغسّل ‪ ،‬تداركا لواجب غسله ‪ .‬أي ما لم يخش تغيّره ‪ ،‬كما صرّح به المالكيّة‬

‫والشّافعيّة ‪ .‬وكذلك تكفينه والصّلة عليه يجب تداركهما بنبشه ‪ .‬قال الدّردير ‪ :‬وتدورك ندبا‬

‫بالحضرة ‪ -‬وهي ما قبل تسوية التّراب عليه ‪ -‬ومثال المخالفة الّتي تتدارك ‪ :‬تنكيس رجليه‬

‫موضع رأسه ‪ ،‬أو وضعه غير مستقبل القبلة ‪ ،‬أو على ظهره ‪ ،‬وكترك الغسل ‪ ،‬أو الصّلة‬ ‫عليه ‪ ،‬ودفن من أسلم بمقبرة الكفّار ‪ ،‬فيتدارك إن لم يخف عليه التّغيّر ‪.‬‬

‫ق اللّه تعالى ‪ ،‬كما لو دفن دون‬ ‫أمّا عند الحنفيّة ‪ :‬فل ينبش الميّت إذا أهيل عليه التّراب لح ّ‬ ‫غسل أو صلة ‪ ،‬ويصلّى على قبره دون غسل ‪.‬‬

‫التّدارك في الصّلة ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫ن في مشروعيّة‬ ‫‪ -‬إذا ترك المصلّي شيئا من صلته ‪ ،‬أو فعله على وجه غير مجزئ ‪ ،‬فإ ّ‬

‫تداركه تفصيلً ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تدارك الركان ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬إن كان المتروك ركنا ‪ ،‬وكان تركه عمدا ‪ ،‬بطلت صلته حالً لتلعبه ‪ .‬وإن تركه سهوا‬

‫أو شكّ في تركه وجب تداركه بفعله ‪ ،‬وإلّ لم تصحّ الرّكعة الّتي ترك ركنا منها ‪ ،‬فإنّ الرّكن‬ ‫ل يسقط عمدا ول سهوا ول جهلً ول غلطا ‪ ،‬ويعيد ما بعد المتروك لوجوب التّرتيب ‪ .‬وفي‬

‫كيفيّة تداركه اختلف وتفصيل بين أصحاب المذاهب يرجع إليه في ( أركان الصّلة وسجود‬ ‫السّهو ) ‪ .‬وقد يشرع سجود السّهو مع تداركه ‪ ،‬على ما في سجود السّهو من الخلف ‪ ،‬في‬ ‫كونه واجبا أو مستحبّا على ما هو مفصّل في سجود السّهو ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تدارك الواجبات ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬ليس عند المالكيّة والشّافعيّة واجبات للصّلة غير الركان ‪.‬‬

‫وعند الحنفيّة واجبات الصّلة ل تفسد الصّلة بتركها ‪ ،‬بل يجب سجود السّهو إن كان تركه‬

‫سهوا ‪ ،‬وتجب إعادتها إن كان عمدا مع الحكم بإجزاء الولى ‪.‬‬

‫أمّا عند الحنابلة ‪ :‬فواجبات الصّلة ‪ -‬كالتّشهّد الوّل ‪ ،‬والتّكبير للنتقال ‪ ،‬وتسبيح الرّكوع‬

‫والسّجود ‪ -‬فإن ترك شيئا من ذلك عمدا بطلت صلته ‪ .‬وإن تركه سهوا ثمّ تذكّره ‪ ،‬فإنّه يجب‬

‫تداركه ما لم يفت محلّه ‪ ،‬بانتقاله بعده إلى ركن مقصود ‪ ،‬إذ ل يعود بعده لواجب ‪ .‬فيرجع إلى‬

‫تسبيح ركوع قبل اعتدال ل بعده ‪ ،‬ويرجع إلى التّشهّد الوّل ما لم يشرع في قراءة الرّكعة‬

‫ل الواجب ‪ -‬كما لو شرع في القراءة من ترك التّشهّد الوّل ‪ -‬لم يجز‬ ‫الثّالثة ‪ .‬ثمّ إن فات مح ّ‬

‫الرّجوع إليه ‪ .‬وفي كل الحالين يجب سجود السّهو ‪.‬‬

‫ت ‪ -‬تدارك سنن الصّلة ‪:‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪ -‬السّنن ل تبطل الصّلة بتركها ولو عمدا ‪ ،‬ول تجب العادة ‪ ،‬وإنّما حكم تركها ‪ :‬كراهة‬

‫التّنزيه ‪ ،‬كما صرّح به الحنفيّة ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬إن نسي سنّةً من سنن الصّلة يستدركها ما لم يفت محلّها ‪ ،‬فلو ترك التّشهّد‬

‫ل فقد فات ‪.‬‬ ‫الوسط ‪ ،‬وتذكّر قبل مفارقته الرض بيديه وركبتيه ‪ ،‬يرجع للتيان به ‪ ،‬وإ ّ‬

‫وأمّا السّجود للسّهو بترك سنّة ‪ ،‬فعندهم في ذلك تفصيلت يرجع إليها في( سجود السّهو )‪.‬‬ ‫والسّنن عند الشّافعيّة نوعان ‪ :‬نوع هو أبعاض يشرع سجود السّهو لتركها عمدا أو سهوا ‪،‬‬

‫كالقنوت ‪ ،‬وقيامه ‪ ،‬والتّشهّد الوّل ‪ ،‬وقعوده ‪،‬والصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم فيه‪.‬‬

‫ونوع ل يشرع السّجود لتركه ‪ ،‬كأذكار الرّكوع والسّجود ‪ ،‬فإن سجد لشيء منها عامدا بطلت‬ ‫صلته ‪ ،‬لنّه زاد على الصّلة من جنس أفعالها ما ليس منها ‪ ،‬إلّ أن يعذر بجهله ‪.‬‬

‫وعلى كلّ حال فل يتدارك شيء من ذلك عندهم إذا فات محلّه ‪ ،‬كالستفتاح إذا شرع في‬

‫القراءة ‪ .‬وكذا عند الحنابلة ل تتدارك السّنن إذا فات محلّها ‪ ،‬كما إذا ترك الستفتاح حتّى تعوّذ‬ ‫‪ ،‬أو ترك التّعوّذ حتّى بسمل ‪ ،‬أو ترك البسملة حتّى شرع في القراءة ‪ ،‬أو ترك التّأمين حتّى‬

‫شرع في السّورة ‪ .‬لكن إن لم يكن استعاذ في الولى عمدا أو نسيانا يستعيذ في الرّكعة الثّانية ‪.‬‬ ‫وليس ذلك من باب تدارك التّعوّذ الفائت ‪ ،‬ولكن إنّما يستعيذ للقراءة الثّانية ‪.‬‬

‫وكما ل تتدارك السّنن إذا فات محلّها ‪ ،‬فكذلك ل يشرع السّجود لترك شيء منها سهوا أو عمدا‬ ‫‪ ،‬قوليّةً كانت أو فعليّةً ‪ ،‬وإن سجد لذلك فل بأس ‪.‬‬

‫ث ‪ -‬تدارك المسبوق ما فاته من الصّلة مع الجماعة ‪:‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪ -‬من جاء متأخّرا عن تكبيرة الحرام ‪ ،‬فدخل مع المام ‪ ،‬ل يتدارك ما فاته من الرّكعة‬

‫معه إن أدركه قبل الرّفع من الرّكوع ‪ ،‬فإن أدركه في الرّفع من الرّكوع أو بعد ذلك فاتته‬

‫الرّكعة ووجب عليه تداركها ‪.‬‬

‫وفي ذلك تفصيل وأحكام مختلفة تنظر في صلة الجماعة ( صلة المسبوق ) ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬تدارك سجود السّهو ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬لو نسي من سها في صلته ‪ ،‬ث ّم انصرف من غير أن يسجد للسّهو حتّى سلّم ‪ ،‬ثمّ تذكّره‬

‫عن قرب ‪ ،‬يتداركه ‪ .‬وفي ذلك خلف وتفصيل ينظر في باب ( سجود السّهو ) ‪.‬‬

‫ح ‪ -‬تدارك النّاسي للتّكبير في صلة العيد ‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫‪ -‬إذا نسي تكبيرات صلة العيد حتّى شرع في القراءة ‪ ،‬فاتت فل يتداركها في الرّكعة‬

‫نفسها ‪ ،‬لنّها سنّة فات محلّها ‪ ،‬كما لو نسي الستفتاح أو التّعوّذ ‪ ،‬وهذا قول الشّافعيّة والحنابلة‬ ‫‪ .‬ولنّه إن أتى بالتّكبيرات ثمّ عاد إلى القراءة ‪ ،‬فقد ألغى القراءة الولى ‪ ،‬وهي فرض يصحّ‬

‫أن يعتدّ به ‪ ،‬وإن لم يعد إلى القراءة فقد حصلت التّكبيرات في غير محلّها ‪.‬‬

‫لكن عند الشّافعيّة ‪ -‬كما قال الشبراملسي ‪ -‬يسنّ إذا نسي تكبيرات الرّكعة الولى أن يتداركها‬

‫في الرّكعة الثّانية مع تكبيراتها ‪ ،‬كما في قراءة سورة ( الجمعة ) في الرّكعة الولى من صلة‬

‫ن له أن يقرأها مع سورة ( المنافقون ) في الرّكعة الثّانية ‪.‬‬ ‫الجمعة ‪ ،‬فإنّه إذا تركها فيها س ّ‬

‫وعند الحنفيّة ‪ :‬يتدارك التّكبيرات إذا نسيها ‪ ،‬سواء أذكرها أثناء القراءة أم بعد القراءة أثناء‬

‫الرّكوع ‪ .‬فإن نسيها حتّى رفع رأسه من الرّكوع فاتت فل يكبّر ‪.‬‬

‫غير أنّه إن ذكر أثناء قراءة الفاتحة وبعدها ‪ ،‬قبل أن يضمّ إليها السّورة ‪ ،‬يعيد بعد التّكبير‬

‫ن القراءة تمّت فل‬ ‫قراءة الفاتحة وجوبا ‪ ،‬وإن ذكر بعد ض ّم السّورة كبّر ولم يعد القراءة ‪ ،‬ل ّ‬ ‫يحتمل النّقض ‪ .‬وقول المالكيّة في هذه المسألة قريب من قول الحنفيّة ‪ ،‬فإنّهم يقولون ‪ :‬إنّ‬ ‫ناسي التّكبير كلّا أو بعضا يكبّر حيث تذكّر في أثناء القراءة أو بعدها ما لم يركع ‪ .‬ويعيد‬

‫القراءة استحبابا ‪ ،‬ويسجد للسّهو ‪ ،‬لنّ القراءة الولى وقعت في غير محلّها ‪ .‬فإن ركع قبل أن‬

‫ل التّدارك ‪ ،‬ول يرجع للتّكبير ‪ ،‬فإن رجع فالظّاهر البطلن‪.‬‬ ‫يتذكّر التّكبير تمادى لفوات مح ّ‬ ‫خ ‪ -‬تدارك المسبوق تكبيرات صلة العيد ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬عند الحنفيّة يتدارك المسبوق ما فاته من تكبيرات صلة العيد ‪ ،‬فيكبّر للفتتاح قائما ‪ ،‬فإن‬

‫أمكنه أن يأتي بالتّكبيرات ويدرك الرّكوع فعل ‪ ،‬وإن لم يمكنه ركع ‪ ،‬واشتغل بالتّكبيرات وهو‬

‫راكع عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬خلفا لبي يوسف ‪ ،‬وإن رفع المام رأسه سقط عنه ما بقي من‬ ‫التّكبير ‪ ،‬وإن أدركه بعد رفع رأسه قائما ل يأتي بالتّكبير ‪ ،‬لنّه يقضي الرّكعة مع تكبيراتها ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬يتداركها إن أدرك القراءة مع المام ‪ ،‬ل إذا أدركه راكعا ‪ .‬ثمّ إن أدركه في‬

‫أثناء التّكبيرات يتابع المام فيما أدركه معه ‪ ،‬ثمّ يأتي بما فاته ‪.‬‬

‫ول يكبّر ما فاته خلل تكبير المام ‪ .‬وإن أدركه في القراءة كبّر أثناء قراءة المام ‪.‬‬

‫وعند الشّافعيّة في الجديد ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬إن حضر المأموم ‪ ،‬وقد سبقه المام بالتّكبيرات أو‬

‫ببعضها ‪ ،‬لم يتدارك شيئا ممّا فاته ‪ ،‬لنّه ذكر مسنون فات محلّه ‪.‬‬

‫وفي القديم عند الشّافعيّة يقضي ‪،‬لنّ محلّه القيام وقد أدركه ‪ .‬قال الشّيرازيّ ‪ :‬وليس بشيء‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التّدارك في الحرام ‪:‬‬ ‫‪18‬‬

‫التّدارك في الحجّ ‪:‬‬

‫‪ -‬إن تجاوز الّذي يريد الحجّ الميقات دون أن يحرم ‪ ،‬فعليه دم إن أحرم من مكانه ‪.‬‬

‫لكن إن تدارك ما فاته بالرّجوع إلى الميقات والحرام منه فل دم عليه ‪.‬‬

‫وهذا باتّفاق إن رجع قبل أن يحرم ‪ ،‬أمّا إن أحرم من مكانه دون الميقات ‪ ،‬ثمّ رجع إليه ‪ ،‬فقد‬ ‫قيل ‪ :‬يستقرّ الدّم عليه ول ينفعه التّدارك ‪ .‬وقيل ‪ :‬ينفعه ‪.‬‬

‫وفي ذلك تفصيل وخلف يرجع إليه في مصطلح ( إحرام ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّدارك في الطّواف ‪:‬‬ ‫‪19‬‬

‫حجْر بعض طوافه ‪ ،‬لم‬ ‫‪ -‬إن ترك جزءا من الطّواف المشروع ‪ ،‬كما لو طاف داخل ال ِ‬

‫يصحّ حتّى يأتي بما تركه ‪ ،‬قال الحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪ :‬في وقت قريب ‪ ،‬لشتراط الموالة‬ ‫بين الطّوافات ‪.‬‬

‫ولم يشترط البعض الموالة ‪ ،‬وممّن قال ذلك ‪ :‬سائر الشّافعيّة ‪ ،‬بل هو عندهم مستحبّ ‪ .‬ونصّ‬

‫شكّ‬ ‫الشّافعيّة على أنّه إن شكّ في شيء من شروط حجّه يجب التّدارك ما لم يتحلّل ‪ ،‬ول يؤثّر ال ّ‬ ‫بعد الفراغ ‪.‬‬

‫وعند الحنفيّة غير ابن الهمام ‪ :‬الفرض في الطّواف أكثره ‪ -‬وهو أربع طوفات ‪ -‬وما زاد‬

‫واجب ‪ ،‬أمّا عند ابن الهمام فالسّبع كلّها فرض ‪ ،‬كقول جمهور الفقهاء ‪ .‬وعلى قول جمهور‬

‫الحنفيّة إن ترك ثلث طوفات من طواف الزّيارة أو أقلّ صحّ طوافه لفرضه ‪ ،‬وعليه دم لما‬

‫نقص من الواجب ‪ .‬لكن إن تدارك فطاف الشواط الباقية صحّ وسقط عنه الدّم ‪ ،‬ولو كان‬ ‫طوافه بعد فترة ‪ ،‬بشرط أن يكون إيقاع الطّوفات المتمّمة قبل آخر أيّام التّشريق ‪.‬‬

‫وإن ترك الحاجّ طواف القدوم ‪ ،‬أو تبيّن أنّه طاف للقدوم على غير طهارة ‪ ،‬فل يلزمه التّدارك‬

‫عند الجمهور ‪ ،‬لنّه مستحبّ غير واجب بالنّسبة للمفرد ‪ ،‬قال الشّافعيّة ‪ :‬وفي فواته بالتّأخير ‪-‬‬

‫أي عن قدوم مكّة ‪ -‬وجهان ‪ ،‬أصحّهما ‪ :‬ل يفوت إلّ بالوقوف بعرفة ‪ ،‬وإذا فات فل يقضى ‪.‬‬ ‫على أنّه ينبغي ملحظة أنّ من ترك طواف القدوم ‪ ،‬أو طافه ولم يصحّ له ‪ ،‬كأن طافه محدثا‬

‫ل من شرط لصحّة السّعي أن يتقدّمه الطّواف ‪ ،‬وقد‬ ‫ولم يتداركه ‪ ،‬فعليه إعادة السّعي عند ك ّ‬

‫صرّح بذلك المالكيّة ( ر ‪ :‬سعي ) ‪.‬‬

‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إن طاف للقدوم ‪ ،‬أو تطوّعا على غير طهارة ‪ ،‬فعليه دم إن كان جنبا ‪ ،‬لوجوب‬

‫الطّواف بالشّروع فيه ‪ ،‬وإن كان محدثا فعليه صدقة ل غير ‪ .‬ويمكنه التّدارك بإعادة‬

‫الطّواف ‪ ،‬فيسقط عنه الدّم أو الصّدقة ‪ .‬والحكم عند الحنفيّة كذلك في طواف الوداع ‪ .‬أمّا‬

‫الرّمل والضطباع في الطّواف فهما سنّتان في حقّ الرّجال ‪ ،‬في الشواط الثّلثة الولى من‬

‫طواف القدوم خاصّةً ‪ ،‬فلو تركهما فل شيء عليه ‪ ،‬ول يشرع له تداركهما ‪ ،‬ومثلهما ترك‬

‫الرّمل بين الميلين ( الخضرين ) في السّعي بين الصّفا والمروة ‪ .‬وهذا مذهب الحنابلة ‪ ،‬وهو‬ ‫الصحّ أو الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو ظاهر كلم الحنفيّة ‪ ،‬قال ابن الهمام ‪ :‬إن ترك الرّمل‬ ‫في أشواط الطّواف الولى ل يرمل بعد ذلك ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ ،‬وهو قول خلف الظهر عند‬

‫الشّافعيّة ‪ ،‬وقول القاضي من الحنابلة ‪ :‬أنّه يقضي الضطباع في طواف الفاضة ‪.‬‬

‫ت ‪ -‬التّدارك في السّعي ‪:‬‬ ‫‪20‬‬

‫ج المفرد إن لم يسع بعد طواف القدوم وجب عليه تدارك السّعي ‪ ،‬فيسعى بعد طواف‬ ‫‪ -‬الحا ّ‬

‫الفاضة ول بدّ ‪ ،‬وإلّ لم يصحّ حجّه عند الجمهور ‪ ،‬لنّ السّعي عندهم ركن ‪.‬‬

‫وهو عند الحنفيّة ‪ ،‬وفي قول القاضي من الحنابلة ‪ :‬واجب فقط ‪ ،‬فإن لم يتداركه يجبر بدم‬

‫وحجّه تامّ ‪ .‬وهذا إن كان المتروك السّعي كلّه أو أكثره ‪ ،‬فإن كان المتروك ثلثة أشواط أو أقلّ‬ ‫فليس عليه عند الحنفيّة إلّ التّصدّق بنصف صاع عن كلّ شوط ‪ ،‬وكلّ هذا عندهم إن كان‬

‫التّرك بل عذر ‪ ،‬فإن كان بعذر فل شيء عليه ‪ ،‬وهذا في جميع واجبات الحجّ ‪.‬‬

‫ولو سعى بين الصّفا والمروة فترك بعض الشواط عمدا أو نسيانا ‪ ،‬أو ترك في بعضها أن‬

‫يصل إلى الصّفا أو إلى المروة لم يصحّ سعيه ‪ ،‬ولو كان ما تركه ذراعا واحدا ‪ ،‬وعليه أن‬

‫يتدارك ما فاته ‪ ،‬ويمكن التّدارك بالتيان بالبعض الّذي تركه ولو بعد أيّام ‪.‬‬

‫ول يلزمه إعادة السّعي كلّه ‪ ،‬لنّ الموالة غير مشترطة فيه بخلف الطّواف بالبيت ‪.‬‬

‫وقيل ‪ :‬هي مشترطة في السّعي أيضا ‪ ،‬وهو أحد قولي الشّافعيّة ‪.‬‬

‫ن الشّوط الوّل ل يعتبر ‪ ،‬لنّ « النّبيّ صلى ال‬ ‫ومثل ذلك ‪ :‬ما لو سعى مبتدئا بالمروة ‪ ،‬فإ ّ‬

‫عليه وسلم قرأ قول اللّه تعالى ‪ { :‬إنّ الصّفَا والمرو َة منْ شعائرِ اللّهِ } الية ثمّ قال ‪ :‬نبدأ بما‬

‫بدأ اللّه به » وفي رواية « ابدءوا بما بدأ اللّه به » ‪.‬‬

‫ث ‪ -‬الخطأ في الوقوف ‪:‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪ -‬إذا وقف الحجيج يوم العاشر من شهر ذي الحجّة ‪ ،‬وتبيّن خطؤهم ‪ ،‬فالحنفيّة والمالكيّة‬

‫والحنابلة ‪ ،‬وهو مقابل الصحّ عند الشّافعيّة أنّه أجزأهم الوقوف ول يعيدون ‪ ،‬دفعا للحرج‬

‫الشّديد ‪ ،‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّه يجزئهم الوقوف إلّ أن يقلّوا على خلف العادة في الحجيج ‪،‬‬ ‫فيقضون هذا الحجّ في الصحّ ‪ ،‬لنّه ليس في قضائهم مشقّة عامّة ‪.‬‬

‫أمّا إذا وقفوا في اليوم الثّامن ‪ ،‬ثمّ علموا بخطئهم ‪ ،‬وأمكنهم التّدارك قبل الفوات ‪ ،‬أعادوا عند‬

‫الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو رواية أيضا عند الحنابلة ) والرّواية الخرى عند‬ ‫الحنابلة أنّه يجزئهم الوقوف دون تدارك ‪ ،‬لنّهم لو أعادوا الوقوف لتعدّد ‪ ،‬وهو بدعة ‪ ،‬كما‬

‫قال الشّيخ ابن تيميّة ‪.‬‬

‫أمّا لو علموا بخطئهم ‪ ،‬بحيث ل يمكنهم التّدارك ‪ ،‬للفوات ‪ ،‬فالحكم في المعتمد عند المالكيّة ‪،‬‬

‫والصحّ عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ل يجزئهم هذا الوقوف ‪ ،‬ويجب عليهم القضاء لهذا الحجّ ‪ .‬وفرّقوا‬

‫بين تأخير العبادة عن وقتها وتقديمها عليه بأنّ التّأخير أقرب إلى الحتساب من التّقديم ‪ ،‬وبأنّ‬

‫اللّفظ في التّقديم يمكن الحتراز عنه ‪ ،‬لنّه يقع الغلط في الحساب ‪ ،‬أو الخلل في الشّهود الّذين‬ ‫شهدوا بتقديم الهلل ‪ ،‬والغلط بالتّأخير قد يكون بالغيم المانع من رؤية الهلل ‪ ،‬ومثل ذلك ل‬

‫يمكن الحتراز عنه ‪ .‬وهذا أحد التّخريجين عن الحنفيّة ‪.‬‬

‫وعند الحنابلة ‪ ،‬وهو التّخريج الخر عند الحنفيّة ‪ :‬أنّه يجزئهم ‪ ،‬ول قضاء عليهم ‪ ،‬لنّ‬

‫الوقوف مرّتين في عام واحد بدعة ‪ -‬كما يقول الحنابلة ‪ -‬ولنّ القول بعدم الجزاء فيه حرج‬

‫بيّن ‪ -‬كما يقول الحنفيّة ‪. -‬‬

‫ج ‪ -‬التّدارك في وقوف عرفة ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫ج الوقوف بعرفة عمدا أو نسيانا أو جهلً حتّى طلع فجر يوم النّحر لم يصحّ‬ ‫‪ -‬لو ترك الحا ّ‬

‫حجّه ‪ ،‬فل يمكن التّدارك بعد ذلك ‪ ،‬وعليه أن يحلّ بعمرة ‪.‬‬

‫ولو وقف نهارا ‪ ،‬ثمّ دفع قبل الغروب ‪ ،‬فقد أتى بالرّكن ‪ ،‬وترك واجب الوقوف في جزء من‬

‫اللّيل ‪ ،‬فيكون عليه دم وجوبا عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪.‬‬

‫لكنّ الرّاجح عند الشّافعيّة استحباب إراقة الدّم ‪ ،‬لنّ أخذ جزء من اللّيل على هذا القول سنّة ل‬

‫غير ‪ ،‬وإنّما يستحبّ الدّم خروجا من خلف من أوجبه ‪.‬‬

‫ولو تدارك ما فاته بالرّجوع إلى عرفة قبل غروب الشّمس ‪ ،‬وبقي إلى ما بعد الغروب سقط‬

‫عنه الدّم اتّفاقا ‪ .‬ولو رجع بعد الغروب وقبل طلوع الفجر سقط عنه الدّم عند الجمهور ‪ ،‬خلفا‬

‫ن الدّم عندهم لزمه بالدّفع من عرفة ‪ ،‬فل يسقط بالرّجوع إليها ‪.‬‬ ‫للحنفيّة ‪ ،‬ل ّ‬

‫أمّا عند المالكيّة فل يدفع الحاجّ من عرفة إلّ بعد غروب الشّمس ‪ ،‬فإن دفع قبل الغروب فعليه‬ ‫العود ليلً ( تداركا ) وإلّ بطل حجّه ‪.‬‬ ‫ح ‪ -‬تدارك الوقوف بالمزدلفة ‪:‬‬

‫‪23‬‬

‫‪ -‬عند الشّافعيّة والحنابلة الوجود بمزدلفة واجب ولو لحظةً ‪ ،‬بشرط أن يكون ذلك في‬

‫النّصف الثّاني من اللّيل بعد الوقوف بعرفة ‪ ،‬ول يشترط المكث ‪ ،‬بل يكفي مجرّد المرور بها‪.‬‬

‫ومن دفع من مزدلفة قبل منتصف اللّيل ‪ ،‬وعاد إليها قبل الفجر فل شيء عليه ‪ ،‬لنّه أتى‬

‫بالواجب ‪ ،‬فإن لم يعد بعد نصف اللّيل حتّى طلع الفجر فعليه دم على الرجح ‪.‬‬

‫أمّا عند الحنفيّة ‪ :‬فيجب الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ‪ ،‬وعليه أن يقف‬ ‫في ذلك الوقت ولو لحظةً ‪ ،‬فإن ترك الوقوف لعذر فل شيء عليه ‪ ،‬والعذر كأن يكون به‬

‫ضعف أو علّة أو كانت امرأة تخاف الزّحام ‪ ،‬وإن أفاض من مزدلفة قبل ذلك ل لعذر فعليه دم‬ ‫‪ .‬وظاهر أنّه إن تدارك الوقوف بالرّجوع إلى مزدلفة قبل طلوع الشّمس سقط عنه الدّم ‪ .‬وعند‬

‫المالكيّة ‪ :‬النّزول بمزدلفة بقدر حطّ الرّحال ‪ -‬وإن لم تحطّ بالفعل ‪ -‬واجب ‪ ،‬فإن لم ينزل بها‬

‫بقدر حطّ الرّحال حتّى طلع الفجر فالدّم واجب عليه إلّ لعذر ‪ ،‬فإن ترك النّزول لعذر فل شيء‬ ‫عليه ‪.‬‬

‫خ ‪ -‬تدارك رمي الجمار ‪:‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من ترك رمي يوم أو يومين ‪ -‬عمدا أو سهوا ‪ -‬تداركه‬

‫في باقي أيّام التّشريق على الظهر ‪ ،‬ويكون ذلك أداءً ‪ ،‬وفي قول قضاءً ‪ ،‬ول دم مع التّدارك‬ ‫‪ .‬ومذهب الحنفيّة ‪ :‬أنّ من أخّر الرّمي في اليوم الوّل والثّاني من أيّام التّشريق إلى اللّيل ‪،‬‬

‫فرمى قبل طلوع الفجر جاز ول شيء عليه ‪ ،‬لنّ اللّيل وقت للرّمي في أيّام الرّمي ‪ .‬وأمّا رمي‬ ‫جمرة العقبة ‪ ،‬فمذهب أبي حنيفة أنّه يمتدّ إلى غروب الشّمس ‪ ،‬فإن لم يرم حتّى غربت الشّمس‬ ‫‪ ،‬فرمى قبل طلوع الفجر من اليوم الثّاني أجزأه ‪ ،‬ول شيء عليه ‪.‬‬

‫ومذهب المالكيّة ‪ :‬أنّ تأخير الرّمي إلى اللّيل يكون تداركه قضاءً ‪ ،‬وعليه دم واحد ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬تدارك طواف الفاضة ‪:‬‬

‫‪25‬‬

‫ن من طاف بعد عرفة طوافا صحيحا ‪ -‬سواء أكان‬ ‫‪ -‬مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬أ ّ‬

‫واجبا أم نفلً ‪ -‬وقع عن طواف الفاضة وإن لم ينوه ‪.‬‬

‫أمّا من ترك الطّواف بعد عرفة ‪ ،‬وخرج إلى بلده ‪ ،‬فعليه أن يرجع محرما ليطوف طواف‬ ‫الفاضة ‪ ،‬ويبقى محرما بالنّسبة إلى النّساء حتّى يطوف طوافا صحيحا ‪.‬‬

‫وهناك تفصيلت في بعض المذاهب يرجع إليها في الحجّ ‪ .‬ومذهب الحنابلة ‪ :‬أنّه من ترك‬ ‫طواف الفاضة ‪ ،‬لكنّه طاف طواف الصّدر ( الوداع ) أو طواف نفل ‪ ،‬وقع الطّواف عمّا‬

‫نواه ‪ ،‬ول يقع عن طواف الفاضة ‪ ،‬حتّى لو رجع إلى بلده بعد هذا الطّواف عليه أن يرجع‬

‫محرما ‪ ،‬ليطوف طواف الفاضة لنّه ركن ‪ ،‬ويبقى محرما أيضا بالنّسبة إلى النّساء ‪.‬‬ ‫ذ ‪ -‬تدارك طواف الوداع ‪:‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ -‬طواف الوداع واجب على غير الحائض يجبر تركه بدم ‪ ،‬ولو كان تركه لنسيان أو‬

‫جهل ‪ ،‬وهذا قول الحنابلة ‪ ،‬وهو أحد قولي الشّافعيّة ‪.‬‬

‫والثّاني عندهم ‪ :‬هو سنّة ل يجب جبره ‪ ،‬فعلى قول الوجوب قال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إن خرج‬

‫بل وداع وجب عليه الرّجوع لتداركه إن كان قريبا ‪ ،‬أي دون مسافة القصر ‪ ،‬فإن عاد قبل‬

‫مسافة القصر فطاف للوداع سقط عنه الثم والدّم ‪ ،‬وإن تجاوز مسافة القصر استقرّ عليه الدّم ‪،‬‬ ‫فلو تداركه بعدها لم يسقط الدّم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يسقط ‪.‬‬

‫ل بعد إرادة السّفر ‪ ،‬فإن‬ ‫وعند الحنفيّة ‪ :‬طواف الوداع واجب ‪ ،‬ويجزئ عنه ما لو طاف نف ً‬

‫سافر ولم يكن فعل ذلك وجب عليه الرّجوع لتداركه ما لم يجاوز الميقات ‪ ،‬فيخيّر بين إراقة‬

‫الدّم وبين الرّجوع بإحرام جديد بعمرة ‪ ،‬فيبتدئ بطوافها ثمّ بطواف الوداع ‪ ،‬فإن فعل ذلك فل‬

‫شيء عليه لتأخيره ‪.‬‬

‫ل يرجع لتداركه‬ ‫وعند المالكيّة ‪ :‬طواف الوداع مندوب ‪ ،‬فلو تركه وخرج ‪ ،‬أو طافه طوافا باط ً‬

‫ما لم يخف فوت رفقته الّذين يسير بسيرهم ‪ ،‬أو خاف منعا من الكراء أو نحو ذلك ‪.‬‬

‫تدارك المجنون والمغمى عليه للعبادات ‪:‬‬ ‫أوّلً ‪ -‬بالنّسبة للصّلة ‪:‬‬

‫‪27‬‬

‫‪ -‬ل تدارك لما فات من صلة حال الجنون أو الغماء عند المالكيّة والشّافعيّة لعدم الهليّة‬

‫وقت الوجوب ‪ ،‬لقول النّبيّ ‪ .‬صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬رفع القلم عن ثلثة ‪ :‬عن النّائمِ حتّى‬

‫ي حتّى يشبّ ‪ ،‬وعن المعتوه حتّى َيعْقِل » ‪.‬‬ ‫يستيقظَ ‪ ،‬وعن الصّب ّ‬

‫وعند الحنفيّة إن جنّ أو أغمي عليه خمس صلوات ‪ -‬أو ستّا على قول محمّد ‪ -‬قضاها ‪ ،‬وإن‬

‫جنّ أو أغمي عليه أكثر من ذلك فل قضاء عليه نفيا للحرج ‪ ،‬وقال بشر ‪ :‬الغماء ليس بمسقط‬ ‫‪ ،‬ويلزمه القضاء وإن طالت مدّة الغماء ‪.‬‬

‫وفرّق الحنابلة بين الجنون والغماء ‪ ،‬فلم يوجبوا القضاء على ما فات حال الجنون ‪ ،‬وأوجبوه‬ ‫فيما فات حال الغماء ‪ ،‬لنّ الغماء ل تطول مدّته غالبا ‪ ،‬ولما روي أنّ عمّارا رضي ال‬ ‫ت منذ ثلث ‪ ،‬ثمّ توضّأ‬ ‫ت ؟ قالوا ‪ :‬ما صلّي َ‬ ‫عنه أغمي عليه ثلثا ‪ ،‬ثمّ أفاق فقال ‪ :‬هل صلّي ُ‬

‫وصلّى تلك الثّلث ‪ .‬وعن عمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي ال عنهما نحوه ‪ ،‬ولم‬

‫يعرف لهم مخالف ‪ ،‬فكان كالجماع ‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪ -‬ومن أدرك جزءا من الوقت وهو أهل ثمّ جنّ أو أغمي عليه ‪ ،‬فإن كان ما أدركه ل يسع‬

‫الفرض فل يجب عليه القضاء عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الشّافعيّة ‪ .‬وعند‬

‫الحنابلة يجب عليه القضاء ‪ .‬وإن كان ما أدركه يسع الفرض فعند الحنفيّة ل يجب القضاء ‪،‬‬ ‫ن الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الداء قبله ‪ ،‬فيستدعي الهليّة فيه لستحالة‬ ‫لّ‬

‫اليجاب على غير الهل ‪ ،‬ولم يوجد ‪ ،‬فلم يكن عليه القضاء ‪ ،‬وهو أيضا رأي المالكيّة خلفا‬ ‫لبعض أهل المدينة وابن عبد البرّ ‪ ،‬حيث القضاء عندهم أحوط ‪.‬‬

‫ن الوجوب يثبت في أوّل الوقت فلزم القضاء‪.‬‬ ‫وعند الشّافعيّة والحنابلة يجب عليه القضاء ‪،‬ل ّ‬ ‫‪29‬‬

‫‪ -‬وإن أفاق المجنون أو المغمى عليه في آخر الوقت فللحنفيّة قولن ‪:‬‬

‫ل إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه‬ ‫أحدهما ‪ ،‬وهو قول زفر ‪ :‬ل يصبح مدركا للفرض إ ّ‬ ‫أداء الفرض ‪.‬‬

‫والثّاني ‪ ،‬للكرخيّ وأكثر المحقّقين ‪ ،‬وهو المختار ‪ :‬أنّه يجب الفرض ويصير مدركا إذا أدرك‬

‫من الوقت ما يسع التّحريمة فقط ‪ ،‬وهو قول الحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬يجب الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ركعة من زمن يسع الطّهر ‪ ،‬وهو قول‬

‫بعض الشّافعيّة ‪ .‬وفي قول آخر للشّافعيّة ‪ :‬إذا بقي مقدار ركعة فقط ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬بالنّسبة للصّوم ‪:‬‬

‫‪30‬‬

‫‪ -‬إذا استوعب الجنون شهر رمضان بأكمله فل قضاء على المجنون سواء ‪ ،‬أكان الجنون‬

‫أصليّا أم عارضا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬رفع القلم عن ثلث ‪ » ...‬وإذا‬

‫ل عند الحسن البصريّ ‪ ،‬ودليل‬ ‫استوعب الغماء الشّهر كلّه وجب القضاء على المغمى عليه إ ّ‬ ‫وجوب القضاء قوله تعالى ‪ { :‬فمنْ كان منكم مريضا أو على سفرٍ فَعِدّ ٌة من أيّامٍ ُأخَر }‬

‫والغماء مرض ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬يجب القضاء على المجنون بعد إفاقته للية السّابقة ‪،‬‬

‫والجنون مرض ‪ ،‬وعن المام أحمد مثل ذلك بالنّسبة للمجنون ‪.‬‬

‫وإن أفاق المجنون في أيّ يوم من أيّام الشّهر كان عليه قضاء ما مضى من الشّهر استحسانا‬

‫عند الحنفيّة ‪ ،‬والقياس أنّه ل يلزمه ‪ ،‬وهو قول زفر ‪.‬‬

‫وفرّق محمّد فقال ‪ :‬ل قضاء لما فات في الجنون الصليّ ‪ ،‬ويجب القضاء إذا كان الجنون‬

‫عارضا ‪ .‬وعند الشّافعيّة والحنابلة ل قضاء لما فات زمن الجنون للحديث المتقدّم ‪ -‬ويجب‬

‫القضاء عند المالكيّة ‪ .‬ويجب القضاء على المغمى عليه لما فات عند الجميع ‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫‪ -‬أمّا اليوم الّذي جنّ أو أغمي عليه فيه ‪ ،‬فإنّه يعتبر مدركا لصيام هذا اليوم إن كان نوى‬

‫الصّيام من اللّيل ‪ ،‬ول قضاء عليه ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬إن جنّ أو أغمي عليه بعد الفجر ‪ ،‬واستمرّ الجنون أو الغماء أكثر اليوم فعليه‬

‫ل أجزأه ‪ ،‬ول قضاء عليه ‪ .‬وإن كان‬ ‫القضاء ‪ ،‬وإن كان بعد الفجر ولم يستمرّ نصف يوم فأق ّ‬

‫الغماء أو الجنون مع الفجر أو قبله فالقضاء مطلقا ‪ ،‬لزوال العقل وقت الّنيّة ‪ .‬وعند الشّافعيّة‬ ‫في الظهر ‪ ،‬وهو قول الحنابلة ‪ :‬أنّ الغماء ل يضرّ صومه إذا أفاق لحظ ًة من نهار ‪ ،‬أيّ‬

‫لحظة كانت ‪ ،‬اكتفاءً بال ّنيّة مع الفاقة في جزء ‪.‬‬

‫والثّاني للشّافعيّة ‪ :‬يضرّ مطلقا ‪ ،‬والثّالث ‪ :‬ل يضرّ إذا أفاق أوّل النّهار ‪.‬‬

‫وإن نوى الصّوم ثمّ جنّ ففيه قولن ‪ :‬في الجديد يبطل الصّوم ‪ ،‬لنّه عارض يسقط فرض‬

‫الصّلة فأبطل الصّوم ‪ ،‬وقال في القديم ‪ :‬هو كالغماء ‪ .‬وعند الحنابلة ‪ :‬الجنون كالغماء‬

‫يجزئ صومه إذا كان مفيقا في أيّ لحظة منه مع تبييت الّنيّة ‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪ -‬أمّا اليوم الّذي تحدث فيه الفاقة من الجنون أو الغماء ‪ ،‬فعند الحنفيّة ‪ :‬أن المجنون‬

‫جنونا عارضا لو أفاق في النّهار قبل الزّوال ‪ ،‬فنوى الصّوم أجزأه ‪ .‬وفي الجنون الصليّ‬ ‫خلف ‪ ،‬ويجزئ في الغماء بل خلف ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬إن أفاق قبل الفجر أجزأ ذلك اليوم عن الصّيام بالنّسبة للمجنون والمغمى‬ ‫عليه ‪ ،‬وإن كانت الفاقة بعد الفجر فهو على التّفصيل السّابق ‪.‬‬

‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬إن أفاق المجنون في النّهار فعلى الصحّ ل قضاء عليه ‪ ،‬ويستحبّ له‬

‫المساك ‪ ،‬وهذا في وجه ‪ .‬وفي الوجه الثّاني ‪ :‬يجب القضاء ‪ ،‬أمّا المغمى عليه فإذا أفاق‬

‫أجزأه ‪ .‬وعند الحنابلة في قضاء اليوم الّذي أفاق فيه المجنون وإمساكه روايتان ‪ ،‬أمّا المغمى‬ ‫عليه فيصحّ صومه إن أفاق في جزء من النّهار ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬بالنّسبة للحجّ ‪:‬‬

‫‪33‬‬

‫‪ -‬من أحرم بالحجّ ‪ ،‬وطرأ عليه جنون أو إغماء ثمّ أفاق منه قبل الوقوف بعرفة ‪ ،‬ووقف ‪،‬‬

‫ج باتّفاق ‪ .‬وكذلك من لم يحرم بالحجّ لجنون أو إغماء ‪ ،‬ولكنّه أفاق من قبل‬ ‫أجزأه الح ّ‬ ‫الوقوف ‪ ،‬وأحرم ووقف بعرفة أجزأه ‪ ،‬على تفصيل في وجوب الجزاء عليه ‪.‬‬

‫ومثل ذلك أيضا المجنون الّذي أحرم عنه وليّه ‪ ،‬أو المغمى عليه ‪ -‬عند من يقول بجواز‬

‫الحرام عنه كالحنفيّة وبعض الشّافعيّة ‪ -‬إذا أفاقا قبل الوقوف ووقفا أجزأهما الحجّ ‪ ،‬ومن‬ ‫وقف بعرفة وهو مجنون أو مغمًى عليه بعد أن أحرم وهو مفيق ‪ ،‬أو أحرم وليّه عنه فعند‬

‫المالكيّة وبعض الشّافعيّة ‪ :‬كان حجّهما صحيحا ‪ ،‬مع الختلف بين وقوعه فرضا أو نفلً ‪.‬‬ ‫ج المغمى عليه صحيحا ‪ ،‬وفي المجنون خلف ‪.‬‬ ‫وعند الحنفيّة كان ح ّ‬

‫وينظر تفصيل جميع ما مرّ في العبادات في ‪ ( :‬صلة ‪ ،‬صوم ‪ ،‬حجّ ‪ ،‬جنون ‪ ،‬إغماء ) ‪.‬‬

‫تدارك المريض العاجز عن اليماء ‪:‬‬

‫‪34‬‬

‫‪ -‬من عجز عن اليماء في الصّلة برأسه لركوعه وسجوده أومأ بطرفه ( عينه ) ونوى‬

‫بقلبه ‪ ،‬لحديث عليّ رضي ال عنه ‪ « :‬يصلّي المريض قائما ‪ ،‬فإن لم يستطع صلّى جالسا ‪،‬‬

‫فإن لم يستطع صلّى على جنبه مستقبل القبلة ‪ ،‬فإن لم يستطع صلّى مستلقيا على قفاه ‪ ،‬ورجله‬ ‫إلى القبلة ‪ ،‬وأومأ بطرفه » ‪ .‬وهذا متّفق عليه بين الفقهاء ‪ .‬فإن عجز عن اليماء بطرفه أومأ‬

‫بأصبعه ‪ ،‬فإن لم يستطع أتى بالصّلة بقدر ما يطيق ولو بنيّة أفعالها ‪ ،‬ول تسقط عنه أبدا ما‬

‫دام معه شيء من عقل ‪ ،‬ويأتي بالصّلة بأن يقصد الصّلة بقلبه مستحضرا الفعال والقوال إن‬ ‫سعَها } ‪.‬‬ ‫لوْ‬ ‫عجز عن النّطق ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َن ْفسَا إ ّ‬

‫وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة ‪.‬‬

‫وعند الحنفيّة غير زفر ‪ :‬اليماء يكون بالرّأس فقط ول يكون بعينيه أو جبينه أو قلبه ‪ ،‬لنّ‬

‫فرض السّجود ل يتأتّى بهذه الشياء ‪ ،‬بخلف الرّأس لنّه يتأدّى به فرض السّجود ‪ ،‬فمن عجز‬ ‫عن اليماء برأسه أخّر الصّلة ‪ ،‬وإن مات على ذلك الحال ل شيء عليه ‪ ،‬وإن برأ فالصّحيح‬

‫أنّه يلزمه قضاء يوم وليلة ل غير نفيا للحرج ‪.‬‬

‫تدارك النّاسي والسّاهي ‪:‬‬

‫‪35‬‬

‫‪ -‬النّسيان أو السّهو إن وقع في ترك مأمور لم يسقط ‪ ،‬بل يجب تداركه ‪ .‬فمن نسي صلةً‬

‫أو صوما أو زكا ًة أو كفّارةً أو نذرا وجب عليه الداء إن أمكن ‪ ،‬أو أن يتداركه بالقضاء بل‬

‫خلف ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مَنْ نسي صلةً أو نام عنها ‪ ،‬فكفّارتُها أن‬

‫يصلّيها إذا َذ َكرَها » ‪.‬‬

‫وتكون الصّلة أداءً إذا أدّى منها ركعةً في الوقت ‪ ،‬أو التّحريمة على الخلف في ذلك ‪.‬‬

‫وإذا فات الوقت تداركها بالقضاء ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬صلة ‪ ،‬صوم ‪ ،‬زكاة ) ‪.‬‬

‫تدارك من أفسد عبادةً شرع فيها من صلةٍ أو صومٍ أو حجٍ ‪:‬‬

‫‪36‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ من أفسد عبادة مفروضة وجب عليه أداؤها إن كان وقتها‬

‫يسعها كالصّلة ‪ ،‬أو القضاء إن خرج الوقت أو كان ل يسعها كالصّلة إن خرج الوقت ‪،‬‬ ‫ج لعدم اتساع الوقت ‪.‬‬ ‫وكالصّيام والح ّ‬

‫أما التطوع بالعبادة فإنها تلزم بالشّروع فيه عند الحنفية والمالكية ‪ ،‬ويجب إتمامها ‪ ،‬وعند‬ ‫الشافعية والحنابلة ‪ :‬ل تجب بالشّروع ‪ ،‬ويستحب التمام فيما عدا الحجّ والعمرة فيلزمان‬

‫بالشّروع ‪ ،‬ويجب إتمامهما ‪ ،‬وعلى ذلك فمن دخل في عبادة تطوّع وأفسدها وجب عليه‬ ‫عمَاَلكُم } ‪.‬‬ ‫قضاؤها عند الحنفية والمالكية لقوله تعالى ‪ { :‬ول ُتبْطِلُوا أَ ْ‬

‫ول يجب القضاء عند الشافعية والحنابلة في غير الحجّ والعمرة لما روت « عائشة رضي ال‬

‫تعالى عنها قالت ‪ :‬دخل عليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬هل عندك شيء ؟ فقلت ‪:‬‬ ‫ي يوما آخر فقال ‪ :‬هل عندك شيء ؟ فقلت ‪ :‬نعم ‪،‬‬ ‫ل ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنّي إذا أصوم ‪ ،‬ثم دخل عل ّ‬

‫فقال ‪ :‬إذا أفطر ‪ ،‬وإن كنت قد فرضت الصوم » ‪.‬‬

‫أما الحجّ والعمرة فيجب قضاؤهما إذا أفسدهما ‪ ،‬لن الوصول إليهما ل يحصل في الغالب إل‬

‫بعد كلفة عظيمة ‪ ،‬ولهذا يجبان بالشّروع ‪.‬‬

‫تدارك المرتدّ لما فاته ‪:‬‬

‫‪37‬‬

‫‪ -‬ما فات المرت ّد من العبادات أيّام الرّدّة ل يجب عليه قضاؤه ‪ ،‬إذا تاب ورجع إلى‬

‫ن َي ْن َتهُوا‬ ‫السلم ‪ ،‬لنّه غير مخاطب بفروع الشّريعة ‪ ،‬ولقوله تعالى ‪ { :‬قُلْ لِّلذِينَ َك َفرُوا إِ ْ‬

‫جبّ ما َقبْلَه » ‪ .‬وهذا‬ ‫ُي ْغفَرْ لَهم ما قَد سَلَف } ‪ ،‬ولقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬السلمُ َي ُ‬

‫عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وعند الشّافعيّة يجب عليه قضاء ما فاته أيّام ردّته من عبادات‬ ‫‪ ،‬لنّ المرتدّ كان مقرّا بإسلمه ولنّه ل يستحقّ التّخفيف ‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫‪ -‬وما فاته أيّام إسلمه من عبادات قبل ردّته وحال إسلمه ‪ ،‬يجب عليه قضاؤه بعد توبته‬

‫من ال ّردّة ‪ ،‬لستقرار هذه العبادات عليه حال إسلمه ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬ ‫وعند المالكيّة ‪ :‬ل يطالب بما فاته قبل ردّته ‪ ،‬فالرّدّة تسقط ما كان عليه من صلة وصيام إلّ‬

‫الحجّ الّذي تقدّم منه ‪ ،‬فإنّه ل يبطل ‪ ،‬ويجب عليه إعادته إذا أسلم ‪ ،‬لبقاء وقته وهو العمر ‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪ -‬وإذا رجع المرتدّ إلى السلم وأدرك وقت صلة ‪ ،‬أو أدرك جزءا من رمضان وجب‬

‫عليه أداؤه ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تداوي *‬

‫‪ -‬التّداوي لغةً ‪ :‬مصدر تداوى أي ‪ :‬تعاطى الدّواء ‪ ،‬وأصله دوي يدوي دوى أي مرض ‪،‬‬

‫وأدوى فلنا يدويه بمعنى ‪ :‬أمرضه ‪ ،‬وبمعنى ‪ :‬عالجه أيضا ‪ ،‬فهي من الضداد ‪ ،‬ويداوي ‪:‬‬

‫أي يعالج ‪ ،‬ويداوي بالشّيء أي ‪ :‬يعالج به ‪ ،‬وتداوى بالشّيء ‪ :‬تعالج به ‪ ،‬والدّواء والدّواء‬ ‫والدّواء ‪ :‬ما داويته به ‪.‬‬

‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى ‪ ،‬كما تدلّ على ذلك عباراتهم ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التّطبيب ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫ب فلن فلنا أي ‪ :‬داواه ‪ ،‬وجاء يستطبّ‬ ‫‪ -‬التّطبيب لغةً ‪ :‬المداواة والعلج ‪ ،‬يقال ‪ :‬ط ّ‬

‫لوجعه ‪ :‬أي يستوصف الدوية أيّها يصلح لدائه ‪.‬‬

‫طبّ ‪ :‬علج الجسم والنّفس ‪ ،‬فالتّطبيب مرادف للمداواة ‪.‬‬ ‫وال ّ‬

‫ب ‪ -‬التّمريض ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّمريض مصدر مرّض ‪ ،‬وهو التّكفّل بالمداواة ‪ .‬يقال ‪ :‬مرّضه تمريضا ‪ :‬إذا قام عليه‬

‫ووليه في مرضه وداواه ليزول مرضه ‪،‬وقال بعضهم ‪ :‬التّمريض حسن القيام على المريض‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬السعاف ‪:‬‬

‫‪ - 4‬السعاف في اللّغة ‪ :‬العانة والمعالجة بالمداواة ‪ ،‬ويكون السعاف في حال المرض‬ ‫وغيره ‪ ،‬فهو أعمّ من التّداوي ‪ ،‬لنّه ل يكون إلّ في حال المرض ‪.‬‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬التّداوي مشروع من حيث الجملة ‪ ،‬لما روى أبو الدّرداء رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول‬

‫ن اللّه أنزل الدّا َء والدّواءَ ‪ ،‬وجعل لكلّ داءٍ دواءً ‪ ،‬فتداووا ‪ ،‬ول‬ ‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬

‫تتداووا بالحرام » ‪ ،‬ولحديث أسامة بن شريك رضي ال عنه قال ‪ « :‬قالت العراب يا رسول‬ ‫اللّه أل نتداوى ؟ قال ‪ :‬نعم عباد اللّه تداووا ‪ ،‬فإنّ اللّه لم يضع داءً إلّ وضع له شفاءً إلّ داءً‬ ‫واحدا ‪ .‬قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه وما هو ؟ قال ‪ :‬الهرم » ‪.‬‬

‫وعن جابر رضي ال عنه قال ‪ « :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن الرّقى ‪ ،‬فجاء آل‬

‫عمرو بن حزم فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه إنّه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب ‪ :‬فإنّك نهيت‬

‫عن الرّقى فعرضوها عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أرى بها بأسا ‪ ،‬من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلْيفعل »‬

‫‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك » ولما ثبت من فعل النّبيّ‬

‫ن « عروة كان يقول لعائشة‬ ‫صلى ال عليه وسلم أنّه تداوى ‪ ،‬فقد روى المام أحمد في مسنده أ ّ‬ ‫‪ :‬يا أمّتاه ‪ ،‬ل أعجب من فقهك ‪ ،‬أقول ‪ :‬زوجة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وابنة أبي‬

‫بكر ‪ ،‬ول أعجب من علمك بالشّعر وأيّام النّاس ‪ ،‬أقول ‪ :‬ابنة أبي بكر ‪ ،‬وكان أعلم النّاس أو‬ ‫طبّ ‪ ،‬كيف هو ؟ ومن أين هو ؟ قال ‪ :‬فضربت‬ ‫من أعلم النّاس ‪ ،‬ولكن أعجب من علمك بال ّ‬ ‫على منكبيه ‪ ،‬وقالت ‪ :‬أيْ عريّة ؟ إنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان يسقم عند آخر‬

‫ل وجه ‪ ،‬فكانت تنعت له النعات ‪ ،‬وكنت أعالجها‬ ‫عمره ‪ ،‬وكانت تقدم عليه وفود العرب من ك ّ‬ ‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كثرت أسقامه ‪،‬‬ ‫له ‪ ،‬فمن َثمّ عَِل ْمتُ » ‪ .‬وفي رواية ‪ « :‬أ ّ‬

‫فكان يقدم عليه أطبّاء العرب والعجم ‪ ،‬فيصفون له فنعالجه » ‪ .‬وقال الرّبيع ‪ :‬سمعت الشّافعيّ‬

‫يقول ‪ ":‬العلم علمان ‪ :‬علم الديان وعلم البدان "‪.‬‬

‫‪ -6‬و قد ذ هب جمهور العلماء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬إلى أ نّ التّداوي مباح ‪ ،‬غير أ نّ عبارة‬ ‫المالكيّة ‪ :‬ل بأس بالتّداوي ‪.‬‬

‫ي من الحنابلة إلى استحبابه ‪ ،‬لقول النّبيّ‬ ‫وذهب الشّافعيّة ‪ ،‬والقاضي وابن عقيل وابن الجوز ّ‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ اللّه أنزل الدّاء والدّواء ‪ ،‬وجعل لكلّ داء دوا ًء فتداووا ‪ ،‬ول‬

‫تتداووا بالحرام » ‪ .‬وغير ذلك من الحاديث الواردة ‪ ،‬والّتي فيها المر بالتّداوي ‪ .‬قالوا ‪:‬‬

‫واحتجام النّبيّ صلى ال عليه وسلم وتداويه دليل على مشروعيّة التّداوي ‪ .‬ومحلّ الستحباب‬

‫عند الشّافعيّة عند عدم القطع بإفادته ‪ .‬أمّا لو قطع بإفادته كعصب محلّ الفصد فإنّه واجب ‪.‬‬

‫ومذهب جمهور الحنابلة ‪ :‬أنّ تركه أفضل ‪ ،‬ونصّ عليه أحمد ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لنّه أقرب إلى التّوكّل‬

‫‪ .‬قال ابن القيّم ‪ :‬في الحاديث الصّحيحة المر بالتّداوي ‪ ،‬وأنّه ل ينافي التّوكّل ‪ ،‬كما ل ينافيه‬

‫دفع الجوع والعطش والحرّ والبرد بأضدادها ‪ ،‬بل ل تت ّم حقيقة التّوحيد إلّ بمباشرة السباب‬

‫الّتي نصبها اللّه مقتضيات لمسبّباتها قدرا وشرعا ‪ ،‬وأنّ تعطيلها يقدح في نفس التّوكّل ‪ ،‬كما‬

‫يقدح في المر والحكمة ‪ ،‬ويضعفه من حيث يظنّ معطّلها أنّ تركها أقوى في التّوكّل ‪ ،‬فإنّ‬

‫تركها عجز ينافي التّوكّل الّذي حقيقته اعتماد القلب على اللّه في حصول ما ينفع العبد في دينه‬ ‫ودنياه ‪ ،‬ودفع ما يضرّه في دينه ودنياه ‪ ،‬ول ب ّد مع هذا العتماد من مباشرة السباب ‪ ،‬وإلّ‬

‫كان معطّلً للحكمة والشّرع ‪ ،‬فل يجعل العبد عجزه توكّلً ‪ ،‬ول توكّله عجزا ‪.‬‬

‫أنواع التّداوي ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬التّداوي قد يكون بالفعل أو بالتّرك ‪ ،‬فالتّداوي بالفعل ‪ :‬يكون بتناول الغذية الملئمة لحال‬

‫ي والحجامة وغيرها من العمليّات‬ ‫المريض ‪ ،‬وتعاطي الدوية والعقاقير ‪ ،‬ويكون بالفصد والك ّ‬

‫حجَم ‪،‬‬ ‫ش ْرطَةِ ِم ْ‬ ‫الجراحيّة ‪ .‬فعن ابن عبّاس رضي ال عنهما مرفوعا « الشّفاء في ثلثة ‪ :‬في َ‬

‫ي » وفي رواية « وما أحبّ أن أكتوي » ‪.‬‬ ‫شرْبةِ عسل ‪ ،‬أو َكيّ ٍة بنار ‪ ،‬وأنهى ُأمّتي عن الك ّ‬ ‫أو َ‬

‫وعن ابن عبّاس مرفوعا « خير ما تداويتم به السّعوط ‪ ،‬واللّدود ‪ ،‬والحجامة ‪ ،‬والمشي » وإنّما‬

‫ي لما فيه من اللم الشّديد والخطر العظيم ‪ ،‬ولهذا كانت‬ ‫كره الرّسول صلى ال عليه وسلم الك ّ‬

‫العرب تقول في أمثالها " آخر الدّواء الكيّ " وقد « كوى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم سعد‬

‫بن معاذ وغيره » ‪ ،‬واكتوى غير واحد من الصّحابة ‪ ،‬فدلّ على أنّ المراد بالنّهي ليس المنع ‪،‬‬ ‫وإنّما المراد منه التّنفير عن الكيّ إذا قام غيره مقامه ‪ .‬قال ابن حجر في الفتح ‪ :‬ولم يرد النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم الحصر في الثّلثة ‪ ،‬فإنّ الشّفاء قد يكون في غيرها ‪ ،‬وإنّما نبّه بها على‬ ‫أصول العلج ‪ .‬وأمّا التّداوي بالتّرك ‪ :‬فيكون بالحمية ‪ ،‬وذلك بالمتناع عن كلّ ما يزيد‬

‫المرض أو يجلبه إليه ‪ ،‬سواء كان بالمتناع عن أطعمة وأشربة معيّنة ‪ ،‬أو المتناع عن الدّواء‬

‫نفسه إذا كان يزيد من حدّة المرض ‪ « .‬لقوله صلى ال عليه وسلم لعليّ رضي ال عنه حين‬ ‫أراد أن يأكل من الدّوالي إنّك ناقه » ‪.‬‬

‫التّداوي بالنّجس والمحرّم ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّداوي بالمحرّم والنّجس من حيث الجملة ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى‬

‫ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪«:‬‬ ‫ن اللّه أنزل الدّاء والدّواء ‪ ،‬وجعل لكلّ داء دواءً ‪ ،‬فتداووا ‪ ،‬ول تتداووا بالحرام» وعن عمر‬ ‫إّ‬

‫رضي ال عنه أنّه كتب إلى خالد بن الوليد " إنّه بلغني أنّك تدلّك بالخمر ‪ ،‬وإنّ اللّه قد حرّم‬

‫ظاهر الخمر وباطنها ‪ ،‬وقد حرّم مسّ الخمر كما حرّم شربها ‪ ،‬فل تمسّوها أجسادكم ‪ ،‬فإنّها‬

‫نجس " ‪.‬‬

‫وقد عمّم المالكيّة هذا الحكم في كلّ نجس ومحرّم ‪ ،‬سواء أكان خمرا ‪ ،‬أم ميتةً ‪ ،‬أم أيّ شيء‬

‫حرّمه اللّه تعالى ‪ ،‬وسواء كان التّداوي به عن طريق الشّرب أو طلء الجسد به ‪ ،‬وسواء كان‬

‫صرفا أو مخلوطا مع دواء جائز ‪ ،‬واستثنوا من ذلك حالةً واحدةً أجازوا التّداوي بهما ‪ ،‬وهي‬

‫أن يكون التّداوي بالطّلء ‪ ،‬ويخاف بتركه الموت ‪ ،‬سواء كان الطّلء نجسا أو محرّما ‪ ،‬صرفا‬

‫أو مختلطا بدواء جائز ‪.‬‬

‫ل أبوال‬ ‫وأضاف الحنابلة إلى المحرّم والنّجس ك ّل مستخبث ‪ ،‬كبول مأكول اللّحم أو غيره ‪ ،‬إ ّ‬

‫البل فيجوز التّداوي بها ‪ ،‬وذكر غير واحد من الحنابلة أنّ الدّواء المسموم إن غلبت منه‬

‫السّلمة ‪ ،‬ورجي نفعه ‪ ،‬أبيح شربه لدفع ما هو أعظم منه ‪ ،‬كغيره من الدوية ‪ ،‬كما أنّه يجوز‬ ‫عندهم التّداوي بالمحرّم والنّجس ‪ ،‬بغير أكل وشرب ‪.‬‬

‫وذهب الحنابلة أيضا إلى حرمة التّداوي بصوت ملهاة ‪ ،‬كسماع الغناء المحرّم ‪ ،‬لعموم قوله‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ول تتداووا بالحرام » ‪.‬‬

‫وشرط الحنفيّة لجواز التّداوي بالنّجس والمحرّم أن يعلم أنّ فيه شفاءً ‪ ،‬ول يجد دواءً غيره ‪،‬‬

‫قالوا ‪ :‬وما قيل إنّ الستشفاء بالحرام حرام غير مجرى على إطلقه ‪ ،‬وإنّ الستشفاء بالحرام‬ ‫ن فيه شفاءً ‪ ،‬أمّا إذا علم ‪ ،‬وليس له دواء غيره ‪ ،‬فيجوز ‪ .‬ومعنى‬ ‫إنّما ل يجوز إذا لم يعلم أ ّ‬

‫قول ابن مسعود رضي ال عنه " لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم يحتمل أن يكون قاله في داء‬

‫عرف له دواء غير المحرّم ‪ ،‬لنّه حينئذ يستغني بالحلل عن الحرام ‪ ،‬ويجوز أن يقال تنكشف‬ ‫الحرمة عند الحاجة ‪ ،‬فل يكون الشّفاء بالحرام ‪ ،‬وإنّما يكون بالحلل ‪.‬‬

‫وقصر الشّافعيّة الحكم على النّجس والمحرّم الصّرف ‪ ،‬فل يجوز التّداوي بهما ‪ ،‬أمّا إذا كانا‬

‫طبّ ‪ ،‬حتّى ولو‬ ‫مستهلكين مع دواء آخر ‪ ،‬فيجوز التّداوي بهما بشرطين ‪ :‬أن يكون عارفا بال ّ‬

‫كان فاسقا في نفسه ‪ ،‬أو إخبار طبيب مسلم عدل ‪،‬وأن يتعيّن هذا الدّواء فل يغني عنه طاهر‪.‬‬

‫وإذا كان التّداوي بالنّجس والمحرّم لتعجيل الشّفاء به ‪ ،‬فقد ذهب الشّافعيّة إلى جوازه بالشّروط‬

‫المذكورة عندهم ‪ ،‬وللحنفيّة فيه قولن ‪.‬‬

‫التّداوي بلبس الحرير والذّهب ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز لبس الحرير للرّجال لحكّة ‪ ،‬لما روى أنس رضي ال عنه‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬رخّص لعبد الرّحمن بن عوف والزّبير في القميص الحرير‬ ‫«أّ‬ ‫ن عبد الرّحمن بن عوف والزّبير‬ ‫في السّفر من حكّة كانت بهما » ‪ .‬وروى أنس أيضا ‪ « :‬أ ّ‬

‫شكيا إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم القمل فأرخص لهما في الحرير ‪ ،‬فرأيته عليهما في غزاة‬ ‫» وجاز للمريض قياسا على الحكّة والقمل ‪ .‬والمشهور عند المالكيّة الحرمة مطلقا ‪.‬‬

‫ص الحنابلة على جواز لبسه في الثّلث المذكورة ‪ ،‬ولو لم يؤثّر لبسه في زوالها ‪ ،‬ولكن ل‬ ‫ون ّ‬ ‫بدّ أن يكون نافعا في لبسه ‪ .‬وأجاز الحنفيّة عصب الجراحة بالحرير مع الكراهة ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬كما اتّفق الفقهاء على جواز اتّخاذ النف من الذّهب ‪ ،‬وزاد المالكيّة والحنابلة ومحمّد بن‬

‫الحسن من الحنفيّة ‪ :‬السّنّ ‪ ،‬وزاد الشّافعيّة ‪ :‬النملة ‪.‬‬

‫كما نصّ المالكيّة والحنابلة ‪ :‬على جواز ربط السّنّ أو السنان بالذّهب ‪.‬‬

‫والصل في ذلك أنّ « عرفجة بن أسعد رضي ال عنه قطع أنفه يوم الكلب ‪ ،‬فاتّخذ أنفا من‬

‫ورق ‪ ،‬فأنتن عليه ‪ ،‬فأمره النّبيّ صلى ال عليه وسلم فاتّخذ أنفا من ذهب » ‪.‬‬

‫ولما روى الثرم عن موسى بن طلحة ‪ ،‬وأبي جمرة الضّبعيّ ‪ ،‬وأبي رافع بن ثابت البنانيّ‬

‫وإسماعيل بن زيد بن ثابت ‪ ،‬والمغيرة بن عبد اللّه ‪ ،‬أنّهم شدّوا أسنانهم بالذّهب ‪.‬‬

‫والسّنّ مقيس على النف ‪ ،‬وزاد الشّافعيّة في القياس النملة دون الصبع واليد ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬

‫والفرق بين النملة والصبع أو اليد أنّها تعمل بخلفهما ‪ ،‬وعندهم وجه أنّه يجوز ‪ ،‬وإنّما‬

‫ن المحرّم ل يباح إلّ لضرورة ‪.‬‬ ‫قصر الحنفيّة الجواز على النف فقط لضرورة نتن الفضّة ‪ ،‬ل ّ‬

‫قالوا ‪ :‬وقد اندفعت في السّنّ بالفضّة ‪ ،‬فل حاجة إلى العلى ‪ ،‬وهو الذّهب ‪.‬‬

‫تداوي المُحْرِم ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬الصل أنّ المحرم ممنوع من الطّيب ‪ « ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في المحرم‬

‫الّذي وقصته راحلته فمات ‪ :‬ل تمسّوه طيبا » وفي رواية « ل تحنّطوه » فلمّا منع الميّت من‬

‫ي أولى ‪ ،‬ومتى تطيّب المحرم فعليه الفدية ‪ ،‬لنّه استعمل ما حظر عليه‬ ‫الطّيب لحرامه فالح ّ‬ ‫بالحرام ‪ ،‬فوجبت عليه الفدية كاللّباس ‪.‬‬

‫ولم يستثن الفقهاء من هذا الصل ما لو تداوى المحرم بالطّيب ‪ ،‬أو بما له رائحة طيّبة ‪،‬‬

‫ن الحنفيّة خصّوا الحكم بالطّيب بنفسه كالمسك والعنبر والكافور‬ ‫وأوجبوا عليه الفدية ‪ ،‬غير أ ّ‬

‫ونحوها ‪ ،‬وأمّا الزّيت والخلّ ممّا فيهما رائحة طيّبة بسبب ما يلقى فيهما من النوار كالورد‬ ‫والبنفسج فل يجب عليه شيء إن تداوى بها ‪.‬‬

‫قال ابن الهمام ‪ :‬وإن داوى قرحةً بدواء فيه طيب ‪ ،‬ث ّم خرجت قرحة أخرى فداواها مع الولى‬ ‫‪ ،‬فليس عليه إلّ كفّارة واحدة ما لم تبرأ الولى ‪ ،‬ول فرق بين قصده وعدمه ‪.‬‬

‫وعن أبي يوسف رحمه ال أنّه إذا خضّب ( أي المحرم ) رأسه بالوسمة لجل المعالجة من‬

‫الصّداع ‪ ،‬فعليه الجزاء باعتبار أنّه يغلّف رأسه ‪ ،‬قال ابن الهمام ‪ :‬هذا صحيح أي فينبغي أن ل‬

‫يكون فيه خلف ‪ ،‬لنّ التّغطية موجبة بالتّفاق ‪ ،‬غير أنّها للعلج ‪ ،‬فلهذا ذكر الجزاء ولم يذكر‬ ‫الدّم ‪ .‬وعن أبي حنيفة ‪ :‬فيه صدقة ‪ ،‬لنّه يليّن الشّعر ويقتل الهوامّ ‪ ،‬فإن استعمل زيتا مطيّبا‬

‫كالبنفسج والزّنبق وما أشبههما كدهن البان والورد ‪ ،‬فيجب باستعماله الدّم بالتّفاق ‪ ،‬لنّه‬

‫طيب ‪ ،‬وهذا إذا استعمله على وجه التّطيّب ‪ ،‬ولو داوى به جرحه أو شقوق رجليه فل كفّارة‬ ‫عليه ‪ ،‬لنّه ليس بطيب في نفسه ‪ ،‬إنّما هو أصل الطّيب ‪ ،‬أو طيب من وجه ‪ ،‬فيشترط‬

‫استعماله على وجه التّطيّب ‪ ،‬بخلف ما إذا تداوى بالمسك وما أشبهه ‪ ،‬لنّه طيب بنفسه ‪،‬‬ ‫فيجب الدّم باستعماله وإن كان على وجه التّداوي ‪.‬‬

‫ف والرّجل يحرم دهن كلّ واحد منها كلً أو‬ ‫وفي حاشية الدّسوقيّ ‪ :‬أنّ الجسد وباطن الك ّ‬

‫بعضا ‪ ،‬إن كان لغير علّة ‪ ،‬وإلّ فل حرمة ‪ .‬وأمّا الفدية فإن كان الدّهن مطيّبا افتدى مطلقا‬

‫كان الدهان لعلّة أو ل ‪ .‬وإن كان غير مطيّب ‪ ،‬فإن كان لغير علّة افتدى أيضا ‪ ،‬وإن كان‬

‫لعلّة فقولن ‪ .‬وفي الكحل إذا كان فيه طيب حرم استعماله على المحرم رجلً كان أو امرأةً إذا‬ ‫كان استعماله لغير ضرورة كالزّينة ‪ ،‬ول حرمة إذا استعمله لضرورة حرّ ونحوه ‪ ،‬والفدية‬ ‫لزمة لمستعمله مطلقا استعمله لضرورة أو لغيرها ‪.‬‬

‫وإن كان الكحل ل طيب فيه فل فدية مع الضّرورة ‪ ،‬وافتدى في غيرها ‪.‬‬

‫وفي القناع للشّربينيّ الشّافعيّ ‪ :‬أنّ استعمال الطّيب حرام على المحرم سواء أكان ذكرا أم‬

‫غيره ‪ ،‬ولو أخشم بما يقصد منه رائحته غالبا ولو مع غيره كالمسك والعود والكافور والورس‬

‫والزّعفران ‪ ،‬وإن كان يطلب للصّبغ والتّداوي أيضا ‪ ،‬سواء أكان ذلك في ملبوسه كثوبه أم في‬

‫بدنه ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ول تلبسوا من الثّياب ما مسّه َورْس أو زعفران » سواء‬ ‫كان ذلك بأكل أم استعاط أم احتقان ‪ ،‬فيجب مع التّحريم في ذلك الفدية ‪.‬‬

‫ولو استهلك الطّيب في المخالط له بأن لم يبق ريح ول طعم ول لون ‪ ،‬كأن استعمل في دواء ‪،‬‬

‫جاز استعماله وأكله ول فدية ‪ .‬وما يقصد به الكل أو التّداوي ل يحرم ول فدية فيه وإن كان‬ ‫طيّبة كالمصطكى ‪ ،‬لنّ ما يقصد منه الكل‬ ‫له ريح طيّبة ‪ ،‬كالّتفّاح والسّنبل وسائر البازير ال ّ‬

‫أو التّداوي ل فدية فيه ‪ .‬وفي المغني لبن قدامة حرمة التّداوي بما له ريح طيّبة للمحرم ‪ .‬أمّا‬

‫ما ل طيب فيه كالزّيت والشّيرج والسّمن والشّحم ودهن البان فنقل الثرم عن أحمد أنّه سئل‬

‫عن المحرم يدهن بالزّيت والشّيرج فقال ‪ :‬نعم يدهن به إذا احتاج إليه ‪ ،‬ويتداوى المحرم بما‬

‫يأكل ‪ .‬وقد روي عن ابن عمر رضي ال عنهما أنّه صدع وهو محرم فقالوا ‪ :‬أل ندهنك‬

‫بالسّمن ؟ فقال ‪ :‬ل ‪ .‬قالوا ‪ :‬أليس تأكله ؟ قال ‪ :‬ليس أكله كالدهان به ‪ .‬وعن مجاهد قال ‪ :‬إن‬

‫تداوى به فعليه الكفّارة ‪.‬‬

‫أثر التّداوي في الضّمان ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنابلة إلى أنّ المجنيّ عليه إذا لم يداو جرحه ومات كان على الجاني الضّمان ‪،‬‬

‫ن التّداوي ليس بواجب ول مستحبّ ‪ ،‬فتركه ليس بقاتل ‪.‬‬ ‫لّ‬

‫وفرّق الشّافعيّة بين علج الجرح المهلك وغيره ‪ ،‬فإن ترك المجنيّ عليه علج الجرح المهلك‬ ‫ومات ‪ ،‬فعلى الجاني الضّمان ‪ ،‬لنّ البرء ل يوثق به وإن عالج ‪ ،‬وأمّا إذا كان الجرح غير‬

‫مهلك فل ضمان على الجاني ‪.‬‬

‫التّداوي بالرّقى والتّمائم ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬أجمع الفقهاء على جواز التّداوي بالرّقى عند اجتماع ثلثة شروط ‪ :‬أن يكون بكلم اللّه‬

‫تعالى أو بأسمائه وصفاته ‪ ،‬وباللّسان العربيّ أو بما يعرف معناه من غيره ‪ ،‬وأن يعتقد أنّ‬

‫الرّقية ل تؤثّر بذاتها بل بإذن اللّه تعالى ‪ .‬فعن عوف بن مالك رضي ال عنه قال ‪ « :‬كنّا‬

‫نرقي في الجاهليّة فقلنا ‪ :‬يا رسول اللّه كيف ترى في ذلك ؟ فقال ‪ :‬اعرضوا عليّ رقاكم ‪ ،‬ل‬ ‫بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك » وما ل يعقل معناه ل يؤمن أن يؤدّي إلى الشّرك فيمنع‬

‫احتياطا ‪ .‬وقال قوم ‪ :‬ل تجوز الرّقية إلّ من العين واللّدغة لحديث عمران بن حصين رضي‬ ‫ال عنه « ل رقية إلّ من عين أو حمّة » وأجيب بأنّ معنى الحصر فيه أنّهما أصل كلّ ما‬

‫يحتاج إلى الرّقية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬المراد بالحصر معنى الفضل ‪ ،‬أو ل رقية أنفع ‪ ،‬كما قيل ل سيف‬ ‫إلّ ذو الفقار ‪ .‬وقال قوم ‪ :‬المنهيّ عنه من الرّقى ما يكون قبل وقوع البلء ‪ ،‬والمأذون فيه ما‬ ‫كان بعد وقوعه ‪ ،‬ذكره ابن عبد الب ّر والبيهقيّ وغيرهما ‪ ،‬لحديث ابن مسعود رضي ال عنه‬

‫مرفوعا « إنّ الرّقى والتّمائم والتّولة شرك »‬

‫وأجيب بأنّه إنّما كان ذلك من الشّرك لنّهم أرادوا دفع المضارّ وجلب المنافع من عند غير اللّه‬ ‫‪ ،‬ول يدخل في ذلك ما كان بأسماء اللّه وكلمه ‪ ،‬وقد ثبت في الحاديث استعمال ذلك قبل‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه‬ ‫وقوعه كحديث عائشة رضي ال عنها « أ ّ‬

‫نفث في كفّيه ب قل هو اللّه أحد وبالمعوّذتين ثمّ يمسح بهما وجهه » ‪ .‬وحديث ابن عبّاس‬ ‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين بكلمات اللّه‬ ‫رضي ال عنهما « أ ّ‬

‫التّامّة ‪ ،‬من كلّ شيطان وهامّة » ‪ .‬قال الرّبيع ‪ :‬سألت الشّافعيّ عن الرّقية فقال ‪ :‬ل بأس أن‬

‫يرقي بكتاب اللّه وما يعرف من ذكر اللّه ‪ .‬قلت ‪ :‬أيرقي أهل الكتاب المسلمين ؟ قال ‪ :‬نعم إذا‬ ‫رقوا بما يعرف من كتاب اللّه وبذكر اللّه ‪ ،‬وقال ابن التّين ‪ :‬الرّقية بالمعوّذات وغيرها من‬

‫أسماء اللّه هو الطّبّ الرّوحانيّ ‪ ،‬إذا كان على لسان البرار من الخلق حصل الشّفاء بإذن اللّه‬ ‫تعالى ‪ ،‬فلمّا عزّ هذا النّوع فزع النّاس إلى الطّبّ الجسمانيّ ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تدبير *‬

‫‪ -‬دبّر الرّجل عبده تدبيرا ‪ :‬إذا أعتقه بعد موته ‪ ،‬والتّدبير في المر ‪ :‬النّظر إلى ما تئول إليه‬

‫عاقبة المر ‪ ،‬والتّدبير أيضا ‪ :‬عتق العبد عن دبر وهو ما بعد الموت ‪.‬‬ ‫ول يخرج المعنى الشّرعيّ عن هذا المعنى الخير ‪.‬‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬التّدبير نوع من العتق ‪ ،‬والعتق مطلوب شرعا ‪ ،‬وهو من أعظم القرب ‪ ،‬ويكون كفّارةً‬

‫للجنايات ‪ ،‬إمّا وجوبا أي في قتل الخطأ ‪ ،‬والحنث في اليم ين ونحو ذلك ‪ ،‬أو ندبا أي في قتل‬

‫ن العتق من أكبر الحسنات ‪ ،‬وقد قال اللّه تعالى ‪:‬‬ ‫العمد عند المالكيّة ‪ ،‬وسائر الذّنوب ‪ ،‬ل ّ‬

‫ت } ‪ .‬ويعتق المدبّر بعد الموت من ثلث المال في قول أكثر أهل‬ ‫سيّئا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ت يُ ْذ ِهبْ َ‬ ‫ن الحسنا ِ‬ ‫{إّ‬

‫العلم ‪ ،‬ويعتق من جميع مال الميّت في قول بعض العلماء كابن مسعود وغيره ‪.‬‬

‫حكمة مشروعيّته ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬يؤدّي التّدبير إلى ح ّريّة المدبّر بعد موت من دبّره ‪ ،‬والشّارع يحرص على تحرير الرّقاب‬

‫‪ ،‬والتّدبير طريقة ميسّرة لذلك ‪ ،‬لنّه تدوم معه منفعة الرّقيق مدّة حياته ‪ ،‬ثمّ يكون قربةً له بعد‬

‫وفاته ‪.‬‬

‫صيغته ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬يثبت التّدبير بكلّ لفظ يفيد إثبات العتق للمملوك بعد موت سيّده ‪ ،‬كأن يقول ‪ ،‬معلّقا ‪ :‬إذا‬

‫متّ فأنت حرّ ‪ ،‬أو يقول مضيفا لمستقبل ‪ :‬أنت ح ّر بعد موتي ‪.‬‬

‫ول تفيد الصّيغة حكمها إلّ إذا صدرت ممّن له أهليّة التّبرّع على سبيل الوصيّة ‪.‬‬

‫آثاره ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬الفقهاء مختلفون في الثار الّتي تترتّب على التّدبير ‪ .‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو ظاهر‬

‫كلم الخرقيّ ‪ ،‬وأومأ إليه أحمد إلى ‪ :‬أنّه ل يباع ‪ ،‬ول يوهب ‪ ،‬ول يرهن ‪ ،‬ول يخرج من‬

‫ق بكسبه وأرشه ‪.‬‬ ‫الملك إلّ بالعتاق والكتابة ‪ ،‬ويستخدم ويستأجر ‪ ،‬وموله أح ّ‬

‫وذهب الشّافعيّة ‪ ،‬وهو إحدى الرّوايات عن المام أحمد ‪ :‬أنّه يباع مطلقا في الدّين وغيره ‪،‬‬

‫ن رجلً أعتق مملوكا له عن دبر ‪ ،‬فاحتاج ‪،‬‬ ‫سيّد إلى بيعه وعدمها ‪ .‬لحديث ‪ « :‬أ ّ‬ ‫وعند حاجة ال ّ‬

‫فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬من يشتريه منّي ‪ .‬فباعه من نعيم بن عبد اللّه بثمانمائة‬

‫درهم ‪ ،‬فدفعها إليه وقال ‪ :‬أنت أحوج منه » متّفق عليه ‪.‬‬

‫ن عائشة‬ ‫وفسّر الشّافعيّة الحاجة هنا بالدّين ‪ ،‬ولكنّه ليس قيدا احترازيّا ‪ ،‬بل هو اتّفاقيّ لما ورد أ ّ‬

‫رضي ال عنها باعت مدبّرةً لها ولم ينكر عليها أحد من الصّحابة ‪.‬‬

‫من مبطلته ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫سيّد بالدّين ‪.‬‬ ‫‪ -‬من مبطلت التّدبير ‪ :‬قتل المدبّر سيّده ‪ ،‬واستغراق تركة ال ّ‬

‫وهناك تفصيلت كثيرة وأحكام في المذاهب مختلفة ل حاجة ليرادها لعدم وجود ال ّرقّ الن ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تبغ ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تعليم ‪.‬‬

‫تدخين *‬ ‫تدريس *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تدليس *‬

‫‪ -‬التّدل يس ‪ :‬م صدر دلّس ‪ ،‬يقال ‪ :‬دلّس في الب يع و في كلّ ش يء ‪ :‬إذا لم يبيّن عي به ‪.‬‬

‫والتّدليس في البيع ‪ :‬كتمان عيب ال سّلعة عن المشتري ‪ .‬قال الزهر يّ ‪ :‬ومن هذا أخذ التّدليس‬

‫في السناد ‪ .‬وهو في اصطلح الفقهاء ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪ ،‬وهو كتمان العيب ‪ .‬قال‬

‫صاحب المغرب ‪ :‬كتمان عيب السّلعة عن المشتري ‪.‬‬

‫وعند المحدّثين هو قسمان‪ :‬أحدهما ‪ :‬تدليس السناد ‪ .‬وهو ‪ :‬أن يروي عمّن لقيه ما لم يسمعه‬

‫منه ‪ ،‬موهما أنّه سمعه منه ‪،‬أو عمّن عاصره ولم يلقه موهما أنّه لقيه أو سمعه منه‪.‬‬

‫والخر ‪ :‬تدليس الشّيوخ ‪ .‬وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسمّيه أو يكنّيه ‪ ،‬ويصفه‬

‫بما لم يعرف به كيل يعرف ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الخلبة ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الخلبة هي ‪ :‬المخادعة ‪ .‬وقيل ‪ :‬هي الخديعة باللّسان ‪.‬‬

‫والخلبة أعمّ من التّدليس ‪ ،‬لنّها كما تكون بستر العيب ‪ ،‬قد تكون بالكذب وغيره ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّلبيس ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّلبيس من اللّبس ‪ ،‬وهو ‪ :‬اختلط المر ‪ .‬يقال ‪ :‬لبّس عليه المر يلبّسه لبسا فالتبس ‪ .‬إذا‬

‫خلطه عليه حتّى ل يعرف جهته ‪ ،‬والتّلبيس كالتّدليس والتّخليط ‪ ،‬شدّد للمبالغة ‪ .‬والتّلبيس بهذا‬

‫المعنى أعمّ من التّدليس ‪ ،‬لنّ التّدليس يكون بإخفاء العيب ‪ ،‬والتّلبيس يكون بإخفاء العيب ‪ ،‬كما‬

‫يكون بإخفاء صفات أو وقائع أو غيرها ليست صحيحةً ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّغرير ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬وهو من الغرر ‪ ،‬يقال ‪ :‬غرّر بنفسه وماله تغريرا وتغ ّرةً ‪ :‬عرّضهما للهلكة من غير أن‬

‫يعرف ‪ .‬ويقال ‪ :‬غرّه يغرّه غرّا وغرورا وغ ّرةً ‪ :‬خدعه وأطمعه بالباطل ‪.‬‬

‫والتّغرير في الصطلح ‪ :‬إيقاع الشّخص في الغرر ‪ ،‬والغرر ‪ :‬ما انطوت عنك عاقبته ‪.‬‬

‫وعلى هذا يكون التّغرير أعمّ من التّدليس ‪ ،‬لنّ الغرر قد يكون بإخفاء عيب ‪ ،‬وقد يكون بغير‬ ‫ذلك ممّا تجهل عاقبته ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬الغِش ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬وهو اسم من الغشّ ‪ ،‬مصدر غشّه ‪ :‬إذا لم يمحّضه النّصح ‪ ،‬وزيّن له غير المصلحة ‪ ،‬أو‬

‫أظهر له خلف ما أضمره ‪ .‬وهو أعمّ من التّدليس ‪ ،‬إذ التّدليس خاصّ بكتمان العيب ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫ص في أحاديث كثيرة ‪ .‬فقد قال رسول اللّه صلى‬ ‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ التّدليس حرام بالّن ّ‬

‫ال عليه وسلم ‪ « :‬الب ّيعَان بالخيار ما لم يتفرّقا ‪ ،‬فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما ‪ ،‬وإن كَذَبا و َكتَما‬

‫عيْبا لم يبيّنه لم يزل في‬ ‫مُحقت بركةُ بيعهما » وقال عليه أفضل الصّلة والسّلم ‪ « :‬من باع َ‬ ‫مقتِ اللّه ‪ ،‬ولم تزل الملئكة تلع ْن ُه » ‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من غشّنا فليس منّا »‬ ‫ولهذا يؤدّب الحاكم المدلّس ‪ ،‬لحقّ اللّه ولحقّ العباد ‪.‬‬

‫التّدليس في المعاملت ‪:‬‬

‫‪ - 7‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ كلّ تدليس يختلف الثّمن لجله في المعاملت يثبت به الخيار‬ ‫‪ :‬كتصرية الشّياه ونحوها قبل بيعها ليظنّ المشتري كثرة اللّبن ‪ ،‬وصبغ المبيع بلون مرغوب‬

‫فيه ‪ ،‬على اختلف بين الفقهاء في بعض الصّور ‪.‬‬

‫واستدلّوا لثبوت الخيار بالتّصرية بحديث ‪ « :‬من اشترى شاةً مصرّا ًة فهو بخير النّظرين ‪ :‬إن‬

‫شاء أمسكها ‪ ،‬وإن شاء ردّها وصاعا من تمر » ‪.‬‬

‫ن المشتري به كمالً فل يوجد ‪ ،‬لنّ‬ ‫وقيس عليها غيرها ‪ ،‬وهو كلّ فعل من البائع بالمبيع يظ ّ‬

‫الخيار غير منوط بالتّصرية لذاتها ‪ ،‬بل لما فيها من التّلبيس واليهام ‪.‬‬

‫شرط الرّدّ بالتّدليس ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬ل يثبت الخيار بمجرّد التّدليس ‪ ،‬بل يشترط ألّ يعلم المدلّس عليه بالعيب قبل العقد ‪ ،‬فإن‬

‫ل يكون العيب ظاهرا ‪ ،‬أو ممّا يسهل معرفته ‪.‬‬ ‫علم فل خيار له لرضاه به ‪ ،‬كما يشترط أ ّ‬

‫ويثبت خيار التّدليس في كلّ معاوضة ‪ ،‬كما في البيع والجارة ‪ ،‬وبدل الصّلح عن إقرار ‪،‬‬

‫وبدل الصّلح عن دم العمد ‪.‬‬

‫التّدليس القوليّ ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬التّدليس القوليّ كالتّدليس الفعليّ في العقود ‪ ،‬كالكذب في السّعر في بيوع المانات ( وهي‬

‫المرابحة والتّولية والحطيطة ) فيثبت فيها خيار التّدليس ‪.‬‬

‫التّدليس في عقد النّكاح ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى أنّه إذا دلّس أحد الزّوجين‬

‫على الخر ‪ ،‬بأن كتم عيبا فيه ‪ ،‬يثبت به الخيار ‪ ،‬لم يعلمه المدلّس عليه وقت العقد ‪ ،‬ول قبله‬ ‫‪ .‬أو شرط أحدهما في صلب العقد وصفا من صفات الكمال كإسلم ‪ ،‬وبكارة ‪ ،‬وشباب ‪،‬‬

‫فتخلّف الشّرط ‪ :‬يثبت للمدلّس عليه والمغرور بخلف المشروط خيار فسخ النّكاح ‪ .‬وقال ‪ :‬أبو‬

‫حنيفة وأبو يوسف ‪ :‬ليس لواحد من الزّوجين خيار الفسخ لعيب ‪ ،‬فالنّكاح عندهم ل يقبل الفسخ‬ ‫ت الستيفاءِ أصلً بالموت ل يوجب الفسخ ‪ ،‬فاختلله بهذه العيوب أولى بألّ‬ ‫ن فو َ‬ ‫‪ .‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬

‫ن الستيفاء من ثمرات العقد ‪ ،‬والمستحقّ هو التّمكّن ‪ ،‬وهو حاصل ‪ .‬وقال‬ ‫يوجب الفسخ ‪ ،‬ول ّ‬

‫محمّد بن الحسن ‪ :‬ل خيار للزّوج بعيب في المرأة ‪ ،‬ولها هي الخيار بعيب في الزّوج من‬

‫العيوب الثّلثة ‪ :‬الجنون ‪ ،‬والجذام ‪ ،‬والبرص فللمرأة الخيار في طلب التّفريق أو البقاء معه ‪،‬‬ ‫لنّه تعذّر عليها الوصول إلى حقّها بمعنًى فيه ‪ ،‬فكان ذلك بمنزلة ما لو وجدته مجبوبا ‪ ،‬أو‬

‫عنّينا بخلف الرّجل ‪ ،‬لنّه يتمكّن من دفع الضّرر عن نفسه بالطّلق‪ .‬والكلم عن العيوب‬

‫المثبتة للخيار في النّكاح موطنه باب النّكاح ‪.‬‬

‫سقوط المهر بالفسخ ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين من يقول بالفسخ بالعيوب من الفقهاء في أنّ الفسخ قبل الدّخول ‪ ،‬أو الخلوة‬

‫الصّحيحة يسقط المهر ‪.‬‬

‫وقالوا ‪ :‬إن كان العيب بالزّوج فهي الفاسخة ‪ -‬أي طالبة الفسخ ‪ -‬فل شيء لها ‪ ،‬وإن كان‬

‫العيب بها فسبب الفسخ معنًى وجد فيها ‪ ،‬فكأنّها هي الفاسخة ‪ ،‬لنّها غارّة ومدلّسة ‪.‬‬

‫ن المهر يجب بالعقد ‪ ،‬ويستقرّ‬ ‫وإن كان الفسخ بعد الدّخول ‪ ،‬بأن لم يعلم إلّ بعده فلها المهر ‪ ،‬ل ّ‬

‫بالدّخول ‪ ،‬فل يسقط بحادث بعده ‪.‬‬

‫رجوع المغرور على من غرّه ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬إن فسخ الزّوج النّكاح بعيب في المرأة بعد الدّخول ‪ ،‬يرجع بالمهر على من غرّه من‬

‫زوجة أو وكيل أو وليّ ‪ ،‬وإلى هذا ذهب المالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وقاله الشّافعيّ في القديم‬

‫للتّدليس عليه بإخفاء العيب المقارن ‪ ،‬وقال الشّافعيّ في الجديد ‪ :‬إنّه ل يرجع بالمهر على من‬

‫غرّه ‪ ،‬لستيفائه منفعة البضع المتقوّم عليه بالعقد ‪ .‬أمّا العيب الحادث بعد العقد فل يرجع جزما‬ ‫‪ .‬أمّا هل خيار العيب على التّراخي ؟ وهل يحتاج إلى حكم حاكم ؟ وحكم ولد المغرور ‪،‬‬

‫والتّفصيل في ذلك فيرجع فيه إلى مصطلح ‪ ( :‬تغرير ) ( وفسخ ) ‪.‬‬

‫المغرور بخلف الشّرط ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬لو شرط أحد الزّوجين في صلب العقد صفةً من صفات الكمال ‪ ،‬ممّا ل يمنع عدمه‬

‫صحّة النّكاح كبكارة وشباب وإسلم ‪ ،‬أو نفي عيب ل يثبت به الخيار كألّ تكون عوراء أو‬ ‫خرساء ‪ ،‬أو شرط ما ليس من صفات الكمال ول النّقص كطول وبياض وسمرة ‪ ،‬فتخلّف‬

‫الشّرط ‪ ،‬صحّ النّكاح ‪ ،‬وثبت للمغرور خيار الفسخ ‪ .‬عند الجمهور على خلف وتفصيل يرجع‬ ‫فيه إلى مصطلح ‪ ( :‬تغرير ‪ ،‬وشرط ) ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ :‬ل يثبت الخيار بخلف الشّرط ‪.‬‬

‫وجاء في فتح القدير ‪ :‬فلو شرط وصفا مرغوبا فيه كالعذرة ( البكارة ) والجمال ‪ ،‬والرّشاقة ‪،‬‬

‫وصغر السّنّ ‪ :‬فظهرت ثيّبا عجوزا شوهاء ‪ ،‬ذات شقّ مائل ‪ ،‬ولعاب سائل ‪ ،‬وأنف هائل ‪،‬‬ ‫وعقل زائل ‪ ،‬فل خيار له عند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪.‬‬

‫تأديب المدلّس ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬يؤدّب المدلّس بالتّعزير بما يراه الحاكم زاجرا ومؤدّبا ‪.‬‬

‫جاء في مواهب الجليل ‪ :‬قال مالك ‪ :‬من باع شيئا وبه عيب غرّ به أو دلّسه يعاقب عليه ‪ .‬قال‬ ‫ابن رشد ‪ :‬ممّا ل خلف فيه أنّ الواجب على من غشّ أخاه المسلم ‪ ،‬أو غرّه ‪ ،‬أو دلّس بعيب‬ ‫‪ :‬أن يؤدّب على ذلك ‪ ،‬مع الحكم عليه بالرّدّ ‪ ،‬لنّهما حقّان مختلفان ‪ :‬أحدهما للّه ‪ ،‬ليتناهى‬

‫النّاس عن حرمات اللّه ‪ ،‬والخر للمدلّس عليه بالعيب فل يتداخلن ‪ ،‬وتعزير المدلّس محلّ‬

‫اتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬ككلّ معصية ل حدّ فيها ول كفّارة ‪.‬‬

‫تدمية *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّدمية لغةً ‪ :‬من دمّيته تدميةً ‪ :‬إذا حزبته حتّى خرج منه دم ‪ ،‬ومثله أدميته‪ .‬واصطلحا ‪:‬‬

‫قول المقتول قبل موته ‪ :‬دمي عند فلن ‪ ،‬أو قتلني فلن ‪ .‬وهو اصطلح المالكيّة وإن كان‬ ‫غيرهم قد تناول هذه المسألة في باب القسامة ولم يسمّها بالتّدمية ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬الدّامية ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪-‬الدّامية هي ‪ :‬جراحة تضعف الجلد حتّى يرشح منه شيء كالدّم من غير انشقاق الرّأس‪.‬‬

‫وهي من الجراحات العشر الّتي لها أسماء خاصّة ‪ ،‬فهي غير التّدمية الصطلحيّة عند المالكيّة‬ ‫‪ ،‬لكنّها والتّدمية لغةً من باب واحدة ‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬الشعار ‪ :‬هو إدماء الهدي من البل والبقر بطعن أو رمي أو وجء بحديدة ‪ ،‬ليعلم أنّه‬

‫هدي فل يتعرّض له ‪ .‬فالشعار تدمية لغةً ‪ ،‬وليس كما اصطلح عليه المالكيّة ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬اعتبر المالكيّة ( التّدمية ) من اللّوث الّذي تثبت به القسامة ‪ ،‬إن صدر من حرّ مسلم بالغ‬

‫عاقل ‪ ،‬إن شهد على قوله عدلن ‪ ،‬واستمرّ على إقراره ‪ ،‬وكان به جرح ‪.‬‬

‫وتسمّى حينئذ التّدمية الحمراء ‪ ،‬وهي إن كان بالمقتول جرح ‪.‬‬

‫وأثر الضّرب أو السّمّ منزّل منزلة الجرح ‪ ،‬والعمل بالتّدمية قول اللّيث ‪.‬‬

‫أمّا غيرهم فقد رأوا أنّ قول المقتول ‪ :‬دمي عند فلن ‪ ،‬دعوى من المقتول والنّاس ل يعطون‬

‫بدعواهم ‪ ،‬واليمان ل تثبت الدّعوى ‪ ،‬وإنّما تردّها من المنكر ‪.‬‬

‫ورأى المالكيّة أنّ الشّخص عند موته ل يتجاسر على الكذب في سفك الدّم ‪ ،‬كيف وهو الوقت‬ ‫الّذي يندم فيه النّادم ويقلع فيه الظّالم ‪.‬‬

‫ومدار الحكام على غلبة الظّنّ ‪ ،‬وأيّدوا ذلك بكون القسامة خمسين يمينا مغلّظةً احتياطا في‬

‫الدّماء ‪ ،‬ولنّ الغالب على القاتل إخفاء القتل على البيّنات ‪ ،‬فاقتضى الستحسان ذلك ‪.‬‬

‫أمّا التّدمية البيضاء ‪ ،‬فهي الّتي ليس معها جرح ‪ ،‬ول أثر ضرب ‪ ،‬فالمشهور عند المالكيّة عدم‬ ‫قبولها ‪ .‬فإذا قال الميّت في حال مرضه ‪ ،‬وليس به جرح ‪ ،‬ول أثر ضرب ‪ :‬قتلني فلن ‪ ،‬أو‬

‫دمي عند فلن ‪ ،‬فل يقبل قوله إلّ بالبيّنة على ذلك ‪.‬‬

‫وتفصيل القول في ذلك في الجنايات ‪ ،‬وفي القسامة ‪.‬‬

‫تديين *‬

‫انظر ‪ :‬ديانة ‪.‬‬

‫تذفيف *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّذفيف بالذّال وبالدّال في اللّغة ‪ :‬الجهاز على الجريح ‪ ،‬وهو قتله ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬هو‬

‫السراع بقتله ‪ ،‬يقال ‪ :‬ذففت على القتيل ‪ :‬إذا أسرعت في قتله ‪ ،‬ويقال ‪ :‬ذففت على الجريح‬ ‫إذا عجّلت قتله ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫يختلف حكم التّذفيف باختلف مواضعه ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬التّذفيف في الجهاد ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬يجوز التّذفيف على جرحى الكفّار في المعركة ‪ ،‬لنّ تركهم أحياءً ضرر على المسلمين‬

‫وتقوية للكفّار ‪ ،‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬جهاد ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الجهاز على جريح البغاة ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في حكم جرحى البغاة بعد انهزامهم أمام المسلمين وتولّيهم ‪ .‬فقد نصّ‬

‫الحنفيّة على أنّه إذا كانت لهم فئة فإنّه يجوز قتل مدبرهم والجهاز على جريحهم ‪ ،‬لئلّ‬

‫ينحازوا إلى هذه الفئة ‪ ،‬لحتمال أن يتجمّعوا ويثيروا الفتنة تار ًة أخرى ‪ ،‬فيكرّوا على أهل‬

‫السلم ‪ ،‬وقتلهم إذا كان لهم فئة ل يخرج عن كونه دفعا ‪ ،‬لنّه لو لم يذفّف عليهم يتحيّزون‬ ‫إلى الفئة ‪ ،‬ويعود شرّهم كما كان ‪ ،‬وإن لم تكن لهم فئة قائمة يحرم قتل جرحى البغاة ‪.‬‬

‫ي رضي ال عنه يوم الجمل ‪ ":‬ل تتبعوا مدبرا ‪ ،‬ول تجهزوا على‬ ‫والصل في ذلك قول عل ّ‬

‫جريح ‪ ،‬ول تقتلوا أسيرا ‪ ،‬وإيّاكم والنّساء وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم "‪ .‬وقد حمله‬ ‫الحنفيّة على ما إذا لم تكن للبغاة فئة ‪ .‬ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفيّة أنّ جريح البغاة‬ ‫ومدبرهم يختار المام ما فيه المصلحة ‪ ،‬تاركا هوى النّفس والتّشفّي ‪ ،‬وإن وجدت الفئة ‪.‬‬

‫ومذهب المالكيّة في جرحى البغاة يعتمد على مدى تيقّن المام من التحاقهم بالبغاة ‪ ،‬أو‬

‫رجوعهم إلى الطّاعة ‪ ،‬فإن أمن المام بغيهم ل يجوز له اتّباع منهزمهم ‪ ،‬ول التّذفيف على‬

‫جريحهم ‪ ،‬وإن لم يأمن المام بغيهم اتّبع منهزمهم ‪ ،‬وذفّف على جريحهم ‪ ،‬حسب مقتضيات‬

‫مصلحة الحرب لحصول المقصود ‪.‬‬

‫ولم يشترط المالكيّة وجود الفئة الّتي يحتمل التّحيّز إليها ‪ ،‬لنّ المصلحة هي الساس عندهم‪.‬‬ ‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬بغاة ) ‪.‬‬

‫والشّافعيّة قالوا ‪ :‬إذا كانت لهم فئة بعيدة ينحازون إليها ‪ ،‬ول يتوقّع في العادة مجيئها إليهم‬

‫والحرب قائمة ‪ ،‬أو غلب على الظّنّ عدم وصولها إليهم ‪ ،‬ل يجهز على جريحهم لمن غائلته ‪،‬‬

‫إلّ إذا كان متحرّفا لقتال ‪ .‬وأمّا إذا كانت لهم فئة قريبة تسعفهم عادةً ‪ ،‬والحرب قائمة ‪ ،‬فإنّه‬

‫يجوز اتّباعهم والتّذفيف على جريحهم ‪.‬‬

‫ص الحنابلة على أنّ أهل البغي إذا تركوا القتال بالرّجوع إلى الطّاعة ‪ ،‬أو بإلقاء السّلح ‪،‬‬ ‫ون ّ‬ ‫أو بالهزيمة إلى فئة ‪ ،‬أو إلى غير فئة ‪ ،‬أو بالعجز لجراح أو مرض ‪ ،‬فل يجهز على‬

‫جريحهم ‪ ،‬وبهذا قال بعض الشّافعيّة ‪.‬‬

‫وساق ابن قدامة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة الثار الواردة في النّهي عن قتل المدبر والجهاز على‬

‫ي رضي ال عنه أنّه قال يوم الجمل ‪ :‬ل يذفّف على جريح ‪.‬‬ ‫الجريح ‪ ،‬ومنها ما روي عن عل ّ‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يا ابن مسعود أتدري‬ ‫كما روي عن عبد اللّه بن مسعود « أ ّ‬ ‫ما حكم اللّه فيمن بغى من هذه المّة ؟ قال ابن مسعود ‪ :‬اللّه ورسوله أعلم ‪ .‬قال ‪ :‬فإنّ حكم‬ ‫اللّه فيهم أن ل يتبع مدبرهم ‪ ،‬ول يقتل أسيرهم ‪ ،‬ول يذفّف على جريحهم » ‪.‬‬

‫ن قتالهم للدّفع والرّ ّد إلى الطّاعة دون القتل ‪ ،‬فل يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة‬ ‫ول ّ‬ ‫( ر ‪ :‬بغاة ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّذفيف في الذّبائح ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬من صور الذّكاة ما إذا رمى الصّيد ‪ ،‬ثمّ أدركه وبه حياة مستقرّة ‪ ،‬فل يحلّ إلّ بتذكيته ‪.‬‬

‫ل حركة المذبوح ‪ ،‬فذهب الجمهور إلى أنّه يحلّ ولو لم يذفّف عليه ‪،‬‬ ‫أمّا إن أدركه ولم يبق به إ ّ‬ ‫ن حركة المذبوح ل تعتبر حيا ًة عندهم ‪ ،‬وذهب أبو حنيفة ‪ -‬فيما نقل عنه الجصّاص ‪ -‬إلى‬ ‫لّ‬

‫أنّه ل يحلّ ما لم يذفّف عليه بالتّذكية ‪ ،‬لنّه يعتبر حركة المذبوح حيا ًة ‪ .‬والنّقل الرّاجح عن أبي‬

‫حنيفة أنّه يوافق الجمهور ‪ .‬وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬صيد ) ( وذبائح ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تذكّر *‬

‫سيَ ‪ ،‬يقال ‪ :‬ذكرت الشّيء بعد نسيان ‪ ،‬وذكرته‬ ‫‪ -‬التّذكير والتّذكّر ‪ :‬من مادّة َذ َكرَ ‪ ،‬ض ّد َن ِ‬

‫بلساني ‪ ،‬وقلبي ‪ ،‬وتذكّرته ‪ ،‬وأذكرته غيري ‪ ،‬وذكّرته تذكيرا ‪.‬‬

‫ي ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬ ‫وهو في الصطلح الشّرع ّ‬

‫أ ‪ -‬السّهو ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬السّهو في اللّغة ‪ :‬نسيان الشّيء والغفلة عنه وذهاب القلب إلى غيره ‪ ،‬فالسّهو عن الصّلة‬

‫‪ :‬الغفلة عن شيء منها ‪ ،‬قال ابن الثير ‪ :‬السّهو من الشّيء ‪ :‬تركه عن غير علم ‪ ،‬والسّهو‬

‫ن هم عن صَلتِهم سَاهُون } ‪ .‬واصطلحا ‪،‬‬ ‫عنه ‪ :‬تركه مع العلم ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬الّذي َ‬

‫قال صاحب المواقف ‪ :‬السّهو زوال الصّورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو‬ ‫الذّهول عن الشّيء ‪ ،‬بحيث لو نبّه له أدنى تنبيه لتنبّه ‪.‬‬

‫وفي المصباح ‪ :‬إنّ السّهو لو نبّه صاحبه لم يتنبّه ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬النّسيان ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬النّسيان ‪ :‬ضدّ الذّكر والحفظ ‪ ،‬يقال ‪ :‬نسيه نسيا ‪ ،‬ونسيانا ‪ ،‬وهو ترك الشّيء عن ذهول‬

‫وغفلة ‪ ،‬ويطلق مجازا على التّرك عن عمد ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ {:‬نسوا اللّه فنسيهم } أي تركوا‬

‫أمر اللّه فحرمهم رحمته ‪ .‬ويقال ‪ :‬رجل نسيان أي ‪ :‬كثير النّسيان والغفلة ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬هو‬ ‫الذّهول عن الشّيء ‪ ،‬لكن ل يتنبّه له بأدنى تنبيه ‪ ،‬لكون الشّيء قد زال من المدركة والحافظة‬

‫معا ‪ ،‬فيحتاج إلى سبب جديد ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫تذكّر المصلّي لصلته بعد الكل فيها ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬قال الحنابلة والمالكيّة ‪ :‬ل تبطل صلة من أكل ناسيا وإن كثر ‪ ،‬واستدلّوا بحديث ‪ « :‬إنّ‬

‫اللّه وضع عن أمّتي الخطأ ‪ ،‬والنّسيان ‪ ،‬وما استكرهوا عليه » ‪ .‬وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا أكل‬ ‫في الصّلة ناسيا بطلت صلته ‪ ،‬وإن قلّ ‪ .‬وفرّق الشّافعيّة بين القليل والكثير ‪ ،‬فإن كان ناسيا‬

‫فل تبطل صلته إذا كان قليلً ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬صلة ) ( ونسيان ) ‪.‬‬

‫سهو المام ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬قال الحنفيّة ‪ :‬إذا أخبره عدلن بعدم التمام ل يعتبر شكّه ‪ ،‬وعليه الخذ بقولهم ‪ .‬أمّا إذا‬

‫أخبره عدل في صلة رباعيّة مثلً أنّه ما صلّى أربعا ‪ ،‬وشكّ في صدقه وكذبه أعاد احتياطا ‪.‬‬

‫أمّا إذا كذّبه ‪ ،‬فل يعيد ‪ .‬وإن اختلف المام والقوم فإن كان على يقين لم يعد ‪ ،‬وإلّ أعاد بقولهم‬ ‫‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إذا أخبرته جماعة مستفيضة ‪ ،‬يفيد خبرهم العلم الضّروريّ بتمام صلته أو‬

‫نقصها ‪ ،‬فإنّه يجب عليه الرّجوع لخبرهم ‪ ،‬سواء كانوا من مأموميه أو من غيرهم ‪ ،‬وإن تيقّن‬

‫كذبهم ‪ .‬وإن أخبره عدلن فأكثر فإنّه يعمل بالخبر إن لم يتيقّن خلف ذلك ‪ ،‬وكانا من مأموميه‬ ‫‪ .‬فإن لم يكونا من مأموميه فل يرجع لخبرهما ‪ ،‬بل يعمل على يقينه ‪.‬‬

‫أمّا المنفرد والمأموم فل يرجعان لخبر العدلين ‪ ،‬وإن أخبر المام واحد ‪ ،‬فإن أخبر بالتّمام فل‬

‫يرجع لخبره ‪ ،‬بل يبني على يقين نفسه ‪ ،‬أمّا إذا أخبره بالنّقص رجع لخبره ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّ المام إذا شكّ هل صلّى ثلثا أو أربعا ؟ أخذ بالقلّ ‪ ،‬ول يعمل بتذكير‬

‫غيره ‪ ،‬ولو كانوا جمعا غفيرا كانوا يرقبون صلته ‪ .‬ول فرق عندهم بين أن يكون التّذكير من‬

‫المأمومين أو من غيرهم ‪ .‬واستدلّوا بخبر ‪ « :‬إذا شكّ أحدُكم في صلته فلم يَ ْدرِ أصلّى ثلثا‬ ‫شكّ ‪ ،‬و ْليَبنِ على ما استيقن » ‪ .‬وقد أجابوا عن المراجعة بين الرّسول‬ ‫أم أربعا ؟ فليطرح ال ّ‬

‫صلى ال عليه وسلم والصّحابة ‪ ،‬وعوده للصّلة في خبر ذي اليدين ‪ ،‬بأنّه لم يكن من باب‬

‫الرّجوع إلى قول الغير ‪ ،‬وإنّما هو محمول على تذكّره بعد مراجعته لهم ‪ ،‬أو لنّهم بلغوا حدّ‬ ‫التّواتر الّذي يفيد اليقين ‪ ،‬أي العلم الضّروريّ ‪ ،‬فرجع إليهم ‪.‬‬

‫وذهب الحنابلة إلى أنّه ‪ :‬إذا سبّح اثنان يثق بقولهما لتذكيره ‪ ،‬لزمه القبول والرّجوع لخبرهما ‪،‬‬

‫سواء غلب على ظنّه صوابهما أو خلفه ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬رجع‬

‫إلى قول أبي بكر وعمر رضي ال عنهما في حديث « ذي اليدين لمّا سألهما ‪ :‬أحقّ ما قال ذو‬ ‫اليدين ؟ فقال ‪ :‬نعم » مع أنّه كان شاكّا فيما قاله ذو اليدين بدليل أنّه أنكره ‪ ،‬وسألهما عن‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أمر بالتّسبيح ليذكّروا المام ‪ ،‬ويعمل بقولهم ‪.‬‬ ‫صحّة قوله ‪ ،‬ول ّ‬

‫ولحديث ابن مسعود رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬صلّى فزاد أو نقص ‪...‬‬

‫» الحديث ‪ ،‬وفيه أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون ‪ ،‬فإذا‬

‫نسيت فذكّروني » ‪.‬‬

‫وإن سبّح واحد لتذكيره لم يرجع إلى قوله ‪ ،‬إلّ أن يغلب على ظنّه صدقه ‪ ،‬فيعمل بغالب‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يقبل قول ذي اليدين وحده ‪.‬‬ ‫ظنّه ‪ ،‬ل بتسبيح الغير ‪ ،‬ل ّ‬

‫سقَةٌ بالتّسبيح لم يرجع إلى قولهم ‪ ،‬لنّ قولهم غير مقبول في أحكام الشّرع ‪.‬‬ ‫وإن ذكّره فَ َ‬

‫تذكّر الصّائم لصومه وهو يأكل ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء أنّ من أكل أو شرب وهو صائم ‪ ،‬ثمّ تذكّر وأمسك لم يفطر ‪ ،‬لما‬

‫روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من أكل ناسيا وهو صائم ‪ ،‬فليتمّ‬

‫صومه ‪ ،‬فإنّما أطعمه اللّه وسقاه » ‪ .‬وفي رواية أخرى ‪ « :‬من أكل أو شرب ناسيا فل يفطر ‪،‬‬

‫فإنّما هو رزق رزقه اللّه » ‪.‬‬

‫ي رضي ال عنه ‪ :‬ل شيء على من أكل ناسيا وهو صائم ‪.‬‬ ‫وقال عل ّ‬

‫ن الصّوم عبادة ذات تحريم وتحليل ‪ ،‬فكان من محظوراته ما يخالف عمده سهوه كالصّلة ‪،‬‬ ‫ول ّ‬

‫وهو قول أبي هريرة وابن عمر ‪ ،‬وطاووس والوزاعيّ والثّوريّ وإسحاق ‪.‬‬

‫وقال بعض الفقهاء ‪ :‬يشترط أن يكون الكل أو الشّرب قليلً ‪ ،‬فإن كان كثيرا أفطر ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬إن أكل أو شرب ناسيا فقد أفطر ‪ ،‬وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬صوم ) ‪.‬‬

‫تذكّر القاضي لحكم قضاه ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ القاضي إذا رأى خطأً في حكمه ‪ ،‬لم يعتمد عليه في إمضاء‬

‫الحكم حتّى يتذكّر ‪ ،‬لنّه حكم حاكم لم يعلمه ‪ ،‬ولنّه يجوز فيه التّزوير عليه وعلى ختمه ‪ ،‬فلم‬

‫ل ببيّنة كحكم غيره ‪.‬‬ ‫يجز إنفاذه إ ّ‬

‫وإلى هذا ذهب المام ‪ :‬أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد في إحدى روايتين عنه ‪.‬‬

‫وفي رواية عن أحمد ‪ :‬إذا كان الحكم عنده ‪ ،‬وتحت يده جاز العتماد عليه ‪ ،‬لنّه في هذه‬

‫الحالة ل يحتمل التّغيير فيه ‪ ،‬وأجاز أبو يوسف ومحمّد بن الحسن العمل بالخطّ إذا عرف أنّه‬ ‫خطّه ‪ ،‬ولو لم يتذكّر الحادثة ‪ ،‬وإن لم يكن الخطّ بيده ‪ ،‬لنّ الغلط نادر في مثل ذلك ‪ ،‬وأثر‬

‫ط من كلّ وجه ‪ ،‬فإذا تيقّن أنّه خطّه جاز‬ ‫التّغيير يمكن الطّلع عليه ‪ ،‬وقلّما يتشابه الخ ّ‬

‫العتماد عليه ‪ ،‬توسعةً على النّاس ‪.‬‬

‫ن هذا حكمه ولم يتذكّر ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في العمل‬ ‫أمّا إذا شهد عدلن عند القاضي ‪ :‬بأ ّ‬

‫بقولهما ‪ :‬فقال المالكيّة وأحمد ومحمّد بن الحسن ‪ :‬يلزمه العمل بذلك وإمضاء الحكم ‪.‬‬

‫وقالوا ‪ :‬إنّه لو شهدا عنده بحكم غيره قبل ‪ ،‬فكذلك يقبل إذا شهدا عنده بحكم نفسه ‪ .‬ولنّهما‬

‫شهدا بحكم حاكم ‪ ،‬فيجب قبول شهادتهما ‪.‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّه ل يعمل بقولهما حتّى يتذكّر‪.‬‬ ‫تذكّر الشّاهد الشّهادة وعدمه ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪ -‬إذا رأى الشّاهد بخطّه شهادةً أدّاها عند حاكم ‪ ،‬ولم يتذكّر الحادثة ‪ ،‬فعند المالكيّة والشّافعيّة‬

‫‪ ،‬وهي إحدى روايتين عن أحمد ‪ :‬لم يشهد على مضمونها حتّى يتذكّر ‪ ،‬وإن كان الكتاب‬

‫محفوظا عنده لمكان التّزوير ‪.‬‬

‫وفي رواية أخرى عن أحمد ‪ :‬أنّه إذا عرف خطّه شهد به ‪،‬وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة‪.‬‬ ‫تذكّر الرّاوي للحديث وعدمه ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪ -‬أمّا رواية الحديث ‪ ،‬فإنّه يجوز للشّخص أن يروي مضمون خطّه اعتمادا على الخطّ‬

‫المحفوظ عنده ‪ ،‬لعمل العلماء به سلفا وخلفا ‪ .‬وقد يتساهل في الرّواية ‪ ،‬لنّها تقبل من المرأة‬ ‫والعبد ‪ ،‬بخلف الشّهادة ‪ .‬هذا عند الشّافعيّة ‪.‬‬

‫وقال المام أبو حنيفة ‪ :‬ل يعمل بها لمشابهة الخطّ بالخطّ ‪ ،‬وخالفه صاحباه ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تذكّر ‪.‬‬

‫تذكير *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تذكية *‬

‫‪ -‬التّذكية في اللّغة ‪ :‬مصدر ذكّى ‪ ،‬والسم ( الذّكاة ) ومعناها ‪ :‬إتمام الشّيء والذّبح ‪ .‬ومنه‬

‫قوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬ذكاة الجنين ذكاة أمّه » ‪.‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬هي السّبب الموصّل لحلّ أكل الحيوان الب ّريّ اختيارا ‪.‬‬

‫هذا تعريف الجمهور ‪ ،‬ويعرف عند الحنفيّة ‪ :‬بأنّه السّبيل الشّرعيّة لبقاء طهارة الحيوان ‪ ،‬وحلّ‬ ‫أكله إن كان مأكولً ‪ ،‬وحلّ النتفاع بجلده وشعره إن كان غير مأكول ‪.‬‬

‫أنواع التّذكية ‪:‬‬

‫التّذكية لفظ عامّ ‪ ،‬يشمل ‪ :‬الذّبح ‪ ،‬والنّحر ‪ ،‬والعقر ‪ ،‬والصّيد ‪ ،‬ولكلّ موطنه على النّحو التّالي‬ ‫‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الذّبح ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫شقّ ‪ .‬وعند الفقهاء ‪ :‬قطع الحلقوم من باطن عن المفصل بين العنق والرّأس‬ ‫‪ -‬الذّبح لغةً ‪ :‬ال ّ‬

‫‪ .‬ويستعمل في ذكاة الختيار ‪ ،‬فهو أخصّ من التّذكية ‪ ،‬حيث إنّها تشمل ذكاة الختيار‬

‫والضطرار ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬النّحر ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬نحر البعير ‪ :‬طعنه في منحره حيث يبدأ الحلقوم من أعلى الصّدر ‪ ،‬قال في المغني ‪:‬‬

‫معنى النّحر أن يضرب البعير بالحربة أو نحوها في الوهدة الّتي بين أصل عنقها وصدرها ‪.‬‬

‫فهو قطع العروق في أسفل العنق عند الصّدر ‪ ،‬وبهذا يفترق عن الذّبح ‪ ،‬لنّ القطع في أعلى‬

‫العنق ‪ .‬والنّحر نوع آخر من أنواع التّذكية الختياريّة ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬العقر ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬العقر ‪ :‬هو الجرح ‪.‬‬

‫ويستعمله الفقهاء في ‪ :‬تذكية حيوان غير مقدورعليه بالطّعن في أيّ موضع وقع من البدن‪.‬‬ ‫وبهذا يختلف عن الذّبح والنّحر ‪ ،‬لنّهما تذكية اختيارا ‪ ،‬والعقر تذكية ضرورةً ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬الصّيد ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬الصّيد ‪ :‬هو إزهاق روح الحيوان الب ّريّ المتوحّش‪ ،‬بإرسال نحو سهم أو كلب أو صقر‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬التّذكية سبب لباحة أكل لحم الحيوان غير المحرّم والّذي من شأنه الذّبح ‪ ،‬سواء أكانت‬

‫بالذّبح أم النّحر أم العقر ‪ .‬أمّا ما ليس من شأنه الذّبح كالسّمك والجراد فيحلّان بل ذكاة ‪.‬‬

‫ويشترط في المذكّي عند الفقهاء ‪ :‬أن يكون مسلما أو كتابيّا ‪ ،‬كما يشترط عند الجمهور ‪:‬‬

‫‪-‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو رواية عند الشّافعيّة ‪ : -‬أن يكون المذكّي مميّزا ‪ ،‬ليعقل‬

‫التّسمية والذّبح ‪ .‬وفي الظهر عند الشّافعيّة ‪ :‬ل يشترط التّمييز ‪.‬‬

‫‪ -7‬وجمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ -‬على أنّه تشترط التّسمية وقت التّذكية إلّ‬ ‫إذا نسيها ‪ .‬وقال الشّافعيّة باستحباب التّسمية وقت التّذكية ‪.‬‬

‫ويحلّ الذّبح بكلّ محدّد يجرح ‪ ،‬كحديد ونحاس وذهب وخشب وحجر وزجاج ‪ ،‬ول يجوز‬ ‫بالسّنّ والظّفر القائمين اتّفاقا ‪.‬‬

‫أمّا إذا كانا منفصلين ففيه خلف ‪ ،‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬ذبائح ) ‪.‬‬

‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬ذكر الفقهاء أحكام التّذكية في أبواب الصّيد والذّبائح والضحيّة ‪ ،‬وذكر المالكيّة أحكامها‬

‫في باب الذّكاة ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تراب *‬

‫‪ -‬التّراب ‪ :‬ما نعم من أديم الرض ‪ .‬بهذا عرّفه المعجم الوسيط ‪ ،‬وهو اسم جنس ‪ ،‬وقال‬

‫المبرّد ‪ :‬هو جمع واحده ترابة ‪ ،‬وجمعه أتربة وتربان ‪ ،‬وتربة الرض ‪ :‬ظاهرها ‪.‬‬

‫وأتربت الشّيء ‪ :‬وضعت عليه التّراب ‪ ،‬وترّبته تتريبا فتترّب ‪ :‬أي تلطّخ بالتّراب ‪ .‬ويقال ‪:‬‬

‫ت يَداك‬ ‫ن تَ ِر َب ْ‬ ‫ظ َفرْ بذاتِ الدّي ِ‬ ‫َترِب الرّجل ‪ :‬إذا افتقر ‪ ،‬كأنّه لصق بالتّراب ‪ ،‬وفي الحديث ‪ « :‬فا ْ‬ ‫ث والتّحريض ‪ .‬ويقال ‪ :‬أترب الرّجل ‪ :‬أي استغنى ‪ ،‬كأنّه‬ ‫» وليس المراد به الدّعاء ‪ ،‬بل الح ّ‬

‫صار له من المال بقدر التّراب ‪.‬‬

‫وفي المصطلحات العلميّة والف ّنيّة ‪ :‬أنّه جزء الرض السّطحيّ المتجانس التّركيب ‪ ،‬أو الّذي‬ ‫تتناوله آلت الحراثة ‪.‬‬

‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪ .‬ويفهم من كلم الفقهاء في باب التّيمّم أنّ‬

‫الرّمل ونحاتة الصّخر ليسا من التّراب ‪ ،‬وإن أعطيا حكمه في بعض المذاهب ‪.‬‬ ‫الصّعيد ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الصّعيد ‪ :‬وجه الرض ترابا كان أو غيره ‪ ،‬قال ال ّزجّاج ‪ :‬ول أعلم اختلفا بين أهل اللّغة‬

‫في ذلك ‪ .‬وعلى هذا يكون الصّعيد أع ّم من التّراب ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬في التّيمّم ‪:‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫ل تراب طاهر فيه غبار يعلق باليد ‪ ،‬لقوله تعالى ‪{ :‬‬ ‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ التّيمّم يصحّ بك ّ‬

‫سحُوا بِوجُوهِكم وأَي ِديْكم منه } ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬ ‫طيّبَا فَامْ َ‬ ‫صعِيدا َ‬ ‫َف َت َي ّممُوا َ‬

‫ت إلى كلّ‬ ‫ي يُبعث إلى قومه خاصّةً ‪ ،‬وبُعث ُ‬ ‫ل نب ّ‬ ‫خمْسَا لم ُيعْطَهنّ أحدٌ قبلي ‪ :‬كان ك ّ‬ ‫« أُعطيتُ َ‬ ‫ض طيّبةً طهورا‬ ‫ل لحد َقبْلي ‪ ،‬وجُعلتْ لي الر ُ‬ ‫أحمرَ وأسودَ ‪ ،‬وأُحلّتْ لي الغنائمُ ولم َتحِ ّ‬

‫ي مسيرة شهر‬ ‫ت بالرّعْب بين يد ّ‬ ‫ومسجدا ‪ ،‬فأيّما رجلٍ أدركته الصّلة صلّى حيث كان ‪ ،‬ونُصر ُ‬ ‫‪ ،‬وأعطيتُ الشّفاع َة » ‪ .‬واختلفوا في صحّة التّيمّم بما عدا التّراب ‪ ،‬كالنّورة والحجارة والرّمل‬

‫والحصى والطّين الرّطب والحائط المجصّص ‪ ،‬وغير ذلك ممّا هو من جنس الرض ‪ :‬فذهب‬

‫الحنفيّة والمالكيّة إلى صحّة التّيمّم بهذه الشياء المذكورة ‪ .‬ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّيمّم‬

‫ل يصحّ إلّ بالتّراب الطّاهر ذي الغبار العالق ‪ .‬وكذا يصحّ برمل فيه غبار عند الشّافعيّة ‪ ،‬وفي‬

‫قول القاضي من الحنابلة ‪ .‬والتّفاصيل يرجع إليها في مصطلح ( تيمّم ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬في إزالة النّجاسة ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أ نّ ما نجس بملقاة شيء ‪ ،‬من كلب أو خنزير أو ما تولّد‬

‫منهما أو من أحدهما ‪ ،‬يغسل سبع مرّات ‪ :‬إحداه نّ بالتّراب ‪ .‬سواء كان ذلك لعابه أو بوله أو‬ ‫سائر رطوباته أو أجزاءه الجافّة إذا لقت رطبا ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫« طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات ‪ ،‬أولهنّ بالتّراب » وفي رواية ‪:‬‬

‫« أُخراهنّ بالتّراب » وفي أخرى { وعفّروه الثّامن َة بالتّراب } وألحق الخنزير بالكلب لنّه أسوأ‬ ‫حالً ‪ .‬ولهذا قال اللّه تعالى في حقّه ‪ { :‬أو لح َم خنزيرٍ فإنّه ِرجْسٌ } ‪.‬‬

‫وروي عن المام أحمد روايةً أخرى بوجوب غسل نجاسة الكلب والخنزير ثماني مرّات‬

‫إحداهنّ بالتّراب ‪ ،‬وإلى هذا ذهب الحسن البصريّ ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم في بعض‬

‫روايات الحديث ‪ « :‬وعفّروه الثّامنةَ بالتّراب » ويشترط أن يعمّ التّراب المحلّ ‪ ،‬وأن يكون‬

‫طاهرا ‪ ،‬وأن يكون قدرا يكدّر الماء ‪ ،‬ويكتفي بوجود التّراب في واحدة من الغسلت السّبع ‪،‬‬ ‫ولكن يستحبّ أن يكون في غير الخيرة ‪ ،‬وجعله في الولى أولى ‪.‬‬

‫والظهر تعيّن التّراب جمعا بين نوعي الطّهور ‪ .‬فل يكفي غيره ‪ ،‬كأشنان وصابون ‪.‬‬ ‫ومقابله أنّه ل يتعيّن التّراب ‪ .‬ويقوم ما ذكر ونحوه مقامه ‪.‬‬

‫وهناك رأي ثالث ‪ :‬بأنّه يقوم مقام التّراب عند فقده للضّرورة ‪ ،‬ول يقوم عند وجوده ‪.‬‬ ‫وفي قول رابع ‪ :‬أنّه يقوم مقامه فيما يفسده التّراب ‪ ،‬كالثّياب دون ما ل يفسده ‪.‬‬

‫ويرى بعض الشّافعيّة ‪ :‬أنّ الخنزير ليس كالكلب ‪ ،‬بل يكفي لزالة نجاسته غسلة واحدة من‬

‫دون تراب ‪ ،‬كغيره من النّجاسات الخرى ‪ ،‬لنّ الوارد في التّتريب إنّما هو في الكلب فقط ‪.‬‬

‫أمّا الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬فيرون الكتفاء بغسل ما ولغ الكلب فيه من الواني من غير تتريب ‪،‬‬

‫ن روايات التّتريب في الحديث مضطربة حيث وردت بلفظ ‪ « :‬إحداهنّ » ‪،‬‬ ‫وحجّتهم في ذلك أ ّ‬

‫في رواية ‪ ،‬وفي أخرى بلفظ ‪ « :‬أولهنّ » ‪ ،‬وفي ثالثة بلفظ ‪ « :‬أخراهنّ » ‪ ،‬وفي رابعة ‪:‬‬

‫« السّابعة بالتّراب » ‪ ،‬وفي خامسة « وعفّروه الثّامنة بالتّراب » ‪ ،‬والضطراب قادح فيجب‬

‫طرحها ‪ .‬ثمّ إنّ ذكر التّراب لم يثبت في كلّ الرّوايات ‪.‬‬

‫والتّفاصيل يرجع إليها في مصطلح ‪ ( :‬نجاسة ‪ ،‬وطهارة ‪ ،‬وصيد ‪ ،‬وكلب ) ‪.‬‬

‫ف والنّعل‬ ‫‪ -5‬ويرى جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو رواية عن المام أحمد أنّ الخ ّ‬ ‫إذا أصابتهما نجاسة لها جرم كالرّوث فمسحهما بالتّراب يطهّرهما ‪.‬‬

‫ي رضي ال عنه ‪ { :‬أنّه صلى ال عليه وسلم صلّى‬ ‫واستدلّوا لذلك بما رواه أبو سعيد الخدر ّ‬

‫يوما ‪ ،‬فخلع نعليه في الصّلة ‪ ،‬فخلع القوم نعالهم ‪ ،‬فلمّا فرغ سألهم عن ذلك ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬رأيناك‬ ‫خلعت نعليك ‪ ،‬فقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬أتاني جبريل عليه السلم وأخبرني أنّ بهما أذًى‬ ‫فخلعتهما ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬إذا أتى أحدكم المسجد فليقلّب نعليه ‪ ،‬فإن كان بهما أذًى فليمسحهما‬

‫بالرض ‪ ،‬فإنّ الرض لهما طهور } ‪.‬‬

‫وأمّا ما ل جرم له من النّجاسة كالبول ففيه تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬نجاسة ) ‪ (،‬وقضاء‬

‫ن التّراب ل يطهّر الخفّ أو‬ ‫الحاجة ) ‪ .‬أمّا الشّافعيّة ‪ ،‬وهو الرّاجح عند الحنابلة ‪ ،‬فيرون أ ّ‬

‫النّعل ‪ ،‬وأنّه يجب غسلهما إذا أريد تطهيرهما ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬في الصّوم ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ أكل التّراب والحصاة ونحوهما عمدا يبطل الصّوم ‪ ،‬وكذلك إذا وصل‬

‫إلى الجوف عن طريق النف أو الذن أو نحوهما عمدا ‪ ،‬لنّ الصّوم هو المساك عن كلّ ما‬

‫يصل إلى الجوف ‪ ،‬وفي وجوب الكفّارة في هذه الحالة عند الحنفيّة والمالكيّة خلف وتفصيل‬

‫ينظر في مبحث ( كفّارة ) ‪.‬‬

‫أمّا الغبار الّذي يصل إلى الجوف عن طريق النف أو نحوه بصورة غير مقصودة فل يفطر‬

‫ن الصّائم لو فتح فاه عمدا حتّى‬ ‫باتّفاق العلماء لمشقّة الحتراز عنه ‪ .‬ويرى بعض الشّافعيّة ‪ :‬أ ّ‬ ‫دخل التّراب جوفه لم يفطر لنّه معفوّ عن جنسه ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬صوم ) ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬في البيع ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والحنابلة وهو الظهر عند الشّافعيّة ‪ -‬أنّ بيع التّراب‬

‫ممّن حازه جائز لظهور المنفعة فيه ‪.‬‬

‫ويرى الحنفيّة ‪ ،‬وهو مقابل الصحّ عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ل يجوز بيع التّراب لنّه ليس بمال ول‬

‫مرغوب فيه ‪ ،‬ولنّه يمكن تحصيل مثله بل تعب ول مؤنة ‪ .‬لكنّ الحنفيّة قيّدوه بأن ل يعرض‬ ‫له ما يصير به مالً معتبرا كالنّقل والخلط بغيره ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬بيع ) ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬في الكل ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة إلى حرمة أكل التّراب لمن يضرّه ‪ ،‬وإلى هذا ذهب المالكيّة في الرّاجح‬

‫عندهم ‪.‬‬

‫ويرى الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة كراهة أكله ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬أطعمة ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تراب الصّاغة *‬

‫‪ -‬تراب ال صّاغة ‪ :‬مركّب إضاف يّ يتكوّن من كلمت ين ‪ ،‬وه ما ‪ ،‬تراب ‪ :‬وال صّاغة ‪ .‬أمّا‬

‫التّراب ‪ :‬فهو اسم جنس ‪ ،‬ويجمع على أتربة وتربان ‪ ،‬وتربة الرض ظاهرها ‪.‬‬

‫وأمّا الصّاغة ‪ :‬فهي جمع صائغ ‪ ،‬وهو الّذي حرفته الصّياغة ‪ ،‬وهي جعل الذّهب حليّا ‪.‬‬

‫يقال ‪ :‬صاغ الذّهب ‪ :‬إذا جعله حليّا ‪ ،‬وصاغ اللّه فلنا صيغةً حسنةً ‪ :‬خلقه ‪.‬‬

‫وصاغ الشّيء ‪ :‬هيّأه على مثال مستقيم ‪.‬‬

‫وتراب الصّاغة ‪ -‬كما عرفه المالكيّة ‪ -‬هو الرّماد الّذي يوجد في حوانيتهم ول يدرى ما فيه‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التّبر ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬من معاني التّبر في اللّغة ‪ :‬ما كان من الذّهب غير مضروب ‪ ،‬فإذا ضرب دنانير فهو‬

‫ل للذّهب ‪ ،‬وبعضهم يقوله للفضّة أيضا ‪ ،‬وقد يطلق التّبر على غير‬ ‫عين ‪ .‬ول يقال تبر إ ّ‬

‫الذّهب والفضّة من المعدنيّات ‪.‬‬

‫وفي اصطلح الفقهاء ‪ ،‬عرّفه المالكيّة بأنّه ‪ :‬الذّهب غير المضروب ‪.‬‬

‫وعرّفه الشّافعيّة بأنّه ‪ :‬اسم للذّهب والفضّة قبل ضربهما ‪ ،‬أو للذّهب فقط ‪ ،‬والمراد العمّ ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تراب المعادن ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬أمّا التّراب فقد سبق بيان معناه ‪ ،‬وأمّا المعادن فهي ‪ :‬جمع معدن بكسر الدّال ‪ ،‬والمعدن ‪-‬‬

‫كما قال اللّيث ‪ :‬مكان كلّ شيء يكون فيه أصله ومبدؤه كمعدن الذّهب والفضّة ‪.‬‬

‫وأمّا عند الفقهاء ‪ ،‬فهو كما عرّفه الزّيلعيّ ‪ :‬اسم لما يكون في الرض خلقةً ‪ ،‬بخلف الرّكاز‬

‫والكنز ‪ ،‬إذ الكنز اسم لمدفون العباد ‪ ،‬والرّكاز اسم لما يكون في الرض خلقةً ‪ ،‬أو بدفن العباد‬ ‫‪ .‬وقال الرّمليّ الشّافعيّ ‪ :‬إنّ المعدن له إطلقان ‪ :‬أحدهما على المستخرج ‪ ،‬والخر على‬

‫المخرج منه ‪ .‬هذا ‪ ،‬والفرق بين تراب المعدن وتراب الصّاغة ‪ -‬كما يفهم من كلم المالكيّة ‪-‬‬ ‫ن تراب المعدن ‪ :‬هو ما يتساقط من جوهر المعدن نفسه ‪ ،‬دون اختلط بجوهر آخر ‪ .‬أمّا‬ ‫أّ‬

‫تراب الصّاغة فهو المتساقط من المعدن مختلطا بالتّراب أو الرّمل أو نحوهما ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫ل أو معلوما ‪ ،‬وإمّا أن‬ ‫‪ -‬تراب الصّاغة ‪ :‬إمّا أن يكون ما فيه من الذّهب أو الفضّة مجهو ً‬

‫يكون من جنس واحد أو أكثر من جنس ‪ ،‬وإمّا أن يصفّى ويميّز ما فيه من الذّهب أو الفضّة أو‬ ‫ل ‪ .‬قال الحنفيّة ‪ :‬إن اشترى تراب الفضّة بفضّة ل يجوز ‪ ،‬لنّه إن لم يظهر في التّراب شيء‬

‫فظاهر ‪ ،‬وإن ظهر فهو بيع الفضّة بالفضّة مجازفةً ‪ ،‬ولهذا لو اشتراه بتراب فضّة ل يجوز ‪،‬‬ ‫ن البدلين هما الفضّة ل التّراب ‪ .‬ولو اشتراه بتراب ذهب أو بذهب جاز ‪ ،‬لعدم لزوم العلم‬ ‫لّ‬

‫بالمماثلة ‪ ،‬لختلف الجنس ‪ ،‬فلو ظهر أن ل شيء في التّراب ل يجوز ‪.‬‬ ‫وكلّ ما جاز فمشتري التّراب بالخيار إذا رأى ‪ ،‬لنّه اشترى ما لم يره ‪.‬‬

‫وهو أيضا قول الحنابلة في تراب الصّاغة ‪ ،‬إذ ل يجوز عندهم بيعه بشيء من جنسه ‪ ،‬لنّه‬ ‫مال ربا بيع بجنسه على وجه ل تعلم فيه المماثلة ‪.‬‬

‫ول يجوز عند المالكيّة بيع تراب الصّاغة لشدّة الغرر فيه ‪ ،‬وإن وقع فسخ ‪.‬‬

‫وأمّا الشّافعيّة فل يجوز عندهم بيع تراب الصّاغة قبل تصفيته وتمييز الذّهب أو الفضّة منه ‪،‬‬

‫سواء أباعه بذهب أم بفضّة أم بغيرهما ‪ ،‬لنّ المقصود مجهول أو مستور بما ل مصلحة له فيه‬ ‫في العادة ‪ ،‬فلم يصحّ بيعه فيه كبيع اللّحم في الجلد بعد الذّبح وقبل السّلخ ‪.‬‬

‫تراب المعادن *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬تراب المعادن ‪ :‬مركّب إضافيّ ‪ ،‬أمّا التّراب ‪ :‬فهو ظاهر الرض ‪ ،‬وهو اسم جنس ‪ .‬وأمّا‬

‫المعادن ‪ :‬فهي جمع معدن ‪ -‬بكسر الدّال ‪ -‬وهو كما قال اللّيث ‪ :‬مكان كلّ شيء يكون فيه‬ ‫أصله ومبدؤه كمعدن الذّهب والفضّة ‪.‬‬

‫وأمّا عند الفقهاء فهو ‪ ،‬كما عرّفه الزّيلعيّ وابن عابدين ‪ :‬اسم لما يكون في الرض خلقةً ‪.‬‬

‫وقال الرّمليّ الشّافعيّ ‪ :‬إنّ المعدن له إطلقان ‪ :‬أحدهما على المستخرج ‪ ،‬والخر على‬

‫المخرج منه ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬تراب الصّاغة ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬وهو ‪ -‬كما عرّفه المالكيّة ‪ -‬الرّماد الّذي يوجد في حوانيت الصّاغة ‪،‬ول يدرى ما فيه‪.‬‬

‫والفرق بين تراب الصّاغة وتراب المعدن ‪ ،‬هو أنّ تراب الصّاغة هو المتساقط من المعدن‬

‫مختلطا بتراب أو رمل أو نحوهما ‪ ،‬أمّا تراب المعدن فهو ما يتساقط من جوهر المعدن نفسه‬ ‫دون أن يختلط بجوهر آخر ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الكنز ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬هو في الصل مصدر كنز ‪ ،‬ومعناه في اللّغة ‪ :‬جمع المال وادّخاره ‪ ،‬وجمع التّمر في‬

‫وعائه ‪ ،‬والكنز أيضا ‪ :‬المال المدفون تسمي ًة بالمصدر ‪ ،‬والجمع كنوز كفلس وفلوس ‪.‬‬ ‫وأمّا عند الفقهاء فهو ‪ :‬اسم لمدفون العباد ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬الرّكاز ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬الرّكاز معناه في اللّغة ‪ :‬المال المدفون في الجاهليّة ‪ ،‬وهو على وزن فعال ‪ ،‬بمعنى مفعول‬

‫كالبساط بمعنى المبسوط ‪ ،‬ويقال هو المعدن ‪.‬‬

‫وأمّا عند الفقهاء فهو ‪ :‬اسم لما يكون تحت الرض خلقةً أو بدفن العباد ‪ .‬فالرّكاز بهذا المعنى‬

‫أع ّم من المعدن والكنز ‪ ،‬فكان حقيقةً فيهما مشتركا معنويّا ‪ ،‬وليس خاصّا بالدّفين ‪ .‬وقيّده‬

‫الشّافعيّة بكونه دفين الجاهليّة ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫أنواع المعادن ‪:‬‬

‫‪ -‬للمعادن أنواع ثلثة ‪:‬‬

‫ أ ‪ -‬جامد يذوب وينطبع ‪ ،‬كالذّهب والفضّة والحديد والرّصاص والصّفر ‪.‬‬‫‪ -‬ب ‪ -‬جامد ل يذوب ‪ ،‬كالجصّ والنّورة ‪ ،‬والكحل والزّرنيخ ‪.‬‬

‫‪ -‬ج ‪ -‬مائع ل يتجمّد ‪ ،‬كالماء والقير والنّفط ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ومواطن البحث ‪:‬‬

‫ذكر الفقهاء الحكام الخاصّة بتراب المعادن في مواطن نجملها فيما يلي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تغيّر الماء بتراب المعادن ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ تغيّر الماء المطلق بتراب المعدن ل يضرّ ‪ ،‬ويجوز التّطهّر‬

‫به ‪ ،‬لنّه تغيّر بما هو من أجزاء الرض ‪ .‬وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّ الماء المتغيّر‬

‫بما ل يمكن صونه عنه من تراب المعادن ‪ ،‬بأن يكون في مقرّه أو ممرّه ل يمنع التّطهّر به ‪،‬‬ ‫ول يكره استعماله فيه ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬مياه ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬حكم التّيمّم بتراب المعادن ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫ل بتراب طاهر ‪ ،‬أو برمل فيه غبار‬ ‫ح التّيمّم إ ّ‬ ‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه ل يص ّ‬

‫ح التّيمّم بها ‪ ،‬لنّها ليست في‬ ‫يعلق باليد ‪ ،‬وأمّا ما ل غبار له كالصّخر وسائر المعادن فل يص ّ‬ ‫معنى التّراب ‪ .‬ويجوز عند أبي حنيفة التّيمّم بكلّ ما ل ينطبع ول يلين من المعادن ‪ ،‬كالجصّ‬ ‫والنّورة والكحل والزّرنيخ ‪ ،‬سواء التصق على يده شيء منها أو لم يلتصق ‪.‬‬

‫وأمّا المعادن الّتي تلين وتنطبع ‪ ،‬كالحديد والنّحاس والذّهب والفضّة ‪ ،‬فل يجوز التّيمّم بها إلّ‬

‫في محالّها ‪ ،‬بشرط أن يغلب عليها التّراب ‪ ،‬لنّ التّيمّم حينئذ يكون بالتّراب ل بها ‪ ،‬ولنّها‬

‫ليست من جنس الرض ‪.‬‬

‫وأمّا عند أبي يوسف ‪ :‬فل يجوز التّيمّم إلّ بالتّراب والرّمل في رواية ‪ ،‬أو بالتّراب فقط في‬

‫رواية أخرى ‪ .‬ويجوز عند المالكيّة التّيمّم بالمعادن المنطبعة وغير المنطبعة ما لم تنقل من‬

‫محالّها ‪ ،‬لنّها من أجزاء الرض باستثناء معدن النّقدين ‪ ،‬وهما ‪ :‬تبر الذّهب ونقار الفضّة ‪.‬‬

‫والجواهر النّفيسة كالياقوت واللّؤلؤ والزّمرّد والمرجان ممّا ل يقع به التّواضع للّه ‪ .‬والتّفصيل‬

‫في مصطلح ‪ ( :‬تيمّم ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬زكاة تراب المعادن ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الزّكاة تجب في معدني ‪ :‬الذّهب والفضّة ‪ .‬أمّا غيرهما من المعادن ‪،‬‬

‫ففي وجوب الزّكاة فيه ووقت وجوبها ‪ ،‬تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬زكاة ) ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬بيع بعضه ببعض ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬تراب المعادن ‪ :‬إمّا أن يكون من صنف واحد ‪ ،‬وإمّا أن يكون من أصناف متعدّدة ‪ ،‬وإمّا‬

‫أن يصفّى ويميّز ما فيه أو ل ‪ .‬فإن كان من صنف واحد ‪ ،‬فل يجوز بيع بعضه ببعض ‪،‬‬

‫كتراب ذهب بتراب ذهب عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة للجهل بالمماثلة ‪.‬‬

‫وإن كان من أصناف كتراب ذهب بتراب فضّة ‪ ،‬فإنّه يجوز بيعه عند الحنفيّة والمالكيّة لخفّة‬

‫الغرر فيه ‪ ،‬ولعدم لزوم العلم بالمماثلة ‪ ،‬ويكره بيعه عند الحنابلة لنّه مجهول ‪.‬‬

‫وأمّا الشّافعيّة ‪ :‬فل يجوز عندهم بيع تراب المعدن قبل تصفيته وتمييز الذّهب والفضّة منه ‪،‬‬ ‫سواء أباعه بذهب أم بفضّة أم بغيرهما ‪ ،‬لنّ المقصود النّقد وهو مجهول أو مستور بما ل‬

‫مصلحة له فيه في العادة ‪ ،‬فلم يصحّ بيعه فيه ‪ ،‬كبيع اللّحم في الجلد بعد الذّبح وقبل السّلخ ‪.‬‬ ‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬بيع ) ( وربا ) ( وصرف ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬

‫تراخي *‬

‫‪ -1‬التّراخي ‪ :‬مصدر تراخى ‪ ،‬ومعناه في اللّغة ‪ :‬التّقاعد عن الشّيء والتّقاعس عنه ‪ .‬وتراخى‬

‫المر تراخيا ‪ :‬امتدّ زمانه ‪ ،‬وفي المر تراخ أي ‪ :‬فسحة ‪.‬‬

‫ومعنى التّراخي في الصطلح ‪ :‬كون الداء متأخّرا عن أوّل وقت المكان إلى مظنّة الفوت ‪.‬‬ ‫وعلى ذلك ل يخرج معناه الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬

‫الفور ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬يطلق الفور في اللّغة على ‪ :‬الوقت الحاضر الّذي ل تأخير فيه ‪ ،‬وهو مأخوذ من قولهم ‪:‬‬

‫فار الماء يفور فورا أي ‪ :‬نبع وجرى ‪ ،‬ثمّ استعمل في الحالة الّتي ل بطء فيها ‪.‬‬

‫يقال ‪ :‬جاء فلن في حاجته ‪ ،‬ثمّ رجع من فوره أي ‪ :‬من حركته الّتي وصل فيها ولم يسكن‬ ‫بعدها ‪ ،‬وحقيقته ‪ :‬أن يصل ما بعد المجيء بما قبله من غير ُلبْث ‪.‬‬

‫ومعنى الفور في الصطلح ‪ :‬كون الداء في أوّل أوقات المكان ‪.‬‬ ‫والفرق بينه وبين التّراخي ‪ :‬أنّ الفور ضدّ التّراخي ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ومواطن البحث ‪:‬‬

‫تبحث الحكام الخاصّة بالتّراخي في عدد من المواضع عند الصوليّين والفقهاء توجز فيما يلي‬ ‫‪:‬‬

‫أوّلً ‪ :‬مواضعه عند الصوليّين ‪:‬‬

‫ذكر الصوليّون التّراخي في مواضع وهي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬المر ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬اختلف الصوليّون في المر المطلق الّذي لم يقيّد بوقت محدّد أو معيّن ‪ ،‬سواء أكان‬

‫موسّعا أو مضيّقا ‪ ،‬والخالي عن قرينة تدلّ على أنّه للتّكرار أو للمرّة ‪ :‬هل يفيد الفور ‪ ،‬أو‬

‫التّراخي ‪ ،‬أو غيرهما ؟ فالقائلون بأنّ المر المطلق يقتضي التّكرار يقولون ‪ :‬بأنّه يقتضي‬ ‫الفور ‪ ،‬لنّه يلزم من القول بالتّكرار استغراق الوقات بالفعل المأمور به ‪.‬‬ ‫وأمّا القائلون بأنّه للمرّة ‪ ،‬فقد اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال ‪:‬‬

‫الوّل ‪ :‬إنّه يكون لمجرّد الطّلب ‪ ،‬وهو القدر المشترك بين الفور والتّراخي ‪ ،‬فيجوز التّأخير‬

‫على وجه ل يفوت المأمور به ‪ ،‬وهذا هو الصّحيح عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو مذهب الشّافعيّ‬ ‫وأصحابه ‪ ،‬واختاره الرّازيّ والمديّ وابن الحاجب والبيضاويّ ‪.‬‬

‫الثّاني ‪ :‬أنّه يوجب الفور ‪ ،‬فيأثم بالتّأخير ‪ ،‬وهو مذهب المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬والكرخيّ من‬

‫الحنفيّة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة ‪.‬‬

‫الثّالث ‪ :‬أنّه يفيد التّراخي جوازا ‪ ،‬فل يثبت حكم وجوب الداء على الفور بمطلق المر ‪ ،‬وقد‬ ‫ذكر هذا القول البيضاويّ ونسبه لقوم ‪ ،‬واختاره السّرخسيّ في أصوله ‪.‬‬

‫الرّابع ‪ :‬أنّه مشترك بين الفور والتّراخي ‪ ،‬وهو رأي القائلين بالتّوقّف في دللته ‪ ،‬فإنّهم لم‬

‫يحملوه على الفور ول على التّراخي ‪ ،‬وإنّما توقّفوا فيه ‪ .‬وتوقّف فيه أيضا الجوينيّ ‪ ،‬كما جاء‬

‫في إرشاد الفحول ‪ ،‬فقد ذكر أنّ المر باعتبار اللّغة ل يفيد الفور ول التّراخي ‪ ،‬فيمتثل المأمور‬

‫بكلّ من الفور والتّراخي لعدم رجحان أحدهما على الخر ‪ ،‬مع التّوقّف في إثمه بالتّراخي ل‬

‫بالفور ‪ ،‬لعدم احتمال وجوب التّراخي ‪ ،‬وقيل بالتّوقّف في المتثال ‪ ،‬أي ل يدري هل يأثم إن‬

‫بادر ‪ ،‬أو إن أخّر ؟ لحتمال وجوب التّراخي ‪ .‬ومن أمثلة الخلف بين العلماء في هذه المسألة‬ ‫اختلفهم في الحجّ ‪ ،‬أهو على الفور ‪ ،‬أم على التّراخي ؟ ‪.‬‬

‫ومن أمثلته أيضا ‪ :‬المر بالكفّارات ‪ ،‬والمر بقضاء الصّوم وبقضاء الصّلة ‪ .‬ومحلّ تفصيل‬

‫ما قالوه في ذلك ‪ ،‬مع ما استدلّوا به ‪ ،‬هو الملحق الصوليّ ‪ ،‬ومصطلح ‪ ( :‬أمر ) ‪.‬‬

‫الفور في النّهي ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬النّهي يقتضي الدّوام والعموم عند الكثر من أهل الصول وأهل العربيّة ‪ ،‬فهو للفور ‪.‬‬

‫وقيل ‪ :‬هو كالمر في عدم اقتضائه الدّوام ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الرّخصة ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬ذكر صاحب مسلّم الثّبوت أربعة أقسام لما يطلق عليه اسم الرّخصة ‪ ،‬من حيث كونها‬

‫رخصةً ‪ .‬وذكر أنّ ثاني تلك القسام ‪ ،‬ما تراخى حكم سببه مع بقائه على السّببيّة إلى زوال‬

‫ن سببيّة الشّهر باقية في حقّهما ‪ ،‬حتّى‬ ‫العذر الموجب للرّخصة ‪ ،‬كفطر المسافر والمريض ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬ ‫لو صاما بنيّة الفرض أجزأ ‪ ،‬لما روى البخاريّ ومسلم ‪ « ،‬أ ّ‬

‫قال لحمزة بن عمرو السلميّ إن شئت فصم ‪ ،‬وإن شئت فأفطر » ‪.‬‬

‫وتأخّر الخطاب عنهما في قوله تعالى ‪ { :‬فَمَنْ كانَ ِم ْن ُكمْ مريضَا أو على سَ َفرٍ فَعِدّةٌ من َأيّامٍ ُأخَر‬

‫} والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬رخصة ) ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬معنى ( ثمّ ) ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫ي في أصوله ‪ :‬أنّ المعنى الّذي اختصّت به ( ثمّ ) في أصل الوضع هو ‪:‬‬ ‫‪ -‬أورد السّرخس ّ‬

‫العطف على وجه التّعقيب مع التّراخي ‪ .‬وحكم هذا التّراخي فيه اختلف بين أبي حنيفة‬

‫وصاحبيه ‪ ،‬وتفصيله في الملحق الصوليّ ومصطلح ( طلق ) ‪.‬‬

‫وأثر هذا الخلف يظهر في قول الزّوج لغير المدخول بها ‪ ،‬أو للمدخول بها ‪ ،‬إن دخلت الدّار‬

‫فأنت طالق ثمّ طالق ثمّ طالق ‪ ،‬أو أنت طالق ثمّ طالق ثمّ طالق إن دخلت الدّار ‪ ،‬أي مع تقديم‬ ‫الشّرط أو تأخيره ‪ .‬وتفصيله في الملحق الصوليّ ومصطلح ‪ ( :‬طلق ) ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬مواضعه عند الفقهاء ‪:‬‬

‫ذكر الفقهاء التّراخي وما يترتّب عليه في عدد من العقود والتّصرّفات ‪ ،‬توجز فيما يلي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّراخي في ردّ المغصوب ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬صرّح الشّافعيّة والحنابلة بوجوب ردّ المغصوب فورا من غير تراخ ‪ ،‬إن لم يكن للغاصب‬

‫عذر في التّراخي ‪ ،‬كخوفه على نفسه ‪ ،‬أو ما بيده من مغصوب وغيره ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ « :‬على الي ِد ما أخذتْ حتّى تُؤَدّيه » ولنّه يأثم باستدامته تحت يده لحيلولته بينه وبين‬

‫صاحبه ‪ ،‬فيجب عليه ردّه على الفور بنفسه أو وليّه أو وكيله ‪ ،‬وإن تكلّف عليه أضعاف قيمته‬ ‫‪ ،‬إذ ل تقبل توبته ما دام في يده ‪.‬‬

‫ولم نجد للحنفيّة والمالكيّة نصّا في ذلك ‪ ،‬ولكنّ قواعدهم العامّة في وجوب رفع الظّلم تقتضي‬

‫موافقة الشّافعيّة والحنابلة فيما ذهبوا إليه ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تراخي اليجاب عن القبول في الهبة ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪ -‬ل يجوز عند الشّافعيّة تراخي القبول عن اليجاب في الهبة ‪ ،‬بل يشترط التّصال المعتاد‬

‫كالبيع ‪ .‬وأجاز الحنابلة التّراخي في المجلس إذا لم يتشاغل بما يقطع التّصال ‪.‬‬ ‫ولم يصرّح الحنفيّة والمالكيّة بذلك ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬هبة ) ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّراخي في طلب الشّفعة ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة على القول الظهر ‪ ،‬والحنابلة إلى أنّ طلب الشّفعة بعد العلم بها‬

‫يكون على الفور ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن عمر رضي ال عنه ‪« :‬‬ ‫الشّفعة كحلّ العقال » ‪.‬‬

‫وأجاز المالكيّة طلبها إلى سنة وما قاربها وتسقط بعدها ‪.‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬شفعة )‪.‬‬ ‫د ‪ -‬التّراخي في قبول الوصيّة ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على اشتراط القبول في الوصيّة إن كانت لمعيّن ‪ ،‬ومحلّ القبول بعد موت‬

‫الموصي ‪ .‬ول يشترط فيه الفور عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬فله القبول على الفور أو على‬

‫التّراخي بعد موت الموصي ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬وصيّة ) ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬حكم تراخي القبول عن اليجاب في عقد النّكاح ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى اشتراط ارتباط القبول باليجاب في عقد النّكاح ‪ ،‬حتّى إنّ‬

‫النّوويّ ذكر أنّ القبول في المجلس ل يكفي ‪ ،‬بل يشترط الفور ‪.‬‬

‫إلّ أنّه يغتفر عند المالكيّة التّأخير اليسير ‪ .‬وأمّا الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬فيصحّ عندهم تراخي القبول‬ ‫عن اليجاب في عقد النّكاح ‪ ،‬وإن طال الفصل بينهما ما لم يتفرّقا عن المجلس أو يتشاغل بما‬

‫يقطعه عرفا ‪ ،‬لنّ المجلس له حكم حالة العقد ‪ ،‬بدليل صحّة القبض فيما يشترط لصحّته قبضه‬ ‫في المجلس ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬نكاح ) ‪.‬‬

‫و ‪ -‬التّراخي في خيار العيوب والشّروط في النّكاح ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬نصّ الحنابلة على أنّ خيار العيوب والشّروط في النّكاح على التّراخي ‪ ،‬لنّه لدفع ضرر‬

‫متحقّق ‪ ،‬فيكون على التّراخي ‪ ،‬كخيار أولياء الدّم بين القصاص أو الدّية أو العفو ‪ ،‬فل يسقط‬

‫إلّ أن يوجد ممّن له الخيار دللة على الرّضا ‪ ،‬من قول أو فعل ‪ ،‬من الزّوج إن كان الخيار له‬ ‫‪ ،‬أو من الزّوجة إن كان الخيار لها ‪ ،‬أو يأتي بصريح الرّضا كأن يقول ‪ :‬رضيت بالعيب ‪.‬‬

‫وأمّا عند الشّافعيّة ‪ ،‬فقد نصّ النّوويّ في الرّوضة على ‪ :‬أنّ خيار العيب في النّكاح يكون على‬

‫الفور ‪ ،‬كخيار العيب في البيع ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّ هذا هو المذهب ‪ ،‬وهو الّذي قطع به الجمهور ‪.‬‬

‫ورُوي قولن آخران ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يمتدّ ثلثة أيّام ‪ .‬والثّاني ‪ :‬يبقى إلى أن يوجد صريح الرّضا‬ ‫بالمقام معه أو ما يدلّ عليه ‪ .‬حكاهما الشّيخ أبو عليّ ‪ ،‬وهما ضعيفان ‪.‬‬

‫ول يثبت خيار العيب في النّكاح عند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪ ،‬فقد جاء في الفتاوى الهنديّة ‪:‬‬

‫خيار الرّؤية والعيب والشّرط ‪ -‬سواء جعل الخيار للزّوج أو للزّوجة أو لهما ‪ -‬ثلثة أيّام أو‬

‫ل إذا كان العيب هو الجبّ‬ ‫أقلّ أو أكثر ‪ ،‬حتّى أنّه إذا شرط ذلك فالنّكاح جائز والشّرط باطل ‪ ،‬إ ّ‬

‫والخصاء والعنّة ‪ ،‬فإنّ المرأة بالخيار ‪ .‬وأمّا المالكيّة فقد ذكروا أنّ لكلّ واحد من الزّوجين‬

‫ل أنّهم لم يصرّحوا بكون ذلك على الفور أو على‬ ‫الخيار بشروطه إذا وجد بصاحبه عيبا ‪ ،‬إ ّ‬ ‫التّراخي ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬نكاح ) ‪.‬‬

‫ز ‪ -‬التّراخي في تطليق المرأة نفسها بعد تفويض الطّلق إليها ‪:‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪ -‬إذا فوّض الزّوج الطّلق إلى زوجته ‪ ،‬فإنّ تطليقها نفسها ل يتقيّد بالمجلس عند الحنفيّة‬

‫ن المالكيّة ل فرق عندهم بين كون التّفويض تخييرا أو تمليكا ‪ ،‬فإن‬ ‫والمالكيّة والحنابلة ‪ .‬غير أ ّ‬

‫قيّده بوقت كسنة فليس للزّوجة الخروج عنه ‪ ،‬ويفرّق بينهما بعد التّفويض إلى أن تختار البقاء‬

‫أو الفراق عند المالكيّة ‪.‬‬

‫وأمّا عند الشّافعيّة فإنّ التّفويض يقتضي الفور في الجديد على أنّه تمليك ما لم يعلّقه بشرط ‪.‬‬ ‫( ر ‪ :‬طلق ) ‪ .‬وتفصيل ما لم يذكر هنا من مسائل التّراخي موطنه الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تراضي *‬

‫‪ -‬التّراضي في اللّغة ‪ :‬تفاعل من الرّضا ضدّ السّخط ‪ ،‬والرّضا ‪ :‬هو الرّغبة في الفعل أو‬

‫القول والرتياح إليه ‪ ،‬والتّفاعل يدلّ على الشتراك ‪.‬‬

‫ويستعمله الفقهاء في نفس المعنى ‪ ،‬حينما يتّفق العاقدان على إنشاء العقد دون إكراه أو نحوه ‪،‬‬ ‫فيقولون مثلً ‪ :‬البيع مبادلة المال بالمال بالتّراضي ‪.‬‬

‫ن ِتجَا َر ًة عن تَرَاضٍ منكُم }‪.‬‬ ‫طلِ إلّ أنْ تكو َ‬ ‫وفي الية الكريمة ‪ { :‬ل َت ْأكُلُوا َأ ْموَاَل ُكمْ بينكُمْ بالبَا ِ‬

‫قال القرطبيّ ‪ :‬عن رضا منكم ‪ ،‬وجاءت من المفاعلة ‪ ،‬إذ التّجارة تكون بين طرفين ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الرادة ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الرادة في اللّغة ‪ :‬الطّلب والمشيئة ‪ .‬ويستعملها الفقهاء بمعنى ‪ :‬القصد والتّجاه إلى‬

‫الشّيء ‪ ،‬فهي أعمّ من الرّضا ‪ ،‬فقد يريد المرء شيئا ويرتاح إليه ‪ ،‬فيجتمع الرّضا مع الرادة ‪،‬‬ ‫وقد ل يرتاح إليه ول يحبّه ‪ ،‬فتنفرد الرادة عن الرّضا ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الختيار ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫ل من غيره ‪ ،‬وأصله من الخير ‪ ،‬فالمختار هو المريد لخير‬ ‫‪ -‬الختيار ‪ :‬إرادة الشّيء بد ً‬

‫الشّيئين في الحقيقة ‪ ،‬أو خير الشّيئين عند نفسه ‪ ،‬وقد يتوجّه القصد إلى أمر واحد دون النّظر‬ ‫إلى أمر آخر ‪ ،‬وفي هذه الحالة تنفرد الرادة عن الختيار ‪.‬‬

‫وقد يختار المرء أمرا ل يحبّه ول يرتاح إليه ‪ ،‬فيأتي الختيار بدون الرّضا ‪ ،‬كما يقول الفقهاء‬ ‫شرّين " ‪ ،‬والمكره قد يختار الشّيء ول يرضاه كما يقول الحنفيّة ‪.‬‬ ‫‪ " :‬يختار أهون ال ّ‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬الصل أنّ التّراضي بين الطّرفين يكون قولً باليجاب والقبول ‪ ،‬وقد يكون قولً من‬

‫أحدهما وفعلً من الطّرف الخر ‪ ،‬أو فعلً من الجانبين كما في المعاطاة ‪ ،‬وتفصيله في‬

‫مصطلح ‪ ( :‬عقد ) ‪ .‬وإذا حصل التّراضي بالقول يتمّ بمجرّد اليجاب والقبول عند الحنفيّة‬ ‫والمالكيّة ‪ ،‬فيلزم العقد بذلك ‪ ،‬ويرتفع الخيار ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬تمّام التّراضي ولزومه بافتراق البدان ‪ ،‬فهما على خيارهما أبدا ما‬ ‫خيَارِ ما لم يتفرّقا » ‪.‬‬ ‫لم يتفرّقا بأبدانهما ‪ ،‬كما ورد في الحديث ‪ « :‬ال َبيّعانِ بال ِ‬

‫وقد فسّره الحنفيّة والمالكيّة بافتراق القوال باليجاب والقبول ‪.‬‬

‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬افتراق ‪ ،‬وخيار المجلس ) ‪.‬‬

‫ن التّراضي أساس انعقاد العقود ‪ ،‬واليجاب والقبول أو التّعاطي ونحوهما‬ ‫‪ -5‬هذا ‪ ،‬وحيث إ ّ‬ ‫وسيلة للتّعبير عنه ‪ ،‬ينبغي أن يكون الرّضا الّذي دلّ عليه التّعبير خاليا عن العيوب ‪ ،‬وإلّ‬

‫اختلّ التّراضي ‪ ،‬فيختلّ العقد ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الكراه ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ويختلّ التّراضي بأسباب نذكر منها ما يلي ‪:‬‬

‫‪ -‬وهو حمل النسان على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ‪.‬‬

‫وبما أنّ الكراه يعدم الرّضا ‪ ،‬فإنّ العقد يفسد به عند أكثر الفقهاء ‪ ،‬ويصير قابلً للفسخ عند‬

‫المالكيّة ‪ ،‬وقال بعض الحنفيّة ‪ :‬يتوقّف حكمه على إجازة المكره بعد زوال الكراه ‪ ،‬وتفصيله‬ ‫في مصطلح ‪ ( :‬إكراه ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الهزل ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬وهو ضدّ الجدّ ‪ ،‬بأن يراد بالشّيء ما لم يوضع له ‪ ،‬ول ما صحّ له اللّفظ استعار ًة ‪.‬‬

‫والهازل يتكلّم بصيغة العقد باختياره ‪ ،‬لكن ل يختار ثبوت الحكم ول يرضاه ‪ ،‬ولهذا ل تنعقد به‬

‫العقود الماليّة عند أكثر الفقهاء ‪ ،‬وله آثاره في بعض التّصرّفات كالزّواج والطّلق والرّجعة‬ ‫( ر ‪ :‬هزل ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬المواضعة أو التّلجئة ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬وهي أن يتظاهر العاقدان بإنشاء عقد صوريّ للخوف من ظالم ونحوه ‪ ،‬ول يريدانه في‬

‫الواقع ‪ ،‬والعقد بهذه الصّورة ‪ :‬فاسد ‪ ،‬أو باطل ‪ ،‬أو جائز ‪ ،‬على خلف وتفصيل موضعه‬

‫مصطلح ‪ ( :‬مواضعة وتلجئة ) ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬التّغرير ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬هو إيقاع الشّخص في الغرر ‪ ،‬أي ‪ :‬الخطر ‪ ،‬كأن يوصف المبيع للمشتري بغير صفته‬

‫الحقيقيّة لترغيبه في العقد ‪ .‬فإذا غرّ أحد العاقدين الخر ‪ ،‬وتحقّق أنّ في البيع غبنا فاحشا‬ ‫فللمغبون أن يفسخ العقد على تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬غبن وتغرير ) ‪.‬‬

‫وهناك أسباب أخرى يختلّ بها التّراضي كالغلط والتّدليس والجهل والنّسيان ونحوها ‪ ،‬وتفصيل‬ ‫القول في كلّ منها في مصطلحاتها ‪.‬‬

‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬يتكلّم الفقهاء عن التّراضي في ‪ :‬إنشاء العقود ‪ ،‬ول سيّما في تعريف البيع ‪ ،‬وفي‬

‫القالة ‪ ،‬وفي موافقة الزّوجين على مقدار الصّداق بعد العقد ‪ ،‬أو الزّيادة أو النّقصان فيه في‬

‫بحث المهر ‪ ،‬وفي الخلع ‪ ،‬والصّلح ‪ ،‬واتّفاق البوين على فطام المولود لقلّ من سنتين في‬ ‫بحث الرّضاع ‪.‬‬

‫وتفصيل ما يتّصل بالتّراضي من طرفين أو طرف واحد موطنه مصطلح ‪ ( :‬رضا ) ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬صلة التّراويح ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬عدّة ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تراويح *‬ ‫تربّص *‬ ‫تربّع *‬

‫‪ -‬التّربّع في اللّغة ‪ :‬ضرب من الجلوس ‪ ،‬وهو خلف الجثوّ والقعاء ‪.‬‬

‫وكيفيّته ‪ :‬أن يقعد الشّخص على وركيه ‪ ،‬ويمدّ ركبته اليمنى إلى جانب يمينه ‪ ،‬وقدمه اليمنى‬

‫إلى جانب يساره ‪ .‬واليسرى بعكس ذلك ‪ .‬واستعمله الفقهاء بهذا المعنى ‪.‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬التّربّع ‪ :‬غير الحتباء ‪ :‬والفتراش ‪ ،‬والِفضاء ‪ ،‬والِقعاء ‪ ،‬والتّورّك ‪.‬‬

‫فالحتباء ‪ :‬أن يجلس على أليتيه ‪ ،‬رافعا ركبتيه محتويا عليهما بيديه أو غيرهما ‪ .‬والفتراش ‪:‬‬ ‫أن يثني رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها ‪ ،‬وينصب قدمه اليمنى ويخرجها من تحته ‪،‬‬

‫ويجعل بطون أصابعه على الرض معتمدا عليها لتكون أطراف أصابعها إلى القبلة ‪.‬‬

‫والفضاء في الجلوس في الصّلة هو ‪ :‬أن يلصق أليته بالرض ‪ ،‬وينصب رجله اليمنى‬ ‫وظاهر إبهامها ممّا يلي الرض ‪ ،‬ويثني رجله اليسرى ‪.‬‬

‫والقعاء ‪ :‬أن يلصق أليتيه بالرض ‪ ،‬وينصب ساقيه ‪ ،‬ويضع يديه على الرض ‪.‬‬

‫أو أن يجعل أليتيه على عقبيه ‪ ،‬ويضع يديه على الرض ‪.‬‬

‫وفي نصّ الشّافعيّة ‪ :‬القعاء المكروه ‪ :‬أن يجلس الشّخص على وركيه ناصبا ركبتيه ‪.‬‬ ‫والتّورّك ‪ :‬أن ينصب اليمنى ويثني رجله اليسرى ‪ ،‬ويقعد على الرض ‪.‬‬ ‫ولتمام الفائدة تنظر هذه اللفاظ في مصطلحاتها ‪.‬‬

‫حكم التّربّع ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬التّربّع في الفريضة لعذر ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫أوّلً ‪ -‬التّربّع في الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬أجمع أهل العلم على أنّ من ل يطيق القيام ‪ ،‬له أن يصلّي جالسا ‪ ،‬وقد « قال النّبيّ صلى‬

‫ال عليه وسلم لعمران بن حصين رضي ال عنه ‪ :‬صلّ قائما ‪ ،‬فإِن لم تستطع فقاعدا ‪ ،‬فإِن لم‬

‫جنْب » وفي رواية ‪ « :‬فإن لم تستطع فمستلقيا » ‪.‬‬ ‫تستطع فعلى َ‬

‫سعَها } ‪.‬‬ ‫ن الطّاعة بحسب القدرة لقول اللّه تعالى ‪ { :‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ نَ ْفسَا إلّ ُو ْ‬ ‫ول ّ‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬واختلفوا في هيئة الجلوس إذا عجز المصلّي عن القيام كيف يقعد ؟‬

‫فذهب المالكيّة في المشهور عندهم ‪ ،‬والشّافعيّة في قول ‪ ،‬والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه إذا قعد المعذور‬

‫يندب له أن يجلس متربّعا ‪ ،‬وهو رواية عن أبي يوسف ‪.‬‬

‫ويرى أبو حنيفة ‪ -‬في رواية محمّد عنه وهي ما صحّحها العينيّ ‪ -‬أنّ المعذور إذا افتتح‬

‫الصّلة يجلس كيفما شاء ‪ ،‬لنّ عذر المرض يسقط الركان عنه ‪ ،‬فلن يسقط عنه الهيئات‬ ‫أولى ‪.‬‬

‫وروى الحسن عن أبي حنيفة ‪ :‬أنّه يتربّع ‪ ،‬وإذا ركع يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها ‪.‬‬

‫ويرى الشّافعيّة في الظهر من القولين ‪ -‬وهو قول زفر من الحنفيّة ‪ -‬أنّه يقعد مفترشا ‪.‬‬

‫ن المعذور يجلس كما يجلس للتّشهّد ‪.‬‬ ‫وذهب المالكيّة في قول ‪ -‬وهو ما اختاره المتأخّرون ‪ -‬أ ّ‬

‫وهناك تفاصيل فيمن له أن يصلّي جالسا ‪ ،‬وفي هيئة الّذي ل يقدر على الجلوس ول على القيام‬ ‫تنظر في مصطلحات ‪ ( :‬صلة المريض ‪ ،‬عذر ‪ ،‬وقيام ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّربّع في الفريضة بغير عذر ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬التّربّع مخالف للهيئة المشروعة في الفريضة في التّشهّدين جميعا ‪.‬‬

‫وقد صرّح الحنفيّة بكراهة التّربّع من غير عذر ‪ ،‬لما روي أنّ عبد اللّه بن عمر رضي ال‬

‫عنهما رأى ابنه يتربّع في صلته ‪ ،‬فنهاه عن ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬رأيتك تفعله يا أبت ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنّ‬

‫رجليّ ل تحملني ‪ .‬ولنّ الجلوس على الرّكبتين أقرب إلى الخشوع ‪ ،‬فكان أولى ‪.‬‬

‫وهذا ما يفهم من عبارات المالكيّة أيضا ‪ ،‬لنّهم يعدّون الفضاء في الجلوس من مندوبات‬ ‫الصّلة ‪ ،‬ويعتبرون ترك سنّة خفيفة عمدا من سنن الصّلة مكروها ‪.‬‬

‫ويسنّ عند الشّافعيّة في قعود آخر الصّلة التّورّك ‪ ،‬وفي أثنائها الفتراش ‪.‬‬

‫ويقول الحنابلة بس ّنيّة الفتراش في التّشهّد الوّل ‪ ،‬والتّورّك في التّشهّد الثّاني ‪.‬‬

‫ونقل ابن عبد البرّ إجماع العلماء على عدم جواز التّربّع للصّحيح في الفريضة ‪.‬‬

‫وقال ابن حجر العسقلنيّ ‪ :‬لعلّ المراد بكلم ابن عبد البرّ بنفي الجواز إثبات الكراهة ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّربّع في صلة التّطوّع ‪:‬‬

‫‪ - 6‬ل خلف في جواز التّطوّع قاعدا مع القدرة على القيام ‪ ،‬ول في أنّ القيام أفضل ‪ ،‬لقول‬ ‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من صلّى قائما فهو أفضل ‪ ،‬ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر‬ ‫القائم » وقالت عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬إنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يمت حتّى كان‬

‫كثير من صلته وهو جالس » ‪.‬‬

‫‪ -7‬أمّا كيفيّة القعود في التّطوّع فقد اختلف فيها ‪:‬‬

‫فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول ‪ -‬وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد ‪ -‬إلى أنّه‬

‫يستحبّ للمتطوّع جالسا أن يكبّر للحرام متربّعا ويقرأ ‪ ،‬ثمّ يغيّر هيئته للرّكوع أو السّجود على‬

‫اختلف بينهم ‪ ،‬وروي ذلك عن ابن عمر وأنس رضي ال عنهم ‪ .‬كما روي عن ابن سيرين‬ ‫ي وإسحاق رحمهم ال ‪.‬‬ ‫ومجاهد وسعيد بن جبير والثّور ّ‬

‫ويرى أبو حنيفة ومحمّد ‪ -‬فيما نقله الكرخيّ عنه ‪ -‬تخيير المتطوّع في حالة القراءة بين القعود‬ ‫والتّربّع والحتباء ‪.‬‬

‫وعن أبي يوسف أنّه يحتبي ‪ ،‬هذا ما اختاره المام خواهر زاده ‪ ،‬لنّ عامّة صلة رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم في آخر العمر كان محتبيا ‪،‬ولنّه يكون أكثر توجّها بأعضائه إلى القبلة‪.‬‬ ‫وقال زفر ‪ :‬يقعد في جميع الصّلة كما في التّشهّد ‪ ،‬هذا ما اختاره السّرخسيّ ‪.‬‬

‫وقال الفقيه أبو اللّيث ‪ :‬وعليه الفتوى لنّه المعهود شرعا في الصّلة ‪.‬‬ ‫وقال الشّافعيّة في أصحّ القوال ‪ :‬إنّ المتطوّع يقعد مفترشا ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ -‬التّربّع عند تلوة القرآن ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬ل بأس بقراءة القرآن في كلّ حال ‪ :‬قائما أو جالسا ‪ ،‬متربّعا أو غير متربّع ‪ ،‬أو مضطجعا‬

‫أو راكبا أو ماشيا ‪ ،‬لحديث « عائشة قالت ‪ :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يتّكئ في حجري‬

‫وأنا حائض ثمّ يقرأ القرآن » وعنها قالت ‪ " :‬إنّي لقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري " ‪.‬‬

‫ترتيب *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّرتيب في اللّغة ‪ :‬جعل كلّ شيء في مرتبته ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬هو جعل الشياء الكثيرة‬

‫بحيث يطلق عليها اسم الواحد ‪ ،‬ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتّقدّم والتّأخّر ‪.‬‬ ‫التّتابع والموالة ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّتابع ‪ :‬مصدر تتابع ‪ ،‬يقال ‪ :‬تتابعت الشياء والمطار والمور ‪ ،‬إذا جاء واحد منها‬

‫خلف واحد على أثره بشرط عدم القطع ‪.‬‬

‫وفسّر الفقهاء التّتابع في الصّيام ‪ :‬بأن ل يفطر المرء في أيّام الصّيام ‪ .‬وعلى ذلك ‪ ،‬فالتّتابع‬

‫والموالة متقاربان في المعنى ‪ ،‬إلّ أنّ الفقهاء يستعملون التّتابع غالبا في العتكاف وكفّارة‬

‫الصّيام ونحوهما ‪ ،‬ويستعملون الموالة غالبا في الطّهارة من الوضوء والتّيمّم والغسل ‪.‬‬

‫ويختلف التّرتيب عن التّتابع والموالة في أنّ التّرتيب يكون لبعض الجزاء نسبة إلى البعض‬

‫بالتّقدّم والتّأخّر ‪ ،‬بخلف التّتابع والموالة ‪ ،‬ومن جهة أخرى فإنّ التّتابع والموالة يشترط فيهما‬ ‫عدم القطع والتّفريق ‪ ،‬فيضرّهما التّراخي ‪ ،‬بخلف التّرتيب ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّرتيب إنّما يكون بين أشياء مختلفة كالعضاء في الوضوء ‪ ،‬والجمرات الثّلث ‪ ،‬فإن‬

‫اتّحد المحلّ ولم يتعدّد فل معنى للتّرتيب كما يقول الزّركشيّ ‪ ،‬ومن ثمّ لم يجب التّرتيب في‬

‫الغسل ‪ ،‬لنّه فرض يتعلّق بجميع البدن ‪ ،‬تستوي فيه العضاء كلّها ‪ .‬وكذلك الرّكوع الواحد‬ ‫والسّجود الواحد ل يظهر فيه أثر التّرتيب ‪ ،‬فإذا اجتمع الرّكوع والسّجود ظهر أثره ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬وقد بيّن الفقهاء حكم وأه ّميّة التّرتيب في مباحث العبادات من ‪ :‬الطّهارة ‪ ،‬وأركان‬ ‫الصّلة ‪ ،‬ونسك الحجّ ‪ ،‬والكفّارات في النّذور واليمان ونحوها ‪.‬‬

‫واتّفقوا على فرضيّة التّرتيب في بعض العبادات ‪ ،‬كالتّرتيب في أركان الصّلة من القيام‬ ‫والرّكوع والسّجود ‪ ،‬واختلفوا في بعضها ‪ ،‬نذكر منها ما يلي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّرتيب في الوضوء ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّرتيب في أعمال الوضوء فرض عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لنّها وردت في الية مرتّبةً ‪،‬‬

‫سحُوا‬ ‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬إذا ُقمْتم إلى الصّل ِة فاغْسِلُوا وجُوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وام َ‬

‫برءوسِكم وأرجلَكم إلى ال َك ْعبَين } لنّ إدخال الممسوح " أي الرّأس " بين المغسولت " أي‬

‫اليدي والرجل " قرينة على أنّه أريد به التّرتيب ‪ ،‬فالعرب ل تقطع النّظير عن النّظير إلّ‬ ‫لفائدة ‪ ،‬والفائدة هاهنا التّرتيب ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم وجوب التّرتيب في الوضوء ‪ ،‬بل هو سنّة عندهم ‪ ،‬لنّ اللّه‬

‫تعالى أمر بغسل العضاء ‪ ،‬وعطف بعضها على بعض بواو الجمع ‪ ،‬وهي ل تقتضي التّرتيب‬ ‫ي أعضائي بدأت "‪ .‬والتّرتيب‬ ‫‪ .‬وروي عن ابن مسعود رضي ال عنه أنّه قال ‪ ":‬ما أبالي بأ ّ‬

‫إنّما يكون في عضوين مختلفين ‪ ،‬فإن كانا في حكم العضو الواحد لم يجب ‪ ،‬ولهذا ل يجب‬ ‫التّرتيب بين اليمنى واليسرى في الوضوء اتّفاقا ‪.‬‬

‫ن « النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يحبّ التّيامن » ‪.‬‬ ‫ولكن يسنّ ‪ ،‬ل ّ‬

‫ب ‪ -‬التّرتيب في قضاء الفوائت ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة قالوا بوجوب التّرتيب بين الصّلوات الفائتة ‪،‬‬

‫وبينها وبين الصّلة الوقتيّة إذا اتّسع الوقت ‪ .‬فمن فاتته صلة أو صلوات وهو في وقت‬

‫أخرى ‪ ،‬فعليه أن يبدأ بقضاء الفوائت مرتّبةً ‪ ،‬ثمّ يؤدّي الصّلة الوقتيّة ‪ ،‬إلّ إذا كان الوقت‬

‫ضيّقا ل يتّسع لكثر من الحاضرة فيقدّمها ‪ ،‬ثمّ يقضي الفوائت على التّرتيب ‪.‬‬

‫ن المالكيّة يقولون بوجوب التّرتيب في قضاء يسير الفوائت مع صلة حاضرة ‪ ،‬وإن‬ ‫على أ ّ‬

‫ن ترتيب الفوائت ‪ ،‬كأن يقضي الصّبح قبل‬ ‫خرج وقتها ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬ل يجب ذلك ‪ ،‬بل يس ّ‬

‫الظّهر ‪ ،‬والظّهر قبل العصر ‪ .‬وكذلك يسنّ تقديم الفوائت على الحاضرة محاكاةً للداء ‪ ،‬فإن‬

‫خاف فوت الحاضرة بدأ بها وجوبا لئلّ تصير فائتةً ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬ويسقط التّرتيب عند الحنفيّة والحنابلة بالنّسيان ‪ ،‬وخوف فوت الوقتيّة ‪ ،‬وزاد الحنفيّة‬

‫مسقطا آخر هو زيادة الفوائت على خمس ‪.‬‬

‫وفي المسألة خلف وتفصيل يرجع إليه في ( قضاء الفوائت ) ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّرتيب في صفوف الصّلة ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬صرّح الفقهاء بأنّه ‪ :‬لو اجتمع الرّجال والنّساء والصّبيان ‪ ،‬فأرادوا أن يصطفّوا لصلة‬

‫الجماعة ‪ ،‬يقوم الرّجال صفّا ممّا يلي المام ‪ ،‬ث ّم الصّبيان بعدهم ثمّ الناث ‪.‬‬

‫وإذا تقدّمت النّساء على الرّجال فسدت صلة من وراءهنّ من صفوف الرّجال عند الحنفيّة ‪،‬‬

‫خلفا لجمهور الفقهاء حيث صرّحوا بكراهة الصّلة حينئذ دون الفساد ‪ ،‬كما هو مفصّل في‬

‫مصطلح ‪ ( :‬اقتداء ‪ ،‬صلة الجماعة ) ‪.‬‬

‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫يرد ذكر التّرتيب عند الفقهاء ‪ -‬إضاف ًة إلى ما سبق ‪ -‬في مواضع مختلفة منها ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬التّرتيب في الجنائز ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬إذا كانت أكثر من واحدة ‪ ،‬فإذا اجتمعت جنائز الرّجال والنّساء والصّبيان حين الصّلة‬

‫ف النّساء ‪ ،‬وكذلك‬ ‫ف الصّبيان ‪ ،‬ثمّ ص ّ‬ ‫عليها ‪ ،‬فإنّه يصفّ الرّجال ممّا يلي المام ‪ ،‬ثمّ ص ّ‬

‫التّرتيب في وضع الموات في قبر واحد ‪ ،‬ويفصّل الفقهاء هذه المسائل في أبواب الجنائز ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّرتيب في الحجّ ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪ -‬التّرتيب في أعمال الحجّ وما يترتّب على الخلل به ‪ ،‬فصّله الفقهاء في كتاب الحجّ ‪.‬‬

‫( ر ‪ :‬إحرام ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬الدّيون ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪ -‬التّرتيب في قضاء الدّيون ‪ ،‬وما يجب تقديمه منها على غيره ‪ ،‬وما يتعلّق بحقوق العباد ‪،‬‬

‫فصّله الفقهاء في باب الرّهن والنّفقة والكفّارة وغيرها ( ر ‪ :‬دين ) ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬أدلّة الثبات ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬التّرتيب في أدلّة الثبات من القرار والشّهادة والقرائن ونحوها يذكره الفقهاء في كتاب‬

‫الدّعوى ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬النّكاح ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ -‬ترتيب الولياء في النّكاح وحقّ القصاص وسائر الحقوق كالرث والحضانة وغيرهما‬

‫مذكور في أبوابها من كتب الفقه ‪ ،‬وتفصيله في مصطلحاتها ‪.‬‬

‫و ‪ -‬الكفّارات ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬التّرتيب بين أنواع الكفّارات في اليمان والنّذور وغيرها أورده الفقهاء في باب الكفّارة ‪.‬‬

‫وتفصيل هذه المسائل يرجع إليه في مصطلحاتها ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تلوة ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترتيل *‬ ‫ترجمة *‬

‫‪ -‬التّرجمة ‪ :‬مصدر ترجم ‪ ،‬يقال ‪ :‬ترجم كلمه ‪ :‬إذا بيّنه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬ترجم كلم غيره ‪ :‬إذا‬

‫عبّر عنه بلسانٍ آخر ‪ .‬ومنه التّرجِمان ‪ ،‬والتّرجُمان ‪ ،‬والتُرجُمان ‪.‬‬ ‫ول يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّرجمة عن المعنى الثّاني ‪.‬‬ ‫التّفسير ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّفسير مصدر فسّر ‪ ،‬وهو في اللّغة بمعنى ‪ :‬البيان والكشف والظهار ‪.‬‬

‫وفي الشّرع ‪ :‬توضيح معنى الية ( أي ونحوها ) وشأنها ‪ ،‬وقصّتها ‪ ،‬والسّبب الّذي نزلت فيه‬

‫بلفظ يدلّ عليه دللة ظاهرة ‪ .‬فالتّرجمة تكون بلغة مغايرة ‪ ،‬وعلى قدر الكلم المترجم ‪ ،‬دون‬

‫زيادة أو نقص ‪ ،‬بخلف التّفسير فقد يطول ويتناول الدّللت التّابعة للّفظ ‪.‬‬

‫ترجمة القرآن الكريم وأنواعها ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬قال الشّاطبيّ ‪ :‬للّغة العربيّة ‪ -‬من حيث هي ألفاظ دالّة على معان ‪ -‬نظران ‪ :‬أحدهما ‪:‬‬

‫من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقةً دالّةً على معان مطلّقة ‪ ،‬وهي الدّللة الصليّة ‪ .‬والثّاني‬

‫‪ :‬من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيّدةً ‪ ،‬دالّةً على معان خادمة ‪ ،‬وهي الدّللة التّابعة ‪ .‬فالجهة‬

‫الولى ‪ :‬هي الّتي يشترك فيها جميع اللسنة ‪ ،‬وإليها تنتهي مقاصد المتكلّمين ‪ ،‬ول تختصّ‬

‫بأمّة دون أخرى ‪ ،‬فإنّه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلً كالقيام ‪ ،‬ثمّ أراد كلّ صاحب لسان‬ ‫الخبار عن زيد بالقيام ‪ ،‬تأتّى له ما أراد من غير كلفة ‪.‬‬

‫ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الخبار عن أقوال الوّلين ‪ -‬ممّن ليسوا من أهل اللّغة‬

‫العربيّة ‪ -‬وحكاية كلمهم ‪ .‬ويتأتّى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والخبار عنها ‪ ،‬وهذا‬ ‫ل إشكال فيه ‪.‬‬

‫وأمّا الجهة الثّانية ‪ :‬فهي الّتي يختصّ بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الخبار ‪ ،‬فإنّ كلّ‬

‫خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادم ًة لذلك الخبار ‪ ،‬بحسب المخبر ‪ ،‬والمخبر عنه ‪،‬‬

‫والمخبر به ‪ ،‬ونفس الخبار ‪ ،‬في الحال والمساق ‪ ،‬ونوع السلوب ‪ :‬من اليضاح والخفاء ‪،‬‬ ‫واليجاز ‪ ،‬والطناب ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬

‫وذلك أنّك تقول في ابتداء الخبار ‪ :‬قام زيد إن لم تكن ثمّ عناية بالمخبر عنه ‪ ،‬بل بالخبر ‪ .‬فإن‬

‫كانت العناية بالمخبر عنه قلت ‪ :‬زيد قام ‪ .‬وفي جواب السّؤال أو ما هو منزّل تلك المنزلة ‪:‬‬

‫ن زيدا قام ‪ .‬وفي جواب المنكر لقيامه ‪ :‬واللّه إنّ زيدا قام ‪ .‬وفي إخبار من يتوقّع قيامه ‪ ،‬أو‬ ‫إّ‬

‫الخبار بقيامه ‪ :‬قد قام زيد ‪ ،‬أو زيد قد قام ‪ .‬وفي التّنكيت على من ينكر ‪ :‬إنّما قام زيد ‪ .‬ثمّ‬

‫يتنوّع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره ‪ -‬أعني المخبر عنه ‪ -‬وبحسب الكناية عنه والتّصريح‬ ‫به ‪ ،‬وبحسب ما يقصد في مساق الخبار ‪ ،‬وما يعطيه مقتضى الحال ‪ ،‬إلى غير ذلك من‬

‫المور الّتي ل يمكن حصرها ‪ ،‬وجميع ذلك دائر حول الخبار بالقيام عن زيد ‪ .‬فمثل هذه‬

‫التّصرّفات الّتي يختلف معنى الكلم الواحد بحسبها ‪ ،‬ليست هي المقصود الصليّ ‪ ،‬ولكنّها من‬

‫مكمّلته ومتمّماته ‪ .‬وبطول الباع في هذا النّوع يحسن مساق الكلم إذا لم يكن فيه منكر ‪.‬‬

‫وبهذا النّوع الثّاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن ‪ ،‬لنّه يأتي مساق القصّة في‬

‫بعض السّور على وجه ‪ ،‬وفي بعضها على وجه آخر ‪ ،‬وفي ثالثة على وجه ثالث ‪ ،‬وهكذا ما‬

‫تقرّر فيه من الخبارات ل بحسب النّوع الوّل ‪ ،‬إلّ إذا سكت عن بعض التّفاصيل في بعض ‪،‬‬ ‫سيّا } وإذا‬ ‫ونصّ عليه في بعض ‪ .‬وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت ‪ { .‬وما كان ربّك َن ِ‬

‫ثبت هذا فل يمكن لمن اعتبر هذا الوجه الخير أن يترجم كلما من الكلم العربيّ بكلم العجم‬ ‫على حال ‪ ،‬فضلً عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربيّ ‪ ،‬إلّ مع فرض استواء‬

‫اللّسانين في اعتباره عينا ‪ ،‬كما إذا استوى اللّسان في استعمال ما تقدّم تمثيله ونحوه ‪.‬‬

‫فإذا ثبت ذلك في اللّسان المنقول إليه مع لسان العرب ‪ ،‬أمكن أن يترجم أحدهما إلى الخر ‪.‬‬ ‫وإثبات مثل هذا بوجه بيّن عسير جدّا ‪ .‬وربّما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من‬

‫القدماء ‪ ،‬ومن حذا حذوهم من المتأخّرين ‪ ،‬ولكنّه غير كاف ول مغن في هذا المقام ‪.‬‬

‫وقد نفى ابن قتيبة إمكان التّرجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثّاني ‪ ،‬فأمّا على الوجه‬

‫ح تفسير القرآن وبيان معناه للعامّة ومن ليس له فهم يقوى‬ ‫الوّل فهو ممكن ‪ ،‬ومن جهته ص ّ‬

‫على تحصيل معانيه ‪ ،‬وكان ذلك جائزا باتّفاق أهل السلم ‪ ،‬فصار هذا التّفاق حجّ ًة في صحّة‬

‫التّرجمة على المعنى الصليّ ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬هذا وتنقسم التّرجمة إلى نوعين ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّرجمة الحرفيّة ‪ :‬وهي النّقل من لغة إلى أخرى ‪ ،‬مع التزام الصّورة اللّفظيّة للكلمة ‪ ،‬أو‬

‫ترتيب العبارة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّرجمة لمعاني الكلم ‪ :‬وهي تعبير بألفاظ تبيّن معاني الكلم وأغراضه ‪ ،‬وتكون بمنزلة‬ ‫التّفسير ‪.‬‬

‫ما يتعلّق بالتّرجمة من أحكام ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬كتابة القرآن بغير العربيّة وهل تسمّى قرآنا ؟‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬ذهب بعض الحنفيّة إلى جواز كتابة آية أو آيتين بحروف غير عربيّة ‪ ،‬ل كتابته كلّه ‪،‬‬

‫ل حرف وترجمته جائز عندهم ‪.‬‬ ‫لكن كتابة القرآن بالعربيّة وتفسير ك ّ‬

‫ن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من‬ ‫لما روي عن سلمان الفارسيّ رضي ال عنه أ ّ‬ ‫القرآن ‪ ،‬فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسيّة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬قراءة القرآن بغير العربيّة ‪:‬‬

‫ونظر الفقهاء في ذلك على اختلف آرائهم متوجّه إلى عدم الخلل بحفظ القرآن ‪ ،‬وأن ل‬

‫تكون مؤدّيةً إلى التّهاون بأمره ‪ ،‬ولكنّها ل تسمّى قرآنا على أيّ وجه كانت ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬واختلف الفقهاء في جواز القراءة في الصّلة بغير العربيّة ‪.‬‬

‫فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه ل يجوز القراءة بغير العربيّة ‪ ،‬سواء أحسن قراءتها‬

‫بالعربيّة أم لم يحسن ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬فَا ْقرَءُوا مَا َت َيسّر مِنَ القرآنِ } أمر بقراءة القرآن في‬

‫عرَبيّا }‬ ‫الصّلة ‪ ،‬والقرآن هو المنزّل بلغة العرب ‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى ‪ِ { :‬إنّا أ ْنزَ ْلنَاه قًرآنَا َ‬ ‫ع َر ِبيّ ُمبِينٍ } ولنّ ترجمة القرآن من قبيل التّفسير ‪ ،‬وليست قرآنا ‪ ،‬لنّ‬ ‫وقال أيضا ‪ { :‬بِِلسَانٍ َ‬

‫القرآن هو اللّفظ العربيّ المنزّل على سيّدنا محمّد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فالقرآن دليل النّبوّة‬

‫وعلمة الرّسالة ‪ ،‬وهو المعجز بلفظه ومعناه ‪ ،‬والعجاز من حيث اللّفظ يزول بزوال النّظم‬

‫العربيّ ‪ ،‬فل تكون التّرجمة قرآنا لنعدام العجاز ‪ ،‬ولذا لم تحرم قراءة التّرجمة على الجنب‬ ‫والحائض ‪ ،‬ول يحنث بها من حلف ل يقرأ القرآن ‪.‬‬

‫وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى أنّ المصلّي إن كان يحسن العربيّة ل يجوز أن يقرأ القرآن‬

‫بغيرها ‪ ،‬وإن كان ل يحسن يجوز ‪ .‬وقد ثبت رجوع أبي حنيفة إلى قولهما لقوّة دليلهما وهو ‪:‬‬ ‫ن المأمور به قراءة القرآن ‪ ،‬وهو اسم للمنزّل باللّفظ العربيّ المنظوم هذا النّظم الخاصّ‬ ‫أّ‬

‫المكتوب في المصاحف ‪ ،‬المنقول إلينا نقلً متواترا ‪.‬‬

‫والعجميّة إنّما تسمّى قرآنا مجازا ‪ ،‬ولذا يصحّ نفي اسم القرآن على المترجم إليها ‪.‬‬

‫وذهب أبو حنيفة في المشهور من قوله إلى جواز القراءة بالفارسيّة ‪ -‬فيما يمكن ترجمته حرفيّا‬ ‫‪ -‬كما يجوز بالعربيّة ‪ ،‬سواء أكان يحسن العربيّة أم ل يحسن ‪ ،‬فتجب لنّها اعتبرت خلفا عن‬

‫النّظم العربيّ ‪ ،‬وليس لكونها قرآنا ‪ ،‬فهي حينئذ رخصة عنده ‪.‬‬

‫سنّة المتوارثة ‪.‬‬ ‫غير أنّه إن كان يحسن العربيّة يصير مسيئا لمخالفته ال ّ‬

‫وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي صاحبيه كما سبق ‪ .‬ثمّ الجواز على قول أبي حنيفة ‪ -‬المرجوع‬ ‫عنه ‪ -‬مقصور على قراءة من ل يكون متّهما بالعبث بالقرآن ‪ ،‬وأن ل يكون معتادا لقراءة‬

‫القرآن بالعجميّة ‪ ،‬أمّا اعتياد القراءة بالعجميّة فممنوع مطلقا ‪.‬‬

‫ت ‪ -‬مسّ المحْدِث التّرجمة وحملها وقراءتها ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة في الصحّ عندهم إلى أنّه ل يجوز للحائض قراءة القرآن بقصد القراءة ول‬

‫مسّه ‪ ،‬ولو مكتوبا بغير العربيّة ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬يجوز ‪ ،‬وقال ابن عابدين نقلً عن البحر ‪:‬‬

‫وهذا أقرب إلى القياس ‪ ،‬والمنع أقرب إلى التّعظيم ‪ ،‬والصّحيح المنع ‪.‬‬

‫والمتبادر من أقوال المالكيّة ‪ ،‬وهو ما صرّح به الحنابلة ‪ :‬جواز مسّ كتب التّفسير مطلقا ‪ ،‬قلّ‬

‫التّفسير أو كثر ‪ ،‬لنّه ل يقع عليها اسم المصحف ‪ ،‬ول تثبت لها حرمته ‪.‬‬

‫ويرى الشّافعيّة حرمة حمل التّفسير ومسّه ‪ ،‬إذا كان القرآن أكثر من التّفسير ‪ ،‬وكذلك إن‬

‫تساويا على الصحّ ‪ ،‬ويحلّ إذا كان التّفسير أكثر على الصحّ ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬يحرم لخلله‬ ‫بالتّعظيم ‪ .‬والتّرجمة من قبيل التّفسير ‪.‬‬

‫ث ‪ -‬ترجمة الذان ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪ -‬لو أذّن بالفارسيّة أو بلغة أخرى غير العربيّة ‪ ،‬فالصّحيح عند الحنفيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه ل‬

‫يصحّ ‪ ،‬ولو علم أنّه أذان ‪.‬‬

‫وهو المتبادر من كلم المالكيّة ‪ ،‬لنّهم يشترطون في الذان ‪ :‬أن يكون باللفاظ المشروعة ‪.‬‬

‫وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلم فيه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إن كان يؤذّن لجماعة ‪ ،‬وفيهم من يحسن العربيّة‬

‫‪ ،‬لم يجزئ الذان بغيرها ‪ ،‬ويجزئ إن لم يوجد من يحسنها ‪ .‬وإن كان يؤذّن لنفسه ‪ ،‬فإن كان‬

‫يحسن العربيّة ل يجزئه الذان بغيرها ‪ ،‬وإن كان ل يحسنها أجزأه ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬ترجمة التّكبير والتّشهّد وخطبة الجمعة وأذكار الصّلة ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬لو كبّر المصلّي بغير العربيّة ‪ ،‬فذهب أبو حنيفة إلى جوازه مطلقا ‪ ،‬عجز عن العربيّة أم‬

‫لم يعجز ‪ ،‬واحتجّ في ذلك بقوله تعالى ‪َ { :‬و َذ َكرَ اسمَ َربّه َفصَلّى } ‪ ،‬وقياسا على إسلم الكافر‬ ‫‪ .‬وشرط أبو يوسف ومحمّد عجز الشّخص عن العربيّة ‪.‬‬

‫وعلى هذا الخلف ‪ :‬الخطبة وأذكار الصّلة ‪ ،‬كما لو سبّح بالفارسيّة في الصّلة ‪ ،‬أو أثنى على‬

‫ي صلى ال عليه وسلم يصحّ‬ ‫اللّه تعالى ‪ ،‬أو تعوّذ ‪ ،‬أو هلّل ‪ ،‬أو تشهّد ‪ ،‬أو صلّى على النّب ّ‬ ‫عنده ‪ ،‬وأمّا أبو يوسف ومحمّد فشرطا العجز ‪.‬‬

‫وذكر ابن عابدين نقلً عن شرح الطّحاويّ ‪ :‬أنّه لو كبّر الشّخص بالفارسيّة ‪ ،‬أو سمّى عند‬

‫الذّبح ‪ ،‬أو لبّى عند الحرام بالفارسيّة أو بأيّ لسان ‪ ،‬سواء أكان يحسن العربيّة أم ل ‪ ،‬جاز‬

‫ن الصّاحبين رجعا إلى قول المام في جواز التّكبير‬ ‫بالتّفاق بين المام وصاحبيه ‪ ،‬وهذا يعني أ ّ‬ ‫ل عند‬ ‫ن أبا حنيفة رجع إلى قولهما في عدم جواز القراءة بالعجميّة إ ّ‬ ‫والذكار مطلقا ‪ ،‬كما أ ّ‬

‫العجز ‪ .‬ويرى المالكيّة أنّه إن عجز عن التّكبير بالعربيّة سقط ‪ ،‬ول يجوز بغيرها ‪ ،‬ويكفيه‬ ‫نيّته كالخرس ‪ ،‬فإن أتى العاجز عنه بمرادفه من لغة أخرى لم تبطل ‪ ،‬قياسا على الدّعاء‬ ‫بالعجميّة ولو للقادر على العربيّة ‪.‬‬

‫وعند بعض شيوخ القاضي عياض ‪ :‬يجوز التيان بالتّكبير بغير العربيّة ‪ ،‬وأمّا الخطبة فل‬

‫تجوز عندهم بغير العربيّة ولو كان الجماعة عجما ل يعرفون العربيّة ‪ ،‬فلو لم يكن منهم من‬ ‫يحسن التيان بالخطبة عربيّةً لم تلزمهم جمعة ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز التّكبير بالعجميّة إذا أحسن العربيّة ‪ ،‬لقوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم ‪ « :‬صلّوا كما رأيتموني أُصلّي » وكان عليه الصلة والسلم يكبّر بالعربيّة ‪،‬‬

‫وأيضا قال للمسيء في صلته ‪ « :‬إذا قمت للصّلة فكبّر ‪ » ..‬ولنّه لم ينقل عنه العدول عن‬

‫ذلك حتّى فارق الدّنيا ‪ .‬هذا إذا أحسن العربيّة ‪ ،‬أمّا إن لم يحسن العربيّة لزمه تعلّم التّكبير بها‬

‫إن كان في الوقت متّسع ‪ ،‬وإلّ كبّر بلغته ‪ .‬وكذلك التّشهّد الخير والصّلة على رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم يجوزان بغير العربيّة عندهم للعاجز عنها ‪ ،‬ول يجوز للقادر ‪.‬‬

‫وأمّا خطبة الجمعة ‪ ،‬فذهب الشّافعيّة في الصحّ من المذهب إلى ‪ :‬أنّه يشترط أن تكون‬

‫بالعربيّة ‪ ،‬فإن لم يكن ث ّم من يحسن العربيّة ‪ ،‬ولم يمكن تعلّمها ‪ ،‬خطب بغيرها ‪ ،‬فإن انقضت‬ ‫مدّة إمكان التّعلّم ‪ -‬ولم يتعلّموا ‪ -‬عصوا كلّهم ول جمعة لهم ‪.‬‬

‫وفي السّلم بالعجميّة ثلثة أوجه ‪ :‬أحدهما ‪ :‬إن قدر على العربيّة لم يجز ‪ ،‬وقال النّوويّ ‪:‬‬ ‫الصّواب صحّة سلمه بالعجميّة إن كان المخاطب يفهمها ‪.‬‬

‫والضّابط عند الشّافعيّة في مسألة التّرجمة هو ‪ :‬أنّ ما كان المقصود منه لفظه ومعناه ‪ ،‬فإن‬

‫كان لعجازه امتنع قطعا ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك امتنع للقادر ‪ ،‬كالذان وتكبير الحرام والتّشهّد‬ ‫والذكار المندوبة ‪ ،‬والدعية المأثورة في الصّلة ‪ ،‬والسّلم والخطبة ‪.‬‬

‫وما كان المقصود منه معناه دون لفظه ‪ ،‬فجائز ‪ ،‬كالبيع والخلع والطّلق ونحوها ‪.‬‬

‫والقول الخر عند الشّافعيّة أنّ كون الخطبة بالعربيّة مستحبّ فقط ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬لنّ‬

‫ل اللّغات ‪.‬‬ ‫المقصود الوعظ ‪ ،‬وهو حاصل بك ّ‬ ‫ح ‪ -‬الدّعاء بغير العربيّة في الصّلة ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬المنقول عن الحنفيّة في الدّعاء بغير العربيّة الكراهة ‪ ،‬لنّ عمر رضي ال تعالى عنه‬

‫نهى عن رطانة العاجم ‪ ،‬والرّطانة كما في القاموس ‪ :‬الكلم بالعجميّة ‪.‬‬

‫ن الدّعاء بغير العربيّة خلف الولى ‪ ،‬وأنّ الكراهة فيه تنزيهيّة ‪ ،‬ول يبعد‬ ‫وظاهر التّعليل ‪ :‬أ ّ‬

‫أن يكون الدّعاء بالعجميّة مكروها تحريما في الصّلة ‪ ،‬وتنزيها خارجها ‪.‬‬

‫وذهب المالكيّة إلى أنّه يحرم الدّعاء بغير العربيّة ‪ -‬على ما نقل ابن عابدين عن القرافيّ ‪-‬‬

‫ي كلم القرافيّ بالعجميّة المجهولة المدلول ‪،‬‬ ‫ل باشتماله على ما ينافي التّعظيم ‪ ،‬وقيّد اللّقان ّ‬ ‫معلّ ً‬ ‫أخذا من تعليله ‪ ،‬وهو اشتمالها على ما ينافي جلل الرّبوبيّة ‪.‬‬

‫وأمّا إذا علم مدلولها فيجوز استعمالها مطلقا في الصّلة وغيرها ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَعَّلمَ آدمَ‬

‫ل بِِلسَانِ قَومِه } وهذا ما صرّح به‬ ‫سمَاءَ كُلّها } وقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا أَ ْرسَ ْلنَا منْ َرسُولٍ إ ّ‬ ‫الَ ْ‬

‫الدّسوقيّ أيضا ‪.‬‬

‫وقد فصّل الشّافعيّة الكلم فقالوا ‪ :‬الدّعاء في الصّلة إمّا أن يكون مأثورا أو غير مأثور ‪.‬‬

‫أمّا الدّعاء المأثور ففيه ثلثة أوجه ‪ :‬أصحّها ‪ ،‬ويوافقه ما ذهب إليه الحنابلة ‪ :‬أنّه يجوز بغير‬ ‫العربيّة للعاجز عنها ‪ ،‬ول يجوز للقادر ‪ ،‬فإن فعل بطلت صلته ‪.‬‬ ‫والثّاني ‪ :‬يجوز لمن يحسن العربيّة وغيره ‪.‬‬

‫والثّالث ‪ :‬ل يجوز لواحد منهما لعدم الضّرورة إليه ‪.‬‬

‫ل واحدا ‪.‬‬ ‫وأمّا الدّعاء غير المأثور في الصّلة ‪ ،‬فل يجوز اختراعه والتيان به بالعجميّة قو ً‬ ‫وأمّا سائر الذكار كالتّشهّد الوّل والصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم فيه ‪ ،‬والقنوت ‪،‬‬

‫والتّسبيح في الرّكوع والسّجود ‪ ،‬وتكبيرات النتقالت ‪ ،‬فعلى القول بجواز الدّعاء بالعجميّة‬

‫تجوز بالولى ‪ ،‬وإلّ ففي جوازها للعاجز أوجه ‪ :‬أصحّها ‪ :‬الجواز ‪ .‬والثّاني ‪ :‬ل ‪ .‬والثّالث ‪:‬‬

‫يجوز فيما يجبر بسجود السّهو ‪ .‬وذكر صاحب الحاوي ‪ :‬أنّه إذا لم يحسن العربيّة أتى بكلّ‬

‫الذكار بالعجميّة ‪ ،‬وإن كان يحسنها أتى بالعربيّة ‪ ،‬فإن خالف وقالها بالفارسيّة ‪ :‬فما كان واجبا‬

‫كالتّشهّد والسّلم لم يجزه ‪ ،‬وما كان سنّةً كالتّسبيح والفتتاح أجزأه وقد أساء ‪.‬‬ ‫خ ‪ -‬الِتيان بالشّهادتين بغير العربيّة لمن أراد الِسلم ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء أنّ الكافر إذا أراد السلم ‪ ،‬فإن لم يحسن العربيّة جاز أن يأتي‬

‫بالشّهادتين بلسانه ‪ ،‬وأمّا إن كان يحسنها ‪ :‬فيرى الحنفيّة ‪ ،‬وهو الصّحيح عند عامّة الشّافعيّة أنّه‬ ‫ل لسان ‪ .‬وأمّا المالكيّة‬ ‫جائز ‪ ،‬لنّ المراد من الشّهادتين الخبار عن اعتقاده ‪ ،‬وذلك يحصل بك ّ‬

‫ل لعجز ‪ -‬بخرس‬ ‫فالصل عندهم أنّ النّطق بالشّهادتين بالعربيّة شرط في صحّة السلم إ ّ‬

‫ونحوه ‪ -‬مع قيام القرينة على تصديقه بقلبه ‪ ،‬فيحكم له بالسلم ‪ ،‬وتجري عليه أحكامه ‪.‬‬

‫ي بالنّطق بالشّهادتين ‪ .‬وأمّا إن قال ‪ :‬أنا مؤمن‬ ‫وذهب الحنابلة إلى أنّه يثبت إسلم الكافر الصل ّ‬

‫أو أنا مسلم ‪،‬قال القاضي أبو يعلى ‪ :‬يحكم بإسلمه بهذا وإن لم يلفظ الشّهادتين‪.‬‬ ‫د ‪ -‬المان بغير العربيّة ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬المان بغير العربيّة ل خلف بين الفقهاء في أنّه يجوز ‪ ،‬لما روي عن عمر رضي ال‬

‫تعالى عنه أنّه قال ‪ :‬إذا قلتم ‪ :‬ل بأس أو ‪ :‬ل تذهل أو ‪ :‬مترس ‪ ،‬فقد آمنتموهم ‪ ،‬فإنّ اللّه‬ ‫تعالى يعلم اللسنة ‪ .‬وروي عن ابن مسعود رضي ال تعالى عنه مثل ذلك ‪.‬‬ ‫ذ ‪ -‬انعقاد النّكاح ووقوع الطّلق ‪ ،‬بغير العربيّة ‪:‬‬

‫أ ّولً ‪ -‬ترجمة صيغة النّكاح ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫ح منه عقد النّكاح بلسانه ‪ ،‬لنّه‬ ‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من ل يحسن العربيّة يص ّ‬

‫عاجز عمّا سواه ‪ ،‬فسقط عنه كالخرس ‪ ،‬ويحتاج أن يأتي بالمعنى الخاصّ بحيث يشتمل على‬

‫معنى اللّفظ العربيّ ‪ ،‬وقال أبو الخطّاب من الحنابلة ‪ :‬عليه أن يتعلّم ما كانت العربيّة شرطا فيه‬ ‫كالتّكبير ‪ .‬واختلفوا فيمن يقدر على لفظ النّكاح بالعربيّة ‪:‬‬

‫ي الدّين ابن تيميّة وابن قدامة من الحنابلة إلى ‪:‬‬ ‫فذهب الحنفيّة والشّافعيّة في الصحّ ‪ ،‬والشّيخ تق ّ‬

‫أنّه ينعقد بغيرها ‪ ،‬لنّه أتى بلفظه الخاصّ ‪ ،‬فانعقد به ‪ ،‬كما ينعقد بلفظ العربيّة ‪.‬‬ ‫ن اللّغة العجميّة تصدر عمّن تكلّم بها عن قصد صحيح ‪.‬‬ ‫ول ّ‬

‫ح بغير العربيّة ‪ ،‬حتّى وإن كان ل يحسنها ‪ .‬وللشّافعيّة‬ ‫ويرى الشّافعيّة في وجه آخر أنّه ل يص ّ‬ ‫قول ثالث ‪ :‬وهو أنّه ينعقد إن لم يحسن العربيّة وإلّ فل ‪ .‬وقال في كشّاف القناع ‪ :‬فإن كان‬

‫أحد المتعاقدين في النّكاح يحسن العربيّة دون الخر أتى الّذي يحسن العربيّة بما هو من قبله ‪-‬‬

‫من إيجاب أو قبول ‪ -‬بالعربيّة لقدرته عليه ‪ ،‬والعاقد الخر يأتي بما هو من قبله بلغته ‪ ،‬وإن‬ ‫كان كلّ منهما ل يحسن لسان الخر ترجم بينهما ثقة يعرف اللّسانين ‪.‬‬ ‫ثانيا ‪ -‬التّطليق بغير العربيّة ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫ي إذا أتى بصريح الطّلق بالعجميّة كان‬ ‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّ العجم ّ‬

‫ل بنيّته ‪ .‬ولكنّهم اختلفوا في اللفاظ الّتي تعتبر صريح الطّلق‬ ‫طلقا ‪ ،‬وإذا أتى بالكناية ل يقع إ ّ‬ ‫وكنايته بالعجميّة ‪ ،‬وبيّن الفقهاء بعضها في كتاب الطّلق ‪.‬‬

‫ويرى المالكيّة أنّ من طلّق بالعجميّة لزمه إن شهد بذلك عدلن يعرفان العجميّة ‪.‬‬

‫قال ابن ناجي ‪ :‬قال أبو إبراهيم ‪ :‬يؤخذ منها أنّ التّرجمان ل يكون أقلّ من عدلين ‪.‬‬

‫وينظر مصطلح ‪ ( :‬طلق ) ‪.‬‬

‫ر ‪ -‬التّرجمة في القضاء ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫‪ -‬جمهور الفقهاء على أنّ القاضي يجوز له أن يتّخذ مترجما ‪.‬‬

‫وأمّا تعدّده ‪ ،‬فذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى ‪ :‬أنّه يكفي واحد عدل ‪ ،‬وهو اختيار أبي‬

‫بكر وقاله ابن المنذر أيضا ‪ .‬قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى‬ ‫ال عليه وسلم أمره أن يتعلّم كتاب يهود ‪ ،‬قال ‪ :‬فكنت أكتب له إذا كتب إليهم ‪ ،‬وأقرأ له إذا‬

‫كتبوا » ‪ .‬ولنّه ممّا ل يفتقر إلى لفظ الشّهادة فأجزأ فيه الواحد كأخبار الدّيانات ‪ .‬ويرى‬ ‫المالكيّة أنّه يكفي الواحد العدل إن رتّبه القاضي ‪.‬‬

‫أمّا غير المرتّب بأن أتى به أحد الخصمين ‪ ،‬أو طلبه القاضي للتّبليغ ‪ ،‬فل بدّ فيه من التّعدّد ‪،‬‬ ‫لنّه صار كالشّاهد ‪ .‬وفي قول ‪ :‬ل بدّ من تعدّده ‪ ،‬ولو رتّب ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة إلى ‪ :‬أنّ التّرجمة شهادة ‪ ،‬لنّ المترجم ينقل إلى‬

‫القاضي قولً ل يعرفه القاضي ‪ ،‬وما خفي عليه فيما يتعلّق بالمتخاصمين ‪ ،‬ولذا فإنّها تفتقر إلى‬

‫العدد والعدالة ‪ ،‬ويعتبر فيه من الشّروط ما يعتبر في الشّهادة ‪.‬‬

‫فإن كان الحقّ ممّا يثبت برجل أو امرأتين قبلت التّرجمة من رجل وامرأتين ‪ ،‬وما ل يثبت إلّ‬ ‫برجلين يشترط في ترجمته رجلن ‪ ،‬وفي حدّ الزّنا قولن عند الشّافعيّة ‪.‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أنّه ل يكفي فيه أقلّ من أربعة رجال أحرار عدول ‪ .‬والثّاني ‪ :‬يكفي فيه اثنان ‪ .‬وقيل‬ ‫عند الشّافعيّة ‪ :‬يكفي رجلن قطعا ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تعارض ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترجيح *‬ ‫ترجيع *‬

‫‪ -‬التّرجيع في اللّغة هو ‪ :‬ترديد الصّوت في قراءة أو أذان أو غناء أو غير ذلك ممّا ُيتَرنّم به‬

‫‪ .‬وفي الصطلح هو ‪ :‬أن يخفض المؤذّن صوته بالشّهادتين مع إسماعه الحاضرين ‪ ،‬ثمّ يعود‬

‫فيرفع صوته بهما ‪.‬‬ ‫التّثويب ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّثويب لغةً ‪ :‬العود إلى العلم بعد العلم ‪.‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬قول المؤذّن في أذان الصّبح بعد الحيعلتين ‪ ،‬أو بعد الذان وقبل القامة ‪ -‬كما‬

‫يقول بعض الفقهاء ‪ -‬الصّلة خير من النّوم ‪ ،‬مرّتين ‪.‬‬

‫ويختلف التّثويب عن التّرجيع ‪ -‬بالمعنى الوّل ‪ -‬في أنّ التّثويب يكون في أذان الفجر بعد‬ ‫الحيعلتين أو بعد الذان ‪ ،‬وأمّا التّرجيع فيكون في التيان بالشّهادتين في كلّ أذان ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬يرى الحنفيّة والحنابلة على الصّحيح من المذهب ‪ -‬وهو قول الثّوريّ وإسحاق ‪ -‬أنّه ل‬

‫ترجيع في الذان ‪ « ،‬لحديث عبد اللّه بن زيد من غير ترجيع ‪ .‬فقال له النّبيّ صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ :‬إنّها حقّ إن شاء اللّه ‪ ،‬فقم مع بلل فألق عليه ما رأيت ‪ ،‬فليؤذّن به ‪ ،‬فإنّه أندى صوتا‬

‫منك ‪ .‬فقمت مع بلل ‪ ،‬فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به » ‪.‬‬

‫فإذا رجع المؤذّن ‪ ،‬فقد نصّ المام أحمد على أنّه ل بأس به ‪ ،‬واعتبر الختلف في التّرجيع‬ ‫من الختلفات المباحة ‪ ،‬وقال ابن نجيم ‪ :‬الظّاهر من عبارات مشايخ الحنفيّة أنّ التّرجيع‬

‫مباح ليس بسنّة ول مكروه ‪ ،‬لنّ كل المرين صحّ عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ونقل‬

‫الحصكفيّ عن ملتقى البحر كراهة التّرجيع في الذان ‪ ،‬وحملها ابن عابدين على الكراهة‬

‫التّنزيهيّة ‪ .‬ويرى المالكيّة ‪ ،‬وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه يسنّ التّرجيع في الذان ‪ ،‬لما‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ألقى عليه التّأذين هو‬ ‫روي عن أبي محذورة رضي ال عنه « أ ّ‬

‫بنفسه ‪ ،‬فقال له ‪ :‬قل ‪ :‬اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر ‪ ،‬أشهد أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬أشهد‬

‫ن محمّدا رسول اللّه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ارجع‬ ‫أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ‪ ،‬أشهد أ ّ‬

‫فامدد صوتك ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬قل ‪ :‬أشهد أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬أشهد أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬أشهد أنّ‬ ‫ن محمّدا رسول اللّه ‪ ..‬إلخ » ‪.‬‬ ‫محمّدا رسول اللّه ‪ ،‬أشهد أ ّ‬

‫وهناك وجه للشّافعيّة حكاه الخراسانيّون ‪ :‬أنّ التّرجيع ركن ل يصحّ الذان إلّ به ‪ .‬قال‬

‫ح أذانه ‪.‬‬ ‫القاضي حسين ‪ :‬نقل البيهقيّ عن المام الشّافعيّ ‪ :‬أنّه إن ترك التّرجيع ل يص ّ‬

‫محلّ التّرجيع ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّرجيع يكون كما تقدّم في حديث أبي محذورة بعد التيان بالشّهادتين معا ‪ ،‬فل يرجّع‬

‫الشّهادة الولى قبل التيان بالشّهادة الثّانية ‪.‬‬

‫حكمة التّرجيع ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬حكمة التّرجيع هي تدبّر كلمتي الخلص ‪ ،‬لكونهما المنجّيتين من الكفر ‪ ،‬المدخلتين في‬

‫السلم ‪ ،‬وتذكّر خفائهما في أوّل السلم ثمّ ظهورهما ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬

‫ترجيل *‬

‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّرجيل لغةً ‪ :‬تسريح الشّعر وتنظيفه وتحسينه ‪ .‬يقال ‪ :‬رجّلته ترجيلً ‪ :‬إذا سرّحته‬

‫ومشّطته ‪ .‬وقد يكون التّرجيل أخصّ من التّمشيط ‪،‬لنّه يراعى فيه الزّيادة في تحسين الشّعر‪.‬‬

‫أمّا التّسريح فهو ‪ :‬إرسال الشّعر وحلّه قبل المشط ‪ ،‬وعلى هذا فيكون التّسريح مغايرا‬

‫للتّرجيل ‪ ،‬ومضادّا للتّمشيط ‪ .‬وقال الزهريّ ‪ :‬تسريح الشّعر ترجيله ‪ ،‬وتخليص بعضه من‬

‫بعض بالمشط ‪ .‬فعلى المعنى الوّل يكون مغايرا للتّرجيل ‪ ،‬وعلى الثّاني يكون مرادفا ‪.‬‬ ‫ول يخرج استعمال الفقهاء للفظ التّرجيل عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬الصل في ترجيل الشّعر الستحباب ‪ ،‬لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي ال‬

‫عنه مرفوعا ‪ « :‬من كان له شعر فَ ْل ُيكْرمْه » ولنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يحبّ‬

‫التّرجيل ‪ ،‬وكان يرجّل نفسه تارةً ‪ ،‬وترجّله عائشة رضي ال عنها تار ًة أخرى فقد روت‬

‫ي رأسَه وهو مجاور في المسجد ‪ ،‬فأرجّله وأنا‬ ‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يصغي إل ّ‬ ‫«أّ‬ ‫حائض » ‪.‬‬

‫وهناك حالت يختلف فيها حكم التّرجيل باختلف الشخاص والوقات منها ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬ترجيل المعتكف ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء ‪ :‬أنّه ل يكره للمعتكف إلّ ما يكره فعله في المسجد ‪ ،‬فيجوز له‬

‫ي صلى ال عليه‬ ‫ترجيل شعره ‪ ،‬لما روي عن « عائشة رضي ال عنها أنّها قالت ‪ :‬كان النّب ّ‬ ‫وسلم يصغي إليّ رأسَه ‪ ،‬وهو مجاور في المسجد ‪ ،‬فأرجّله وأنا حائض » ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل بأس بأن يدني المعتكف رأسه لمن هو خارج المسجد لترجيل شعره ‪ ،‬كأنّهم‬

‫ن التّرجيل ل يخلو من سقوط شيء من الشّعر ‪ ،‬والخذ‬ ‫يرون كراهة التّرجيل في المسجد ‪ ،‬ل ّ‬

‫من الشّعر في المسجد مكروه عندهم ‪ .‬وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ‪ ( :‬اعتكاف ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ترجيل المحرم ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّرجيل للمحرم ‪ -‬وهو قول المالكيّة إذا كان التّرجيل بالدّهن‬

‫‪ -‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الحاجّ الشّعثُ التّفِل » ‪ .‬والمراد بالشّعث انتشار شعر‬

‫الحاجّ فل يجمعه بالتّسريح والدّهن والتّغطية ونحوه ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة بكراهية التّرجيل للمحرم لنّه أقرب إلى نتف الشّعر ‪.‬‬

‫ن التّرجيل في حالة الحرام ل بأس به ‪ ،‬ما لم يؤ ّد إلى إبانة شعره ‪.‬‬ ‫ويرى الحنابلة أ ّ‬

‫أمّا إذا تيقّن المحرم سقوط الشّعر بالتّرجيل فل خلف بين الفقهاء في حرمته حينئذ ‪ .‬وتفصيل‬ ‫ذلك في ‪ ( :‬إحرام ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬ترجيل المحدّة ‪:‬‬

‫‪ - 5‬ل خلف بين الفقهاء في عدم جواز التّرجيل للمحدّة بشيء من الطّيب أو بما فيه زينة ‪.‬‬

‫أمّا التّرجيل بغير موادّ الزّينة والطّيب ‪ -‬كالسّدر وشبهه ممّا ل يختمر في الرّأس ‪ -‬فقد أجازه‬ ‫ن رسول اللّه صلى ال‬ ‫المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لما روت أمّ سلمة رضي ال عنها « أ ّ‬

‫عليه وسلم قال ‪ :‬ل تمتشطي بالطّيب ول بالحنّاء فإنّه خضاب ‪ ،‬قالت ‪ :‬قلت ‪ :‬بأيّ شيء أمتشط‬ ‫؟ قال ‪ :‬بالسّدر تغلّفين به رأسك » ولنّه يراد للتّنظيف ل للتّطيّب ‪.‬‬

‫وقال الحنفيّة بعدم جواز ترجيل المحدّة ‪ -‬وإن كان بغير طيب ‪ -‬لنّه زينة ‪ ،‬فإن كان فبمشط‬

‫ذي أسنان منفرجة دون المضمومة ‪ .‬وقيّد صاحب الجوهرة جواز ترجيل المحدّة بأسنان المشط‬

‫الواسعة بالعذر ‪ .‬وينظر التّفصيل في ( إحداد ‪ ،‬وامتشاط ) ‪.‬‬

‫كيفيّة التّرجيل ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬يستحبّ التّيامن في التّرجيل ‪ ،‬لحديث عائشة رضي ال عنها « أنّ النّبيّ صلى ال عليه‬

‫وسلم كان يعجبه التّيامن في تنعّله وترجّله وطهوره ‪ ،‬وفي شأنه كلّه » ‪.‬‬

‫الغباب في التّرجيل ‪:‬‬

‫ل لحاجة ‪،‬‬ ‫يسنّ ترجيل الشّعر ودهنه غبّا ‪ ،‬فالستكثار من التّرجيل والمداومة عليه مكروه إ ّ‬

‫لحديث عبد اللّه بن مغفّل رضي ال عنه « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم نهى عن‬

‫ل غبّا » ‪ .‬ولما روى حميد بن عبد الرّحمن الحميريّ عن بعض أصحاب النّبيّ صلى‬ ‫التّرجّل إ ّ‬

‫ال عليه وسلم ‪ « :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كلّ يوم » ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترحّم *‬

‫‪ -‬التّرحّم ‪ :‬من الرّحمة ‪ ،‬ومن معانيها ‪ :‬الرّقة ‪ ،‬والعطف ‪ ،‬والمغفرة ‪.‬‬

‫والتّرحّم ‪ :‬طلب الرّحمة ‪ ،‬وهو أيضا الدّعاء بالرّحمة ‪ ،‬كقولك ‪ :‬رحمه اللّه ‪ .‬وترحّمتُ عليه ‪:‬‬

‫أي قلت له ‪ :‬رحمة اللّه عليك ‪ ،‬ورحّم عليه ‪ :‬قال له ‪ :‬رحمة اللّه عليك ‪.‬‬

‫وتراحم القوم ‪ :‬رحم بعضهم بعضا ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التّ َرضّي ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّرضّي من الرّضا ‪ ،‬وهو ضدّ السّخط ‪ ،‬والتّرضّي ‪ :‬طلب الرّضا ‪ ،‬والتّرضّي أيضا ‪:‬‬

‫أن تقول ‪ :‬رضي اللّه عنه ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى ‪ ،‬فالتّرضّي دعاء‬

‫بالرّضوان ‪ ،‬والتّرحّم دعاء بالرّحمة ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬ترضّي ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّبريك ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّبريك ‪ :‬الدّعاء بالبركة ‪ ،‬وهي بمعنى الزّيادة والنّماء ‪ ،‬يقال ‪ :‬بارك اللّه فيك وعليك ولك‬

‫ك مَنْ في‬ ‫ن بُو ِر َ‬ ‫وباركك ‪ ،‬كلّها بمعنى ‪ :‬زادك خيرا ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬فَلَمّا جَاءَها نُو ِديَ أ ْ‬ ‫حوْلَها } وتبرّك به ‪ :‬أي تيمّن ‪.‬‬ ‫النّارِ ومَنْ َ‬

‫فالتّبريك بمعنى ‪ :‬الدّعاء بالبركة ‪ ،‬يتّفق مع التّرحّم في نفس هذا المعنى ‪ ،‬أي الدّعاء ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ - 4‬ل خلف بين الفقهاء في استحباب التّرحّم على الوالدين أحياءً وأمواتا ‪ ،‬وعلى التّابعين من‬

‫العلماء والعبّاد الصّالحين ‪ ،‬وعلى سائر الخيار ‪ ،‬أحياءً وأمواتا ‪.‬‬

‫وأمّا التّرحّم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم في الصّلة وخارجها ‪ ،‬ففيه خلف وتفصيل على‬

‫النّحو التي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّرحّم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم وعلى آله في الصّلة ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬وهو إمّا أن يكون في التّشهّد أو خارجه ‪.‬‬

‫وقد ورد التّرحّم على الرّسول صلى ال عليه وسلم في التّشهّد ‪ ،‬وهو عبارة ‪ " :‬السّلم عليك‬

‫أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته " وتفصيل أحكام التّشهّد في مصطلحه ‪.‬‬

‫أمّا التّرحّم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم خارج التّشهّد ‪ ،‬فقد ذهب الحنفيّة ‪ ،‬وبعض‬

‫المالكيّة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة إلى استحباب زيادة ‪ " :‬وارحم محمّدا وآل محمّد " في الصّلة على‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم في الصّلة ‪.‬‬

‫وعبارة الرّسالة لبن أبي زيد القيروانيّ ‪ :‬اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ‪ ،‬وارحم‬

‫محمّدا وآل محمّد ‪ ،‬كما صلّيت ورحمت وباركت على إبراهيم ‪.‬‬

‫واستدلّوا بحديث أبي هريرة ‪ :‬قال ‪ :‬قلنا ‪ « :‬يا رسول اللّه ‪ :‬قد علمنا كيف نسلّم عليك ‪ ،‬فكيف‬

‫نصلّي عليك ؟ قال ‪ :‬قولوا ‪ :‬اللّه ّم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد وعلى آل‬

‫محمّد ‪ ،‬كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد » ‪ .‬قال الحافظ ابن حجر ‪:‬‬ ‫فهذه الحاديث ‪ -‬وإن كانت ضعيفة السانيد ‪ -‬إلّ أنّها يشدّ بعضها بعضا ‪ ،‬أقواها أوّلها ‪،‬ويدلّ‬

‫مجموعها على أنّ للزّيادة أصلً ‪ .‬وأيضا الضّعيف يعمل به في فضائل العمال‪ .‬وما عليه‬ ‫جمهور الفقهاء القتصار على صيغة الصّلة دون إضافة ( التّرحّم ) كما ورد في الرّوايات‬

‫المشهورة في الصّحيحين وغيرهما ‪ ،‬بل ذهب بعض الحنفيّة وأبو بكر بن العربيّ المالكيّ‬

‫والنّوويّ وغيرهم إلى أنّ زيادة " وارحم محمّدا ‪ ...‬إلخ " بدعة ل أصل لها ‪ ،‬وقد بالغ ابن‬

‫ي في إنكار ذلك وتخطئة ابن أبي زيد ‪ ،‬وتجهيل فاعله ‪ ،‬لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫العرب ّ‬ ‫علّمنا كيفيّة الصّلة ‪ .‬فالزّيادة على ذلك استقصار لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم واستدراك‬ ‫عليه ‪ .‬وانتصر لهم بعض المتأخّرين ممّن جمع بين الفقه والحديث ‪ ،‬فقال ‪ :‬ول يحتجّ‬

‫بالحاديث الواردة ‪ ،‬فإنّها كلّها واهية جدّا ‪ .‬إذ ل يخلو سندها من كذّاب أو متّهم بالكذب ‪.‬‬

‫ن محلّ العمل بالحديث الضّعيف ما لم يشتدّ ضعفه ‪.‬‬ ‫ويؤيّده ما ذكره السّبكيّ ‪ :‬أ ّ‬

‫ب ‪ -‬التّرحّم في التّسليم من الصّلة ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الكمل في التّسليم في الصّلة أن يقول ‪:‬‬

‫« السّلم عليكم ورحمة اللّه ‪ ،‬عن يمينه ويساره ‪ ،‬لحديث ابن مسعود وجابر بن سمرة‬

‫وغيرهما رضي ال تعالى عنهم » ‪ .‬فإن قال ‪ :‬السّلم عليكم ‪ -‬ولم يزد ‪ -‬يجزئه ‪ ،‬لنّ النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬تحليلها التّسليم » ‪.‬‬

‫والتّحليل يحصل بهذا القول ‪ ،‬ولنّ ذكر الرّحمة تكرير للثّناء فلم يجب ‪ ،‬كقوله ‪ :‬وبركاته ‪.‬‬

‫وقال ابن عقيل من الحنابلة ‪ -‬وهو المعتمد في المذهب ‪ -‬الصحّ أنّه ل يجزئه القتصار على‬ ‫ن الصّحيح « عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه كان يقول ‪ :‬السّلم عليكم‬ ‫‪ :‬السّلم عليكم ‪ ،‬ل ّ‬

‫ن السّلم في الصّلة ورد مقرونا بالرّحمة ‪ ،‬فلم يجز بدونها ‪،‬‬ ‫ورحمة اللّه وبركاته » ‪ ،‬ول ّ‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم في التّشهّد ‪.‬‬ ‫كالتّسليم على النّب ّ‬

‫قال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬والولى ترك " وبركاته " كما في أكثر الحاديث ‪ .‬وصرّح المالكيّة ‪:‬‬

‫ن زيادة " ورحمة اللّه " ل يضرّ ‪ ،‬لنّها خارجة عن الصّلة ‪ ،‬وظاهر كلم أهل المذهب أنّها‬ ‫بأ ّ‬ ‫غير سنّة ‪ ،‬وإن ثبت بها الحديث ‪ ،‬لنّها لم يصحبها عمل أهل المدينة ‪ ،‬وذكر بعض المالكيّة‬

‫ن الولى القتصار على ‪ :‬السّلم عليكم ‪،‬وأنّ زيادة ‪ :‬ورحمة اللّه وبركاته هنا خلف الولى‪.‬‬ ‫أّ‬

‫ج ‪ -‬التّرحّم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم خارج الصّلة ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في جواز التّرحّم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم خارج الصّلة ‪ ،‬فذهب‬

‫بعضهم إلى المنع مطلقا ووجّهه بعض الحنفيّة ‪ :‬بأنّ الرّحمة إنّما تكون غالبا عن فعل يلم عليه‬

‫‪ ،‬ونحن أمرنا بتعظيمه ‪ ،‬وليس في التّرحّم ما يدلّ على التّعظيم ‪ ،‬مثل الصّلة ‪ ،‬ولهذا يجوز أن‬

‫يدعى بها لغير النبياء والملئكة عليهم السلم ‪.‬‬

‫أمّا هو صلى ال عليه وسلم فمرحوم قطعا ‪ ،‬فيكون من باب تحصيل الحاصل ‪ ،‬وقد استغنينا‬ ‫عن هذه بالصّلة ‪ ،‬فل حاجة إليها ‪ ،‬ولنّه يجلّ مقامه عن الدّعاء بها ‪.‬‬

‫قال ابن دحية ‪ :‬ينبغي لمن ذكره صلى ال عليه وسلم أن يصلّي عليه ‪ ،‬ول يجوز أن يترحّم‬ ‫ضكُمْ َب ْعضَا } ‪.‬‬ ‫جعَلُوا دُعَاءَ ال ّرسُولِ َب ْي َنكُمْ كَدُعَاءِ َب ْع ِ‬ ‫عليه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬ل َت ْ‬

‫ونقل مثله عن ابن عبد البرّ ‪ ،‬والصّيدلنيّ ‪ ،‬كما حكاه عنه الرّافعيّ ولم يتعقّبه ‪.‬‬

‫وصرّح أبو زرعة ابن الحافظ العراقيّ في فتاواه ‪ ،‬بأنّ المنع أرجح لضعف الحاديث الّتي‬ ‫استند إليها ‪ ،‬فيفهم من قوله ‪ :‬حرمته مطلقا ‪.‬‬

‫وذهب بعض الفقهاء إلى الجواز مطلقا ‪ :‬أي ولو بدون انضمام صلة أو سلم ‪.‬‬

‫ي فيما رواه البخاريّ وهو قوله ‪ « :‬اللّهمّ ارحمني ‪ ،‬وارحم محمّدا ‪ ،‬ول‬ ‫واستدلّوا بقول العراب ّ‬

‫ترحم معنا أحدا لتقريره صلى ال عليه وسلم على قوله ‪ :‬اللّهمّ ارحمني وارحم محمّدا ‪ ،‬ولم‬

‫ينكر عليه سوى قوله ‪ :‬ول ترحم معنا أحدا » ‪.‬‬

‫وقال السّرخسيّ ‪ :‬ل بأس بالتّرحّم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لنّ الثر ورد به من‬

‫ل قدره ل يستغني عن‬ ‫طريق أبي هريرة وابن عبّاس رضي ال عنهم ‪ ،‬ولنّ أحدا وإن ج ّ‬

‫رحمة اللّه ‪ .‬كما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬لن يدخل أحدا عمله الجنّة ‪،‬‬

‫قالوا ‪ :‬ول أنت يا رسول اللّه ؟ قال ‪ :‬ول أنا إلّ أن يتغمّدني اللّه برحمته » ‪.‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان من أشوق العبّاد إلى مزيد رحمة اللّه تعالى ‪ ،‬ومعناها‬ ‫ول ّ‬

‫معنى الصّلة ‪ ،‬فلم يوجد ما يمنع ذلك ‪ .‬ول ينافي الدّعاء له بالرّحمة أنّه عليه الصلة والسلم‬

‫حمَ ًة لِلعَاَلمِين } لنّ حصول ذلك ل يمنع طلب الزّيادة‬ ‫عيْنُ الرّحمة بنصّ ‪ { :‬ومَا َأ ْرسَ ْلنَاكَ إلّ َر ْ‬ ‫َ‬ ‫له ‪ ،‬إذ فضل اللّه ل يتناهى ‪ ،‬والكامل يقبل الكمال ‪.‬‬

‫وفصّل بعض المتأخّرين ‪ ،‬فقال بالحرمة إنّ ذكرها استقللً ‪ :‬كأن يقول المتكلّم ‪ :‬قال النّبيّ‬

‫رحمه ال ‪ .‬وبالجواز إن ذكرها تبعا ‪ :‬أي مضموم ًة إلى الصّلة والسّلم ‪ ،‬فيجوز ‪ :‬اللّهمّ ص ّل‬ ‫على محمّد وارحم محمّدا ‪ .‬ول يجوز ‪ :‬ارحم محمّدا ‪ ،‬بدون الصّلة ‪ ،‬لنّها وردت في‬

‫الحاديث الّتي وردت فيها على سبيل التّبعيّة للصّلة والبركة ‪ ،‬ولم يرد ما يدلّ على وقوعها‬

‫مفردةً ‪ ،‬وربّ شيء يجوز تبعا ‪ ،‬ل استقللً ‪.‬‬

‫وبه أخذ جمع من العلماء ‪ ،‬بل نقله القاضي عن الجمهور ‪ ،‬وقال القرطبيّ ‪ :‬وهو الصّحيح ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬التّرحّم على الصّحابة رضي ال عنهم والتّابعين ومن بعدهم من الخيار ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في جواز التّرحّم على الصّحابة ‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أنّه عند ذكر الصّحابة‬

‫الولى أن يقال ‪ :‬رضي اللّه عنهم ‪.‬‬

‫وأمّا عند ذكر التّابعين ومن بعدهم من العلماء ‪ ،‬والعبّاد ‪،‬وسائر الخيار فيقال ‪ :‬رحمهم اللّه‪.‬‬

‫قال الزّيلعيّ ‪ :‬الولى أن يدعو للصّحابة بالرّضى ‪ ،‬وللتّابعين بالرّحمة ‪ ،‬ولمن بعدهم بالمغفرة‬ ‫ن الصّحابة كانوا يبالغون في طلب الرّضى من اللّه تعالى ‪ ،‬ويجتهدون في فعل‬ ‫والتّجاوز ‪ ،‬ل ّ‬

‫ما يرضيه ‪ ،‬ويرضون بما يلحقهم من البتلء من جهته أشدّ الرّضى ‪ ،‬فهؤلء أحقّ بالرّضى ‪،‬‬ ‫وغيرهم ل يلحق أدناهم ولو أنفق ملء الرض ذهبا ‪.‬‬

‫وذكر ابن عابدين نقلً عن القرمانيّ على الرّاجح عنده ‪ :‬أنّه يجوز عكسه أيضا ‪ ،‬وهو التّرحّم‬ ‫للصّحابة ‪ ،‬والتّرضّي للتّابعين ومن بعدهم ‪ .‬وإليه مال النّوويّ في الذكار ‪ ،‬وقال ‪ :‬يستحبّ‬

‫التّرضّي والتّرحّم على الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم من العلماء والعبّاد وسائر الخيار ‪ .‬فيقال‬ ‫‪ :‬رضي اللّه عنه ‪ ،‬أو رحمه اللّه ونحو ذلك ‪.‬‬

‫وأمّا ما قاله بعض العلماء ‪ :‬إنّ قوله ‪ :‬رضي اللّه عنه مخصوص بالصّحابة ‪ ،‬ويقال في‬

‫غيرهم ‪ :‬رحمه اللّه فقط فليس كما قال ‪ ،‬ول يوافق عليه ‪ ،‬بل الصّحيح الّذي عليه الجمهور‬

‫استحبابه ‪ ،‬ودلئله أكثر من أن تحصر ‪ .‬وذكر في النّهاية نقلً عن المجموع ‪ :‬أنّ اختصاص‬ ‫التّرضّي بالصّحابة والتّرحّم بغيرهم ضعيف ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬التّرحّم على الوالدين ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫جنَاحَ الذّلّ من‬ ‫خفِضْ لهما َ‬ ‫‪ -‬الصل في وجوب التّرحّم على الوالدين قوله تعالى ‪ { :‬وَا ْ‬

‫ح ْمهُما } حيث أمر اللّه سبحانه وتعالى عباده بالتّرحّم على آبائهم والدّعاء‬ ‫ب ا ْر َ‬ ‫حمَ ِة و ُقلْ َر ّ‬ ‫ال ّر ْ‬

‫ل طلب الدّعاء والتّرحّم لهما إن كانا مؤمنين ‪ ،‬أمّا إن كانا كافرين فيحرم ذلك لقوله‬ ‫لهم ‪ .‬ومح ّ‬

‫ش ِركِينَ ولو كانوا أُولِي ُق ْربَى } ‪.‬‬ ‫ستَغ ِفرُوا لل ُم ْ‬ ‫ن َي ْ‬ ‫تعالى ‪ { :‬مَا كانَ لِلنّبيّ والّذينَ آمنُوا أ ْ‬

‫و ‪ -‬التّرحّم في التّحيّة بين المسلمين ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الفضل أن يقول المسلم للمسلم في التّحيّة ‪ :‬السّلم عليكم‬

‫ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬ويقول المجيب أيضا ‪ :‬وعليكم السّلم ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬لما روى‬ ‫عمران بن الحصين أنّه قال ‪ « :‬جاء رجل إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬السّلم‬

‫عليكم ‪ ،‬فردّ عليه ‪ ،‬ثمّ جلس ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬عشر ‪ .‬ثمّ جاء آخر ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫السّلم عليكم ورحمة اللّه ‪ ،‬فردّ عليه ‪ ،‬ثمّ جلس ‪ ،‬فقال ‪ :‬عشرون ‪ .‬ث ّم جاء آخر ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫السّلم عليكم ورحمة اللّه وبركاته ‪ ،‬فردّ عليه ‪ ،‬فجلس ‪ ،‬فقال ‪ :‬ثلثون » قال التّرمذيّ ‪:‬‬

‫حديث حسن ‪ .‬وهذا التّعميم مخصوص بالمسلمين ‪ ،‬فل ترحّم على كافر لمنع بدئه بالسّلم عند‬

‫الكثرين تحريما ‪ ،‬لحديث ‪ « :‬ل تبدءوا اليهود ول النّصارى بالسّلم » ‪.‬‬

‫ولو سلّم اليهوديّ والنّصرانيّ ‪ ،‬فل بأس بال ّردّ ‪ ،‬ولكن ل يزيد على قوله ‪ " :‬وعليك " ‪.‬‬

‫والّذين جوّزوا ابتداءهم بالسّلم ‪ ،‬صرّحوا بالقتصار على ‪ " :‬السّلم عليك " دون الجمع ‪،‬‬

‫ودون أن يقول ‪ " :‬ورحمة اللّه " لما روي عن أنس رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ « :‬قال رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إذا سلّم عليكم أهل الكتاب ‪ ،‬فقولوا ‪ :‬وعليكم أو عليكم » بغير واو ‪.‬‬

‫ز ‪ -‬التّرحّم على الكفّار ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ -‬صرّح النّوويّ في كتابه الذكار بأنّه ل يجوز أن يدعى لل ّذ ّميّ بالمغفرة وما أشبهها في‬

‫حال حياته ممّا ل يقال للكفّار ‪ ،‬لكن يجوز أن يدعى له بالهداية ‪ ،‬وصحّة البدن والعافية وشبه‬ ‫ذلك ‪ .‬لحديث أنس رضي ال عنه قال ‪ « :‬استسقى النّبيّ صلى ال عليه وسلم فسقاه يهوديّ ‪،‬‬

‫فقال له النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬جمّلك اللّه » فما رأى الشّيب حتّى مات ‪.‬‬

‫وأمّا بعد وفاته فيحرم الدّعاء للكافر بالمغفرة ونحوها ‪ ،‬لقول اللّه تعالى ‪ { :‬مَا كَانَ لِل ّن ِبيّ والّذينَ‬

‫ب الجَحِيمِ }‬ ‫صحَا ُ‬ ‫ش ِركِينَ ولو كَانُوا أُولِي ُق ْربَى مِنْ َب ْعدِ مَا َت َبيّنَ لَهم أنّهم أ ْ‬ ‫س َت ْغ ِفرُوا لِل ُم ْ‬ ‫آ َمنُوا أنْ َي ْ‬ ‫وقد جاء الحديث بمعناه ‪ ،‬وأجمع المسلمون عليه ‪.‬‬

‫ح ‪ -‬التزام التّرحّم كتابةً ونطقا عند القراءة ‪:‬‬

‫ينبغي لكاتب الحديث وراويه أن يحافظ على كتابة التّرضّي والتّرحّم على الصّحابة والعلماء‬ ‫وسائر الخيار ‪ ،‬والنّطق به ‪ ،‬ول يسأم من تكراره ‪ ،‬ول يتقيّد فيه بما في الصل إن كان‬

‫ناقصا ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬رخصة ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترخيص *‬ ‫تردّي *‬

‫‪ -‬للتّردّي في اللّغة معان ‪ ،‬منها ‪ :‬السّقوط من علوّ إلى سفل يقال ‪ :‬تردّى في مهواة ‪ :‬إذا‬

‫سقط فيها ‪ ،‬ورديته ترديةً ‪ :‬أسقطته ‪.‬‬

‫وهو في الصطلح ل يخرج عن هذا المعنى فقد عرّفه المالكيّة بأنّه ‪ :‬السّقوط من عال إلى‬ ‫سافل ‪ .‬ومنه المتردّية ‪ :‬وهي الّتي وقعت في بئر أو من جبل ‪.‬‬ ‫وفي النّظم المستعذب ‪ :‬هي الّتي تتردّى من الجبل فتسقط ‪.‬‬

‫وفي مطالب أولي النّهى ‪ :‬هي الواقعة من عل ّو كجبل وحائط ‪ ،‬وساقطة في نحو بئر ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫خنْزِيرِ ومَا ُأ ِهلّ ِلغَيرِ اللّهِ بِه‬ ‫ح ّر َمتْ عليكُم ال َم ْيتَةُ والدّمُ َوَلحْ ُم ال ِ‬ ‫‪ -‬يقول اللّه تبارك وتعالى ‪ُ { :‬‬

‫صبِ وأنْ‬ ‫سبُعُ إلّ ما َذ ّك ْيتُم وما ُذبِحَ على الّن ُ‬ ‫خ ِن َق ُة والمَوقُوذَةُ وال ُم َترَ ّد َي ُة وال ّنطِيحةُ وما َأ َكلَ ال ّ‬ ‫وال ُم ْن َ‬

‫سقٌ ‪ } ...‬فقد حرّم سبحانه في هذه الية أنواعا منها ‪ :‬المتردّية إلّ إذا‬ ‫سمُوا بالزْلمِ ذلكم فِ ْ‬ ‫س َت ْق ِ‬ ‫َت ْ‬ ‫ذكّيت ذكا ًة شرعيّةً ‪ ،‬اختياريّةً كانت بالذّبح أو النّحر في محلّه ‪ .‬أو اضطراريّةً بالجرح بالطّعن‬

‫وإنهار الدّم في أيّ موضع تيسّر من البدن ‪ .‬ول ينتقل إلى الثّانية إلّ عند العجز عن الولى ‪.‬‬

‫ول خلف بين الفقهاء في أنّ الذّكاة ‪ :‬إمّا اختياريّة في المقدور عليه ‪ ،‬وتكون بالذّبح فيما‬

‫يذبح ‪ ،‬كالبقر والغنم ‪ ،‬أو النّحر فيما ينحر كالبل ‪ ،‬ول تحلّ بغير الذّكاة في محلّها ‪ .‬وإمّا‬ ‫اضطراريّة في غير المقدور عليه ‪ ،‬كالحيوان المتوحّش الشّارد والمتردّي في بئر مثلً ‪،‬‬

‫وتعذّرت ذكاته في محلّها ‪ ،‬وهي ‪ -‬أي الضطراريّة ‪ -‬تكون بالعقر ‪ ،‬وهو الجرح في أيّ‬

‫موضع كان من البدن ‪ .‬واستثنى الحنفيّة الشّاة إذا ندّت في المصر ‪ ،‬فقالوا بعدم جواز عقرها ‪،‬‬ ‫حيث يمكن القدرة عليها وإمساكها ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬فما تردّى من النّعم في بئر مثلً ‪ ،‬ووقع العجز عن تذكيته الذّكاة الختياريّة ‪ ،‬فذكاته العقر‬

‫والجرح في أيّ موضع من جسمه تيسّر للعاقر فعله ‪ ،‬كالنّادّ غير المقدور عليه ‪ .‬وبذلك يحلّ‬

‫أكله إلّ أن تكون رأسه في الماء ‪ ،‬فل يحلّ أكله ‪ ،‬لنّ الماء يعين على قتله ‪ ،‬ويحتمل أن يكون‬ ‫قتله بالماء ‪ -‬في قول أكثر الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وفي قول لبن حبيب من‬

‫المالكيّة ) ‪ -‬لما روى رافع بن خديج رضي ال عنه قال ‪ « :‬كنّا مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫فندّ بعير ‪ ،‬وكان في القوم خيل يسيرة ‪ ،‬فطلبوه فأعياهم ‪ ،‬فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه اللّه ‪،‬‬

‫فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ‪ ،‬فما غلبكم منها فاصنعوا‬ ‫به هكذا » ‪ ،‬وفي لفظ « فما ندّ عليكم فاصنعوا به هكذا » ‪ .‬ومن حديث أبي العشراء الدّارميّ‬

‫عن أبيه أنّه « قال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ .‬أما تكون الذّكاة إلّ في الحلق والّلبّة ؟ فقال صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ :‬لو طعنت في فخذها لجزأك » قال أبو داود ‪ :‬هذا ل يصحّ إلّ في المتردّية والمتوحّش‬ ‫‪ .‬وقال المجد ‪ :‬هذا فيما ل يقدر عليه ‪.‬‬

‫والمشهور عند المالكيّة ‪ -‬سوى ابن حبيب ‪ -‬أنّ المتردّية ل يحلّها العقر ‪ ،‬وإنّما تحلّها الذّكاة‬

‫بالذّبح إن كانت ممّا يذبح ‪ ،‬أو النّحر إن كانت ممّا ينحر ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬وقال الحنفيّة ‪ :‬لو رمى صيدا فوقع في ماء فيحرم ‪ ،‬لحتمال قتله بالماء ‪ ،‬أو وقع على‬

‫ن الحتراز عن مثل هذا ممكن ‪.‬‬ ‫سطح أو جبل فتردّى منه إلى الرض حرم ‪ ،‬ل ّ‬

‫‪ -5‬وفي المغني ومطالب أولي النّهى للحنابلة ‪ :‬لو رمى حيوانا فوقع في ماء يقتله مثله ‪ ،‬أو‬

‫تردّى تردّيا يقتله مثله لم يؤكل ‪ ،‬لنّه يحتمل أنّ الماء أعان على خروج روحه ‪ .‬أمّا لو وقع‬

‫الحيوان في الماء على وجه ل يقتله ‪ ،‬مثل أن يكون رأسه خارجا من الماء ‪ ،‬أو يكون من طير‬ ‫الماء الّذي ل يقتله الماء ‪ ،‬أو كان التّردّي ل يقتل مثل ذلك الحيوان فل خلف في إباحته ‪ ،‬لنّ‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ ... « :‬فإن وجدته غريقا في الماء فل تأكله »‬

‫ن الوقوع في الماء والتّردّي إنّما حرم خشية أن يكون قاتلً أو معينا على القتل ‪.‬‬ ‫ول ّ‬

‫فإن رمى طائرا في الهواء أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الرض فمات حلّ ‪ ،‬لنّ الحتراز‬ ‫منه غير ممكن ‪.‬‬

‫‪ -6‬ولو تردّى بعيران ‪ -‬مثلً ‪ -‬أحدهما فوق الخر في نحو بئر ‪.‬‬

‫فإن مات السفل بثقل العلى مثلً لم يحلّ ‪ ،‬بخلف ما لو طعن العلى بنحو سهم أو رمح ‪،‬‬ ‫فوصل إلى السفل وأثّر فيه يقينا ‪ ،‬فهما حلل وإن لم يعلم بالسفل ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترسّل *‬

‫‪ -‬للتّرسّل في اللّغة معان ‪ ،‬منها ‪ :‬التّمهّل والتّأنّي ‪ .‬يقال ‪ :‬ترسّل في قراءته بمعنى ‪ :‬تمهّل‬

‫واتّأد فيها ‪ .‬وترسّل الرّجل في كلمه ومشيه ‪ :‬إذا لم يعجل ‪ .‬وفي حديث عمر رضي ال عنه‬

‫« إذا أذّنت فترسّل » ‪ :‬أي تأنّ ول تعجل ‪ .‬ول يخرج معناه اصطلحا عن هذا ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنّه‬

‫في الذان ‪ :‬التّمهّل والتّأنّي وترك العجلة ‪ ،‬ويكون بسكتة بين كلّ جملتين من جمل الذان تسع‬

‫الجابة ‪ ،‬وذلك من غير تمطيط ول مدّ مفرط ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬والحدر يقابل التّرسّل ‪ ،‬وله في اللّغة معان منها ‪ :‬السراع في القراءة ‪ .‬يقال ‪ :‬حدر‬

‫الرّجل الذان والقامة والقراءة وحدر فيها كلّها حدرا من باب قتل ‪ :‬إذا أسرع ‪.‬‬

‫وفي حديث الذان ‪ « :‬إذا أذّنت فترسّل ‪ ،‬وإذا أقمت فاحدر » أي أسرع ول يخرج معناه في‬ ‫الصطلح عن ذلك ‪.‬‬

‫ن النّبيّ صلى‬ ‫والحدر سنّة في القامة ‪ ،‬مكروه في الذان ‪ .‬لما روى جابر رضي ال عنه « أ ّ‬

‫ال عليه وسلم قال لبلل رضي ال عنه ‪ :‬يا بلل إذا أذّنت فترسّل ‪ ،‬وإذا أقمت فاحدر » ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ للتّرسّل ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬للتّرسّل أحكام تعتريه ‪ .‬فهو في الذان مسنون ‪.‬‬

‫وصفته ‪ :‬أن يتمهّل المؤذّن فيه بسكتة بين كلّ جملتين منه تسع إجابة السّامع له ‪ ،‬وذلك من‬

‫غير تمطيط ول مدّ مفرط ول تطريب ‪ ،‬لما روى جابر رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال‬ ‫عليه وسلم قال لبلل ‪ :‬يا بلل إذا أذّنت فترسّل » ‪ ،‬وما روي عن أبي الزّبير مؤذّن بيت‬

‫ن رجلً قال لبن عمر‬ ‫المقدس أنّ عمر رضي ال عنه قال ‪ « :‬إذا أذّنت فترسّل » وما روي أ ّ‬ ‫‪ :‬إنّي لحبّك في اللّه ‪ .‬قال ‪" :‬وأنا أبغضك في اللّه ‪.‬إنّك تغنّي في أذانك "‪.‬‬

‫هذا ما عليه الفقهاء ‪ .‬والتّرسّل في القامة مكروه ‪ ،‬وذلك أنّه يسنّ لمن يقيم الصّلة أن يسرع‬ ‫فيها ول يترسّل ‪ ،‬للحاديث السّابقة ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬والذان قد شرع للعلم بدخول الوقت وتنبيه الغائبين إليه ودعوتهم إلى الحضور‬

‫للصّلة ‪ .‬أمّا القامة فقد شرعت لعلم الحاضرين بالتّأهّب للصّلة والقيام لها ‪ ،‬ولذا كان‬ ‫التّرسّل في الذان أبلغ في العلم ‪ ،‬أمّا القامة فل حاجة فيها إلى التّرسّل ‪.‬‬

‫ولذا ُثنّي الذان وأفردت القامة ‪ ،‬لما روي عن أنس رضي ال عنه قال ‪ « :‬أمر بلل أن‬

‫يشفع الذان ويوتر القامة » ‪ .‬زاد حمّاد في حديثه " إلّ القامة " ‪ ،‬واستحبّ أن يكون الذان‬

‫في مكان عال بخلف القامة ‪ ،‬وأن يكون الصّوت في الذان أرفع منه في القامة ‪ ،‬وأن يكون‬

‫الذان مرتّلً والقامة مسرعةً ‪ ،‬وسنّ تكرار قد قامت الصّلة مرّتين في القامة ‪ ،‬لنّها‬ ‫المقصودة من القامة بالذّات ‪ ( .‬ر ‪ :‬أذان ‪ ،‬إقامة ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترسيم *‬

‫‪ -‬التّرسيم لغةً مصدر رسم ‪ .‬جاء في المعجم الوسيط ‪ :‬رسم الثّوب ‪ :‬خطّطه خطوطا خفيّةً ‪.‬‬

‫س َمتِ النّاقة ‪ :‬إذا أثّرت في الرض من شدّة‬ ‫والسم ‪ :‬الرّسم ‪ .‬وللرّسم معان منها الثر يقال ‪َ :‬ر َ‬

‫الوطء ‪ .‬ورسم الغيث الدّيار يرسمها رسما ‪ :‬إذا عفاها وأبقى أثرها لصقا بالرض ‪ .‬ويطلق‬

‫مجازا على المر بالشّيء يقال ‪ :‬رسم له كذا إذا أمره به فارتسم ‪ :‬أي امتثل به ‪ .‬والتّرسيم في‬

‫اصطلح الفقهاء ‪ -‬كما يفهم من كتب الفقه ‪ -‬هو ‪ :‬التّضييق على الشّخص ‪ ،‬وتحديد حركته ‪،‬‬ ‫بحيث ل يستطيع أن يذهب من مكان إلى آخر ‪.‬‬ ‫الشّهادة على إقرار ذي التّرسيم ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬جاء في حاشية القليوبيّ على شرح المنهاج ‪ :‬ل تجوز الشّهادة على إقرار نحو محبوس‬

‫ق أو‬ ‫وذي ترسيم ‪ ،‬لوجود أمارة الكراه ‪ .‬كما ل يصحّ من المحبوس وذي التّرسيم إقراره بح ّ‬

‫ما يوجب العقوبة ‪ .‬قال في شرح مطالب أولي النّهى ‪ :‬تقبل من مقرّ ونحوه دعوى إكراه على‬

‫إقرار بقرينة دالّة على إكراه ‪ ،‬كتهديد قادر على ما هدّد به من ضرب أو حبس ‪ ،‬وترسيم عليه‬

‫أو سجنه أو أخذ ماله ونحوه ‪ ،‬لدللة الحال عليه ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترشيد *‬

‫‪ -‬التّرشيد لغةً ‪ :‬مأخوذ من الرّشد ‪ ،‬وهو الصّلح وإصابة الصّواب ‪.‬‬

‫ورشّده القاضي ترشيدا ‪ :‬جعله رشيدا ‪ .‬والتّرشيد في اصطلح الفقهاء هو ‪ :‬رفع الحجر عن‬ ‫الصّغير بعد اختباره ‪ .‬وعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ :‬يكون الرّشد بالصّلح في المال ‪.‬‬

‫وهو عند الشّافعيّة ‪ :‬الصّلح في الدّين والمال ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬يجوز لوليّ الصّبيّ العاقل أن يدفع إليه شيئا من أمواله ‪ ،‬ويأذن له بالتّجارة للختبار ‪،‬‬

‫شدَا فَادْ َفعُوا إليهِمْ َأمْوَالَهم‬ ‫ستُم منهُم ُر ْ‬ ‫لقوله تعالى ‪ { :‬وَا ْبتَلُوا ال َيتَامَى حتّى إذا بََلغُوا ال ّنكَاحَ فإَنْ آ َن ْ‬

‫} أذن اللّه سبحانه وتعالى في ابتلء اليتامى ‪ ،‬والبتلء ‪ :‬الختبار ‪ ،‬وذلك بالتّجارة ‪ ،‬فكان‬

‫الذن بالبتلء إذنا بالتّجارة ‪ ،‬وإذا اختبره ‪ :‬فإن آنس منه رشدا وقد بلغ دفع الباقي إليه للية‬

‫المذكورة ‪ ،‬وإن لم يأنس منه رشدا منعه منه إلى أن يبلغ ‪ ،‬فإن بلغ رشيدا دفع إليه ‪ ،‬وإن بلغ‬

‫سفيها مفسدا مبذّرا فإنّه يمنع عنه ماله ‪ .‬عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد‬ ‫ولو صار شيخا ‪ ،‬حتّى يؤنس رشده بالختبار ‪.‬‬

‫ن الختبار يكون بتفويض التّصرّفات الّتي يتصرّف فيها أمثاله ‪ ،‬فأولد‬ ‫لكنّ الحنابلة قالوا ‪ :‬إ ّ‬

‫ال ّتجّار غير أولد الدّهاقين والكبراء ‪ ،‬وكذا أبناء المزارعين ‪ ،‬وأصحاب الحرف ‪ ،‬وكلّ واحد‬

‫ممّا ذكر يختبر فيما هو أهل له ‪ ،‬والنثى يفوّض إليها ما يفوّض إلى ربّة البيت ‪ ،‬فإن وجدت‬

‫ضابطةً لما في يدها مستوفيةً من وكيلها فهي رشيدة ‪.‬‬

‫ووقت الختبار عندهم قبل البلوغ في إحدى الرّوايتين ‪ ،‬وهو أحد الوجهين لصحاب الشّافعيّ ‪،‬‬ ‫ن اللّه تعالى قال ‪ { :‬وَا ْبتَلُوا ال َيتَامَى } فظاهر الية أنّ ابتلءهم قبل البلوغ لوجهين ‪ :‬أحدهما‬ ‫لّ‬ ‫‪ :‬أنّه سمّاهم يتامى ‪ ،‬وإنّما يكونون يتامى قبل البلوغ ‪.‬‬

‫والثّاني ‪ :‬أنّه م ّد اختبارهم إلى البلوغ بلفظ ‪ :‬حتّى ‪ ،‬فدلّ على أنّ الختبار قبله ‪.‬‬

‫والرّواية الخرى عن أحمد ‪ ،‬وهو الوجه الخر لصحاب الشّافعيّ ‪ :‬أنّ الختبار بعد البلوغ ‪.‬‬

‫والختبار واجب عند الحنابلة والشّافعيّة ‪.‬‬

‫ي وجوبا رشد الصّبيّ في الدّين والمال للية السّابقة ‪ ،‬أمّا في الدّين‬ ‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يختبر الول ّ‬ ‫‪ :‬فبمشاهدة حاله في العبادات ‪ ،‬والمعاملت ‪ ،‬وتجنّب المحظورات ‪ ،‬وتوقّي الشّبهات ‪،‬‬

‫ومخالطة أهل الخير ‪ ،‬وأمّا في المال ‪ :‬فكما قال الئمّة الثّلثة ‪.‬‬

‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إن بلغ سفيها مفسدا مبذّرا يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنةً ما لم يؤنس‬

‫رشده قبلها ‪ ،‬فإذا بلغ السّنّ المذكورة يسلّم إليه ماله وجوبا وإن لم يكن رشيدا ‪ ،‬لنّه بلغ سنّا‬

‫ن المنع للتّأديب فإذا بلغ هذه السّنّ انقطع رجاء التّأديب ‪ ،‬وهذا عند‬ ‫يتصوّر أن يصير جدّا ‪ ،‬ول ّ‬ ‫أبي حنيفة ‪.‬‬

‫من يتولّى التّرشيد ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة إلى ‪ :‬أنّ ترشيد الصّبيّ إذا بلغ وأونس‬

‫منه الرّشد ‪ ،‬أو المجنون إذا عقل يصحّ أن يكون من الوليّ ‪ ،‬ول يحتاج إلى حكم حاكم ‪،‬‬

‫ويصحّ أن يكون من الحاكم أيضا عند الختلف ‪.‬‬

‫والنثى عندهم في ذلك كالذّكر ‪ ،‬فيدفع إليها مالها إذا بلغت وأونس رشدها ‪ ،‬سواء تزوّجت أم‬

‫لم تتزوّج ‪ .‬وهناك رواية عن المام أحمد أنّ الحجر ل يزول عن النثى حتّى تتزوّج وتلد ‪ ،‬أو‬

‫تمضي عليها سنة في بيت الزّوج ‪ .‬وأمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين ترشيد الصّبيّ وترشيد الصّبيّة ‪،‬‬ ‫وفكّ الحجر عنهما ‪ ،‬وكذلك بين التّرشيد للنثى إذا كانت معلومة الرّشد وبين غيرها ‪ ،‬وفرّقوا‬ ‫أيضا بين التّرشيد في الب والوصيّ والمقدّم ‪.‬‬

‫ك الحجر عنه بمجرّد البلوغ مع حفظه لماله ‪ ،‬ول يحتاج‬ ‫أمّا الصّبيّ فإن كان في ولية الب ينف ّ‬ ‫ك منهما ‪،‬‬ ‫ي أو المقدّم فل بدّ من الف ّ‬ ‫إلى أن يفكّ الب الحجر عنه ‪ ،‬وإن كان في وصاية الوص ّ‬ ‫ول يحتاج إلى إذن القاضي ‪.‬‬

‫وفي النثى يكون الحجر عليها لحين بلوغها مع حفظ المال ‪ ،‬ودخول الزّوج بها وشهادة عدلين‬

‫ك عنها بذلك ‪ ،‬ول يحتاج لفكّ‬ ‫على حسن تصرّفها ‪ .‬فإن كانت في ولية الب ‪ ،‬فإنّ الحجر ينف ّ‬

‫من الب ‪ ،‬ويجوز للب ترشيدها قبل الدّخول إذا بلغت ‪ ،‬وإن كانت في وصاية الوصيّ أو‬ ‫المقدّم ‪ ،‬فل بدّ من الفكّ منهما بعد الدّخول ‪.‬‬

‫ثمّ إن كانت النثى معلومة الرّشد فإنّه يجوز ترشيدها مطلقا ‪ :‬أي قبل الدّخول وبعده لكلّ من‬ ‫الب والوصيّ والمقدّم ‪ .‬وأمّا مجهولة الرّشد فإنّه يجوز للب ترشيدها قبل الدّخول وبعده ‪،‬‬

‫وللوصيّ ترشيدها بعد الدّخول ل قبله ‪ ،‬ول يجوز للمقدّم ترشيدها ل قبل الدّخول ول بعده ‪.‬‬

‫ما يكون به التّرشيد ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬ليس للتّرشيد لفظ معيّن عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬فكما يكون صراح ًة يكون دللةً‬

‫ن ترشيد الصّبيّ يكون بقول الوليّ للعدول ‪ :‬اشهدوا أنّي‬ ‫أيضا ‪ .‬وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أ ّ‬ ‫فككت الحجر عن فلن محجوري ‪ ،‬وأطلقت له التّصرّف ‪ ،‬وملّكت له أمره ‪ .‬وترشيد النثى‬

‫يكون بقوله لها ‪ :‬رشّدتك ‪ ،‬أو أطلقت يدك ‪ ،‬أو رفعت الحجر عنك ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪.‬‬

‫ضمان المال إذا أخطأ الوليّ في التّرشيد ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫ن وصيّ الصّغير إذا دفع إليه ماله قبل ثبوت رشده ‪ ،‬فضاع المال في‬ ‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬

‫يده أو أتلفه الصّغير ‪ ،‬يصير الوصيّ ضامنا ‪ .‬وأمّا إذا بلغ ولم يعلم رشده وسفهه ‪ ،‬فأعطى‬ ‫الوصيّ له ماله ‪ ،‬وثبت كونه مفسدا وغير رشيد ‪ ،‬فيلزم الوصيّ الضّمان على ما في‬

‫ي ضمان على ما أفاده صاحب تنقيح‬ ‫الولوالجيّة والشّلبيّ ‪ ،‬وفي قول آخر ‪ :‬ل يلزم الوص ّ‬

‫ي ل يضمن شيئا ممّا أتلفه بعد ترشيده ‪ ،‬لنّ‬ ‫الفتاوى الحامديّة ‪ .‬ويرى المالكيّة والحنابلة أنّ الول ّ‬ ‫الوليّ فعله باجتهاده ‪ .‬وأمّا الشّافعيّة فلم ينصّوا على مسألة الضّمان ‪.‬‬

‫ترضّي *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّرضّي ‪ :‬طلب الرّضا ‪ .‬والرّضا ‪ :‬خلف السّخط ‪ .‬والتّرضّي عن فلن قول ‪ :‬رضي‬

‫اللّه عنه ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّرضّي عن هذا المعنى ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬التّرحّم ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّرحّم ‪ :‬من الرّحمة ‪ ،‬ولها في اللّغة معان متعدّدة منها ‪ :‬الرّقة ‪ ،‬والخير ‪ ،‬والنّعمة ‪،‬‬

‫ح َمتِه مَنْ َيشَاءُ } أي بنبوّته ‪.‬‬ ‫ختَصّ ِب َر ْ‬ ‫والنّبوّة ‪ .‬ومنه الية الكريمة ‪ { :‬والّل ُه َي ْ‬

‫والتّرحّم قول ‪ :‬رحمه اللّه ‪ ،‬وترحّمت عليه ‪ :‬أي قلت له ‪ :‬رحمة اللّه عليك ‪ ،‬ورحّم عليه قال‬ ‫‪ :‬رحمة اللّه عليه ‪ ،‬وتراحم القوم ‪ :‬رحم بعضهم بعضا ‪.‬‬

‫فالتّرضّي دعاء بالرّضا ‪ ،‬والتّرحّم دعاء بالرّحمة ‪.‬‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬يختلف حكم التّرضّي باختلف المترضّى عنه على النّحو التّالي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّرضّي عمّن اختلف في نبوّته ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬يستحبّ التّرضّي عمّن اختلف في نبوّته ‪ :‬كذي القرنين ‪،‬ولقمان ‪ ،‬وذي الكفل وغيرهم ‪.‬‬

‫ن الرجح أن‬ ‫وذكر ابن عابدين نقلً عن النّوويّ ‪ :‬أنّ الدّعاء بالصّلة عليهم ل بأس به ‪ ،‬ولك ّ‬

‫يقال ‪ :‬رضي اللّه عنهم ‪ ،‬لنّ مرتبتهم غير مرتبة النبياء ‪ ،‬ولم يثبت كونهم أنبياء ‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬التّرضّي عن الصّحابة ‪:‬‬

‫‪ - 5‬ل خلف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ التّرضّي عن الصّحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬لنّهم كانوا‬

‫يبالغون في طلب الرّضا من اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬ويجتهدون في فعل ما يرضيه ‪ ،‬ويرضون‬

‫ق بالرّضا ‪.‬‬ ‫بما يلحقهم من البتلء من عنده أشدّ الرّضا ‪ ،‬فهؤلء أح ّ‬

‫وإن كان صحابيّا ابن صحابيّ كابن عمر وابن عبّاس قال ‪ :‬رضي ال عنهما ‪،‬لتشمله وأباه ‪.‬‬

‫وإذا كان هو وأبوه وجدّه من الصّحابة قال ‪ :‬رضي اللّه عنهم كعبد الرّحمن بن أبي بكر‬

‫الصّدّيق بن أبي قحافة رضي ال عنهم ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّرضّي عن غير الصّحابة ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬قال صاحب عمدة البرار ‪ :‬يجوز التّرضّي عن السّلف من المشايخ والعلماء وذلك لقوله‬

‫جنّاتُ‬ ‫ع ْندَ َر ّب ِهمْ َ‬ ‫جزَا ُؤهُمْ ِ‬ ‫خيْ ُر ال َب ِريّ ِة َ‬ ‫ك ُهمْ َ‬ ‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُوَل ِئ َ‬ ‫تعالى ‪ { :‬إنّ الّذينَ آ َمنُوا و َ‬ ‫عنْهُ } ‪.‬‬ ‫ع ْنهُم َو َرضُوا َ‬ ‫ي اللّهُ َ‬ ‫ضَ‬ ‫ل ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َأبَدَا َر ِ‬ ‫ح ِتهَا ا َ‬ ‫ج ِريْ مِنْ َت ْ‬ ‫عَدْنٍ َت ْ‬

‫ففي الية الكريمة ذكر عامّة المؤمنين بهذا ‪ ،‬من الصّحابة وغيرهم ‪.‬‬

‫وكما ذكر في كثير من الكتب مثل ‪ :‬التّقويم ‪ ،‬والبزدويّ ‪ ،‬والسّرخسيّ ‪ ،‬والهداية وغيرها بعد‬

‫ذكر الساتذة أو بعد ذكر نفسه " رضي اللّه "‬

‫فلو لم يجز الدّعاء بهذا اللّفظ ما ذكروه في كتبهم ‪ ،‬وهكذا جرت العادة بين أهل العلم بالبتداء‬

‫بهذا الدّعاء ‪ ،‬حيث يقولون ‪ :‬رضي اللّه عنك وعن والديك إلى آخره ‪ .‬ولم ينكر أحد منهم ‪ ،‬بل‬

‫استحسنوا الدّعاء بهذا اللّفظ ‪ ،‬وكانوا يعلّمون ذلك لتلمذتهم ‪ ،‬فعليه عمل المّة ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬المحافظة على كتابة التّرضّي ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬ينبغي أن يحافظ على كتابة التّرضّي عن الصّحابة والتّابعين من العلماء وسائر الخيار ‪،‬‬

‫ول يسأم من تكراره ‪ ،‬ومن أغفله حرم حظّا عظيما ‪ ،‬وإذا جاءت الرّواية بالتّرضّي كانت‬

‫العناية به أشدّ ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬ما يجب على سامع التّرضّي ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪ -‬ينبغي لسامع التّرضّي عن الصّحابة ولو حال الخطبة أن يترضّى عنهم ‪ ،‬كما ينبغي لسامع‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لنّه أفضل من النصات ‪.‬‬ ‫الصّلة على النّب ّ‬

‫وفي ذلك خلف وتفصيل ينظر في ( خطبة ) ‪.‬‬

‫ترك *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّرْك لغةً ‪َ :‬ودْعُك الشّيء ‪ ،‬ويقال ‪ :‬تركت الشّيء ‪ :‬إذا خلّيته ‪ ،‬وتركت المنزل ‪ :‬إذا‬

‫رحلت عنه ‪ ،‬وتركت الرّجل ‪ :‬إذا فارقته ‪ .‬ث ّم استعير للسقاط في المعاني ‪ ،‬فقيل ‪ :‬ترك حقّه ‪:‬‬ ‫إذا أسقطه ‪ ،‬وترك ركعةً من الصّلة ‪ :‬إذا لم يأت بها ‪ ،‬فإنّه إسقاط لما ثبت شرعا ‪.‬‬

‫ف النّفس عن اليقاع ‪ ،‬فهو فعل نفسيّ ‪،‬‬ ‫والتّرك في اصطلح أكثر الصوليّين والفقهاء ‪ :‬ك ّ‬

‫وقيل ‪ :‬إنّه ليس بفعل ‪.‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الهمال ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬الهمال ‪ :‬التّرك عن عمد أو نسيان ‪ ،‬ويقال ‪ :‬أهمله إهمالً إذا خلّى بينه وبين نفسه ‪،‬‬

‫ويأتي عند الفقهاء بمعنى التّرك ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّخلية ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّخلية ‪ :‬التّرك ويستعمله الفقهاء في ‪ :‬تمكين الشّخص من التّصرّف في الشّيء دون حائل‬

‫‪ .‬فالتّرك أعمّ من التّخلية ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬السقاط والبراء ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫ق ل إلى مالك أو مستحقّ ‪.‬‬ ‫‪ -‬السقاط ‪ :‬إزالة الملك أو الح ّ‬

‫والبراء ‪ :‬إسقاط الشّخص حقّا له في ذمّة آخر أو قبله ‪ .‬وكلهما يستعمل في موطن التّرك إلّ‬ ‫ن التّرك أع ّم في استعمالته ‪.‬‬ ‫أّ‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬التّرك والحكم الشّرعيّ ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫أوّلً ‪ -‬التّرك عند الصوليّين ‪:‬‬

‫‪ -‬اقتضاء التّرك في خطاب اللّه تعالى المتعلّق بفعل المكلّف هو أحد أقسام الحكم الشّرعيّ‪.‬‬

‫واقتضاء التّرك لشيء إن كان جازما فهو للتّحريم ‪ ،‬وإن كان غير جازم فهو للكراهة ‪ ،‬وإن‬ ‫كان مساويا لقتضاء الفعل في الخطاب فهو للباحة ‪ .‬وانظر الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّرك فعل يتعلّق به التّكليف ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬يتعلّق التّكليف بالتّرك بناءً على أنّه فعل ‪ ،‬إذ المكلّف به في النّهي المقتضي للتّرك هو‬

‫الكفّ ‪ ،‬أي كفّ النّفس عن الفعل إذا أقبلت عليه ‪ ،‬وذلك فعل ‪ ،‬ومن ث ّم كانت القاعدة الصوليّة‬ ‫ل بفعل ) وذلك متحقّق في المر ‪ ،‬وفي النّهي على اعتبار أنّ مقتضاه وهو التّرك‬ ‫( ل تكليف إ ّ‬

‫فعل ‪ ،‬وهذا ما ذهب إليه أكثر الصوليّين ‪.‬‬

‫واستدلّوا على ذلك بأنّ التّرك من مقتضى النّهي ‪ ،‬والنّهي تكليف ‪ ،‬والتّكليف إنّما يرد بما كان‬

‫ن القدرة ل بدّ لها من أثر وجوديّ‬ ‫ي يمتنع أن يكون مقدورا ‪ ،‬ل ّ‬ ‫مقدورا للمكلّف ‪ ،‬والعدم الصل ّ‬ ‫‪ ،‬والعدم نفي محض ‪ ،‬فيمتنع إسناده إليها ‪ .‬ولنّ العدم الصليّ ‪ -‬أي المستمرّ ‪ -‬حاصل ‪،‬‬

‫ن مقتضى النّهي ليس هو العدم ثبت أنّه أمر‬ ‫والحاصل ل يمكن تحصيله ثانيا ‪ ،‬وإذا ثبت أ ّ‬

‫وجوديّ ‪ .‬كذلك قالوا ‪ :‬إنّ ممتثل التّكليف مطيع والطّاعة حسنة ‪ ،‬والحسنة مستلزمة للثّواب ‪،‬‬

‫ول يثاب إلّ على شيء ( وألّ يفعل ) عدم محض وليس بشيء ‪ ،‬وإذا لم يصدر منه شيء‬

‫فكيف يثاب على ل شيء ؟ ‪.‬‬

‫وقال قوم ‪ ،‬منهم أبو هاشم ‪ :‬إنّ التّرك غير فعل ‪ ،‬وهو انتفاء المنهيّ عنه ‪ ،‬وذلك مقدور‬

‫للمكلّف بأن ل يشاء فعله الّذي يوجد بمشيئته ‪ .‬وانظر ‪ :‬الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬والخروج عن العهدة ل يشترط له قصد التّرك امتثالً ‪ ،‬بل يكفي مجرّد التّرك ‪ .‬إنّما‬

‫يشترط قصد التّرك امتثالً لحصول الثّواب ‪ .‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّما العمال‬ ‫بالّنيّات » ‪ .‬وفي تقريرات الشّربينيّ على جمع الجوامع ‪ :‬في التّكليف بالنّهي ثلثة أمور ‪:‬‬

‫الوّل ‪ :‬المكلّف به ‪ ،‬وهو مطلق التّرك ‪ ،‬ول يتوقّف على قصد المتثال ‪ ،‬بل مداره على إقبال‬

‫النّفس على الفعل ‪ ،‬ثمّ كفّها عنه ‪.‬‬

‫الثّاني ‪ :‬المكلّف به المثاب عليه ‪ ،‬وهو التّرك بقصد المتثال ‪.‬‬

‫الثّالث ‪ :‬عدم المنهيّ عنه ‪ ،‬وهو المقصود ‪ ،‬لكنّه ليس مكلّفا به ‪ ،‬لعدم قدرة المكلّف عليه ‪.‬‬ ‫وانظر الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّرك وسيلة لبيان الحكام ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬قد يكون التّرك وسيلةً لبيان الحكم الشّرعيّ ‪ ،‬يقول القرافيّ ‪ :‬البيان إمّا بالقول أو بالفعل‬

‫كالكتابة والشارة ‪ ،‬أو بالدّليل العقليّ ‪ ،‬أو بالتّرك ‪ .‬والتّرك يبيّن به حكم المحرّم والمكروه‬ ‫والمندوب ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬ترك المحرّمات ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫ثانيا ‪ -‬التّرك عند الفقهاء ‪:‬‬

‫‪ -‬المحرّمات الّتي نهى الشّرع عنها ‪ ،‬سواء أكانت من عمل الجوارح كالزّنى والسّرقة والقتل‬

‫والكذب والغيبة والنّميمة ‪ ،‬أم كانت من عمل القلب كالحقد والحسد ‪.‬‬

‫هذه المحرّمات يجب تركها امتثالً للنّهي الوارد من الشّرع ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ { :‬ول تَ ْق َربُوا‬ ‫حقّ } وقول النّبيّ صلى ال‬ ‫ح ّرمَ الّل ُه إلّ بِال َ‬ ‫ال ّزنَى } ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬ول تَ ْقتُلُوا النّفْسَ الّتي َ‬

‫ن يا رسول اللّه ؟ قال ‪ :‬الشّرك باللّه ‪،‬‬ ‫عليه وسلم ‪ « :‬اجتنبوا السّبع الموبقات ‪ ،‬قيل ‪ :‬وما ه ّ‬

‫والسّحر ‪ ،‬وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلّ بالحقّ ‪ ،‬وأكل مال اليتيم ‪ ،‬والتّولّي يوم الزّحف ‪،‬‬ ‫وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات ‪ ،‬وأكل الرّبا ‪ ،‬وشهادة الزّور » ‪.‬‬

‫يقول الفقهاء ‪ :‬يجب على المكلّف كفّ الجوارح عن الحرام ‪ ،‬وكفّ القلب عن الفواحش ‪ ،‬وهو‬ ‫طنَه } وفعل المحرّمات معصية يترتّب عليها‬ ‫ل ْثمِ وبَا ِ‬ ‫معنى قوله تعالى ‪َ { :‬و َذرُوا ظَاهِ َر ا ِ‬

‫العقوبة المقرّرة لكلّ معصية ‪ ،‬سواء أكانت حدّا كما في الزّنا والسّرقة ‪ ،‬أم كانت قصاصا كما‬ ‫في الجنايات ‪ ،‬أم كانت تعزيرا كما في المعاصي الّتي ل حدّ فيها ‪.‬‬

‫ومن المقرّر أنّ بعض المحرّمات تباح عند الضطرار ‪ ،‬وقد تجب ‪ ،‬كأكل الميتة في المخمصة‬

‫إحياءً للنّفس ‪ ،‬وكشرب الخمر لزالة الغصّة ‪ ،‬وذلك بالشّروط المنصوص عليها في الحالتين ‪.‬‬

‫وهكذا وينظر كلّ ما سبق في أبوابه ‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬ترك الحقوق ‪:‬‬

‫الحقّ إمّا أن يكون للّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬وإمّا أن يكون للعباد ‪.‬‬

‫‪ -9‬أمّا حقّ اللّه سبحانه وتعالى كالعبادات مثلً ‪ ،‬فتركها حرام بالجماع ‪ ،‬ويعصي تاركها ‪،‬‬

‫ويكون آثما ‪ ،‬ويترتّب عليها الكفر إن كان تركها جحدا لها مع كونها فرضا معلوما من الدّين‬ ‫بالضّرورة ‪ ،‬أو الثم والعقوبة إن كان تركها كسلً ‪.‬‬

‫يقول الزّركشيّ ‪ :‬إذا امتنع المكلّف من الواجب ‪ ،‬فإن لم تدخل النّيابة نظر ‪ :‬فإن كان حقّا للّه‬

‫تعالى نظر ‪ :‬إن كانت صلةً طولب بها فإن لم يفعل قتل ‪ ،‬وإن كان صوما حبس ومنع الطّعام‬ ‫والشّراب ‪ ...‬وإن دخلته النّيابة قام القاضي مقامه ‪ ،‬كما في عضل الوليّ المجبر في النّكاح ‪،‬‬

‫على تفصيل في ذلك وفيما تدخله النّيابة ‪ .‬وهذا بالنّسبة للمجمع عليه ‪ .‬أمّا المختلف فيه ‪ ،‬فإن‬ ‫كان تاركه معتقدا جواز ذلك فل شيء فيه ‪ ،‬وإن كان معتقدا تحريمه فهو آثم ‪.‬‬

‫وكذلك يأثم المسلم المكلّف بترك السّنن المؤكّدة الّتي تعتبر من شعائر السلم عند الحنفيّة ‪،‬‬

‫وفي وجه عند الشّافعيّة ‪ ،‬كالجماعة والذان وصلة العيدين إذ في تركها تهاون بالشّرع ‪،‬‬

‫ولذلك لو اتّفق أهل بلدة على تركها وجب قتالهم ‪ ،‬بخلف سائر المندوبات ‪ ،‬لنّها تفعل فرادى‬ ‫‪ .‬هذا ويباح ترك الواجب للضّرورة ‪ ،‬إذ المعهود في الشّريعة دفع الضّرر بترك الواجب إذا‬

‫تعيّن طريقا لدفع الضّرر ‪.‬‬

‫ومن ثمّ كانت المسامحة في ترك الواجب أوسع من المسامحة في فعل المحرّم ‪ ،‬واعتناء الشّرع‬

‫بالمنهيّات فوق اعتنائه بالمأمورات ‪ ،‬ولهذا قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا نهيتُكم عن‬

‫شيء فاجتنبوه ‪ ،‬وإذا أمرتُكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم » ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬والحدود الّتي تكون حقّا للّه تعالى ‪ ،‬كحدّ الزّنى والسّرقة يجب إقامتها متى بلغت المام ‪.‬‬

‫قال الفقهاء ‪ :‬الحدّ ل يقبل السقاط بعد ثبوت سببه عند الحاكم ‪.‬‬

‫وعليه بني عدم جواز الشّفاعة فيه ‪ ،‬فإنّها طلب ترك الواجب ‪ ،‬ولذا « أنكر رسول اللّه صلى‬

‫ال عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي ال عنهما حين شفع في المخزوميّة الّتي سرقت فقال‬

‫‪ :‬أتشفع في حدّ من حدود اللّه ؟ ‪ » ...‬ولنّ الحدّ بعد بلوغ المام يصير حقّا للّه تعالى ‪ ،‬فل‬

‫يجوز للمام تركه ول يجوز لحد الشّفاعة في إسقاطه ‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫ق للّه تعالى‬ ‫‪ -‬أمّا بالنّسبة للتّعزير فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه إن كان الح ّ‬

‫ن المصلحة في إقامته ‪ .‬وقال‬ ‫وجب إقامته كالحدود ‪ ،‬إن رأى المام أنّه ل ينزجر إلّ به ‪،‬أو أ ّ‬

‫الشّافعيّ ‪ :‬هو غير واجب على المام ‪ ،‬إن شاء أقامه وإن شاء تركه ‪.‬‬

‫وينظر تفصيل ذلك في ( حدّ ‪ -‬تعزير ) ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫ق العبد ‪ ،‬فإن كان حقّا له فتركه جائز ‪ ،‬إذ الصل أنّ كلّ جائز التّصرّف ل يمنع‬ ‫‪ -‬وأمّا ح ّ‬

‫من ترك حقّه ‪ ،‬ما لم يكن هناك مانع من ذلك كتعلّق حقّ الغير به ‪ ،‬بل قد يكون التّرك مندوبا‬ ‫ق قبل الغير ‪ ،‬أمّا إذا‬ ‫إذا كان قربةً ‪ ،‬كإبراء المعسر والعفو عن القصاص ‪ .‬هذا إذا كان الح ّ‬

‫كان قبل نفسه فقد يكون التّرك حراما كما إذا ترك الكل والشّرب حتّى هلك ‪ ،‬وكما إذا ألقي‬ ‫في ماء يمكنه الخلص منه عادةً ‪ ،‬فمكث فيه مختارا حتّى هلك ‪ .‬وقيل في التّمتّع بأنواع‬

‫ت ما َرزَ ْقنَاكُم } وقيل ‪:‬‬ ‫ط ّيبَا ِ‬ ‫ن التّرك من البدع المذمومة ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬كُلُوا مِنْ َ‬ ‫طيّبات ‪ :‬إ ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫حيَا ِتكُم الدّنيا } ‪.‬‬ ‫ط ّيبَا ِتكُم في َ‬ ‫ن التّرك أفضل لقوله تعالى ‪َ { :‬أذْ َه ْبتُم َ‬ ‫إّ‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬وإن كان الحقّ للغير ‪ ،‬وترتّب في ذمّة شخص ‪ ،‬وأصبح ملتزما به حفظا أو أداءً ‪ ،‬فإنّ‬

‫ق لهله ‪ ،‬مع الضّمان فيما‬ ‫ترك الحفظ أو الداء يعتبر معصيةً تستوجب التّعزير حتّى يؤدّي الح ّ‬

‫ضاع أو تلف ‪.‬‬

‫وإن كان الحقّ يتعلّق بنفع الغير ‪ ،‬لكن لم يلتزم به شخص ‪ ،‬وكان في ترك القيام بما يحقّق‬

‫النّفع ضياع المال أو تلفه ‪ ،‬كمن ترك التقاط لقطة تضيع لو تركها ‪ ،‬أو ترك قبول وديعة تضيع‬ ‫لو لم يقبلها ‪ ،‬فتلف المال أو ضاع ‪ ،‬فإنّه يأثم بالتّرك عند جمهور الفقهاء لحرمة مال الغير ‪،‬‬

‫خلفا للحنابلة إذ الخذ ليس بواجب عندهم ‪ ،‬بل هو مستحبّ ‪ ،‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪ .‬لكنّ‬ ‫ل يكلّف النسان‬ ‫الفقهاء يختلفون في ترتّب الضّمان بناءً على اختلفهم ‪ ،‬هل يعدّ التّرك فع ً‬

‫بموجبه ‪ ،‬إذ ل تكليف إلّ بفعل ‪ ،‬أم ل يعتبر فعلً ؟ ‪ .‬فعند الشّافعيّة والحنابلة وجمهور‬

‫الحنفيّة ‪ ،‬وفي قول عند المالكيّة ‪ :‬ل ضمان بالتّرك عند الضّياع أو التّلف ‪ ،‬إذ التّرك في‬

‫نظرهم ليس سببا ول تضييعا ‪ ،‬بل هو امتناع من حفظ غير ملزم ‪ ،‬ولنّ المال إنّما يضمن‬

‫باليد أو التلف ‪ ،‬ولم يوجد شيء من ذلك ‪ ،‬وهذا بخلف ما إذا التقط أو قبل الوديعة وترك‬ ‫الحفظ حتّى ضاع المال أو تلف ‪ ،‬فإنّه يضمن حينئذ لتركه ما التزم به ‪.‬‬

‫والمشهور عند المالكيّة ‪ ،‬وهو قول عند الحنفيّة ‪ :‬ترتّب الضّمان على التّرك في مثل ذلك ‪.‬‬

‫بناءً على أنّ التّرك فعل في المشهور من المذهب ‪ ،‬بل إنّ المالكيّة يضمّنون الصّبيّ في ترك ما‬

‫ي مميّز على صيد مجروح لم ينفذ مقتله ‪ ،‬وأمكنته ذكاته ‪ ،‬فترك‬ ‫يجوز له فعله ‪ ،‬فلو م ّر صب ّ‬

‫تذكيته حتّى مات فعليه قيمته مجروحا لصاحبه ‪ ،‬لنّ الضّمان من خطاب الوضع ‪ ،‬ولنّ‬

‫الشّارع جعل التّرك سببا في الضّمان ‪ ،‬فيتناول البالغ وغيره ‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪ -‬هذا بالنّسبة للمال ‪ ،‬أمّا بالنّسبة لترك إنقاذ نفس من الهلك ‪ ،‬فالمتتبّع لقوال الفقهاء يرى‬

‫ن ذلك يكون في حالتين ‪:‬‬ ‫أّ‬

‫إحداهما ‪ :‬أن يقوم شخص بعمل ضار نحو شخص آخر يمكن أن يؤدّي إلى هلكه غالبا ‪ ،‬ثمّ‬

‫يترك ما يمكن به إنقاذ هذا الشّخص فيهلك ‪.‬‬

‫ومثال ذلك ‪ :‬أن يحبس غيره في مكان ‪ ،‬ويمنعه الطّعام أو الشّراب ‪ ،‬فيموت جوعا وعطشا‬

‫لزمن يموت فيه غالبا ‪ ،‬وكان قد تعذّر عليه الطّلب ‪ .‬فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬يكون‬

‫فيه القود لظهور قصد الهلك بذلك ‪ .‬وعند الصّاحبين ‪ -‬أبي يوسف ومحمّد ‪ -‬يكون في ذلك‬

‫الدّية على عاقلته ‪ .‬لنّ حبسه هو الّذي تسبّب في هلكه ‪ ،‬وعند أبي حنيفة ‪ :‬ل ضمان عليه ‪،‬‬ ‫ن الهلك حصل بالجوع والعطش ل بالحبس ‪ ،‬ول صنع لحد في الجوع والعطش ‪ .‬فإن لم‬ ‫لّ‬

‫يمنعه الطّعام أو الشّراب ‪ ،‬بأن كان معه فلم يتناول خوفا أو حزنا ‪ ،‬أو كان يمكنه الطّلب فلم‬

‫يفعل ‪ ،‬فمات ‪ ،‬فل قصاص ول دية ‪ ،‬لنّه قتل نفسه ‪.‬‬

‫الحال الثّانية ‪ :‬من أمكنه إنقاذ إنسان من الهلك ‪ ،‬فلم يفعل حتّى مات ‪.‬‬

‫ومثال ذلك ‪ :‬من رأى إنسانا اشت ّد جوعه ‪ .‬وعجز عن الطّلب ‪ ،‬فامتنع من رآه من إعطائه‬

‫فضل طعامه حتّى مات ‪ ،‬أو رأى إنسانا في مهلكة فلم ينجه منها ‪ ،‬مع قدرته على ذلك ‪ -‬فعند‬

‫الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬عدا أبي الخطّاب ل ضمان على الممتنع ‪ ،‬لنّه لم يهلكه ولم‬

‫ل مهلكا ‪ ،‬لكنّه يأثم ‪.‬‬ ‫يحدث فيه فع ً‬

‫ب الطّعام‬ ‫وهذا الحكم عند الحنابلة إذا كان المضط ّر لم يطلب الطّعام ‪ ،‬أمّا إذا طلبه فمنعه ر ّ‬ ‫حتّى مات ‪ ،‬فإنّه يضمن في هذه الحالة ‪ ،‬لنّ منعه منه كان سببا في هلكه ‪ ،‬فضمنه بفعله‬

‫الّذي تعدّى به ‪ .‬وعند المالكيّة وأبي الخطّاب يضمن ‪ ،‬لنّه لم ينجه من الهلك مع إمكانه ‪ .‬هذا‬

‫ويلحظ أنّه يجوز للمضطرّ قتال من منع منه فضل طعامه ‪ ،‬فإن قتل ربّ الطّعام فدمه هدر ‪،‬‬ ‫وإن قتل المضطرّ ففيه القصاص ‪ ،‬لقضاء عمر رضي ال عنه بذلك ‪.‬‬

‫عقوبة ترك الواجب ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬يقول ابن فرحون ‪ :‬التّعزير يكون على ترك الواجب ‪ ،‬ومن ذلك ترك قضاء الدّين وأداء‬

‫المانات ‪ :‬مثل الودائع وأموال اليتام وغلّات الوقوف وما تحت أيدي الوكلء والمقارضين ‪،‬‬ ‫والمتناع من ر ّد المغصوب والمظالم مع القدرة على الداء ‪ ،‬ويجبر على ذلك إن أباه ولو‬

‫بالحبس والضّرب ‪ .‬ويقول الزّركشيّ ‪ :‬إذا امتنع المكلّف من الواجب ‪ ،‬فإن كان حقّا لدميّ ل‬ ‫تدخله النّيابة حبس حتّى يفعله ‪.‬‬

‫كما إذا امتنع المشتري من تسليم الثّمن ‪ ،‬فإنّ القاضي يخيّر بين حبسه وبين النّيابة عنه في‬ ‫التّسليم ‪ ،‬كالمقرّ بمبهم يحبس حتّى يبيّن ‪ .‬وإن كانت تدخله النّيابة قام القاضي مقامه ‪.‬‬

‫الّنيّة في التّرك ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬ترك المنهيّ عنه ل يحتاج إلى نيّة للخروج عن عهدة النّهي ‪.‬‬

‫وأمّا لحصول الثّواب ‪ ،‬بأن كان التّرك كفّا ‪ -‬وهو ‪ :‬أن تدعوه النّفس إليه قادرا على فعله ‪،‬‬

‫فكفّ نفسه عنه خوفا من ربّه ‪ -‬فهو مثاب ‪ ،‬وإلّ فل ثواب على تركه ‪ ،‬فل يثاب العنّين على‬

‫ترك الزّنا ‪ ،‬ول العمى على ترك النّظر ‪.‬‬

‫آثار التّرك ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬تتعدّد آثار التّرك وتختلف باختلف متعلّقه ‪ ،‬وباختلف ما إذا كان التّرك عمدا أو نسيانا‬

‫أو جهلً وهكذا ‪ .‬وفيما يأتي بعض آثار التّرك ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬يسقط الحقّ في الشّفعة بترك طلبها بل عذر ‪.‬‬

‫ويختلف الفقهاء في المدّة الّتي يسقط بها هذا الحقّ ‪ ( .‬ر ‪ :‬شفعة ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ل تؤكل الذّبيحة إذا ترك الذّابح التّسمية عمدا عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬وأمّا إن ترك نسيانا‬ ‫فتؤكل اتّفاقا ‪ ،‬وفي المسألة خلف ينظر ( ذبائح ‪ -‬أضحيّة ) ‪.‬‬

‫والجير إن ترك التّسمية عمدا ضمن قيمة الذّبيحة ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬ترك القيام بالدّعوى بل عذر ‪ ،‬وبعد مضيّ المدّة المحدّدة يمنع سماعها ‪ ،‬وهذا عند‬

‫متأخّري الحنفيّة بناءً على أمر سلطانيّ ‪ ،‬وكما ل تسمع في حياة المدّعي للتّرك ل تسمع من‬

‫الورثة ‪ .‬وإذا ترك المورّث الدّعوى م ّد ًة وتركها الوارث مدّةً ‪ ،‬وبلغ مجموع المدّتين حدّ مرور‬

‫الزّمان فل تسمع ‪ ( .‬ر ‪ :‬دعوى ) ‪.‬‬

‫د ‪ -‬يلزم الحنث والكفّارة في الحلف على ترك الواجب ‪ ( .‬ر ‪ :‬أيمان ) ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬ترك العبادات أو بعض أجزائها يستلزم الجبران ‪ .‬والمتروكات منها ما يجبر بالعمل‬ ‫البدنيّ كسجود السّهو في الصّلة ‪ ،‬والقضاء أو العادة لمن ترك فرضا ‪.‬‬

‫ومنها ما يجبر بالمال كجبر الصّوم بالطعام في حقّ الشّيخ العاجز ‪ ،‬والدّم لترك واجب من‬

‫واجبات الحجّ ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في مواضعه ‪ .‬هذا وقد ورد في ثنايا البحث آثار التّرك ‪،‬‬

‫كترتّب الح ّد أو التّعزير في ترك واجب أو عدم ترك محرّم ‪ ،‬وكالضّمان في التّلف بالتّرك ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تركة *‬

‫‪ -‬التّركة لغةً ‪ :‬اسم مأخوذ من ترك الشّيء يتركه تركا ‪ .‬يقال ‪ :‬تركت الشّيء تركا ‪:‬‬

‫خلّفته ‪ ،‬وتركة الميّت ‪ :‬ما يتركه من الميراث ‪ ،‬والجمع تركات ‪.‬‬

‫وفي الصطلح ‪ ،‬اختلف الفقهاء في تعريفها ‪ .‬فذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة‬ ‫والحنابلة ‪ -‬إلى أنّ التّركة ‪ :‬هي كلّ ما يخلّفه الميّت من الموال والحقوق الثّابتة مطلقا ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّركة ‪ :‬هي ما يتركه الميّت من الموال صافيا عن تعلّق حقّ الغير‬

‫بعينه ‪ .‬ويتبيّن من خلل التّعريفين أنّ التّركة تشمل الحقوق مطلقا عند الجمهور ‪ ،‬ومنها المنافع‬ ‫‪ .‬في حين أنّ المنافع ل تدخل في التّركة عند الحنفيّة ‪.‬‬

‫فإنّ الحنفيّة يحصرون التّركة في المال أو الحقّ الّذي له صلة بالمال فقط على تفصيل يأتي ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬الرث ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الرث لغةً ‪ :‬الصل والمر القديم توارثه الخر عن الوّل ‪ .‬والبقيّة من كلّ شيء ‪.‬‬

‫ويطلق الرث ويراد به ‪ :‬الموروث ‪ ،‬ويساويه على هذا الطلق في المعنى ‪ :‬التّركة‬

‫ق قابل للتّجزّؤ يثبت لمستحقّه بعد موت من كان له ذلك لقرابة بينهما أو‬ ‫واصطلحا ‪ :‬هو ح ّ‬

‫نحوها ‪ .‬ما تشمله التّركة وما يورث منها ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى أنّ التّركة تشمل جميع ما تركه‬

‫المتوفّى من أموال وحقوق ‪ .‬وقد استدلّوا بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من مات وترك مالً‬ ‫فماله لموالي العصبة ‪ ،‬ومن ترك كَلّا أو ضَياعا فأنا وليّه » ‪.‬‬

‫ن هذه‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم بين المال والحقّ وجعلهما تركةً لورثة الميّت ‪ ،‬إلّ أ ّ‬ ‫فقد جمع النّب ّ‬

‫الحقوق أنواع مختلفة ‪ ،‬ولكلّ منها حكمه من ناحية إرثه ‪ ،‬أو عدم إرثه وذلك تبعا لطبيعته وهي‬ ‫‪:‬‬

‫أ ‪ -‬حقوق غير ماليّة ‪ :‬وهي حقوق شخصيّة ل تتعدّى إلى غير صاحبها بحال ما ‪ ،‬فهي ل‬

‫تورث عنه مطلقا ‪ ،‬كحقّ ال ّم في الحضانة ‪ ،‬وحقّ الب في الولية على المال ‪ ،‬وحقّ الوصيّ‬ ‫في الشراف على مال من تحت وصايته ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬حقوق ماليّة ‪ ،‬ولكنّها تتعلّق بشخص المورّث نفسه ‪ ،‬وهذه ل تورث عنه أيضا ‪ ،‬كرجوع‬ ‫الواهب في هبته ‪ ،‬وحقّ النتفاع بشيء معيّن يملكه الغير ‪ ،‬كدار يسكنها أو أرض يزرعها ‪،‬‬ ‫أو سيّارة يركبها ‪ ،‬فهذا ونحوه ل يورث عن صاحبه ‪.‬‬

‫ومن هذا النّوع الجل في الدّين ‪ ،‬فالدّائن يمنح هذا الجل للمدين لعتبارات خاصّة يقدّرها‬

‫الدّائن وحده ‪ ،‬وذلك من المور الشّخصيّة الّتي ل تورث عنه ‪ .‬ولذلك يحلّ الدّين بموت المدين‬ ‫‪ ،‬ول يرث الورثة حقّ الجل ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬حقوق ماليّة أخرى تتعلّق بمشيئة المورّث وإرادته ‪ ،‬وهي تورث عند الجمهور ‪.‬‬

‫ق الخيارات المعروفة‬ ‫وذهب الحنفيّة إلى أنّها ل تورث ‪ .‬وأهمّ هذه الحقوق حقّ الشّفعة ‪ ،‬وح ّ‬

‫في عقود البيع ‪ ،‬كخيار الشّرط ‪ ،‬وخيار الرّؤية ‪ ،‬وخيار التّعيين ‪.‬‬

‫وللتّفصيل تنظر أحكام ( الخيار ‪ ،‬والشّفعة ) ‪.‬‬

‫د ‪ -‬حقوق ماليّة تتعلّق بمال المورّث ‪ ،‬ل بشخصه ول بإرادته ومشيئته ‪ ،‬وهذه حقوق تورث‬ ‫عنه بل خلف بين الفقهاء ‪ ،‬وذلك كحقّ الرّهن ‪ ،‬وحقوق الرتفاق المعروفة ‪ ،‬كحقّ المرور‬

‫وحقّ الشّرب وحقّ المجرى وحقّ التّعلّي ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬فيدخل في التّركة ما كان للنسان حال حياته ‪ ،‬وخلّفه بعد مماته ‪ ،‬من مال أو حقوق أو‬

‫اختصاص ‪ ،‬كال ّردّ بالعيب والقصاص والولء وحدّ القذف ‪.‬‬

‫وكذا من أوصى له بمنفعة شيء من الشياء كدار مثلً ‪ ،‬كانت المنفعة له حال حياته ولورثته‬

‫ل إذا كانت المنفعة مؤقّتةً بمدّة حياته في الوصيّة ‪.‬‬ ‫بعد موته ‪ ،‬إ ّ‬

‫وصرّح الشّافعيّة بأنّ من التّركة أيضا ما دخل في ملكه بعد موته ‪ ،‬بسبب كان منه في حياته ‪،‬‬

‫ن نصبه للشّبكة للصطياد هو سبب الملك ‪ ،‬وكما لو‬ ‫كصيد وقع في شبكة نصبها في حياته ‪ ،‬فإ ّ‬

‫مات عن خمر فتخلّلت بعد موته ‪ .‬قال القرافيّ ‪ :‬اعلم أنّه يروى عن رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫وسلم أنّه قال ‪ « :‬من مات عن حقّ فلورثته » وهذا اللّفظ ليس على عمومه ‪ ،‬بل من الحقوق‬

‫ما ينقل إلى الوارث ‪ ،‬ومنها ما ل ينتقل ‪ .‬فمن حقّ النسان أن يلعن عند سبب اللّعان ‪ ،‬وأن‬

‫يفيء بعد اليلء ‪ ،‬وأن يعود بعد الظّهار ‪ ،‬وأن يختار من نسوة إذا أسلم عليهنّ وهنّ أكثر من‬ ‫أربع ‪ ،‬وأن يختار إحدى الختين إذا أسلم عليهما ‪ ،‬وإذا جعل المتبايعان الخيار لجنبيّ عن‬

‫العقد فمن حقّه أن يملك إمضاء البيع عليهما أو فسخه ‪ ،‬ومن حقّه ما فوّض إليه من الوليات‬

‫والمناصب كالقصاص والمامة والخطابة وغيرهما ‪ ،‬وكالمانة والوكالة ‪ .‬فجميع هذه الحقوق‬ ‫ل ينتقل للوارث منها شيء وإن كانت ثابتةً للمورّث ‪.‬‬

‫والضّابط ‪ :‬أنّه ينتقل إليه كلّ ما كان متعلّقا بالمال ‪ ،‬أو يدفع ضررا عن الوارث في عرضه‬

‫بتخفيف ألمه ‪ .‬أمّا ما كان متعلّقا بنفس المورّث وعقله وشهواته فل ينتقل للوارث ‪.‬‬

‫ن الورثة يرثون المال ‪ ،‬فيرثون ما يتعلّق به تبعا له ‪ ،‬ول يرثون عقله ول‬ ‫والسّ ّر في الفرق ‪ :‬أ ّ‬

‫شهوته ول نفسه ‪ ،‬فل يرثون ما يتعلّق بذلك ‪ ،‬وما ل يورث ل يرثون ما يتعلّق به ‪ ،‬فاللّعان‬

‫يرجع إلى أمر يعتقده ل يشاركه فيه غيره غالبا ‪ ،‬والعتقادات ليست من باب المال ‪ ،‬والفيئة‬

‫شهوته ‪ ،‬والعود إرادته ‪ ،‬واختيار الختين والنّسوة إربه وميله ‪ ،‬وقضاؤه على المتبايعين عقله‬ ‫وفكرته ‪ ،‬ورأيه ومناصبه وولياته وآراؤه واجتهاداته ‪ ،‬وأفعاله الدّينيّة فهو دينه ‪ ،‬ول ينتقل‬

‫شيء من ذلك للوارث ‪ ،‬لنّه لم يرث مستنده وأصله ‪ ،‬وانتقل للوارث خيار الشّرط في البياعات‬ ‫‪ ،‬وقاله الشّافعيّ رحمه ال تعالى ‪ .‬ثمّ قال القرافيّ ‪ :‬إنّه لم يخرج عن حقوق الموال ‪ -‬فيما‬

‫يورث ‪ -‬إلّ صورتان فيما علمت ‪ :‬حدّ القذف وقصاص الطراف والجرح والمنافع في‬

‫العضاء ‪ .‬فإنّ هاتين الصّورتين تنتقلن للوارث ‪ ،‬وهما ليستا بمال ‪ ،‬لجل شفاء غليل الوارث‬

‫بما دخل على عرضه من قذف مورّثه والجناية عليه ‪.‬‬

‫وأمّا قصاص النّفس فإنّه ل يورث ‪ ،‬فإنّه لم يثبت للمجنيّ عليه قبل موته ‪ ،‬وإنّما يثبت للوارث‬

‫ابتداءً ‪ ،‬لنّ استحقاقه فرع زهوق النّفس ‪ ،‬فل يقع إلّ للوارث بعد موت الموروث ‪.‬‬

‫‪ -5‬وعند الحنابلة أنّ ما كان من حقوق المورّث ‪ ،‬ويجب له بموته ‪ ،‬كالدّية والقصاص في‬

‫النّفس فللورثة استيفاؤه ‪ .‬وما كان واجبا للمورّث في حياته إن كان قد طالب به ‪ ،‬أو هو في يده‬

‫ثبت للورثة إرثه ‪ ،‬وذلك على تفصيل في المذهب ‪.‬‬

‫‪ -6‬وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّركة هي المال فقط ‪ ،‬ويدخل فيها الدّية الواجبة بالقتل الخطأ ‪ ،‬أو‬

‫بالصّلح عن عمد ‪ ،‬أو بانقلب القصاص بعفو بعض الولياء ‪ ،‬فتعتبر كسائر أمواله ‪ ،‬حتّى‬

‫تقضى منها ديونه وتخرج وصاياه ‪ ،‬ويرث الباقي ورثته ‪.‬‬

‫ول تدخل الحقوق في التّركة ‪ ،‬لنّها ليست ثابتةً بالحديث ‪ ،‬وما لم يثبت ل يكون دليلً ‪.‬‬

‫ن الحقوق ليست أموالً ‪ ،‬ول يورث منها إلّ ما كان تابعا للمال أو في معنى المال ‪ ،‬مثل‬ ‫ول ّ‬

‫حقوق الرتفاق والتّعلّي وحقّ البقاء في الرض المحتكرة للبناء والغراس ‪ ،‬أمّا غير ذلك من‬ ‫الحقوق فل يعتبر تركةً ‪ ،‬كحقّ الخيار في السّلعة الّتي اشتراها المورّث وكان له فيها حقّ‬

‫الخيار ‪ -‬كما سبق ‪ -‬وحقّ النتفاع بما أوصي له به ‪ ،‬ومات قبل مضيّ المدّة الّتي حدّدها‬ ‫الموصي ‪ .‬قال ابن رشد ‪ :‬وعمدة المالكيّة والشّافعيّة ( والحنابلة أيضا ) أنّ الصل هو أن‬

‫تورث الحقوق والموال ‪ ،‬إلّ ما قام دليل على مفارقة الحقّ في هذا المعنى للمال ‪ .‬وعمدة‬ ‫الحنفيّة أنّ الصل هو أن يورث المال دون الحقوق ‪ ،‬إلّ ما قام دليله من إلحاق الحقوق‬

‫بالموال ‪ .‬فموضع الخلف ‪ :‬هل الصل أن تورث الحقوق كالموال أو ل ؟ وكلّ واحد من‬ ‫الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلّم له خصمه منها بما يسلّمه منها له ‪ ،‬ويحتجّ على خصمه ‪.‬‬

‫الحقوق المتعلّقة بالتّركة ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الحقوق المتعلّقة بالتّركة أربعة ‪:‬‬

‫وهي تجهيز الميّت للدّفن ‪ ،‬وقضاء ديونه إن مات مدينا ‪ ،‬وتنفيذ ما يكون أوصى به قبل موته‬ ‫من وصايا ‪ ،‬ثمّ حقوق الورثة ‪.‬‬

‫وصرّح المالكيّة ‪ ،‬وصاحب ال ّد ّر المختار من الحنفيّة بأنّها خمسة بالستقراء ‪.‬‬

‫قال الدّردير ‪ :‬وغايتها ‪ -‬أي الحقوق المتعلّقة بالتّركة ‪ -‬خمسة ‪ :‬حقّ تعلّق بعين ‪ ،‬وحقّ تعلّق‬ ‫ق تعلّق بالوارث ‪.‬‬ ‫بالميّت ‪ ،‬وحقّ تعلّق بال ّذمّة ‪ ،‬وحقّ تعلّق بالغير ‪ ،‬وح ّ‬

‫ن الفقهاء تتبّعوا ذلك فلم يجدوا ما يزيد على هذه المور‬ ‫والحصر في هذه استقرائيّ ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ي كما قيل ‪ .‬وقال صاحب ال ّدرّ المختار ‪ :‬والحقوق هاهنا خمسة بالستقراء ‪،‬‬ ‫الخمسة ‪ ،‬ل عقل ّ‬ ‫ن الحقّ إمّا للميّت ‪ ،‬أو عليه ‪ ،‬أو ل ‪.‬‬ ‫لّ‬

‫الوّل ‪ :‬التّجهيز ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬إمّا أن يتعلّق بال ّذمّة وهو الدّين المطلق أو ل ‪ ،‬وهو المتعلّق بالعين‬ ‫‪ ،‬والثّالث ‪ :‬إمّا اختياريّ وهو الوصيّة ‪ ،‬أو اضطراريّ وهو الميراث ‪.‬‬

‫للتّركة أحكام خاصّة بيانها فيما يلي ‪:‬‬

‫أحكام التّركة ‪:‬‬ ‫ملكيّة التّركة ‪:‬‬

‫تنتقل ملكيّة التّركة جبرا إلى الورثة ‪ ،‬ولهذا النتقال شروط ‪:‬‬

‫الشّرط الوّل ‪ -‬موت المورّث ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ انتقال التّركة من المورّث إلى الوارث يكون بعد وفاة المورّث حقيقةً‬

‫أو حكما أو تقديرا ‪.‬‬

‫فالموت الحقيقيّ ‪ :‬هو انعدام الحياة إمّا بالمعاينة ‪ ،‬كما إذا شوهد ميّتا ‪،‬أو بالبيّنة أو السّماع‪.‬‬ ‫والموت الحكميّ ‪ :‬هو أن يكون بحكم القاضي إمّا مع احتمال الحياة أو تيقّنها ‪.‬‬

‫مثال الوّل ‪ :‬الحكم بموت المفقود ‪.‬‬

‫ومثال الثّاني ‪ :‬حكم القاضي على المرتدّ باعتباره في حكم الموات إذا لحق بدار الحرب ‪.‬‬

‫وتقسّم التّركة في هاتين الحالتين من وقت صدور الحكم بالموت ‪.‬‬

‫والموت التّقديريّ ‪ :‬هو إلحاق الشّخص بالموتى تقديرا ‪ ،‬كما في الجنين الّذي انفصل عن أمّه‬

‫بجناية ‪ ،‬بأن يضرب شخص امرأةً حاملً ‪ ،‬فتلقي جنينا ميّتا ‪ ،‬فتجب الغرّة ‪ ،‬وتقدّر بنصف‬

‫عشر الدّية ‪ .‬وقد اختلف الفقهاء في إرث هذا الجنين ‪ :‬فذهب الجمهور إلى أنّه ل يرث ‪ ،‬لنّه‬

‫ل الدّية فقط ‪.‬‬ ‫لم تتحقّق حياته ‪ ،‬ومن ثمّ فلم تتحقّق أهليّته للتّملّك بالرث ‪ ،‬ول يورث عنه إ ّ‬

‫وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يرث ويورث ‪ ،‬لنّه يقدر أنّه كان حيّا وقت الجناية ‪ ،‬وأنّه مات بسببها‬ ‫‪ .‬وللتّفصيل انظر ( إرث ‪ ،‬جنين ‪ ،‬جناية ‪ ،‬موت ) ‪.‬‬

‫الشّرط الثّاني ‪ -‬حياة الوارث ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬تحقّق حياة الوارث بعد موت المورّث ‪ ،‬أو إلحاقه بالحياء تقديرا ‪ ،‬فالحياة الحقيقيّة هي‬

‫المستقرّة الثّابتة للنسان المشاهدة له بعد موت المورّث ‪.‬‬

‫والحياة التّقديريّة هي الثّابتة تقديرا للجنين عند موت المورّث ‪ ،‬فإذا انفصل حيّا حياةً مستق ّرةً‬ ‫لوقت يظهر منه وجوده عند الموت ‪ -‬ولو نطفةً ‪ -‬فيقدّر وجوده حيّا حين موت المورّث‬

‫بولدته حيّا ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬إرث ) ‪.‬‬

‫الشّرط الثّالث ‪ -‬العلم بجهة الميراث ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫ن الحكام‬ ‫‪ -‬يشترط العلم بالجهة المقتضية للرث من زوجيّة أو قرابة أو ولء ‪ ،‬وذلك ل ّ‬

‫تختلف في ذلك ‪ ،‬ويجب أيضا أن تعيّن جهة القرابة ‪ ،‬مع العلم بالدّرجة الّتي يجتمع الوارث‬ ‫فيها مع المورّث ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬إرث ) ‪.‬‬

‫أسباب انتقال التّركة ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪.‬‬

‫‪ -‬أسباب انتقال التّركة أربعة ‪ ،‬اتّفق الفقهاء على ثلثة منها وهي ‪ :‬النّكاح والولء والقرابة‬

‫وزاد المالكيّة والشّافعيّة جهة السلم وهي ‪ :‬بيت المال ‪ ،‬على تفصيل ينظر في موضعه ‪.‬‬

‫وكلّ سبب من هذه السباب يفيد الرث على الستقلل ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬إرث )‬

‫‪.‬‬

‫موانع انتقال التّركة بالرث ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬موانع انتقال التّركة عن طريق الرث ثلثة ‪ :‬ال ّرقّ ‪ ،‬والقتل ‪ ،‬واختلف الدّين ‪ .‬واختلفوا‬

‫في ثلثة ‪ :‬وهي الرّدّة ‪ ،‬واختلف الدّارين ‪ ،‬والدّور الحكميّ ‪.‬‬

‫وهناك موانع أخرى لبعض الفقهاء ‪ ،‬مع خلف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( إرث ) ‪.‬‬

‫انتقال التّركة ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬ل يشترط لنتقال التّركة إلى الوارث قبول الوراثة ‪ ،‬ول إلى أن يتروّى قبل أن يقبلها ‪،‬‬

‫بل إنّها تئول إليه جبرا بحكم الشّرع من غير قبول منه ‪ .‬وقد تكون التّركة خاليةً من الدّيون ‪،‬‬ ‫وقد تكون مدينةً ‪ .‬والدّين إمّا أن يكون مستغرقا أو ل ‪ ،‬ول خلف بين الفقهاء في أنّ التّركة‬

‫تنتقل إلى الوارث ‪ ،‬إذا لم يتعلّق بها دين من حين وفاة الميّت ‪.‬‬

‫واختلفوا في انتقال التّركة الّتي يتعلّق بها الدّين على ثلثة أقوال ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬فذهب الشّافعيّة ‪ ،‬وهو أشهر الرّوايتين عند الحنابلة إلى ‪ :‬أنّ أموال التّركة تنتقل إلى ملك‬

‫الورثة بمجرّد موت المورّث ‪ ،‬مع تعلّق الدّين بها ‪ ،‬سواء أكان الدّين مستغرقا للتّركة أم غير‬

‫مستغرق لها ‪.‬‬

‫ن أموال التّركة تبقى على ملك الميّت بعد موته إلى أن يسدّد الدّين‬ ‫ب ‪ -‬وذهب المالكيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫صيّةٍ يُوصِي بِها‬ ‫‪ ،‬سواء أكان الدّين مستغرقا لها أم غير مستغرق ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬مِنْ َب ْعدِ َو ِ‬

‫أو دَينٍ } ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬وذهب الحنفيّة إلى أنّه يميّز بين ما إذا كانت التّركة مستغرقةً بالدّين ‪ ،‬أو كانت غير‬

‫مستغرقة به ‪ .‬فإن استغرق الدّين أموال التّركة تبقى أموال التّركة على ملك الميّت ‪ ،‬ول تنتقل‬ ‫إلى ملك الورثة ‪ .‬وإن كان الدّين غير مستغرق ‪ ،‬فالرّأي الرّاجح أنّ أموال التّركة تنتقل إلى‬

‫الورثة بمجرّد موت المورّث ‪ ،‬مع تعلّق الدّين بهذه الموال على تفصيل سيأتي ‪.‬‬

‫قال السّرخسيّ ‪ :‬الدّين إذا كان محيطا بالتّركة يمنع ملك الوارث في التّركة ‪ ،‬وإن لم يكن‬ ‫محيطا فكذلك في قول أبي حنيفة الوّل ‪.‬‬

‫وفي قوله الخر ‪ :‬ل يمنع ملك الوارث بحال ‪ ،‬لنّ الوارث يخلف المورّث في المال ‪ ،‬والمال‬ ‫كان مملوكا للميّت في حال حياته مع اشتغاله بالدّين كالمرهون ‪ ،‬فكذلك يكون ملكا للوارث ‪،‬‬

‫صيّةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ } ‪.‬‬ ‫ن َبعْ ِد وَ ِ‬ ‫قال ‪ :‬وحجّتنا في ذلك قوله تعالى ‪ { :‬مِ ْ‬

‫فقد جعل اللّه تعالى أوان الميراث ما بعد قضاء الدّين ‪ ،‬والحكم ل يسبق أوانه فيكون حال الدّين‬ ‫كحال حياة المورّث في المعنى ‪.‬‬

‫ثمّ الوارث يخلفه فيما يفضل من حاجته ‪ ،‬فأمّا المشغول بحاجته فل يخلفه وارثه فيه ‪.‬‬

‫وإذا كان الدّين محيطا بتركته فالمال مشغول بحاجته ‪ ،‬وقيام الصل يمنع ظهور حكم الخلف ‪.‬‬ ‫ول نقول ‪ :‬يبقى مملوكا بغير مالك ‪ ،‬ولكن تبقى مالكيّة المديون في ماله حكما لبقاء حاجته ‪.‬‬

‫وخلفة الوارث في التّركة ناقصة في حال تعلّق الدّين بها من غير استغراق ‪ ،‬وهي صوريّة‬

‫إذا كانت مستغرق ًة بالدّين ‪ ،‬وذلك ل يعني أنّه ل قيمة لهذه الخلفة ‪ ،‬بل لها شأنها ‪ ،‬ويعلم ذلك‬

‫من أقوال الفقهاء ‪ .‬قال ابن قاضي سماوة من الحنفيّة ‪ :‬للورثة أخذ التّركة لنفسهم ودفع الدّين‬ ‫والوصيّة من مالهم ‪.‬‬

‫ب‬ ‫ولو كانت التّركة مستغرقةً بدين أو غير مستغرقة ‪ ،‬فأدّاه الورثة لستخلص التّركة يجبر ر ّ‬

‫الدّين على قبوله ‪ ،‬إذ لهم الستخلص وإن لم يملكوها ‪ ،‬بخلف الجنبيّ ‪.‬‬

‫ولو كانت التّركة مستغرقةً بالدّين فالخصم في إثبات الدّين إنّما هو وارثه ‪ ،‬لنّه خلفه ‪ ،‬فتسمع‬

‫البيّنة الّتي يتقدّم بها الدّائن عليه ‪.‬‬

‫أثر الخلف السّابق في انتقال التّركة ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬أ ‪ -‬نماء التّركة أو نتاجها إذا حصل بين الوفاة وأداء الدّين ‪ ،‬هل تضمّ إلى التّركة‬

‫لمصلحة الدّائنين أم هي للورثة ؟‬

‫وذلك كأجرة دار للسّكنى ‪ ،‬أو أرض زراعيّة استحقّت بعد وفاته ‪ ،‬وكدابّة ولدت أو سمنت‬

‫فزادت قيمتها ‪ ،‬وكشجر صار له ثمر ‪ .‬كلّ ذلك نماء أو زيادة في التّركة ‪ ،‬وفيه خلف بين‬

‫ن التّركة قبل وفاء الدّين المتعلّق بها هل تنتقل إلى الورثة أم ل ؟ فمن قال ‪:‬‬ ‫الفقهاء مبنيّ على أ ّ‬

‫تنتقل إلى الورثة قال ‪ :‬إنّ الزّيادة للوارث وليست للدّائن ‪ ،‬ومن قال بعدم انتقالها ضمّت الزّيادة‬ ‫إلى التّركة لوفاء الدّين ‪ ،‬فإن فضل شيء انتقل إلى الورثة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬صيد وقع في شبكة أعدّها المورّث حال حياته ‪ ،‬ووقوع الصّيد كان بعد وفاته ‪ ،‬فعلى‬ ‫الخلف السّابق ‪ .‬وللتّفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬دين ‪ ،‬وصيد ‪ ،‬وإرث ) ‪.‬‬

‫وقت انتقال التّركة ‪:‬‬

‫يختلف وقت وراثة الوارث لمورّثه بناءً على ما يسبق الوفاة ‪ .‬وهنا يفرّق بين حالت ثلث ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الحالة الولى ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬من مات دون سابق مرض ظاهر ‪ ،‬وذلك كأن مات فجأ ًة بال سّكتة القلبيّة ‪ ،‬أو في حادث‬

‫مثلً ‪ .‬ف في هذه الحالة يكون و قت خل فة الوارث لمو ّر ثه هو ن فس و قت الموت ‪ ،‬وبل خلف‬

‫يعتدّ به ب ين الفقهاء ‪ .‬قال الفنار يّ ‪ :‬فع ند أبي يوسف ومحمّد يخلف الوارث مو ّر ثه في التّر كة‬ ‫بعد موته ‪ ،‬وعليه مشايخ بلخ ‪ ،‬لنّه ما دام حيّا مالك لجميع أمواله ‪ ،‬فلو ملكها الوارث في هذه‬ ‫الحالة أدّى إلى أن ي صير الشّ يء الوا حد مملوكا لشخ صين في حالة واحدة ‪ ،‬وهذا غ ير معهود‬

‫في الشّرع ‪ ،‬ل كن ع ند محمّد ملك الوارث يتعقّب الموت ‪ ،‬وع ند أ بي يو سف ل يتعقّب ‪ ،‬بل‬

‫يتحقّق إذا ا ستغنى الميّت عن ماله بتجهيزه وأداء دي نه ‪ ،‬ل نّ كلّ جزء يجوز أن يكون محتاجا‬ ‫إليه بتقدير هلك الباقي ‪ .‬وعن محمّد ينتقل الملك إلى الوارث قبل موته في آخر أجزاء الحياة ‪،‬‬ ‫وعل يه مشا يخ العراق ‪ ،‬ل نّ الرث يجري ب ين الزّوج والزّو جة ‪ ،‬والزّوجيّة ترت فع بالموت أو‬

‫ي سبب يجري الرث بينه ما ‪ .‬وع ند الب عض يجري الرث‬ ‫تنت هي على ح سب ما اختلفوا ‪ ،‬فبأ ّ‬ ‫مع موت المورّث ل قبله ول بعده ‪ -‬كما ذكره شارح الفرائض العثمانيّة واختاره ‪ -‬ل نّ انتقال‬

‫الشّيء إلى ملك الوارث مقارن لزوال ملك المورّث عن ذلك الشّيء ‪ ،‬فحين يتمّ يحصل النتقال‬ ‫والرث ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الحالة الثّانية ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬هي حالة من مات بعد أن كان مريضا مرض الموت واتّصلت الوفاة به ‪.‬‬

‫وقد عرّفت مجلّة الحكام العدليّة مرض الموت بأنّه ‪ :‬المرض الّذي يخاف فيه الموت في‬

‫الكثر ‪ ،‬الّذي يعجز المريض عن رويّة مصالحه الخارجيّة عن داره إن كان من الذّكور ‪،‬‬

‫ويعجزه عن رؤية المصالح الدّاخليّة في داره إن كان من الناث ‪ ،‬ويموت على ذلك الحال قبل‬

‫مرور سنة ‪ ،‬كان صاحب فراش أو لم يكن ‪ .‬وإن امتدّ مرضه دائما على حال ‪ ،‬ومضى عليه‬ ‫سنة يكون في حكم الصّحيح ‪ ،‬وتكون تصرّفاته كتصرّفات الصّحيح ‪ ،‬ما لم يشتدّ مرضه‬

‫ويتغيّر حاله ‪ ،‬ولكن لو اشتدّ مرضه وتغيّر حاله ومات ‪ ،‬يعدّ حاله اعتبارا من وقت التّغيّر إلى‬

‫الوفاة مرض موت ‪ .‬ويلحق بالمريض مرض الموت ‪ :‬الحامل إذا أتمّت ستّة أشهر ودخلت في‬

‫السّابع ‪ ،‬والمحبوس للقتل ‪ ،‬وحاضر صفّ القتال وإن لم يصب بجرح كما صرّح بذلك المالكيّة‬ ‫‪ .‬ونحوه تصريح الحنابلة في الحامل إذا ضربها المخاض ‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬وذهب الجمهور إلى أنّ وقت انتقال تركة المريض مرض الموت إلى ورثته ‪ ،‬يكون‬

‫ن انتقال‬ ‫عقب الموت بل تراخ ‪ ،‬وهو قول أكثر الحنفيّة أيضا ‪ .‬وقال بعض متقدّمي الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬

‫الملكيّة في ثلثي تركة المريض مرض الموت يكون من حين ابتداء مرض الموت ‪ ،‬وتفصيل‬

‫ذلك ودليله ينظر في المطوّلت ‪ .‬قالوا ‪ :‬ولجل هذا منع المريض مرض الموت من التّصرّف‬

‫في ثلثي التّركة ‪ ،‬وترث زوجته منه لو طلّقها بائنا فيه ‪.‬‬

‫الحجر على المريض مرض الموت صونا للتّركة لحقّ الورثة ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬إذا شعر المريض بدن ّو أجله ربّما تنطلق يده في التّبرّعات رجاء استدراك ما فاته في‬

‫حال صحّته ‪ ،‬وقد يؤدّي ذلك إلى تبديد ماله وحرمان الورثة ‪ ،‬فشرع الحجر عليه ‪.‬‬

‫وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المريض مرض الموت محجور عليه بحكم الشّرع لحقّ الورثة ‪،‬‬

‫والّذي يحجر فيه على المريض هو تبرّعاته فقط فيما زاد عن ثلث تركته حيث ل دين ‪ .‬وذهب‬

‫جمهور الفقهاء إلى أنّ هذا الحجر على المريض مرض الموت هو في التّبرّع ‪ ،‬كالهبة‬

‫والصّدقة والوصيّة والوقف وبيع المحاباة فيما يزيد عن ثلث ماله ‪ ،‬أي أنّ حكم تبرّعاته حكم‬

‫وصيّته ‪ :‬تنفذ من الثّلث ‪ ،‬وتكون موقوفةً على إجازة الورثة فيما زاد عن الثّلث ‪ ،‬فإن برئ من‬ ‫مرضه صحّ تبرّعه ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬ل ينفذ من الثّلث تبرّع المريض ‪ ،‬إلّ إذا كان المال‬

‫الباقي بعد التّبرّع مأمونا ‪ ،‬أي ل يخشى تغيّره ‪ ،‬وهو العقار كدار وأرض وشجر ‪ ،‬فإن كان‬

‫غير مأمون فل ينفذ ‪ ،‬وإنّما يوقف ولو بدون الثّلث حتّى يظهر حاله من موت أو حياة ‪ ،‬كما‬

‫يمنع من الزّواج بما زاد على الثّلث ‪ .‬قال الدّسوقيّ ‪ :‬والمريض ل يحجر عليه في تداويه‬

‫ومؤنته ‪ ،‬ول في المعاوضة الماليّة ولو بكلّ ماله ‪ .‬وأمّا التّبرّعات فيحجر عليه فيها بما زاد‬ ‫عن الثّلث ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬مرض الموت ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬الحالة الثّالثة ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬وهي حالة التّركة المدينة بدين مستغرق أو غير مستغرق لها ‪ ،‬وقد تقدّم الكلم على هذه‬

‫الحالة في " انتقال التّركة " ‪.‬‬

‫زوائد التّركة ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬المراد بزوائد التّركة نماء أعيانها بعد وفاة المورّث ‪.‬‬

‫وقد فصّل الفقهاء حكم هذه الزّوائد ‪ ،‬آخذين بعين العتبار ما إذا كانت التّركة خاليةً من الدّيون‬

‫أو مدين ًة بدين مستغرق أو غير مستغرق ‪ .‬فإذا كانت التّركة غير مدينة ‪ ،‬فل خلف بين‬

‫ن التّركة بزوائدها للورثة ‪ ،‬كلّ حسب حصّته في الميراث ‪.‬‬ ‫الفقهاء في أ ّ‬

‫أمّا إذا كانت التّركة مدينةً بدين مستغرق أو غير مستغرق ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في زوائدها هل‬

‫تبقى على ملك الميّت ‪ ،‬ومن ثمّ تصرف للدّائنين ؟ أم تنتقل للورثة ؟‬

‫فذهب الحنفيّة ‪ -‬في الدّين المستغرق ‪ -‬والمالكيّة إلى ‪ :‬أنّ نماء أعيان التّركة بزيادتها المتولّدة‬

‫ملك للميّت ‪ ،‬كما أنّ نفقات أعيان التّركة ‪ ،‬من حفظ وصيانة ومصروفات حمل ونقل وطعام‬ ‫حيوان تكون في التّركة ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة في الدّين غير المستغرق والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬في أشهر الرّوايتين ‪ -‬إلى أنّ‬

‫زوائد التّركة الّتي تعلّق بها دين ملك للورثة ‪ ،‬وعليهم ما تحتاجه من نفقات ‪.‬‬

‫ترتيب الحقوق المتعلّقة بالتّركة ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ الحقوق المتعلّقة بالتّركة ليست على مرتبة واحدة ‪ ،‬وأنّ‬

‫بعضها مقدّم على بعض ‪ ،‬فيقدّم من حيث الجملة تجهيز الميّت وتكفينه ‪ ،‬ثمّ أداء الدّين ‪ ،‬ثمّ‬ ‫تنفيذ وصاياه ‪ ،‬والباقي للورثة ‪.‬‬

‫أوّلً ‪ :‬تجهيز الميّت وتكفينه ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬إذا كانت التّركة خاليةً من تعلّق دين بعينها قبل الوفاة ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أنّ أوّل‬

‫الحقوق مرتب ًة وأقواها هو ‪ :‬تجهيزه للدّفن والقيام بتكفينه وبما ل بدّ له منه ‪ « ،‬لقوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم في الّذي َو َقصَته ناقتُه ‪ :‬كَفّنوه في ثوبين » ولم يسأل هل عليه دين أم ل ؟ لنّه‬

‫محتاج إلى ذلك ‪ ،‬وإنّما يدفع إلى الوارث ما يستغني عنه المورّث ‪ ،‬لنّه إذا ترك للمفلس الحيّ‬

‫ي صلى‬ ‫ثياب تليق به فالميّت أولى أن يستر ويوارى ‪ ،‬لنّ الحيّ يعالج لنفسه ‪ ،‬وقد « كفّن النّب ّ‬

‫ال عليه وسلم يوم أحد مصعبا رضي ال عنه في بردة له ‪ ،‬ولم يكن له غيرها ‪ ،‬وكفّن حمزة‬

‫رضي ال عنه أيضا » ولم يسأل عن دين قد يكون على أحدهما قبل التّكفين ‪ .‬أمّا إذا لم تكن‬

‫التّركة خاليةً من تعلّق حقّ الغير بأعيانها قبل الوفاة ‪ ،‬كأن كان فيها شيء من العيان المرهونة‬ ‫‪ ،‬أو شيء اشتراه ولم يقبضه ولم يدفع ثمنه ‪ ،‬كان حقّ المرتهن متعلّقا بعين الشّيء المرهون ‪،‬‬

‫وكان حقّ البائع متعلّقا بالمبيع نفسه الّذي ل يزال تحت يده ‪ ،‬ففي هذه الحالة يكون الدّين متقدّما‬

‫في الدّفع على تكفين الميّت وتجهيزه عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهي الرّواية المشهورة عند‬

‫الحنفيّة ‪.‬‬

‫وعند الحنابلة ‪ ،‬وغير المشهور عند الحنفيّة ‪ :‬أنّه إذا مات النسان بدئ بتكفينه وتجهيزه مقدّما‬

‫على غيره ‪ ،‬كما تقدّم نفقة المفلس على ديون غرمائه ‪ ،‬ثمّ تقضى ديونه بعد تجهيزه ودفنه ‪.‬‬ ‫والتّفصيل في ( جنائز ‪ ،‬ودين ) ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬أداء الدّين ‪:‬‬

‫‪23‬‬

‫‪ -‬يأتي في المرتبة الثّانية أداء الدّيون المتعلّقة بالتّركة بعد تجهيز الميّت ‪ -‬على التّفصيل‬

‫صيّةٍ يُوصِي بها أو دينٍ } ‪ .‬ويقدّم الدّين على الوصيّة‬ ‫السّابق ‪ -‬لقوله تعالى ‪ { :‬مِنْ َب ْعدِ َو ِ‬

‫ن الدّين واجب من أوّل المر ‪ ،‬لكنّ الوصيّة تبرّع ابتداءً ‪ ،‬والواجب يؤدّى‬ ‫باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬ل ّ‬ ‫قبل التّبرّع ‪ « .‬وعن المام عليّ رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬إنّكم تقرءون الوصيّة قبل الدّين ‪،‬‬

‫وقد شهدت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بدأ بالدّين قبل الوصيّة » ‪ .‬وهذه الدّيون أو الحقوق‬

‫أنواع ‪:‬‬

‫منها ‪ :‬ما يكون للّه تعالى ‪ ،‬كالزّكاة والكفّارات والحجّ الواجب ‪.‬‬ ‫صحّة ودين المرض ‪.‬‬ ‫ومنها ‪ :‬ما يكون للعباد ‪ ،‬كدين ال ّ‬

‫وهذه الدّيون بشطريها ‪ ،‬إمّا أن تتعلّق بعين التّركة أو بجزء منها ‪.‬‬ ‫ومنها ‪ :‬ديون مطلقة متعلّقة بال ّذمّة وحدها ‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫ي والشّعبيّ والنّخعيّ وسوّار ‪ ،‬وهو الرّواية‬ ‫‪ -‬وذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّور ّ‬

‫المرجوحة للحنابلة إلى ‪ :‬أنّ الدّيون الّتي على الميّت تحلّ بموته ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬لنّه ل يخلو‬

‫إمّا أن يبقى الدّين في ذمّة الميّت ‪ ،‬أو الورثة ‪ ،‬أو يتعلّق بالمال ‪.‬‬

‫ل يجوز بقاؤه في ذمّة الميّت لخرابها وتعذّر مطالبته بها ‪ ،‬ول ذمّة الورثة لنّهم لم يلتزموها ‪،‬‬

‫ول رضي صاحب الدّين بذممهم ‪ ،‬وهي مختلفة متباينة ‪ ،‬ول يجوز تعليقه على العيان‬

‫وتأجيله ‪ ،‬لنّه ضرر بالميّت وصاحب الدّين ول نفع للورثة فيه أمّا الميّت فلنّ النّبيّ صلى ال‬ ‫عليه وسلم قال ‪ « :‬نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين » ‪ ،‬وأمّا صاحبه فيتأخّر حقّه ‪ ،‬وقد‬

‫تتلف العين فيسقط حقّه ‪ ،‬وأمّا الورثة فإنّهم ل ينتفعون بالعيان ول يتصرّفون فيها ‪ ،‬وإن‬

‫حصلت لهم منفعة فل يسقط حظّ الميّت وصاحب الدّين لمنفعة لهم ‪.‬‬

‫والمذهب عند الحنابلة ‪ ،‬وهو قول ابن سيرين وعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ وأبي عبيد ‪ :‬أنّ‬

‫الدّيون على الميّت ل تحلّ بموته ‪ ،‬إذا وثق الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقلّ‬

‫ل للحقوق ‪ ،‬وإنّما‬ ‫ن الموت ما جعل مبط ً‬ ‫المرين من قيمة التّركة أو الدّين ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬ل ّ‬

‫هو ميقات للخلفة وعلمة على الوراثة ‪ ،‬وقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من ترك حقّا‬ ‫ل فلورثته » ‪ ،‬فعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان ‪ ،‬ويتعلّق بعين ماله كتعلّق‬ ‫أو ما ً‬

‫حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه ‪ ،‬فإن أحبّ الورثة أداء الدّين والتزامه للغريم‬

‫ويتصرّفون في المال لم يكن لهم ذلك إلّ أن يرضى الغريم ‪ ،‬أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء أو‬

‫رهن يثق به لوفاء حقّه ‪ ،‬فأنّهم قد ل يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم ‪ ،‬فيؤدّي إلى فوات‬ ‫ق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورّثهم من غير أن‬ ‫الحقّ ‪ ،‬وذكر القاضي أبو يعلى ‪ :‬أنّ الح ّ‬

‫يشترط التزامهم له ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬ول ينبغي أن يلزم النسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه‬ ‫‪ ،‬ولو لزمهم ذلك لموت مورّثهم للزمهم وإن لم يخلّف وفاءً ‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫ي الدّينين يؤدّى أ ّولً إذا ضاقت التّركة عنهما ‪.‬‬ ‫‪ -‬وقد اختلف الفقهاء في أ ّ‬

‫ل إذا أوصى بها كما سيأتي ‪.‬‬ ‫فذهب الحنفيّة إلى ‪ :‬أنّ ديون اللّه تعالى تسقط بالموت إ ّ‬

‫ن حقوق اللّه تعالى مبنيّة على‬ ‫ن حقّ العبد يقدّم على حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬ل ّ‬ ‫وذهب المالكيّة إلى أ ّ‬

‫المسامحة ‪ ،‬وحقوق العباد مبنيّة على المشاحّة ‪ ،‬أو لستغناء اللّه وحاجة النّاس ‪.‬‬

‫ي إذا ضاقت التّركة‬ ‫وذهب الشّافعيّة إلى تقديم حقوق اللّه تعالى أو ديونه على حقوق الدم ّ‬

‫عنهما ‪ ،‬واستدلّوا بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬دين اللّه أحقّ أن يقضى » ‪.‬‬ ‫وقوله ‪ « :‬اقضوا اللّه ‪ ،‬فاللّه أحقّ بالوفاء » ‪.‬‬

‫وأمّا الحنابلة فإنّهم يقدّمون وفاء الدّين المتعلّق بعين التّركة أو ببعضها ‪ ،‬كالدّين المرهون به‬

‫شيء منها ‪ ،‬ثمّ بعدها الدّين المطلقة المتعلّقة بذمّة المتوفّى ‪ ،‬ول فرق في التّقديم بين حقّ اللّه‬ ‫أو حقّ العبد ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬إرث ‪ ،‬ودين ) ‪.‬‬

‫تعلّق دين اللّه سبحانه بالتّركة ‪:‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ دين اللّه سبحانه وتعالى يجب أداؤه من التّركة ‪،‬‬

‫سواء أوصى به أم ل ‪ ،‬على خلف سبق في تقديمه على دين الدميّ ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة إلى أنّ دين اللّه تعالى ل يجب أداؤه من التّركة إلّ إذا أوصى به الميّت ‪ ،‬فإن‬

‫أوصى به فيخرج من ثلث التّركة ‪ .‬قال الفناريّ في توجيه ذلك ‪ :‬إنّ أداء دين اللّه عبادة ‪،‬‬

‫ومعنى العبادة ل يتحقّق إلّ بنيّة وفعل ممّن يجب عليه حقيقةً أو حكما ‪ ،‬كما في اليصاء لتحقّق‬ ‫أدائها مختارا ‪ ،‬فيظهر اختياره الطّاعة من اختياره المعصية الّذي هو المقصود من التّكليف ‪،‬‬

‫وفعل الوارث من غير أمر المبتلى بالمر والنّهي ل يحقّق اختياره ‪ ،‬فإذا مات من غير فعل‬

‫ول أمر به فقد تحقّق عصيانه ‪ ،‬لخروجه من دار التّكليف ولم يمتثل ‪ ،‬وذلك تقرير عليه موجب‬

‫العصيان ‪ ،‬فليس فعل الوارث الفعل المأمور به ‪ ،‬فل يسقط به الواجب ‪ ،‬كما لو تبرّع به في‬

‫حال حياته ‪ ،‬بخلف حقوق العباد ‪ ،‬فإنّ الواجب فيها وصولها إلى مستحقّيها ل غير ‪ ،‬ولهذا لو‬

‫ظفر به الغريم يأخذه ‪ ،‬ويبرأ من عليه بذلك ‪.‬‬

‫ثمّ اليصاء بحقوق اللّه تعالى تبرّع ‪ ،‬لنّ الواجب في ذمّة من عليه الحقّ فعل ل مال ‪،‬‬

‫ن التّركة مال يصلح لستيفاء المال‬ ‫والفعال تسقط بالموت ‪ ،‬ول يتعلّق استيفاؤها بالتّركة ‪ ،‬ل ّ‬

‫منها ل لستيفاء الفعل ‪ .‬أل يرى أنّه إذا مات وعليه القصاص ل يستوفى من تركته ‪ ،‬فصارت‬ ‫الحقوق المذكورة كالسّاقط في حقّ الدّنيا ‪ ،‬لنّها لو لم يوص بها لم يجب على الورثة أداؤها ‪،‬‬ ‫فكان اليصاء بأدائها تبرّعا ‪ ،‬فيعتبر كسائر التّبرّعات من الثّلث بخلف ديون العباد ‪ ،‬فإنّها ل‬

‫ن المقصود ثمّة المال ل الفعل ‪ ،‬لحاجة العباد إلى الموال ‪ .‬وفيه بحث وهو‬ ‫تسقط بالموت ‪ ،‬ل ّ‬ ‫ن اليصاء بأداء حقوق اللّه تعالى واجب كما صرّح به في الهداية ‪ ،‬واليصاء بسائر‬ ‫أّ‬

‫التّبرّعات ليس بلزم ‪ ،‬فل وجه لقياس اليصاء بأداء حقوق اللّه على اليصاء بسائر التّبرّعات‬ ‫‪ ،‬فتأمّل ‪.‬‬

‫هذا وقد اختلف الجمهور في بعض التّفصيلت ‪ :‬فذهب المالكيّة إلى أنّه بعد وفاء دين العبد يبدأ‬

‫بوفاء حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬فيقدّم هدي التّمتّع إن مات الحاجّ بعد رمي جمرة العقبة ‪ ،‬أوصى به أم‬

‫ل ‪ ،‬ثمّ زكاة فطر فرّط فيها ‪ ،‬وكفّارات فرّط فيها أيضا ‪ ،‬ككفّارة يمين وصوم وظهار وقتل إذا‬

‫أشهد في صحّته أنّها بذمّته ‪ ،‬كلّ ذلك يخرج من رأس المال ‪ ،‬أوصى بإخراجها أم لم يوص ‪،‬‬ ‫ن المقرّر في مذهب المالكيّة ‪ :‬أنّ حقوق اللّه متى أشهد في صحّته بها خرجت من رأس‬ ‫لّ‬

‫المال ‪ ،‬فإن أوصى بها ولم يشهد فتخرج من الثّلث ‪.‬‬

‫ومثل ما تقدّم ‪ :‬زكاة النّقدين الّتي حلّت وأوصى بها ‪ ،‬وزكاة ماشية وجبت ول ساعي لخذها‬

‫ولم توجد السّنّ الّتي تجب فيها ‪ ،‬فإن وجدت فهو كالدّين المتعلّق بعين ‪ ،‬فيجب إخراجه قبل‬

‫الكفن والتّجهيز ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة إلى ‪ :‬أنّه بعد تجهيز الميّت وتكفينه تقضى ديونه المتعلّقة بذمّته من رأس‬

‫المال ‪ ،‬سواء أكانت للّه تعالى أم لدميّ ‪ ،‬أوصى بها أم لم يوص ‪ ،‬لنّها حقّ واجب عليه ‪.‬‬

‫هذا وإنّ محلّ تأخير الدّين عن مؤن التّجهيز إذا لم يتعلّق بعين التّركة حقّ ‪ ،‬فإن تعلّق بعين‬

‫التّركة حقّ قدّم على التّجهيز ‪ ،‬وذلك كالزّكاة الواجبة فيما قبل موته ‪ ،‬ولو من غير الجنس ‪،‬‬ ‫فيقدّم على مؤن التّجهيز ‪ ،‬بل على كلّ حقّ تعلّق بها فكانت كالمرهون بها ‪.‬‬

‫وذهب الحنابلة إلى ‪ :‬أنّه بعد التّجهيز والتّكفين يوفّى حقّ مرتهن بقدر الرّهن ‪ ،‬ثمّ إن فضل‬

‫للمرتهن شيء من دينه شارك الغرماء ‪ .‬ثمّ بعد ما سبق من تسديد الدّيون المتعلّقة بأعيان‬

‫التّركة ‪ ،‬تسدّد الدّيون غير المتعلّقة بالعيان ‪ ،‬وهي الّتي تثبت في ال ّذمّة ‪ ،‬ويتعلّق حقّ الغرماء‬

‫بالتّركة كلّها ‪ ،‬سواء استغرقها الدّين أم لم يستغرقها ‪ ،‬وسواء أكان الدّين للّه تعالى كالزّكاة‬ ‫والكفّارات والحجّ الواجب ‪ ،‬أم كان لدميّ كالقرض والثّمن والجرة ‪.‬‬

‫فإن زادت الدّيون عن التّركة ‪ ،‬ولم تف بدين اللّه تعالى ودين الدميّ ‪ ،‬يتحاصّون بنسبة‬ ‫ديونهم كمال المفلس ‪.‬‬

‫ج وينظر مصطلح ‪ ( :‬حجّ ‪ ،‬ودين ‪ ،‬وإرث ) ‪.‬‬ ‫والتّفصيل في الزّكاة والكفّارات والح ّ‬

‫دين الدميّ ‪:‬‬

‫‪27‬‬

‫‪ -‬دين الدميّ هو الدّين الّذي له مطالب من جهة العباد ‪ ،‬فإنّ إخراج هذا الدّين من التّركة‬

‫صيّةٍ‬ ‫ن َبعْ ِد وَ ِ‬ ‫والوفاء به واجب شرعا على الورثة قبل توزيع التّركة بينهم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { .‬مِ ْ‬

‫يُوصِي بها أو َديْنٍ } وعلى ذلك الجماع ‪ ،‬وذلك حتّى تبرأ ذمّته من حقوق النّاس ‪ ،‬أو حتّى‬

‫تبرد جلدته كما جاء في الحديث الشّريف ‪.‬‬

‫ي بين كونه متعلّقا بعين التّركة أو بذمّة المتوفّى ‪ ،‬وفي‬ ‫وللفقهاء تفصيل في نوع تعلّق دين الدم ّ‬

‫صحّة والمرض ‪ ،‬وفي ضيق التّركة عن تسديد الدّين وغير ذلك ممّا سيأتي ‪.‬‬ ‫دين ال ّ‬

‫نوع التّعلّق ‪:‬‬

‫الدّين الّذي له مطالب من جهة العباد إمّا أن يتعلّق بعين التّركة أو ل ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الدّين المتعلّق بعين التّركة ‪:‬‬

‫‪28‬‬

‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة في الرّواية المشهورة عندهم ‪ ،‬والمالكيّة والشّافعيّة‪ -‬إلى‬

‫أنّه يبدأ من الدّيون بما تعلّق بعين التّركة ‪ ،‬كالدّين الموثق برهن ‪ ،‬ومن ثمّ يجب تقديم هذه‬

‫الدّيون على تجهيز الميّت وتكفينه ‪ ،‬لنّ المورّث في حال حياته ل يملك التّصرّف في العيان‬ ‫ق بعد وفاته ‪.‬‬ ‫ل يكون له فيها ح ّ‬ ‫الّتي تعلّق بها حقّ الغير ‪ ،‬فأولى أ ّ‬

‫فإن فضل شيء من التّركة بعد سداد هذا الدّين جهّز منه الميّت ‪ ،‬وإن لم يفضل شيء بعد سداد‬ ‫الدّين ‪ ،‬كان تجهيز الميّت على من كانت تجب عليه نفقته في حياته ‪.‬‬

‫وذهب الحنابلة ‪ ،‬والحنفيّة في غير المشهور إلى أنّه إذا مات النسان بدئ بتكفينه وتجهيزه‬

‫مقدّما على غيره ‪ ،‬كما تقدّم نفقة المفلس على ديون غرمائه ‪ ،‬ثمّ بعد التّجهيز والتّكفين تقضى‬

‫ديونه ممّا بقي من ماله ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الدّيون المطلقة ‪:‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الدّيون المطلقة ‪ ،‬وهي الّتي ل تتعلّق بعين من أعيان التّركة تؤخّر‬

‫عن تجهيز الميّت وتكفينه ‪ ،‬فإن فضل شيء بعد التّجهيز والتّكفين دفع للدّائن واحدا كان أو‬

‫أكثر بقدر حصصهم ‪ .‬وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬دين وإرث )‬ ‫صحّة ودين المرض ‪:‬‬ ‫ج ‪ -‬دين ال ّ‬

‫‪30‬‬

‫صحّة أو المرض على‬ ‫صحّة ‪ :‬هو ما كان ثابتا بالبيّنة مطلقا ‪ ،‬أي في حال ال ّ‬ ‫‪ -‬دين ال ّ‬

‫السّواء ‪.‬‬

‫صحّة وكذا الدّين الثّابت بنكول المتوفّى في زمان صحّته ‪.‬‬ ‫وما كان ثابتا بالقرار في حال ال ّ‬

‫ودين المرض ‪ :‬هو ما كان ثابتا بإقراره في مرضه ‪ ،‬أو ما هو في حكم المرض ‪ ،‬كإقرار من‬

‫خرج للمبارزة ‪ ،‬أو خرج للقتل قصاصا ‪ ،‬أو ليرجم ‪.‬‬

‫صحّة ودين المرض سواء في‬ ‫ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن أبي ليلى إلى ‪ :‬أنّ دين ال ّ‬ ‫الداء ‪ ،‬ولهذا إن لم يكن في التّركة وفاء بهما يكون لكلّ دائن حصّة منهما ‪ ،‬بنسبة مقدار‬

‫صحّة أو ديون المرض ‪ ،‬فهي في مرتبة واحدة ‪،‬‬ ‫دينه ‪ ،‬بل تمييز بين ما كان منها من ديون ال ّ‬ ‫صحّة ‪ -‬ووافقهم على ذلك الحنفيّة ‪ -‬وإن لم يعرّف‬ ‫لنّه إن عرّف سببها للنّاس فهي ديون ال ّ‬

‫ن القرار حجّة ‪ ،‬إلّ إذا قام دليل أو قرينة على كذبه ‪.‬‬ ‫سببها فيكفي القرار في إثباتها ‪ ،‬ل ّ‬

‫والنسان وهو مريض يكون أبعد عن هواه ‪ ،‬وأقرب إلى اللّه ‪ ،‬وإلى ما يؤمر به من الصّدق‬

‫ن المرض مظنّة التّوبة ‪ .‬يصدق فيه الكاذب ‪ ،‬ويبرّ فيه الفاجر ‪ ،‬وتنتفي‬ ‫صحّة ‪ ،‬ل ّ‬ ‫في حال ال ّ‬

‫تهمة الكذب عن إقراره ‪ ،‬فيكون الثّابت بالقرار كالثّابت بالبيّنة ‪.‬‬

‫صحّة على دين المرض الّذي ثبت بطريق القرار ‪ ،‬ولم يعلم‬ ‫وذهب الحنفيّة إلى تقديم دين ال ّ‬

‫النّاس به ‪ ،‬لنّ القرار في مرض الموت مظنّة التّبرّع أو المحاباة ‪ ،‬فيكون في حكم الوصايا‬ ‫الّتي تنفذ من الثّلث ‪ ،‬والوصايا مؤخّرة عن الدّيون ‪.‬‬

‫تزاحم الدّيون ‪:‬‬

‫‪31‬‬

‫‪ -‬إذا كانت التّركة متّسعةً للدّيون كلّها على اختلف أنواعها ‪ ،‬فل إشكال في ذلك حينئذ ‪ ،‬إذ‬

‫يمكن الوفاء بها جميعا من التّركة ‪.‬‬

‫أمّا إذا ضاقت التّركة ولم تتّسع لجميع الدّيون ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في تقديم بعضها على بعض‬ ‫‪ .‬وقد تقدّم بيان أقوال الفقهاء في تقديم الدّيون المتعلّقة بعين التّركة على غيرها ‪ ،‬وتقديم دين‬

‫صحّة على دين المرض أو عدم تقديمه ‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬دين ‪ ،‬ورهن ‪ ،‬وقسمة ) ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬الوصيّة ‪:‬‬

‫‪32‬‬

‫‪ -‬يأتي في المرتبة الثّالثة تنفيذ الوصيّة ‪ .‬وقد اتّفق الفقهاء على أنّ تنفيذ ما يوصي به الميّت‬

‫صيّةٍ‬ ‫يجيء بعد الدّين وقبل أخذ الورثة أنصباءهم من التّركة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬مِنْ َب ْعدِ َو ِ‬

‫يُوصِي بها أو َديْنٍ } ول يكون تنفيذ ما يوصى به من أصل المال ‪ ،‬لنّ ما تقدّم من التّكفين‬

‫وقضاء الدّين قد صار مصروفا في ضروراته الّتي ل بدّ منها ‪ ،‬والباقي هو ماله الّذي كان له‬ ‫أن يتصرّف في ثلثه ‪ .‬وأيضا ربّما استغرق ثلث الصل جميع الباقي ‪ ،‬فيؤدّي إلى حرمان‬

‫الورثة بسبب الوصيّة ‪ ،‬وهذا سواء أكانت الوصيّة مطلق ًة أم معيّنةً ‪.‬‬

‫ل كما تبيّن من قبل ( ف‬ ‫وتقديم الوصيّة على الدّين في الية الكريمة ل يفيد التّقديم فع ً‬

‫‪23‬‬

‫ح نفوس الورثة‬ ‫وإنّما يفيد العناية بأمر وصيّة الميّت ‪ ،‬وإن كانت تبرّعا منه ‪ ،‬كي ل تش ّ‬

‫)‬

‫بإخراجها من التّركة قبل توزيعها بينهم ‪.‬‬

‫ومن هنا تقدّم ذكرها على الدّين تنبيها على أنّها مثله في وجوب الداء أو المسارعة إليه ‪،‬‬

‫ولذلك جيء بينهما بأو الّتي هي هنا للتّسوية ‪.‬‬

‫وتقديم الوصيّة على حقوق الورثة ليس على إطلقه ‪ ،‬لنّ تنفيذ الوصيّة مقيّد بحدود الثّلث ‪،‬‬ ‫فإن كان الموصى به شيئا معيّنا أخذه ‪ ،‬وإن كان بثلث أو ربع مثلً كان الموصى له شريكا‬

‫للورثة في التّركة بنسبة نصيبه الموصى له به ‪ ،‬ل مقدّما عليهم ‪ .‬فإذا نقص المال لحقه النّقص‬ ‫‪ ،‬وهذا بخلف التّجهيز والدّين ‪ ،‬فإنّهما متقدّمان حقّا على الوصيّة وحقوق الورثة ‪.‬‬

‫ولمّا كانت الوصيّة بنسبة شائعة على سبيل المشاركة مع حقوق الورثة ‪ -‬فلو هلك شيء من‬

‫التّركة قبل القسمة فإنّه يهلك على الموصى له والورثة جميعا ‪ ،‬ول يعطى الموصى له كلّ‬

‫الثّلث من الباقي ‪ ،‬بل الهالك يهلك على الحقّين ‪ ،‬والباقي يبقى على الحقّين ‪ ،‬بخلف الدّين ‪-‬‬

‫ل الدّين من الباقي ‪.‬‬ ‫فإنّه إذا هلك بعض التّركة يستوفى ك ّ‬

‫ثمّ إنّ طريقة حساب الوصيّة ‪ :‬أن يحسب قدر الوصيّة من جملة التّركة لتظهر سهام الورثة ‪،‬‬

‫كما تحسب سهام أصحاب الفرائض أوّلً ليظهر الفاضل للعصبة ‪.‬‬ ‫وللفقهاء تفصيل ينظر في ( وصيّة ‪ ،‬وإرث ) ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬قسمة التّركة بين الورثة ‪:‬‬

‫‪33‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ التّركة تقسم بين الوارثين بعد أداء الحقوق المتعلّقة بها انظر‬

‫مصطلح ‪ ( :‬إرث ) ‪ .‬إلّ أنّ الفقهاء اختلفوا فيما إذا قسّمت التّركة بين الورثة قبل أداء الحقوق‬ ‫المتعلّقة بها ‪ ،‬هل تنقض هذه القسمة أم تلزم ؟‬

‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّركة المستغرقة بالدّين تبقى على ملك المورّث ‪ ،‬أو هي في‬

‫حكم ملكه ‪ ،‬لنّ الدّين يشغلها جميعا ‪ .‬أمّا غير المستغرقة فإنّها تنتقل إلى ملك الوارث من حين‬ ‫وفاة المورّث أو ينتقل الجزء الفارغ من الدّين ‪.‬‬

‫ن ملكهم ل يظهر إلّ‬ ‫ومن ثمّ ل يجوز للورثة اقتسام التّركة ما دامت مشغول ًة بالدّين ‪ ،‬وذلك ل ّ‬

‫صيّةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ } فإذا قسموها نقضت‬ ‫ن َبعْ ِد وَ ِ‬ ‫بعد قضاء الدّين ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬مِ ْ‬

‫ق الدّائنين ‪ ،‬لنّهم قسموا ما ل يملكون ‪ .‬قال الكاسانيّ ‪ :‬الّذي يوجب نقض‬ ‫قسمتهم حفظا لح ّ‬

‫القسمة بعد وجودها أنواع ‪ :‬منها ظهور دين على الميّت ‪ ،‬إذا طلب الغرماء ديونهم ول مال‬

‫للميّت سواه ول قضاه الورثة من مال أنفسهم ‪.‬‬

‫وإذا لم يكن الدّين محيطا بالتّركة فملك الميّت وحقّ الغرماء ثابت في قدر الدّين من التّركة على‬

‫الشّيوع ‪ ،‬فيمنع جواز القسمة ‪.‬‬

‫وذهب بعض الحنفيّة إلى ‪ :‬جواز القسمة استحسانا ‪ ،‬إذا كان الدّين غير مستغرق للتّركة ‪ ،‬لنّه‬ ‫قلّما تخلو تركة من دين يسير ‪ .‬ول تنقض القسمة أيضا إذا أبرأ الدّائن الميّت من الدّين ‪ ،‬أو‬

‫ضمن الدّين بعض الورثة برضى الدّائن نفسه ‪ ،‬أو كان في التّركة من غير المقسوم ما يكفي‬

‫لداء الدّين ‪ .‬وقد جاء في مجلّة الحكام العدليّة ما نصّه ‪ :‬إذا ظهر دين على الميّت بعد تقسيم‬

‫التّركة تفسخ القسمة ‪ ،‬إلّ إذا أدّى الورثة الدّين ‪ ،‬أو أبرأهم الدّائنون منه ‪ ،‬أو ترك الميّت مالً‬

‫سوى المقسوم يفي بالدّين ‪ ،‬فعند ذلك ل تفسخ القسمة ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة إلى ‪ :‬أنّ ملك الورثة للتّركة يبدأ من حين موت المورّث ‪ ،‬سواء أحاط الدّين‬

‫بالتّركة أم ل ‪ .‬وقسمة التّركة ما هي إلّ تمييز وإفراز لحقوق كلّ من الورثة ‪ ،‬ومن ثمّ فل وجه‬ ‫لنقض القسمة عندهم ‪ .‬وإن قيل ‪ :‬إنّها بيع ففي نقضها وجهان ‪.‬‬

‫ن تعلّق الدّين بالتّركة ل يمنع‬ ‫وعند الحنابلة ‪ :‬ل تبطل القسمة بظهور دين على الميّت ‪ ،‬ل ّ‬

‫صحّة التّصرّف فيها ‪،‬لنّه تعلّق بها بغير رضا الورثة ‪ .‬وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬قسمة )‪.‬‬

‫نقض قسمة التّركة ‪:‬‬

‫‪34‬‬

‫‪ -‬المقصود بنقض القسمة ‪ :‬إبطالها بعد تمامها ‪ ،‬وتنقض قسمة التّركة في الحالت التّالية ‪:‬‬

‫‪ -‬أ ‪ -‬القالة أو التّراضي على فسخ القسمة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ظهور دين على الميّت وقد تقدّم ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬ظهور وارث أو موصًى له في قسمة التّراضي ‪ ،‬لنّ الوارث والموصى له شريكان‬

‫للورثة في التّركة ‪.‬‬

‫د ‪ -‬ظهور غبن فاحش لحق ببعض الورثة ‪ ،‬وهو الّذي ل يدخل تحت تقويم المقوّمين ‪ ،‬كأن‬

‫قوّم المال بألف ‪ ،‬وهو يساوي خمسمائة ‪.‬‬

‫وتنقض هنا قسمة القاضي ‪ ،‬لنّ تصرّف القاضي مقيّد بالعدل ولم يوجد ‪.‬‬

‫وتنقض أيضا قسمة التّراضي ‪ ،‬لنّ شرط جوازها المعادلة ولم توجد ‪ ،‬فجاز نقضها ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬وقوع غلط في المال المقسوم ‪ .‬وفي جميع هذه الصّورة تفصيل وخلف ينظر في‬

‫مصطلح ‪ ( :‬قسمة ) ‪.‬‬

‫التّصرّف في التّركة ‪:‬‬

‫‪35‬‬

‫‪ -‬تقدّم خلف الفقهاء في نفاذ أو عدم نفاذ قسمة التّركة إذا كانت مستغرقةً بالدّين كلّا أو‬

‫بعضا ‪ .‬وإذا تصرّف الورثة في التّركة المدينة بالبيع أو الهبة أو بغير ذلك من التّصرّفات الّتي‬ ‫من شأنها أن تنقل الملكيّة أو ترتّب عليها حقوقا عينيّةً كالرّهن ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ذلك‬

‫على الوجه التّالي ‪ :‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة في إحدى الرّوايتين ‪ -‬وهم الّذين قالوا‬

‫ي تصرّف من الورثة في التّركة‬ ‫بمنع ملكيّة الوارث إلّ بعد سداد الدّين ‪ -‬إلى ‪ :‬أنّه ل يجوز أ ّ‬ ‫إلّ في الحوال التّالية ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أن تبرأ ذمّة الميّت من الدّين قبل تصرّف الورثة ‪ ،‬إمّا بالداء أو الكفالة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬أن يرضى الدّائنون بقيام الورثة ببيع التّركة لسداد ديونهم ‪ ،‬لنّ منع تصرّف الورثة‬ ‫بالتّركة كان ضمانا لحقّ الدّائنين المتعلّق بالتّركة ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬أن يأذن القاضي بالتّصرّف ‪ ،‬وذلك لنّ القاضي بما له من الولية العامّة يملك الذن‬

‫للورثة بالبيع لجميع التّركة أو بعضها ‪.‬‬

‫ن ملك الوارث يبدأ من‬ ‫وأمّا الشّافعيّة والحنفيّة في الرّواية الخرى ‪ -‬وهم الّذين ذهبوا إلى أ ّ‬

‫وقت وفاة المورّث ‪ ،‬سواء كانت التّركة مدينةً أم ل ‪ -‬فإنّهم ذهبوا إلى أنّ تصرّف الوارث‬

‫بالبيع أو الهبة مع استغراق التّركة بالدّين ل ينفذ مراعاةً لحقّ الميّت ‪ ،‬أذن الدّائن أم ل ‪ ،‬إلّ إذا‬ ‫كان التّصرّف لقضاء الدّين فإنّه ينفذ ‪.‬‬

‫وفي المسألة تفصيل يرجع فيه إلى الهبة ‪ ،‬وإلى بيع منهيّ عنه ‪ ،‬ومصطلح ‪ ( :‬دين ) ‪.‬‬

‫تصفية التّركة ‪:‬‬

‫‪36‬‬

‫‪ -‬تقدّم الكلم حول تصرّف الوارثين البالغين في التّركة قسمةً أو بيعا ‪ ،‬أمّا إذا كان الورثة‬

‫أو بعضهم قصّرا ‪ :‬فإنّ التّصرّف فيها يكون راجعا للوصيّ إن كان ‪ ،‬أو للقاضي إن لم يكن‬

‫وصيّ ‪ ،‬وذلك لضمان الحقوق المتعلّقة بالتّركة من جهة ‪ ،‬ولحفظ أموال الورثة الضّعفاء كيل‬ ‫يظلموا من غيرهم ‪ .‬ولتفصيل هذه الحكام ينظر ( الوصيّة ) ومصطلح ‪ ( :‬إيصاء ) ‪.‬‬

‫التّركة الّتي ل وارث لها ‪:‬‬

‫‪37‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في التّركة الّتي ل وارث لها ‪ ،‬أو لها وارث ل يرثها جميعها ‪ ،‬فمن قال‬

‫من الفقهاء بال ّردّ قال ‪ :‬ل تئول التّركة إلى بيت المال ما دام لها وارث ‪ .‬ومن ل يرى الرّ ّد من‬ ‫ن بيت المال يرث جميع التّركة ‪ ،‬أو ما بقي بعد أصحاب الفروض ‪ .‬وإذا آلت‬ ‫الفقهاء قال ‪ :‬إ ّ‬

‫التّركة إلى بيت المال كانت على سبيل الفيء ل الرث عند الحنفيّة والحنابلة ‪ .‬وذهب المالكيّة‬ ‫ق بيت المال هنا هو على سبيل الميراث ‪ ،‬أي على سبيل العصوبة ‪.‬‬ ‫والشّافعيّة إلى أنّ ح ّ‬ ‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬إرث ‪ ،‬وبيت المال ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ترميم *‬

‫‪ -‬للتّرميم في اللّغة معان ‪ .‬منها ‪ :‬الصلح ‪.‬‬

‫يقال ‪ :‬رمّمت الحائط وغيره ترميما ‪ :‬أصلحته ‪ .‬ورمّمت الشّيء أ ُرمّه وأ ِرمّه رمّا ومَ َرمّةً ‪ :‬إذا‬ ‫أصلحته ‪ .‬ويقال ‪ :‬قد َر ّم شأنُه ‪ .‬واسترمّ الحائط ‪ :‬أي حان له أن يُرَمّ ‪ ،‬وذلك إذا بعد عهده‬

‫بالتّطيين ونحوه ‪ .‬والرّم ‪ :‬إصلح الشّيء الّذي فسد بعضه من نحو حبل يبلى فيرمّه ‪ ،‬أو دار‬

‫ترمّ مرمّةً ‪ .‬ول يخرج في معناه الصطلحيّ عن هذا ‪ .‬والتّرميم قد يكون بقصد التّقوية ‪ ،‬إذا‬ ‫كان الشّيء معرّضا للتّلف ‪ ،‬وقد يكون بقصد التّحسين ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬ ‫أوّلً ‪ :‬ترميم الوقف ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬إذا احتاجت عين الوقف إلى ترميم ‪ ،‬فإنّه يبدأ به من غلّته قبل الصّرف إلى المستحقّين ‪،‬‬

‫ن قصد الواقف صرف الغلّة مؤبّدا ‪ ،‬ول تبقى دائمةً إلّ بعمارته ‪ ،‬وما بقي بعد العمارة‬ ‫لّ‬

‫يصرف للمستحقّين ‪ ،‬هذا ما عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪.‬‬

‫وفي هذا يقول الحنفيّة ‪ :‬لو شرط الواقف تقديم العمارة ‪ ،‬ثمّ الفاضل للفقراء أو للمستحقّين ‪ ،‬لزم‬ ‫النّاظر إمساك قدر ما تحتاجه العمارة كلّ سنة ‪ ،‬وإن لم يحتجه وقت المساك ‪ ،‬لجواز أن‬

‫يحدث في الوقف بعد التّوزيع حدث يحتاج إلى ترميم ول يجد غلّةً يرمّم بها ‪ ،‬بخلف ما إذا لم‬

‫يشترطه ‪ .‬والفرق بين الشّرط وعدمه ‪ :‬أنّه مع السّكوت تقدّم العمارة عند الحاجة إليها ‪ ،‬ول‬

‫يدّخر لها عند عدم الحاجة إليها ‪ ،‬ومع الشتراط تقدّم عند الحاجة ‪ ،‬ويدّخر لها عند عدمها ‪ ،‬ثمّ‬

‫ن الواقف إنّما جعل الفاضل عنها للفقراء ‪.‬‬ ‫يفرّق الباقي ‪ ،‬ل ّ‬

‫ولو كان الموقوف دارا ‪ ،‬فعمارتها على من له السّكنى ‪ ،‬أي على من يستحقّها من ماله ل من‬

‫الغلّة ‪ ،‬إذ الغرم بالغنم ‪ .‬ومفاده ‪ :‬أنّه لو كان بعض المستحقّين للسّكنى غير ساكن فيها يلزمه‬

‫التّعمير مع السّاكنين ‪ ،‬لنّ تركه لحقّه ل يسقط حقّ الوقف ‪ ،‬فيعمّر معهم ‪ ،‬وإلّ تؤجّر حصّته‬

‫‪ .‬ولو أبى من له السّكنى ‪ ،‬أو عجز لفقره ‪ ،‬آجرها الحاكم منه أو من غيره ‪ ،‬وعمّرها بأجرتها‬

‫كعمارة الوقف ‪ ،‬ثمّ يردّها بعد التّعمير إلى من له السّكنى رعايةً للحقّين ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬فإذا امتنع عن العمارة من ماله يؤجّرها المتولّي ويعمّرها من غلّتها ‪ ،‬لنّها موقوفة للغلّة ‪.‬‬

‫ولو كان هو المتولّي وامتنع من عمارتها ينصب غيره ليعمّرها ‪ ،‬أو يعمّرها الحاكم ‪ .‬ولو‬

‫احتاج الخان الموقوف إلى المرمّة آجر بيتا أو بيتين منه وأنفق عليه ‪ ،‬أو يؤذن للنّاس بالنّزول‬ ‫فيه سنةً ‪ ،‬ويؤجّر سنةً أخرى ‪ ،‬وير ّم من أجرته ‪.‬‬

‫ويقول المالكيّة ‪ :‬إنّ إصلح الوقف من غلّته ‪ .‬فإن شرط على المستحقّ إصلحه يلغى‬ ‫الشّرط ‪ ،‬والوقف صحيح ‪ ،‬ويصلح من غلّته ‪.‬‬

‫فإن أصلح من شرط عليه الصلح رجع بما أنفق ل بقيمته منقوضا ‪.‬‬

‫فلو شرط الواقف أن يبدأ من غلّته بمنافع أهله ‪ ،‬ويترك إصلح ما تهدّم منه ‪ ،‬أو يترك النفاق‬ ‫عليه إذا كان حيوانا بطل شرطه ‪ ،‬وتجب البداءة بمرمّته والنّفقة عليه من غلّته لبقاء عينه ‪.‬‬

‫ولمّا كانت رقبة الوقف عند المالكيّة للواقف والغلّة للموقوف عليه ‪ ،‬يترتّب على هذا أنّه إذا‬

‫خرب الوقف فللواقف إن كان حيّا ‪ -‬ولوارثه إن مات ‪ -‬منع من يريد إصلحه إذا خرب أو‬

‫احتاج للصلح ‪ ،‬لنّه ليس لحد أن يتصرّف في ملك غيره إلّ بإذنه ‪ ،‬ولنّ إصلح الغير‬

‫مظنّة لتغيير معالمه ‪ ،‬وهذا إذا أصلحه الواقف أو ورثته ‪ ،‬وإلّ فليس لهم المنع ‪ ،‬بل الولى لهم‬

‫تمكين من أراد بناءه إذا خرب ‪ ،‬لنّه من التّعاون على الخير ‪.‬‬

‫وهذا في غير المساجد ‪ ،‬وأمّا هي فقد ارتفع ملكه عنها قطعا ‪.‬‬

‫ويقول الشّافعيّة ‪ :‬لو خربت الدّار الموقوفة ‪ ،‬ولم يعمّرها الموقوف عليه ‪ ،‬فإن كان للوقف مال‬

‫كانت عمارته في مال الوقف ‪ ،‬وإن لم يكن له مال أوجر وعمّر من أجرته ‪ .‬فإذا تعطّلت منافع‬ ‫الوقف وكان حيوانا كخيل الجهاد ‪ ،‬فالنّفقة من بيت المال ‪.‬‬

‫أمّا عمارة الدّار الموقوفة فل تجب على أحد كالملك المطلق بخلف الحيوان فإنّ نفقته تجب‬

‫لصيانة روحه ‪ .‬وريع العيان الموقوفة على المسجد إذا انهدم وتوقّع عوده حفظ له ‪ ،‬وإلّ فإن‬

‫أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه ‪ ،‬وإلّ فمنقطع الخر فيصرف لقرب النّاس إلى‬ ‫الواقف ‪ ،‬فإن لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين ‪.‬‬

‫‪ -4‬أمّا غير المنهدم فما فضل من غلّة الموقوف على مصالحه يشترى بها عقار ويوقف عليه ‪،‬‬

‫بخلف الموقوف على عمارته يجب ادّخاره لجلها ‪ ،‬وإلّ لم يعد منه شيء لجلها ‪ ،‬لنّه‬

‫يعرّض للضّياع أو لظالم يأخذ ‪.‬‬

‫‪ -5‬وأمّا الحنابلة فيرجع عندهم إلى شرط الواقف في النفاق على الوقف وفي سائر أحواله ‪،‬‬ ‫لنّه ثبت بوقفه ‪ ،‬فوجب أن يتبع فيه شرطه ‪.‬‬

‫فإن عيّن الواقف النفاق عليه من غلّته أو من غيرها عمل به رجوعا إلى شرطه ‪ ،‬وإن لم‬

‫ن الوقف يقتضي‬ ‫يعيّنه ‪ -‬وكان الموقوف ذا روح كالخيل ‪ -‬فإنّه ينفق عليه من غلّته ‪ ،‬ل ّ‬

‫تحبيس الصل وتسبيل منفعته ‪ ،‬ول يحصل ذلك إلّ بالنفاق عليه فكان ذلك من ضرورته ‪.‬‬

‫فإن لم يكن للموقوف غلّة لضعف به ونحوه فنفقته على الموقوف عليه المعيّن ‪ ،‬لنّ الوقف‬ ‫عندهم يخرج من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليه إن كان آدميّا معيّنا ‪ ،‬مع منعه من‬

‫التّصرّف فيه ‪ .‬فإن تعذّر النفاق من الموقوف عليه لعجزه أو غيبته ونحوهما بيع الوقف ‪،‬‬

‫ل الضّرورة ‪.‬‬ ‫وصرف ثمنه في عين أخرى تكون وقفا لمح ّ‬

‫ولو احتاج خان مسبّل إلى مرمّة ‪ ،‬أو احتاجت دار موقوفة لسكنى الحاجّ أو الغزاة أو أبناء‬

‫السّبيل ونحوهم إلى مرمّة ‪ ،‬يؤجّر منه بقدر ما يحتاج إليه في مرمّته ‪.‬‬

‫‪ -6‬وإن كان الوقف على غير معيّن كالمساكين ونحوهم كالفقهاء فنفقته في بيت المال ‪ ،‬لنتفاء‬ ‫المالك المعيّن فيه ‪.‬‬

‫فإن تعذّر النفاق عليه من بيت المال بيع وصرف ثمنه في عين أخرى تكون وقفا ‪.‬‬

‫وإن كان الوقف ممّا ل روح فيه كالعقار ونحوه من سلح ومتاع وكتب ‪ ،‬لم تجب عمارته على‬

‫أحد إلّ بشرط الواقف ‪.‬‬

‫فإن شرط عمارته عمل بشرطه ‪ ،‬سواء شرط البداءة بالعمارة أو تأخيرها ‪،‬فيعمل بما شرط ‪.‬‬ ‫لكن إن شرط تقديم الجهة عمل به ما لم يؤ ّد إلى التّعطيل ‪ ،‬فإذا أدّى إليه قدّمت العمارة حفظا‬

‫لصل الوقف ‪ .‬فإن لم يذكر البداءة بالعمارة أو تأخيرها ‪ ،‬فتقدّم على أرباب الوظائف ‪ ،‬ما لم‬

‫يفض ذلك إلى تعطيل مصالحه ‪ ،‬فيجمع بينهما حسب المكان ‪.‬‬

‫ويصحّ بيع بعضه لصلح باقيه ‪ ،‬لنّه إذا جاز بيع الكلّ عند الحاجة فبيع البعض مع بقاء‬ ‫البعض أولى ‪ ،‬إن اتّحد الواقف ‪ .‬وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ‪ ( :‬وقف ) ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التّرميم في الجارة ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬إذا احتاجت الدّار المستأجرة للتّرميم ‪ .‬فإنّ عمارتها وإصلح ما تلف منها وكلّ ما يخلّ‬

‫بالسّكنى على المؤجّر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬

‫ويقول الحنفيّة ‪ :‬إن أبى صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها ‪ ،‬إلّ أن يكون‬

‫المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها لرضاه بالعيب ‪ ،‬وأنّه ل يجبر المؤجّر على إصلح‬

‫بئر الماء والبالوعة والمخرج إن أبى إصلح ذلك ‪ ،‬لنّه ل يجبر على إصلح ملكه ‪ ،‬فإن فعله‬

‫المستأجر فهو متبرّع ‪ ،‬وله أن يخرج إن أبى المؤجّر ‪.‬‬

‫وعلى المستأجر إصلح ما تلف من العين بسبب استعماله ‪.‬‬

‫ويقول الشّافعيّة ‪ :‬إن بادر المؤجّر إلى إصلح ما تلف فل خيار للمكتري ‪ ،‬وإلّ فله الخيار‬ ‫لتضرّره بنقص المنفعة ‪.‬‬

‫ل أنّهم قالوا ‪ :‬لو شرط المؤجّر على المكتري النّفقة الواجبة‬ ‫والحنابلة كالشّافعيّة في هذا ‪ ،‬إ ّ‬

‫لعمارة المأجور لم يصحّ ‪ ،‬لنّه يؤدّي إلى جهالة الجارة ‪ ،‬فلو عمّر المستأجر بهذا الشّرط أو‬ ‫عمّر بإذن المؤجّر رجع عليه ‪.‬‬

‫وإن أنفق المستأجر من غير إذنه لم يرجع بشيء ‪ ،‬لنّه متبرّع ‪ ،‬لكن له أخذ أعيان آلته ‪.‬‬

‫وأجاز المالكيّة شرط المرمّة للدّار وتطيينها إن احتاجت على المكتري ‪ ،‬بشرط أن يكون من‬

‫كراء وجب على المكتري ‪ ،‬إمّا في مقابلة سكنى مضت ‪ ،‬أو باشتراط تعجيل الكراء ‪ ،‬أو‬

‫يجري العرف بتعجيله ‪ ،‬ل إن لم يجب فل يجوز ‪ .‬أو وقع العقد على أنّ ما تحتاج إليه الدّار‬ ‫من المرمّة والتّطيين من عند المكتري ‪ ،‬فل يجوز للجهالة ‪.‬‬

‫ترميم المستأجر من شريكين ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬إذا استأجر شخص ما دارا مشتركةً بين اثنين مثلً من صاحبيها ‪ ،‬ثمّ احتاجت إلى مرمّة ‪،‬‬

‫فاستأذن فيها واحدا منهما فحسب ‪ ،‬فأذن له دون رجوع إلى شريكه فليس للمستأجر حقّ‬ ‫الرّجوع على الشّريك الخر بما أنفقه في المرمّة ‪.‬‬

‫فإن كان للذن حقّ الرّجوع على شريكه كان للمستأجر الرّجوع على آذنه بالنّفقة كلّا ‪ ،‬ثمّ‬

‫ق الرّجوع فإذنه لغو في حصّة‬ ‫يرجع هذا على شريكه بحصّته من النّفقة ‪ .‬وإن لم يكن له ح ّ‬

‫شريكه ‪ ،‬وليس للمستأجر إلّ الرّجوع على الذن وحده بنسبة حصّته ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬ترميم الرّهن ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫ل ما يحتاج إليه لبقاء الرّهن ومصلحته فهو على الرّاهن ‪ ،‬لنّه باق على ملكه ‪ ،‬وذلك‬ ‫‪-‬كّ‬

‫مؤ نة الملك ‪ .‬وكلّ ما كان لحف ظه فعلى المرت هن ‪ ،‬ل نّ حب سه له ‪ ،‬فلو شرط م نه ش يء على‬ ‫الرّاهن ل يلزمه لما روى أبو هريرة رضي ال عنه أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬

‫« الظّهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ‪ ،‬ولبن ال ّدرّ يشرب بنفقته ‪ ،‬وعلى الّذي يركب ويشرب‬ ‫النّفقة » والّذي يركب هو الرّاهن ‪ ،‬فوجب أن تكون النّفقة عليه ‪ ،‬ولنّ الرّقبة والمنفعة على‬ ‫ملكه ‪ ،‬فكانت النّفقة عليه ‪.‬‬

‫ويقول الحنابلة ‪ :‬إنّ مؤنة الرّهن على راهنه ‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال عنه أنّ النّبيّ‬

‫غرْمه »‬ ‫غنْمه وعليه ُ‬ ‫ق الرّهنُ من صاحبه الّذي رهنه ‪ ،‬له ُ‬ ‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل ُيغَْل ُ‬ ‫ولنّه ملك للرّاهن فكان عليه نفقته وما يحتاج إليه ‪.‬‬

‫فإن امتنع الرّاهن من بذل ما وجب عليه أجبره الحاكم عليه ‪ ،‬فإن لم يفعل أخذ الحاكم من ماله‬ ‫وفعله ‪ ،‬فإن تعذّر َأخْذُ ذلك من الرّهنِ بيع منه فيما يجب على الرّاهن فعله بقدر الحاجة ‪ ،‬لنّ‬

‫حفظ البعض أولى من إضاعة الكلّ ‪ ،‬فإن خيف استغراق البيع للرّهن في النفاق عليه بيع كلّه‬ ‫وجعل ثمنه رهنا مكانه لنّه أحظّ لهما ‪.‬‬

‫وإن أنفق المرتهن على الرّهن بل إذن الرّاهن ‪ ،‬مع قدرته على استئذانه ‪ ،‬فمتبرّع حكما‬

‫لتصدّقه به ‪ ،‬فل يرجع بعوضه ولو نوى الرّجوع ‪ ،‬كالصّدقة على مسكين ‪ ،‬ولتفريطه بعدم‬

‫الستئذان ‪ .‬وإن تعذّر استئذانه وأنفق بنيّة الرّجوع رجع ولو لم يستأذن الحاكم ‪ ،‬لحتياجه‬

‫لحراسة حقّه ‪ .‬وتفصيل ذلك ينظر في ( رهن ) ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬يوم التّروية ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تروية *‬ ‫ترياق *‬

‫جوّز ضمّه وفتحه ‪ ،‬ولكنّ المشهور الوّل وهو معرّب ‪ ،‬ويقال‬ ‫‪ -‬التّرْياق بكسر فسكون ‪ ،‬و ُ‬

‫بالدّال والطّاء أيضا ‪ :‬دواء يستعمل لدفع السّمّ وهو أنواع ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫سمّ ‪ ،‬ويجعل فيه من لحوم الحيّات ‪ ،‬ولذلك لم‬ ‫‪ -‬قال الحنابلة ‪ :‬التّرياق دواء يتعالج به من ال ّ‬

‫ن لحم الحيّة حرام ‪ ،‬ول يجوز التّداوي بمحرّم ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى‬ ‫يبيحوا أكله ول شربه ‪ ،‬ل ّ‬

‫ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » وعن عبد اللّه بن عمر رضي‬

‫ال عنهما قال ‪ « :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬ما أبالي ما أتيت إنْ أنا‬

‫شربت ترياقا ‪ ،‬أو تعلّقت بتميمة ‪ ،‬أو قلت الشّعر من قبل نفسي » والمعنى ‪ :‬أنّي إن فعلت هذه‬ ‫الشياء كنت ممّن ل يبالي بما فعله من الفعال ‪ ،‬ول ينزجر عمّا ل يجوز فعله شرعا ‪ .‬وقال‬

‫الخطّابيّ ‪ :‬ليس شرب التّرياق مكروها من أجل التّداوي ‪.‬‬

‫وقد أباح رسول اللّه صلى ال عليه وسلم التّداوي والعلج في عدّة أحاديث ‪ ،‬ولكن من أجل ما‬

‫يقع فيه من لحوم الفاعي ‪ ،‬وهي محرّمة ‪ .‬والتّرياق أنواع ‪ ،‬فإذا لم يكن فيه من لحوم الفاعي‬ ‫فل بأس بتناوله ‪.‬‬

‫وممّا ورد من أحاديث في التّداوي والعلج ما روي « عن أسامة بن شريك رضي ال عنه قال‬

‫‪ :‬كنت عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم وجاءت العراب فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه أنتداوى ؟ فقال ‪:‬‬

‫ن اللّه عزّ وجلّ لم يضع داءً إلّ وضع له شفاءً ‪ ،‬غير داء واحد قالوا‬ ‫نعم يا عباد اللّه تداووا فإ ّ‬

‫ل أنزل له شفاءً ‪ ،‬علمه من علمه ‪،‬‬ ‫ن اللّه لم ينزل داءً إ ّ‬ ‫‪ :‬ما هو ؟ قال ‪ :‬الهرم » وفي لفظ « إ ّ‬

‫وجهله من جهله » ‪.‬‬

‫وفي مرقاة المفاتيح ‪ :‬إذا لم يكن في التّرياق محرّم شرعا من لحوم الفاعي والخمر ونحوه ‪،‬‬

‫فإنّه ل يكون حراما ‪ .‬وبتحريم لحوم الحيّات يقول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬

‫وللحنفيّة فيما إذا جعل لحم الحيّات في التّرياق للتّداوي ‪ -‬أسو ًة بالتّداوي بالمحرّم ‪ -‬رأيان ‪:‬‬

‫ظاهر المذهب ‪ :‬المنع ‪ .‬وقيل ‪ :‬يرخّص إذا علم فيه الشّفاء ولم يعلم دواء آخر ‪ ،‬وعليه الفتوى‬

‫‪ .‬فإنّ اللّه تعالى قد أذن بالتّداوي ‪ ،‬وجعل لكلّ داء دواءً ‪ ،‬فإذا كان في ذلك الدّواء ما هو محرّم‬

‫ل تناوله للتّداوي به ‪ .‬وحديث ‪:‬‬ ‫وعلم فيه الشّفاء فقد زالت حرمة استعماله ‪ ،‬وح ّ‬

‫ن اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » معناه ‪ :‬نفي الحرمة عند العلم بالشّفاء ‪.‬‬ ‫«إّ‬

‫دلّ عليه جواز إساغة اللّقمة بالخمر ‪ ،‬وجواز شربها لزالة العطش ‪ ،‬ما لم يوجد ما يقوم‬

‫مقامها ‪ .‬وللشّافعيّة في التّداوي به أسوةً بالمحرّم المخالط للدّواء المنع عند البعض ‪ ،‬والجواز‬ ‫عند البعض الخر متى علم فيه الشّفاء ولم يوجد غيره ‪.‬‬

‫أمّا المالكيّة فقد أباحوا أكل الحيّة متى ذكّيت في موضع ذكاتها ‪ ،‬وأمن سمّها ‪ ،‬واحتيج لكلها‬

‫بسمّها لمن ينفعه ذلك لمرضه ‪ ،‬فإنّه يجوز أكلها ‪ .‬ومفهوم هذا أنّ لحمها متى دخل في التّرياق‬ ‫وخالطه فإنّه يجوز التّداوي به ‪ .‬وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ‪ ( :‬تداوي ) ‪.‬‬

‫تزاحم *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّزاحم في اللّغة مصدر تزاحم ‪ ،‬يقال ‪ :‬تزاحم القوم ‪ :‬إذا زحم بعضهم بعضا ‪ ،‬أي‬

‫ضيّق ‪.‬‬ ‫تضايقوا في المجلس ‪ ،‬أو تدافعوا في المكان ال ّ‬ ‫والصطلح الشّرعيّ ل يختلف عن هذا ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬تحرم المزاحمة إن ترتّب عليها أذًى لحد ‪ ،‬كمزاحمة القوياء للضّعفاء عند استلم الحجر‬

‫السـود ‪ ،‬أو ترتّب عليهـا أمـر محظور شرعا ‪ ،‬كمزاحمـة المرأة للرّجال فـي الطّواف وعنـد‬

‫استلم الحجر السود وغيره من الماكن العامّة ‪ .‬وقد ورد التّزاحم في أمور منها ‪:‬‬

‫أوّلً ‪ :‬زحم المأموم ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬إذا زحم المأموم وتعذّر عليه السّجود على الرض متابع ًة للمام ‪ ،‬وقدر على السّجود على‬

‫ظهر إنسان أو دابّة ‪ ،‬فهل يلزمه السّجود على ذلك ؟ اختلف فيه الئمّة ‪.‬‬

‫فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه يلزمه أن يسجد على ما يمكنه السّجود عليه ‪ ،‬وإن‬

‫كان على ظهر إنسان أو قدمه ‪ ،‬لتمكّنه من المتابعة ‪ ،‬ولخبر « إذا اشتدّ الزّحام فليسجد أحدكم‬

‫على ظهر أخيه » فإن لم يسجد فمتخلّف عن المتابعة بغير عذر عند الئمّة المذكورين‪ .‬وعند‬

‫المالكيّة ‪ :‬ل يجوز السّجود على ظهر النسان ‪ ،‬فإن سجد أعاد الصّلة ‪ .‬ويستدلّون لذلك بقول‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مكّن جبهتك من الرض » ول يحصل التّمكين من الرض في‬

‫حالة السّجود على ظهر إنسان ‪ .‬أمّا إذا لم يتمكّن من السّجود مطلقا ‪ ،‬فهل يخرج عن المتابعة‬ ‫أو ينتظر ؟ فيه خلف وتفصيل ينظر في ( صلة الجماعة )و( وصلة الجمعة )‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التّزاحم في الطّواف ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬إذا منعت الزّحمة الطّائف من تقبيل الحجر السود أو استلمه اقتصر على الشارة إليه‬

‫وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪ .‬لما روي « عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال لعمر ‪:‬‬

‫رضي ال عنه يا عمر إنّك رجل قويّ ‪ ،‬ل تؤذ الضّعيف ‪ ،‬إذا أردتَ استلم الحجر ‪ ،‬فإن خل‬ ‫لك فاستلمه ‪ ،‬وإلّ فاستقبله وكبّر » ‪ . ،‬والتّفصيل في مصطلح ( إشارة وطواف ) ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬تزاحم الغرماء في مال المفلس ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬إذا أقرّ المدين المفلس ‪ -‬بعد الحجر عليه لحقّ الغرماء ‪ -‬بدين قد لزمه قبل الحجر عليه ‪،‬‬

‫فهل يقبل في حقّ الغرماء الّذين حجر عليه لحقّهم ويزاحمهم المقرّ له في المال ‪ ،‬أم يبقى الدّين‬

‫في ذمّة المحجور عليه ‪ ،‬لئلّ يتضرّر الغرماء بالمزاحمة ؟‬

‫ق الغرماء ‪ ،‬إن أق ّر في حال الحجر ‪،‬‬ ‫ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه ل يقبل إقراره في ح ّ‬ ‫ن هذا الحقّ تعلّق به حقّ الوّلين ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬ل يقبل إقراره إلّ ببيّنة ‪.‬‬ ‫لّ‬

‫وأظهر القولين عند الشّافعيّة أنّه يقبل أيضا في حقّهم ويزاحمهم في المال ‪ ،‬كإقرار المريض في‬

‫صحّة ‪ .‬هذا إذا أقرّ أنّه لزم الدّين قبل الحجر ‪.‬‬ ‫مرضه بدين يزاحم غرماء دين ال ّ‬

‫أمّا إذا لزمه بعد الحجر ففي ذلك خلف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح ‪ ( :‬تفليس ) ‪.‬‬

‫تزاحم الوصايا ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا تزاحمت الوصايا نظر فإن كانت كلّها للّه تعالى ‪ :‬فإن كانت كلّها‬

‫فرائض كالحجّ والزّكاة ‪ ،‬أو كانت كلّها واجبات كالكفّارات والنّذر ‪ ،‬وصدقة الفطر ‪ ،‬أو كانت‬ ‫كلّها تطوّعات ‪ :‬كحجّ التّطوّع والصّدقة على الفقراء يبدأ بما بدأ به الموصي ‪.‬‬

‫وإن جمعت ما ذكر كحجّة السلم والكفّارات والنّذر وصدقة التّطوّع على الفقراء فيبدأ‬

‫بالفرض ‪ ،‬ثمّ بالواجب ‪ ،‬ثمّ بالتّطوّع أمّا إذا جمعت بين حقّ اللّه وحقّ العباد فإنّه يقسم الثّلث‬ ‫على جميعها ‪ ،‬لنّها وإن كانت كلّها للّه في واقع المر فكلّ واحدة منها مقصودة في نفسها‬

‫فتنفرد ‪ .‬فلو قال ‪ :‬ثلث مالي في الحجّ والزّكاة ولزيد والكفّارات ‪ .‬قسم على أربعة أسهم ‪ ،‬ول‬

‫يقدّم الفرض على حقّ الدميّ لحاجته ‪.‬‬

‫هذا إذا كان الدميّ معيّنا ‪ ،‬أمّا إذا كان غير معيّن فل يقسم بل يقدّم القوى فالقوى ‪ ،‬لنّ‬ ‫ق معيّن ‪.‬‬ ‫الكلّ يبقى حقّا للّه تعالى ‪ ،‬إذا لم يكن هناك مستح ّ‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬ل يقدّم الواجب على غير الواجب سواء كان تطوّعا للّه أو لدميّ ‪ .‬بل تتزاحم‬

‫الوصايا فيوزّع عليه وعلى غيره ‪ ،‬ثمّ يكمّل الواجب من صلب المال ‪ ،‬إن لم يف الثّلث ‪ ،‬وبهذا‬

‫قال ‪ :‬أبو الخطّاب من الحنابلة ‪.‬‬

‫وعند الحنابلة ‪ :‬إن أوصى بأداء الواجب من الثّلث تصحّ الوصيّة ‪ ،‬فإن لم تكن له وصيّة غير‬

‫هذه لم تفد الوصيّة شيئا ويؤدّي من ماله كلّه كما لو لم يوص ‪ .‬وإن أوصى لجهة أخرى قدّم‬ ‫الواجب ‪ ،‬وإن فضل شيء من الثّلث بعد الواجب فهو للتّبرّع ‪ ( .‬ر ‪ :‬الوصيّة ) ‪.‬‬

‫‪ -7‬وإن أوصى بشيء معيّن لشخص ‪ ،‬ثمّ أوصى به لخر ‪ ،‬فالموصى به بين الموصى له به‬

‫أ ّولً والموصى له به ثانيا ‪ ،‬لتعلّق حقّ كلّ واحد منهما على السّواء ‪ ،‬فوجب أن يشتركا كما لو‬

‫جمع بينهما في الوصيّة ‪ .‬وإن أوصى لشخص بثلث ماله ثمّ أوصى بثلثه لخر فالثّلث بينهما إن‬ ‫ل واحد منهما ثلثه ‪ ،‬لتغايرهما ‪ .‬وكذا إن‬ ‫لم يجز الورثة الثّلثين ‪ ،‬وإن أجاز الورثة أخذ ك ّ‬

‫أوصى بكلّ ماله لشخص ثمّ أوصى به لخر فهو بينهما للتّزاحم ‪.‬‬

‫وإن مات أحدهما قبل موت الموصي فكلّ المال للخر ‪ ،‬وكذا إن تأخّر موتهما عن موت‬

‫الموصي وردّ أحدهما الوصيّة بعد موت الموصي لنّه اشتراك تزاحم ‪ ،‬وقد زال بموت‬

‫المزاحم وردّه ‪ .‬هذا إذا لم يوجد ما يدلّ على رجوع الموصي عن الوصيّة ‪ ،‬فإن وجد ما يدلّ‬ ‫على الرّجوع عن الوصيّة الولى ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬أوصيت لفلن بما أوصيت به لفلن ‪ ،‬فهو‬

‫رجوع عن الوصيّة لظهوره فيه ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬وصيّة ) ‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬القتل بالزّحام ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬ذهب الئمّة الثّلثة ‪ :‬أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنّه إذا تزاحم قوم على بئر ‪ ،‬أو باب‬

‫الكعبة ‪ ،‬أو في الطّواف ‪ ،‬أو في مضيق ‪ ،‬ثمّ تفرّقوا على قتيل لم يعرف قاتله ل يكون ذلك لوثا‬ ‫ي رضي ال عنهما ‪.‬‬ ‫‪ ،‬وهو قول إسحاق ‪ ،‬وروي ذلك عن عمر وعل ّ‬

‫ثمّ اختلفوا في ديته ‪ ،‬فقال الحنفيّة والحنابلة ‪ :‬إنّ ديته في بيت المال ‪ ،‬واستدلّوا بما روى سعيد‬

‫بن منصور في سننه عن إبراهيم قال ‪ :‬قتل رجل في زحام النّاس بعرفة ‪ ،‬فجاء أهله لعمر فقال‬ ‫ي يا أمير المؤمنين ‪ :‬ل يطلّ دم امرئ مسلم ‪ ،‬إن علمت‬ ‫‪ :‬بيّنتكم على من قتله ‪ .‬فقال عل ّ‬

‫قاتله ‪ ،‬وإلّ فأعط ديته من بيت المال ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬دمه هدر ‪ ،‬لنّه ل يعلم له قاتل ‪ ،‬ول وجد لوث فيحكم بالقسامة ‪ ،‬لنّ أسباب‬

‫القسامة عندهم خمسة ‪ .‬وليس فيها التّفرّق في الزّحام عن قتيل ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّ ذلك يكون لوثا ‪ ،‬ول يشترط أن تكون بينهم وبينه عداوة ‪ .‬وقال الحسن‬

‫ي فيمن مات في الزّحام ‪ :‬ديته على من حضر لنّ قتله حصل منهم ‪ ،‬وكذا لو تزاحم‬ ‫والزّهر ّ‬

‫ي القتل على‬ ‫قوم ل يتصوّر اجتماعهم على القتل في مضيق ‪ ،‬وتفرّقوا عن قتيل ‪ ،‬فادّعى الول ّ‬ ‫عدد منهم يتصوّر اجتماعهم فيقبل ‪ ،‬ويمكّن من القسامة ‪.‬‬

‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬يذكر الفقهاء التّزاحم في صلة الجمعة والجماعة ‪ :‬في حال تعذّر متابعة المأموم للمام في‬

‫انتقالته للزّحمة ‪ .‬وفي باب التّفليس ‪ :‬إذا ظهر دين بعد حجر المفلس للغرماء أو طرأ التزام‬

‫ماليّ جديد ‪ .‬وفي الطّواف ‪ :‬إذا عسر عليه استلم الحجر أو تقبيله ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تزكية *‬

‫‪ -‬التّزكية لغةً ‪ :‬مصدر زكّى ‪ .‬يقال ‪ :‬زكّى فلن فلنا ‪ :‬إذا نسبه إلى الزّكاء ‪ ،‬وهو الصّلح‬

‫‪ .‬وزكا الرّجل يزكو ‪ :‬إذا صلح ‪ ،‬فهو زكيّ والجمع أزكياء ‪.‬‬

‫قال الرّاغب ‪ :‬أصل الزّكاة النّم ّو الحاصل عن بركة اللّه تعالى ‪ ،‬ويعتبر ذلك بالمور الدّنيويّة‬

‫والخرويّة ‪ .‬يقال ‪ :‬زكا الزّرع يزكو ‪ :‬إذا حصل منه نموّ وبركة ‪ .‬وقال تعالى ‪ { :‬أيّها أَ ْزكَى‬

‫طَعَامَا } إشارةً إلى ما يكون حللً لما ل يستوخم عقباه ‪ ،‬ومنه الزّكاة لما يخرج النسان من‬

‫حقّ اللّه تعالى إلى الفقراء ‪ ،‬وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة ‪ ،‬أو لتزكية النّفس‬

‫أي تنميتها بالخيرات والبركات ‪ ،‬أو لهما جميعا ‪ ،‬فإنّ الخيرين موجودان فيها ‪ .‬وبزكاة النّفس‬ ‫وطهارتها يصير النسان بحيث يستحقّ في الدّنيا الوصاف المحمودة ‪ ،‬وفي الخرة الجر‬

‫والمثوبة ‪ ،‬وهو أن يتحرّى النسان ما فيه تطهيره ‪ ،‬وذلك ينسب تار ًة إلى العبد ‪ ،‬لكونه مكتسبا‬

‫لذلك ‪ ،‬نحو { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا } وتارةً ينسب إلى اللّه تعالى لكونه فاعلً لذلك في الحقيقة نحو‬

‫ن َيشَاءُ } وتارةً إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم لكونه واسطةً في وصول ذلك‬ ‫{ بَل اللّهُ ُي َزكّي مَ ْ‬ ‫ط ّه ُرهُمْ َوتُ َزكّيهِم ِبهَا } وقوله تعالى ‪َ { :‬يتْلُو عَلَيكُ ْم آيَا ِتنَا ويُ َزكّيكُم } وتارةً إلى‬ ‫إليهم نحو { ُت َ‬

‫ب َلكِ غُلمَا َز ِكيّا } أي‬ ‫حنَانَا مِنْ لَ ُدنّا َو َزكَاةً } ونحو { لَ َه َ‬ ‫العبادة الّتي هي آلة في ذلك نحو { َو َ‬

‫مزكّى بالخلقة ‪ ،‬وذلك على طريق ما ذكرنا من الجتباء ‪ ،‬وهو أن يجعل بعض عباده عالما‬ ‫وطاهر الخلق ل بالتّعلّم والممارسة ‪ ،‬بل بتوفيق إلهيّ ‪.‬‬

‫وتزكية النسان نفسه ضربان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬بالفعل وهو محمود ‪ ،‬وإليه قصد بقوله ‪ { :‬قَدْ أَفْلَحَ‬ ‫مَنْ َزكّاهَا } وقوله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ َت َزكّى } ‪.‬‬

‫والثّاني ‪ :‬بالقول كتزكية العدل غيره ‪ ،‬وذلك مذموم أن يفعل النسان بنفسه ‪ ،‬وقد نهى اللّه‬

‫سكُمْ } ونهيه عن ذلك تأديب ‪ ،‬لقبح مدح النسان نفسه عقلً‬ ‫تعالى عنه فقال ‪ { :‬فَل ُت َزكّوا َأنْ َف َ‬ ‫وشرعا ‪ ،‬ولهذا قيل لحكيم ‪ :‬ما الّذي ل يحسن وإن كان حقّا ؟ فقال ‪ :‬مدح الرّجل نفسه ‪.‬‬ ‫والفقهاء يعبّرون عن النّسبة إلى الصّلح بالتّزكية أو التّعديل فهما مترادفان ‪.‬‬

‫ويعرّفون التّزكية في باب القضاء بأنّها ‪ :‬تعديل الشّهود ‪.‬‬

‫وتزكية الرّجل ماله ‪ :‬أن يخرج القدر الواجب عليه من الزّكاة فيه ‪.‬‬

‫والجَرْحُ ض ّد التّزكية ‪ ،‬وهو في اللّغة ‪ :‬القطع في الجسم ‪ ،‬ومنه قولهم ‪ :‬جرحه بلسانه جرحا ‪:‬‬ ‫إذا عابه وتنقّصه ‪ ،‬ومنه ‪ :‬جرحت الشّاهد أو الرّاوي ‪ :‬إذا أظهرت فيه ما تردّ به شهادته أو‬

‫روايته ‪ .‬وقد أطلق الفقهاء على من يبعث إليه للتّحرّي عن الشّهود ( المزكّي ) وهو في الحقيقة‬ ‫يزكّي ويجرح ‪ ،‬ولكن وصف بأحسن الوصفين ‪.‬‬

‫حكم التّزكية ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬ذهب المام أبو حنيفة ‪ ،‬وإحدى الرّوايتين عن المام أحمد ‪ :‬أنّه يقضي بظاهر العدالة ‪،‬‬

‫إلّ إذا طعن الخصم في عدالة من شهد ‪ ،‬واستثنى أبو حنيفة الحدود والقصاص ‪ ،‬فأوجب فيهما‬ ‫التّزكية وإن لم يطعن الخصم ‪.‬‬

‫وعند المام أحمد في الرّواية المذكورة ‪ :‬يستوي في ذلك الحدّ والمال ‪ .‬وقال المام مالك وأبو‬

‫ن التّزكية واجبة في كلّ‬ ‫يوسف ومحمّد والشّافعيّة ‪ ،‬والمام أحمد في الرّواية الخرى عنه ‪ :‬إ ّ‬ ‫المور ‪ ،‬لكنّ ذلك مشروط بما إذا لم يعرف القاضي حال الشّهود ‪ ،‬فإن عرف عدالتهم فل‬

‫حاجة إلى التّزكية ‪ .‬وإن عرف أنّهم مجروحون ردّ شهادتهم ‪ ،‬وذلك عند جميع الفقهاء ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬واستدلّ أصحاب القول الوّل على جواز الحكم بظاهر العدالة بقول عمر ‪ :‬المسلمون‬

‫عدول بعضهم على بعض ‪ « .‬وبأنّ أعرابيّا جاء إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم فشهد برؤية‬

‫ل اللّه ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬فقال ‪ :‬أتشهد‬ ‫الهلل ‪ ،‬فقال له النّبيّ صلى ال عليه وسلم أتشهد ألّ إله إ ّ‬

‫أنّي رسول اللّه ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬فصام وأمر النّاس بالصّيام » ‪.‬‬

‫ي سببها الخوف من اللّه تعالى ‪ ،‬ودليل ذلك السلم ‪ ،‬فإذا وجد فليكتف‬ ‫ن العدالة أمر خف ّ‬ ‫ول ّ‬

‫به ‪ ،‬ما لم يقم على خلفه دليل ‪.‬‬

‫واستدلّ لبي حنيفة في استثناء الحدود والقصاص ولزوم التّحرّي فيها وإن لم يطعن الخصم ‪:‬‬

‫ن الحدود والقصاص ممّا يحتاط فيها وتندرئ بالشّبهات بخلف غيرها ‪.‬‬ ‫بأ ّ‬

‫شهَدَاء }‬ ‫ل المور بقوله تعالى ‪ِ { :‬ممّنْ َت ْرضَونَ مِن ال ّ‬ ‫واستدلّ القائلون بوجوب التّزكية في ك ّ‬

‫ن العدالة شرط ‪ ،‬فوجب العلم بها كالسلم ‪ ،‬كما لو‬ ‫ول يعلم أنّه مرضيّ حتّى نعرفه ‪ .‬وبأ ّ‬

‫ي المسلم ‪ ،‬فإنّه كان من أصحاب رسول اللّه صلى ال‬ ‫طعن الخصم في الشّهود ‪ .‬أمّا العراب ّ‬ ‫عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء اللّه تعالى عليهم ‪ ،‬فإنّ من ترك دينه في زمن رسول اللّه‬

‫إيثارا لدين السلم وصحبة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ثبتت عدالته ‪ ".‬وللثر عن عمر‬

‫رضي ال عنه أنّه أتي بشاهدين ‪ ،‬فقال لهما عمر ‪ :‬لست أعرفكما ول يضرّكما إن لم‬

‫أعرفكما ‪ ،‬جيئا بمن يعرفكما ‪ ،‬فأتيا برجل ‪ ،‬فقال له عمر ‪ :‬تعرفهما ؟ فقال ‪ :‬نعم ‪ .‬فقال عمر‬ ‫‪ :‬صحبتَهما في السّفر الّذي يتبيّن فيه جواهر النّاس ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬عاملتَهما بالدّنانير‬

‫والدّراهم الّتي تقطع فيها الرّحم ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬كنت جارا لهما تعرف صباحهما‬

‫ومساءهما ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬يا ابن أخي لست تعرفهما ‪ .‬جيئا بمن يعرفكما "‪.‬‬

‫قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا بحث يدلّ على أنّه ل يكتفى بدونه ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ن الخلف بين المام وصاحبيه ليس اختلفا حقيقيّا ‪ ،‬بل‬ ‫‪ -‬هذا ‪ ،‬وقد قال علماء الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬

‫هو اختلف عصر وزمان ‪ ،‬فإنّ النّاس في عهده كانوا أهل خير وصلح ‪ ،‬لنّه زمن‬

‫ي صلى ال عليه وسلم بالخيريّة بقوله ‪ « :‬خير النّاسُ َقرْني ‪ ،‬ثمّ‬ ‫التّابعين ‪ ،‬وقد شهد لهم النّب ّ‬ ‫الّذين يلونهم ‪ ،‬ثمّ الّذين يلونهم ‪ ،‬ثمّ يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتُهم أيمانَهم ‪ ،‬وأيمانُهم‬

‫شهادتَهم » فكان الغالب في أهل زمانه الصّلح والسّداد ‪ ،‬فوقعت الغنية عن السّؤال عن حالهم‬ ‫سرّ ‪ ،‬ثمّ تغيّر الزّمان وظهر الفساد في قرنهما ‪ ،‬فوقعت الحاجة إلى السّؤال عن العدالة ‪.‬‬ ‫في ال ّ‬ ‫ومن العلماء من حقّق الختلف ‪.‬‬

‫متى تسقط التّزكية ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬قال إسماعيل بن حمّاد ناقلً عن أبي حنيفة ‪ :‬أربعة شهود ل يسأل عن عدالتهم ‪ :‬شاهدا‬

‫ظنّة ‪ ،‬وشاهدا تعديل العلنية ‪ ،‬وشاهدا الغربة ‪ ،‬وشاهدا الشخاص ‪.‬‬ ‫ر ّد ال ّ‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ الشّاهد المبرز في العدالة ‪ -‬أي الفائق أقرانه فيها ‪ -‬ل يعذر فيه لغير‬

‫العداوة ‪ ،‬ويعذر فيه فيها ‪ .‬ومثلها القرابة ‪ .‬ومنها أنّ المحكوم عليه إذا كان يخشى منه على‬ ‫من شهد عليه ‪ ،‬فإنّه ل يعذر إليه فيمن شهد عليه ‪.‬‬

‫ونقل صاحب المغني عن مالك ‪ :‬أنّه يقبل شهادة المتوسّمين ‪ ،‬وذلك إذا حضر مسافران ‪،‬‬

‫فشهدا عند حاكم ل يعرفهما ‪ ،‬يقبل شهادتهما إذا رأى فيهما سيما الخير ‪ ،‬لنّه ل سبيل إلى‬

‫معرفة عدالتهما ‪ ،‬ففي التّوقّف عن قبولها تضييع الحقوق ‪ ،‬فوجب الرّجوع فيهما إلى السّيما‬ ‫الجميلة ‪ .‬ومعنى هذا أنّ الشّهود المذكورين ل يسمّون لمن شهدوا عليه ليزكّيهم أو يطعن‬ ‫فيهم ‪ ،‬بل يحكم بشهادتهم من غير تزكية ‪ ،‬للسباب الّتي أوردوها ‪.‬‬

‫أقسام التّزكية ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫سرّ ‪ ،‬وتزكية العلنية ‪.‬‬ ‫‪ -‬التّزكية نوعان ‪ :‬تزكية ال ّ‬

‫سرّ ‪ ،‬فينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشّهود من هو أوثق النّاس وأورعهم‬ ‫أمّا تزكية ال ّ‬

‫ديان ًة وأعظمهم دراي ًة وأكثرهم خبرةً وأعلمهم بالتّمييز فطنةً ‪ ،‬فيولّيه البحث عن أحوال‬

‫الشّهود ‪ ،‬لنّ القاضي مأمور بالتّفحّص عن العدالة ‪ ،‬فيجب عليه المبالغة في الحتياط فيه ‪.‬‬

‫وبعد أن يختار ‪ ،‬يكتب في رقعة أسماء الشّهود جملةً بأنسابهم وقبائلهم ومحالّهم ومصلهم ‪،‬‬ ‫وعلى الجملة كلّ ما يميّزهم عن غيرهم تمييزا ل تتمكّن معه الشّبهة ‪ ،‬فقد يتّفق أن تتّحد‬

‫السماء وتتّفق الوصاف وغير ذلك ‪.‬‬

‫فإذا كتب القاضي دفع المكتوب إلى من يستأمنه على ذلك ‪ ،‬وأخفاه عن كلّ من سواه ‪ ،‬لئلّ يعلم‬ ‫أحد فيخدع المين ‪ ،‬وعلى المرسل أمين القاضي أن يتعرّف أحوال الشّهود ممّن يعرف‬

‫حالهم ‪ ،‬فيسأل عنهم أهل الثّقة من جيرانهم وأهل محلتهم ‪ ،‬وأن يسأل أهل أسواقهم ‪.‬‬ ‫سرّ ‪.‬‬ ‫أمّا تزكية العلنية ‪ ،‬فتكون بعد تزكية ال ّ‬

‫وكيفيّتها ‪ :‬أن يحضر القاضي المزكّي بعدما زكّى ‪ ،‬ليزكّي الشّهود أمامه ‪.‬‬

‫سرّ والتّزكية في العلنية ؟ اختلف الفقهاء في ذلك ‪.‬‬ ‫وهل يلزم أن يجمع بين التّزكية في ال ّ‬ ‫سرّ ‪ ،‬لما في تزكية العلنية من بلء وفتنة ‪.‬‬ ‫قال الحنفيّة ‪ :‬اليوم وقع الكتفاء بتزكية ال ّ‬

‫سرّ‬ ‫سرّ مع تزكية العلنية ‪ .‬فإن اقتصر على تزكية ال ّ‬ ‫وقال المالكيّة ‪ :‬يندب للقاضي تزكية ال ّ‬

‫سرّ يشافه المبعوث الحاكم بما‬ ‫أجزأه قطعا كالعلنية على الرّاجح ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬بعد تزكية ال ّ‬

‫سمعه من المبعوث إليه ‪ .‬وقيل ‪ :‬يشافه المبعوث إليه بما يعلمه المبعوث من جهة الحاكم ‪.‬‬ ‫سرّ ‪.‬‬ ‫وقيل ‪ :‬تكفي كتابته ‪ .‬والظّاهر من كلم الحنابلة أنّه يكتفى بتزكية ال ّ‬

‫‪ -7‬ثمّ هل المعتبر قول المرسل إليه ( المزكّي ) أو قول المرسلين ‪ ،‬ويسمّون أصحاب‬

‫المسائل ؟ قال بعض الشّافعيّة ‪ :‬المعوّل عليه شهادة المزكّي ‪.‬‬

‫ونقل الشّيخان من الشّافعيّة ‪ :‬أنّهما نقل عن جمع من الصحاب أنّ المعوّل على قول أصحاب‬

‫صبّاغ اعتذر عن قبولها ‪ ،‬وهي شهادة على شهادة ‪-‬‬ ‫المسائل ‪ ،‬خلفا لبي إسحاق ‪ ،‬وأنّ ابن ال ّ‬ ‫والصل حاضر ‪ -‬لمكان الضّرورة ‪.‬‬

‫التّعارض بين التّزكية والجرح ‪:‬‬

‫اختلف فقهاء الحنفيّة في التّعارض بين التّزكية والجرح ‪ ،‬فقد نقل معين الحكّام عن المبسوط أنّه‬ ‫لو عدّله واحد ‪ ،‬وجرّحه آخر ‪ ،‬أعاد المسألة ‪ .‬وهذا قول محمّد ‪.‬‬

‫ن العدالة والجرح ل يثبت عنده بقول الواحد فصارا متساويين ‪.‬‬ ‫لّ‬

‫وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪ :‬الجرح أولى ‪ ،‬لنّ الجرح والتّعديل يثبت بقول الواحد عندهما ‪،‬‬

‫ن الجارح في الجرح اعتمد على الدّليل ‪ ،‬وهو العيان‬ ‫وترجّح الجرح على التّعديل ‪ ،‬ل ّ‬ ‫ن سبب الجرح ارتكاب الكبيرة ‪.‬‬ ‫والمشاهدة ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ولو جرّحه واحد وعدّله اثنان ‪ ،‬فالتّعديل أولى ‪ .‬ولو عدّله جماعة وجرّحه اثنان فالجرح أولى ‪،‬‬ ‫لنّه ل يثبت التّرجيح بزيادة العدد على الثنين ‪.‬‬

‫ل وجرّحه آخران ‪ ،‬ففي ذلك قولن ‪.‬‬ ‫‪ -8‬وعند المالكيّة لو عدّل شاهدان رج ً‬

‫قيل ‪ :‬يقضى بأعدلهما ‪ ،‬لستحالة الجمع بينهما ‪ .‬وقيل ‪ :‬يقضى بشهود الجرح ‪ ،‬لنّهم زادوا‬

‫على شهود التّعديل ‪ ،‬إذ الجرح ممّا يبطن فل يطّلع عليه كلّ النّاس ‪ ،‬بخلف العدالة ‪ .‬وللّخميّ‬

‫تفصيل ‪ ،‬قال ‪ :‬إن كان اختلف البيّنتين في فعل شيء في مجلس واحد ‪ ،‬كدعوى إحدى‬

‫البيّنتين أنّه فعل كذا في وقت كذا ‪ ،‬وقالت البيّنة الخرى ‪ :‬لم يكن ذلك ‪ ،‬فإنّه يقضى بأعدلهما ‪.‬‬

‫وإن كان ذلك في مجلسين متقاربين قضي بشهادة الجرح ‪ ،‬لنّها زادت علما في الباطن ‪ .‬وإن‬

‫تباعد ما بين المجلسين قضي بآخرهما تاريخا ‪ ،‬ويحمل على أنّه كان عدلً ففسق ‪ ،‬أو كان‬

‫فاسقا فتزكّى ‪ ،‬إلّ أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة فبيّنة الجرح مقدّمة ‪ ،‬لنّها‬

‫زادت ‪ .‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه يقدّم الجرح على التّعديل لما فيه من زيادة العلم ‪ .‬فإن قال المعدّل‬ ‫‪ :‬عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح ‪ ،‬قدّم قوله على قول الجارح ‪.‬‬

‫أمّا الحنابلة فقد قال في المغني ‪ :‬فإذا رجع أصحاب مسألة فأخبر اثنان بالعدالة ‪ ،‬قبل القاضي‬

‫شهادته ‪ .‬وإن أخبرا بالجرح ردّ شهادته وإن أخبر أحدهما بالعدالة والخر بالجرح بعث آخرين‬ ‫‪ ،‬فإن عادا فأخبرا بالتّعديل تمّت بيّنة التّعديل ‪ ،‬وسقط الجرح لنّ بيّنته لم تتمّ ‪ ،‬وإن أخبرا‬

‫بالجرح ثبت وردّ الشّهادة ‪.‬‬

‫وإن أخبر أحدهما بالجرح والخر بالتّعديل تمّت البيّنتان ويقدّم الجرح ‪.‬‬

‫وقت التّزكية ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ التّزكية تكون بعد الشّهادة ل قبلها ‪.‬‬

‫عدد من يقبل في التّزكية ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫سرّ ‪ ،‬وتزكية العلنية ‪.‬‬ ‫‪ -‬تقدّم أنّ التّزكية نوعان ‪ :‬تزكية ال ّ‬

‫سرّ ‪ ،‬قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك في أحد قوليه ‪ :‬إنّ القاضي يجتزئ‬ ‫فبالنّسبة لتزكية ال ّ‬

‫سرّ ‪ ،‬لنّها ليست شهادةً بل هي إخبار ‪.‬‬ ‫بواحد في تزكية ال ّ‬

‫والقول الخر لمالك ‪ ،‬وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه ل بدّ من اثنين ‪.‬‬

‫أمّا بالنّسبة لتزكية العلنية ‪ ،‬فالئمّة الثّلثة ‪ ،‬وهو المشهور عند المالكيّة ‪ :‬أنّه ل يقبل فيها إلّ‬

‫اثنان ‪ ،‬لنّها شهادة ‪ .‬وقال ابن كنانة من المالكيّة ‪ :‬ل بدّ من ثلثة ‪ .‬وعن ابن الماجشون ‪ :‬أنّ‬ ‫أقلّ ما يزكّي الرّجل أربعة شهود ‪ .‬وقال ابن حبيب في الواضحة ‪ :‬والتّزكية تختلف ‪ ،‬فتكون‬

‫بالواحد والثنين والجماعة ‪ ،‬بقدر ما يظهر للحاكم ويتأكّد عنده ‪.‬‬

‫قال المتيطيّ ‪ :‬وما كثر من الشّهود فهو أحسن ‪ ،‬إلّ أن تكون التّزكية في شاهد شهد بزنا ‪،‬‬ ‫فإنّ مطرّفا روى عن مالك ‪ :‬أنّه ل يزكّيه إلّ أربعة ‪.‬‬

‫من تقبل تزكيته ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬فقهاء المذاهب ‪ -‬عدا الحنفيّة ‪ -‬قالوا ‪ :‬يشترط في شاهد التّزكية أن يكون مبرزا ناقدا‬

‫فطنا ‪ ،‬ل يخدع في عقله ‪ ،‬ول تخفى عليه شروط التّعديل ‪.‬‬

‫ل في غير‬ ‫ول تقبل التّزكية من البله والجاهل بشروط العدالة ‪ ،‬وإن كان في نفسه عدلً مقبو ً‬ ‫ذلك ‪ .‬ول يقبل قول من يرى تعديل كلّ مسلم ‪.‬‬

‫سرّ يقبل فيه تعديل الوالد لولده وكلّ ذي رحم محرم‬ ‫وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ‪ :‬تعديل ال ّ‬

‫س ّر ليس بشهادة ‪ .‬وقال محمّد ‪ :‬هو شهادة فل بدّ من شهادة اثنين ‪.‬‬ ‫لرحمه ‪ ،‬لنّ تعديل ال ّ‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬وقال الحنفيّة ‪ :‬يقبل تعديل المرأة لزوجها وغيره ‪ ،‬إذا كانت امرأ ًة برز ًة تخالط النّاس‬

‫س ّر من العمى‬ ‫وتعاملهم ‪ ،‬لنّ لها خبرةً بأمورهم فيفيد السّؤال ‪ .‬قالوا ‪ :‬وتجوز تزكية ال ّ‬ ‫والصّبيّ والمحدود في قذف ‪ .‬وهذا خلفا لمحمّد ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل تقبل تزكية النّساء ‪ ،‬ل في حقّ الرّجال ول في حقّ النّساء ‪.‬‬

‫ص بالرّجال ‪.‬‬ ‫ن التّزكية يشترط فيها التّبريز في العدالة ‪ ،‬وهي صفة تخت ّ‬ ‫قال ابن رشد ‪ :‬إ ّ‬

‫قال ‪ :‬وقد قيل ‪ :‬إنّهنّ يزكّين الرّجال إذا شهدوا فيما تجوز شهادتهنّ فيه ‪ ،‬وهو قول ابن نافع‬ ‫وابن الماجشون في المبسوطة ‪ .‬والقياس جواز تزكيتهنّ للنّساء ‪.‬‬

‫تزكية المشهود عليه للشّاهد ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬قال الحنفيّة ‪ :‬إذا عدّل المدّعى عليه شهود المدّعي ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬صدقوا في شهادتهم ‪ ،‬أو‬

‫قال ‪ :‬هم عدول في شهادتهم ‪ ،‬يقضى عليه بالمال بإقراره ل بالشّهادة ‪ ،‬لنّ ذلك إقرار منه‬ ‫بالمال ‪ .‬وإن قال ‪ :‬هم عدول ‪ ،‬ولم يزد عليه ‪ ،‬ذكر في الجامع الصّغير ‪ :‬أنّه ل يصحّ هذا‬

‫التّعديل ‪ ،‬لنّ من زعم المدّعي وشهوده أنّ المدّعى عليه في الجحود ظالم وكاذب ‪ ،‬فل تصحّ‬

‫تزكيته ‪ .‬وقال في كتاب التّزكية ‪ :‬ويجوز تعديل المشهود عليه إذا كان من أهله ‪ ،‬لنّ تعديل‬

‫ل ل يكون إقرارا بوجوب الحقّ‬ ‫المشهود عليه بمنزلة تعديل المزكّي ‪ ،‬وإقراره بكون الشّاهد عد ً‬ ‫على نفسه ل محالة ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬لو أقرّ الخصم المشهود عليه بالعدالة لمن شهد عليه يحكم القاضي بهذا‬

‫القرار ‪ ،‬ولو علم خلف ذلك ‪ ،‬لنّ إقراره بعدالته كإقراره بالحقّ ‪ ،‬حتّى لو شهدت بيّنة‬

‫بخلف عدالة الشّاهد ‪ .‬أمّا الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬فإذا شهد عند القاضي مجهول الحال ‪ ،‬فقال‬ ‫المشهود عليه ‪ :‬هو عدل ‪ ،‬فعند الشّافعيّة ‪ :‬فيه قولن ‪ ،‬وهما وجهان عند الحنابلة ‪.‬‬

‫أ ّولً ‪ -‬ل يكفي في الصحّ في التّعديل قول المدّعى عليه ‪ :‬هو عدل ‪ ،‬وقد غلط في شهادته‬ ‫عليّ ‪ .‬وقيل ‪ :‬يكفي في حقّه ‪ ،‬لنّه اعترف بما لو ثبت بالبيّنة يقضى عليه ‪.‬‬ ‫والقولن هما الوجهان عند الحنابلة ‪.‬‬

‫ق المشهود عليه ‪ ،‬وقد‬ ‫الوّل ‪ :‬أنّه يلزم الحاكم الحكم بشهادته ‪ ،‬لنّ البحث عن عدالته لح ّ‬

‫اعترف بها ‪ ،‬ولنّه إذا أق ّر بعدالته فقد أقرّ بما يوجب الحكم لخصمه عليه ‪ ،‬فيؤخذ بإقراره‬

‫كسائر أقاريره ‪.‬‬

‫ل له ‪ ،‬فل يثبت بقول‬ ‫والوجه الثّاني ‪ :‬أنّه ل يجوز الحكم بشهادته ‪ ،‬لنّ في الحكم بها تعدي ً‬

‫واحد ‪ ،‬ولنّ اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى ‪ ،‬ولهذا لو رضي الخصم أن يحكم عليه‬

‫بقول فاسق لم يجز الحكم به ‪ ،‬لنّه ل يخلو إمّا أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه ‪ :‬ل‬ ‫يجوز أن يقال مع تعديله ‪ ،‬لنّ التّعديل ل يثبت بقول الواحد ‪.‬‬

‫ول يجوز مع انتفاء تعديله ‪ ،‬لنّ الحكم بشهادة غير العدل غير جائز ‪ ،‬بدليل شهادة من ظهر‬ ‫فسقه ‪ .‬فإن قلنا بالوّل فل يثبت تعديله في حقّ غير المشهود عليه ‪ ،‬لنّه لم توجد بيّنة‬

‫التّعديل ‪ ،‬وإنّما يحكم عليه لقراره بوجود شروط الحكم ‪ ،‬وإقراره يثبت في حقّه دون غيره كما‬ ‫لو أقرّ بحقّ عليه وعلى غيره ثبت في حقّه دون غيره ‪.‬‬

‫تجديد التّزكية ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬قال المام أحمد ‪ :‬ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده ك ّل قليل ‪ ،‬لنّ الرّجل ينتقل من‬

‫ب أو واجب ؟ فيه وجهان ‪:‬‬ ‫حال إلى حال ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬هل هذا مستح ّ‬

‫أحدهما ‪ :‬أنّه مستحبّ ‪ ،‬لنّ الصل بقاء ما كان ‪ ،‬فل يزول حتّى يثبت الجرح ‪.‬‬

‫ن العيب يحدث ‪ ،‬وذلك على ما‬ ‫والثّاني ‪ :‬يجب البحث كلّما مضت مدّة يتغيّر الحال فيها ‪ ،‬ل ّ‬

‫يراه الحاكم ‪ .‬ولصحاب الشّافعيّ فيه وجهان مثل هذين ‪.‬‬

‫ويرى الحنفيّة ‪ :‬أنّه متى ثبتت العدالة عند القاضي ‪ ،‬ثمّ شهد الشّهود في حادثة أخرى ‪ ،‬فل‬ ‫يشتغل بتعديلهم إن كان العهد قريبا ‪ ،‬وإلّ سأل عنهم ‪ .‬وفي الحدّ الفاصل بينهما قولن ‪،‬‬ ‫ن القريب مقدّر بستّه أشهر ‪.‬‬ ‫أحدهما ‪ :‬أ ّ‬

‫والثّاني ‪ :‬أنّه مفوّض إلى رأي القاضي ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬أنّه لو شهد المزكّي ثانيا قبل عام من تاريخ شهادته السّابقة ‪ ،‬وجهل حاله ‪ ،‬ولم‬

‫يكثر معدّلوه ‪ ،‬ووجد من يعدّله عند شهادته ثانيا ‪ ،‬فقد اختلفوا فيه على قولين ‪:‬‬ ‫الوّل ‪ :‬ما قاله أشهب عن مالك أنّه ل يحتاج إلى تزكية ‪.‬‬

‫والقول الثّاني لسحنون ‪ :‬أنّه يحتاج إلى تزكية ‪ .‬فإن فقد قيد من الثّلثة الخيرة ‪ :‬بأن لم يجهل‬

‫حاله ‪ ،‬أو كثر معدّلوه ‪ ،‬أو لم يوجد من يعدّله ثانيا لم يحتج إلى تزكية أخرى اكتفاءً بالتّزكية‬

‫السّابقة اتّفاقا بين المالكيّة ‪ .‬أمّا لو فقد القيد الوّل ‪ ،‬كما لو شهد مجهول الحال بعد تمام سنة ‪،‬‬ ‫ولم يكن زكّاه قبله كثيرون احتاج لعادة التّزكية اتّفاقا ‪.‬‬

‫بيان سبب الجرح والتّعديل ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬قال أبو حنيفة والمالكيّة ‪ :‬يقبل الجرح المطلق ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن يشهد أنّه فاسق ‪ ،‬أو أنّه ليس‬

‫بعدل ‪ .‬وعن أحمد مثله ‪ ،‬لنّ التّعديل يسمع مطلقا فكذلك الجرح ‪ ،‬لنّ التّصريح بالسّبب يجعل‬

‫المجرّح فاسقا ‪ ،‬ويوجب عليه الحدّ في بعض الحالت ‪ .‬وهو أن يشهد عليه بالزّنى ‪ ،‬فيفضي‬ ‫الجرح إلى جرح الجارح ‪ ،‬وتبطل شهادته ‪ ،‬ول يتجرّح بها المجروح ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يجب ذكر سبب الجرح للختلف فيه ‪ ،‬بخلف سبب التّعديل ‪.‬‬

‫واستدلّ من قالوا باشتراط بيان سبب الجرح بأنّ النّاس يختلفون في أسباب الجرح ‪ ،‬كاختلفهم‬

‫في شارب النّبيذ ‪ ،‬فوجب ألّ يقبل مجرّد الجرح ‪ ،‬لئلّ يجرّحه بما ل يراه القاضي جرحا ‪،‬‬

‫ن الجرح ينقل عن الصل ‪ ،‬فإنّ الصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها ‪ ،‬فل بدّ أن‬ ‫ول ّ‬

‫يعرف النّاقل ‪ ،‬لئلّ يعتقد نقله عن أصل العدالة بما ل يراه الحاكم ناقلً ‪.‬‬

‫الفرق بين شهود الدّعوى وشهود التّزكية ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬يختلف شهود التّزكية عن شهود الدّعوى في أمور ‪ ،‬ويتّفقان في أمور ‪:‬‬

‫فيتّفقان في الجملة في اشتراط العقل الكامل والضّبط والولية والعدالة والبصر والنّطق ‪ ،‬وألّ‬

‫يكون الشّاهد محدودا في قذف ‪ ،‬وعدم القرابة المانعة من قبول الشّهادة ‪ ،‬وألّ تجرّ الشّهادة‬

‫على الشّاهد نفعا ‪ .‬وهذه الشّرائط هي في الجملة ‪ ،‬إذ في كلّ مذهب تفصيل ‪ .‬وهذا في تزكية‬

‫سرّ ‪ ،‬فقد تقدّم الكلم عمّن تقبل شهادتهم فيها ‪ ،‬ومن ذلك يعلم الفرق‬ ‫العلنية ‪ .‬أمّا في تزكية ال ّ‬ ‫سرّ والشّهادة أمام القاضي ‪ .‬ويختلفان في أنّ شاهد التّزكية في العلنية‬ ‫بين شهود تزكية ال ّ‬

‫يشترط أن يكون ‪ :‬مبرزا في العدالة فطنا حذرا ل يخدع ول يستغفل ‪.‬‬

‫قال محمّد بن الحسن في النّوادر ‪ :‬كم من رجل أقبل شهادته ول أقبل تعديله ‪ ،‬لنّه يحسن أن‬

‫يؤدّي ما سمع ول يحسن التّعديل ‪.‬‬

‫وفي كتاب ( المتيطيّة ) من كتب المالكيّة ‪ :‬شهود التّزكية بخلف شهود الحقوق ‪.‬‬

‫قال مالك ‪ :‬قد تجوز شهادة الرّجل ول يجوز تعديله ‪ ،‬ول يجوز إلّ تعديل العارف ‪.‬‬

‫ل العدل المبرز الفطن الّذي ل يخدع في عقله ول يستز ّل‬ ‫وقال سحنون ‪ :‬ل يجوز في التّعديل إ ّ‬ ‫في رأيه ‪ .‬وعلى هذا أكثر أصحاب مالك ‪ ،‬وبه جرى العمل ‪.‬‬

‫وروي عنه أيضا ‪ :‬شهود التّزكية كشهود سائر الحقوق ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪ -‬ومثل ما تقدّم ما قاله الشّافعيّة ‪ :‬أنّه يشترط في المزكّي ما يشترط في الشّاهد ويزيد عليه‬

‫أمران ‪ :‬أحدهما ‪ :‬معرفة أسباب الجرح والتّعديل ‪ ،‬لنّه يشهد بهما ‪.‬‬

‫والمر الثّاني ‪ :‬خبرة باطن من يعدّله أو يجرّحه ‪ ،‬بصحبة أو جوار أو معاملة ‪ ،‬ليتأتّى له بها‬

‫التّعديل أو الجرح ‪ .‬ول يخرج كلم الحنابلة عن ذلك ‪ .‬فقد قالوا ‪ :‬ل يقبل التّعديل إلّ من أهل‬

‫الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة ‪ ،‬ولنّ عادة النّاس إظهار الصّالحات وإسرار المعاصي ‪،‬‬

‫فإذا لم يكن ذا خبرة باطنة ربّما اغت ّر بحسن ظاهره ‪ ،‬وهو في باطنه فاسق ‪.‬‬

‫تزكية الشّهود ال ّذمّيّين لمثلهم ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬إذا ترافع ال ّذ ّميّون أمام قاض مسلم ‪ ،‬وطلبوا منه الفصل فيما شجر بينهم ‪ ،‬وأحضر‬

‫المدّعي شهوده ال ّذ ّميّين على المدّعى عليهم الذّ ّميّين ‪ ،‬فقد قال الحنفيّة ‪ :‬التّزكية لل ّذ ّميّ تكون‬

‫بالمانة في دينه ولسانه ويده ‪ ،‬وأنّه صاحب يقظة ‪ .‬فإن لم يعرفه المسلمون سألوا عنه عدول‬ ‫الذّ ّميّين ‪ .‬ولم يعثر على حكم تزكية ال ّذ ّميّين في المذاهب الخرى ‪.‬‬

‫رجوع المزكّي عن التّزكية ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬يرى أبو حنيفة أنّه لو رجع المزكّون عن تزكيتهم للشّهود ‪ ،‬بأن قالوا مثلً ‪ :‬إنّ الشّهود‬

‫عبيد أو مجوس ‪ ،‬وقد زكّيناهم ونحن نعلم ذلك ‪ ،‬فالدّية على المزكّين عند أبي حنيفة ‪ ،‬ول‬

‫يقتصّ منهم لو رجم المشهود عليه بالزّنا وهو محصن ‪.‬‬

‫وقال الصّاحبان ‪ :‬بل يقتصّ منهم وأمّا إذا قالوا ‪ :‬أخطأنا في التّزكية فل شيء عليهم ‪.‬‬

‫ن الشّهود أحرار ‪ ،‬فإذا هم عبيد‬ ‫وقيل ‪ :‬الخلف بين المام وصاحبيه فيما إذا أخبر المزكّون أ ّ‬

‫أمّا إذا قالوا ‪ :‬هم عدول ‪ ،‬فبانوا عبيدا ل يضمنون إجماعا ‪ ،‬لنّ العبد قد يكون عدلً ‪ .‬ومذهب‬ ‫المالكيّة ‪ :‬أنّه لو رجع المزكّي لشهود الزّنا أو قتل العمد عن تزكيتهم ‪ ،‬بعد رجم المشهود‬

‫عليه ‪ ،‬أو قتله قصاصا ‪ ،‬فل يغرم المزكّي شيئا من الدّية ‪ ،‬سواء رجع الشّهود الصول أم ل ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة في الوجه الصحّ عندهم ‪ :‬إنّه يتعلّق بالمزكّي الرّاجع القصاص والضّمان ‪ ،‬لنّه‬

‫ألجأ القاضي إلى الحكم المفضي إلى القتل ‪ .‬وفي وجه آخر ‪ :‬ل ‪ ،‬لنّه لم يتعرّض للمشهود‬

‫عليه ‪ ،‬وإنّما أثنى على الشّاهد ‪ ،‬والحكم يقع بالشّاهد ‪ ،‬فكان كالممسك مع القاتل ‪ .‬وفي وجه‬

‫ثالث ‪ :‬يتعلّق به الضّمان دون القصاص ‪.‬‬

‫قال القفّال ‪ :‬الخلف فيما إذا قال المزكّيان ‪ :‬علمنا كذب الشّاهدين ‪ .‬فإن قال ‪ :‬علمنا فسقهما‬

‫فل شيء عليهما ‪ ،‬لنّهما قد يكونان صادقين مع الفسق ‪ ،‬وطرد المام الخلف في الحالين ‪.‬‬ ‫وعند الحنابلة أنّ المزكّيين إذا رجعا عن التّزكية ضمنا ‪ ،‬لنّهما تسبّبا في الحكم غير الحقّ ‪،‬‬

‫فيضمنان كرجوع شهود الحصان ‪.‬‬

‫تزكية الشّهود بعضهم لبعض ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬يكفي عند الحنفيّة تزكية أحد الشّاهدين صاحبه في الصحّ ‪ ،‬لنّ العدل ل يتّهم بمثله ‪.‬‬

‫وغاية ما فيه أنّ فيه منفعةً من حيث القضاء بشهادته ‪ ،‬ولكنّ العدل ل يتّهم بمثله كما ل يتّهم‬

‫في شهادة نفسه ‪ .‬وفي الفتح أنّ بعضهم قال ‪ :‬ل يجوز ‪ ،‬لنّه متّهم ‪ ،‬حيث كان بتعديله رفيقه‬

‫يثبت القضاء بشهادته ‪.‬‬

‫ولكنّ الصّحيح ما ذكر ‪ ،‬لنّ شهادته تتضمّن مثل هذه المنفعة وهي القضاء بها ‪ ،‬فكما أنّه لم‬

‫يعتبر الشّرع مع عدالته ذلك مانعا ‪ ،‬كذلك تعديله لمن شهد معه ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ :‬أنّ الشّاهد ل يزكّي من شهد معه ‪ ،‬ول تقبل معه شهادته في ذلك الحقّ ‪.‬‬

‫ل طائفة صاحبتها ‪ ،‬وهو عنده بمنزلة ما‬ ‫وأجاز سحنون إذا شهدت طائفة بعد ذلك أن تزكّي ك ّ‬

‫لو شهدتا في حقّين مختلفين ‪ .‬وروي عنه أنّ ذلك ل يجوز ولو شهدتا في حقّين مختلفين ‪.‬‬

‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ل يجوز أن يزكّي أحد الشّاهدين الخر ‪ ،‬وفيه وجه ضعيف أنّه يجوز ‪.‬‬

‫التّزكية تكون على عين المزكّي ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬التّزكية الّتي تشترط وتقبل تكون على عين المزكّي ‪ ،‬وذلك في تزكية العلنية ‪ .‬وصفتها‬

‫سرّ ‪ -‬ليزكّيهم علنيةً بين يديه ‪،‬‬ ‫‪ :‬أن يحضر القاضي المزكّي ‪ -‬بعدما زكّى الشّهود في ال ّ‬

‫ويشير إليهم فيقول ‪ :‬هؤلء عدول عندي ‪ ،‬إزالةً لللتباس ‪ ،‬واحترازا عن التّبديل والتّزوير ‪.‬‬

‫قال ابن فرحون ‪ :‬ل يزكّى الشّاهد إذا لم يعرفه القاضي إلّ على عينه ‪ ،‬وليس على القاضي أن‬ ‫يسأل المزكّي عن تفسير العدالة إذا كان المزكّي عالما بوجوهها ‪ ،‬ول عن الجرحة إذا كان‬ ‫عالما بها ‪.‬‬

‫ولم يصرّح الحنابلة بتكرار سؤال المزكّي أمام الشّهود وإشارته إلى عين من يزكّيهم ‪.‬‬

‫العذار إلى المدّعى عليه في تزكية المزكّين ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬هل على القاضي أن يعذر إلى المدّعى عليه فيمن زكّى من شهد عليه من تلقاء نفسه ؟ أو‬

‫يطلب من المدّعى عليه أو ل يعذر أصلً ‪.‬‬

‫الّذي يفيده كلم الحنفيّة ‪ :‬أنّه ل يعذر إلى المدّعى عليه فيمن زكّى شهود المدّعي ‪ .‬إذ قالوا ‪:‬‬

‫سرّ ‪ ،‬لما في تزكية العلنية من بلء وفتنة ‪.‬‬ ‫اليوم وقع الكتفاء بتزكية ال ّ‬

‫سرّ بحال الشّهود‬ ‫سرّ ‪ ،‬وهو من يخبر القاضي في ال ّ‬ ‫وقال المالكيّة ‪ :‬ممّا ل يعذر فيه مزكّي ال ّ‬

‫من عدالة أو جرح ‪ .‬ولو سأل الطّالب المقيم للبيّنة عمّن جرّحها ل يلتفت إلى سؤاله ‪.‬‬

‫ل من‬ ‫وكذلك لو سأل المطلوب عمّن زكّى بيّنة الطّالب ‪ ،‬فإنّه ل يلتفت إليه ‪ ،‬لنّه ل يقيم لذلك إ ّ‬

‫يثق به ‪ ،‬فهو قائم مقام القاضي فل يعذر في نفسه ‪.‬‬

‫وكذلك الشّاهد المبرز في العدالة الفائق أقرانه فيها ل يعذر فيه لغير العداوة ‪ ،‬ويعذر فيه فيها ‪،‬‬ ‫ومثلها القرابة ‪ .‬وكذلك المحكوم عليه إذا كان يخشى منه على من شهد عليه ‪ ،‬فإنّه ل يعذر‬

‫إليه فيمن شهد عليه ‪ ،‬ومعناه أنّ الشّاهد على من يخشى منه ل يسمّى له ‪.‬‬ ‫ومؤدّى ذلك أنّ غير المذكورين يعذر فيهم إلى المشهود عليه ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬بعد السّؤال والبحث ومشافهة المزكّي بما عنده ‪ ،‬فإن كان جرحا ستره ‪ ،‬وقال‬

‫للمدّعي ‪ :‬زدني في شهودك ‪ ،‬أو تعديلً عمل بمقتضاه ‪.‬‬

‫وظاهر ذلك أنّه يعمل بمقتضى الجرح والتّعديل ‪ ،‬من غير أن يقول للمدّعي الّذي أحضر‬

‫الشّهود ‪ :‬إنّ شهودك قد جرّحهم فلن وفلن ‪ ،‬ول يقول للمدّعى عليه ‪ :‬إنّ من شهدوا عليك قد‬ ‫عدّلهم فلن وفلن ‪ .‬هذا ولم نطّلع على حكم ذلك عند الحنابلة ‪.‬‬

‫تزكية رواة الحاديث ‪:‬‬

‫‪23‬‬

‫‪ -‬الحكام الّتي تقدّمت هي في شهود الدّعاوى ‪ .‬أمّا بالنّسبة لرواة الحاديث فقد أجمع‬

‫ل ضابطا لما‬ ‫جماهير أئمّة الحديث والفقه على أنّه يشترط فيمن يحتجّ بروايته ‪ :‬أن يكون عد ً‬

‫يرويه ‪ ،‬بأن يكون مسلما بالغا عاقلً ‪ ،‬سالما من أسباب الفسق وما يخلّ بالمروءة متيقّظا غير‬ ‫مغفّل ‪ ،‬حافظا إن حدّث من حفظه ‪ ،‬ضابطا لكتابه إن حدّث من كتابه ‪ .‬وإن كان يحدّث‬

‫بالمعنى اشترط فيه مع ذلك ‪ :‬أن يكون عالما بما يحيل المعاني ‪.‬‬

‫وعدالة الرّاوي تار ًة تثبت بتنصيص معدّلين على عدالته ‪ ،‬وتارةً تثبت بالستفاضة ‪ ،‬فيمن‬

‫اشتهرت عدالته من أهل النّقل أو نحوهم من أهل العلم ‪ ،‬ومن شاع الثّناء عليه بالثّقة والمانة‬

‫استغني فيه بذلك عن بيّنة شاهدة بعدالته تنصيصا ‪ ،‬وهذا هو الصّحيح في مذهب الشّافعيّ ‪،‬‬ ‫وعليه العتماد في فنّ أصول الفقه ‪.‬‬

‫وذلك مثل المام مالك وأبي بكر الخطيب الحافظ ‪.‬‬

‫ن أسبابه كثيرة يصعب‬ ‫والتّعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصّحيح المشهور ‪ ،‬ل ّ‬

‫حصرها ‪ ،‬بخلف الجرح ‪ ،‬فإنّه ل يقبل إلّ مفسّرا مبيّن السّبب ‪ ،‬لنّ النّاس يختلفون فيما‬ ‫يجرّح ول يجرّح ‪.‬‬

‫ي ‪،‬وفي علم مصطلح الحديث ‪.‬‬ ‫وهناك تفصيلت وأحكام أخرى يرجع إليها في الملحق الصول ّ‬

‫تزكية النسان نفسه ‪:‬‬

‫‪24‬‬

‫سكُم هوَ أَعْلَمُ‬ ‫‪ -‬نهى اللّه عزّ وجلّ عن تزكية النسان نفسه بقوله تعالى ‪ { :‬فل ُت َزكّوا َأ ْن ُف َ‬

‫سهُم َبلِ اللّهُ ُي َزكّي مَنْ َيشَاءُ } ‪ .‬وليس‬ ‫ن اتّقَى } وقال تعالى ‪َ { :‬ألَ ْم تَ َر إلى الّذينَ ُي َزكّونَ َأ ْن ُف َ‬ ‫ِبمَ ِ‬

‫من التّزكية المذمومة بيان النسان لبعض صفاته على سبيل التّعريف ‪ ،‬حيث يحتاج إلى ذلك‬

‫خزَائنِ الرضِ‬ ‫جعَ ْلنِي على َ‬ ‫في توليته ‪ ،‬كما حصل لنبيّ اللّه يوسف عليه السلم حيث قال ‪ { :‬ا ْ‬

‫إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬مدح ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تزويج *‬

‫‪ -‬التّزويج لغةً ‪ :‬مصدر زوّج ‪ .‬يقال ‪ :‬تزوّجت امرأةً ‪ ،‬وزوّجه امرأةً أي ‪ :‬قرنه بها ‪.‬‬

‫جنَاهم ِبحُورٍ عِينٍ } أي قرنّاهم بهنّ ‪ ،‬وكلّ شيئين اقترن أحدهما بالخر‬ ‫وفي التّنزيل ‪َ { :‬و َز ّو ْ‬ ‫فهما زوجان ‪ ،‬والسم من التّزويج ‪ :‬الزّواج ‪.‬‬

‫وهو في الصطلح كما عرّفه الحنفيّة ‪ :‬عقد يفيد ملك استمتاع الرّجل بالمرأة ‪ ،‬وحلّ استمتاع‬ ‫المرأة بالرّجل على وجه مشروع ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬التّزويج ليس له حكم واحد ينطبق عليه في جميع الحالت بل يختلف حكمه باختلف‬

‫النّاس من ناحية قدرتهم على مطالب الزّواج واستعدادهم للقيام بالحقوق الزّوجيّة ‪.‬‬ ‫فيكون فرضا أو واجبا أو حراما أو مكروها أو مندوبا أو مباحا ‪.‬‬

‫فيكون فرضا أو واجبا ‪ :‬إذا كان الشّخص في حالة يتيقّن فيها الوقوع في الزّنى إن لم يتزوّج ‪،‬‬

‫وكان قادرا على النّفقة والمهر وحقوق الزّواج الشّرعيّة ‪ ،‬ول يستطيع الحتراز عن الوقوع في‬

‫الزّنى ونحوه ‪.‬‬

‫ويكون حراما ‪ :‬إذا كان المرء في حالة يتيقّن فيها عدم القيام بأمور الزّوجيّة والضرار بالمرأة‬ ‫إذا هو تزوّج ‪.‬‬

‫ويكون مكروها ‪ :‬إذا خاف الشّخص الوقوع في الجور والضّرر إن تزوّج ‪ ،‬لعجزه عن النفاق‬ ‫أو عدم القيام بالواجبات الزّوجيّة ‪.‬‬

‫ويكون مندوبا ‪ :‬في حالة العتدال ‪ ،‬وهي أن يكون الشّخص معتدل الطّبيعة ‪ ،‬بحيث ل يخشى‬ ‫الوقوع في الزّنى إن لم يتزوّج ‪ ،‬ول يخشى أن يظلم زوجته إن تزوّج ‪ ،‬وهذا عند جمهور‬ ‫الفقهاء ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّ الزّواج في هذه الحالة مباح ‪ ،‬يجوز فعله وتركه ‪.‬‬

‫مَنْ له ولية التّزويج ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الرّجل الحرّ البالغ العاقل الرّشيد له أن يزوّج نفسه ‪ ،‬وأن يباشر عقد‬

‫النّكاح دون إذن من أحد ‪ ،‬لما له من ح ّريّة التّصرّف في خالص حقّه ‪ .‬كما أنّ له أن يوكّل‬ ‫غيره في تزويجه ‪ ،‬وأن يزوّج غيره بالولية أو الوكالة ‪.‬‬

‫ي أبا أو جدّا ‪ ،‬أو‬ ‫أمّا الصّغير والمجنون فل ولية لهما على أنفسهما ‪ ،‬وإنّما يزوّجهما الول ّ‬ ‫الوصيّ عليهما ‪ .‬ول يجوز للصّغير والمجنون مباشرة عقد النّكاح ‪ ،‬لعدم أهليّتهما ‪.‬‬

‫ح له الزّواج بدون إذن القيّم عليه عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬خلفا للحنفيّة‬ ‫والسّفيه ل يص ّ‬

‫والحنابلة فيجوز له أن يتزوّج بل إذن وليّه ‪ ،‬وأن يباشر العقد عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّه عقد غير‬

‫ماليّ فصحّ منه ‪ ،‬وإن لزم منه المال ‪ ،‬فحصوله بطريق الضّمن ‪ ،‬فل يمنع الحجر عليه من‬ ‫ح النّكاح بإذن وليّه وبغير إذنه‬ ‫العقد ‪ .‬وقال ابن قدامة في تزويج القيّم للسّفيه ‪ :‬إن تزوّج ص ّ‬ ‫وقال أبو الخطّاب ‪ :‬ل يصحّ بغير إذن وليّه ‪.‬‬

‫ي تزويجهما ‪ ،‬بدون إذنهما ‪ ،‬إذا‬ ‫والولية على الصّغير والمجنون ولية إجبار ‪ ،‬فيجوز للول ّ‬

‫كان في ذلك مصلحة ‪ .‬وهذا بل خلف ‪.‬‬

‫لكن الختلف فيمن له ولية الجبار ‪ ،‬هل الب فقط أو الب والجدّ ‪ ،‬أو الب والجدّ والوصيّ‬ ‫أو غيرهما ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( ولية ) ‪.‬‬

‫تزويج المرأة نفسها ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬المرأة البالغة العاقلة الحرّة الرّشيدة ل يجوز لها تزويج نفسها ‪ ،‬بمعنى أنّها ل تباشر العقد‬

‫ي » وروي عن‬ ‫بنفسها ‪ ،‬وإنّما يباشره الوليّ عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لحديث « ل نِكاح إلّ بول ّ‬

‫عائشة رضي ال عنها عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬أيّما امرأة نكحت بغير إذن‬

‫وليّها فنكاحها باطل ‪ ،‬فنكاحها باطل ‪ ،‬فنكاحها باطل ‪ ،‬فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من‬

‫ي له » ولقوله صلى ال عليه وسلم « ل تنكح‬ ‫فرجها ‪ ،‬فإن تشاجروا فالسّلطان وليّ من ل ول ّ‬ ‫المرأة المرأة ‪ ،‬ول تنكح المرأة نفسها » ‪.‬‬

‫ول يجوز لها أن تزوّج غيرها ‪ ،‬سواء أكانت المرأة بكرا أم ثيّبا ‪ .‬وقالوا ‪ :‬البكر يجبرها الوليّ‬

‫على النّكاح ‪ ،‬لكن يستحبّ إذنها ‪ .‬أمّا الّثيّب إن كانت صغيرةً فل يجوز تزويجها حتّى تبلغ ‪،‬‬

‫وتستأذن ‪ .‬وذلك عند الشّافعيّة ‪.‬‬

‫وفي وجه عند الحنابلة ‪ ،‬وهو ظاهر قول الخرقيّ ‪ ،‬واختاره ابن حامد وابن بطّة والقاضي ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة ‪ ،‬وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة ‪ :‬أنّ لبيها تزويجها ‪ ،‬ول يجب أن يستأمرها ‪،‬‬

‫وهو أيضا قول للحنفيّة ‪ .‬والعلّة عندهم هي الصّغر ‪ ،‬ولذلك له ولية إجبارها ‪.‬‬

‫ل أنّه ل يجوز‬ ‫أمّا الّثيّب الكبيرة ‪ -‬فإنّها وإن كانت ل تلي عقد نكاحها بنفسها عند الجمهور ‪ -‬إ ّ‬

‫تزويجها بدون إذنها ورضاها لما « روت الخنساء بنت خذام النصاريّة أنّ أباها زوّجها وهي‬

‫ثيّب ‪ ،‬فكرهت ذلك ‪ ،‬فأتت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فر ّد نكاحه » ‪ .‬ولحديث « ال ّثيّب‬ ‫أحقّ بنفسها من وليّها » ‪.‬‬

‫أمّا الحنفيّة ‪ :‬فإنّه ل يجوز عندهم إجبار البالغة على النّكاح بكرا كانت أم ثيّبا ‪ ،‬ولها أن تعقد‬

‫النّكاح بنفسها ‪ .‬ففي الهداية ‪ :‬ينعقد نكاح الحرّة العاقلة البالغة برضاها ‪ ،‬وإن لم يعقد عليها وليّ‬ ‫‪ ،‬بكرا كانت أو ثيّبا عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرّواية ‪.‬‬ ‫وعن أبي يوسف أنّه ل ينعقد إلّ بوليّ ‪ .‬وعند محمّد ينعقد موقوفا ‪.‬‬

‫ووجه الجواز ‪ :‬أنّها تصرّفت في خالص حقّها وهي من أهله ‪ ،‬لكونها عاقلةً بالغةً مميّزةً ‪،‬‬

‫وإنّما يطالب الوليّ بالتّزويج كي ل تنسب إلى الوقاحة ‪ .‬وال ّثيّب من باب أولى إذا كانت كبير ًة ‪،‬‬

‫فإنّها تعقد على نفسها ‪ .‬أمّا الصّغيرة سواء أكانت بكرا أم ثيّبا فلوليّها إجبارها على النّكاح ‪ ،‬لنّ‬ ‫ولية الجبار تدور مع الصّغر وجودا وعدما ‪ .‬وأمّا المجنونة فللوليّ إجبارها على النّكاح‬

‫مطلقا ‪ ،‬وهذا باتّفاق ‪ .‬وفي كلّ ما مرّ تفصيل ينظر في ( نكاح ‪ -‬ولية ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تزوير *‬

‫‪ -‬التّزوير في اللّغة ‪ :‬مصدر زوّر ‪ ،‬وهو من الزّور ‪ ،‬والزّور ‪ :‬الكذب ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬‬

‫شهَدُونَ الزّورَ } وزوّر كلمه ‪ :‬أي زخرفه ‪ ،‬وهو أيضا ‪ :‬تزيين الكذب ‪.‬‬ ‫والّذين ل َي ْ‬

‫وزوّرت الكلم في نفسي ‪ :‬هيّأته ‪ ،‬ومن ذلك قول عمر رضي ال عنه ‪ :‬ما زوّرت كلما‬ ‫لقوله إلّ سبقني إليه أبو بكر ‪ .‬أي ‪ :‬هيّأته وأتقنته ‪ .‬وله في اللّغة معان أخرى ‪.‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬تحسين الشّيء ووصفه بخلف صفته ‪ ،‬حتّى يخيّل إلى من سمعه أو رآه أنّه‬

‫بخلف ما هو عليه في الحقيقة ‪ .‬فهو تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الكذب ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الكذب هو ‪ :‬الِخبار بما ليس مطابقا للواقع ‪ .‬وبينه وبين التّزوير عموم وخصوص وجهيّ‬

‫‪ ،‬فالتّزوير يكون في القول والفعل ‪ ،‬والكذب ل يكون إلّ في القول ‪.‬‬

‫والكذب قد يكون مزيّنا أو غير مزيّن ‪ ،‬والتّزوير ل يكون إلّ في الكذب المموّه ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬الخلبة ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬الخلبة هي ‪ :‬المخادعة ‪ ،‬وتكون بستر العيب ‪ ،‬وتكون بالكذب وغيره ‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّلبيس من الَلبْس ‪ ،‬وهو اختلط المر ‪ ،‬وهو ستر الحقيقة وإظهارها بخلف ما هي عليها‬

‫ت ‪ -‬التّلبيس ‪:‬‬ ‫‪.‬‬

‫ث ‪ -‬التّغرير ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪ -‬التّغرير هو ‪ :‬الخديعة واليقاع في الباطل وفيما انطوت عاقبته ‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬الغشّ مصدر غشّه إذا لم يمحّضه النّصح ‪ ،‬بل خدعه ‪.‬‬

‫ج – الغشّ ‪:‬‬

‫والغشّ يكون بالقول والفعل ‪ ،‬فالتّزوير والغشّ لفظان متقاربان ‪.‬‬

‫ح ‪ -‬التّدليس ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪ -‬التّدليس ‪ :‬كتمان العيب ‪ ،‬وهو في البيع كتمان عيب السّلعة عن المشتري ‪.‬‬

‫والتّدليس أخصّ من التّزوير ‪ ،‬لنّه خاصّ بكتمان العيب في السّلعة المبيعة ‪ ،‬أمّا التّزوير فهو‬

‫أعمّ ‪ ،‬لنّه يكون بالقول والفعل وفي السّلعة المبيعة وغيرها ‪.‬‬ ‫خ ‪ -‬التّحريف ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬التّحريف ‪ :‬تغيير الكلم عن مواضعه والعدول به عن حقيقته ‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬والتّصحيف ‪ :‬هو تغيير اللّفظ حتّى يتغيّر المعنى المراد ‪.‬‬

‫د ‪ -‬التّصحيف ‪:‬‬

‫وقد تقدّمت اللفاظ ذات الصّلة وما يتعلّق بها من أحكام في مصطلح ( تدليس ) ( وتحريف )‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬الصل في التّزوير أنّه محرّم شرعا في الشّهادة لبطال حقّ أو إثبات باطل ‪.‬‬

‫ل الزّورِ } ومن‬ ‫ج َت ِنبُوا قَو َ‬ ‫س مِن الوثَانِ وا ْ‬ ‫ج َت ِنبُوا ال ّرجْ َ‬ ‫والدّليل على حرمته قوله تعالى ‪ { :‬فَا ْ‬

‫سنّة قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أل أُنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا ‪ :‬بلى يا رسول اللّه ‪ .‬قال‬ ‫ال ّ‬

‫الشراك باللّه وعقوق الوالدين ‪ ،‬وجلس وكان متّكئا ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬أل وقول الزّور ‪ .‬فما يزال‬ ‫يكرّرها حتّى قلنا ‪ :‬ليته سكت » ‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ -‬وقد استثني من حرمة التّزوير أمور ‪ :‬منها الكذب في الحرب ‪ ،‬وتطييب خاطر زوجته‬

‫ليرضيها ‪ ،‬والصلح بين النّاس ‪.‬‬

‫واستدلّوا بحديث ‪ :‬أسماء بنت يزيد مرفوعا ‪ « :‬ل يحلّ الكذب إلّ في ثلث ‪ :‬يحدّث الرّجل‬

‫امرأته ليرضيها ‪ ،‬والكذب في الحرب ‪ ،‬والكذب ليصلح بين النّاس » ومنه ‪ :‬الكذب لدفع ظالم‬

‫على مال له أو لغيره أو عرض ‪ ،‬وفي ستر معصية منه أو من غيره ‪ .‬وقد نقل عن النّوويّ ‪:‬‬

‫الظّاهر إباحة حقيقة الكذب في المور الثّلثة ‪ ،‬ولكنّ التّعريض أولى ‪.‬‬

‫وقال ابن العربيّ ‪ :‬الكذب في الحرب هو من المستثنى الجائز بالّنصّ ‪.‬‬

‫قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الحرب خدعة » ‪ ،‬وفيه ‪ :‬المر باستعمال الحيلة في الحرب مهما‬ ‫أمكن ذلك ‪ .‬وفيه ‪ :‬التّحريض على أخذ الحذر في الحرب ‪ ،‬والنّدب إلى خداع الكفّار ‪ .‬وقال‬

‫النّوويّ ‪ :‬اتّفقوا على جواز خداع الكفّار في الحرب كيفما أمكن ‪ ،‬إلّ أن يكون فيه نقض عهد‬ ‫أو أمان ‪ ،‬فل يجوز ‪ .‬وأصل الخدع إظهار أمر وإضمار خلفه ‪.‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫وجاء في حديث جابر بن عبد اللّه رضي ال عنهما ‪ « :‬أ ّ‬

‫مَنْ لكعب بن الشرف ؟ فإنّه قد آذى اللّه ورسوله ؟ قال محمّد بن مسلمة ‪ :‬أتحبّ أن أقتله يا‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قد‬ ‫رسول اللّه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬فأتاه ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا ‪ -‬يعني النّب ّ‬

‫عنّانا وسألنا الصّدقة ‪ .‬قال ‪ :‬وأيضا واللّه لتمُُلنّه قال ‪ :‬فإنّا اتّبعناه فنكره أن ندعه حتّى ننظر إلى‬

‫ما يصير أمره ‪ .‬قال ‪ :‬فلمْ يزل يكلّمه حتّى استمكن منه فقتله » ‪.‬‬

‫فقوله ‪ :‬عنّانا أي ‪ :‬كلّفنا بالوامر والنّواهي ‪ ،‬وقوله ‪ :‬سألنا الصّدقة أي ‪ :‬طلبها منّا ليضعها‬

‫مواضعها ‪ ،‬وقوله ‪ :‬نكره أن ندعه أي نكره فراقه ‪.‬‬

‫فقوله له من قبيل التّعريض والتّمويه والتّزوير ‪ ،‬حتّى يأمنه فيتمكّن من قتله ‪.‬‬

‫وجاء في رواية ‪ « :‬ائذن لي أن أقول ‪ .‬قال ‪ :‬قل » فيدخل فيه الكذب تصريحا وتلويحا ‪.‬‬

‫وفي سيرة ابن هشام ‪ « :‬أتى ُنعَيمُ بن مسعود رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول‬ ‫اللّه ‪ ،‬إنّي قد أسلمت ‪ ،‬وإنّ قومي لم يعلموا بإسلمي ‪ ،‬فمرني بما شئت ‪ ،‬فقال رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّما أنت فينا رجل واحد ‪ ،‬فخذّل عنّا إن استطعت ‪ ،‬فإنّ الحرب خدعةٌ ‪.‬‬ ‫فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬ل تقاتلوا مع القوم ‪ -‬الحزاب ‪-‬‬

‫حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ‪ ،‬يكونون بأيديكم ثق ًة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّدا ‪،‬‬

‫حتّى تناجزوه ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬لقد أشرت بالرّأي ‪ .‬ث ّم خرج حتّى أتى قريشا فقال لهم ‪ :‬قد عرفتم‬ ‫ودّي لكم وفراقي محمّدا ‪ ،‬وأنّه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّا أن أُبلِغكموه ‪ ،‬نصحا لكم ‪.‬‬

‫تعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد ‪ ،‬وقد أرسلوا إليه ‪ :‬إنّا‬ ‫قد ندمنا على ما فعلنا ‪ ،‬فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين ‪ ،‬من قريش وغطفان ‪ ،‬رجالً‬

‫من أشرافهم فنعطيكهم ‪ ،‬فتضرب أعناقهم ‪ ،‬ث ّم نكون معك على من بقي منهم حتّى نستأصلهم ؟‬

‫فأرسل إليهم ‪ :‬أن نعم ‪ .‬فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم ُرهُنا من رجالكم فل تدفعوا إليهم‬ ‫منكم رجلً واحدا ‪ .‬ثمّ خرج حتّى أتى غطفان ‪ ،‬فقال لهم مثل ما قال لقريش ‪ ،‬وحذّرهم ما‬ ‫حذّرهم وأرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة ‪ :‬فاغدوا للقتال حتّى‬

‫نناجز محمّدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه ‪ ،‬فأرسلوا إليهم ‪ :‬ولسنا بالّذين نقاتل معكم محمّدا حتّى‬

‫تعطونا رُهُنا من رجالكم ‪ ،‬يكونون بأيدينا ثقةً لنا ‪ ،‬حتّى نناجز محمّدا ‪ ،‬فإنّا نخشى إن‬

‫ضرّستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلدكم وتتركونا ‪ ،‬والرّجل في بلدنا ‪ ،‬ول‬ ‫طاقة لنا بذلك منه ‪ .‬فلمّا رجعت إليهم الرّسل بما قالت بنو قريظة ‪ ،‬قالت قريش وغطفان ‪:‬‬

‫واللّه إنّ الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ ‪ .‬فأرسلوا إلى بني قريظة ‪ :‬إنّا واللّه ل ندفع إليكم‬

‫رجلً واحدا من رجالنا ‪ ،‬فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ‪ .‬فقالت بنو قريظة ‪ ،‬حين‬

‫ن الّذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ ما يريد القوم إلّ أن يقاتلوا ‪،‬‬ ‫انتهت الرّسل إليهم بهذا ‪ :‬إ ّ‬

‫فإن رأوا فرص ًة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلدهم ‪ ،‬وخلّوا بينكم وبين الرّجل‬ ‫في بلدكم ‪ ،‬فأرسلوا إلى قريش وغطفان ‪ :‬إنّا واللّه ل نقاتل معكم محمّدا حتّى تعطونا رُهُنا ‪.‬‬

‫فأبوا عليهم ‪ ،‬وخذل اللّه بينهم ‪ ،‬وبعث اللّه عليهم الرّيح في ليال شاتية باردة شديدة البرد ‪،‬‬ ‫فجعلت تكفأ قدورهم ‪ ،‬وتطرح أبنيتهم » ‪.‬‬

‫القضاء بشهادة الزّور ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد وزفر ‪ ،‬وهو المفتى به عند الحنفيّة‬

‫‪ ،‬إلى أنّ قضاء الحاكم بشهادة الزّور ينفذ ظاهرا ل باطنا ‪ ،‬ول يزيل الشّيء عن صفته‬

‫الشّرعيّة سواء العقود من النّكاح وغيره والفسوخ ‪ ،‬ويستوي في ذلك الملك المرسلة ( أي‬ ‫الّتي لم يبيّن سبب ملكها من إرث أو شراء ) وغير المرسلة ‪.‬‬

‫واستدلّوا ‪ :‬بخبر ‪ « :‬إنّما أنا بشر ‪ ،‬وإنّكم تختصمون إليّ ‪ ،‬ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته‬

‫من بعض ‪ ،‬فأقضي له على نحو ما أسمع ‪ ،‬فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئا فل يأخذ منه‬

‫شيئا ‪ ،‬فإنّما أقطع له قطعةً من النّار » ‪.‬‬

‫وذهب أبو حنيفة إلى أنّ القضاء بشهادة الزّور ينفذ ظاهرا وباطنا في الفسوخ والعقود ‪ ،‬حيث‬

‫كان المحلّ قابلً ‪ ،‬والقاضي غير عالم ‪ ".‬لقول عليّ رضي ال عنه لمرأة أقام عليها رجل بيّنةً‬

‫على أنّه تزوّجها ‪ ،‬فأنكرت ‪ ،‬فقضى له عليّ ‪ .‬فقالت له ‪ :‬لم يتزوّجني ‪ ،‬فأمّا وقد قضيت عليّ‬

‫ل تفصيل هذا في مصطلح ‪:‬‬ ‫فجدّد نكاحي ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل أجدّد نكاحك ‪ ،‬الشّاهدان زوّجاك "‪ .‬ومح ّ‬ ‫( قضاء ) ( وشهادة ) ‪.‬‬

‫التّزوير في اليمان ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬الصل أنّ التّزوير في اليمين حرام ‪ ،‬وهي اليمين الغموس ‪ :‬وهي الّتي يكذب فيها‬

‫الحالف عامدا عالما عند الجمهور ‪ .‬وعند المالكيّة الّتي يكذب فيها الحالف عمدا ‪ ،‬أو يشكّ في‬

‫المحلوف عليه ‪ ،‬أو يظنّ منه ظنّا غير قويّ ‪.‬‬

‫وقد يكون تزوير اليمين جائزا أو واجبا ‪ -‬على الخلف بين الفقهاء ‪ -‬فيما إذا تعيّن تزوير‬

‫اليمين عند الكراه عليها أو الضطرار إليها ‪ ،‬لدفع الذى عن نفسه أو عن مظلوم ‪.‬‬ ‫وقد تقدّم تفصيل أحكام اليمين الغموس في مصطلح ‪ ( :‬أيمان ) ‪.‬‬

‫تضمين شهود الزّور ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬يضمن شهود الزّور ما ترتّب على شهادتهم من ضمان ‪ ،‬فإن كان المحكوم به مالً ردّ‬

‫إلى صاحبه ‪ ،‬وإن كان إتلفا فعلى الشّهود ضمانه ‪ ،‬لنّهم سبب إتلفه ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى وجوب القصاص على شهود الزّور ‪ ،‬إذا شهدوا على رجل بما‬

‫يوجب قتله ‪ ،‬كأن شهدوا عليه بقتل عمد عدوان ‪ ،‬أو بردّة ‪ ،‬أو بزنًى وهو محصن ‪ ،‬فقتل‬

‫بشهادتهما ‪ ،‬ث ّم رجعا ‪ ،‬وأقرّا بتعمّد قتله بتلك الشّهادة ‪ ،‬لعلمهما أنّه يقتل بشهادتهما ‪.‬‬

‫ن شهادتهما سبب القتل ‪ ،‬ول يجب‬ ‫فيجب القصاص عليهما لتعمّد القتل بتزوير الشّهادة ‪ ،‬ل ّ‬

‫القصاص بنفس التّزوير والكذب ‪.‬‬

‫وتجب عليهما الدّية المغلّظة إذا آل المر إليها بدل القصاص ‪.‬‬

‫وكذلك الحكم إذا شهدا زورا بما يوجب القطع قصاصا فقطع ‪ ،‬أو في سرقة لزمهما القطع ‪،‬‬ ‫وإذا سرى أثر القطع إلى النّفس فعليهما القصاص في النّفس ‪.‬‬

‫كما يجب القصاص على القاضي إذا قضى زورا بالقصاص ‪ ،‬وكان يعلم بكذب الشّهود ‪.‬‬ ‫ن الواجب هو الدّية ل القصاص ‪.‬‬ ‫وذهب المالكيّة والحنفيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬

‫ن القتل بشهادة الزّور قتل بالسّبب ‪ ،‬والقتل تسبّبا ل يساوي القتل مباشر ًة ‪ ،‬ولذا قصر أثره‬ ‫لّ‬

‫فوجبت به الدّية ل القصاص ‪ .‬ومحلّ وجوب القصاص أو الدّية إذا تبيّن كذب الشّهود ‪ ،‬أو‬

‫رجعوا عن شهادتهم بعد استيفاء القصاص ‪.‬‬

‫أمّا إذا رجعوا قبله وبعد الحكم فينقض الحكم ‪ ،‬ول غرم على الشّهود ‪ ،‬بل يعزّرون ‪.‬‬

‫ويجب حدّ القذف على شهود الزّور إذا شهدوا بالزّنى ‪ ،‬ويقام عليهم الحدّ سواء تبيّن كذبهم قبل‬ ‫الستيفاء أو بعده ‪ ،‬إلّ أنّه يجب عليهم القصاص مع حدّ القذف إذا شهدوا بالزّنى على‬

‫محصن ‪ ،‬فرجم بسبب شهادتهم ‪ .‬وللتّفصيل في أحكام القصاص والقذف ينظر مصطلح ( جناية‬ ‫‪ ،‬حدود ‪ ،‬قصاص ) وكذلك ( شهادة ) ( وقضاء ) ‪.‬‬

‫التّزوير بالفعال ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬يقع التّزوير في البيوع بإخفاء عيوب السّلعة وتزيينها وتحسينها ‪ ،‬لظهارها بشكل مقبول‬

‫ترغيبا فيها ‪ ،‬كتصرية الحيوان ليظنّ المشتري كثرة اللّبن ‪ ،‬أو صبغ المبيع بلون مرغوب‬

‫فيه ‪ ،‬وكالكذب في سعر السّلعة في بيوع المانات وهي ‪ :‬المرابحة والتّولية والحطيطة ‪ .‬ويقع‬

‫التّزوير كذلك بمحاكاة خطّ القاضي أو تزوير توقيعه أو شهادة الشّهود في سجلّات القضاء بما‬

‫يسلب الحقوق من أصحابها ‪.‬‬

‫كما يقع التّزوير في النّكاح بأن يكتم أحد الزّوجين عيبا فيه عن الخر ‪ .‬وقد يقع التّزوير بتسويد‬ ‫الشّعر بقصد التّغرير والكذب ‪ .‬وهذه النواع من التّزوير هي من التّزوير المحرّم ‪ ،‬وهي‬ ‫داخلة في عموم قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من غشّنا فليس منّا » ‪.‬‬

‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬تدليس ‪ ،‬تسويد ‪ ،‬بيع ‪ ،‬نكاح ‪ ،‬شهادة ‪ ،‬قضاء وعيب ) ‪.‬‬

‫التّزوير في النّقود والموازين والمكاييل ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬التّزوير فيها يكون بالنّقص من مقاديرها ‪ ،‬بغشّها أو تغيير أوزانها أو أحجامها ‪ ،‬كأن‬

‫تخلط دنانير الذّهب أو دراهم الفضّة بمعادن أخرى كالنّحاس والرّصاص ‪ ،‬رغبةً في نقص‬ ‫مقدار الذّهب أو الفضّة الخالصين ‪ ،‬أو بالنّقص من حجم الدّينار أو الدّرهم ‪.‬‬

‫أو أن ينقص من وزن الصّنج الّتي يستعملها في الموازين ‪ ،‬أو حجم المكيال ‪ ،‬رغب ًة في زيادة‬ ‫الرّبح وتقليل المبيع الموزون أو المكيل ‪.‬‬

‫طفّفِينَ اّلذِينَ‬ ‫ل لِ ْلمُ َ‬ ‫والتّزوير في النّقود والموازين والمكاييل محرّم داخل في قوله تعالى ‪َ { :‬و ْي ٌ‬ ‫سرُونَ } ‪.‬‬ ‫خِ‬ ‫ستَوفُونَ وَإذَا كَالُوهُ ْم أو وزَنُو ُهمْ ُي ْ‬ ‫إذا ا ْكتَالُوا على النّاسِ َي ْ‬

‫ن فيه إفسادا‬ ‫وداخل في عموم قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من غشّنا فليس منّا » كما أ ّ‬

‫للنّقود ‪ ،‬وإضرارا بذوي الحقوق ‪ ،‬وإغلء السعار ‪ ،‬والنّقص من الصّدقات ‪ ،‬وانقطاع ما‬

‫يجلب إلى البلد من حوائج النّاس ‪ .‬ولذلك كان من وظيفة المحتسب أن يتفقّد عيار المثاقيل‬

‫والصّنج ‪ ،‬وعليه أن يعيّر أوزانها ويختمها بختمه ‪ ،‬حتّى يأمن تزويرها وتغيير مقاديرها ‪ .‬كما‬

‫تدخل في وظيفته مراقبة مقادير دنانير الذّهب ودراهم الفضّة وزنا وحجما ‪.‬‬

‫ول يجوز للمام ضرب الدّراهم المغشوشة ‪ ،‬وحرمته في حقّ غير المام أشدّ ‪ ،‬لنّ الغشّ فيها‬

‫يخفى على النّاس فيكون الغرر بها أكبر ‪ .‬بخلف المام ‪ ،‬لنّ ما يضربه من دنانير ودراهم‬

‫يشهر ويعرف مقداره ‪.‬‬

‫كما ل يجوز لغير المام ضرب الدّنانير والدّراهم الخالصة غير المغشوشة ‪ ،‬لنّه ل يؤمن فيها‬ ‫الغشّ والفساد ‪.‬‬

‫صور التّزوير في المستندات وطرق التّحرّز منها ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬جاء في تبصرة الحكّام ‪ :‬ومثله في معين الحكّام ‪ :‬ينبغي للموثّق أن يتأمّل السماء الّتي‬

‫تنقلب بإصلح يسير ‪ ،‬فيتحفّظ في تغييرها ‪ ،‬نحو مظفر فإنّه ينقلب إلى مظهر ‪ ،‬ونحو بكر فإنّه‬ ‫ينقلب إلى بكير ‪ ،‬ونحو عائشة فإنّه يصلح عاتكة ‪ .‬وقد يكون آخرَ السّطر بياضا يمكن أن يزاد‬

‫فيه شيء آخر ‪ .‬وكذلك ينبغي أن يحذر من أن يتمّم عليه زيادة حرف من الكتاب مثل أن يكتب‬

‫في الوثيقة ‪ :‬أقرّ أنّ له عنده ألف درهم ‪ ،‬فإن لم يذكر عقب العدد بيان نصفه بأن يقول ‪:‬‬ ‫( الّذي نصفه خمسمائة مثلً ) أمكن زيادة ألف فتصير ( ألفا درهم ) ‪ .‬وفي التّنبيه لبن‬

‫المناصف ‪ :‬ول ينبغي أن ينصب لكتابة الوثائق إلّ العلماء العدول ‪ ،‬كما قال مالك رضي ال‬

‫تعالى عنه ‪ :‬ل يكتب الكتب بين النّاس إلّ عارف بها ‪ ،‬عدل في نفسه ‪ ،‬مأمون على ما يكتبه‬ ‫لقوله تعالى ‪َ { :‬و ْل َي ْكُتبْ بي َنكُمْ كَا ِتبٌ بِالعَدْلِ } وأمّا من ل يحسن وجوه الكتابة ‪ ،‬ول يقف على‬ ‫فقه الوثيقة ‪ ،‬فل ينبغي أن يمكّن من النتصاب لذلك ‪ ،‬لئلّ يفسد على النّاس كثيرا من‬

‫معاملتهم ‪ .‬وكذلك إن كان عالما بوجوه الكتابة إلّ أنّه متّهم في دينه ‪ ،‬فل ينبغي تمكينه من‬

‫ش ّر والفساد ‪،‬‬ ‫ن مثل هذا يعلّم النّاس وجوه ال ّ‬ ‫ذلك وإن كان ل يضع اسمه بشهادة فيما يكتب ‪ ،‬ل ّ‬

‫ويلهمهم تحريف المسائل لتوجّه الشهاد ‪ ،‬فكثيرا ما يأتي النّاس اليوم يستفتون في نوازل من‬ ‫المعاملت الرّبويّة والمشاركة الفاسدة والنكحة المفسوخة ونحو ذلك ممّا ل يجوز ‪ ،‬فإذا‬

‫صرفهم عن ذلك أهل الدّيانة أتوا إلى مثل هؤلء ‪ ،‬فحرّفوا ألفاظها ‪ ،‬وتحيّلوا لها بالعبارة الّتي‬ ‫ظاهرها الجواز ‪ ،‬وهي مشتملة على صريح الفساد ‪ ،‬فضلّوا وأضلّوا ‪ .‬وتمال كثير من النّاس‬

‫ي ُمنْقََلبٍ‬ ‫س َيعْلَمُ الّذِينَ ظََلمُوا َأ ّ‬ ‫على التّهاون بحدود السلم ‪ ،‬والتّلعب في طريق الحرام ‪َ { ،‬و َ‬

‫َينْقَِلبُونَ } ‪.‬‬

‫وجاء في " تبصرة الحكّام " أيضا ‪ ،‬وفي " العالي الرّتبة في أحكام الحسبة " لحمد بن موسى‬

‫ي فيما يتعلّق بالموثّق ممّا ل يخالف قواعد مذهب مالك رضي ال‬ ‫بن النّحويّ الدّمشقيّ الشّافع ّ‬

‫تعالى عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬فإذا فرغ الكاتب من كتابته استوعبه ( أي كتابته ) وقرأه وتميّز ألفاظه ‪،‬‬

‫وينبغي أن يميّز في خطّه بين السّبعة والتّسعة وإن كان فيه مائة درهم كتب بعدها ( واحدةً )‬

‫وينبغي أن يذكر نصفها ‪ ،‬فإن كانت ( أي الدّراهم ) ألفا كتب واحدا وذكر نصفه رفعا للّبس ‪،‬‬ ‫ل تصلّح الخمسة فتصير خمسين‬ ‫وإن كانت خمسة آلف زاد فيها ل ما تصيّرها ( آلف ) لئ ّ‬

‫ألفا ويحترز بذكر التّنصيف ممّا يمكن الزّيادة فيه كالخمسة عشر تصير خمسةً وعشرين ‪،‬‬

‫والسّبعين تسعين ‪ ،‬فإن لم يذكر الكاتب النّصف من المبلغ فينبغي للشّهود أن يذكروا المبلغ في‬

‫شكّ لو طرأ في الكتاب تغيير وتبديل ‪ ،‬وإن وقع في الكتاب إصلح‬ ‫ل يدخل عليهم ال ّ‬ ‫شهادتهم لئ ّ‬

‫وإلحاق نبّه عليه وعلى محلّه في الكتاب ‪ ،‬وينبغي له أن يكمل أسطر المكتوب جميعها لئلّ‬

‫يلحق في آخر السّطر ما يفسد بعض أحكام المكتوب أو يفسده كلّه ‪ ،‬فلو كان آخر سطر مثلً ‪.‬‬

‫( وجعل النّظر في الوقف المذكور ) وفي أوّل السّطر الّذي يليه ( لزيد ) وكان في آخر السّطر‬

‫فرجة أمكن أن يلحق فيها ( لنفسه ) ثمّ لزيد ‪ ،‬فيبطل الوقف وما أشبه ذلك ‪ ،‬فإن اتّفق أنّه بقي‬ ‫في آخر السّطر فرجة ل تسع الكلمة الّتي يريد كتابتها لطولها وكثرة حروفها ‪ ،‬فإنّه يسدّ تلك‬

‫الفرجة بتكراره تلك الكلمة الّتي وقف عليها أو كتب فيها صحّ ‪ ،‬أو صادّا ممدودةً ‪ ،‬أو دائرةً‬

‫مفتوحةً ‪ ،‬ونحو ذلك ممّا يشغل به تلك الفرجة ‪ ،‬ول يمكن إصلحها بما يخالف المكتوب ‪ .‬وإن‬

‫ترك فرجةً في السّطر الخير كتب فيها حسبي اللّه أو الحمد للّه ‪ ،‬مستحضرا لذكر اللّه ناويا له‬ ‫‪ ،‬أو يأمر أوّل شاهد يضع خطّه في المكتوب أن يكتب في تلك الفرجة ‪ .‬وإن كتب في ورقة‬

‫ل وصل ‪ ،‬وكتب عدد الوصال في آخر المكتوب ‪ ،‬وبعضهم‬ ‫ذات أوصال كتب علمته على ك ّ‬

‫يكتب عدد أسطر المكتوب ‪ ،‬وإن كان للمكتوب نسخ ذكرها وذكر عدّتها ‪ ،‬وأنّها متّفقة ‪ ،‬وهذا‬ ‫نبّه عليه ابن سهل وابن الهنديّ وغيرهما ‪.‬‬

‫ومثله في معين الحكّام أيضا وقال ‪ :‬إنّ ذلك ممّا ل يخالف قواعد أبي حنيفة رضي ال عنه ‪.‬‬ ‫وجاء في مجلّة الحكام العدليّة ( المادّة‬

‫‪1814‬‬

‫) ونصّها ‪:‬‬

‫يضع القاضي في المحكمة دفترا للسّجلّات ‪ ،‬ويقيّد ويحرّر في ذلك الدّفتر العلمات والسّندات‬

‫الّتي يعطيها بصورة منتظمة سالمة عن الحيلة والفساد ‪ ،‬ويعتني بالدّقّة بحفظ ذلك الدّفتر ‪ ،‬وإذا‬ ‫عزل سلّم السّجلّات المذكورة إلى خلفه ‪ ،‬إمّا بنفسه أو بواسطة أمينه ‪.‬‬

‫إثبات التّزوير ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬يثبت التّزوير بإقرار المزوّر على نفسه ‪ ،‬أو ظهور الكذب يقينا ‪ ،‬كأن يشهد بقتل رجل‬

‫وهو حيّ ‪ ،‬أو شهد على رجل أنّه فعل شيئا في وقت ‪ ،‬وقد مات قبل ذلك الوقت ‪ ،‬أو لم يولد‬ ‫إلّ بعده ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬أمّا التّزوير في الوثائق ‪ ،‬فذهب اللّخميّ من المالكيّة ‪ ،‬وأبو اللّيث من الحنفيّة ‪ :‬إلى أنّه إذا‬

‫ادّعى رجل على رجل بمال فجحده ‪ ،‬فأخرج المدّعي صحيف ًة مكتوبةً بخطّ المدّعى عليه ‪،‬‬

‫فأنكر المدّعى عليه ذلك ‪ ،‬وليس بينهما بيّنة ‪ ،‬فطلب المدّعي أن يجبر على أن يكتب بحضرة‬ ‫العدول ‪ ،‬ويقابل ما كتبه بما أظهره المدّعي ‪ ،‬فإنّه يجبر على الكتابة ‪ ،‬وعلى أن يطوّل فيما‬

‫يكتب تطويلً ل يمكن معه أن يستعمل خطّا غير خطّه ‪ ،‬فإن ظهر بين الخطّين تشابه ظاهر‬ ‫دالّ على أنّهما خطّ كاتب واحد ‪ ،‬فإنّه حجّة يقضي بها ‪.‬‬

‫وقال أبو اللّيث ‪ :‬وبه قال أئمّة بخارى ‪ .‬وقال عبد الحميد الصّائغ من المالكيّة ‪ :‬إنّه ل يجبر‬ ‫عليه ‪ ،‬كما ل يجبر على إحضار بيّنة تشهد عليه ‪.‬‬

‫وفرّق اللّخميّ بين إلزامه بالكتابة وعدم إلزامه بإحضار الشّهادة عليه بأنّ المدّعى عليه يقطع‬

‫بتكذيب البيّنة الّتي تشهد عليه ‪ ،‬فل ينبغي أن يسعى في أمر يقطع ببطلنه ‪ ،‬أمّا خطّه فإنّه‬

‫صادر منه بإقراره ‪ ،‬والعدول يقابلون بما يكتبه الن بما أحضره المدّعي ‪ ،‬ويشهدون بموافقته‬ ‫أو مخالفته ‪ .‬كما نقل صاحب المحيط عن محمّد بن الحسن أنّه نصّ أنّ ذلك ل يكون حجّةً ‪،‬‬

‫ي هذا‬ ‫لنّها ل تكون أعلى حالً ممّا لو أقرّ فقال ‪ :‬هذا خطّي ‪ ،‬وأنا كتبته ‪ ،‬غير أنّه ليس له عل ّ‬

‫المال ‪ ،‬كان القول قوله ول شيء عليه ‪.‬‬

‫عقوبة التّزوير ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬عقوبة التّزوير ‪ :‬التّعزير بما يراه الحاكم ‪ .‬كأيّ جريمة ليس لها عقوبة مقدّرة ‪ ،‬إن علم‬

‫أنّه تعمّد التّزوير ‪ ،‬فيعزّر بما يراه الحاكم من تشهير أو ضرب أو حبس ‪ ،‬أو كشف رأسه‬ ‫وإهانته ‪ ،‬إلى غير ذلك ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬شهادة ‪ ،‬تعزير ‪ ،‬تشهير ) ‪.‬‬

‫تزيين *‬

‫انظر ‪ :‬تزيّن ‪.‬‬

‫تزيّن *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬التّزيّن هو ‪ :‬اتّخاذ الزّينة ‪ ،‬وهي في اللّغة ‪ :‬اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به ‪ ،‬من باب‬

‫إطلق اسم المصدر وإرادة المفعول ‪.‬‬

‫ظ َهرَ ِمنْها } معناه ل يبدين الزّينة الباطنة‬ ‫ن زِي َن َتهُنّ إلّ ما َ‬ ‫وفي قوله عزّ وجلّ ‪ { :‬وَل ُيبْدِي َ‬ ‫كالقلدة والخلخال والدّملج والسّوار ‪ ،‬والّذي يظهر هو الثّياب وزينة الوجه ‪.‬‬ ‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬

‫التّحسّن ‪ ،‬والتّحلّي ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّحسّن من الحسن ‪ ،‬نقيض القبح ‪ .‬ومعناه في اللّغة ‪ :‬التّزيّن ‪ .‬يقال ‪ :‬حسّن الشّيء‬

‫تحسينا زيّنه ‪ ،‬قال الرّاغب الصفهانيّ ‪ :‬الحسن أكثر ما يقال في تعارف العامّة في المستحسن‬ ‫بالبصر ‪ ،‬وأكثر ما جاء في القرآن الكريم في المستحسن من جهة البصيرة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬والتّحلية في اللّغة ‪ :‬لبس الحليّ ‪ ،‬يقال ‪ :‬تحلّت المرأة ‪ :‬لبست الحليّ أو اتّخذته ‪ ،‬وحلّيتها‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬والتّزيّن والتّجمّل والتّحسّن تكاد تكون متقاربة المعاني ‪ ،‬وكلّها أعمّ من التّحلية لتناولها ما‬

‫‪ -‬بالتّشديد ‪ -‬ألبستها الحليّ أو اتّخذته لها لتلبسه ‪.‬‬

‫ليس حليةً ‪ ،‬كالكتحال وتسريح الشّعر والختضاب ونحوها ‪.‬‬

‫وقد فرّق بعضهم بين التّحسّن والتّجمّل ‪ ،‬بأنّ التّحسّن من الحسن ‪ ،‬وهو في الصل الصّورة ‪،‬‬

‫ثمّ استعمل في الخلق والفعال ‪ .‬والتّجمّل من الجمال ‪ ،‬وهو في الصل للفعال والخلق‬ ‫والحوال الظّاهرة ‪ ،‬ثمّ استعمل في الصّور ‪.‬‬

‫أمّا الفرق بين كلّ من التّحسّن والتّجمّل ‪ ،‬وبين التّزيّن ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنّ التّزيّن يكون بالزّيادة‬ ‫سمَاءَ ال ّدنْيا ِب َمصَابِيحَ } ‪.‬‬ ‫المنفصلة عن الصل ‪ ،‬قال تعالى ‪َ { :‬و َزيّنّا ال ّ‬

‫وقال القرطبيّ ‪ :‬الزّينة المكتسبة ما تحاول المرأة أن تحسّن نفسها به ‪ ،‬كالثّياب والحليّ والكحل‬ ‫سجِدٍ } ‪.‬‬ ‫ع ْندَ ُكلّ َم ْ‬ ‫والخضاب ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬خُذُوا زِي َن َتكُمْ ِ‬

‫ل من التّحسّن والتّجمّل فيكون بزيادة متّصلة بالصل أو نقصان فيه ‪ ،‬كما تفيده الية‬ ‫أمّا ك ّ‬ ‫ص َو َر ُكمْ } ‪.‬‬ ‫الكريمة ‪ { :‬وَصَ ّو َر ُكمْ َفَأحْسَنَ ُ‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫ج ِل ِعبَادِه‬ ‫خرَ َ‬ ‫ح ّرمَ زِينَةَ اللّهِ الّتي َأ ْ‬ ‫‪ -‬الصل في التّزيّن ‪ :‬الستحباب ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ مَنْ َ‬

‫ن اللّه يحبّ‬ ‫ن أنعمَ اللّه عليه نعمةً ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ت مِن الرّزقِ } وقوله صلى ال عليه وسلم « مَ ْ‬ ‫ط ّيبَا ِ‬ ‫وَال ّ‬

‫أن يَرَى َأ َثرَ نعمته عليه » ‪.‬‬

‫ففي هذه الية دللة على استحباب لبس الرّفيع من الثّياب ‪ ،‬والتّجمّل بها في الجمع والعياد‬

‫وعند لقاء النّاس وزيارة الخوان ‪ .‬قال أبو العالية ‪ :‬كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا ‪ .‬وقد‬

‫روى مكحول عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلى ال‬

‫عليه وسلم ينتظرونه على الباب ‪ ،‬فخرج يريدهم ‪ ،‬وفي الدّار ركوة فيها ماء ‪ ،‬فجعل ينظر في‬

‫الماء ويسوّي لحيته وشعره ‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ .‬وأنت تفعل هذا ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬إذا خرج‬

‫الرّجل إلى إخوانه فليهيّئ من نفسه ‪ ،‬فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » ‪.‬‬

‫والحاديث في هذا المعنى كثيرة تدلّ كلّها على مشروعيّة التّزيّن وتحسين الهيئة ‪.‬‬

‫‪ -6‬وينبغي ألّ يقصد بالتّزيّن التّكبّر ول الخيلء ‪ ،‬لنّ قصد ذلك حرام ‪.‬‬

‫قال ابن عابدين في حاشيته ما نصّه ‪ :‬اعلم أنّه ل تلزم بين قصد الجمال وقصد الزّينة ‪،‬‬

‫فالقصد الوّل ‪ :‬لدفع الشّين وإقامة ما به الوقار وإظهار النّعمة ‪ ،‬شكرا ل فخرا ‪ ،‬وهو أثر أدب‬ ‫النّفس وشهامتها ‪.‬‬

‫سنّة ولم يكن لقصد‬ ‫وأمّا الثّاني ‪ :‬وهو قصد الزّينة أثر ضعفها ‪ ،‬وقالوا بالخضاب وردت ال ّ‬

‫الزّينة ‪ .‬ثمّ بعد ذلك إن حصلت زينة فقد حصلت في ضمن قصد مطلوب فل يضرّه إذا لم يكن‬

‫ملتفتا إليه ‪ .‬ولهذا قال في الولوالجيّة ‪ :‬لبس الثّياب الجميلة مباح إذا كان ل يتكبّر ‪ ،‬لنّ التّكبّر‬

‫حرام ‪ ،‬وتفسيره أن يكون معها كما كان قبلها ‪.‬‬

‫‪ -7‬هذا ‪ ،‬وقد تعرض للتّزيّن أحكام تكليفيّة أخرى ‪ ،‬فمنه ما هو واجب ‪ ،‬وما هو مكروه ‪ ،‬وما‬

‫هو حرام ‪.‬‬

‫ومن أمثلة ما هو واجب ‪ :‬ستر العورة ‪ ،‬وتزيّن الزّوجة لزوجها متى طلب منها ذلك ‪.‬‬

‫ومن أمثلة ما هو مستحبّ ‪ :‬تزيّن الرّجل للجمعة والعيدين ‪ ،‬وخضاب الشّيب للرّجل والمرأة ‪.‬‬ ‫( ر ‪ :‬اختضاب ) ‪ .‬ومن أمثلة ما هو مكروه ‪ :‬لبس المعصفر والمزعفر للرّجال ‪.‬‬

‫ومن أمثلة ما هو حرام ‪ :‬تشبّه الرّجال بالنّساء والعكس في التّزيّن ‪ ،‬وتزيّن الرّجل بالذّهب‬

‫ولبسه الحرير إلّ لعارض ‪ .‬وتزيّن معتدّة الوفاة ‪ .‬وتزيّن المحرم بما أمر باجتنابه كالطّيب ‪.‬‬

‫وتزيّن المرأة لغير زوجها ‪ ،‬وهذا في الجملة وتفصيلها في مواضعها ‪.‬‬

‫ما يكون به التّزيّن ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬لكلّ شخص زينته الّتي يتزيّن بها ‪ ،‬فمثلً زينة الزّوجة لزوجها في ملبسها وحليّها‬

‫وطيبها ‪ ،‬وزينة الرّجل يوم الجمعة والعيدين أن يلبس أحسن ثيابه ‪ ،‬ويفضّل البياض منها ‪،‬‬

‫ويتطيّب ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪ -‬ويحرم على الرّجل التّزيّن بالحرير ‪ ،‬والتّحلّي بالذّهب ‪ ،‬لما روي « أنّه صلى ال عليه‬

‫وسلم أخذ في يمينه قطعة حرير وفي شماله قطعة ذهب ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذان حرام على ذكور أمّتي‬

‫» ولما روي عن عمر بن الخطّاب رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫وسلم ‪ « :‬ل تَ ْل ِبسُوا الحرير ‪ ،‬فإنّ من َلبِسه في الدّنيا لم يلبسه في الخرة » ولما في ذلك‬

‫بالنّسبة للرّجل من معنى الخيلء والرّفاهية ممّا ل يليق بالرّجال ‪ ،‬وهذا ما قاله الفقهاء ‪ .‬وذهب‬ ‫الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه يكره للرّجل لبس المعصفر والمزعفر ‪ ،‬وقال عبد اللّه بن‬ ‫عمرو رضي ال عنهما ‪ « :‬رأى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال ‪ :‬إنّ‬

‫هذا من ثياب الكفّار فل تلبسهما » ويحرم عند بعض الشّافعيّة المزعفر دون المعصفر ‪ .‬وفي‬ ‫قول آخر ‪ :‬عندهم يحرم المعصفر كذلك ‪.‬‬

‫وعند الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬يكره لوليّ الصّغير إلباسه الذّهب والحرير ‪ ،‬وأجازوا إلباسه الفضّة‬

‫على المعتمد ‪ .‬وللشّافعيّة والحنابلة في ذلك قولن ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬الجواز ‪ .‬والثّاني ‪ :‬المنع ‪ ،‬لعموم قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الحرير‬ ‫حلّ لناثهم » ‪.‬‬ ‫والذّهب حرام على ذكور أمّتي ‪ ،‬و ِ‬

‫وجاز للمرأة التّزيّن بالملبوس ‪ ،‬ذهبا أو فضّةً أو محلّى بهما أو حريرا ‪ ،‬أو ما يجري مجرى‬

‫ل وقبقابا ‪ ،‬وتفصيله في بحث ‪ ( :‬ألبسة ) ‪.‬‬ ‫اللّباس من زرّ وفرش ومساند ‪ ،‬ولو نع ً‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّه يحرم على الرّجال أن يتشبّهوا بالنّساء في الحركات ولين‬

‫ن عادةً أو طبعا ‪ .‬وأنّه يحرم على‬ ‫الكلم والزّي نة واللّباس وغ ير ذلك من المور الخا صّة به ّ‬ ‫النّساء أيضا أن يتشبّهن بالرّجال في مثل ذلك ‪ ،‬لحديث ابن عبّاس رضي ال عنهما ‪:‬‬

‫« لعن رسول اللّه المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ‪ ،‬والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » ‪.‬‬

‫ن في جنسه وهيئته‬ ‫وضبط ابن دقيق العيد ما يحرم التّشبّه بهنّ فيه ‪ :‬بأنّه ما كان مخصوصا به ّ‬ ‫أو غالبا في زيّهنّ ‪ ،‬وكذا يقال عكسه ‪ ( .‬ر ‪ :‬تشبّه ) ‪.‬‬

‫التّزيّن في المناسبات ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫ب التّزيّن عند الفقهاء للجمع والعياد ‪ ،‬وعند لقاء النّاس وتزاور الخوان ‪ .‬وذلك‬ ‫‪ -‬يستح ّ‬

‫بلبس أحسن الثّياب والتّطيّب ‪ ،‬وكذلك التّنظيف بحلق الشّعر وقلم الظّفر والسّواك والغتسال‬ ‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر‬ ‫أيّام العيد والجمعة ‪ ،‬لما روي { أ ّ‬

‫والضحى } وروي أيضا { أنّه صلى ال عليه وسلم قال في جمعة من الجمع إنّ هذا يوم جعله‬

‫اللّه عيدا للمسلمين ‪ ،‬فاغتسلوا ‪ ،‬ومن كان عنده طيب فل يضرّه أن يمسّ منه ‪ ،‬وعليكم‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يعتمّ ‪ ،‬ويلبس برده‬ ‫بالسّواك } وروى جابر رضي ال عنه { أ ّ‬ ‫الحمر في العيدين والجمعة } ‪ .‬وقد روى مكحول « عن عائشة قالت ‪ :‬كان نفر من أصحاب‬

‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم وفي الدّار ركوة فيها ماء‬ ‫فجعل ينظر في الماء ويسوّي لحيته وشعره ‪ ،‬فقلت يا رسول اللّه وأنت تفعل هذا ؟ قال نعم ‪،‬‬ ‫إذا خرج الرّجل إلى إخوانه فليهيّئ من نفسه فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » ( ر ‪ :‬تحسين ف‬

‫‪-‬‬

‫‪10‬‬

‫‪7‬‬

‫) ‪ .‬وهذا كلّه بالنّسبة للرّجال ‪ ،‬والمام بذلك أحقّ لنّه المنظور إليه من بينهم ‪ .‬والتّفصيل‬

‫ينظر في بحثي ‪ ( :‬جمعة وعيد ) ‪.‬‬

‫التّزيّن للصّلة ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫ب التّزيّن للصّلة خشوعا للّه واستحضارا لعظمته ‪ ،‬ل تكبّرا وخيلء ‪ ،‬فإنّه حرام ‪.‬‬ ‫‪ -‬يستح ّ‬

‫والمستحبّ للرّجل أن يصلّي في ثوبين أو أكثر ‪ ،‬فإن لم يجد إلّ واحدا يتوشّح به جاز ‪ ،‬لحديث‬

‫‪ « :‬إذا صلّى أحدكم فليلبس ثوبيه فإنّ اللّه أحقّ من تزيّن له » ‪.‬‬

‫قال ابن قدامة في بيان الفضيلة في لباس الصّلة ‪ :‬وهو أن يصلّي في ثوبين أو أكثر ‪ ،‬فإنّه إذا‬

‫أبلغ في السّتر ‪ ،‬يروى عن عمر رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬إذا أوسع اللّه فأوسعوا ‪ ،‬جمع رجل‬

‫عليه ثيابه ‪ ،‬وصلّى رجل في إزار وبرد ‪ ،‬أو في إزار وقميص ‪ .‬في إزار وقباء ‪ ،‬في سراويل‬

‫ورداء ‪ ،‬في سراويل وقميص ‪ ،‬في سراويل وقباء ‪ ،‬في تبّان وقميص ‪ .‬وروى أبو داود عن‬ ‫عمر رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أو قال عمر ‪ « :‬إذا كان‬

‫لحدكم ثوبان فليصلّ فيهما ‪ ،‬فإن لم يكن إلّ ثوب واحد فَ ْل َيتّزر به ‪ ،‬ول يشتمل اشتمال اليهود‬

‫» ‪ .‬قال التّميميّ ‪ :‬الثّوب الواحد يجزئ ‪ ،‬والثّوبان أحسن ‪ ،‬والربع أكمل ‪ :‬قميص وسراويل‬ ‫وعمامة وإزار ‪ .‬وروى ابن عبد البرّ عن عمر رضي ال عنه ‪ ":‬أنّه رأى نافعا يصلّي في‬

‫ت تذهب‬ ‫ت في الدّار ‪ ،‬أكن َ‬ ‫ثوب واحد ‪ ،‬قال ‪ :‬ألم تكتس ثوبين ‪ :‬قلت ‪ :‬بلى ‪ .‬قال ‪ :‬فلو أُرسل َ‬ ‫في ثوب واحد ؟ قلت ل ‪.‬قال ‪ :‬فاللّه أحقّ أن ُيزّيّنَ له أو النّاس ؟ قلت ‪ :‬بل اللّه"‪ .‬وقال‬

‫القاضي ‪ :‬ذلك في المام آكد منه في غيره ‪ ،‬لنّه بين يدي المأمومين ‪ ،‬وتتعلّق صلتهم‬

‫بصلته ‪ .‬فإن لم يكن إلّ ثوب واحد فالقميص ‪ ،‬لنّه أعمّ في السّتر ‪ ،‬فإنّه يستر جميع الجسد‬

‫إلّ الرّأس والرّجلين ‪ ،‬ثمّ الرّداء ‪ ،‬لنّه يليه في السّتر ‪ ،‬ثمّ المئزر ‪ ،‬ثمّ السّراويل ‪ .‬ول يجزئ‬

‫من ذلك كلّه إلّ ما ستر العورة عن غيره وعن نفسه ‪ .‬والتّفصيل في بحث ( ألبسة ) ‪.‬‬

‫التّزيّن في الحرام ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫حرِمة أن تلبس ما أحبّت من ألوان الثّياب والحليّ ‪ ،‬إلّ أنّ في لبسها‬ ‫‪ -‬يجوز للمرأة الم ْ‬

‫القفّازين والخلخال خلفا بين الفقهاء ‪ .‬فرخّص فيه عليّ وعائشة رضي ال عنهما ‪ ،‬وبه قال‬

‫ي وأبو حنيفة ‪ ،‬وهو أحد قولي الشّافعيّ ‪ .‬ومنعه ابن عمر رضي ال عنهما ‪ ،‬وبه قال‬ ‫الثّور ّ‬

‫طاوس ومجاهد والنّخعيّ ومالك وأحمد ‪ ،‬وهو القول الخر للشّافعيّ ‪.‬‬

‫وحمل بعضهم كلم أحمد في منع الخلخال على الكراهة ‪ .‬ويحرم لبس المخيط اتّفاقا للرّجال ‪.‬‬ ‫ول يجوز التّزيّن بالتّطيّب والحلق أو التّقصير وتقليم الظفار ونحوها أثناء الحرام مطلقا ‪،‬‬

‫سواء أكان المحرم رجلً أم امرأةً ‪ .‬ويسنّ التّطيّب في البدن استعدادا للحرام عند جمهور‬ ‫الفقهاء ‪ .‬أمّا التّطيّب في الثّوب قبل الحرام فمنعه الجمهور ‪ ،‬وأجازه الشّافعيّة في المعتمد‬ ‫عندهم ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬إحرام ‪ ،‬وتحلية ) ‪.‬‬

‫التّزيّن في العتكاف ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬يجوز للمعتكف عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة التّزيّن بالتّطيّب ولبس الثّياب الحسنة‬

‫ص الشّارب داخل‬ ‫وأخذ الظّفر والشّارب ونحوه ‪ ،‬لكنّ المالكيّة صرّحوا بكراهة قلم الظفار وق ّ‬

‫المسجد ‪ ،‬كما قالوا بكراهة حلق رأسه مطلقا إلّ أن يتضرّر ‪.‬‬

‫ويستحبّ عند الحنابلة أن يترك المعتكف لبس رفيع الثّياب ‪ ،‬والتّلذّذ بما يباح له قبل العتكاف‬ ‫‪ .‬ويكره له أن يتطيّب ‪ ،‬لكن ل بأس بأخذ شعره وأظفاره عندهم ‪ ( .‬ر ‪ :‬اعتكاف )‪.‬‬

‫تزيّن كلّ من الزّوجين للخر ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫ب لكلّ من الزّوجين أن يتزيّن للخر ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَعَاشِرُوهُنّ بِال َم ْعرُوفِ }‬ ‫‪ -‬يستح ّ‬

‫ن بِال َم ْعرُوفِ } فالمعاشرة بالمعروف حقّ لكلّ منهما على‬ ‫وقوله تعالى ‪ { :‬وََلهُنّ ِم ْثلُ اّل ِذيْ عَلَيهِ ّ‬

‫الخر ‪ ،‬ومن المعروف أن يتزيّن كلّ منهما للخر ‪ ،‬فكما يحبّ الزّوج أن تتزيّن له زوجته ‪،‬‬ ‫ب أن يتزيّن لها ‪.‬‬ ‫كذلك الحال بالنّسبة لها تح ّ‬

‫قال أبو زيد ‪ :‬تتّقون اللّه فيهنّ ‪ ،‬كما عليهنّ أن يتّقين اللّه فيكم ‪.‬‬

‫وقال ابن عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬إنّي لحبّ أن أتزيّن للمرأة ‪ ،‬كما أحبّ أن تتزيّن لي ‪ ،‬لنّ‬

‫ن بِال َم ْعرُوفِ } ‪ ،‬وحقّ الزّوج عليها أعظم درج ًة من‬ ‫ن ِم ْثلُ الّذي عَليهِ ّ‬ ‫اللّه تعالى يقول ‪َ { :‬وَلهُ ّ‬ ‫حقّها ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وللرجالِ عليهنّ درجةٌ } ‪.‬‬

‫وكان محمّد بن الحسن يلبس الثّياب النّفيسة ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إنّ لي نسا ًء وجواري ‪ ،‬فأزيّن نفسي كي‬ ‫ل ينظرن إلى غيري ‪.‬‬

‫وقال أبو يوسف ‪ :‬يعجبني أن تتزيّن لي امرأتي ‪ ،‬كما يعجبها أن أتزيّن لها ‪.‬‬

‫ومن الزّينة في هذا المقام ‪ :‬أنّه إن نبت شعر غليظ للمرأة في وجهها ‪ ،‬كشعر الشّارب‬

‫ل تتشبّه بالرّجال ‪ ،‬فقد روت امرأة بن أبي الصّقر ‪ -‬وهي العالية‬ ‫واللّحية ‪ ،‬فيجب عليها نتفه لئ ّ‬

‫بنت أيفع ‪ -‬رضي ال عنها ‪ ،‬أنّها كانت عند عائشة رضي ال عنها فسألتها امرأة فقالت ‪ :‬يا أمّ‬ ‫المؤمنين إنّ في وجهي شعرات أفأنتفهنّ ‪ :‬أتزيّن بذلك لزوجي ؟ فقالت عائشة ‪ ":‬أميطي عنك‬

‫الذى ‪ ،‬وتصنّعي لزوجك كما تصنعين للزّيارة ‪ ،‬وإن أمرك فأطيعيه ‪ ،‬وإن أقسم عليك فأبرّيه ‪،‬‬ ‫ول تأذني في بيته لمن يكره "‪.‬‬

‫وإن نبت في غير أماكنه في وجه الرّجل فله إزالته ‪ ،‬حتّى أجاز الحنفيّة للرّجل الخذ من‬

‫الحاجبين إذا فحشا ‪ .‬فإذا أمر الزّوج زوجته بالتّزيّن له كان التّزيّن واجبا عليها ‪ ،‬لنّه حقّه ‪،‬‬ ‫ن طاعة الزّوج في المعروف واجبة على الزّوجة ‪.‬‬ ‫ول ّ‬

‫تأديب الرّجل زوجته لترك الزّينة ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬من حقوق الزّوج على زوجته أن تتزيّن له بالملبس والطّيب ‪ ،‬وأن تحسّن هيئتها وغير‬

‫ذلك ‪ ،‬ممّا يرغّبه فيها ويدعوه إليها ‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬خير النّساء الّتي تسرّه إذا نظر ‪ ،‬وتطيعه إذا أمر ‪ ،‬ول تخالفه فيما‬

‫يكره في نفسها وماله » فإن أمر الزّوج زوجته بالتّزيّن فلم تتزيّن له كان له حقّ تأديبها ‪ ،‬لنّ‬

‫ضهُمْ عَلَى َبعْضٍ وَ ِبمَا‬ ‫الزّينة حقّه ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬ال ّرجَالُ قَوّامُونَ عَلى ال ّنسَاءِ ِبمَا َفضّلَ اللّهُ َب ْع َ‬ ‫ح ِفظَ اللّهُ وَاللّاتِي َتخَافُونَ ُنشُو َزهُنّ‬ ‫َأ ْن َفقُوا مِنْ َأمْوَالِهمْ ‪ ،‬فَالصّاِلحَاتُ قَا ِنتَاتٌ حَا ِفظَاتٌ لِلغَيبِ ِبمَا َ‬

‫ن اللّهَ كانَ‬ ‫سبِيلً إ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ض ِربُوهُنّ فَإنْ َأطَ ْع َن ُكمْ فَل َت ْبغُوا عَلَيه ّ‬ ‫جرُوهُنّ فِي ال َمضَاجِعِ وَا ْ‬ ‫َفعِظُوهُنّ وَا ْه ُ‬

‫عَِليّا َكبِيرا } ‪.‬‬

‫تزيّن المعتدّة ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬المعتدّة للوفاة ل يجوز لها التّزيّن اتّفاقا لوجوب الحداد عليها لقوله تعالى ‪ { :‬وَاّلذِينَ‬

‫ُيتَوَفّوْنَ ِمنْك ْم وَيَ َذرُونَ َأزْوَاجَا َي َت َربّصْنَ ِبَأنْفسِهنّ أَ ْربَعةَ َأشْهرٍ وَعشرَا } ولقوله صلى ال عليه‬ ‫ث ‪ ،‬إلّ على‬ ‫ن ُتحِ ّد على مّيتٍ فوقَ ثل ٍ‬ ‫حلّ لمرأ ٍة تُ ْؤمِنُ باللّه واليوم الخر أ ْ‬ ‫وسلم ‪ « :‬ل َي ِ‬

‫زوجِها فإنّها تحدّ عليه أربعةَ أشهر وعشرا » ‪.‬‬

‫وكذلك المعتدّة للطّلق البائن عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو القول القديم للشّافعيّ ‪ :‬ل يجوز لها التّزيّن ‪،‬‬

‫حدادا وأسفا على فوت نعمة النّكاح الّذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنتها ‪ ،‬ولحرمة خطبتها ‪،‬‬ ‫وعدم مشروعيّة الرّجعة ‪.‬‬

‫ويستحبّ لها الحداد وترك الزّينة عند المالكيّة ‪ ،‬وهو الظهر في الجديد عند الشّافعيّة ‪ ،‬ويباح‬ ‫لها الزّينة عند الحنابلة ‪.‬‬

‫وأمّا المطلّقة الرّجعيّة فلها أن تتزيّن ‪ ،‬لنّها حلل للزّوج لقيام نكاحها ‪ ،‬والرّجعة مستحبّة‬ ‫والتّزيّن حامل عليها ‪ ،‬فيكون مشروعا ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪.‬‬

‫أمّا الشّافعيّة ‪ :‬فقد روى أبو ثور عن الشّافعيّ رحمهما ال أنّه يستحبّ لها الحداد ‪ ،‬وحيث كان‬ ‫ب لها التّزيّن ‪ .‬ومنهم من قال ‪ :‬الولى أن تتزيّن ممّا يدعو الزّوج إلى رجعتها‬ ‫كذلك فل يستح ّ‬ ‫‪ .‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬إحداد ‪ ،‬عدّة ) ‪.‬‬

‫الجراحة لجل التّزيّن ‪:‬‬ ‫أوّلً ‪ -‬تثقيب الذن ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬جمهور الفقهاء على أنّ تثقيب أذن الصّغيرة لتعليق القرط جائز ‪ ،‬فقد كان النّاس يفعلونه‬

‫في زمن النّبيّ صلى ال عليه وسلم من غير إنكار ‪ ،‬فعن ابن عبّاس رضي ال عنهما « أنّ‬

‫صلّ قبلهما ول بعدهما ‪ ،‬ثمّ أتى النّساء‬ ‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم صلّى يوم العيد ركعتين ‪ ،‬لم ُي َ‬ ‫‪ -‬ومعه بلل ‪ -‬فأمرهنّ بالصّدقة ‪ ،‬فجعلت المرأة تُلْقي قرطها » ‪.‬‬

‫ونقل عميرة عن الغزاليّ الحرمة ‪ ،‬لنّه جرح لم تدع إليه ضرورة إلّ أن يثبت فيه شيء من‬

‫جهة الشّرع ‪ ،‬ولم يبلغنا ذلك ‪ .‬قال عميرة ‪ :‬واعترض بحديث أمّ زرع الّذي فيه ‪ « :‬وأناس‬ ‫من حليّ أذنيّ » لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬كنت لك كأبي زرع لمّ زرع » ‪.‬‬ ‫واتّفقوا على كراهة ذلك في الصّبيّ ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ -‬الوشم والوشر ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬ومن أنواع الجراحة أيضا من أجل التّزيّن ‪ :‬ما اعتاده بعض النّاس من الوشم والوشر‬

‫الواردين في حديث ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫« لعن اللّه الواشمات ‪ ،‬والمستوشمات والنّامصات والمتنمّصات ‪ ،‬والمتفلّجات للحسن المغيّرات‬ ‫خلق اللّه » ‪ ،‬وفي رواية ‪ « :‬نهى عن الواشرة » ‪.‬‬

‫قال القرطـبيّ ‪ :‬هذه المور محرّمـة ‪ ،‬نصـّت الحاديـث على لعـن فاعلهـا ‪ ،‬ولنّهـا مـن باب‬ ‫التّدليس ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من باب تغيير خلق اللّه تعالى ‪.‬‬

‫ن خَ ْلقَ اللّهِ } ‪.‬‬ ‫ل ُم َرنّهم فََل ُي َغيّرُ ّ‬ ‫ففي الية ‪َ { :‬و َ‬

‫قال ابن عابدين ‪ :‬النّهي عن النّمص أي نتف الشّعر محمول على ما إذا فعلته لتتزيّن للجانب ‪،‬‬ ‫وإلّ فلو كان في وجهها شعر ينفر زوجها بسببه ‪ ،‬ففي تحريم إزالته بُعد ‪ ،‬لنّ الزّينة للنّساء‬

‫مطلوبة ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فل تحرم إزالته ‪ ،‬بل تستحبّ ‪.‬‬ ‫ول بأس بأخذ الحاجبين وشعر وجهه ما لم يشبه المخنّث ‪.‬‬

‫وصرّح المالكيّة بأنّه ل بأس بإزالة شعر الجسد في حقّ الرّجال ‪ ،‬أمّا النّساء فيجب عليهنّ‬ ‫إزالة ما في إزالته جمال لها ‪ -‬ولو شعر اللّحية إن لها لحية ‪ -‬وإبقاء ما في بقائه جمال ‪.‬‬ ‫والوجوب قول الشّافعيّة أيضا إذا أمرها الزّوج ‪.‬‬

‫قال ابن قدامة ‪ :‬وأمّا حفّ الوجه فقال مهنّا ‪ :‬سألت أبا عبد اللّه عن الحفّ ؟ فقال ‪ :‬ليس به‬ ‫بأس للنّساء ‪ ،‬وأكرهه للرّجال ‪ .‬وللتّفصيل ‪ ( :‬ر ‪ :‬تحسين ) ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ -‬قطع العضاء الزّائدة ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬يجوز قطع أصبع زائدة ‪ ،‬أو شيء آخر كسنّ زائدة إن لم يكن الغالب منه الهلك عند‬

‫ن من خلق بإصبع زائدة أو عضو زائد ل يجوز له‬ ‫الحنفيّة ‪ .‬ونقل القرطبيّ عن عياض ‪ :‬أ ّ‬ ‫قطعه ول نزعه ‪ ،‬لنّه من تغيير خلق اللّه ‪.‬‬

‫وقال ابن حجر في الفتح نقلً عن الطّبريّ ‪ :‬ل يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها الّتي خلقها‬

‫اللّه عليها بزيادة أو نقص التماسا للحسن ‪ ،‬ل للزّوج ول لغيره ‪ ،‬كمن تكون مقرونة‬

‫الحاجبين ‪ ،‬فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه ‪ ،‬ومن تكون لها سنّ زائدة فتقلعها ‪ ،‬أو طويلة‬ ‫فتقطع منها ‪ ،‬أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنّتف ‪ ،‬ومن يكون شعرها قصيرا أو حقيرا‬ ‫فتطوّله أو تغزره بشعر غيرها ‪ ،‬فكلّ ذلك داخل في النّهي وهو من تغيير خلق اللّه تعالى ‪.‬‬

‫ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضّرر والذيّة ‪ ،‬كمن يكون لها سنّ زائدة أو طويلة تعيقها عن‬ ‫الكل ‪ ،‬أو أصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها ‪ ،‬فيجوز ذلك ‪ ،‬والرّجل في هذا الخير كالمرأة ‪.‬‬

‫تزيين البيوت والفنية ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬تزيين البيوت والفنية ‪ -‬بتنظيفها وترتيبها ‪ -‬مطلوب شرعا ‪ ،‬لما روي عن النّبيّ صلى‬

‫طيّب نظيف يحبّ النّظافة »‬ ‫ن اللّه طيّب يحبّ ال ّ‬ ‫ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إ ّ‬

‫ويجوز تزيين البيوت بالدّيباج ‪ ،‬وتجميلها بأواني الذّهب والفضّة بل تفاخر عند الحنفيّة ‪.‬‬ ‫كما أجاز المالكيّة تزويق حيطان البيوت وسقفها وخشبها وساترها بالذّهب والفضّة ‪.‬‬

‫وفصّل الشّافعيّة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يحلّ الِناء المموّه بالذّهب والفضّة ‪ ،‬وكالناء السّقوف والجدران ولو‬ ‫للكعبة والمصحف والكرسيّ والصّندوق وغير ذلك ‪ ،‬إن لم يحصل بالعرض على النّار شيء‬ ‫منه ‪ ،‬فإن كثر المموّه به بأن كان يحصل منه شيء بالعرض على النّار حرم ‪.‬‬ ‫ل الحلّ الستدامة ‪ ،‬أمّا الفعل فحرام مطلقا ‪.‬‬ ‫ومح ّ‬

‫وصرّحوا بكراهة تزيين البيوت للرّجال وغيرهم حتّى مشاهد الصّلحاء والعلماء بالثّياب ‪،‬‬ ‫وحرمة تزيينها بالحرير والصّور لعموم الخبار ‪.‬‬

‫ويكره تزويق البيوت عند الحنابلة بالسّتور ما لم يكن لحاجة ‪ ،‬ويحرم عندهم تزيينها بالدّيباج‬ ‫والحرير وآنية الذّهب والفضّة والمموّه بها ‪ -‬قليلً كان أو كثيرا ‪ -‬وبصور الحيوانات ‪ ،‬فإن‬

‫كانت مزيّنةً بالنّقوش وصور شجر فل بأس بذلك ‪ .‬وانظر ‪ ( :‬تصوير ) ‪.‬‬

‫تزيين المساجد ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬يحرم تزيين المساجد بنقشها وتزويقها بمال الوقف عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وصرّح‬

‫الحنابلة بوجوب ضمان الوقف الّذي صرف فيه ‪ ،‬لنّه ل مصلحة فيه ‪.‬‬ ‫وظاهر كلم الشّافعيّة منع صرف مال الوقف في ذلك ‪.‬‬

‫ح في القول الصحّ عندهم ‪ ،‬أمّا إذا‬ ‫ولو وقف الواقف ذلك عليهما ‪ -‬النّقش والتّزويق ‪ -‬لم يص ّ‬

‫كان النّقش والتّزويق من مال النّاقش فيكره اتّفاقا في الجملة إذا كان يلهي المصلّي ‪ ،‬كما إذا‬

‫كان في المحراب وجدار القبلة ‪ ،‬وقد ورد عنه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬إذا ساء عملُ‬

‫قوم زخرفوا مساجدَهم » ‪.‬‬

‫وفيما عدا جدار الكعبة تفصيل وخلف ينظر في بحث ‪ ( :‬مسجد ) ‪.‬‬

‫تزيين الضرحة ‪:‬‬

‫‪23‬‬

‫‪ -‬يكره تجصيص القبور والبناء عليها اتّفاقا بين الفقهاء ‪ ،‬لقول جابر رضي ال عنه ‪« :‬‬

‫نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن يجصّص القبر ‪ ،‬وأن يبنى عليه » ولنّ ذلك من المباهاة‬

‫وزينة الحياة الدّنيا ‪ ،‬وتلك منازل الخرة ‪ ،‬وليست بموضع للمباهاة ‪ .‬وكذا يكره تطيينها عند‬ ‫جمهور الفقهاء ‪ ،‬وفي قول عند الحنفيّة جوازه ‪ .‬وتفصيله في بحث ‪ ( :‬قبر ) ‪.‬‬

‫حكم بيع ما يتزيّن به ‪:‬‬

‫‪24‬‬

‫‪ -‬يجوز بيع ما تتزيّن به المرأة لزوجها من طيب وحنّاء وخضاب وكحل وغير ذلك ممّا‬

‫أبيح استعماله ممّا يباع ويشترى ‪ ،‬ول يجب على الزّوج شراؤه لها من ماله ‪ ،‬فإذا أراد أن‬

‫تتزيّن له بذلك هيّأه لها ‪ ،‬لنّه هو المريد لذلك ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬فيما‬

‫عدا الطّيب ‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬إنّه يجب عليه من الطّيب ما تقطع به الرّائحة الكريهة ل غير ‪ .‬أمّا‬

‫المالكيّة فقد قالوا ‪ :‬يفرض لها ذلك على الزّوج إن تضرّرت بتركه وكان معتادا لها ‪.‬‬

‫الستئجار للتّزيّن ‪:‬‬

‫‪25‬‬

‫‪ -‬الصل إباحة إجارة كلّ عين يمكن أن ينتفع بها منفعةً مباحةً مع بقائها ‪ ،‬ولهذا صرّح‬

‫الشّافعيّة والحنابلة بجواز الثّياب والحليّ للتّزيّن ‪ ،‬فإنّ النّفقة بهما مباحة مقصودة مع بقاء‬

‫خرَجَ‬ ‫حرّ َم زِينَةَ اللّهِ الّتي َأ ْ‬ ‫عينها ‪ ،‬والزّينة من المقاصد المشروعة ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬قُلْ مَنْ َ‬

‫ِل ِعبَادِه } ‪ .‬وجواز إجارة حليّ الذّهب والفضّة بغير جنسه محلّ اتّفاق بينهم ‪ ،‬وتردّد أحمد فيما‬ ‫إذا كانت الجرة من جنسها ‪ ،‬وروي عنه جوازه مطلقا ‪.‬‬

‫أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بفساد إجارة مثل الثّياب والواني للتّزيّن حيث قالوا ‪ :‬لو استأجر ثيابا‬ ‫أو أواني ليتجمّل بها أو دابّةً ليجنيها بين يديه أو دارا ل ليسكنها ‪ ...‬فالجارة فاسدة في الكلّ‬ ‫ول أجر له ‪ ،‬لنّها منفعة غير مقصودة من العين ‪.‬‬

‫ويجوز إجارة اللبسة للّبس ‪ ،‬والسلحة للجهاد ‪ ،‬والخيام للسّكن وأمثالها إلى مدّة معيّنة مقابل‬ ‫بدل معلوم ‪ ،‬والحليّ كاللّباس عندهم ‪.‬‬

‫وكره المالكيّة إجارة الحليّ ‪ ،‬لنّه ليس من شأن النّاس ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬الولى إعارته لنّها من‬

‫المعروف ‪ .‬هذا ‪ ،‬وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بجواز استئجار الماشطة لتزيّن العروس وغيرها‬

‫إن ذكر العمل أو المدّة ‪ ،‬والجواز مفهوم من قواعد المذاهب الخرى أيضا ‪ ،‬لنّ أصل التّزيّن‬ ‫مشروع ‪ ،‬والجارة على المنافع المشروعة صحيحة ‪.‬‬

‫حكم إعارة ما يتزيّن به ‪:‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ -‬يجوز عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إعارة كلّ عين ينتفع‬

‫بها منفعةً مباحةً ‪ -‬مع بقائها على الدّوام من غير استهلك بالتّجمّل والتّزيّن ‪ -‬كالنّقدين والحليّ‬ ‫ومنه القلئد وغيرها ‪ .‬فعن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬هلكت قِلدة لسماء ‪ ،‬فبعث النّبيّ‬

‫صلى ال عليه وسلم في طلبها رجالً ‪ ،‬فحضرت الصّلة وليسوا على وضوء ‪ ،‬ولم يجدوا ماءً‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم فأنزل اللّه آية التّيمّم »‬ ‫فصلّوا وهم على غير وضوء ‪ ،‬فذكروا ذلك للنّب ّ‬ ‫‪.‬‬

‫زاد ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي ال عنها « استعارت من أسماء » يعني أنّها‬

‫استعارت من أسماء بنت أبي بكر رضي ال عنها القلدة المذكورة ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تهاتر ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تساقط *‬ ‫تسامع *‬

‫‪ -‬التّسامع ‪ :‬مصدر تسامع النّاس ‪ ،‬وهو ما حصل من العلم بالتّواتر أو بالشّهرة أو غير‬

‫ذلك ‪ ،‬يقال ‪ :‬تسامع به النّاس أي اشتهر عندهم ‪ ،‬وسمعه بعضهم من بعض ‪ ،‬وتسامع النّاس‬

‫بفلن ‪ :‬شاع بينهم عيبه ‪ .‬ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ الوّل ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الفشاء ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬الفشاء ‪ :‬نشر الخبر ‪ ،‬سرّا كان أو جهرا ‪ ،‬ببثّه بين النّاس ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬العلم ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬العلم ‪ :‬إيصال الخبر إلى شخص أو طائفة من النّاس ‪ ،‬سواء أكان ذلك بالعلن ‪ ،‬أم‬

‫بالتّحديث من غير إعلن ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬العلن ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬العلن ‪ :‬المجاهرة بالقول أو الفعل ‪ ،‬ويلحظ فيه قصد الشّيوع والنتشار ‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬الشهار ‪ :‬مصدر أشهر ‪ ،‬والشّهر مصدر شهر الشّيء ‪ ،‬وكلهما في اللّغة والصطلح‬

‫د ‪ -‬الشهار ‪:‬‬

‫بمعنى العلن والظهار ‪.‬‬ ‫هـ – السّمع ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬السّمع ‪ :‬قوّة في الذن بها تدرك الصوات ‪ ،‬ويستعمل أيضا بمعنى المسموع ‪ ،‬وبمعنى‬

‫الذّكر ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز الشّهادة بالتّسامع في ستّة أشياء هي ‪ :‬العتق ‪ ،‬والنّسب ‪ ،‬والموت ‪،‬‬

‫والنّكاح ‪ ،‬والولء ‪ ،‬والوقف ‪.‬‬

‫ستّة ‪ :‬المهر ‪ -‬على الصحّ ‪ -‬والدّخول بزوجته ‪ ،‬وولية القاضي ‪،‬‬ ‫‪ -8‬وزاد الحنفيّة على ال ّ‬ ‫ومن في يده شيء ‪ -‬سوى رقيق لم يعلم رقّه ويعبّر عن نفسه ‪ .‬وفي عدّ الخير منها نظر‬

‫ذكره في الفتح والبحر ‪.‬‬

‫ستّة ‪ :‬الشّهادة بملك الشّيء من عقار أو غيره لحائز له ‪ -‬وتقدّم بيّنة‬ ‫‪ -9‬وزاد المالكيّة على ال ّ‬

‫البتّ بالملك على بيّنة السّماع ‪ ،‬إلّ أن تشهد بيّنة السّماع بنقل الملك ‪ -‬وعزل قاض ‪ ،‬وتعديل‬

‫وتجريح لبيّنة ‪ ،‬وإسلم وكفر لشخص معيّن ‪ ،‬ورشد ‪ ،‬وسفه لمعيّن ‪ ،‬وفي النّكاح اشترطوا ‪:‬‬

‫ادّعاء الحيّ منهما على الميّت ليرثه ‪ ،‬أو ادّعاء أحد الزّوجين الحيّين ولم ينكر الخر ‪ ،‬وكانت‬

‫الزّوجة في عصمته ‪ .‬وأمّا لو ادّعاه أحدهما وأنكره الخر فل يثبت به النّكاح ‪ ،‬وفي الطّلق ‪-‬‬ ‫وإن بخلع ‪ -‬يثبت بالسّماع الطّلق ل دفع العوض ‪ ،‬وبضرر زوج لزوجته ‪ -‬نحو ‪ :‬لم نزل‬

‫نسمع عن الثّقات وغيرهم أنّه يضارّها فيطلّقها عليه الحاكم ‪ -‬وبالولدة لثبات أنّها أمّ ولد ‪ ،‬أو‬ ‫لخروج من عدّة ‪ ،‬وبالرّضاع ‪ ،‬والحرابة ‪ ،‬والباق ‪ ،‬والسر ‪ ،‬والفقد ‪ ،‬والصّدقة ‪ ،‬والهبة ‪،‬‬

‫واللّوث ‪ -‬نحو ‪ :‬لم نزل نسمع بأنّ فلنا قتل فلنا ‪ ،‬فتكون الشّهادة لوثا تسوّغ للوليّ القسامة‬ ‫‪ -‬والبيع ‪ ،‬والقسمة ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬والعسر واليسر ‪.‬‬

‫قال الدّسوقيّ ‪ :‬فجملة المسائل الّتي تقبل فيها شهادة السّماع ثلثون مسألةً ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ستّة ‪ :‬الملك في الصحّ عندهم ‪ ،‬وتنبني الشّهادة فيه على ثلثة‬ ‫‪ -‬وزاد الشّافعيّة على ال ّ‬

‫أمور ‪ :‬اليد والتّصرّف والتّسامع ‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫ستّة ‪ :‬الملك المطلق ‪ ،‬والولدة ‪ ،‬والطّلق ‪ ،‬والخلع ‪،‬‬ ‫‪ -‬وأمّا الحنابلة فقد زادوا على ال ّ‬

‫وأصل الوقف وشرطه ‪ ،‬ومصرفه ‪ ،‬والعزل ‪ ،‬وهذه النواع عند الحنابلة على سبيل الحصر‬

‫كما في المغني والفروع ‪.‬‬

‫أمّا صاحب القناع وشرح المنتهى بعد أن ذكرها فقد قال ‪ :‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬واشترط الحنفيّة لجواز الشّهادة بما ذكر أن يحصل علم الشّاهد بهذه الشياء عن خبر‬

‫جماعة ل يتصوّر تواطؤهم على الكذب ‪ ،‬ولو بل شرط عدالة ‪ ،‬أو شهادة عدلين ‪ .‬أمّا في‬

‫الموت فيكفي العدل ولو أنثى وهو المختار ‪ ،‬وقيّده شارح الوهبانيّة بأن ل يكون المخبر متّهما‬

‫كوارث وموصًى له ‪ ،‬ولو فسّر الشّاهد للقاضي أنّ شهادته بالتّسامع ردّت على الصّحيح إلّ في‬ ‫الوقف والموت إذا فسّرا ‪ ،‬وقال فيه بأخبرنا من نثق به فتقبل على الصحّ ‪ .‬وقال في الهداية‬

‫بعد أن ذكر ما يجوز الشّهادة فيه بالتّسامع ‪ :‬يسعه أن يشهد بهذه الشياء إذا أخبره بها من يثق‬ ‫ص بالمعاينة ‪ ،‬وتتعلّق بها أحكام تبقى على‬ ‫به ‪ -‬وهذا استحسان ‪ -‬ووجهه أنّ هذه أمور تخت ّ‬

‫انقضاء القرون ‪ ،‬فلو لم تقبل فيها الشّهادة بالتّسامع أدّى إلى الحرج وتعطيل الحكام ‪ ،‬وإنّما‬

‫يجوز للشّاهد أن يشهد بالشتهار ‪ ،‬وذلك بالتّواتر ‪ ،‬أو بإخبار من يثق به ‪ ،‬ويشترط أن يخبره‬ ‫رجلن عدلن ‪ ،‬أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬في الموت يكتفى بإخبار‬ ‫واحد أو واحدة ‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬والشّافعيّة قالوا ‪ :‬إنّ شرط التّسامع ليستند إليه في الشّهادة هو سماع المشهود به من جمع‬

‫ن القويّ بصدقهم ‪ ،‬بشرط أن يكونوا مكلّفين ‪ ،‬ول‬ ‫يؤمن تواطؤهم على الكذب ‪ ،‬ويحصل الظّ ّ‬ ‫يشترط فيهم ح ّريّة ول ذكورة ول عدالة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يكفي التّسامع من عدلين إذا سكن القلب‬ ‫لخبرهما ‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪ -‬وعند الحنابلة ‪ :‬تجوز الشّهادة بالتّسامع فيما تظاهرت به الخبار ‪ ،‬واستقرّت معرفته في‬

‫قلب الشّاهد ‪ ،‬وهو ما يعلم بالستفاضة ‪ .‬والتّفصيل لما سبق في مصطلح ( شهادة ) ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬سبب ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تسبّب *‬ ‫تسبيح *‬

‫‪ -‬من معاني التّسبيح في اللّغة ‪ :‬التّنزيه ‪ .‬تقول ‪ :‬سبّحت اللّه تسبيحا ‪ :‬أي نزّهته تنزيها‪.‬‬

‫ويكون بمعنى الذّكر والصّلة ‪ .‬يقال ‪ :‬فلن يسبّح اللّه ‪ :‬أي يذكره بأسمائه نحو سبحان اللّه ‪.‬‬ ‫وهو يسبّح أي يصلّي السّبحة وهي النّافلة ‪ .‬وسمّيت الصّلة ذِكْرا لشتمالها عليه ‪ ،‬ومنه قوله‬

‫صبِحون } أي اذكروا اللّه ‪ .‬ويكون بمعنى التّحميد‬ ‫تعالى ‪ { :‬فَسُبحَانَ اللّهِ حينَ ُت ْمسُونَ وحينَ ُت ْ‬ ‫خرَ لنا هذا } وسبحان ربّي العظيم ‪ .‬أي الحمد للّه ‪.‬‬ ‫سّ‬ ‫س ْبحَانَ الّذي َ‬ ‫نحو { ُ‬

‫ول يخرج معناه الصطلحيّ عن هذه المعاني ‪ ،‬فقد عرّفه الجرجانيّ بأنّه ‪ :‬تنزيه الحقّ عن‬

‫نقائص الِمكان والحدوث ‪.‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬ال ّذكْر ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬الذّكر من معانيه في اللّغة ‪ :‬الصّلة للّه والدّعاء إليه والثّناء عليه ‪.‬‬

‫ح َزبَه أمر صلّى » ‪.‬‬ ‫ففي الحديث ‪ « :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم إذا َ‬

‫ل قول يثاب قائله ‪ ،‬فالذّكر‬ ‫وفي اصطلح الفقهاء قول سيق لثناء أو دعاء وقد يستعمل شرعا لك ّ‬

‫شامل للدّعاء فهو أعمّ من التّسبيح ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّهليل ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬هو قول ل إله إلّ اللّه ‪ :‬يقال ‪ :‬هلّل الرّجل أي من الهيللة ‪ ،‬من قول ل إله إلّ اللّه ‪.‬‬

‫ن التّسبيح تنزيه اللّه‬ ‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن هذا ‪ .‬فالتّسبيح أعمّ من التّهليل ‪ ،‬ل ّ‬

‫عزّ وجلّ عن كلّ نقص ‪ .‬أمّا التّهليل فهو تنزيهه عن الشّريك ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬التّقديس ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬من معانيه في اللّغة تنزيه اللّه عزّ وجلّ عن كلّ ما ل يليق به ‪.‬‬

‫حمْدك َونُقدّسُ‬ ‫ح ِب َ‬ ‫والتّقديس ‪ :‬التّطهير والتّبريك ‪ .‬وتقدّس أي تطهّر ‪ ،‬وفي التّنزيل { ونحنُ نُسبّ ُ‬

‫لك } قال ال ّزجّاج ‪ :‬معنى نقدّس لك ‪ :‬أي نطهّر أنفسنا لك ‪ ،‬وكذلك نفعل بمن أطاعك ‪،‬‬ ‫والرض المقدّسة أي المطهّرة ‪ .‬ومعناه الصطلحيّ ل يخرج عن هذا ‪.‬‬ ‫والتّقديس أخصّ من التّسبيح ‪ ،‬لنّه تنزيه مع تبريك وتطهير ‪.‬‬

‫حكمة مشروعيّة التّسبيح ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬حكمة التّسبيح استحضار العبد عظمة الخالق ‪ ،‬ليمتلئ قلبه هيبةً فيخشع ول يغيب ‪ ،‬فينبغي‬

‫أن يكون ذلك هو مقصود الذّاكر ‪ ،‬سواء أكان في الصّلة أم في غيرها ‪ ،‬فيحرص على‬

‫تحصيله ‪ ،‬ويتدبّر ما يذكر ‪ ،‬ويتعقّل معناه ‪ ،‬فالتّدبّر في الذّكر مطلوب ‪ ،‬كما هو مطلوب في‬ ‫القراءة لشتراكهما في المعنى المقصود ‪ ،‬ولنّه يوقظ القلب ‪ ،‬فيجمع همّه إلى الفكر ‪،‬‬

‫ويصرف سمعه إليه ‪ ،‬ويطرد النّوم ‪ ،‬ويزيد النّشاط ‪.‬‬

‫آداب التّسبيح ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬آدابه كثيرة ‪ :‬منها أنّه ينبغي أن يكون الذّاكر المسبّح على أكمل الصّفات ‪ ،‬فإن كان جالسا‬

‫في موضع استقبل القبلة ‪ ،‬وجلس متذلّلً متخشّعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه ‪ ،‬ولو ذكر على‬

‫غير هذه الحوال جاز ول كراهة في حقّه ‪ .‬لكن إن كان بغير عذر كان تاركا للفضل ‪،‬‬

‫ختِلفِ‬ ‫ض وا ْ‬ ‫سمَوَاتِ والر ِ‬ ‫والدّليل على عدم الكراهة قول اللّه تبارك وتعالى ‪ { :‬إنّ في خَلْقِ ال ّ‬

‫جنُوبهم وَ َي َت َفكّرونَ في‬ ‫ب الّذينَ َيذْكُرونَ اللّهَ ِقيَامَا َو ُقعُودَا وعلى ُ‬ ‫اللّيلِ والنّهارِ لياتٍ لولي اللبا ِ‬

‫خَلْقِ السّمواتِ والرضِ } ‪.‬‬

‫وجاء عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ :‬إنّي لقرأ حزبي ‪ ،‬وأنا مضطجعة على السّرير ‪.‬‬

‫سنّة ‪ ،‬كما هو الحال في تسبيحات‬ ‫وصيغه كثيرة ‪ ،‬منها ما ينبغي أن يكون كما وردت به ال ّ‬ ‫الرّكوع والسّجود ودبر الصّلوات ‪.‬‬

‫ومنها ما هو مستحبّ ‪ ،‬وهو ما كان في غير ذلك كالتّسبيحات ليلً ونهارًا ‪.‬‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫ي للتّسبيح بحسب موضعه وسببه على التّفصيل التي ‪:‬‬ ‫‪ -‬يختلف الحكم التّكليف ّ‬

‫التّسبيح على طهر ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬أجمع العلماء على جواز الذّكر بالقلب واللّسان للمحدث والجنب والحائض والنّفساء ‪ ،‬وذلك‬

‫في التّسبيح والتّهليل والتّحميد والتّكبير والصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم والدّعاء وغير‬ ‫ذلك ‪ .‬فقد روت عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يذكر‬

‫ن ذكر اللّه على طهارة سواء أكان تسبيحا أم غيره ‪ ،‬أولى‬ ‫ل أحيانه » ‪ .‬على أ ّ‬ ‫اللّه على ك ّ‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم سلّم عليه أحد الصّحابة فلم يردّ عليه ‪ ،‬حتّى‬ ‫وأفضل لحديث ‪ « :‬إ ّ‬

‫تيمّم فر ّد السّلم ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬كرهت أن أذكر اللّه إلّ على طهر » ‪.‬‬

‫التّوسّط في رفع الصّوت في التّسبيح ‪:‬‬

‫ب عند عامّة الفقهاء ‪ ،‬لقوله تعالى ‪{ :‬‬ ‫‪ -9‬التّوسّط في رفع الصّوت في التّسبيح وغيره مستح ّ‬

‫سبِيلً } وكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يفعله‬ ‫ن ذلك َ‬ ‫ج َهرْ ِبصَل ِتكَ وَل ُتخَا ِفتْ بها وا ْبتَغ بي َ‬ ‫وَل َت ْ‬ ‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم خرج ليلةً فإذا هو بأبي‬ ‫‪ .‬فعن أبي قتادة رضي ال عنه « أ ّ‬

‫بكر رضي ال عنه يصلّي يخفض من صوته ‪ .‬قال ‪ :‬وم ّر بعمر رضي ال عنه وهو يصلّي‬

‫رافعا صوته قال ‪ :‬فلمّا اجتمعا عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يا أبا بكر مررت بك‬

‫وأنت تصلّي تحفض صوتك ؟ قال ‪ :‬قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول اللّه ‪ .‬قال ‪ :‬فارفع قليلً‬

‫وقال لعمر ‪ :‬مررت بك وأنت تصلّي رافعا صوتك ؟ فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ :‬أوقظ الوسنان‬ ‫وأطرد الشّيطان ‪ .‬قال ‪ :‬اخفض من صوتك شيئا » ‪.‬‬

‫وقال أبو سعيد رضي ال عنه « اعتكف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في المسجد ‪ ،‬فسمعهم‬

‫ن بعض كم بعضا ‪،‬‬ ‫يجهرون بالقراءة ‪ ،‬فك شف ال سّتر وقال ‪ :‬أل إ نّ كلّ كم مناج ربّه ‪ ،‬فل يؤذي ّ‬

‫ول يرف ْع بعض كم على ب عض في القراءة ‪ ،‬أو قال في ال صّلة » ‪ .‬والمراد بالتّو سّط أن يز يد‬

‫على أدنى ما يسمع نفسه من غير أن تبلغ تلك الزّيادة سماع من يليه ‪.‬‬

‫ما يجوز به التّسبيح ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬أجاز الفقهاء التّسبيح باليد والحصى والمسابح خارج الصّلة ‪ ،‬كعدّه بقلبه أو بغمزه أنامله‬

‫‪ .‬أمّا في الصّلة ‪ ،‬فإنّه يكره لنّه ليس من أعمالها ‪ .‬وعن أبي يوسف ومحمّد ‪ :‬أنّه ل بأس‬

‫سنّة ‪ .‬فعن «‬ ‫بذلك في الفرائض والنّوافل جميعا مراعاةً لسنّة القراءة والعمل بما جاءت به ال ّ‬

‫سعد بن أبي وقّاص رضي ال عنه أنّه دخل مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم على امرأة ‪،‬‬

‫وبين يديها نوًى أو حصًى تسبّح به ‪ ،‬فقال ‪ :‬أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل ‪.‬‬

‫فقال ‪ :‬سبحان اللّه عدد ما خلق في السّماء ‪ ،‬وسبحان اللّه عدد ما خلق في الرض ‪ ،‬وسبحان‬ ‫اللّه عدد ما بين ذلك ‪ ،‬وسبحان اللّه عدد ما هو خالق ‪ ،‬والحمد للّه مثل ذلك ‪ ،‬واللّه أكبر مثل‬ ‫ذلك ‪ ،‬ول إله إلّ اللّه مثل ذلك ‪ ،‬ول حول ول قوّة إلّ باللّه مثل ذلك » فلم ينهها عن ذلك ‪،‬‬

‫وإنّما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل ‪ ،‬ولو كان مكروها لبيّن لها ذلك ‪ .‬وعن بسيرة‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أمرهنّ أن يراعين بالتّكبير‬ ‫الصّحابيّة المهاجرة رضي ال عنها « أ ّ‬

‫والتّقديس والتّهليل ‪ ،‬وأن يعقدن بالنامل فإنّهنّ مسئولت مستنطقات » ‪ .‬وعن عبد اللّه بن عمر‬

‫رضي ال عنهما قال ‪ « :‬رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يعقد التّسبيح » وفي رواية «‬ ‫بيمينه » ‪.‬‬

‫ونقل الطّحطاويّ عن ابن حجر قوله ‪ :‬الرّوايات بالتّسبيح بالنّوى والحصى كثيرة عن الصّحابة‬ ‫في بعض أمّهات المؤمنين ‪ ،‬بل رأى ذلك صلى ال عليه وسلم وأقرّ عليه ‪ .‬وعقد التّسبيح‬

‫ل فهي أولى ‪.‬‬ ‫بالنامل أفضل من السّبحة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن أمن الغلط فهو أولى ‪ ،‬وإ ّ‬

‫أوقاته وما يستحبّ منها ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬ليس للذّكر ‪ -‬ومنه التّسبيح ‪ -‬وقت معيّن ‪ ،‬بل هو مشروع في كلّ الوقات ‪ .‬روي عن‬

‫عائشة رضي ال عنها أنّها قالت ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ‬

‫جنُوبِهمْ } ما يدلّ على‬ ‫ن يَ ْذكُرونَ الّل َه ِقيَامَا َو ُقعُودَا وعلى ُ‬ ‫أحيانه » ‪ .‬وفي قوله تعالى ‪ { :‬الّذي َ‬

‫استحباب الذّكر في جميع الحوال الّتي يكون عليها النسان من يومه وليله ‪.‬‬

‫إلّ أنّ أحوالً منها ورد الشّرع باستثنائها ‪ :‬كالخلء عند قضاء الحاجة ‪ ،‬وفي حالة الجماع ‪،‬‬

‫وفي حالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب ‪ ،‬وفي الماكن المستقذرة والدّنسة ‪ ،‬وما أشبه ذلك‬

‫ممّا يكره الذّكر معه ‪ .‬ولكن ورد في بعض الخبار استحباب التّسبيح في أوقات خاصّة ‪ ،‬من‬ ‫ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬

‫« من سبّح اللّه في ُدُبرِ كلّ صلةٍ ثلثا وثلثين ‪ ،‬وحمد اللّه ثلثا وثلثين ‪ ،‬وكبّر اللّه ثلثا‬ ‫ل اللّه وحده ل شريك له ‪ ،‬له‬ ‫وثلثين ‪ ،‬فتلك تسعة وتسعون ‪ ،‬وقال تمام المائة ‪ :‬ل إله إ ّ‬

‫الملك ‪ ،‬وله الحمد ‪ ،‬وهو على كلّ شيء قدير ‪ ،‬غفرت خطاياه ‪ ،‬وإن كانت مثل زبد البحر »‬

‫ويستحبّ التّسبيح في الصباح والمساء ‪ ،‬لما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال‬ ‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من قال حين يصبح وحين يمسي ‪ :‬سبحان اللّه وبحمده‬

‫مائة مرّة ‪ ،‬لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به ‪ ،‬إلّ أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه »‬

‫وفي رواية أبي داود « سبحان اللّه العظيم وبحمده » ‪ .‬ويستحبّ التّسبيح ونحوه عند الكسوف‬

‫والخسوف ‪ ،‬لما روي عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي ال عنه قال ‪ « :‬أتيت النّبيّ صلى ال‬ ‫عليه وسلم وقد كسفت الشّمس وهو قائم في الصّلة رافع يديه ‪ ،‬فجعل يسبّح ويهلّل ويكبّر‬

‫ويحمد ويدعو حتّى حسر عنها ‪ .‬فلمّا حسر عنها قرأ سورتين وصلّى ركعتين » ‪.‬‬

‫التّسبيح في افتتاح الصّلة ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬هو سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬

‫أمّا المالكيّة فإنّهم ل يرونه ‪ ،‬بل كرهوه في افتتاحها ‪.‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬إذا قمتم إلى الصّلة‬ ‫واستدلّ الجمهور بما روي عن النّب ّ‬

‫فارفعوا أيديكم ‪ ،‬ول تخالف آذانكم ‪ ،‬ثمّ قولوا ‪ :‬اللّه أكبر ‪ ،‬سبحانك اللّهمّ وبحمدك ‪ ،‬وتبارك‬ ‫اسمك وتعالى جدّك ‪ ،‬ول إله غيرك » ‪.‬‬

‫وبما روت عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا استفتح‬ ‫الصّلة قال ‪ :‬سبحانك اللّهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ول إله غيرك » ‪.‬‬

‫واستدلّ المالكيّة بما روي عن « أنس رضي ال عنه قال ‪ :‬صلّيت خلف النّبيّ صلى ال عليه‬

‫وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ‪ ،‬وكانوا يستفتحون بالحمد للّه ربّ العالمين » ‪.‬‬

‫ولم يذكروا التّسبيح في افتتاح الصّلة ل من الفرائض ول من السّنن ‪.‬‬

‫التّسبيح في الرّكوع ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬التّسبيح في الرّكوع سنّة عند الحنفيّة في المشهور ‪ ،‬وقيل واجب ‪ .‬ومستحبّ عند‬

‫سنّة الثّلث ‪ .‬وأقلّ‬ ‫الشّافعيّة ‪ ،‬ومندوب عند المالكيّة ‪ .‬وواجب عند الحنابلة بتسبيحة واحدة ‪ ،‬وال ّ‬

‫المسنون عند الحنفيّة والحنابلة ‪ .‬والمستحبّ عند الشّافعيّة ‪ :‬ثلث تسبيحات ‪ .‬لما رواه ابن‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬إذا ركع أحدكم فقال ‪ :‬سبحان‬ ‫مسعود رضي ال عنه « أ ّ‬

‫ربّي العظيم ثلثا ‪ ،‬فقد تمّ ركوعه ‪ ،‬وذلك أدناه »‬

‫وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّه يندب التّسبيح بأيّ لفظ كان بركوع وسجود ‪.‬‬

‫ص ابن جزيّ على أنّه يستحبّ في الرّكوع سبحان ربّي العظيم ثلث مرّات ‪.‬‬ ‫ون ّ‬

‫ك العظيم } قال صلى‬ ‫ودليله ما ورد أنّه « لمّا نزل قول اللّه تبارك وتعالى ‪ { :‬فسبّحْ باسْ ِم رّب َ‬

‫ال عليه وسلم ‪ :‬اجعلوها في ركوعكم » والتّسبيح فيه ل يتحدّد بعدد ‪ ،‬بحيث إذا نقص عنه‬

‫يفوته الثّواب ‪ ،‬بل إذا سبّح م ّر ًة يحصل له الثّواب ‪ ،‬وإن كان يزاد الثّواب بزيادته ‪.‬‬

‫والزّيادة على هذه التّسبيحات أفضل إلى خمس أو سبع أو تسع بطريق الستحباب عند الحنفيّة ‪.‬‬

‫وفي منية المصلّي ‪ :‬أدناه ثلث ‪ ،‬وأوسطه خمس ‪ ،‬وأكمله سبع ‪.‬‬

‫وأدنى الكمال عند الشّافعيّة في التّسبيح ثلث ث ّم خمس ثمّ سبع ثمّ تسع ثمّ إحدى عشرة وهو‬

‫الكمل ‪ .‬وهذا للمنفرد ولمام قوم محصورين رضوا بالتّطويل ‪.‬‬

‫أمّا غيره فيقتصر على الثّلث ‪ ،‬ول يزيد عليها للتّخفيف على المقتدين ‪.‬‬

‫ويزيد المنفرد وإمام قوم محصورين على ذلك ‪ :‬اللّهمّ لك ركعت ‪ ،‬وبك آمنت إلخ ‪.‬‬ ‫قال في الرّوضة ‪ :‬وهذا مع الثّلث أفضل من مجرّد أكمل التّسبيح ‪.‬‬

‫والزّيادة على التّسبيحة الواحدة مستحبّة عند الحنابلة ‪ ،‬فأعلى الكمال في حقّ المام يزاد إلى‬ ‫عشر تسبيحات ‪ ،‬لما روي عن « أنس رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬ما رأيت أحدا أشبه صل ًة‬

‫بصلة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من هذا الفتى ‪ -‬يعني عمر بن عبد العزيز ‪ -‬فحزرنا‬ ‫في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات » ‪ .‬وقال أحمد ‪ :‬جاء عن الحسن أنّ‬

‫التّسبيح التّامّ سبع ‪ ،‬والوسط خمس ‪ ،‬وأدناه ثلث ‪ .‬وأعلى التّسبيح في حقّ المنفرد العرف ‪،‬‬ ‫وقيل ‪ :‬ما لم يخف سهوا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بقدر قيامه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬سبع ‪.‬‬

‫التّسبيح في السّجود ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬يقال في السّجود ما قيل في الرّكوع ‪ ،‬من حيث الصّفة والعدد والختلف في ذلك ‪.‬‬

‫فالتّسبيح في السّجود سنّة عند الحنفيّة في المشهور ‪ ،‬وقيل واجب ‪ .‬ومندوب عند المالكيّة ‪.‬‬

‫ومستحبّ عند الشّافعيّة ‪ .‬وواجب عند الحنابلة في أقلّه ‪ ،‬وهو الواحدة ‪ ،‬وسنّة في الثّلث ‪ ،‬كما‬

‫ن تسبيح السّجود أن يقول ‪ :‬سبحان ربّي العلى ‪ ،‬أمّا في‬ ‫في الرّكوع ‪ .‬ول خلف إلّ في أ ّ‬

‫الرّكوع فيقول ‪ :‬سبحان ربّي العظيم ‪.‬‬

‫تسبيح المقتدي تنبيها للمام ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬لو عرض للمام شيء في صلته سهوا منه كان للمأموم تنبيهه بالتّسبيح استحبابا ‪ ،‬إن‬

‫كان رجلً ‪ ،‬وبالتّصفيق إن كانت أنثى عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬

‫لحديث ‪ « :‬إنّما التّصفيقُ للنّساء ‪ ،‬ومن نَابَه شيء في صلته فلْي ُقلْ سبحان اللّه » ‪.‬‬

‫وأمّا المالكيّة فكرهوا للمرأة التّصفيق في الصّلة مطلقا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّها تسبّح لعموم حديث ‪« :‬‬

‫من نابه شيء في صلته فليقل سبحان اللّه » ووجه الستدلل أنّ ( من ) من ألفاظ العموم‬ ‫فيشمل النّساء ‪.‬‬

‫تنبيه المصلّي غيره بالتّسبيح ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬إذا أتى المصلّي بذكر مشروع يقصد به تنبيه غيره إلى أنّه في صلة ‪ ،‬كأن يستأذن عليه‬

‫إنسان يريد الدّخول وهو في الصّلة ‪ ،‬أو يخشى المصلّي على إنسان الوقوع في بئر أو هلكة ‪،‬‬ ‫أو يخشى أن يتلف شيئا ‪ ،‬كان للمصلّي استحبابا أن يسبّح تنبيها له ‪ ،‬وتصفّق المرأة على‬

‫الخلف السّابق بيانه ‪ .‬للحديث المذكور آنفا ‪ ،‬ولقوله عليه الصلة والسلم « من نابه شيء في‬

‫صلته فليقل ‪ :‬سبحان اللّه ‪ ،‬فإنّه ل يسمعه أحد يقول سبحان اللّه إلّ التفت »‬

‫وفي المسند عن عليّ رضي ال عنه ‪ « :‬كان لي من رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ساعة‬

‫آتيه فيها فإذا أتيته استأذنته إن وجدته يصلّي فسبّح دخلت ‪ ،‬وإن وجدته فارغا أذن لي » ‪.‬‬

‫وعند الحنيفة تبطل الصّلة إذا محّض التّسبيح للعلم ‪ ،‬أو قصد به التّعجّب أو نحو ذلك ‪..‬‬

‫ومذهب الشّافعيّة أنّ التّسبيحات في الصّلة " ل تضرّ إلّ ما كان فيه خطاب لمخلوق غير‬

‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫ن ك ّل ذلك ل يؤثّر في صحّة الصّلة ‪.‬‬ ‫ومذهب المالكيّة والحنابلة أ ّ‬

‫التّسبيح أثناء الخطبة ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬قال الحنفيّة بكراهة التّسبيح لمستمع الخطبة ‪ ،‬لنّه يشغله عن سماعها ‪.‬‬

‫فإن كان بعيدا عن الخطيب ول يسمعه فل بأس به سرّا عند بعض الحنفيّة ‪ ،‬والمعتمد في‬ ‫المذهب المنع مطلقا للقريب والبعيد السّامع وغيره ‪.‬‬

‫وعند المالكيّة يجوز الذّكر ‪ -‬على أنّه خلف الولى على المعتمد عندهم ‪ -‬من تسبيح وتهليل‬

‫سرّ ‪ ،‬ويحرم الكثير مطلقا ‪ ،‬كما يحرم القليل إذا كان جهرا ‪.‬‬ ‫وغير ذلك ‪ ،‬إن كان قليلً وبال ّ‬ ‫والشّافعيّة والحنابلة لم يتعرّضوا للتّسبيح بخصوصه ‪ ،‬لكن تعرّضوا للذّكر أثناء الخطبة ‪،‬‬

‫فقالوا ‪ :‬الولى لغير السّامع للخطبة أن يشتغل بالتّلوة والذّكر ‪ .‬وأمّا السّامع فل يشتغل بشيء‬

‫من ذلك إلّ بالصّلة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم إذا سمع ذكره ‪.‬‬

‫التّسبيح في افتتاح صلة العيدين وبين تكبيرات الزّوائد فيها ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬الثّناء عقب تكبيرة الفتتاح في صلة العيدين سنّة عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬مستحبّ عند‬

‫الشّافعيّة ‪ ،‬وهو كما في افتتاح الصّلة على نحو ما سبق بيانه ‪.‬‬

‫والتّسبيح بين التّكبيرات الزّوائد في صلة العيدين سنّة كذلك عند الحنفيّة والحنابلة ومستحبّ‬

‫عند الشّافعيّة ‪ ،‬ول يقول به المالكيّة ‪ ،‬بل كرهوه ‪ ،‬أو أنّه خلف الولى عندهم ‪ ،‬فل يفصل‬

‫المام بين آحاده إلّ بقدر تكبير المؤتمّ ‪ ،‬بل قول من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ‪.‬‬

‫وليس فيه عند الحنفيّة ذكر مسنون بين هذه التّكبيرات ‪ ،‬ول بأس بأن يقول ‪ :‬سبحان اللّه‬ ‫ل اللّه واللّه أكبر ‪ .‬وهو أولى من السّكوت ‪ ،‬كما في القهستانيّ ‪.‬‬ ‫والحمد للّه ول إله إ ّ‬

‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬يذكر اللّه بين كلّ تكبيرتين بالمأثور ‪ ،‬وهو عند الكثرين منهم ‪ :‬سبحان اللّه ‪،‬‬ ‫والحمد للّه ‪ ،‬ول إله إلّ اللّه ‪ ،‬واللّه أكبر ‪ .‬ويجوز عند الحنابلة أن يقول بين كلّ تكبيرتين من‬

‫هذه التّكبيرات ‪ :‬اللّه أكبر كبيرا ‪ ،‬والحمد للّه كثيرا ‪ ،‬وسبحان اللّه بكر ًة وأصيلً ‪ ،‬وصلّى اللّه‬ ‫على محمّد النّبيّ وآله وسلّم تسليما كثيرا ‪ ،‬لقول عقبة بن عامر سألت ابن مسعود رضي ال‬ ‫عنه ممّا يقوله بين تكبيرات العيد فقال ‪ :‬يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى ال‬

‫عليه وسلم رواه الثرم وحرب واحتجّ به أحمد ‪.‬‬

‫التّسبيح للعلم بالصّلة ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬اختلف في تسبيح المؤذّنين للعلم بالصّلة بين كونه بدع ًة حسنةً ‪ ،‬أو مكروهةً على‬

‫خلف سبق في مصطلح ‪ ( :‬أذان ) ‪.‬‬

‫صلة التّسبيح ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬ورد في صلة التّسبيح حديث اختلف في صحّته ‪.‬‬

‫وللفقهاء خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ( صلة التّسبيح ) ‪.‬‬

‫أماكن ينهى عن التّسبيح فيها ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬لمّا كان التّسبيح نوعا من الذّكر ‪ ،‬وهو مكروه في الماكن التّالية ‪ ،‬كان التّسبيح مكروها‬

‫كذلك فيها ‪ ،‬لنّ النّهي عن العا ّم نهي عن الخاصّ ‪ ،‬وذلك تنزيها لسم اللّه عن الذّكر في هذه‬

‫الماكن المستقذرة طبعا ‪ .‬فيكره التّسبيح وغيره من الذّكر في الخلء عند قضاء الحاجة ‪ ،‬وفي‬ ‫مواضع النّجاسات والقاذورات ‪ ،‬والمواضع الدّنسة بنجاسة أو قذارة ‪ ،‬وعند الجماع ‪ ،‬وفي‬

‫الحمّام والمغتسل ‪ ،‬وما أشبه ذلك متى كان باللّسان ‪ .‬أمّا بالقلب فقط فإنّه ل يكره ‪ .‬وما لم تكن‬

‫هناك ضرورة له كإنقاذ أعمى من الوقوع في بئر أو غيره ‪ ،‬أو تحذير معصوم من هلكة كغافل‬ ‫أو ما أشبه ذلك ‪ .‬والولى التّحذير بغير التّسبيح والذّكر في مثل هذه الحالت ‪ .‬كما يكره الذّكر‬ ‫‪ -‬ومنه التّسبيح ‪ -‬لمن يسمع صوت الخطيب في الجمعة لما تقدّم‪.‬‬

‫التّعجّب بلفظ التّسبيح ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫ن النّبيّ‬ ‫‪ -‬يجوز التّعجّب بلفظ التّسبيح ‪ .‬ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي ال عنه « أ ّ‬

‫صلى ال عليه وسلم لقي أبا هريرة ‪ ،‬وأبو هريرة جنب ‪ ،‬فانسلّ ‪ ،‬فذهب فاغتسل ‪ ،‬فتفقّده النّبيّ‬ ‫صلى ال عليه وسلم فلمّا جاء قال ‪ :‬أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال ‪ :‬يا رسول اللّه لقيتني وأنا‬

‫جنب ‪ ،‬فكرهت أن أجالسك حتّى أغتسل ‪ .‬فقال ‪ :‬سبحان اللّه ! ‪ ،‬إنّ المؤمن ل ينجس » ‪ .‬وفي‬

‫صحيح مسلم عن أنس رضي ال عنه « أنّ أخت الرّبيّع أ ّم حارثة جرحت إنسانا ‪ ،‬فاختصموا‬ ‫إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬القصاص القصاص فقالت أ ّم الرّبيّع ‪ :‬يا رسول اللّه‬

‫أتقتصّ من فلنة ؟ واللّه ل يُ ْقتَصّ منها ‪ .‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬القصاص كتاب اللّه‬ ‫‪ .‬سبحان اللّه يا أ ّم الرّبيّع ! » ‪.‬‬

‫التّسبيح أمام الجنازة ‪:‬‬

‫‪23‬‬

‫‪ -‬يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لمشيّع الجنازة رفع صوته بالذّكر والتّسبيح‬

‫‪ ،‬لنّه من البدع المنكرات ‪ ،‬ول كراهة في ذلك لو كان في نفسه سرّا ‪ ،‬بحيث يسمع نفسه ‪،‬‬

‫ويستحبّ له أن يشغل نفسه بذكر اللّه والتّفكير فيما يلقاه الميّت ‪ ،‬وأنّ هذا عاقبة أهل الدّنيا ‪.‬‬

‫ويتجنّب ذكر ما ل فائدة فيه من الكلم ‪ ،‬فعن قيس بن عبادة رضي ال عنه أنّه قال ‪ « :‬كان‬ ‫أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يكرهون رفع الصّوت عند الجنائز ‪ ،‬وعند القتال ‪،‬‬ ‫وعند الذّكر » ‪ ،‬ولنّه تشبّه بأهل الكتاب فكان مكروها ‪.‬‬

‫التّسبيح عند الرّعد ‪:‬‬

‫‪24‬‬

‫‪ -‬التّسبيح عند الرّعد مستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬فيقول سامعه عند‬

‫سماعه ‪ :‬سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملئكة من خيفته ‪ ،‬اللّهمّ ل تقتلنا بغضبك ‪ ،‬ول‬

‫تهلكنا بعذابك ‪ ،‬وعافنا من قبل ذلك ‪ .‬فقد روى مالك في الموطّأ عن عبد اللّه بن الزّبير رضي‬ ‫ال عنهما « أنّه كان إذا سمع الرّعد ترك الحديث وقال ‪ :‬سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده‬

‫والملئكة من خيفته » ‪ ،‬وعن ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪ « :‬كنّا مع عمر رضي ال عنه‬

‫في سفر ‪ ،‬فأصابنا رعد وبرق وبرد ‪ ،‬فقال لنا كعب رضي ال عنه ‪ :‬من قال حين يسمع‬

‫الرّعد ‪ :‬سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملئكة من خيفته ‪ -‬ثلثا ‪ -‬عوفي من ذلك الرّعد ‪،‬‬

‫فقلنا فعوفينا » ‪.‬‬

‫قطع التّسبيح ‪:‬‬

‫‪25‬‬

‫ن المسبّح وغيره من الذّاكرين ‪ ،‬أو التّالين لكتاب اللّه ‪ ،‬إذا سمعوا‬ ‫‪ -‬الفقهاء متّفقون على أ ّ‬

‫المؤذّن ‪ -‬وهو يؤذّن أذانا مسنونا ‪ -‬يقطعون تسبيحهم ‪ ،‬وذكرهم وتلوتهم ‪ ،‬ويجيبون المؤذّن‬ ‫‪ .‬وهو مندوب عند الجمهور ‪ .‬وهناك قول عند الحنفيّة بالوجوب ‪.‬‬

‫ثواب التّسبيح ‪:‬‬

‫‪26‬‬

‫‪ -‬ثواب التّسبيح عظيم ‪ ،‬لما روي عن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ :‬أنّ رسول اللّه صلى ال‬

‫عليه وسلم قال ‪ « :‬من قال سبحان اللّه وبحمده في يوم مائة مرّة حُطّتْ خطاياه ‪ ،‬ولو كانت‬

‫مثل زبد البحر » وفي الباب أحاديث كثيرة ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬

‫تسبيل *‬

‫‪1‬‬

‫‪ -‬من معاني التّسبيل لغةً واصطلحا جعل الشّيء في سبيل اللّه ‪ .‬يقال ‪ :‬سبّل فلن ضيعته‬

‫تسبيلً ‪ :‬أي جعلها في سبيل اللّه ‪ ،‬وسبّلتُ الثّمرة ‪ :‬حملتها في سبيل الخير وأنواع البرّ ‪ .‬وفي‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إن شئتَ حبستَ أصلها‬ ‫حديث و ْقفِ عمر رضي ال عنه قول النّب ّ‬

‫ح ثمرتها لمن وقفتها عليه ‪ .‬وسبّلتَ الشّيء ‪ :‬إذا أبحته ‪،‬‬ ‫وتصدّقت بها » أي ‪ :‬اجعلها وقفا وَأبِ ْ‬ ‫كأنّك جعلت إليه طريقا مطروقةً ‪ .‬وسبيل اللّه عامّ يقع على كلّ عمل خالص سلك به طريق‬ ‫التّقرّب إلى اللّه تعالى بأداء الفرائص والنّوافل وأنواع التّطوّعات ‪ ،‬وقد يطلق السّبيل على‬

‫حوض الماء المباح للواردين ‪.‬‬

‫وفي النّظم المستعذب في شرح غريب المهذّب تسبيل الثّمرة ‪ :‬أن يجعل الواقف لها سبيلً ‪:‬‬

‫أي طريقا لمصرفها ‪ .‬وفي كشّاف القناع ‪ :‬تسبيل المنفعة ‪ :‬أي إطلق فوائد العين الموقوفة من‬ ‫غلّة وثمرة وغيرها للجهة المعيّنة تقرّبا إلى اللّه تعالى ‪.‬‬

‫ويطلق التّسبيل أيضا ‪ -‬اصطلحا ‪ -‬على الوقف ‪ ،‬يقال ‪ :‬سبّلت الدّار أي وقفتها ‪.‬‬

‫فالتّسبيل من ألفاظ الوقف الصّريحة عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬بأن يقول الواقف ‪ :‬سبّلت داري‬

‫لسكنى فقراء بلدة كذا وساكنيها ‪.‬‬

‫فلفظ التّسبيل صريح في الوقف ‪ ،‬لنّه موضوع له ومعروف فيه ‪ ،‬وثبت له عرف الشّرع ‪،‬‬

‫فإنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال لعمر رضي ال عنه ‪ « :‬إن شئت حبست أصلها وسبّلت‬

‫ثمرتها » فصار هذا اللّفظ في الوقف كلفظ التّطليق في الطّلق ‪ .‬وإضافة التّحبيس إلى الصل‬ ‫والتّسبيل إلى الثّمرة ل يقتضي المغايرة في المعنى ‪ ،‬فإنّ الثّمرة محبّسة أيضا على ما شرط‬

‫صرفها إليه ‪ .‬وأمّا عند الحنفيّة ‪ ،‬لو قال الواقف ‪ :‬أرضي هذه للسّبيل إن تعارفوا وقفا مؤبّدا ‪،‬‬ ‫ن لفظه يحتمل ذلك ‪ ،‬أو قال ‪:‬‬ ‫كان كذلك ‪ .‬وإلّ سئل فإن قال ‪ :‬أردت الوقف صار وقفا ‪ ،‬ل ّ‬

‫أردت معنى الصّدقة فهو نذر ‪ ،‬فيتصدّق بها أو بثمنها ‪ .‬وإن لم ينو كانت ميراثا ‪.‬‬

‫وأمّا المالكيّة فالّذي يظهر من كلمهم أنّ جعل الشّيء في السّبيل يقتضي التّصدّق بعينه ما لم‬

‫توجد قرينة تصرفه إلى معنى وقف العين والتّصدّق بثمرتها أو منفعتها ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬التّسبيل قربة مندوب إليها بالتّفاق ‪ ،‬لحديث « إذا مات النسان انقطع عمله إلّ من ثلثة ‪:‬‬

‫إلّ من صدقة جارية ‪ ،‬أو علم ينتفع به ‪ ،‬أو ولد صالح يدعو له » وقوله تعالى ‪ { :‬وا ْفعَلُوا‬

‫الخَيرَ } وفعله صلى ال عليه وسلم وأصحابه ‪ ،‬روى عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما أنّ «‬

‫عمر رضي ال عنه أتى النّبيّ صلى ال عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر فقال ‪ :‬قد‬ ‫صبْ مثله ‪ ،‬وقد أردت أن أتقرّب به إلى اللّه تعالى ‪ ،‬فقال إن شئت حبست‬ ‫أصبتُ مالً لم ُأ ِ‬

‫أصلها وتصدّقت بها » ‪ ،‬وقال جابر ‪ :‬لم يكن أحد من أصحاب النّبيّ صلى ال عليه وسلم ذو‬

‫مقدرة إلّ وقف وتفصيله في مصطلح ( صدقة ‪ -‬وقف ) ‪.‬‬

‫تسجيل *‬

‫انظر ‪ :‬توثيق ‪.‬‬

‫تسرّي *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫س ّريّة ‪ .‬يقال ‪ :‬تسرّى الرّجل جاريته وتسرّى بها واستسرّها ‪:‬‬ ‫‪ -‬التّسرّي في اللّغة ‪ :‬اتّخاذ ال ّ‬

‫إذا اتّخذها س ّريّةً ‪ ،‬وهي المة المملوكة يتّخذها سيّدها للجماع ‪.‬‬

‫سرّ بمع نى ‪ :‬الجماع ‪ ،‬غ ير أنّ هم ضمّوا ال سّين تجنّبا لح صول‬ ‫و هي في ال صل من سوبة إلى ال ّ‬ ‫س ّريّة و هي الحرّة الّ تي يتزوّج ها الرّ جل سرّا ‪ .‬وق يل هي من ال سّرّ‬ ‫الّل بس ‪ ،‬فرقا بين ها وب ين ال ّ‬

‫بمعنى الخفاء ‪ ،‬ل نّ الرّجال كثيرا ما كانوا يتّخذون ال سّراري سرّا ‪ ،‬ويخفونه نّ عن زوجاتهم‬ ‫سرّ بالضّ مّ بمعنى ال سّرور ‪ ،‬وسمّيت الجارية س ّريّةً ‪ ،‬لنّها موضع‬ ‫الحرائر ‪ .‬وقيل ‪ :‬هي من ال ّ‬

‫سرّها من دون سائر جواريه ‪.‬‬ ‫سرور الرّجل ‪ ،‬ولنّه يجعلها في حال َت ُ‬ ‫وفي الصطلح ‪ :‬إعداد المة لن تكون موطوءةً ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬ويتمّ التّسرّي عند الحنفيّة بأمرين ‪ :‬الوّل ‪ :‬أن يحصن الرّجل أمته ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬أن يجامعها‬

‫‪ .‬وتحصينها ‪ :‬بأن يبوّئها منزلً ويمنعها من الخروج ‪ ،‬فلو وطئ دون تحصين لم يثبت بذلك‬

‫التّ سرّي ‪ ،‬ولو حملت م نه ‪ .‬والجماع بأن يجامع ها فعلً ‪ ،‬فلو ح صّنها وأعدّ ها للو طء لم يث بت‬

‫التّسرّي بذلك ما لم يطأ فعلً ‪ .‬فإذا وطئ المحصنة ثبت التّسرّي سواء أفضى بمائه إليها أم ل ‪،‬‬

‫بأن لم ينزل أ صلً ‪ ،‬أو أنزل وعزل ‪ .‬وهذا قول أبي حني فة ومحمّد ‪ .‬وقال أ بو يو سف ‪ ،‬ون قل‬ ‫ل بأن يفضـي إليهـا بمائه ‪ ،‬فلو وطـئ فلم ينزل ‪ ،‬أو أنزل‬ ‫يتمـ التّسـرّي إ ّ‬ ‫ّافعيـ ‪ :‬ل ّ‬ ‫ّ‬ ‫عـن الش‬ ‫وعزل ‪ ،‬لم يثبت التّسرّي بذلك ‪ ،‬ولو حلف ل يتسرّى لم يحنث بذلك ‪.‬‬

‫والمقدّم عند الحنابلة أ نّ التّسرّي يثبت بوطء المة المملوكة غير المحرّمة على واطئها ‪ ،‬سواء‬

‫ح صّنها أم ل ‪ ،‬أنزل أم ل ‪ .‬وفي قول القاضي أبي يعلى ‪ :‬ل يت مّ التّسرّي إلّ بالوطء والنزال‬ ‫‪ .‬ولم نجد للمالكيّة نصّا في هذه المسألة ‪.‬‬

‫و سوف يكون هذا الب حث على أ نّ التّ سرّي هو و طء الرّ جل مملوك ته مطلقا ‪ ،‬سواء كان مع‬

‫ن ما ذكر من‬ ‫الوطء تحصين أم لم يكن ‪ ،‬ليكون شاملً لكلّ ما يتعلّق بوطء الماء بالملك ‪ ،‬ول ّ‬

‫الخلف عند الحنفيّة ل يظهر أثره ‪ ،‬إلّ في نحو الحنث في الحلف على التّسرّي ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬النّكاح ‪:‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬النّكاح ‪ :‬هو التّزوّج بعقد ‪ .‬وقد يتزوّج الرّجل أمةً لغيره ينكحه إيّاها سيّدها ‪ ،‬ول يسمّى‬

‫ذلك تسرّيا ‪ .‬ول ينكح الح ّر المة إلّ إذا خاف العنت ‪.‬‬

‫ظيّة ‪:‬‬ ‫ب ‪ -‬الحَ ِ‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬الحظيّة ‪ :‬المرأة تنال حظوةً لدى الرّجل من بين نسائه ‪ ،‬سواء أكانت زوجةً أم س ّريّةً ‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫س ّريّة فل بدّ أن‬ ‫‪ -‬ملك اليمين أعمّ من التّسرّي ‪ ،‬لنّه قد يطأ بملك اليمين بدون تسرّ ‪ ،‬أمّا ال ّ‬

‫ج ‪ -‬ملك اليمين ‪:‬‬

‫تكون مع ّد ًة للوطء ‪.‬‬

‫حكم التّسرّي ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫سنّة والجماع إذا تمّت شروطه كما يأتي ‪.‬‬ ‫‪ -‬التّسرّي جائز بالكتاب وال ّ‬

‫ل تُ ْقسِطُوا في ال َيتَامَى فَا ْن ِكحُوا ما طَابَ‬ ‫خ ْف ُتمْ أ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫أمّا الكتاب ففي مواضع منها قوله تعالى ‪َ { :‬وإِ ْ‬

‫ت أيمَانُكمْ ذلكَ أَ ْدنَى أَلّ‬ ‫لكم مِن ال ّنسَاءِ َم ْثنَى وثُلثَ و ُربَاعَ َفإِنْ خِ ْفتُم ألّ َتعْدِلُوا َفوَاحِدَةً أو ما مََل َك ْ‬

‫صنَاتُ مِن النّساءِ إلّ‬ ‫ح َ‬ ‫ح ّر َمتْ عليكم ُأ ّمهَاتُكم و َبنَاتُكم ‪ } ...‬إلى قوله ‪ { :‬وَال ُم ْ‬ ‫َتعُولُوا } وقوله { ُ‬

‫ن إلّ على أَزْوَاجِهم أو ما مََل َكتْ‬ ‫ت أَيما ُنكُم } وقوله ‪ { :‬والّذينَ هم لِفُروجِهم حَافِظُو َ‬ ‫ما مََل َك ْ‬

‫أَيمَانُهم َفِإنّهم غَيرُ مَلُومِين } قال ابن عابدين ‪ :‬فمن لم المتسرّي على أصل الفعل ‪ ،‬بمعنى ‪:‬‬

‫أنّك فعلت أمرا قبيحا فهو كافر لهذه الية ‪ ،‬لكن ل يكفر إن لمه على تسرّيه ‪ ،‬لنّه يشقّ على‬

‫زوجته أو نحو ذلك ‪.‬‬

‫سنّة فقد { قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم في سبايا أوطاس ل تُوطَُأ حاملٌ حتّى َتضَعَ ‪،‬‬ ‫وأمّا ال ّ‬

‫ح ْيضَةً » « وأعطى حسّان بن ثابت رضي ال عنه إحدى‬ ‫ض َ‬ ‫حمْلٍ حتّى تحي َ‬ ‫ول غي َر ذاتِ َ‬

‫الجواري الّتي أهداها له المقوقس ‪ ،‬وقال لحسّان دونَك هذه َبيّضْ بها ولدك » ‪.‬‬

‫سنّة الفعليّة أيضا دالّة على جواز التّسرّي ‪ ،‬فإنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كانت له سرار ‪:‬‬ ‫وال ّ‬

‫جكَ اللّاتِي آتَيتَ ُأجُو َرهُنّ‬ ‫قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى ‪ { :‬يَا َأيّها النّبيّ إنّا َأحْلَ ْلنَا َلكَ أَزْوَا َ‬ ‫ت َيمِي ُنكَ ِممّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيكَ } قال ‪ :‬أي وأباح لك التّسرّي ممّا أخذت من الغنائم ‪ ،‬وقد‬ ‫ومَا مََل َك ْ‬

‫ملك صفيّة وجويرية رضي ال عنهما ‪ ،‬فأعتقهما وتزوّجهما ‪ ،‬وملك ريحانة بنت شمعون‬

‫النّصرانيّة ومارية القبطيّة رضي ال عنهما ‪ ،‬وكانتا من السّراري ‪ .‬أي فكان يطؤهما بملك‬

‫اليمين ‪ .‬وكذلك الصّحابة رضي ال عنهم اتّخذوا السّراري ‪ ،‬فكان لعمر رضي ال عنه أمّهات‬ ‫أولد أوصى لكلّ واحدة منهنّ بأربعمائة درهم ‪ ،‬وكان لعليّ رضي ال عنه أمّهات أولد ‪،‬‬

‫وكان عليّ بن الحسين ‪ ،‬والقاسم بن محمّد ‪ ،‬وسالم بن عبد اللّه بن عمر من أمّهات الولد ‪.‬‬

‫وروي أنّ النّاس لم يكونوا يرغبون في أمّهات الولد حتّى ولد هؤلء الثّلثة ‪ ،‬فرغب النّاس‬ ‫فيهنّ ‪.‬‬

‫وأجمعت المّة على ذلك ‪ ،‬واستمرّ ذلك عند المسلمين دون نكير من أحد إلى حين انتهاء ال ّرقّ‬

‫ي والعصر العبّاسيّ لكثرة السّبي في‬ ‫في العصر الحديث ‪ .‬وقد كثر التّسرّي في العصر المو ّ‬

‫ن ولدن‬ ‫ن من السّراريّ ‪ .‬وكثيرا منه ّ‬ ‫الفتوح ‪ ،‬حتّى إنّ كثيرا من نساء الخلفاء العبّاسيّين كُ ّ‬

‫الخلفاء ‪ .‬هذا وليس التّسرّي خاصّا بالمّة السلميّة ‪ ،‬فقد ورد « أنّ إبراهيم عليه السلم‬

‫تسرّى بهاجر الّتي وهبه إيّاها ملك مصر » ‪ ،‬فولدت له إسماعيل عليه السلم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬كان‬ ‫لسليمان عليه السلم ثلثمائة س ّريّة ‪ ،‬وكان التّسرّي في الجاهليّة أيضا ‪.‬‬

‫سيّد لمته يبيح له وطأها دون عقد ‪:‬‬ ‫ملك ال ّ‬

‫‪7‬‬

‫سيّد لمته إلى إنشاء عقد زواج ‪ ،‬ولو عقد النّكاح لنفسه على مملوكته لم‬ ‫‪ -‬ل يحتاج وطء ال ّ‬

‫يصحّ النّكاح ‪ ،‬ولم تكن بذلك زوجةً ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬لنّ ملك الرّقبة يفيد ملك المنفعة وإباحة‬ ‫البضع ‪ ،‬فل يجتمع معه عقد أضعف منه ‪ .‬ولو كان الح ّر متزوّجا بأمة ‪ ،‬ثمّ ملك زوجته المة‬ ‫انفسخ نكاحها منه ‪ .‬ول يجوز أن يتزوّج أمةً له فيها شرك ‪.‬‬

‫حكمة إباحة التّسرّي ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬الحكمة في ذلك ‪ -‬بالضافة إلى استعفاف مالك المة بها ‪ -‬أنّ في التّسرّي تحصين الماء‬

‫سيّد ‪ ،‬وكون الولد أحرارا ‪ .‬وإذا ولدت‬ ‫لكيل َيمِلْنَ إلى الفجور ‪ ،‬وثبوت نسب أولدهنّ إلى ال ّ‬ ‫المة من سيّدها تكون أمّ ولد ‪ ،‬فتصير ح ّر ًة عند موته كما يأتي ‪.‬‬

‫حكم السّ ّريّة إذا ولدت من سيّدها ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫س ّريّة لسيّدها استحقّت العتق بموت سيّدها بحكم الشّرع ‪ ،‬وتسمّى حينئذ ( أمّ‬ ‫‪ -‬إذا ولدت ال ّ‬

‫ولد ) ول يمنع ذلك من استمرار تسرّي سيّدها بها إلى أن يموت أحدهما ‪ ،‬ول تباع ‪ ،‬ولها‬

‫أحكام خاصّة ( ر ‪ :‬أمّ ولد ) ‪.‬‬

‫شروط إباحة التّسرّي ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬يشترط لجواز التّسرّي ما يلي ‪:‬‬

‫الشّرط الوّل ‪ :‬الملك ‪ .‬فل يحلّ لرجل أن يطأ امرأةً في غير زواج إلّ بأن يكون مالكا لها ‪،‬‬

‫ن إلّ على أَزْوَاجِهم أو ما مََل َكتْ أيمانُهم فإنّهم غيرُ‬ ‫لقوله تعالى ‪ { :‬والّذينَ ُه ْم لِ ُفرُوجِهم حَافِظُو َ‬

‫ن ا ْب َتغَى َورَاءَ ذلكَ فأولئك هُمْ العَادُون } ‪.‬‬ ‫مَلُومين ‪ ،‬فَمَ ْ‬

‫وهذا الشّرط ل يحلّ لمرأة مالكة لعبد أن يطأها عبدها بملك اليمين ‪ ،‬ول يعلم في ذلك خلف‪.‬‬ ‫سيّد أمته بالشّراء أو الميراث أو الهبة أو بغير ذلك من وسائل كسب الملكيّة‬ ‫وسواء ملك ال ّ‬

‫المشروعة ‪ .‬أمّا إن علم أنّ المة مسروقة أو مغصوبة فل تحلّ له ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬ول يحلّ للرّجل أن يطأ جاري ًة له فيها شريك ‪ ،‬مهما قلّت نسبة ملك ذلك الشّريك فيها ‪.‬‬

‫قال ابن قدامة ‪ :‬ول نعلم في ذلك خلفا ‪ .‬وكذا ل يحلّ وطء المة المبعّضة ‪ ،‬وهي الّتي‬

‫بعضها معتق وبعضها رقيق ‪ ،‬لنّ الملك في الحالين غير تامّ ‪ .‬ومع ذلك فإذا وطئ جاريةً له‬ ‫فيها شرك ‪ ،‬فإنّه ل يحدّ للشّبهة ‪ ،‬لكن يعزّر ‪ ،‬وإن ولدت منه لحقه النّسب ‪.‬‬

‫الشّرط الثّاني ‪ :‬أن تكون الجارية مسلمةً أو كتابيّةً إذا كان المتسرّي مسلما ‪ .‬فإن كانت مجوسيّةً‬ ‫أو وثنيّةً لم تحلّ لسيّدها المسلم بملك اليمين ‪ ،‬كما ل تحلّ له بالزّواج لو كانت ح ّرةً ‪ ،‬وهذا قول‬

‫ش ِركَاتِ حتّى ُي ْؤمِنّ } ‪.‬‬ ‫جمهور الفقهاء ‪ ،‬واحتجّوا بقوله تعالى ‪ { :‬وَل َت ْنكِحُوا ال ُم ْ‬

‫ل تكون زوجة غيره ‪ ،‬أو معتدّته‬ ‫الشّرط الثّالث ‪ :‬أن ل تكون ممّن يحرمن مؤبّدا أو موقّتا ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫أو مستبرأته ‪ ،‬ما عدا التّحريم من حيث العدد ‪ .‬ولمعرفة المحرّمات من غيرهنّ على التّفصيل‬

‫ل للرّجل بملك اليمين عمّته أو خالته‬ ‫ينظر مصطلح ‪ ( :‬نكاح ) ‪ .‬وبهذا الشّرط يعلم أنّه ل يح ّ‬

‫أو غيرهنّ من محرّمات النّسب ‪ ،‬ويعتقن عليه بمجرّد الشّراء ‪ .‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬

‫ح ّر » ول تحلّ له بملك اليمين أمّه أو أخته أو خالته من‬ ‫ح َرمٍ فهو ُ‬ ‫حمٍ َم ْ‬ ‫« مَنْ مََلكَ ذَا َر ِ‬

‫الرّضاع لو ملكهنّ ‪ -‬وإن لم يعتقن عليه لكونهنّ من غير ذوي الرحام ‪ -‬وكذا سائر من يحرم‬

‫نكاحهنّ بالرّضاعة ‪.‬‬

‫وإذا وطئ الرّجل امرأةً بنكاح أو ملك يمين ‪ ،‬حرمت عليه أمّهاتها وبناتها ‪.‬‬

‫وحرمت المرأة على أبيه وابنه ‪ ،‬وهو تحريم الصّهر ‪ .‬ويشمل ذلك التّحريم النّكاح والتّسرّي‪.‬‬

‫ن من غير‬ ‫أمّا سائر ذوي الرحام من بنت عمّ أو بنت خال ‪ ،‬وسائر من يحلّ للرّجل نكاحه ّ‬

‫المحارم ‪ ،‬فيجوز إذا كنّ في ملكه أن يطأ منهنّ على سبيل التّسرّي ‪.‬‬

‫التّسرّي بأختين ونحوهما ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬يجوز الجمع بين الختين أو نحوهما ‪ -‬كالمرأة وعمّتها أو خالتها ‪ -‬في ملك اليمين ‪،‬‬

‫لكن إن وطئ إحداهما حرمت عليه الخرى تحريما موقّتا ‪ ،‬فلو وطئ الثّانية أثم ‪ ،‬وهذا قول‬

‫جمَعُوا بَينَ‬ ‫ن َت ْ‬ ‫الجمهور ‪ ،‬واستدلّوا بأنّ تحريم الختين المنصوص عليه في قوله تعالى ‪َ { :‬وأَ ْ‬ ‫ختَين } مطلق ‪ ،‬فيدخل فيه التّحريم بالزّواج وبملك اليمين ‪ .‬وعلى قول الجمهور ‪ :‬تحلّ له‬ ‫الُ ْ‬

‫الخرى إن حرّم الّتي وطئها بإعتاقها وبإخراجها عن ملكه ببيع أو نحوه ‪ ،‬أو بتزويجها ‪ ،‬ول‬ ‫يكفي أن يستبرئها مع بقائها في ملكه ‪ .‬ونقل عن قتادة ‪ :‬يكفيه استبراؤها ‪.‬‬

‫وقالوا جميعا ‪ :‬فإن كانت حاملً لم تحلّ له الخرى حتّى تضع الحامل حملها ‪.‬‬

‫الستبراء للمة المتملّكة ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬من تملّك جاريةً غير محرّمة عليه مؤقّتا أو مؤبّدا ‪ ،‬لم يحلّ له وطؤها قبل استبرائها ‪.‬‬

‫ل فحتّى تحيض عنده حيضةً‬ ‫فل يطؤها إن كانت حاملً حتّى تضع حملها ‪ ،‬وإن كانت حائ ً‬

‫كاملةً ‪ ،‬ليعلم براءة رحمها من الحمل ‪ ( .‬ر ‪ :‬استبراء ) ‪.‬‬

‫وإن كانت آيسةً لم يلزمه استبراؤها ‪ .‬ويرى المالكيّة أنّه ل حاجة إلى الستبراء إن غلب على‬

‫ظنّه براءة رحمها من الحمل ‪ .‬ويكفي قول مالكها أنّه قد استبرأها ‪.‬‬

‫عدد السّراري والقسم لهنّ ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬ل يتحدّد ما يحلّ للرّجل من السّراري بأربع ول بعدد معيّن ‪.‬‬

‫ولو كان عنده من الزّوجات واحدة فأكثر إلى أربع أو لم يكن جاز له أن يتسرّى بما شاء من‬

‫ل تُ ْقسِطُوا في ال َيتَامَى فَا ْن ِكحُوا مَا طَابَ لكمْ مِن النّساءِ‬ ‫خ ْفتُم َأ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫الجواري ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬وإِ ْ‬

‫خ ْفتُم ألّ َتعْدِلُوا فَوَاحِ َد ًة أو مَا مََل َكتْ َأ ْيمَا ُنكُم ذَلك َأ ْدنَى ألّ َتعُولُوا } وإذا‬ ‫ع فإنْ ِ‬ ‫ث َورُبا َ‬ ‫َم ْثنَى َوثُل َ‬ ‫كان عنده أكثر من س ّريّة لم يلزمه القسم بينهنّ في المبيت ‪.‬‬

‫تخيّر السّراري وتحصينهنّ ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫س ّريّة ذات دين غير مائلة للفجور ‪ ،‬وذلك‬ ‫‪ -‬يستحسن للرّجل إن أراد التّسرّي أن يتخيّر ال ّ‬

‫لتصون عرضه ‪ ،‬وأن تكون ذات جمال لنّها أسكن لنفسه وأغضّ لبصره ‪ ،‬وأن تكون ذات‬

‫عقل ‪ ،‬فيجتنب الحمقاء لنّها ل تصلح للعشرة ‪ ،‬ولنّها قد تحمل منه فينتقل ذلك إلى ولده منها ‪.‬‬ ‫خّيرُوا ِل ُنطَ ِفكُم » وكلّ هذا مأخوذ من فحوى ما يذكره‬ ‫وقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم « َت َ‬

‫العلماء في تخيّر الزّوجات ‪.‬‬

‫س ّريّة وجب عليه قبل وطئها ‪ -‬إن كان قد تملّكها في الحال ‪ -‬استبراؤها ‪ ،‬وعليه‬ ‫وإذا اختار ال ّ‬

‫أن يحصنها بعد ذلك ‪ ،‬لئلّ تلحق به ولدا ليس له ‪.‬‬

‫قال عمر بن الخطّاب رضي ال عنه ‪ ":‬حصّنوا هذه الولئد "‪.‬‬

‫آثار التّسرّي ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬إذا ثبت التّسرّي تبعه التّحريم بالصّهر ‪ ،‬والمحرميّة ‪ ،‬ولحوق النّسب المولود ‪ ،‬على‬

‫التّفصيل التّالي ‪:‬‬

‫أوّلً ‪ :‬التّحريم ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬إذا وطئ الرّجل امرأةً بملك اليمين حرمت عليه إلى البد أمّهاتها وبناتها ‪ ،‬وحرمت هي‬

‫على آبائه وأبنائه ‪ ،‬لنّ الوطء في ملك اليمين ينزل منزلة عقد النّكاح ‪.‬‬

‫وحرمت عليه أختها وعمّتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها مؤقّتا كما تقدّم ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬المحرميّة ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬تثبت المحرميّة بالوطء المذكور بين الواطئ وبين أمّهات الموطوءة وبناتها ‪ ،‬وبين‬

‫الموطوءة وآبائه وأبنائه ‪.‬‬

‫نسب ولد السّ ّريّة ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬إذا وطئ الرّجل س ّريّته فأتت بولد فللفقهاء أقوال في لحوق نسب ولدها به ‪:‬‬

‫القول الوّل ‪ :‬أنّه يلحقه إن أمكن أن يكون منه ‪ ،‬بأن أتت به تامّا لكثر من ستّة أشهر ولقلّ‬

‫من أكثر مدّة الحمل من يوم وطئها ‪ .‬وهذا قول الحنابلة والمالكيّة ‪.‬‬

‫ل مدّة الحمل ستّة أشهر ‪ .‬واستدلّوا لذلك بأنّ‬ ‫ن أق ّ‬ ‫فإن أتت به لقلّ من ستّة أشهر لم يلحقه ‪ ،‬ل ّ‬

‫أمته صارت فراشا له بالوطء ‪ ،‬فلحقه ولدها كولد الزّوجة ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم «‬

‫الولد للفراش » وروي عن عمر رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬حصّنوا هذه الولئد ‪ ،‬فل يطأ رجل‬ ‫وليدته ثمّ ينكر ولدها إلّ ألزمته إيّاه ‪ .‬رواه سعيد بن منصور ‪ .‬وروى سعيد أيضا أنّ عمر‬

‫رضي ال عنه قال ‪ :‬أيّما رجل غشي أمته ثمّ ضيّعها فالضّيعة عليه والولد ولده ‪.‬‬

‫ثمّ قال أصحاب هذا القول ‪ :‬إن نفى الولد عن نفسه مع ثبوت الوطء لم ينتف عنه ‪ ،‬إلّ أن‬

‫يدّعي أنّه استبرأها بعد الوطء ‪ ،‬وأتت بالولد بعد استبرائها ‪ ،‬بستّة أشهر فأكثر ‪ ،‬فينتفي الولد‬ ‫بذلك ‪ .‬وفي تحليفه على ذلك وجهان ‪.‬‬

‫القول الثّاني ‪ :‬أنّه ل يلحقه ولو أقرّ بالوطء إلّ أن يستلحقه ‪ ،‬ول تصير المة فراشا بالوطء إلّ‬

‫بالدّعوة ‪ ،‬أي استلحاق نسب المولود ‪ .‬ثمّ إذا استلحق أحد أولد المة لحقه من تلدهم بعده ‪،‬‬ ‫لكن إن انتفى من نسب أحدهم لم يلحقه ‪.‬‬

‫ول يحرم عليه النتفاء من نسب ولدها إن كان عزل عنها ‪ ،‬وهذا قول الحنفيّة ‪.‬‬

‫القول الثّالث ‪ :‬أنّه يلحقه ‪ ،‬لكن لو نفاه لم يلحقه وهو قول الحسن والشّعبيّ ‪.‬‬

‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬نسب ) ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تسعير *‬

‫‪ -‬التّسعير في اللّغة ‪ :‬هو تقدير السّعر ‪ .‬يقال ‪ :‬سعّرت الشّيء تسعيرا ‪ :‬أي جعلت له سعرا‬

‫معلوما ينتهي إليه ‪ .‬وسعّروا تسعيرا ‪ :‬أي ‪ :‬اتّفقوا على سعر ‪.‬‬

‫س َع َر النّار إذا رفعها ‪ ،‬لنّ السّعر يوصف بالرتفاع ‪ .‬ذكره الزّمخشريّ ‪.‬‬ ‫والسّعر مأخوذ من َ‬ ‫والتّسعير في الصطلح ‪ :‬تقدير السّلطان أو نائبه للنّاس سعرا ‪ ،‬وإجبارهم على التّبايع بما‬

‫قدّره ‪ .‬وقال ابن عرفة ‪ :‬حدّ التّسعير ‪ :‬تحديد حاكم السّوق لبائع المأكول فيه قدرا للمبيع بدرهم‬

‫معلوم ‪.‬‬

‫وقال الشّوكانيّ ‪ :‬التّسعير أن يأمر السّلطان أو نوّابه أو كلّ من ولي من أمور المسلمين أمرا‬

‫أهل السّوق ألّ يبيعوا أمتعتهم إلّ بسعر كذا ‪،‬فيمنع من الزّيادة عليه أو النّقصان إلّ لمصلحة‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬الحتكار ‪:‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬الحتكار لغةً ‪ :‬من الحكر ‪ ،‬وهو الظّلم واللتواء والعسر وسوء المعاشرة ‪ ،‬واحتكار‬

‫الطّعام ‪ :‬حبسه تربّصا لغلئه ‪ ،‬والحكرة ‪ :‬اسم من الحتكار ‪.‬‬

‫ل مذهب‬ ‫وفي الصطلح ‪ :‬اختلفت تعريفات الفقهاء فيه ‪ ،‬بناءً على القيود الّتي وضعها ك ّ‬

‫وترجع كلّها إلى حبس السّلع انتظارا لرتفاع أثمانها ‪ .‬ويرجع فيه إلى مصطلح ( احتكار )‬ ‫فالحتكار مباين للتّسعير ‪ .‬إلّ أنّ وجود الحتكار ممّا يستدعي التّسعير لمقاومة الغلء ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّثمين ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّثمين ‪ :‬مصدر ثمّنت الشّيء أي ‪ :‬جعلت له ثمنا بالحدس والتّخمين ‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬تقويم الشّيء ‪ :‬أن يجعل له قيم ًة معلومةً ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّقويم ‪:‬‬

‫الحكم التّكليفيّ للتّسعير ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬اتّفق فقهاء المذاهب الربعة على أنّ الصل في التّسعير هو الحرمة ‪.‬‬

‫أمّا جواز التّسعير فمقيّد عندهم بشروط معيّنة يأتي بيانها ‪.‬‬

‫سنّة ‪:‬‬ ‫‪ -6‬واستدلّ صاحب البدائع لثبات الحرمة بالمنقول من الكتاب وال ّ‬

‫أمّا الكتاب ‪ :‬فقوله تعالى ‪ { :‬يا َأ ّيهَا الّذينَ آ َمنُوا ل تَ ْأكُلُوا َأمْوَاَلكُم بَي َنكُم بِالبَاطِلِ إلّ أَنْ َتكُونَ‬

‫ض ِم ْنكُم } ‪ .‬فاشترطت الية التّراضي ‪ ،‬والتّسعير ل يتحقّق به التّراضي ‪ .‬وأمّا‬ ‫ِتجَا َرةً عنْ َترَا ٍ‬

‫حلّ مالُ امْرئٍ مسلم إلّ بطيب نفس منه » ‪.‬‬ ‫سنّة ‪ :‬فقوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬ل َي ِ‬ ‫ال ّ‬

‫واستدلّ صاحب المغني بما روى أنس رضي ال عنه قال ‪ « :‬غل السّعر في المدينة على عهد‬

‫رسول اللّه صلّى صلى ال عليه وسلم فقال النّاس ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ :‬غل السّعر فسعّر لنا ‪ ،‬فقال‬ ‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّ اللّه هو المسعّر القابض الباسط الرّازق ‪ ،‬إنّي لرجو أن‬ ‫ألقى اللّه وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ول مال » ‪.‬‬

‫قال ابن قدامة والدّللة من وجهين ‪:‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬أنّه صلى ال عليه وسلم لم يسعّر ‪ ،‬وقد سألوه ذلك ‪ ،‬ولو جاز لجابهم إليه ‪.‬‬

‫‪ -‬أنّه علّل بكونه مظلمةً والظّلم حرام ‪ .‬وبما روي عن عمر رضي ال تعالى عنه" أنّه مرّ‬

‫بحاطب بن أبي بلتعة رضي ال عنه وهو يبيع زبيبا له في السّوق ‪ ،‬فقال له ‪ :‬إمّا أن تزيد في‬

‫السّعر ‪ ،‬وإمّا أن ترفع من سوقنا ‪ ،‬فلمّا رجع عمر حاسب نفسه ‪ ،‬ثمّ أتى حاطبا في داره ‪ ،‬فقال‬ ‫له ‪ :‬إنّ الّذي قلت لك ليس بعزيمة منّي ول قضاء ‪ ،‬إنّما هو شيء أردت به الخير لهل البلد ‪،‬‬

‫فحيث شئت فبع ‪ ،‬وكيف شئت فبع "‪.‬‬

‫ن للنّاس ح ّريّة التّصرّف في أموالهم ‪ ،‬والتّسعير حجر عليهم ‪،‬‬ ‫‪ -7‬واستدلّوا بالمعقول ‪ :‬وهو أ ّ‬

‫والمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين ‪ ،‬وليس نظره لمصلحة المشتري برخص الثّمن أولى‬

‫من نظره لمصلحة البائع بتوفير الثّمن ‪ .‬والثّمن حقّ العاقد فإليه تقديره ‪.‬‬

‫ثمّ إنّ التّسعير سبب الغلء والتّضييق على النّاس في أموالهم ‪ ،‬لنّ الجالبين إذا بلغهم ذلك لم‬

‫يقدموا بسلعهم بلدا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون ‪ ،‬ومن عنده البضاعة يمتنع من‬

‫بيعها ويكتمها ‪ ،‬ويطلبها أهل الحاجة إليها ‪ ،‬فل يجدونها إلّ قليلً ‪ ،‬فيرفعون في ثمنها ليصلوا‬

‫إليها ‪ ،‬فتغلو السعار ويحصل الضرار بالجانبين ‪ ،‬جانب المشتري في منعه من الوصول إلى‬ ‫غرضه ‪ ،‬وجانب الملّاك في منعهم من بيع أملكهم ‪ ،‬فيكون حراما ‪.‬‬

‫شروط جواز التّسعير ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫ي المر في أسعار السّلع ‪ ،‬إلّ أنّ هناك‬ ‫‪ -‬تقدّم أنّ الصل منع التّسعير ‪ ،‬ومنع تدخّل ول ّ‬

‫حالت يكون للحاكم بمقتضاها حقّ التّدخّل بالتّسعير ‪ ،‬أو يجب عليه التّدخّل على اختلف‬ ‫القوال ‪ .‬وهذه الحالت هي ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تعدّي أرباب الطّعام عن القيمة تعدّيا فاحشا ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬وفي هذه الحالة صرّح فقهاء الحنفيّة بأنّه يجوز للحاكم أن يسعّر على النّاس إن تعدّى‬

‫أرباب الطّعام عن القيمة تعدّيا فاحشا ‪ ،‬وعجز عن صيانة حقوق المسلمين إلّ بالتّسعير ‪ ،‬وذلك‬

‫بعد مشورة أهل الرّأي والبصيرة ‪ ،‬وهو المختار ‪ ،‬وبه يفتى ‪ ،‬لنّ فيه صيانة حقوق المسلمين‬ ‫عن الضّياع ‪ ،‬ودفع الضّرر عن العامّة ‪.‬‬

‫والتّعدّي الفاحش كما عرّفه الزّيلعيّ وغيره هو البيع بضعف القيمة ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬حاجة النّاس إلى السّلعة ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬وفي هذا المعنى قال الحنفيّة ‪ :‬ل ينبغي للسّلطان أن يسعّر على النّاس ‪ ،‬إلّ إذا تعلّق به‬

‫ي مثل هذا‬ ‫دفع ضرر العامّة ‪ ،‬كما اشترط المالكيّة وجود مصلحة فيه ‪ ،‬ونسب إلى الشّافع ّ‬

‫المعنى ‪ .‬وكذا إذا احتاج النّاس إلى سلح للجهاد ‪ ،‬فعلى أهل السّلح بيعه بعوض المثل ‪ ،‬ول‬

‫يمكّنون من أن يحبسوا السّلح حتّى يتسلّط العدوّ ‪ ،‬أو يبذل لهم من الموال ما يختارون ‪.‬‬

‫ويقول ابن تيميّة ‪ :‬إنّ لوليّ المر أن يكره النّاس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة‬ ‫خمَصة ‪ ،‬فإنّه يجبر على بيعه‬ ‫النّاس إليه ‪ ،‬مثل من عنده طعام ل يحتاج إليه ‪ ،‬والنّاس في مَ ْ‬ ‫للنّاس بقيمة المثل ‪ .‬ولهذا قال الفقهاء ‪ :‬من اضط ّر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره‬

‫ل سعره ‪.‬‬ ‫بقيمة مثله ‪ ،‬ولو امتنع من بيعه إلّ بأكثر من سعره لم يستحقّ إ ّ‬

‫والصل في ذلك حديث العتق ‪ ،‬وهو قوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬من أعتق شركا له في‬

‫عبد ‪ ،‬فكان له من المال يبلغ ثمن العبد ‪ ،‬قوّم عليه قيمة العدل ‪ ،‬فأعطى شركاءه حصصهم ‪،‬‬ ‫ي"‬ ‫وعتق عليه العبد وإلّ فقد عتق منه ما عتق » ويقول ابن القيّم ‪ :‬إنّ هذا الّذي أمر به النّب ّ‬

‫صلى ال عليه وسلم من تقويم الجميع ( أي جميع العبد ) قيمة المثل هو حقيقة التّسعير ‪ ،‬فإذا‬ ‫كان الشّارع يوجب إخراج الشّيء عن ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق ‪ ،‬ولم‬

‫يمكّن المالك من المطالبة بالزّيادة على القيمة ‪ ،‬فكيف إذا كانت الحاجة بالنّاس إلى التّملّك أعظم‬ ‫‪ ،‬مثل حاجة المضطرّ إلى الطّعام والشّراب واللّباس وغيره ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬احتكار المنتجين أو التّجّار ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ الحتكار حرام في القوات ‪ ،‬كما أنّه ل خلف بينهم في أنّ‬

‫جزاء الحتكار هو بيع السّلع المحتكرة جبرا على صاحبها بالثّمن المعقول مع تعزيره‬ ‫ومعاقبته ‪ ،‬على التّفصيل المتقدّم بيانه في مصطلح ( احتكار ) ‪.‬‬

‫ل حقيقة التّسعير ‪ ،‬وهذا توجيه صرّح به ابن‬ ‫ي المر إ ّ‬ ‫وما تحديد الثّمن المعقول من جانب ول ّ‬

‫تيميّة ‪ .‬في حين اعتبر بعض الفقهاء المحتكر ممّن ل يسعّر عليه كما سيأتي ‪.‬‬

‫د ‪ -‬حصر البيع لناس معيّنين ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬صرّح ابن تيميّة بأنّه ل تردّد عند أحد من العلماء في وجوب ر ّد التّسعير في حالة إلزام‬

‫النّاس أن ل يبيع الطّعام أو غيره إلّ أناس معروفون ‪ ،‬فهنا يجب التّسعير عليهم بحيث ل‬

‫ل بقيمة المثل ‪ ،‬ول يشترون إلّ بقيمة المثل ‪ .‬لنّه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك‬ ‫يبيعون إ ّ‬ ‫النّوع أو يشتريه ‪ ،‬فلو سوّغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا ‪ ،‬أو يشتروا بما اختاروا لكان ذلك ظلما‬

‫للبائعين الّذين يريدون بيع تلك الموال ‪ ،‬وظلما للمشترين منهم ‪ .‬فالتّسعير في مثل هذه الحالة‬ ‫واجب بل نزاع ‪ ،‬وحقيقة إلزامهم أن ل يبيعوا أو ل يشتروا إلّ بثمن المثل ‪.‬‬

‫هـ – تواطؤ البائعين ضدّ المشترين أو العكس ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬إذا تواطأ ال ّتجّار أو أرباب السّلع على سعر يحقّق لهم ربحا فاحشا ‪ ،‬أو تواطأ مشترون‬

‫على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتّى يهضموا سلع النّاس يجب التّسعير ‪ ،‬وهذا ما اختاره‬ ‫ابن تيميّة ‪ ،‬وأضاف قائلً ‪ :‬ولهذا منع غير واحد من العلماء ‪ -‬كأبي حنيفة وأصحاب‪ -‬القسّام‬

‫الّذين يقسمون بالجر أن يشتركوا ‪ ،‬فإنّهم إذا اشتركوا ‪ ،‬والنّاس محتاجون إليهم أغلوا عليهم‬

‫الجر ‪ ،‬فمنع البائعين ‪ -‬الّذين تواطئوا على أن ل يبيعوا إلّ بثمن قدّروه ‪ -‬أولى ‪ ،‬وكذلك منع‬

‫المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم ‪ ،‬حتّى يهضموا سلع النّاس أولى ‪.‬‬

‫ن إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظّلم والعدوان ‪ .‬وقد قال تعالى ‪َ { :‬و َتعَا َونُوا على البِرّ‬ ‫لّ‬

‫لثْمِ والعُ ْدوَانِ } ‪.‬‬ ‫والتّقْوَى ول َتعَا َونُوا على ا ِ‬

‫و ‪ -‬احتياج النّاس إلى صناعة طائفة ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬وهذا ما يقال له التّسعير في العمال ‪ :‬وهو أن يحتاج النّاس إلى صناعة طائفة كالفلحة‬

‫والنّساجة والبناء وغير ذلك ‪ ،‬فلوليّ المر أن يلزمهم بذلك بأجرة المثل إذا امتنعوا عنه ‪ ،‬ول‬

‫يمكّنهم من مطالبة النّاس بزيادة عن عوض المثل ‪ ،‬ول يمكّن النّاس من ظلمهم بأن يعطوهم‬ ‫دون حقّهم ‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬وخلصة رأي ابن تيميّة وابن القيّم أنّه إذا لم تتمّ مصلحة إلّ بالتّسعير سعّر عليهم‬

‫السّلطان تسعير عدل بل وكس ول شطط ‪ ،‬وإذا اندفعت حاجتهم ‪ ،‬وقامت مصلحتهم بدونه لم‬

‫يفعل ‪ .‬وهذا يدلّ على أنّ الحالت المذكورة ليست حصرا للحالت الّتي يجب فيها التّسعير ‪،‬‬

‫ل بالتّسعير ‪ ،‬ول تتحقّق مصلحتهم إلّ به كان واجبا على‬ ‫بل كلّما كانت حاجة النّاس ل تندفع إ ّ‬ ‫الحاكم حقّا للعامّة ‪ ،‬مثل وجوب التّسعير على الوالي عام الغلء كما قال به مالك ‪ ،‬وهو وجه‬

‫للشّافعيّة أيضا ‪.‬‬

‫الصّفة الواجب توافرها في التّسعير ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬إنّ المتتبّع للنّصوص الفقهيّة وآراء الفقهاء يجد أنّه ل بدّ لفرض التّسعير من تحقّق صفة‬

‫العدل ‪ ،‬إذ ل يكون التّسعير محقّقا للمصلحة إلّ إذا كانت فيه المصلحة للبائع والمبتاع ‪ ،‬ول‬

‫يمنع البائع ربحا ‪ ،‬ول يسوّغ له منه ما يضرّ بالنّاس ‪.‬‬

‫ولهذا اشترط مالك عندما رأى التّسعير على الجزّارين أن يكون التّسعير منسوبا إلى قدر‬

‫شرائهم ‪ ،‬أي أن تراعى فيه ظروف شراء الذّبائح ‪ ،‬ونفقة الجزارة ‪ ،‬وإلّ فإنّه يخشى أن يقلعوا‬ ‫عن تجارتهم ‪ ،‬ويقوموا من السّوق ‪.‬‬

‫وهذا ما أعرب عنه القاضي أبو الوليد الباجيّ من أنّ التّسعير بما ل ربح فيه لل ّتجّار يؤدّي إلى‬ ‫فساد السعار ‪ ،‬وإخفاء القوات وإتلف أموال النّاس ‪.‬‬

‫كيفيّة التّسعير ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬تعرّض جمهور الفقهاء القائلون بجواز التّسعير لبيان كيفيّة تعيين السعار ‪ ،‬وقالوا ‪:‬‬

‫ينبغي للمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشّيء ‪ ،‬ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم ‪،‬‬ ‫وأن يسعّر بمشورة أهل الرّأي والبصيرة ‪ ،‬فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون ؟ فينازلهم إلى‬

‫ما فيه لهم وللعامّة سداد حتّى يرضوا به ‪.‬‬

‫قال أبو الوليد الباجيّ ‪ :‬ووجه ذلك أنّه بهذا يتوصّل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين ‪،‬‬

‫ويجعل للباعة في ذلك من الرّبح ما يقوم بهم ‪ ،‬ول يكون فيه إجحاف بالنّاس ‪.‬‬

‫ول يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم ‪ :‬ل تبيعوا إلّ بكذا ربحتم أو خسرتم من غير أن‬

‫ل بمثل الثّمن الّذي اشتريتم به ‪.‬‬ ‫ينظر إلى ما يشترون به ‪ .‬وكذلك ل يقول لهم ‪ :‬ل تبيعوا إ ّ‬

‫ما يدخله التّسعير ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في تحديد الشياء الّتي يجري فيها التّسعير على الصل المشار إليه في‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪.‬‬

‫فذهب الشّافعيّة في الظهر عندهم ‪ -‬وهو قول القهستانيّ الحنفيّ ‪ -‬إلى أنّ التّسعير يجري في‬

‫القوتين ( قوت البشر ‪ ،‬وقوت البهائم ) وغيرهما ‪ ،‬ول يختصّ بالطعمة وعلف الدّوابّ ‪.‬‬

‫واستظهر ابن عابدين ‪ -‬بناءً على قول أبي حنيفة في الحجر للضّرر ‪ ،‬وقول أبي يوسف في‬

‫الحتكار ‪ -‬جواز تسعير ما عدا القوتين أيضا كاللّحم والسّمن رعاي ًة لمصلحة النّاس ‪.‬‬

‫وهناك قول آخر للحنفيّة صرّح به العتّابيّ والحسّاس وغيرهما ‪ ،‬وهو أنّ التّسعير يكون في‬

‫القوتين فقط ‪ .‬وعليه اختيار ابن تيميّة ‪ ،‬فلم يقصر التّسعير على الطّعام ‪ ،‬بل ذكره كمثال كما‬

‫سبق ‪ .‬وانتهج ابن القيّم منهج ابن تيميّة في هذا الباب ‪ ،‬وأطلق جواز التّسعير للسّلع أيّا كانت ‪،‬‬ ‫ما دامت ل تباع على الوجه المعروف وبقيمة المثل ‪.‬‬

‫ي الدّين إلزام أهل السّوق المعاوضة بثمن المثل ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّه ل نزاع فيه ‪،‬‬ ‫وأوجب الشّيخ تق ّ‬

‫لنّه مصلحة عامّة لحقّ اللّه تعالى ‪ ،‬ول تت ّم مصلحة النّاس إلّ بها كالجهاد ‪ .‬ثمّ يقول صاحب‬ ‫مطالب أولي النّهى ‪ :‬وهو إلزام حسن في مبيع ثمنه معلوم بين النّاس ل يتفاوت كموزون‬

‫ونحوه ‪ .‬وعند المالكيّة قولن كذلك ‪:‬‬

‫القول الوّل ‪ :‬يكون التّسعير في المكيل والموزون فقط طعاما كان أو غيره ‪ ،‬وأمّا غير المكيل‬ ‫والموزون فل يمكن تسعيره لعدم التّماثل فيه ‪ ،‬وهو قول ابن حبيب ‪.‬‬

‫قال أبو الوليد الباجيّ ‪ :‬هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين ‪ ،‬أمّا إذا اختلفا لم يؤمر‬

‫صاحب الجيّد أن يبيعه بمثل سعر ما هو أدون ‪ ،‬لنّ الجودة لها حصّة من الثّمن كالمقدار ‪.‬‬ ‫القول الثّاني ‪ :‬يكون التّسعير في المأكول فقط وهو قول ابن عرفة ‪.‬‬

‫من يسعّر عليه ومن ل يسعّر عليه ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬من يسعّر عليهم هم أهل السواق ‪ .‬وأمّا من ل يسعّر عليهم فهم ‪:‬‬

‫أوّلً ‪ :‬الجالب ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة وأكثر المالكيّة ‪ ،‬وهو قول لدى الشّافعيّة أيضا إلى ‪ :‬أنّ الجالب ل‬

‫يسعّر عليه إلّ إذا خيف الهلك على النّاس ‪ ،‬فيؤمر الجالب أن يبيع طعامه من غير رضاه ‪،‬‬

‫وروي أيضا عن عبد اللّه بن عمر رضي ال عنهما ‪ ،‬والقاسم بن محمّد ‪ ،‬وسالم بن عبد اللّه‬ ‫عدم جواز التّسعير على الجالب ‪ .‬وقال ابن حبيب من المالكيّة يسعّر عليه فيما عدا القمح‬

‫والشّعير ‪ ،‬وأمّا جالبهما فيبيع كيف شاء ‪.‬‬

‫وكذلك جالب الزّيت والسّمن واللّحم والبقل والفواكه وما أشبه ذلك ممّا يشتريه أهل السّوق من‬

‫الجالبين ‪ ،‬فهذا أيضا ل يسعّر على الجالب ول يقصد بالتّسعير ‪ ،‬ولكنّه إذا استق ّر أمر أهل‬

‫السّوق على سعر قيل له ‪ :‬إمّا أن تلحق به ‪ ،‬وإلّ فاخرج ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬المحتكر ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬مذهب الحنفيّة أنّه ل يسعّر على المحتكر بل يؤمر بإخراج طعامه إلى السّوق ‪ ،‬ويبيع ما‬

‫فضل عن قوت سنة لعياله كيف شاء ‪ ،‬ل يسعّر عليه ‪ ،‬سواء أكانوا تجّارا ‪ ،‬أم زرّاعا لنفسهم‬

‫‪ .‬وقال محمّد بن الحسن ‪ :‬يجبر المحتكر على بيع ما احتكر ول يسعّر عليه ‪ ،‬ويقال له ‪ :‬بع‬

‫كما يبيع النّاس ‪ ،‬وبزيادة يتغابن في مثلها ‪ ،‬ول أتركه يبيع بأكثر ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬من يبيع في غير دكّان ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬قال صاحب التّيسير ‪ :‬ل يسعّر على من يبيع في غير دكّان ول حانوت يعرض للخاصّ‬

‫والعامّ ‪ ،‬ول على بائع الفواكه والذّبائح وجميع أهل الحرف والصّنائع ‪ ،‬والمتسبّبين من حمّال‬

‫ل صنعة ضامنا أمينا ‪ ،‬وثقةً‬ ‫ودلل وسمسار وغيرهم ‪ ،‬ولكنّه ينبغي للوالي أن يقبض من أهل ك ّ‬ ‫‪ ،‬وعارفا بصنعته خبيرا بالجيّد والرّديء من حرفته يحفظ لجماعته ما يجب أن يحفظ من‬

‫أمورهم ‪ ،‬ويجري أمورهم على ما يجب أن تجري ‪ ،‬ول يخرجون عن العادة فيما جرت فيه‬ ‫العادة في صنعتهم ‪.‬‬

‫أمر الحاكم بخفض السّعر ورفعه مجاراةً لغلب التّجّار ‪:‬‬

‫‪23‬‬

‫‪ -‬قال الباجيّ ‪ :‬السّعر الّذي يؤمر من حطّ عنه أن يلحق به هو السّعر الّذي عليه جمهور‬

‫النّاس ‪ ،‬فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحطّ السّعر ‪ ،‬أمر من حطّه باللّحاق بسعر‬

‫النّاس أو ترك البيع ‪ ،‬وإن زاد في السّعر واحد أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللّحاق‬

‫ن من باع به من الزّيادة ليس بالسّعر المتّفق عليه ‪ ،‬ول بما‬ ‫بسعره ‪ ،‬أو المتناع من البيع ‪ ،‬ل ّ‬

‫تقام به المبيعات ‪ ،‬وإنّما يراعي في ذلك حال الجمهور ومعظم النّاس ‪.‬‬

‫مخالفة التّسعير‬ ‫أ ‪ -‬حكم البيع مع مخالفة التّسعير ‪:‬‬

‫‪24‬‬

‫ن من خالف التّسعير صحّ‬ ‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ -‬في الصحّ ‪ -‬إلى أ ّ‬

‫بيعه ‪ ،‬إذ لم يعهد الحجر على الشّخص في ملكه أن يبيع بثمن معيّن ‪ .‬ولكن إذا سعّر المام‬ ‫وخاف البائع أن يعزّره المام لو نقص عمّا سعّره ‪ ،‬فصرّح الحنفيّة أنّه ل يحلّ للمشتري‬

‫الشّراء بما سعّره المام ‪ ،‬لنّه في معنى المكره ‪ ،‬وينبغي أن يقول ‪ :‬بعني بما تحبّ ‪ ،‬ليصحّ‬

‫البيع ‪ .‬وصحّة البيع مع مخالفة التّسعير متبادر من كلم المالكيّة أيضا ‪ ،‬لنّهم يقولون ‪ :‬ومن‬

‫زاد في سعر أو نقص منه أمر بإلحاقه بسعر النّاس ‪ ،‬فإن أبي أخرج من السّوق ‪.‬‬

‫ومقابل الصحّ عند الشّافعيّة بطلن البيع ‪ .‬لكن عند الحنابلة إن هدّد المشتري البائع المخالف‬

‫للتّسعير بطل البيع ‪ ،‬لنّه صار محجورا عليه لنوع مصلحة ‪ ،‬ولنّ الوعيد إكراه ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬عقوبة المخالف ‪:‬‬

‫‪25‬‬

‫‪ -‬صرّح الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة بأنّ المام له أن يعزّر من خالف التّسعير الّذي‬

‫رسمه ‪ ،‬لما فيه مجاهرة المام بالمخالفة ‪.‬‬

‫وسئل أبو حنيفة عن متولّي الحسبة إذا سعّر البضائع بالقيمة ‪ ،‬وتعدّى بعض السّوقيّة ‪ ،‬فباع‬

‫بأكثر من القيمة ‪ ،‬هل له أن يعزّره على ذلك ؟ فأجاب ‪ :‬إذا تعدّى السّوقيّ وباع بأكثر من‬ ‫القيمة يعزّره على ذلك ‪.‬‬

‫وأمّا قدر التّعزير ‪ ،‬وكيفيّته ‪ ،‬فمفوّض إلى المام أو نائبه ‪ ،‬وقد يكون الحبس أو الضّرب ‪ ،‬أو‬

‫العقوبة الماليّة ‪ ،‬أو الطّرد من السّوق وغير ذلك ‪ .‬هذا كلّه في الحالت الّتي يجوز فيها التّسعير‬ ‫‪ .‬أمّا حيث ل يجوز التّسعير عند من ل يراه فل عقوبة على مخالف التّسعير ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬تسليم ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تسلّم *‬ ‫تسليف *‬

‫‪ -‬من معاني التّسليف في اللّغة ‪ :‬التّقديم ‪ ،‬وهو مصدر سلّف ‪ .‬يقال ‪ :‬سلّفت إليه وتسلّف منه‬

‫كذا واستسلف ‪ :‬اقترض أو أخذ السّلف ‪ ،‬والسّلف ‪ :‬القرض والسّلم ‪.‬‬

‫وروي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬من أسلف فليسلف في كيل معلوم ‪ ،‬ووزن‬

‫معلوم ‪ ،‬إلى أجل معلوم » ‪ .‬والسّلف في المعاملت ‪ :‬القرض الّذي ل منفعة فيه للمقرض غير‬

‫الجر والشّكر ‪ ،‬وعلى المقترض ردّه كما أخذه ‪.‬‬

‫والسّلف ‪ :‬نوع من البيوع يعجّل فيه الثّمن وتضبط السّلعة بالوصف إلى أجل معلوم ‪.‬‬

‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ المتقدّم ‪ .‬فقد ورد أنّ السّلف أو السّلم ‪ :‬بيع‬

‫شيء موصوف في ال ّذمّة ‪ ،‬يتقدّم فيه رأس المال ‪ ،‬ويتأخّر المثمّن لجل ‪.‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫ن آ َمنُوا إذا‬ ‫سنّة والجماع ‪ .‬أمّا الكتاب ‪ ،‬فقوله تعالى { يا َأيّها الّذي َ‬ ‫‪ -‬السّلف جائز بالكتاب وال ّ‬

‫سمّى فَا ْكُتبُوه } قال ابن عبّاس رضي ال عنهما ‪ :‬أشهد أنّ السّلف‬ ‫جلٍ ُم َ‬ ‫َتدَا َي ْنتُ ْم بِ َديْنٍ إلى َأ َ‬

‫المضمون إلى أجل مسمّى قد أحلّه اللّه تعالى في كتابه وأذن فيه ‪ ،‬ثمّ قرأ الية ‪.‬‬

‫سنّة والجماع ‪ ،‬ففي حديث ابن عبّاس « أنّ رسول‬ ‫وأمّا السّلف الّذي بمعنى السّلم فقد ثبت بال ّ‬

‫اللّه صلى ال عليه وسلم قدم المدينة ‪ ،‬وهم يسلفون في الثّمار ‪ ،‬السّنة والسّنتين والثّلث ‪ ،‬فقال‬ ‫‪ :‬من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم »‪.‬‬

‫وأمّا الجماع ‪ ،‬فقال ابن المنذر ‪ :‬أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ السّلم جائز ‪،‬‬ ‫ن بالنّاس حاجةً‬ ‫ن المثمّن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في ال ّذمّة كالثّمن ‪ ،‬ول ّ‬ ‫ول ّ‬

‫إليه ‪ -‬لنّ أرباب الزّروع والثّمار والتّجارات يحتاجون إلى النّفقة على أنفسهم أو على الزّروع‬

‫ونحوها حتّى تنضج ‪ -‬فجوّز لهم السّلم دفعا للحاجة ‪.‬‬

‫وقد استثني عقد السّلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم لما فيه من مصلحة للنّاس ‪ ،‬رخصةً‬

‫لهم وتيسيرا عليهم ‪ .‬وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬سلم ) ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫سنّة فيما روى ابن‬ ‫‪ -‬والسّلف ‪ -‬بمعنى القرض ‪ -‬ثابت بالكتاب في آية المداينة السّابقة ‪ ،‬وبال ّ‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من أقرض مرّتين كان له مثل‬ ‫مسعود رضي ال عنه أ ّ‬

‫أجر أحدهما لو تصدّق به » ‪.‬‬

‫وأجمع المسلمون على جواز القرض ‪ ،‬وهو قربة مندوب إليها ‪ ،‬مباح للمقترض ‪ ،‬لما روى أبو‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من َنفّسَ عن مؤمن ُكرْبةً من‬ ‫هريرة رضي ال عنه أ ّ‬

‫سرٍ يسّر اللّه عليه في‬ ‫سرَ على ُم ْع ِ‬ ‫ُك َربِ الدّينا نفّس اللّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة ‪ ،‬ومن َي ّ‬ ‫الدّنيا والخرة ‪ ..‬واللّه في عونِ العبدِ ما كان العبد في عونِ أخيه » ‪.‬‬ ‫والتّفصيل موطنه مصطلح ( قرض ) ‪.‬‬

‫تسليم *‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬من معاني التّسليم في اللّغة ‪ :‬التّوصيل ‪ ،‬يقال سلّم الوديعة لصاحبها ‪ :‬إذا أوصلها فتسلّم‬

‫ذلك ‪ ،‬وأسلم إليه الشّيء ‪ :‬دفعه ‪ .‬ومنه السّلَم ‪ ،‬وتسلّم الشّيء ‪ :‬قبضه وتناوله ‪ .‬وسلّمت إليه‬

‫الشّيء فتسلّمه ‪ :‬أي أخذه ‪ .‬وسلّم الشّيء لفلن ‪ :‬أي خلّصه ‪ .‬وسلّمه إليه ‪ :‬أعطاه إيّاه ‪ .‬وسلّم‬ ‫الجير نفسه للمستأجر ‪ :‬مكّنه من منفعة نفسه حيث ل مانع ‪.‬‬ ‫والتّسليم بذل الرّضى بالحكم ‪.‬‬

‫والتّسليم ‪ :‬السّلم ‪ ،‬وسلّم المصلّي ‪ :‬خرج من الصّلة بقوله ‪ :‬السّلم عليكم ‪ .‬وسلّم على القوم‬ ‫‪ :‬حيّاهم بالسّلم ‪ ،‬وسلّم ‪ :‬ألقى التّحيّة ‪ ،‬وسلّم عليه ‪ :‬قال له ‪ :‬سلم عليك ‪.‬‬

‫ول يخرج معنى التّسليم في اصطلح الفقهاء عن المعاني المذكورة ‪.‬‬ ‫يختلف حكم التّسليم باختلف أنواعه ‪.‬‬

‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّسليم بمعنى التّحيّة ‪:‬‬

‫‪2‬‬

‫‪ -‬ابتداء السّلم سنّة مؤكّدة ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أَ ْفشُوا السّلمَ بينكم » ويستحبّ‬

‫مراعاة صيغة الجمع ‪ ،‬وإن كان المسلّم عليه واحدا ‪ ،‬أخذا بالنّصّ الوارد في ذلك ‪ ،‬ولنّه‬

‫يقصد مع الواحد الملئكة ‪ .‬ويجب الرّدّ إن كان السّلم على واحد ‪.‬‬

‫وإن سلّم على جماعة فال ّردّ في حقّهم فرض كفاية ‪ ،‬فإن ردّ أحدهم سقط الحرج عن الباقين ‪،‬‬ ‫وإن ردّ الجميع كانوا مؤدّين للفرض ‪ ،‬سواء ردّوا معا أو متعاقبين ‪ ،‬فإن امتنعوا كلّهم َأ ِثمُوا‬

‫لخبر ‪ « ،‬حقّ المسلم على المسلم خمس ‪ :‬ردّ السّلم ‪» ...‬‬

‫ويشترط في ابتداء السّلم رفع الصّوت بقدر ما يحصل به السماع ‪ ،‬ويجب أن يكون ال ّردّ‬

‫متّصلً بالسّلم ‪ ،‬والزّيادة على صيغة ابتداء السّلم في الرّدّ أفضل ‪ ،‬ويسنّ ابتداء السّلم عند‬

‫ن أولى النّاس باللّه من بدأهم بالسّلم » ولقوله صلى ال عليه‬ ‫القبال والنصراف ‪ ،‬لخبر ‪ « :‬إ ّ‬ ‫وسلم ‪ « :‬إذا لقي أحدكم أخاه فليسلّم عليه ‪ ،‬فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ‪ ،‬ثمّ لقيه‬ ‫‪ ،‬فليسلّم عليه » ( ر ‪ :‬سلم وتحيّة ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّسليم للخروج من الصّلة ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّسليمة الولى للخروج من الصّلة حال القعود فرض عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬

‫وزاد الحنابلة فرضيّة الثّانية أيضا إلّ في صلة جنازة ونافلة ‪ ،‬ل نّ الجزء الخير من الجلوس‬ ‫الّذي يوقع فيه السّلم فرض ‪.‬‬

‫ول بدّ من نطق ‪ " :‬السّلم عليكم " بالعربيّة بتقديم " السّلم " وتأخير " عليكم " وهذا للقادر‬

‫على العربيّة ‪ ،‬ول يكفي الخروج بالّنيّة ول بمرادفها من لغة أخرى ‪ ،‬وأمّا العاجز عن العربيّة‬ ‫فيجب عليه الخروج بالّنيّة قطعا ‪ ،‬وإن أتى بمرادفها بالعجميّة صحّ على الظهر ‪ ،‬قياسا على‬

‫الدّعاء بالعجميّة للقادر على العربيّة ‪ .‬والفضل كون السّلم معرّفا بأل ‪.‬‬

‫لخبر « تحريمها التّكبير وتحليلها التّسليم » فقوله ‪ « :‬تحليلها التّسليم » أي ل يخرج من الصّلة‬ ‫إلّ به ‪ ،‬ولنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « كان يسلّم من صلته عن يمينه ‪ :‬السّلم عليكم‬

‫ورحمة اللّه حتّى يُرى بياضُ خدّه اليمن ‪ ،‬وعن يساره ‪ :‬السّلم عليكم ورحمة اللّه حتّى يُرى‬

‫بياضُ خدّه اليسر » ‪ .‬ولحديث عامر بن سعد عن أبيه قال ‪ « :‬كنت أرى النّبيّ صلى ال عليه‬ ‫وسلم يسلّم عن يمينه وعن يساره حتّى أرى بياض خدّه » ولنّه صلى ال عليه وسلم كان يديم‬ ‫ذلك ول يخلّ به وقال ‪ « :‬صَلّوا كما رأيتموني أصلّي » ‪.‬‬

‫وأقلّ ما يجزئ في التّسليم عند الشّافعيّة والحنابلة قوله ‪ " :‬السّلم عليكم " م ّرةً عند الشّافعيّة ‪،‬‬

‫ومرّتين عند الحنابلة كما سبق ‪ ،‬وأكمله " السّلم عليكم ورحمة اللّه " يمينا وشمالً ملتفتا في‬

‫الولى حتّى يرى خدّه اليمن ‪ ،‬وفي الثّانية حتّى يرى خدّه اليسر ‪ ،‬ناويا السّلم عمّن عن‬

‫يمينه ويساره من ملئكة وإنس وصالح الجنّ ‪.‬‬

‫وينوي المام أيضا ‪ -‬زيادةً على ما سبق ‪ -‬السّلم على المقتدين ‪ ،‬وهم ينوون الرّدّ عليه‬

‫وعلى من سلّم عليهم من المؤمنين ‪ ،‬فينويه المقتدون عن يمين المام عند الشّافعيّة بالتّسليمة‬

‫الثّانية ‪ ،‬وعن يساره بالتّسليمة الولى ‪ .‬ولحديث سمرة بن جندب رضي ال عنه قال ‪ « :‬أمرنا‬

‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن نردّ على المام ‪ ،‬وأن نتحابّ ‪ ،‬وأن يسلّم بعضنا على‬

‫بعض » وقال الحنفيّة ‪ :‬الخروج من الصّلة بلفظ السّلم ليس فرضا ‪ ،‬بل هو واجب ‪ .‬لنّ «‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا علّم ابن مسعود رضي ال عنه التّشهّد قال له ‪ :‬إذا قلتَ هذا فقد‬ ‫قضيت صلتك ‪ ،‬إن شئت أن تقوم فقم ‪ ،‬وإن شئت أن تقعد فاقعد » فلم يأمره بالخروج من‬

‫ن الفرض في آخر الصّلة هو القعود بمقدار التّشهّد عندهم ‪ .‬لخبر‬ ‫الصّلة بالسّلم ‪ ،‬وأيضا فإ ّ‬ ‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا أحدث ‪ -‬يعني الرّجل ‪ -‬وقد جلس في آخر‬ ‫أّ‬

‫صلته قبل أن يسلّم فقد جازت صلته » ‪.‬‬

‫والواجب عندهم تسليمتان ‪ :‬الولى عن يمينه ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬السّلم عليكم ورحمة اللّه " ويسلّم‬

‫عن يساره كذلك ‪ ،‬لما روى ابن مسعود رضي ال عنه « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان‬

‫يسلّم عن يمينه حتّى يبدو بياض خدّه وعن يساره حتّى يبدو بياض خدّه » ‪ .‬وينوي في التّسليمة‬ ‫الولى التّسليم على من على يمينه من الرّجال والنّساء والحفظة ‪،‬وكذلك في الثّانية‪.‬‬ ‫وأقلّ ما يجزئ في لفظ السّلم مرّتين عند الحنفيّة " السّلم " دون قوله " عليكم " ‪.‬‬

‫سنّة أن يقول ‪ " :‬السّلم عليكم ورحمة اللّه " مرّتين ‪.‬‬ ‫وأكمله وهو ال ّ‬

‫وتنقضي الصّلة بالسّلم الوّل عند الحنفيّة ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬صلة ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّسليم بمعنى التّمكين من القبض ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّسليم ‪ ،‬أو القبض معناه عند الحنفيّة ‪ :‬التّخلية أو التّخلّي ‪ ،‬وهو أن يخلّي البائع بين المبيع‬

‫والمشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكّن والمشتري من التّصرّف فيه ‪ ،‬بحيث ل ينازعه‬ ‫فيه غيره ‪ ،‬وهذا يحصل بالتّخلية ‪ ،‬فيجعل البائع مسلّما للمبيع والمشتري قابضا له ‪ ،‬فكانت‬

‫التّخلية تسليما من البائع ‪ ،‬والتّخلّي قبضا من المشتري ‪.‬‬

‫وكذا هذا في تسليم الثّمن إلى البائع ‪ ،‬لنّ التّسليم واجب ‪ ،‬ومن عليه الواجب ل بدّ أن يكون‬ ‫له سبيل الخروج من عهدة ما وجب عليه ‪ ،‬والّذي في وسعه هو التّخلية ورفع الموانع ‪.‬‬

‫والقبض يت ّم بطريق التّخلية ‪ ،‬وهي أن يتمكّن المشتري من المبيع بل مانع ‪ -‬أي بأن يكون‬

‫مفرزا ول حائل ‪ -‬في حضرة البائع مع الذن له بالقبض ‪.‬‬

‫فقبض العقار عند الجميع ‪ -‬كالرض وما فيها من بناء ونخل ونحوهما ‪ -‬يكون بالتّخلية بين‬

‫المبيع وبين المشتري وتمكينه من التّصرّف فيه ‪ ،‬وذلك بتسليم المفاتيح إن وجدت بشرط الفراغ‬

‫من المتعة ‪ ،‬إن كان شراء العقار للسّكن ‪ -‬عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬وقبض المنقول كالمتعة ‪،‬‬ ‫والنعام والدّوابّ بحسب العرف الجاري بين النّاس عند الطلق ‪ ،‬فالثّوب قبضه باحتيازه ‪،‬‬ ‫والحيوان بتمشيته من مكانه ‪ ،‬وقبض الموزون بوزنه ‪ ،‬وقبض المكيل بكيله ‪ ،‬إذا بيعا كيلً‬

‫ووزنا ‪ .‬وزاد المالكيّة ‪ :‬تفريغه في أوعية المشتري ‪ ،‬حتّى لو هلك قبل التّفريغ في أوعية‬ ‫المشتري كان الضّمان على البائع عندهم ‪.‬‬

‫وهذا ‪ :‬لما روى أبو هريرة رضي ال عنه أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا‬

‫ل » وعن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه « نهى عن بيع الطّعام‬ ‫ت فَ ِكلْ ‪ ،‬وإذا ا ْب َت ْعتَ فَا ْك َت ْ‬ ‫ِب ْع َ‬

‫حتّى يجري فيه الصّاعان ‪ :‬صاع البائع وصاع المشتري » ‪.‬‬

‫وإن بيع جزافا فقبضه نقله عند الحنابلة ‪ ،‬وعند الحنفيّة قبضه بالتّخلية ‪ ( .‬ر ‪ :‬قبض ) ‪.‬‬

‫التّسليم في العقود يشمل ما يلي ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬التّسليم في البيع ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫ل بذلك‪.‬‬ ‫ن المقصود من البيع ل يتحقّق إ ّ‬ ‫‪ -‬التّسليم في البيع يكون بتسليم المبيع والثّمن ‪،‬ل ّ‬

‫ومن يجب عليه التّسليم أوّلً ‪ ،‬يختلف بحسب نوع البدلين ‪ ،‬وهو كالتي ‪ :‬إن كان البيع بيع‬

‫عين بعين ‪ ،‬واختلفا فيمن يسلّم أوّلً ‪ ،‬يجب على العاقدين التّسليم معا تحقيقا للمساواة في‬

‫المعاوضة المقتضية للمساواة عاد ًة المطلوبة بين العاقدين ‪ ،‬إذ ليس أحدهما بالتّقديم أولى من‬

‫الخر ‪ ،‬فيجعل بينهما عدل يقبض من كلّ منهما ويسلّم الخر ‪.‬‬

‫والحكم كذلك إن تبايعا دينا بدين ‪ ،‬كما في عقد الصّرف ‪ ،‬وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة‬

‫والحنابلة ‪ ،‬وأحد قولي الشّافعيّة ‪ .‬وإن كان بيع عين بدين ‪ ،‬فيجب على المشتري عند الحنفيّة‬

‫والمالكيّة ‪ ،‬وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة تسليم الثّمن ‪ -‬أي الدّين أ ّولً ‪-‬‬

‫والمذهب عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬وجوب تسليم المبيع أ ّولً ‪ ،‬واستثنى الجميع من ذلك أمرين ‪:‬‬

‫أوّلهما ‪ :‬السّلم فيه لنّه دين مؤجّل ‪.‬‬

‫والثّاني ‪ :‬الثّمن المؤجّل ‪ ،‬فإن كان عينا أو عرضا بعرض جعل بينهما عدل ‪ -‬عند الجمهور ‪-‬‬ ‫ن تسليم المبيع‬ ‫‪ ،‬فيقبض منهما ‪ ،‬ث ّم يسلّم إليهما ‪ ،‬وهذا قول الثّوريّ وأحد قولي الشّافعيّ ‪ ،‬ل ّ‬

‫يتعلّق به استقرار البيع ‪ ،‬وتمامه فكان تقديمه أولى ‪ ،‬سيّما مع تعلّق الحكم بعينه ‪ ،‬وتعلّق حقّ‬ ‫البائع بال ّذمّة ‪ ،‬وتقديم ما يتعلّق بالعين أولى لتأكّده ‪.‬‬ ‫ومذهب الحنفيّة أنّهما يسلّمان معا ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تسليم المعقود عليه في الرّبويّات ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬تسليم المعقود عليه في الرّبويّات حرام ‪ ،‬لنّ عقد الرّبا حرام ‪.‬‬

‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬ربا ) ‪.‬‬

‫ت ‪ -‬التّسليم في السّلم ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الثّمن في السّلم إن كان دينا في الذّمّة ‪ -‬سواء‬

‫أكان عينا ( سلعةً معيّنةً ) أم نقودا ‪ -‬فل بدّ من تسليمه في مجلس العقد قبل التّفرّق ‪ ،‬ولو‬

‫طال المجلس ‪ .‬وإذا قاما من المجلس يمشيان ‪ ،‬ثمّ قبض المسلم إليه رأس السّلم بعد مسافة ‪،‬‬

‫ب السّلم ‪ -‬المشتري ‪ -‬ليحضر الثّمن من‬ ‫فإنّه يصحّ إن لم يتفرّقا ‪ .‬وكذا إذا تعاقدا ثمّ قام ر ّ‬

‫ح وإلّ فل ‪ ،‬لنّ المسلم فيه دين في‬ ‫داره ‪ ،‬فإن لم يغب شخصه عن المسلم إليه ‪ -‬البائع ‪ -‬يص ّ‬

‫الذّمّة ‪ ،‬فلو أخّر تسليم رأس مال السّلم عن مجلس العقد لكان التّسليم في معنى مبادلة الدّين‬

‫بالدّين ‪ ،‬وقد « نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ » ولنّ تسمية هذا‬ ‫العقد دليل على هذا الشّرط ‪ ،‬فإنّه يسمّى سلما وسلفا ‪ ،‬والسّلم ينبئ عن التّسليم ‪ ،‬والسّلف ينبئ‬ ‫ن في‬ ‫عن التّقدّم ‪ ،‬فيقتضي لزوم تقديم رأس المال ‪ ،‬ويقدّم قبضه على قبض المسلم فيه ‪ ،‬ول ّ‬

‫السّلم غررا ‪ -‬أي تعريضا للهلك أو على خطر الوجود ‪ -‬فل يضمّ إليه غرر تأخير رأس‬ ‫المال ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬يقوم مقام القبض ما كان في معناه ‪ ،‬كما إذا كان عند المسلم إليه أمانة أو عين‬

‫مغصوبة ‪ ،‬فإنّه يصحّ أن يجعلها صاحب السّلم رأس مال ما دامت ملكا له ‪ ،‬لنّ ذلك في معنى‬ ‫القبض ‪.‬‬

‫واشترط الشّافعيّة أن يكون قبض رأس المال في المجلس قبضا حقيقيّا ‪ ،‬فل تنفع فيه الحوالة ‪،‬‬

‫ب‬ ‫ولو قبضه من المحال عليه في المجلس ‪ ،‬لنّ المحال عليه ما دفعه عن نفسه إلّ إذا قبضه ر ّ‬

‫السّلم وسلّمه بنفسه للمسلم إليه ‪.‬‬

‫ومذهب المالكيّة اشتراط قبض رأس المال كلّه ‪ ،‬ويجوز تأخير قبضه إلى ثلثة أيّام فأقلّ ‪ ،‬ولو‬

‫بشرط في العقد سواء أكان رأس المال عينا أو دينا ‪ ،‬لنّ السّلم معاوضة ل يخرج بتأخير‬

‫قبض رأس المال عن أن يكون سلما ‪ ،‬فأشبه ما لو تأخّر إلى آخر المجلس ‪ ،‬وكلّ ما قارب‬

‫الشّيء يعطى حكمه ‪ ،‬ول يكون له بذلك حكم الكالئ ‪ ،‬فإن أخّر رأس المال عن ثلثة أيّام ‪:‬‬

‫فإن كان التّأخير بشرط فسد السّلم اتّفاقا ‪ ،‬سواء أكان التّأخير كثيرا جدّا ‪ ،‬بأن حلّ أجل المسلم‬

‫فيه ‪ ،‬أو لم يكثر جدّا بأن لم يحلّ أجله ‪ .‬وإن كان التّأخير بل شرط فقولن في المدوّنة الكبرى‬

‫لمالك بفساد السّلم وعدم فساده ‪ ،‬سواء أكان التّأخير كثيرا جدّا أم ل ‪ .‬والمعتمد الفساد بالزّيادة‬ ‫عن الثّلثة اليّام ولو قلّت مدّة الزّيادة بغير شرط ‪ ( .‬ر ‪ :‬سلم ) ‪.‬‬

‫ث ‪ -‬قبض المرهون ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّ القبض شرط في الرّهن ‪ ،‬واختلفوا في تحديد‬

‫نوع الشّرط ‪ .‬هل هو شرط لزوم أو شرط تمام ؟ فقال جمهور الفقهاء ‪ :‬القبض ليس شرط‬ ‫صحّة ‪ ،‬وإنّما هو شرط لزوم الرّهن ‪ ،‬فل يتمّ الرّهن إلّ بالقبض لقوله تعالى ‪َ { :‬ف ِرهَانٌ‬ ‫ل به ‪.‬‬ ‫ضةٌ } فقد علّقه سبحانه وتعالى بالقبض ‪ ،‬فل يتمّ إ ّ‬ ‫مَ ْقبُو َ‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل يت مّ الرّ هن إلّ بالق بض ‪ ،‬أو الحوز ‪ ،‬و هو شرط تمام ول يس شرط صحّة أو‬

‫لزوم ‪ ،‬فإذا عقـد الرّهـن بالقول ( اليجاب والقبول ) لزم العقـد ‪ ،‬وأجـبر الرّاهـن على إقباضـه‬ ‫للمرتهن بالمطالبة به ‪ ،‬فإن تراضى المرتهن في المطالبة به ‪ ،‬أو رضي بتركه في يد الرّاهن‬

‫بطل الرّهن ‪ .‬ودليلهم قياس الرّهن على سائر العقود الماليّة اللزمة بالقول ‪.‬‬

‫لقوله تعالى ‪ { :‬أَوْفُوا بِالعُقُودِ } ‪ ،‬والرّهن عقد فيجب الوفاء به ‪ ( .‬ر ‪ :‬رهن ) ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬تسليم المرهون ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬للمرتهن عند جمهور الفقهاء ‪ -‬ما عدا الشّافعيّة ‪ -‬حقّ الحبس الدّائم للمرهون حتّى‬

‫يستوفي دينه ‪ ،‬ليضطرّ المدين إلى تسليم دينه ‪ ،‬ليتمكّن من استرداد المرهون لحاجته إليه‬

‫والنتفاع به ‪ ،‬وللمرتهن أيضا عند حلول أجل الدّين المطالبة بدينه مع بقاء الرّهن تحت يده ‪،‬‬

‫وعلى المرتهن تسليم المرهون لصاحبه ‪ ،‬إمّا بانتهاء أجل الدّين ‪ ،‬أو بانتهاء عقد الرّهن ‪.‬‬

‫وانتهاء الدّين يكون بأسباب كالبراء من الدّين أو هبته ‪ ،‬أو وفاء الدّين ‪ ،‬أو شراء سلعة من‬

‫الرّاهن بالدّين ‪ ،‬أو إحالة الرّاهن المرتهن على غيره ‪.‬‬

‫وانقضاء عقد الرّهن أو انتهاؤه يكون بأسباب كالبراء والهبة ووفاء الدّين ونحو ذلك ‪ ،‬كالبيع‬

‫الجبريّ الصّادر من الرّاهن بأمر القاضي ‪ ،‬أو من القاضي إذا أبى الرّاهن البيع ‪ .‬والتّفصيل‬

‫في ( رهن ) ‪ .‬والشّافعيّة مع الجمهور في اشتراط استدامة القبض ‪ ،‬لكنّهم قالوا ‪ :‬قد يتخلّف‬

‫هذا الشّرط لمانع ‪ ،‬كما لو كان المرهون مصحفا والمرتهن كافر ونحو ذلك ‪.‬‬

‫ح ‪ -‬ما يتمّ به تسليم المرهون ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫ق المرتهن يتعيّن بتسليم‬ ‫‪ -‬يسلّم الرّاهن الدّين أوّلً ‪ ،‬ثمّ يسلّم المرتهن المرهون ‪ ،‬لنّ ح ّ‬

‫الدّين ‪ ،‬وحقّ الرّاهن متعيّن في تسلّم المرهون ‪ ،‬فيت ّم التّسليم على هذا التّرتيب تحقيقا للتّسوية‬ ‫بين الرّاهن والمرتهن ‪.‬‬

‫وإذا سلّم الرّاهن بعض الدّين يظلّ المرهون كلّه رهنا بحاله على ما بقي من الدّين بل خلف ‪،‬‬ ‫ن الرّهن كلّه وثيقة بالدّين كلّه ‪ ،‬وهو محبوس بكلّ الحقّ ‪ ،‬والحبس بالدّين الّذي هو موجب‬ ‫لّ‬

‫الرّهن ل يتجزّأ ‪ ،‬فيكون محبوسا بكلّ جزء من الدّين ل ينفكّ منه شيء حتّى يقضي جميع‬

‫الدّين ‪ ،‬سواء أكان الرّهن ممّا يمكن قسمته أم ل يمكن ‪ .‬ر ‪ ( :‬رهن ) ‪.‬‬

‫خ ‪ -‬تسليم ثمن المرهون عند البيع ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫سنّة «‬ ‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ المرهون يظلّ ملكا للرّاهن بعد تسليمه للمرتهن ‪ ،‬كما دلّت ال ّ‬

‫ل يغلق الرّهن من صاحبه » ولكن تعلّق دين المرتهن بعين الرّهن ‪ ،‬فاستحقّ المرتهن حبسه‬

‫وثيقةً بالدّين إلى أن يوفّي الدّين ‪ ،‬ول يجوز للرّاهن أن يتصرّف في الرّهن لتعلّق حقّه به إلّ‬ ‫بإذن المرتهن ‪ ،‬فيعتبر متنازلً عن حقّه في حبس الرّهن ‪.‬‬

‫واتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للرّاهن أن يبيع الرّهن بإذن المرتهن ‪ ،‬وهذا يسمّى البيع‬

‫الختياريّ بعد الذن ‪ ،‬وحينئذ فالمرتهن أولى وأحقّ بثمن المرهون من سائر الغرماء الدّائنين ‪،‬‬

‫ق للمرتهن باتّفاق الفقهاء ‪ .‬وإذا لم يتمّ‬ ‫حتّى يستوفي حقّه ‪ ،‬حيّا كان أو ميّتا ‪ .‬ويثبت هذا الح ّ‬

‫البيع للمرهون اختياريّا ‪ ،‬وحلّ أجل الدّين طالب المرتهن الرّاهن بوفاء الدّين ‪ ،‬فإن استجاب‬

‫ووفّى سلّم المرهون ‪ ،‬وإن لم يستجب لمطل أو إعسار ‪ ،‬رفع أمره إلى القاضي ‪ .‬ويطلب‬

‫القاضي أوّلً من الرّاهن الحاضر بيع المرهون ‪ ،‬فإن امتثل ت ّم المقصود ‪ ،‬وإن امتنع باعه‬

‫القاضي عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة ‪ ،‬بدون حاجة إلى إجباره بحبس‬

‫أو ضرب أو تهديد ‪ ،‬ويسلّم ما يستحقّه المرتهن من دينه ‪.‬‬

‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬ليس للقاضي أن يبيع الرّهن بيد المرتهن من غير رضا الرّاهن ‪ ،‬لكنّه يحبس‬

‫الرّاهن حتّى يبيعه بنفسه ‪ .‬وإذا وجد في مال المدين الرّاهن مال من جنس الدّين ‪ ،‬وفّى الدّين‬ ‫منه ‪ ،‬ول حاجة حينئذ إلى البيع جبرا ‪ .‬والتّفصيل موطنه مصطلح ‪ ( :‬رهن ) ‪.‬‬

‫د ‪ -‬تسليم المال للمحجور عليه ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الصّغير ل يسلّم إليه ماله إلّ بعد معرفة رشده ‪ ،‬وذلك باختبار‬

‫الصّغير المميّز في التّصرّفات ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَا ْبتَلُوا ال َيتَامَى } أي اختبروهم ‪ ،‬واختبار‬

‫الصّغير المميّز يحصل بتفويض التّصرّفات الّتي يتصرّف فيها أمثاله إليه ‪ ،‬ليتبيّن مدى إدراكه‬ ‫وحسن تصرّفه ‪ .‬وتفصيل ذلك في ( حجر ) ‪.‬‬

‫ن أموال الصّغير ل تسلّم إليه حتّى يبلغ راشدا ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى علّق دفع‬ ‫واتّفق الفقهاء على أ ّ‬

‫المال إليه على شرطين هما البلوغ والرّشد في قوله تعالى ‪ { :‬وَا ْبتَلُوا ال َيتَامَى حتّى إذا بََلغُوا‬

‫شدَا فَادْ َفعُوا إليهم َأمْوَالَهمْ } ‪ ،‬والحكم المعلّق على شرطين ل يثبت‬ ‫ستُم منهم ُر ْ‬ ‫ال ّنكَاحَ فإِنْ آ َن ْ‬

‫بدونهما ‪ ،‬فإذا بلغ الصّغير رشيدا مصلحا للمال ‪ ،‬وجب دفع ماله إليه وفكّ الحجر عنه ‪.‬‬

‫شهِدُوا عَليهمْ }‬ ‫وإذا دفع إليه ماله أشهد عند الدّفع ‪ .‬لقوله تعالى ‪َ { :‬فإِذَا دَ َف ْعتُمْ إِليهمْ َأمْوَالَهمْ َفَأ ْ‬

‫وفي هذه المسائل تفصيلت موطنها باب الحجر ‪.‬‬

‫ذ ‪ -‬التّسليم في الكفالة بالنّفس ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬الكفالة تكون بالنّفس ‪ ،‬وتكون بالفعل ‪ ،‬والمراد بالفعل المكفول به فعل التّسليم ‪ ،‬وعلى‬

‫هذا تصحّ الكفالة بنفس من عليه الحقّ ‪ ،‬وتسمّى الكفالة بالنّفس كما تسمّى الكفالة بالوجه ‪ :‬وهي‬ ‫التزام إحضار المكفول إلى المكفول له للحاجة إليها ‪ ،‬ذلك لنّ الكفالة بالنّفس كفالة بالفعل ‪،‬‬

‫وهو تسليم النّفس ‪ ،‬وفعل التّسليم مضمون على الصيل فجازت الكفالة به ‪ .‬ويرى جمهور‬ ‫الفقهاء جواز الكفالة بالنّفس إذا كانت بسبب المال ‪ ،‬لعموم قوله عليه الصلة والسلم ‪« :‬‬

‫ن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد‬ ‫الزّعيمُ غَارِم » وهذا يشمل الكفالة بنوعيها ‪ ،‬ول ّ‬

‫ن الكفيل يقدر على تسليم الصيل ‪ ،‬بأن يعلم من يطلبه مكانه فيخلّي بينه‬ ‫الكفالة كالمال ‪ ،‬ول ّ‬

‫وبينه ‪ ،‬أو يستعين بأعوان القاضي في التّسليم ‪.‬‬

‫وإذا اشترط الصيل في الكفالة تسليم المكفول به في وقت بعينه لزم الكفيل إحضار المكفول به‬ ‫إذا طالبه به في الوقت ‪ ،‬وفاءً بما التزمه كالدّين المؤجّل ‪ ،‬فإن أحضره فبها ‪ ،‬وإن لم يحضره‬

‫ق مستحقّ عليه ‪.‬‬ ‫حبسه الحاكم لمتناعه عن إيفاء ح ّ‬

‫وإن أحضره وسلّمه إلى المطالب به في موضع يقدر على إحضاره مجلس القضاء ‪ ،‬مثل أن‬

‫يكون في مصر من المصار برئ من الكفالة ‪ ،‬لنّ التّسليم يتحقّق بالتّخلية بين المكفول بنفسه‬

‫والمكفول له ‪ ،‬ولنّه أتى بما التزمه وحصل المقصود من الكفالة بالنّفس ‪ ،‬وهو إمكان المحاكمة‬

‫عند القاضي ‪ .‬ويتعيّن محلّ التّسليم بالتّعيين ‪ ،‬وإن أطلق ولم يعيّن ‪ ،‬وجب التّسليم في مكان‬

‫الكفالة ‪ ،‬لنّ العرف يقتضي ذلك ‪.‬‬

‫ر ‪ -‬التّسليم في الوكالة ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬الوكالة بأجر ( بجعل ) حكمها حكم الجارات ‪ ،‬فيستحقّ الوكيل الجعل بتسليم ما وكّل فيه‬

‫إلى الموكّل ‪ -‬إن كان ممّا يمكن تسليمه ‪ -‬كثوب يخيطه فمتى سلّمه مخيطا فله الجر ‪ .‬وإن‬ ‫ق من‬ ‫وكّله في بيع ‪ ،‬وقال ‪ :‬إذا بعت الثّوب وقبضت ثمنه وسلّمته إليّ فلك الجر ‪ ،‬لم يستح ّ‬

‫الجرة شيئا حتّى يسلّمه إليه ‪ .‬فإن فات التّسليم لم يستحقّ شيئا لفوات الشّرط ‪ .‬والوكيل في‬

‫بيع شيء يملك تسليمه للمشتري ‪ ،‬لنّ إطلق الوكالة في البيع يقتضي التّسليم ‪ ،‬ويتعيّن على‬ ‫الوكيل في البيع طلب الثّمن من المشتري وقبضه ‪ ،‬لنّه من توابع البيع ‪ ،‬وكذا الوكيل‬

‫بالشّراء ‪ ،‬له قبض المبيع من البائع وتسليمه لمن وكّله بالشّراء ‪ ،‬وهذا بل خلف ‪ .‬ول خلف‬ ‫بين الفقهاء في أنّ المقبوض في يد الوكيل يعتبر أمانةً ‪ ،‬لنّ يده يد نيابة عن الموكّل ‪ ،‬ويجب‬

‫عليه ردّ المقبوض عند طلب الموكّل مع المكان ‪ ،‬ويضمن بالتّعدّي أو التّقصير كما يضمن في‬

‫الودائع ‪ ،‬ويبرأ بما يبرأ فيها ‪ ( .‬ر ‪ :‬وكالة ) ‪.‬‬

‫ز ‪ -‬التّسليم في الجارة ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬إذا كان العمل يجري في عين تسلّم للجير المشترك ‪ ،‬كان عليه تسليم العين بعد قيامه‬

‫بالعمل فيها ‪ .‬وإن كان العمل ل يجري في عين تسلّم للجير ‪ ،‬فإنّ مجرّد قيامه بالعمل‬

‫المطلوب يعتبر تسليما كالطّبيب أو السّمسار ‪ .‬وإن كان الجير خاصّا كان تسليم نفسه للعمل‬ ‫في محلّ العمل تسليما معتبرا ‪ ،‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬

‫س ‪ -‬تسليم اللّقطة ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬للمام ‪ ،‬أو من ينوب عنه ‪ ،‬أن يتسلّم اللّقطة من الملتقط إن رأى المصلحة في ذلك ‪،‬‬

‫وهذا عند الحنفيّة ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬يباح للملتقط أن يدفع اللّقطة للمام إن كان عدلً ‪ ،‬وهو مخيّر في ذلك ‪ .‬ويرى‬

‫الشّافعيّة ‪ :‬أنّ الملتقط إن دفع اللّقطة إلى القاضي لزم القاضي القبول حفظا لها على صاحبها ‪.‬‬ ‫والتّفصيل في ( لقطة ) ‪.‬‬

‫ش ‪ -‬تسليم اللّقيط للقاضي ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬يجوز للقاضي أن يتسلّم اللّقيط من ملتقطه إذا علم عجزه عن حفظه بنفسه وأتى به إليه ‪،‬‬

‫والولى للقاضي أن يقبله ‪ .‬وتفصيله في بحث ( لقيط ) ‪.‬‬

‫ص ‪ -‬تسليم الصّداق للزّوجة ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫ن حقّ الزّوج في المرأة‬ ‫‪ -‬إذا طالبت الزّوجة بالمهر يجب على الزّوج تسليمه أوّلً ‪ ،‬ل ّ‬

‫متعيّن ‪ ،‬وحقّ المرأة في المهر لم يتعيّن بالعقد ‪ ،‬وإنّما يتعيّن بالقبض ‪ ،‬فوجب على الزّوج‬ ‫التّسليم عند المطالبة ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬والبعض الخر من الشّافعيّة ‪ :‬يجب على الزّوج تسليم الصّداق لزوجته ‪ ،‬أو‬

‫لوليّها المجبر ‪ ،‬لنّه لمّا كان له إجبارها على النّكاح كان له تسلّم صداقها بغير إذنها كالصّغيرة‬ ‫‪.‬‬

‫ض ‪ -‬تسليم الزّوجة نفسها ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ -‬يجوز للزّوجة قبل دخول الزّوج بها أن ل تسلّم نفسها إلى زوجها ‪ ،‬حتّى تقبض جميع‬

‫مهرها المعيّن الحالّ ‪ ،‬سواء أكان بعضه أم كلّه ‪.‬‬

‫وإن انتقلت إلى بيت زوجها فالحكم كذلك لتعيّن حقّها في البدل ‪ ،‬كما يتعيّن حقّه في المبدل ‪.‬‬

‫ل بالتّسليم والنتقال إلى حيث يريد زوجها إن أراد ‪ ،‬وهذا بل خلف ‪.‬‬ ‫ول يتعيّن حقّها إ ّ‬

‫فإن سلّمت نفسها بالدّخول ‪ ،‬أو بالخلوة الصّحيحة ‪ ،‬فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي‬

‫يوسف ومحمّد ‪ :‬أنّه ل يجوز لها أن تمنع نفسها ‪ ،‬لنّها بالدّخول أو بالخلوة الصّحيحة سلّمت‬ ‫جميع المعقود عليه برضاها ‪ ،‬وهي من أهل التّسليم ‪ ،‬فبطل حقّها في المنع ‪.‬‬

‫ويرى أبو حنيفة ‪ :‬أنّ للزّوجة أن تمتنع من زوجها حتّى تأخذ المعجّل لها من المهر ‪ ،‬ولو دخل‬ ‫بها برضاها وهي مكلّفة ‪ ،‬لنّ المهر مقابل بجميع ما يستوفى من منافع البضع في جميع أنواع‬ ‫الستمتاع الّتي توجد في هذا الملك ‪ ،‬ويكون رضاها بالدّخول أو الخلوة قبل قبض معجّل‬

‫مهرها إسقاطا لحقّها في منع نفسها في الماضي ‪ ،‬وليس لحقّها في المستقبل ‪ ،‬على الرّاجح عند‬ ‫الحنفيّة ‪.‬‬

‫ويرى الشّافعيّة في قول أنّ لها المتناع حتّى تستوفي مهرها ‪ ،‬كما لو كان حالً ابتداءً ‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪ -‬والتّسليم الواجب على المرأة يحصل في المكان الّذي يتمكّن فيه زوجها من استمتاعه‬

‫بها ‪ ،‬سواء أكان المكان بيت أبيها إن رضيا معا بالقامة فيه ‪ ،‬أم كان مسكنا شرعيّا أعدّه لها‬

‫زوجها ‪ .‬ويترتّب على تسليم نفسها لزوجها وجوب نفقتها عليه ‪ ،‬لنّها محبوسة لحقّه ‪ ،‬وهذا‬ ‫بل خلف ‪.‬‬

‫ط ‪ -‬تسليم النّفقة ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة الزّوجة حقّ أصيل من حقوقها الواجبة على زوجها ‪ ،‬وأنّها‬

‫تجب على الزّوج الحاضر ‪ ،‬إذا سلّمت الزّوجة نفسها إلى الزّوج وقت وجوب التّسليم ‪ .‬وإذا‬ ‫امتنع الزّوج عن النفاق على زوجته بعدما فرضه على نفسه ‪ ،‬أو بعد فرض القاضي باع‬

‫القاضي من ماله ‪ ،‬إن كان موسرا وله مال ظاهر ‪ ،‬وأعطى لزوجته ما يكفي النّفقة ‪ .‬وللتّفصيل‬ ‫‪ ( :‬ر ‪ :‬نفقة ) ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬استماع ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تسمّع *‬ ‫تسمية *‬

‫‪ -‬التّسمية ‪ :‬مصدر سمّى بتشديد الميم ‪ ،‬ومادّة ‪ ( :‬سما ) لها في اللّغة عدّة معان ‪:‬‬

‫ت همّته إلى معالي المور ‪ :‬إذا طلب العزّ‬ ‫فمنها ‪ :‬سما يسمو سموّا أي عل ‪ .‬يقال ‪ :‬سَ َم ْ‬ ‫والشّرف ‪ ،‬وكلّ عال ‪ :‬سماء ‪.‬‬

‫والسم ‪ :‬من السّموّ وهو العلوّ ‪ ،‬وقيل ‪ :‬السم من الوسم ‪ ،‬وهو العلمة ‪.‬‬

‫وقال في الصّحاح ‪ :‬وسمّيت فلنا زيدا وسمّيته بزيد بمعنًى وأسميته مثله ‪ ،‬فتسمّى به ‪ .‬وتقول‬ ‫‪ :‬هذا سميّ فلن ‪ ،‬إذا وافق اسمه اسمه ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬هو كنيّه ‪ ،‬وقوله تعالى ‪َ { :‬هلْ َتعْلَمُ لَه‬

‫س ِميّا } أي ‪ :‬نظيرا يستحقّ مثل اسمه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬مساميا يساميه ‪ .‬وتستعمل التّسمية عند الفقهاء‬ ‫َ‬

‫بمعنى قول ‪ :‬بسم اللّه ‪ ،‬وبمعنى ‪ :‬وضع السم العلم للمولود وغيره ‪ ،‬وبمعنى ‪ :‬تحديد العوض‬ ‫في العقود ‪ ،‬كالمهر والجرة والثّمن ‪ ،‬وبمعنى ‪ :‬التّعيين بالسم مقابل البهام ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬التّكنية ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التّكنية مصدر ‪ :‬كنّى بتشديد النّون ‪ ،‬أي ‪ :‬جعل له ُكنْيةً ‪ ،‬كأبي فلن وأ ّم فلن ‪.‬‬

‫وتفصيل الحكام المتعلّقة بالتّكنية ينظر في مصطلح ( كنية ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّلقيب ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّلقيب ‪ :‬مصدر لقّب بتشديد القاف ‪ .‬واللّقب واحد اللقاب ‪ ،‬وهو ما كان مشعرا بمدح أو‬

‫ذمّ ‪ .‬ومعناه ‪ :‬النّبز بالتّمييز ‪.‬‬

‫والنّبز باللقاب المكروهة منهيّ عنه في قوله تعالى ‪ { :‬وَل َتنَا َبزُوا بِالَلْقَابِ } ‪.‬‬

‫فإن قصد به التّعريف فل يدخل تحت النّهي ‪ ،‬ومن ذلك تعريف بعض الئمّة المتقدّمين ‪،‬‬

‫كالعمش والخفش والعرج ‪ .‬هذا والنّحاة في كتبهم يفرّقون بين الكنية واللّقب والسم ‪.‬‬

‫فالكنية عندهم ‪ :‬كلّ مركّب إضافيّ في صدره أب أو أمّ ‪ ،‬كأبي بكر رضي ال عنه ‪ ،‬وأمّ‬ ‫كلثوم رضي ال عنها بنت النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫وفرّق البهريّ في حواشي العضد بين السم واللّقب ‪ ،‬فقال ‪ :‬السم يقصد بدللته الذّات المعيّنة‬ ‫‪ ،‬واللّقب يقصد به الذّات مع الوصف ‪ ،‬ولذلك يختار اللّقب عند إرادة التّعظيم أو الهانة ‪.‬‬

‫هذا وسيأتي حكم الكنية واللّقب عند الكلم على التّسمية بمعنى وضع السم العلم للمولود ‪.‬‬

‫أحكام التّسمية ‪:‬‬ ‫أوّلً ‪ :‬التّسمية أو البسملة ‪ :‬قول ‪ ( :‬بسم اللّه ) ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬أكملها ‪ :‬بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ‪ ،‬ويتعلّق بها عدد من الحكام ‪ ،‬كالتّسمية في ابتداء‬

‫الوضوء ‪ ،‬وعند الغسل ‪ ،‬وفي الصّلة ‪ ،‬وعند الذّبح ‪ ،‬وفي الصّيد عند إرسال الكلب أو‬

‫السّهم ‪ ،‬وعند الطّعام أو الجماع أو دخول الخلء ‪ .‬وينظر التّفصيل في ‪ ( :‬بسملة ) ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التّسمية بمعنى وضع السم العلم للمولود وغيره ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬الفقهاء يذكرون التّسمية ويريدون بها وضع السم العلم للمولود وغيره ‪ ،‬وهي بهذا المعنى‬

‫تعريف الشّيء المسمّى ‪ ،‬لنّه إذا وجد وهو مجهول السم لم يكن له ما يقع تعريفه به ‪ .‬ويتعلّق‬ ‫بها عدد من الحكام ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تسمية المولود ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫ن مقتضى القواعد وجوب التّسمية ‪ ،‬وممّا ل نزاع فيه أنّ الب أولى بها‬ ‫‪ -‬ذكر ابن عرفة أ ّ‬

‫من المّ ‪ ،‬فإن اختلف البوان في التّسمية فيقدّم الب ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬وقت التّسمية ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬يرى المالكيّة أنّ وقت تسمية المولود هو اليوم السّابع من ولدته بعد ذبح العقيقة ‪ ،‬هذا إذا‬

‫كان المولود ممّن يعقّ عنه ‪ ،‬فإن كان ممّن ل يعقّ عنه لفقر وليّه فيجوز أن يسمّوه متى شاءوا‬

‫‪ .‬قال الحطّاب ‪ :‬قال في المدخل في فصل ذكر النّفاس ‪ :‬وينبغي إذا كان المولود ممّن يعقّ عنه‬

‫فل يوقع عليه السم الن حتّى تذبح العقيقة ‪ ،‬ويتخيّر له في السم مدّة السّابع ‪ ،‬وإذا ذبح‬

‫العقيقة أوقع عليه السم ‪.‬‬

‫وإن كان المولود ل يعقّ عنه لفقر وليّه فيسمّونه متى شاءوا ‪ .‬انتهى ‪.‬‬

‫ثمّ قال ‪ :‬ونقله بعض شرّاح الرّسالة عن التّادليّ ‪ ،‬وأصله للنّوادر في باب العقيقة ‪.‬‬

‫قال ابن عرفة ‪ :‬ومقتضى القواعد وجوب التّسمية ‪ ،‬سمع ابن القاسم يسمّى يوم سابعه ‪.‬‬

‫قال ابن رشد ‪ :‬لحديث ‪ « :‬يذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمّى » وفيه سعة لحديث « ولد لي‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم بعبد اللّه بن أبي‬ ‫اللّيلة غلم ‪ ،‬فسمّيته باسم أبي إبراهيم » « وأتي النّب ّ‬

‫طلحة صبيحة ولد فحنّكه ودعا له وسمّاه » ‪.‬‬

‫ويحتمل حمل الوّل على منع تأخير التّسمية عن سابعه فتتّفق الخبار ‪ ،‬وعلى قول مالك قال‬ ‫ابن حبيب ‪ :‬ل بأس أن تتخيّر له السماء قبل سابعه ‪ ،‬ول يسمّى إلّ فيه ‪.‬‬

‫ي في الرّوضة ‪ ،‬ول‬ ‫ويرى الشّافعيّة أنّه يستحبّ تسمية المولود في اليوم السّابع كما ذكر النّوو ّ‬

‫بأس أن يسمّى قبله ‪ ،‬واستحبّ بعضهم أن ل يفعله ‪ .‬ول يترك تسمية السّقط ‪ ،‬ول من مات قبل‬

‫تمام السّبعة ‪.‬‬

‫هذا وأمّا الخبار الصّحيحة الواردة في تسمية يوم الولدة ‪ ،‬فقد حملها البخاريّ على من لم يرد‬ ‫العقّ ‪ ،‬والخبار الواردة في تسميته في اليوم السّابع على من أراده ‪.‬‬

‫وأمّا الحنابلة فلهم في وقت التّسمية روايتان ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أنّه يسمّى في اليوم السّابع ‪ .‬والثّانية ‪:‬‬

‫أنّه يسمّى في يوم الولدة ‪ .‬قال صاحب كشّاف القناع ‪ :‬ويسمّى المولود فيه أي ‪ :‬في اليوم‬

‫السّابع ‪ ،‬لحديث سمرة رضي ال عنه ‪ ،‬وهو قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬كلّ غلم رهينة‬

‫بعقيقته ‪ ،‬تذبح عنه يوم سابعه ‪ ،‬ويسمّى فيه ‪ ،‬ويحلق رأسه » ‪.‬‬

‫والتّسمية للب فل يسمّيه غيره مع وجوده ‪ .‬وفي الرّعاية ‪ :‬يسمّى يوم الولدة ‪ ،‬لحديث مسلم‬

‫في قصّة ولدة إبراهيم ابنه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ولد لي اللّيلة مولود فسمّيته إبراهيم باسم‬

‫أبي إبراهيم » هذا ولم يذكر ابن عابدين ول صاحب الفتاوى الهنديّة من الحنفيّة عند الكلم‬ ‫على التّسمية الوقت الّذي تكون فيه ‪.‬‬

‫قال ابن القيّم ‪ :‬إنّ التّسمية لمّا كانت حقيقتها تعريف الشّيء المسمّى ‪ ،‬لنّه إذا وجد وهو‬

‫مجهول السم لم يكن له ما يقع تعريفه به ‪ ،‬فجاز تعريفه يوم وجوده ‪ ،‬وجاز تأخير التّعريف‬ ‫إلى ثلثة أيّام ‪ ،‬وجاز إلى يوم العقيقة عنه ‪ ،‬ويجوز قبل ذلك وبعده ‪ ،‬والمر فيه واسع ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬تسمية السّقط ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬المراد بالسّقط هنا الولد ذكرا كان أو أنثى يخرج ميّتا من بطن أمّه قبل تمامه وهو مستبين‬

‫الخَلْق ‪ .‬يقال ‪ :‬سقط الولد من بطن أمّه سقوطا فهو سقط بالكسر ‪ ،‬والتّثليث لغة ‪ ،‬ول يقال ‪:‬‬ ‫وقع ‪ ،‬وأسقطت الحامل باللف ‪ :‬ألقت سقطا ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في تسمية السّقط ‪ .‬قال صاحب الفتاوى الهنديّة ‪ :‬من ولد ميّتا ل‬

‫يسمّى عند أبي حنيفة خلفا لمحمّد رحمهما اللّه تعالى ‪.‬‬ ‫والمشهور عند المالكيّة أنّ السّقط ل يسمّى ‪.‬‬

‫ي في الرّوضة ‪ :‬أنّ تسمية السّقط ل تترك ‪.‬‬ ‫ويرى الشّافعيّة ‪ ،‬كما قال النّوو ّ‬ ‫وفي النّهاية ‪ :‬يندب تسمية سقط نفخت فيه الرّوح ‪.‬‬

‫وأمّا الحنابلة ‪ ،‬ف قد قال ا بن قدا مة ‪ :‬فإن لم ي تبيّن ذ كر هو أم أن ثى ؟ سمّي ا سما ي صلح للذّ كر‬

‫والنثى ‪ ،‬هذا على سبيل الستحباب ‪ ،‬لنّه يروى عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪:‬‬

‫« سمّوا أسقاطكم ‪ ،‬فإنّهم أسلفكم »‬

‫قيل ‪ :‬إنّهم إنّما يسمّون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم ‪ ،‬فإذا لم يعلم هل السّقط ذكر أو أنثى ‪،‬‬

‫سمّي اسما يصلح لهما جميعا ‪ ،‬كسلمة وقتادة وسعاد وهند ‪ .‬ونحو ذلك ‪.‬‬

‫د ‪ -‬تسمية من مات بعد الولدة ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫ن من مات بعد الولدة ‪ ،‬وقبل أن يسمّى ‪ ،‬فإنّه يسمّى ‪.‬‬ ‫‪ -‬يرى الفقهاء أ ّ‬

‫ل صارخا فإنّه يعطى حكم الكبير ‪ ،‬وتثبت له كافّة الحقوق‬ ‫ن الحنفيّة قالوا ‪ :‬إذا استه ّ‬ ‫وبيان ذلك أ ّ‬ ‫‪ .‬وتسمية من مات بعد الولدة جائزة عند المالكيّة ‪.‬‬

‫ي في الرّوضة ‪.‬‬ ‫والشّافعيّة يرون أنّه يسمّى إذا مات قبل تمام السّبع ‪ ،‬كما قال النّوو ّ‬

‫وقال صاحب مغني المحتاج ‪ :‬لو مات قبل التّسمية استحبّ تسميته ‪ .‬ومقتضى مذهب الحنابلة‬

‫أنّهم يجيزون تسمية من مات بعد الولدة ‪ ،‬لنّهم يجيزون تسمية السّقط ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إنّها‬

‫مستحبّة ‪ ،‬فعلى هذا تسمية من مات بعد الولدة جائزة عندهم ‪ ،‬بل أولى ‪.‬‬

‫ما تستحبّ التّسمية به من السماء ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ -‬الصل جواز التّسمية بأيّ اسم إلّ ما ورد النّهي عنه ممّا سيأتي ‪.‬‬

‫ي اسم من السماء‬ ‫وتستحبّ التّسمية بكلّ اسم معبّد مضاف إلى اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬أو إلى أ ّ‬ ‫ن الفقهاء اتّفقوا على استحسان التّسمية به ‪.‬‬ ‫الخاصّة به سبحانه تعالى ‪ ،‬ل ّ‬

‫وأحبّ السماء إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرّحمن ‪ .‬وقال سعيد بن المسيّب ‪ :‬أحبّها إلى اللّه أسماء‬

‫النبياء ‪ .‬والحديث الصّحيح يدلّ على أنّ أحبّ السماء إليه سبحانه وتعالى ‪ :‬عبد اللّه وعبد‬

‫الرّحمن ‪ .‬ويدلّ لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي ال عنهما قال ‪ :‬قال‬

‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ أحبّ أسمائكم إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرّحمن »‪ .‬ولما‬

‫أخرجه أبو داود في سننه عن أبي الجشميّ رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫وسلم ‪ « :‬تسمّوا بأسماء النبياء ‪ ،‬وأحبّ السماء إلى اللّه ‪ :‬عبد اللّه وعبد الرّحمن ‪ ،‬وأصدقها‬ ‫‪ :‬حارث وهمّام ‪ ،‬وأقبحها ‪ :‬حرب ومرّة ‪.‬‬

‫وقال ابن عابدين في حاشيته نقلً عن المناويّ ‪ :‬إنّ عبد اللّه أفضل مطلقا حتّى من عبد‬

‫الرّحمن ‪ ،‬وأفضل السماء بعدهما محمّد ثمّ أحمد ثمّ إبراهيم ‪.‬‬

‫والجمهور على استحباب التّسمية بك ّل معبّد مضاف إلى اللّه سبحانه وتعالى كعبد اللّه ‪ ،‬أو‬

‫مضاف إلى اسم خاصّ به سبحانه وتعالى كعبد الرّحمن وعبد الغفور ‪.‬‬

‫ب السماء إلى اللّه ‪ :‬عبد اللّه وعبد الرّحمن ‪ ،‬إلّ أنّ‬ ‫وأمّا الحنفيّة فهم مع الجمهور في أنّ أح ّ‬

‫صاحب الفتاوى الهنديّة قال ‪ :‬ولكنّ التّسمية بغير هذه السماء في هذا الزّمان أولى ‪ ،‬لنّ‬

‫ن أفضليّة التّسمية‬ ‫العوامّ يصغّرونها للنّداء ‪ .‬وذكر ابن عابدين في حاشيته على ال ّدرّ المختار أ ّ‬

‫ن ذلك محمول على من أراد التّسمية بالعبوديّة ‪ ،‬لنّهم‬ ‫بعبد اللّه وعبد الرّحمن ليست مطلقةً فإ ّ‬ ‫ن اسم محمّد وأحمد‬ ‫كانوا يسمّون عبد شمس وعبد الدّار ‪ ،‬فجاءت الفضليّة ‪ ،‬فهذا ل ينافي أ ّ‬

‫أحبّ إلى اللّه تعالى من جميع السماء ‪ ،‬فإنّه لم يختر لنبيّه صلى ال عليه وسلم إلّ ما هو أحبّ‬ ‫إليه ‪ ،‬هذا هو الصّواب ‪.‬‬

‫ول يجوز تغيير اسم اللّه بالتّصغير فيما هو مضاف ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وهذا مشتهر في زماننا‬

‫حيث ينادون من اسمه عبد الرّحيم وعبد الكريم أو عبد العزيز مثلً ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬رحيّم وكريّم‬ ‫وعزيّز بتشديد ياء التّصغير ‪ ،‬ومن اسمه عبد القادر قويدر وهذا مع قصده كفر ‪.‬‬

‫ففي المنية ‪ :‬من ألحق التّصغير في آخر اسم عبد العزيز أو نحوه ‪ -‬ممّا أضيف إلى واحد من‬

‫السماء الحسنى ‪ -‬إن قال ذلك عمدا قاصدا التّحقير كفر ‪ ،‬وإن لم يدر ما يقول ول قصد له لم‬

‫يحكم بكفره ‪ ،‬ومن سمع منه ذلك يحقّ عليه أن يعلّمه ‪ ،‬وبعضهم يقول ‪ :‬رحمون لمن اسمه‬ ‫عبد الرّحمن ‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬وأمّا التّسمية بأسماء النبياء فقد اختلف الفقهاء في حكمها ‪ ،‬فذهب الكثرون إلى عدم‬

‫الكراهة ‪ ،‬وهو الصّواب ‪ .‬قال صاحب تحفة المحتاج ‪ :‬ول تكره التّسمية باسم نبيّ أو ملك ‪ ،‬بل‬

‫جاء في التّسمية باسم نبيّنا عليه الصلة والسلم فضائل ‪ .‬ومن ذلك ما رواه العتبيّ أنّ أهل مكّة‬

‫يتحدّثون ‪ :‬ما من بيت فيه اسم محمّد إلّ رأوا خيرا ورزقوا ‪.‬‬

‫وذكر صاحب كشّاف القناع من الحنابلة ‪ :‬أنّه يحسن التّسمية بأسماء النبياء ‪.‬‬

‫بل قال سعيد بن المسيّب ‪ ،‬كما تقدّم النّقل عنه ‪ :‬إنّها أحبّ السماء إلى اللّه ‪.‬‬

‫وذهب آخرون إلى كراهة التّسمية بأسماء النبياء ‪ ،‬وقد نسب هذا القول إلى عمر بن الخطّاب‬

‫رضي ال عنه ‪ .‬قال صاحب تحفة المودود ‪ :‬ولعلّ صاحب هذا القول قصد صيانة أسمائهم‬ ‫عن البتذال وما يعرض لها من سوء الخطاب ‪ ،‬عند الغضب وغيره ‪.‬‬

‫وقال سعيد بن المسيّب ‪ :‬أحبّ السماء إلى اللّه أسماء النبياء ‪ .‬وفي تاريخ ابن خيثمة ‪ :‬أنّ‬

‫ل منهم اسمه اسم نبيّ ‪ ،‬وكان للزّبير عشرة كلّهم تسمّى باسم‬ ‫طلحة كان له عشرة من الولد ‪ ،‬ك ّ‬

‫شهيد ‪ ،‬فقال له طلحة ‪ :‬أنا سمّيتهم بأسماء النبياء ‪ ،‬وأنت تسمّيهم بأسماء الشّهداء ‪ ،‬فقال له‬ ‫الزّبير ‪ :‬فإنّي أطمع أن يكون بَنيّ شهداء ‪ ،‬ول تطمع أن يكون بنوك أنبياء ‪.‬‬

‫ويدلّ على جواز التّسمية بأسماء النبياء ما أخرجه أبو داود في سننه عن أبي الجشميّ قال ‪:‬‬ ‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬تسمّوا بأسماء النبياء » ‪.‬‬

‫ويدلّ على جواز التّسمية باسم نبيّنا محمّد صلى ال عليه وسلم ما أخرجه البخاريّ في صحيحه‬ ‫عن جابر رضي ال عنه « قال ‪ :‬ولد لرجل منّا غلم فسمّاه القاسم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ل نكنّيه حتّى‬

‫نسأل النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬سمّوا باسمي ول تكنّوا بكنيتي » ‪.‬‬

‫ما تكره التّسمية به من السماء ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬تكره تنزيها التّسمية بكلّ اسم يتطيّر بنفيه ‪ ،‬كرباح وأفلح ونجاح ويسار وما أشبه ذلك ‪،‬‬

‫فإنّ هذه السماء وما أشبهها يتطيّر بنفيها ‪ ،‬فيما لو سئل شخص سمّى ابنه رباحا ‪ :‬أعندك رباح‬ ‫؟ فيقول ‪ :‬ليس في البيت رباح ‪ ،‬فإنّ ذلك يكون طريقا للتّشاؤم ‪.‬‬

‫هذا وقد أخرج مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل تسمّين غلمك يسارا ول رباحا ول نجيحا ول أفلح ‪ ،‬فإنّك تقول ‪:‬‬ ‫ن ذلك ل يحرم لحديث عمر رضي ال عنه « إنّ‬ ‫أثمّ هو ؟ فل يكون ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ل » إلّ أ ّ‬

‫الذن على مشربة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عبد يقال له ‪ :‬رباح » وعن جابر رضي‬

‫ال عنه « أراد صلى ال عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمّى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار‬

‫وبنافع وبنحو ذلك ‪ ،‬ثمّ رأيته بعد سكت عنها ‪ ،‬فلم يقل شيئا ‪ ،‬ثمّ قبض رسول اللّه صلى ال‬ ‫عليه وسلم ولم ينه عن ذلك ‪ ،‬ثمّ أراد عمر رضي ال عنه أن ينهى عن ذلك ث ّم تركه » ‪.‬‬

‫وتكره التّسمية أيضا بالسماء الّتي تكرهها النّفوس وتشمئ ّز منها كحرب ومرّة وكلب وحيّة ‪.‬‬ ‫ل اسم قبيح ‪.‬‬ ‫وقد صرّح المالكيّة بمنع التّسمية بك ّ‬

‫قال صاحب مواهب الجليل ‪ :‬يمنع بما قبح كحرب وحزن وضرار ‪ .‬وقال صاحب مغني‬ ‫المحتاج ‪ :‬تكره السماء القبيحة ‪ ،‬كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكلب ‪ .‬إلخ ‪.‬‬

‫وذكر الحنابلة أنّه تكره تسميته بأسماء الجبابرة كفرعون وأسماء الشّياطين ‪ .‬وجاء في مطالب‬ ‫أولي النّهى كراهية التّسمية بحرب ‪ .‬هذا ‪ ،‬وقد « كان النّبيّ عليه الصلة والسلم يكره السم‬

‫القبيح للشخاص والماكن والقبائل والجبال » ‪ .‬أخرج مالك في الموطّأ عن يحيى بن سعيد «‬ ‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال للقحة تحلب ‪ :‬من يحلب هذه ؟ فقام رجل ‪ ،‬فقال له‬ ‫أّ‬

‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ما اسمك ‪ ،‬فقال له الرّجل ‪ُ :‬مرّة ‪ .‬فقال له رسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم ‪ :‬اجلس ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬من يحلب هذه ؟ فقام رجل ‪ ،‬فقال له رسول اللّه صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ :‬ما اسمك ؟ ‪ ،‬فقال ‪ :‬حرب ‪ .‬فقال له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اجلس ‪ .‬ثمّ قال‬ ‫‪ :‬من يحلب هذه ؟ فقام رجل فقال له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ما اسمك ؟ فقال ‪:‬‬

‫يعيش ‪ ،‬فقال له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬احلب » ‪.‬‬

‫التّسمية بأسماء الملئكة ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫ن التّسمية بأسماء الملئكة كجبريل وميكائيل ل تكره ‪.‬‬ ‫‪ -‬ذهب أكثر العلماء إلى أ ّ‬

‫وذهب مالك إلى كراهة التّسمية بذلك ‪ ،‬قال أشهب ‪ :‬سئل مالك عن التّسمّي بجبريل ‪ ،‬فكره‬

‫ذلك ولم يعجبه ‪ .‬وقال القاضي عياض ‪ :‬قد استظهر بعض العلماء التّسمّي بأسماء الملئكة ‪،‬‬

‫وهو قول الحارث بن مسكين ‪ ،‬وأباح ذلك غيره ‪.‬‬

‫ما تحرم التّسمية به من السماء ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬تحرم التّسمية بكلّ اسم خاصّ باللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬كالخالق والقدّوس ‪ ،‬أو بما ل يليق‬

‫إلّ به سبحانه وتعالى كملك الملوك وسلطان السّلطين وحاكم الحكّام ‪ ،‬وهذا كلّه محلّ اتّفاق‬ ‫بين الفقهاء ‪ .‬وأورد ابن القيّم فيما هو خاصّ باللّه تعالى ‪ :‬الحد ‪ ،‬والصّمد ‪ ،‬والخالق ‪،‬‬ ‫والرّازق ‪ ،‬والجبّار والمتكبّر ‪ ،‬والوّل ‪ ،‬والخر ‪ ،‬والباطن ‪ ،‬وعلّام الغيوب ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬وممّا يدلّ على حرمة التّسمية بالسماء الخاصّة به سبحانه وتعالى كملك الملوك مثلً ‪:‬‬

‫ي ومسلم عن أبي هريرة رضي ال عنه ‪ -‬ولفظه في البخاريّ ‪ -‬قال رسول‬ ‫ما أخرجه البخار ّ‬ ‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أخنى السماء يوم القيامة عند اللّه رجل تسمّى ملك الملك »‬

‫ولفظه في صحيح مسلم « أغيظ رجل على اللّه يوم القيامة ‪ ،‬أخبثه وأغيظه عليه ‪ :‬رجل كان‬

‫يسمّى ملك الملك ‪ ،‬ل ملك إلّ اللّه » ‪.‬‬

‫وأمّا التّسمية بالسماء المشتركة الّتي تطلق عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره فيجوز التّسمّي بها‬

‫كعليّ ورشيد وبديع ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬وظاهره الجواز ولو معرّفا بأل ‪.‬‬ ‫ق اللّه تعالى ‪.‬‬ ‫قال الحصكفيّ ‪ :‬ويراد في حقّنا غير ما يراد في ح ّ‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬تحرم التّسمية بالسماء الّتي ل تليق إلّ بالنّبيّ صلى ال عليه وسلم كسيّد ولد‬

‫ن هذه السماء كما ذكر الحنابلة ل تليق إلّ به صلى ال‬ ‫آدم ‪ ،‬وسيّد النّاس ‪ ،‬وسيّد الكلّ ‪ ،‬ل ّ‬

‫ل اسم معبّد مضاف إلى غير اللّه سبحانه وتعالى كعبد العزّى ‪،‬‬ ‫عليه وسلم ‪ .‬وتحرم التّسمية بك ّ‬

‫وعبد الكعبة ‪ ،‬وعبد الدّار ‪ ،‬وعبد عليّ ‪ ،‬وعبد الحسين ‪ ،‬أو عبد فلن ‪ .‬إلخ ‪.‬‬

‫كما صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬فقد جاء في حاشية ابن عابدين ‪ :‬بأنّه ل يسمّيه‬ ‫عبد فلن ‪ .‬وجاء في مغني المحتاج ‪ :‬أنّه ل يجوز التّسمّي بعبد الكعبة وعبد العزّى ‪.‬‬

‫ي أو‬ ‫ي أو عبد الكعبة أو عبد الدّار أو عبد عل ّ‬ ‫وجاء في تحفة المحتاج حرمة التّسمية بعبد النّب ّ‬

‫عبد الحسين ليهام التّشريك ‪.‬‬

‫ومنه يؤخذ حرمة التّسمية بجار اللّه ورفيق اللّه ونحوهما ليهامه المحذور ‪.‬‬

‫ل اسم معبّد لغير اللّه تعالى كعبد‬ ‫وجاء في كشّاف القناع ما نصّه ‪ :‬اتّفقوا على تحريم ك ّ‬

‫العزّى ‪ ،‬وعبد عمرو ‪ ،‬وعبد عليّ ‪ ،‬وعبد الكعبة ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬ومثله عبد النّبيّ ‪ ،‬وعبد‬

‫الحسين ‪ ،‬وعبد المسيح ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬والدّليل على تحريم التّسمية بكلّ معبّد مضاف إلى غير اللّه سبحانه وتعالى ما رواه ابن‬

‫أبي شيبة عن يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جدّه هانئ بن يزيد رضي ال عنه قال ‪:‬‬

‫« وفد على النّبيّ صلى ال عليه وسلم قوم ‪ ،‬فسمعهم يسمّون ‪ :‬عبد الحجر ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ما‬

‫اسمك ؟ فقال ‪ :‬عبد الحجر ‪ ،‬فقال له رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّما أنت عبد اللّه »‪.‬‬

‫قال ابن القيّم ‪ :‬فإن قيل ‪ :‬كيف يتّفقون على تحريم السم المعبّد لغير اللّه ‪ ،‬وقد صرّح عنه‬ ‫عليه السلم أنّه قال ‪ « :‬تعس عبد الدّينار وعبد الدّرهم ‪ ،‬تعس عبد الخميصة ‪ ،‬تعس عبد‬

‫القطيفة » وصحّ عنه أنّه قال ‪ « :‬أنا النّبيّ ل كذب ‪ ...‬أنا ابن عبد المطّلب » ‪.‬‬

‫فالجواب ‪ :‬أمّا قوله ‪ « :‬تعس عبد الدّينار » ‪ ،‬فلم يرد به السم ‪ ،‬وإنّما أراد به الوصف‬

‫والدّعاء على من تعبّد قلبه للدّينار والدّرهم ‪ ،‬فرضي بعبوديّتهما عن عبوديّة ربّه تعالى ‪ ،‬وذكر‬

‫الثمان والملبس وهما جمال الباطن والظّاهر ‪.‬‬

‫وأمّا قوله ‪ « :‬أنا ابن عبد المطّلب » ‪ ،‬فهذا ليس من باب إنشاء التّسمية بذلك ‪ ،‬وإنّما هو من‬

‫باب الخبار بالسم الّذي عرف به المسمّى دون غيره ‪ ،‬والخبار بمثل ذلك على وجه تعريف‬

‫المسمّى ل يحرم فباب الخبار أوسع من باب النشاء ‪.‬‬

‫تغيير السم وتحسينه ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬يجوز تغيير السم عموما ويسنّ تحسينه ‪ ،‬ويسنّ تغيير السم القبيح إلى الحسن ‪ ،‬فقد‬

‫أخرج أبو داود في سننه عن أبي الدّرداء رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫وسلم ‪ « :‬إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم » ‪.‬‬

‫ن ابن ًة لعمر رضي ال عنه‬ ‫وأخرج مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي ال عنهم ‪ « :‬أ ّ‬

‫كانت يقال لها ‪ :‬عاصية ‪ ،‬فسمّاها رسول اللّه صلى ال عليه وسلم جميلةً » ‪.‬‬

‫وأخرج البخاريّ في صحيحه عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال ‪ « :‬جلست إلى سعيد بن‬

‫المسيّب فحدّثني أنّ جدّه" حزنا "قدم على النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬ما اسمك ؟ قال ‪:‬‬

‫حزَن ‪ ،‬قال ‪ :‬بل أنت سهل ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أنا بمغيّر اسما سمّانيه أبي ‪ .‬قال ابن المسيّب ‪:‬‬ ‫اسمي َ‬ ‫فما زالت فينا الحزونة بعد » وقد « غيّر النّبيّ صلى ال عليه وسلم السم الّذي يدلّ على‬

‫التّزكية إلى غيره ‪ ،‬فقد غيّر اسم برّة إلى جويرية أو زينب » ‪.‬‬

‫وقال أبو داود ‪ « :‬وغيّر النّبيّ صلى ال عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم‬ ‫وغراب وحبّاب وشهاب فسمّاه ‪ :‬هشاما ‪ ،‬وسمّى حربا ‪ :‬سلما ‪ ،‬وسمّى المضطجع ‪ :‬المنبعث ‪،‬‬ ‫وأرضا تسمّى عفر ًة سمّاها ‪ :‬خضر ًة ‪ ،‬وشعب الضّللة سمّاه ‪ :‬شعب الهدى ‪ ،‬وبنو الزّنية‬

‫سمّاهم ‪ :‬بني الرّشدة ‪ ،‬وسمّى بني مغويّة ‪ :‬بني رشدة » ‪.‬‬

‫هذا والفقهاء ل يختلفون في جواز تغيير السم إلى اسم آخر ‪ ،‬وفي أنّ تغيير السم القبيح إلى‬ ‫الحسن هو من المور المطلوبة الّتي حثّ عليها الشّرع ‪.‬‬ ‫وأجاز الحنابلة التّسمية بأكثر من اسم ‪.‬‬

‫نداء الزّوج والب ونحوهما بالسم المجرّد ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬ذكر الحنفيّة أنّه يكره أن يدعو الرّجل أباه ‪ ،‬وأن تدعو المرأة زوجها باسمه ‪ ،‬بل ل بدّ‬

‫من لفظ يفيد التّعظيم لمزيد حقّهما على الولد والزّوجة ‪ .‬وليس هذا من التّزكية ‪ ،‬لنّها راجعة‬

‫إلى المدعوّ بأن يصف نفسه بما يفيدها ‪ ،‬ل إلى الدّاعي المطلوب منه التّأدّب مع من هو فوقه ‪.‬‬

‫وذكر الشّافعيّة كما جاء في مغني المحتاج وغيره من كتبهم ‪ :‬أنّه يسنّ لولد الشّخص وتلميذه‬

‫وغلمه أن ل يسمّيه باسمه ‪ .‬وذهب الحنابلة ‪ -‬كما جاء في مطالب أولي النّهى ‪ -‬إلى أنّه ل‬

‫سيّد لرقيقه ‪ :‬يا عبدي ‪ ،‬ولمته يا أمتي ‪ ،‬لشعاره بالتّكبّر والفتخار المنهيّ عنه ‪.‬‬ ‫يقول ال ّ‬ ‫وكذلك ل يقول العبد لسيّده ‪ :‬يا ربّي ‪ ،‬ول يا مولي لما فيه من اليهام ‪.‬‬

‫تسمية الشياء بأسماء الحيوان ‪:‬‬

‫‪17‬‬

‫‪ -‬قال الرّحيبانيّ ‪ :‬ول بأس بتسمية النّجوم بالسماء العربيّة نحو ‪ :‬حمل وثور وجدي ‪،‬‬

‫لنّها أسماء أعلم ‪ ،‬واللّغة وضع لفظ دليلً على معنًى ‪ ،‬وليس معناه أنّها هذه الحيوانات حتّى‬

‫يكون ذلك كذبا ‪ ،‬بل وضع هذه اللفاظ لتلك المعاني توسّع ومجاز ‪ ،‬كما سمّوا في اللّغة الكريم‬ ‫بحرا ‪ ،‬لكن استعمال البحر للكريم مجاز ‪ ،‬بخلف استعمال تلك السماء في النّجوم ‪ ،‬فإنّها‬

‫حقيقة ‪ ،‬والتّوسّع في التّسمية فقط ‪ .‬ول يخفى أنّ مثل تسمية النّجوم في الحكم تسمية النّاس‬

‫بأسماء الحيوان ‪ ،‬ما لم يكن قبيحا فقد تقدّم حكمه ‪.‬‬

‫تسمية الدوات والدّوابّ والملبس ‪:‬‬

‫‪18‬‬

‫ب والملبس بأسماء خاصّة بها تميّزها عن‬ ‫‪ -‬ذكر ابن القيّم أنّه يجوز تسمية الدوات والدّوا ّ‬

‫مثيلتها أسو ًة برسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقد كان لسيوفه ودروعه ورماحه وقسيّه‬

‫وحرابه وبعض أدواته ودوابّه وملبسه أسماء خاصّة ‪ :‬فمن أسماء سيوفه صلى ال عليه وسلم‬

‫" مأثور " وهو أوّل سيف ملكه ‪ ،‬ورثه من أبيه ‪ ،‬و " ذو الفِقار " بكسر الفاء وفتحها وهو سيف‬ ‫تنفّله يوم بدر ‪.‬‬

‫ومن أسماء دروعه صلى ال عليه وسلم " ذات الفضول " وهي الّتي رهنها عند أبي الشّحم‬

‫اليهوديّ على شعير لعياله " وذات الوشاح ‪ ،‬وذات الحواشي " ‪ .‬إلخ ‪.‬‬ ‫سيّه صلى ال عليه وسلم " الزّوراء ‪ ،‬والرّوحاء " ‪.‬‬ ‫ومن أسماء قِ ِ‬ ‫ومن أسماء تروسه صلى ال عليه وسلم " الزّلوق ‪ ،‬والفتق " ‪.‬‬

‫ومن أسماء رماحه صلى ال عليه وسلم " المثوى ‪ ،‬و المثنّى " ‪.‬‬ ‫ومن أسماء حرابه صلى ال عليه وسلم " النّبعة ‪ ،‬والبيضاء " ‪.‬‬

‫ن " ومخصرة تسمّى "‬ ‫وكانت له راية سوداء يقال لها ‪ " :‬العقاب " وفسطاط يسمّى " الك ّ‬

‫العرجون " وقضيب من الشّوحط يسمّى " الممشوق " قيل ‪ :‬وهو الّذي كان يتداوله الخلفاء ‪.‬‬

‫ومن أسماء أدواته صلى ال عليه وسلم الّتي كان يستعملها في بيته ‪ " :‬ال ّريّان " وهو اسم لقدح‬

‫" والصّادر " وهو اسم لركوة " وتور " وهو إناء يشرب فيه " والسّعة " وهو اسم لقعب "‬

‫والغرّاء " وهو اسم لقصعة ‪ .‬ومن أسماء دوابّه صلى ال عليه وسلم من الخيل " السّكب "‬

‫" والمرتجز ‪ ،‬واللّحيف " ومن البغال " دلدل ‪ ،‬وفضّة " ومن الحمير " عفير "‬

‫ومن البل " القصواء ‪ ،‬والعضباء " ‪ .‬ومن أسماء ملبسه " السحاب " وهو اسم لعمامة ‪.‬‬

‫تسمية اللّه تعالى بغير ما ورد ‪:‬‬

‫‪19‬‬

‫سمَائِه‬ ‫ن يُ ْلحِدُونَ في َأ ْ‬ ‫سنَى فَادْعُوه بِها َو َذرُوا الّذي َ‬ ‫حْ‬ ‫لسْمَاءُ ال ُ‬ ‫‪ -‬يقول اللّه تعالى ‪َ { :‬ولِلّه ا َ‬

‫جزَونَ ما كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬ ‫س ُي ْ‬ ‫َ‬

‫فهذه الية تدلّ على أنّ للّه سبحانه وتعالى أسماءً خاصّةً يسمّى بها ‪ ،‬لنّ معنى قوله تعالى ‪{ :‬‬ ‫فَادْعُوه بها } أي سمّوه بها أو نادوه بتلك السماء ‪ ،‬فالدّعاء المذكور في هذه الية كما قال‬

‫صاحب روح المعاني ‪ :‬إمّا من الدّعوة بمعنى التّسمية ‪ ،‬كقولهم ‪ :‬دعوته زيدا أو بزيد أي ‪:‬‬

‫سمّيته ‪ .‬أو من الدّعاء بمعنى النّداء كقولهم ‪ :‬دعوت زيدا أي ‪ :‬ناديته ‪ .‬قال اللوسيّ ‪ :‬اللحاد‬

‫في أسمائه سبحانه وتعالى أن يسمّى بما ل توقيف فيه ‪ ،‬أو بما يوهم معنًى فاسدا ‪ ،‬كما في قول‬

‫أهل البدو في دعاء اللّه ‪ :‬يا أبا المكارم ‪ ،‬يا أبيض الوجه يا سخيّ ونحو ذلك ‪.‬‬

‫سنّة والجماع ‪ ،‬وأنّ‬ ‫ونقل عن بعضهم أنّ السماء توقيفيّة يراعى فيها ما ورد في الكتاب وال ّ‬

‫كلّ اسم ورد في هذه الصول جاز إطلقه عليه جلّ شأنه ‪ ،‬وما لم يرد فيها لم يجز وإن صحّ‬

‫ي والمديّ ‪.‬‬ ‫معناه ‪ .‬ونقل ذلك عن أبي القاسم القشير ّ‬

‫ن اللحاد في أسمائه سبحانه وتعالى يكون بثلثة أوجه ‪:‬‬ ‫وقال القرطبيّ ‪ :‬إ ّ‬

‫أحدها ‪ :‬بالتّغيير فيها كما فعله المشركون ‪ ،‬وذلك أنّهم عدلوا بها عمّا هي عليه ‪ ،‬فسمّوا بها‬ ‫أَ ْوثَا َنهُمْ ‪ ،‬فاشتقّوا اللّات من اللّه ‪ ،‬والعزّى من العزيز ‪ ،‬ومناة من المنّان ‪ ،‬قاله ابن عبّاس‬

‫وقتادة ‪.‬‬

‫الثّاني ‪ :‬بالزّيادة فيها ‪.‬‬

‫الثّالث ‪ :‬بالنّقصان منها ‪ ،‬كما يفعله الجهّال الّذين يخترعون أدعيةً يسمّون فيها اللّه تعالى بغير‬

‫أسمائه ‪ ،‬ويذكرونه بغير ما يذكر من أفعاله ‪ ،‬إلى غير ذلك ممّا ل يليق به ‪.‬‬

‫سنّة ‪.‬‬ ‫ونقل عن ابن العربيّ ‪ :‬أنّه ل يدعى اللّه إلّ بما ورد في الكتاب وال ّ‬

‫وقال صاحب روح المعاني ‪ :‬اتّفق علماء السلم على جواز إطلق السماء والصّفات على‬

‫الباري تعالى إذا ورد بهما الذن من الشّارع ‪ ،‬وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه ‪.‬‬

‫واختلفوا حيث ل إذن ول منع في جواز إطلق ما كان سبحانه وتعالى متّصفا بمعناه ‪ ،‬ولم يكن‬

‫من السماء العلم الموضوعة في سائر اللّغات ‪ ،‬إذ ليس جواز إطلقها عليه تعالى محلّ‬

‫نزاع لحد ‪ ،‬ولم يكن إطلقه موهما نقصا ‪ ،‬بل كان مشعرا بالمدح ‪ ،‬فمنعه جمهور أهل الحقّ‬ ‫مطلقا للخطر ‪ ،‬وجوّزه المعتزلة مطلقا ‪.‬‬

‫تسمية المحرّمات بغير أسمائها ‪:‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ -‬إذا سمّيت المحرّمات بغير أسمائها المعروفة ‪ ،‬وهي الّتي اقترن بها التّحريم ‪ ،‬بأن سمّيت‬

‫بأسماء أخرى لم يقترن التّحريم بها ‪ :‬فإنّ هذه التّسمية ل تزيل عن المحرّمات صفة الحرمة ‪.‬‬

‫مثال ذلك ‪ :‬الخمر ‪ ،‬فإنّ اللّه سبحانه وتعالى حرّمها بنفس هذا السم حيث قال سبحانه ‪ { :‬يَا‬ ‫ج َت ِنبُوه‬ ‫س مِنْ عَملِ الشّيطَانِ فَا ْ‬ ‫لزْل ُم ِرجْ ٌ‬ ‫ل ْنصَابُ وا َ‬ ‫سرُ وا َ‬ ‫خ ْمرُ وال َم ْي ِ‬ ‫َأيّها الّذينَ آ َمنُوا ِإ ّنمَا ال َ‬

‫َلعَّلكُمْ تُفِْلحُونَ } فلو سمّيت باسم آخر من أسماء الشربة المباحة ‪ ،‬فإنّ تلك التّسمية ل تزيل‬

‫عنها صفة الحرمة ‪ ،‬لنّ العلّة ‪ -‬وهي السكار ‪ -‬ل تزول بتلك التّسمية ‪ ،‬وهذا تلعب بالدّين‬ ‫واحتيال يزيد في إثم مرتكب الحرام ‪.‬‬

‫وقد أخرج أبو داود في سننه عن مالك بن أبي مريم قال ‪ :‬دخل علينا عبد الرّحمن بن غنم‬

‫فتذاكرنا الطّلء فقال ‪ :‬حدّثني أبو مالك الشعريّ رضي ال عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى ال‬ ‫ن نَاسٌ من أمّتي الخمرَ ‪ ،‬يسمّونها بغير اسمها » ‪.‬‬ ‫ش َربَ ّ‬ ‫عليه وسلم يقول ‪َ « :‬ل َي ْ‬

‫والطّلء بالكسر والمدّ ‪ :‬هو الشّراب الّذي يطبخ حتّى يذهب ثلثاه ‪ ،‬وكان البعض يسمّي الخمر‬

‫طلءً ‪ .‬والمراد بقوله صلى ال عليه وسلم « يسمّونها بغير اسمها » أي ‪ :‬يتستّرون بشربها‬

‫بأسماء النبذة المباحة كماء العسل وماء الذّرة ونحو ذلك ‪ ،‬ويزعمون أنّه غير محرّم ‪ ،‬لنّه‬

‫ليس من العنب والتّمر وهم فيه كاذبون ‪ ،‬لنّ كلّ مسكر حرام ‪ ،‬فإنّ المدار على حرمة المسكر‬ ‫‪ ،‬ولهذا ل يض ّر شرب القهوة المأخوذة من البنّ حيث ل سكر فيها مع الكثار منها ‪ ،‬وإن كانت‬

‫القهوة من أسماء الخمر فالعتبار بالمسمّى ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬التّسمية بمعنى تحديد العوض في العقود ‪:‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ -‬من أمثلة هذا المعنى عندهم ‪ :‬المهر ‪ ،‬فإنّه ل تشترط تسميته في عقد النّكاح فيصحّ‬

‫النّكاح ويثبت مهر المثل بالدّخول أو الموت ‪.‬‬

‫ومن أمثلته أيضا ‪ :‬الجرة ‪ ،‬فإنّ الجمهور يشترطون فيها ما يشترط في الثّمن في البيع ‪،‬‬

‫فيجب العلم بالجر ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من استأجر أجيرا فَلْيعلمه أجره » فإن كان‬

‫الجر دينا ثابتا في ال ّذمّة ممّا يصحّ ثبوته فيها فل بدّ من بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره ‪،‬‬

‫فإن كان في الجر جهالة مفضية للنّزاع فسد العقد ‪ ،‬ويجب أجر المثل عند استيفاء المنفعة ‪.‬‬

‫ومن أمثلته أيضا ‪ :‬الثّمن ‪ ،‬فإنّ الفقهاء متّفقون على وجوب تسميته في العقد بجواز البيع ‪ .‬على‬

‫تفصيل يذكر في مصطلح ‪ ( :‬ثمن ‪ ،‬وبيع ) ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬التّسمية بمعنى التّعيّن بالسم مقابل البهام ‪:‬‬

‫‪22‬‬

‫‪ -‬من أمثلته ‪ :‬تسمية الشّهود ‪ ،‬أو ترك تسميتهم لثبات عدالتهم ‪.‬‬

‫فالحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّه ل بدّ من تسمية الشّهود وبيان أنسابهم وحلهم وقبائلهم‬ ‫ومحالّهم وأسواقهم ‪ ،‬إلى غير ذلك من المور ‪ ،‬وذلك لثبات عدالتهم ‪.‬‬

‫وأمّا عند المالكيّة ‪ :‬فإنّه يجوز للرّجل أن يعدّل آخر وإن لم يعرف اسمه ول كنيته المشهور بها‬

‫ول اللّقب ‪ ،‬وإن لم يذكر سبب عدالته ‪ ،‬لنّ أسباب العدالة كثيرة بخلف الجرح ‪.‬‬

‫تسنيم *‬

‫التّعريف ‪:‬‬

‫‪ -1‬التسنيم في اللغة ‪ :‬رفع الشيء ‪ ،‬يقال سنم الناء ‪ :‬إذا مله حتى صار الحب فوقه كالسنام ‪،‬‬ ‫وكل شيء عل شيئا فقد تسنمه ‪ .‬وسنام البعير والناقة ‪ :‬أعلى ظهرها ‪ ،‬والجمع أسنمة ‪ ،‬وفي‬

‫سنِيم } قالوا ‪:‬‬ ‫ن َت ْ‬ ‫س ِنمَة ال ُبخْت » ‪ .‬وقوله تعالى { و ِمزَاجُه مِ ْ‬ ‫الحديث ‪ « :‬نساء على رؤوسهن كَأ ْ‬

‫هو ماء في الجنة ‪ ،‬سمي بذلك لنه يجري فوق الغرف والقصور ‪.‬‬

‫والتسنيم في اصطلح الفقهاء ‪ :‬رفع القبر عن الرض مقدار شبر أو أكثر قليلً ‪.‬‬

‫وفي النظم المستعذب ‪ :‬التنسيم أن يجعل أعلى القبر مرتفعا ‪ ،‬ويجعل جانباه ممسوحين‬

‫مسنَدين ‪ ،‬مأخوذ من سنام البعير ‪ .‬ويقابله تسطيح القبر ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن يجعل منبسطا متساوي‬ ‫الجزاء ‪ ،‬ل ارتفاع فيه ول انخفاض كسطح البيت ‪.‬‬

‫الحكم الجمالي ‪:‬‬

‫‪ -2‬ل خلف بين الفقهاء في استحباب رفع التراب فوق القبر قدر شبر ‪ ،‬ول بأس بزيادته عن‬ ‫ذلك قليلً على ما عليه بعض فقهاء الحنفية ‪ ،‬ليعرف أنه قبر ‪ ،‬فيتوقى ويترحم على صاحبه ‪.‬‬

‫فعن جابر رضي ال عنه « أن النبي صلى ال عليه وسلم رفع قبره عن الرض قدر شبر »‬

‫وعن القاسم بن محمد قال لعائشة رضي ال عنها ‪ « :‬اكشفي لي عن قبر النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم وصاحبيه ‪ ،‬فكشفت عن ثلثة قبور ‪ ،‬ل مشرفة ول لطئة ‪ ،‬مبطوحة‬

‫ببطحاء العرصة الحمراء »‬

‫واختلفوا هل يسنم القبر أو يسطح ؟ فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه ‪ :‬يندب تسنيمه‬

‫كسنام البعير ‪ ،‬لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه « رأى قبر النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫مسنما » وعن الحسن مثله ‪.‬‬

‫وما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال ‪ « :‬أخبرني من رأى قبر النبي صلى ال عليه وسلم‬

‫وقبر أبي بكر وعمر رضي ال عنهما أنها مسنمة عليها فلق مدر بيض »‬

‫وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي ال عنهما « أن جبريل عليه السلم صلى‬

‫بالملئكة على آدم وجعل قبره مسنما »‬

‫وكرهوا تسطيح القبر ‪ ،‬لن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا ‪ ،‬وهو أشبه بشعار أهل البدع ‪،‬‬

‫فكان مكروها لذلك عندهم ‪ ،‬ولما روي أن « النبي صلى ال عليه وسلم نهى عن تربيع القبور‬

‫» وذهب الشافعية إلى أنه يندب تسطيحه ( أي تربيعه ) وأنه أفضل من تسنيمه ‪ ،‬لما روي «‬

‫أن إبراهيم ابن النبي صلى ال عليه وسلم لما توفي جعل الرسول صلى ال عليه وسلم قبره‬

‫مسطحا » ول يخالف ذلك قول علي رضي ال عنه ‪ « :‬أمرني رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫أن ل تدع تمثالً إل طمسته ‪ ،‬ول قبرا مشرفا إل سويته » لنه لم يرد تسويته بالرض ‪ ،‬وإنما‬ ‫أراد تسطيحه جمعا بين الخبار ‪ .‬هذا إذا دفن المسلم في دار السلم ‪.‬‬

‫‪ -3‬أما إن دفن المسلم في غير دار السلم ‪ ،‬بأن دفن في بلد الكفار أو دار حرب ‪ ،‬وتعذر نقله‬ ‫إلى دار السلم ‪ ،‬فالولى تسوية قبره بالرض ‪ ،‬وإخفاؤه أولى من إظهاره وتسنيمه خوفا من‬ ‫أن ينبش فيمثل به ‪ ،‬وفي ذلك صيانة له عنهم ‪.‬‬

‫وألحق به الذرعي ‪ :‬المكنة التي يخاف نبشها لسرقة كفنه أو لعداوة ونحوهما ‪.‬‬

‫وانظر باقي الحكام المتعلقة بالقبر في مصطلح ( قبر ) ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬استياك ‪.‬‬

‫انظر شحاذة ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬

‫تسوّك *‬ ‫تسوّل *‬ ‫تسويد *‬

‫‪ -1‬التّسويد مصدر سوّد ‪ ،‬يقال ‪ :‬سوّد تسويدا ‪ .‬والتّسويد يأتي بمعنى التّلوين بالسّواد ‪ -‬وهو‬

‫ضدّ البياض ‪ -‬يقال ‪ :‬سوّد الشّيء أي ‪ :‬جعله أسود ‪.‬‬

‫ويأتي التّسويد من السّيادة ‪ ،‬فيكون بمعنى ‪ :‬التّشريف ‪ ،‬يقال ‪ :‬سوّده قومه تسويدا أي ‪ :‬جعلوه‬

‫سيّدا عليهم ‪ .‬وفي المصباح ‪ :‬ساد يسود سيادةً ‪ ،‬والسم السّؤدد ‪ ،‬وهو ‪ :‬المجد والشّرف ‪ ،‬فهو‬ ‫سيّد والنثى سيّدة ‪.‬‬

‫سيّد ‪ :‬المتولّي للسّواد أي الجماعة ‪ ،‬وينسب إلى ذلك فيقال ‪ :‬سيّد القوم ‪ .‬ولمّا كان من شرط‬ ‫وال ّ‬

‫المتولّي للجماعة أن يكون مهذّب النّفس ‪ ،‬قيل لكلّ من كان فاضلً في نفسه ‪ :‬سيّد ‪ .‬ويطلق‬

‫سيّد على ال ّربّ ‪ ،‬والمالك ‪ ،‬والحليم ‪ ،‬ومحتمل أذى قومه ‪ ،‬والزّوج ‪ ،‬والرّئيس ‪ ،‬والمقدّم ‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫ويأتي التّسويد ‪ -‬أيضا ‪ -‬لنوع من المداواة ‪ ،‬قال في اللّسان نقلً عن أبي عبيد ‪ :‬ويقال ‪ :‬سوّد‬ ‫الِبل تسويدا ‪ :‬إذا دقّ المِسح البالي من شعر فداوى به أدبارها ‪.‬‬

‫والتّسويد في الصطلح يريد به الفقهاء المعنيين الوّلين غالبا ‪.‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّبييض ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬التّبييض ‪ :‬مصدر بيّض ‪ ،‬يقال ‪ :‬بيّض الشّيء أي جعله أبيض ‪ ،‬ض ّد سوّده ‪.‬‬

‫والبياض ضدّ السّواد ‪ ،‬والبيّاض ‪ :‬الرّجل الّذي يبيّض الثّياب ‪ .‬والمبيّضة ‪ :‬أصحاب البياض ‪،‬‬

‫وهم فرقة من الثّنويّة سمّوا كذلك لتبييضهم الثّياب ‪ ،‬مخالفةً للمسوّدة من العبّاسيّين ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التّعظيم ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬التّعظيم ‪ :‬مصدر عظّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬عظّمه تعظيما أي ‪ :‬كبّره وفخّمه ‪.‬‬

‫والتّعظيم يكون باعتبار الوصف والكيفيّة ‪ ،‬ويقابله التّحقير فيهما بحسب المنزلة والرّتبة ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التّفضيل ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -‬التّفضيل ‪ :‬مصدر فضّل ‪ ،‬يقال ‪ :‬فضّلته على غيره تفضيلً أي ‪ :‬صيّرته أفضل منه ‪،‬‬

‫وفضّله أي مزّاه ‪ .‬والتّفضيل دون التّسويد ‪ -‬بمعنى السّيادة ‪ -‬لكنّه سبب له وطريق إليه ‪.‬‬ ‫د ‪ -‬التّكريم ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬التّكريم ‪ :‬أن يوصل إلى النسان نفع ل يلحقه فيه غضاضة ‪ ،‬أو أن يجعل ما يوصل إلى‬

‫النسان شيئا كريما أي شريفا ‪ .‬وهو مصدر كرّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬كرّمه تكريما أي عظّمه ونزّهه ‪.‬‬ ‫والكرام والتّكريم بمعنًى ‪ ،‬والكرم ضدّ اللّؤم ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫‪ -‬يختلف حكم التّسويد باختلف معناه ومبحثه الفقهيّ ‪.‬‬

‫فالتّسويد يأتي بمعنى ‪ :‬السّيادة ‪ ،‬ويبحث حكمه في مواطن منها ‪ :‬تسويد النّبيّ صلى ال عليه‬ ‫وسلم في الصّلة وفي غيرها ‪ ،‬وتسويد غيره صلى ال عليه وسلم وتسويد المنافق ‪ .‬ويأتي‬

‫التّسويد بمعنى ‪ :‬التّلوين بالسّواد ‪ ،‬ويبحث حكمه في مواطن منها ‪ :‬التّعزير ‪ ،‬والخضاب ‪،‬‬ ‫والحداد ‪ ،‬والتّعزية ‪ ،‬واللّباس والعمامة ‪ ،‬وشعر المبيع ‪.‬‬

‫أوّلً‬ ‫التّسويد من السّيادة‬ ‫تسويد النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم في الصّلة ‪ ،‬وحكم تسويده صلى ال‬ ‫اختلف الفقهاء في حكم تسويد النّب ّ‬ ‫عليه وسلم في غير الصّلة ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬في الصّلة ‪:‬‬

‫‪7‬‬

‫‪ -‬ورد لفظ الصّلوات البراهيميّة في كتب الحديث والفقه مأثورا عن النّبيّ صلى ال عليه‬

‫وسلم من غير ذكر " سيّدنا " قبل اسمه عليه الصلة والسلم ‪.‬‬

‫وأمّا إضافة لفظ " سيّدنا " فرأى من لم يقل بزيادتها اللتزام بما ورد عنه صلى ال عليه وسلم‬ ‫ن فيه امتثالً لما ورد عنه صلى ال عليه وسلم من غير زيادة في الذكار واللفاظ المأثورة‬ ‫لّ‬

‫عنه ‪ ،‬كالذان والقامة والتّشهّد والصّلة البراهيميّة ‪.‬‬

‫وأمّا بخصوص زيادة " سيّدنا " في الصّلة البراهيميّة بعد التّشهّد ‪ ،‬فقد ذهب إلى استحباب‬ ‫ذلك بعض الفقهاء المتأخّرين كالعزّ بن عبد السّلم والرّمليّ والقليوبيّ والشّرقاويّ من‬

‫الشّافعيّة ‪ ،‬والحصكفيّ وابن عابدين من الحنفيّة متابعةً للرّمليّ الشّافعيّ ‪ ،‬كما صرّح باستحبابه‬ ‫النّفراويّ من المالكيّة ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّ ذلك من قبيل الدب ‪ ،‬ورعاية الدب خير من المتثال ‪،‬‬

‫كما قال الع ّز بن عبد السّلم ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬في غير الصّلة ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬أجمع المسلمون على ثبوت السّيادة للنّبيّ صلى ال عليه وسلم وعلى عََل ِم ّيتِه في السّيادة ‪.‬‬

‫قال الشّرقاويّ ‪ :‬فلفظ " سيّدنا " علم عليه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫سيّد ل يطلق إلّ على اللّه تعالى ‪ ،‬لما روي عن أبي‬ ‫ومع ذلك خالف بعضهم وقالوا ‪ :‬إنّ لفظ ال ّ‬

‫ي صلى ال عليه‬ ‫نضرة عن مطرّف قال ‪ :‬قال أبي ‪ « :‬انطلقت في وفد بني عامر إلى النّب ّ‬

‫سيّد اللّه تبارك وتعالى ‪ .‬قلنا ‪ :‬وأفضلنا فضلً وأعظمنا طولً‬ ‫وسلم فقلنا ‪ :‬أنت سيّدنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪ ،‬قال ‪ :‬قولوا بقولكم أو بعض قولكم ‪ ،‬ول يسخر بكم الشّيطان » ‪ .‬وفي حديث آخر‬

‫سيّد اللّه » ‪.‬‬ ‫« أنّه جاءه رجل فقال ‪ :‬أنت سيّد قريش ‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ال ّ‬

‫قال ابن الثير في النّهاية ‪ :‬أي هو الّذي يحقّ له السّيادة ‪ ،‬كأنّه كره أن يحمد في وجهه ‪،‬‬

‫وأحبّ التّواضع ‪ .‬ومنه الحديث لما قالوا ‪ :‬أنت سيّدنا ‪ ،‬قال ‪ « :‬قولوا بقولكم » أي ادعوني نبيّا‬

‫ورسولً كما سمّاني اللّه ‪ ،‬ول تسمّوني سيّدا كما تسمّون رؤساءكم ‪ ،‬فإنّي لست كأحدهم ممّن‬ ‫يسودكم في أسباب الدّنيا ‪.‬‬

‫ب ‪ ،‬والمالك ‪ ،‬والشّريف ‪ ،‬والفاضل ‪،‬‬ ‫سيّد يطلق على ال ّر ّ‬ ‫وأضاف ابن مفلح إلى ما سبق ‪ :‬وال ّ‬ ‫والحكيم ‪ ،‬ومتحمّل أذى قومه ‪ ،‬والزّوج ‪ ،‬والرّئيس ‪ ،‬والمقدّم ‪.‬‬

‫وقال أبو منصور ‪ :‬كره النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن يمدح في وجهه وأحبّ التّواضع للّه‬

‫تعالى ‪ ،‬وجعل السّيادة للّذي ساد الخلق أجمعين ‪ .‬وليس هذا بمخالف لقوله لسعد بن معاذ‬ ‫رضي ال عنه حين قال لقومه النصار ‪ « :‬قوموا إلى سيّدكم » أراد أنّه أفضلكم رجلً‬

‫سيّد فمعناه ‪ :‬أنّه مالك الخلق والخلق كلّهم عبيده ‪ -‬أي‬ ‫وأكرمكم ‪ .‬وأمّا صفة اللّه جلّ ِذكْره بال ّ‬

‫سيّد بهذا المعنى على غير اللّه تعالى ‪ -‬وكذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪« :‬‬ ‫فل يطلق لفظ ال ّ‬

‫أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ول فخر » أراد أنّه أوّل شفيع ‪ ،‬وأوّل من يفتح له باب الجنّة ‪ ،‬قال‬

‫ذلك إخبارا عمّا أكرمه اللّه به من الفضل والسّودد ‪ ،‬وتحدّثا بنعمة اللّه عنده ‪ ،‬وإعلما منه ‪،‬‬

‫ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه ‪ ،‬ولهذا أتبعه بقوله ‪ « :‬ول فخر » أي أنّ هذه الفضيلة‬ ‫الّتي نلتها كرامةً من اللّه تعالى ‪ ،‬لم أنلها من قبل نفسي ‪ ،‬ول بلغتها بقوّتي ‪ ،‬فليس لي أن‬ ‫أفتخر بها ‪.‬‬

‫وقال السّخاويّ ‪ :‬إنكاره صلى ال عليه وسلم يحتمل أن يكون تواضعا منه صلى ال عليه وسلم‬ ‫وكراهةً منه أن يحمد ويمدح مشافهةً ‪ ،‬أو لنّ ذلك كان من تحيّة الجاهليّة ‪ ،‬أو لمبالغتهم في‬

‫المدح ‪ ،‬وقد صحّ قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أنا سيّد ولد آدم » وقوله للحسن رضي ال‬

‫ن ابني هذا سيّد » وورد قول سهل بن حنيف رضي ال عنه للنّبيّ صلى ال عليه‬ ‫عنه ‪ « :‬إ ّ‬

‫ي في عمل اليوم واللّيلة ‪ ،‬وقول ابن مسعود ‪" :‬‬ ‫وسلم ‪ « :‬يا سيّدي » في حديث عند النّسائ ّ‬

‫اللّهمّ ص ّل على سيّد المرسلين "‪.‬‬

‫وفي كلّ هذا دللة واضحة وبراهين لئحة على جواز ذلك ‪ ،‬والمانع يحتاج إلى إقامة دليل ‪،‬‬

‫سوى ما تقدّم ‪ ،‬لنّه ل ينهض دليلً مع الحتمالت السّابقة ‪.‬‬

‫تسويد غير النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫سيّد على غير النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬ ‫‪ -‬اختلف الفقهاء في جواز إطلق لفظ ال ّ‬

‫سيّد على غير النّبيّ صلى ال عليه وسلم واستدلّوا‬ ‫فذهب جمهورهم إلى جواز إطلق لفظ ال ّ‬

‫حصُورَا َو َن ِبيّا مِنَ الصّاِلحِينَ } أي أنّه فاق‬ ‫سيّدَا َو َ‬ ‫بقول اللّه تعالى في يحيى عليه السلم ‪َ { :‬و َ‬

‫سيّدَها َلدَى الباب }‬ ‫غيره عفّةً ونزاهةً عن الذّنوب ‪ .‬وقوله عزّ وجلّ في امرأة العزيز ‪ { :‬وََألْ َفيَا َ‬

‫سيّد ؟ قال ‪ :‬يوسف بن‬ ‫أي زوجها وبما روي « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم سئل ‪ :‬من ال ّ‬

‫يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلم قالوا ‪ :‬فما في أمّتك من سيّد ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬من آتاه‬ ‫اللّه مالً ‪ ،‬ورزق سماحةً ‪ ،‬فأدّى شكره ‪ ،‬وقلّت شكايته في النّاس » وبقوله صلى ال عليه‬

‫وسلم للنصار وبني قريظة ‪ « :‬قوموا إلى سيّدكم » يعني سعد بن معاذ ‪ .‬وقوله صلى ال عليه‬

‫ن ابني هذا سيّد ‪،‬‬ ‫وسلم في الحسن بن عليّ رضي ال عنهما ‪ -‬كما ورد في الصّحيحين ‪ « -‬إ ّ‬ ‫ولعلّ اللّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » وكذلك كان‪ .‬وقوله صلى ال عليه‬

‫وسلم للنصار ‪ « :‬من سيّدكم ؟ قالوا ‪ :‬الجدّ بن قيس على أنّا نبخّله ‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‬ ‫‪ :‬وأيّ داء أدوى من البخل » ‪.‬‬

‫وبقوله صلى ال عليه وسلم ‪ «:‬كلّ بني آدم سيّد ‪ ،‬فالرّجل سيّد أهله ‪،‬والمرأة سيّدة بيتها »‪.‬‬ ‫ومنه حديث أ ّم الدّرداء رضي ال عنها ‪ :‬حدّثني سيّدي أبو الدّرداء ‪.‬‬

‫وبقول عمر رضي ال عنه لمّا سئل ‪ :‬من الّذي إلى جانبك ‪ ،‬فأجاب ‪ :‬هذا سيّد المسلمين أبيّ‬ ‫بن كعب رضي ال عنه ‪.‬‬

‫سيّد من أسماء اللّه تعالى ‪،‬‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وقالوا ‪ :‬إنّه لم يرد في القرآن الكريم ول في حديث متواتر أ ّ‬

‫ل لكونه سبحانه مالك الخلق أجمعين ‪ ،‬ول مالك لهم‬ ‫سيّد على اللّه عزّ وج ّ‬ ‫ن إطلق لفظ ال ّ‬ ‫ول ّ‬

‫سواه ‪ ،‬وإطلق هذا اللّفظ على غير اللّه تعالى ل يكون بهذا المعنى الجامع الكامل ‪ ،‬بل بمعان‬

‫قاصرة عن ذلك ‪.‬‬

‫سيّد ل يطلق إلّ على اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬لما ورد في حديث مطرّف‬ ‫ن لفظ ال ّ‬ ‫وقال بعضهم ‪ :‬إ ّ‬

‫سيّد ول المولى على الطلق من غير إضافة إلّ‬ ‫الّذي سبق ذكره ‪ .‬وقال الخطّابيّ ‪ :‬ل يقال ال ّ‬ ‫في صفة اللّه تعالى ‪.‬‬

‫سيّد يجوز إطلقه على مالك العبد أو مالكته ‪ ،‬لما روي عن أبي‬ ‫ن لفظ ال ّ‬ ‫وقال بعضهم ‪ :‬إ ّ‬

‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬ل يقولنّ أحدكم ‪ :‬عبدي‬ ‫هريرة رضي ال عنه « أ ّ‬

‫وأمتي ‪ ،‬ول يقولنّ المملوك ‪ :‬ربّي وربّتي ‪ ،‬وليقل المالك ‪ :‬فتاي وفتاتي ‪ .‬وليقل المملوك ‪:‬‬

‫سيّدي وسيّدتي ‪ ،‬فإنّهم المملوكون ‪ ،‬وال ّربّ ‪ :‬اللّه تعالى » قال صاحب عون المعبود ‪ :‬كان‬

‫سيّد ‪ ،‬ويتأكّد هذا إذا‬ ‫بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ‪ ،‬ويكره أن يخاطب أحدا بلفظه أو كتابته بال ّ‬ ‫كان المخاطب غير تقيّ ‪.‬‬

‫من يستحقّ التّسويد ‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫سيّد مشتقّ من السّؤدد ‪ ،‬وهو ‪ :‬المجد والشّرف ‪،‬ويطلق على المتولّي للجماعة‪.‬‬ ‫‪ -‬لفظ ال ّ‬

‫ومن شرطه وشأنه أن يكون مهذّب النّفس شريفا ‪ .‬وعلى من قام به بعض خصال الخير من‬

‫الفضل والشّرف والعبادة والورع والحلم والعقل والنّزاهة والعفّة والكرم ونحو ذلك ‪.‬‬

‫سيّد على المنافق ‪:‬‬ ‫إطلق لفظ ال ّ‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬المنافق ليس من هذه الخصال في شيء ‪ ،‬لنّه كاذب مدلّس خائن ‪ ،‬ل توافق سريرته‬

‫سيّد‬ ‫علنيته ‪ .‬وفي العقيدة ‪ :‬يبطن الكفر ويظهر السلم ‪ .‬وقد ورد النّهي عن إطلق لفظ ال ّ‬

‫على المنافق فيما روي عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫وسلم ‪ :‬ل تقولوا للمنافق سيّد ‪ ،‬فإنّه إن يك سيّدكم فقد أسخطتم ربّكم عزّ وجلّ »‬

‫سيّد هو المستحقّ للسّؤدد ‪ ،‬أي للسباب العالية الّتي تؤهّله لذلك ‪ ،‬فأمّا المنافق فإنّه‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وذلك ل ّ‬

‫موصوف بالنّقائص ‪ ،‬فوصفه بذلك وضع له في مكان لم يضعه اللّه فيه ‪ ،‬فل يبعد أن يستحقّ‬

‫واضعه بذلك سخط اللّه ‪ .‬وقيل معناه ‪ :‬إن يك سيّدا لكم فتجب عليكم طاعته ‪ ،‬فإذا أطعتموه في‬

‫نفاق فقد أسخطتم ربّكم ‪ .‬وقال ابن الثير ‪ :‬ل تقولوا للمنافق سيّد ‪ ،‬فإنّه إن كان سيّدكم وهو‬ ‫منافق فحالكم دون حاله ‪ ،‬واللّه ل يرضى لكم ذلك ‪.‬‬

‫ثانيا‬ ‫التّسويد من السّواد‬

‫أ ‪ -‬التّسويد بالخضاب ‪:‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ خضاب الرّجل بالسّواد مكروه في غير الجهاد‬

‫في الجملة ‪ .‬وللحنفيّة والمالكيّة في ذلك تفصيل ‪:‬‬

‫قال ابن عابدين ‪ :‬يكره الخضاب بالسّواد أي لغير الحرب ‪ ،‬قال في الذّخيرة ‪ :‬أمّا الخضاب‬ ‫بالسّواد للغزو ‪ -‬ليكون أهيب في عين العدوّ ‪ -‬فهو محمود بالتّفاق ‪.‬‬

‫وإن كان ليزيّن نفسه للنّساء فمكروه ‪ ،‬وعليه عامّة المشايخ ‪ .‬وبعضهم جوّزه بل كراهة ‪.‬‬

‫روي عن أبي يوسف أنّه قال ‪ :‬كما يعجبني أن تتزيّن لي يعجبها أن أتزيّن لها ‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬الخضاب بالسّواد إذا كان للتّغرير فهو حرام ‪ .‬كمن أراد نكاح امرأة فصبغ‬

‫شعر لحيته البيض ‪ ،‬بالسّواد ‪ .‬وإن كان للجهاد حتّى يوهم العدوّ الشّباب ندب ‪.‬‬ ‫وإن كان للتّشابّ كره ‪ .‬وإن كان مطلقا فقولن ‪ :‬بالكراهة والجواز ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّ الخضاب بالسّواد حرام في الجملة ‪ ،‬ولهم في ذلك تفصيل وخلف ‪.‬‬

‫قال النّوويّ في المجموع ‪ :‬اتّفقوا على ذمّ خضاب الرّأس واللّحية بالسّواد ‪ ،‬ث ّم قال ‪ :‬قال ‪:‬‬ ‫ي في التّهذيب ‪ ،‬وآخرون من الصحاب ‪ :‬هو مكروه ‪.‬‬ ‫ي في الحياء ‪ ،‬والبغو ّ‬ ‫الغزال ّ‬ ‫وظاهر عبارتهم أنّه مكروه كراهة تنزيه ‪ ،‬والصّحيح ‪ -‬بل الصّواب ‪ -‬أنّه حرام ‪.‬‬

‫وممّن صرّح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصّلة بالنّجاسة ‪ ،‬قال ‪ :‬إلّ أن يكون في‬

‫الجهاد ‪ ،‬وقال في آخر كتاب الحكام السّلطانيّة يمنع المحتسب النّاس من خضاب الشّيب‬

‫بالسّواد إلّ المجاهد ‪ ،‬ودليل تحريمه حديث جابر رضي ال عنه قال ‪ « :‬أتي بأبي قحافة والد‬

‫صدّيق رضي ال عنهما يوم فتح مكّة ورأسه ولحيته كالثّغامة بياضا فقال رسول اللّه‬ ‫أبي بكر ال ّ‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬غيّروا هذا ‪ ،‬واجتنبوا السّواد » ‪ ،‬وعن ابن عبّاس رضي ال عنهما قال‬ ‫‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يكون قوم يخضّبون في آخر الزّمان بالسّواد‬

‫كحواصل الحمام ‪ ،‬ل يريحون رائحة الجنّة » ‪ ،‬ول فرق في المنع من الخضاب بالسّواد بين‬

‫الرّجل والمرأة ‪ ..‬هذا مذهبنا ‪ ،‬وحكي عن إسحاق بن راهويه أنّه رخّص فيه للمرأة تتزيّن به‬ ‫لزوجها ‪.‬‬

‫وقال النّوويّ في روضة الطّالبين ‪ :‬خضاب المرأة بالسّواد إن كانت خلّي ًة من الزّوج وفعلته فهو‬

‫حرام ‪ ،‬وإن كانت زوجةً وفعلته بإذنه فجائز على المذهب ‪،‬وقيل ‪ :‬وجهان كوصل الشّعر‪.‬‬

‫ن له‬ ‫وقال الرّمليّ ‪ :‬يحرم على المرأة الخضاب بالسّواد ‪ ،‬فإن أذن لها زوجها في ذلك جاز ‪ ،‬ل ّ‬ ‫غرضا في تزيّنها له ‪ ،‬كما في الرّوضة وأصلها ‪ ،‬وهو الوجه ‪.‬‬

‫هذا في خضب الرّجل والمرأة الشّعر بالسّواد ‪ ،‬أمّا خضبهما الشّعر بغير السّواد ‪ ،‬كالحمرة‬ ‫والصّفرة مثلً ‪ ،‬وخضبهما غير الشّعر كاليدين والرّجلين ففيه تفصيل يذكر في موطنه ‪.‬‬

‫وقال الحافظ في الفتح ‪ :‬إنّ من العلماء من رخّص في الختضاب بالسّواد مطلقا ‪ ،‬ومنهم من‬

‫رخّص فيه للرّجال دون النّساء ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬اختضاب ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬لبس السّواد في الحداد ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها لبس السّواد من الثّياب ‪ ...‬ول يجب‬

‫عليها ذلك ‪ ،‬بل لها أن تلبس غيره ‪.‬‬

‫واختلف فقهاء الحنفيّة في المدّة الّتي يجوز لها أن تلبس فيها السّواد ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬ل تجاوز‬

‫ن فقهاء المذهب ‪ -‬ومنهم ابن عابدين ‪ -‬حملوا ذلك على ما تصبغه الزّوجة‬ ‫ثلثة أيّام ‪ .‬ولك ّ‬

‫بالسّواد وتلبسه تأسّفا على زوجها ‪ ،‬أمّا ما كان مصبوغا بالسّواد قبل موت زوجها ‪ ،‬فيجوز لها‬ ‫أن تلبسه مدّة الحداد كلّها ‪.‬ومنع الحنفيّة لبس السّواد في الحداد على غير الزّوج‪.‬‬

‫وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ المحدّ يجوز لها أن تلبس السود ‪ ،‬إلّ إذا كانت ناصعة البياض ‪ ،‬أو كان‬

‫السود زينة قومها ‪.‬‬

‫وقال القليوبيّ من الشّافعيّة ‪ :‬إذا كان السود عادة قومها في التّزيّن به حرم لبسه ‪ ،‬ونقل‬

‫ي أنّه أورد في " الحاوي " وجها يلزمها السّواد في الحداد ‪.‬‬ ‫النّوويّ عن الماورد ّ‬

‫ج ‪ -‬لبس السّواد في التّعزية ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ تسويد الوجه حزنا على الميّت ‪ -‬من أهله أو من المعزّين ل يجوز‬

‫‪ -‬لما فيه من إظهار للجزع وعدم الرّضا بقضاء اللّه وعلى السّخط من فعله ‪ ،‬ممّا ورد النّهي‬

‫عنه في الحاديث ‪ .‬وتسويد الثّياب للتّعزية مكروه للرّجال ‪ ،‬ول بأس به للنّساء ‪ ،‬أمّا صبغ‬

‫الثّياب أسود أو أكهب تأسّفا على الميّت فل يجوز على التّفصيل السّابق ‪.‬‬

‫د ‪ -‬السّواد في اللّباس والعمامة ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫ن محمّدا ذكر في‬ ‫‪ -‬يندب لبس السّواد عند الحنفيّة ‪ ،‬قال ابن عابدين ‪ :‬ندب لبس السّواد ‪ ،‬ل ّ‬

‫السّير الكبير في باب الغنائم حديثا يدلّ على أنّ لبس السّواد مستحبّ ‪.‬‬

‫أمّا الصّبغ بالسود ‪ ،‬ولبس المصبوغ به فنقل عن أبي حنيفة ‪ :‬أنّه ل بأس به ‪.‬‬

‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يندب لمام الجمعة أن يزيد في حسن الهيئة والعمّة والرتداء ‪ ،‬وترك لبس‬

‫السّواد له أولى من لبسه ‪ ،‬إلّ إن خشي مفسدةً تترتّب على تركه من سلطان أو غيره ‪،‬‬

‫وقال ابن عبد السّلم في فتاويه ‪ :‬المواظبة على لبسه بدعة ‪ ،‬فإن منع الخطيب أن يخطب إلّ‬

‫ن « النّبيّ صلى ال عليه وسلم لبس العمامة البيضاء والعمامة السّوداء‬ ‫به فليفعل وقالوا ‪ :‬نقل أ ّ‬ ‫» ‪ ،‬ولكنّ الفضل في لونها البياض لعموم الخبر الصّحيح المر بلبس البياض ‪ ،‬وأنّه خير‬

‫اللوان في الحياة والموت ‪.‬‬

‫وقال الحنابلة ‪ :‬يباح السّواد ولو للجند ‪ ،‬لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم « دخل مكّة عام الفتح‬ ‫وعليه عمامة سوداء » ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬تسويد الوجه في التّعزير ‪:‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه ل يجوز في التّعزير تسخيم الوجه ‪ ،‬أي دهن وجه المعزّر‬

‫بالسّخام ‪ ،‬وهو السّواد الّذي يتعلّق بأسفل القدر ومحيطه من كثرة الدّخان ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز تسويد الوجه في التّعزير ‪ ،‬لنّ المام يجتهد في جنس‬

‫ما يعزّر به وفي قدره ‪ ،‬ويفعل بكلّ معزّر ما يليق به وبجنايته ‪ ،‬مع مراعاة التّرتيب‬ ‫والتّدريج ‪ ،‬فل يرقى لمرتبة وهو يرى ما دونها كافيا ‪.‬‬

‫التّعريف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫تسوية *‬

‫‪ -‬التّسوية لغةً ‪ :‬العدل والنّصفة ‪ ،‬والجور أو الظّلم ضدّ العدل ‪ ،‬واستوى القوم في المال مثلً‬

‫‪ :‬إذا لم يفضل أحد منهم غيره في المال ‪ .‬وسواء الشّيء ‪ :‬غيره ومثله ‪ -‬من الضداد ‪-‬‬

‫وتساوت المور ‪ :‬تماثلت ‪ ،‬واستوى الشّيئان وتساويا ‪ :‬تماثل ‪.‬‬ ‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬

‫القسم ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫جزّأه ‪ ،‬والقسم ‪ :‬نصيب النسان من الشّيء ويقال‬ ‫‪ -‬وهو مصدر قسم الشّيء يقسمه قسما ‪َ :‬‬

‫‪ :‬قسمت الشّيء بين الشّركاء ‪ ،‬وأعطيت كلّ شريك قسمه ‪.‬‬

‫ومنه التّقسيم والقسمة قد تكون بالتّساوي ‪ ،‬وقد تكون بالتّفاضل ‪.‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫يختلف حكم التّسوية باعتبار ما يتعلّق به على الوجه التي ‪:‬‬

‫تسوية الصّفوف في الصّلة ‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ -‬اتّفق العلماء على أنّ من السّنن المؤكّدة تسوية الصّفوف في صلة الجماعة ‪ ،‬بحيث ل‬

‫يتقدّم بعض المصلّين على البعض الخر ‪ ،‬والتّراصّ في الصّفوف ‪ ،‬بحيث ل يكون فيها فرجة‬ ‫‪ ،‬للحاديث الكثيرة الّتي وردت في الحثّ عليها ‪ :‬منها قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬سوّوا‬

‫صفّ من تَمام الصّلة » وفي رواية « فإنّ تسوية الصّفوف من إقامة‬ ‫ن تسوية ال ّ‬ ‫صفوفكم ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫الصّلة » ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أقيموا صفوفكم وتراصّوا ‪ ،‬فإنّي أراكم من وراء‬ ‫ن صفوفَكم أو ليخالفَنّ اللّه بين وجوهكم » ‪.‬‬ ‫سوّ ّ‬ ‫ظهري » وقوله صلى ال عليه وسلم ‪َ « :‬ل ُت َ‬

‫وبيان ما تتحقّق به التّسوية في الصّفوف ينظر في مصطلح ( صلة الجماعة ) ‪.‬‬

‫تسوية الظّهر في الرّكوع ‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ أكمل الرّكوع هو أن ينحني المصلّي ‪ ،‬بحيث يستوي ظهره وعنقه ‪،‬‬

‫بأن يمدّهما حتّى يصيرا كالصّحيفة الواحدة ‪ ،‬وينصب ساقيه وفخذيه إلى الحقو ‪ ،‬ول يثني‬

‫ركبتيه حتّى ل يفوت استواء الظّهر به ‪ .‬لنّ ذلك ثبت عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فعن‬

‫أبي حميد السّاعديّ رضي ال عنه قال ‪ « :‬رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا كبّر جعل‬

‫يديه حَذْوَ منكبيه ‪ ،‬وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ‪ ،‬ثمّ هصر ظهره » وفي رواية « ثمّ حنى‬ ‫غير مقنّع رأسه ول مصوّبه » وعن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى‬

‫ال عليه وسلم يفتتح الصّلة بالتّكبير إلى أن قالت ‪ :‬وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوّبه‬ ‫‪ ،‬ولكن بين ذلك » ‪ .‬وفي حديث المسيء صلته قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم له ‪ « :‬فإذا‬

‫ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ‪ ،‬وامدد ظهرك ‪ ،‬ومكّن ركوعك » ‪.‬‬

‫سنّة في الرّكوع عند عامّة العلماء ‪ :‬أن يضع راحتيه على‬ ‫قال المام البغويّ رحمه ال ‪ :‬ال ّ‬ ‫ركبتيه ‪ ،‬ويفرّج بين أصابعه ‪ ،‬ويجافي مرفقيه عن جنبيه ‪ ،‬ويسوّي ظهره وعنقه ورأسه ‪.‬‬

‫التّسوية في إعطاء الزّكاة بين الصناف الثّمانية ‪:‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ -‬اختلف العلماء في وجوب التّسوية في الزّكاة بين الصناف الثّمانية ‪ ،‬فذهب الحنفيّة‬

‫والمالكيّة والحنابلة إلى جواز القتصار على صنف واحد من الصناف الثّمانية ‪ ،‬وإلى جواز‬

‫أن يعطيها شخصا واحدا من الصّنف الواحد ‪ ،‬فل يجب على المام ‪ -‬إن كان هو الّذي يوزّع‬ ‫‪ -‬ول على المالك أن يستوعب جميع الصناف ‪ ،‬ول آحاد كلّ صنف ‪.‬‬

‫واستدلّوا لذلك بأدلّة منها ‪ « :‬قوله صلى ال عليه وسلم لمعاذ رضي ال عنه ‪ :‬أعلمهم أنّ‬

‫عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم » ففيه المر بردّ جملتها في الفقراء ‪ ،‬وهم‬

‫صنف واحد ‪ ،‬ولم يذكر سواهم ‪.‬‬

‫ثمّ أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان غير الفقراء ‪ ،‬وهم المؤلّفة قلوبهم ‪ :‬القرع بن حابس‬ ‫‪ ،‬وعيينة بن حصن ‪ ،‬وعلقمة بن علقة ‪ ،‬وزيد الخير ‪.‬‬

‫حيث قسم فيهم الذّهيبة الّتي بعث بها إليه عليّ بن أبي طالب رضي ال عنه من اليمن ‪.‬‬

‫قال ابن قدامة ‪ :‬وإنّما يؤخذ من أهل اليمن الصّدقة ‪ .‬وفي حديث سلمة بن صخر البياضيّ‬

‫رضي ال عنه « أنّه صلى ال عليه وسلم أمر له بصدقة قومه بقوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬

‫فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك » ‪.‬‬

‫لكنّهم مع ذلك يرون أنّه من الفضل في القسمة أن يقدّم الكثر حاجةً ‪ ،‬فالّذي يليه ‪.‬‬

‫فعن عمر رضي ال عنه أنّه كان إذا جمع صدقات المواشي من البقر والغنم ‪ ،‬نظر منها ما‬

‫كان منيحة اللّبن ‪ ،‬فيعطيها لهل بيت واحد على قدر ما يكفيهم ‪ ،‬وكان يعطي العشرة للبيت‬

‫الواحد ثمّ يقول ‪ :‬عطيّة تكفي خير من عطيّة ل تكفي ‪.‬‬

‫وذهب المام النّخعيّ رحمه ال إلى أنّه إن كان المال كثيرا يحتمل الصناف قسمه عليهم ‪ ،‬وإن‬

‫كان قليلً جاز وضعه في صنف واحد ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة ‪ ،‬وهو قول عكرمة إلى وجوب استيعاب الصناف الثّمانية إن كان المام أو‬

‫نائبه هو الّذي يقسم ‪ ،‬فإن فقد بعض الصناف فعلى الموجودين ‪ .‬وكذا يجب على المالك إن‬

‫تولّى بنفسه القسمة أن يستوعب الصناف السّبعة غير العامل إن انحصر المستحقّون في البلد ‪،‬‬ ‫بأن سهل عادةً ضبطهم ومعرفة عددهم ‪ .‬وإن لم ينحصروا فيجب إعطاء ثلثة فأكثر من كلّ‬

‫صنف ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى أضاف إليهم الزّكوات بلفظ الجمع ‪ ،‬وأقلّه ثلثة ‪.‬‬

‫‪ -6‬وتجب التّسوية بين الصناف الثّمانية سواء قسّم المام أو المالك ‪ ،‬وإن كانت حاجة بعضهم‬ ‫ن اللّه سبحانه وتعالى جمع بينهم بواو التّشريك ‪ ،‬فاقتضى أن يكونوا سواءً ‪ « .‬ولقوله‬ ‫أشدّ ‪،‬ل ّ‬

‫ن اللّه لم يرض بحكم نبيّ ول غيره في‬ ‫صلى ال عليه وسلم لرجل سأله من الزّكاة إ ّ‬

‫الصّدقات ‪،‬حتّى حكم هو فيها ‪،‬فجزّأها ثمانية أجزاء ‪،‬فإن كنت من تلك الجزاء أعطيتك »‬

‫‪ -7‬كما يجب على المام أن يسوّي بين آحاد الصّنف الواحد ‪ ،‬إذا كانت حاجاتهم متساويةً ‪،‬‬ ‫لنّ عليه التّعميم فتلزمه التّسوية ‪ ،‬ولنّه نائبهم فيحرم عليه التّفضيل ‪.‬‬

‫أمّا إذا اختلفت حاجاتهم فعليه أن يراعيها ‪.‬‬

‫ول يجب على المالك التّسوية بين آحاد الصّنف الواحد لعدم انضباط الحاجات الّتي من شأنها‬

‫التّفاوت ‪ ،‬لكن يسنّ له التّسوية إن تساوت حاجاتهم ‪ ،‬فإن تفاوتت استحبّ التّفاوت بقدرها ‪.‬‬

‫التّسوية بين الزّوجات في القسم ‪:‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ القسم بين الزّوجات واجب على الرّجل وإن كان مريضا أو مجبوبا‬

‫أو عنّينا ‪ ،‬لنّ من مقاصد القسم النس ‪ ،‬وهو حاصل ممّن ل يطأ ‪ .‬فقد روت عائشة رضي‬

‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم لمّا كان في مرضه جعل يدور على نسائه ‪،‬‬ ‫ال عنها « أ ّ‬

‫ويقول ‪ :‬أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ » ‪.‬‬

‫ويقسم للمريضة ‪ ،‬والحائض ‪ ،‬والنّفساء ‪ ،‬والرّتقاء ‪ ،‬والقرناء ‪ ،‬والمحرمة ‪ ،‬ومن آلى منها أو‬ ‫ن ل َتعْدِلُوا‬ ‫خ ْف ُتمْ أَ ْ‬ ‫ظاهر ‪ ،‬والشّابّة ‪ ،‬والعجوز ‪ ،‬والقديمة ‪ ،‬والحديثة ‪ .‬لقوله تعالى ‪َ { :‬فإِنْ ِ‬

‫فَوَاحِدَةً } الية ‪ .‬وروي « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يعدل بين نسائه في القسم ويقول‬ ‫ت ول أَملك » ‪.‬‬ ‫‪ :‬اللّهمّ هذا قَسْمي فيما أملك ‪ ،‬فل تؤاخذني فيما تملك أن َ‬

‫وعن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬من كان له‬

‫امرأتان ‪ ،‬فمال إلى إحداهما دون الخرى ‪ ،‬جاء يوم القيامة وشقّه مائل » ‪.‬‬

‫ويسوّي في القسم بين المسلمة والكتابيّة لما ذكرنا من الدّلئل من غير فضل ‪ ،‬ولنّهما يستويان‬ ‫في سبب وجوب القسم وهو النّكاح ‪ ،‬فيستويان في القسم ‪.‬‬

‫وتفصيل القسم بين الزّوجات في الحضر والسّفر ‪ ،‬وفي بدء القسم ‪ ،‬وما يختصّ به العروس‬ ‫عند الدّخول وغير ذلك ‪ ،‬يرجع فيه إلى مصطلح ( القسم بين الزّوجات ) ‪.‬‬

‫التّسوية بين المتخاصمين في التّقاضي ‪:‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء أنّ على القاضي العدل بين الخصمين في كلّ شيء من المجلس ‪ ،‬والخطاب ‪،‬‬

‫واللّحظ ‪ ،‬واللّفظ ‪ ،‬والشارة ‪ ،‬والقبال ‪ ،‬والدّخول عليه ‪ ،‬والنصات إليهما ‪ ،‬والستماع‬

‫منهما ‪ ،‬والقيام لهما ‪ ،‬وردّ التّحيّة عليهما ‪ ،‬وطلقة الوجه لهما ‪ ،‬للحاديث الكثيرة الّتي ثبتت‬ ‫عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم في ذلك منها ‪:‬‬

‫قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من ابتلي بالقضاء بين المسلمين ‪ ،‬فليعدل بينهم في لفظه وإشارته‬

‫ومقعده ‪ ،‬ول يرفع صوته على أحد الخصمين ما ل يرفعه على الخر » وفي رواية ‪ « :‬فَ ْل ُيسَوّ‬

‫بينهم في النّظر والمجلس والشارة » ‪.‬‬

‫س بين النّاس في‬ ‫وكتب عمر رضي ال عنه إلى أبي موسى الشعريّ رضي ال عنه" أن آ ِ‬

‫وجهك وعدلك ومجلسك ‪ ،‬حتّى ل يطمع شريف في حيفك ‪ ،‬ول ييأس ضعيف من عدلك "‪.‬‬

‫ن مخالفة ذلك يوهم الخصم الخر ميل القاضي إلى خصمه ‪ ،‬فيضعفه ذلك عن القيام بحجّته‬ ‫ول ّ‬ ‫ن في ذلك كلّه‬ ‫‪ ،‬ول يسا ّر أحدهما دون الخر ‪ ،‬ول يلقّنه حجّته ‪ ،‬ول يضحك في وجهه ‪ ،‬ل ّ‬

‫مخالفةً للمساواة المطلوبة ‪.‬‬

‫ويشمل هذا الشّريف والوضيع والب والبن ‪ ،‬والصّغير والكبير والرّجل والمرأة ‪ .‬كما اتّفقوا‬

‫على تقديم الوّل فالوّل ‪ ،‬إذا حضر القاضي خصوم وازدحموا ‪ ،‬لنّ الحقّ للسّابق ‪ ،‬فإن جهل‬

‫ل بها ‪ .‬فإن‬ ‫السبق منهم ‪ ،‬أو جاءوا معا أقرع بينهم ‪ ،‬وقدّم من خرجت قرعته ‪ ،‬إذ ل مرجّح إ ّ‬

‫حضر مسافرون ومقيمون ‪ :‬فإن كان المسافرون قليلً ‪ ،‬بحيث ل يضرّ تقديمهم على المقيمين‬ ‫قدّمهم ‪ ،‬لنّهم على جناح السّفر ‪ ،‬ولئلّ يتضرّروا بالتّخلّف ‪.‬‬

‫ن ما لم يكثر عددهنّ أيضا ‪.‬‬ ‫وكذلك النّسوة يقدّمن على الرّجال طلبا لستره ّ‬ ‫‪10‬‬

‫‪ -‬ولكنّهم اختلفوا في حكم تسوية المسلم مع خصمه الكافر ‪.‬‬

‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة ‪ :‬إلى وجوب المساواة بينهما في كلّ‬

‫المور المذكورة آنفا ‪ ،‬لنّ تفضيل المسلم على الكافر ورفعه عليه في مجلس القضاء كسر‬

‫لقلبه ‪ ،‬وترك للعدل الواجب التّطبيق بين النّاس جميعا ‪.‬‬

‫وذهب الشّافعيّة في الرّاجح عندهم ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬إلى جواز رفع المسلم على خصمه الكافر ‪ ،‬لما‬

‫روي عن عليّ رضي ال عنه من أنّه« خرج إلى السّوق ‪ ،‬فوجد درعه مع يهوديّ ‪ ،‬فعرفها‬

‫فقال ‪ :‬درعي سقطت وقت كذا فقال اليهوديّ ‪ :‬درعي وفي يدي بيني وبينك قاضي المسلمين ‪.‬‬

‫فارتفعا إلى شريح رضي ال عنه ‪ ،‬فلمّا رآه شريح قام من مجلسه ‪ ،‬وأجلسه في موضعه ‪،‬‬

‫ن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ‪،‬‬ ‫وجلس مع اليهوديّ بين يديه ‪ ،‬فقال عليّ ‪ :‬إ ّ‬

‫ولكنّي سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬ل تساووهم في المجالس » اقض بينيّ‬

‫وبينه يا شريح ‪ .‬والحديث ‪ « :‬السلم يعلو ول يعلى » ‪.‬‬

‫التّسوية بين الولد في العطيّة ‪:‬‬

‫‪11‬‬

‫‪ -‬اختلف العلماء في وجوب التّسوية بين الولد في العطيّة ‪.‬‬

‫ن التّسوية بينهم في العطايا مستحبّة ‪ ،‬وليست واجبةً ‪.‬‬ ‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أ ّ‬ ‫صدّيق رضي ال عنه فضّل عائشة رضي ال عنها على غيرها من أولده في هبة ‪،‬‬ ‫ن ال ّ‬ ‫لّ‬

‫وفضّل عمر رضي ال عنه ابنه عاصما بشيء من العطيّة على غيره من أولده ‪.‬‬

‫ن في قوله صلى ال عليه وسلم في بعض روايات حديث النّعمان بن بشير رضي ال عنهما‬ ‫ول ّ‬

‫‪ « :‬فأشهد على هذا غيري » ما يدلّ على الجواز ‪.‬‬

‫وذهب الحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف من الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول ابن المبارك ‪ ،‬وطاووس ‪ ،‬وهو رواية‬ ‫عن المام مالك رحمه ال ‪ :‬إلى وجوب التّسوية بين الولد في الهبة ‪.‬‬

‫ص بعضهم بعطيّة ‪ ،‬أو فاضل بينهم فيها أثم ‪ ،‬ووجبت عليه التّسوية بأحد أمرين ‪ :‬إمّا‬ ‫فإن خ ّ‬

‫ر ّد ما فضّل به البعض ‪ ،‬وإمّا إتمام نصيب الخر ‪ ،‬لخبر الصّحيحين عن النّعمان بن بشير‬

‫رضي ال عنهما قال ‪ « :‬وهبني أبي هبةً ‪ .‬فقالت أمّي عمرة بنت رواحة رضي ال عنها ‪ :‬ل‬

‫أرضى حتّى تشهد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فأتى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال ‪:‬‬

‫يا رسول اللّه ‪ :‬إنّ أمّ هذا أعجبها أن أشهدك على الّذي وهبت لبنها ‪ ،‬فقال صلى ال عليه‬

‫وسلم يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬كلّهم وهبت له مثل هذا ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال‬ ‫‪ :‬فأرجعه » ‪ .‬وفي رواية قال ‪ « :‬اتّقوا اللّه ‪ ،‬واعدلوا بين أولدكم » وفي رواية أخرى « ل‬

‫تشهدني على جور ‪ .‬إنّ لبنيك من الحقّ أن تعدل بينهم » وفي رواية ‪ « :‬فأشهد على هذا‬

‫غيري » ‪ .‬وروي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬سوّوا بين أولدكم في العطيّة ‪،‬‬ ‫ولو كنت مؤثرا أحدا لثرت النّساء على الرّجال » ‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ -‬واختلفوا كذلك في معنى التّسوية بين الذّكر والنثى من الولد ‪.‬‬

‫فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ معنى التّسوية بين الذّكر والنثى من الولد ‪ :‬العدل بينهم في‬

‫العطيّة بدون تفضيل ‪ ،‬لنّ الحاديث الواردة في ذلك لم تفرّق بين الذّكر والنثى ‪.‬‬

‫وذهب الحنابلة ‪ ،‬والمام محمّد بن الحسن من الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة إلى أنّ‬

‫ظ النثيين ‪ ،‬لنّ‬ ‫المشروع في عطيّة الولد القسمة بينهم على قدر ميراثهم ‪ :‬أي للذّكر مثل ح ّ‬ ‫اللّه سبحانه وتعالى قسم لهم في الرث هكذا ‪ ،‬وهو خير الحاكمين ‪ ،‬وهو العدل المطلوب بين‬ ‫الولد في الهبات والعطايا ‪.‬‬

‫وإن سوّى بين الذّكر والنثى ‪ ،‬أو فضّلها عليه ‪ ،‬أو فضّل بعض البنين أو بعض البنات على‬

‫بعض ‪ ،‬أو خصّ بعضهم بالوقف دون بعض ‪ ،‬فقال أحمد في رواية محمّد بن الحكم ‪ :‬إن كان‬ ‫على طريق الثرة فأكرهه ‪ ،‬وإن كان على أنّ بعضهم له عيال وبه حاجة يعني فل بأس به ‪.‬‬ ‫وعلى قياس قول المام أحمد ‪ :‬لو خصّ المشتغلين بالعلم من أولده بوقفه تحريضا لهم على‬

‫طلب العلم ‪ ،‬أو ذا الدّين دون الفسّاق ‪ ،‬أو المريض ‪ ،‬أو من له فضل من أجل فضيلته فل بأس‬ ‫‪.‬‬

‫التّسوية في الشّفعة بين المستحقّين ‪:‬‬

‫‪13‬‬

‫‪ -‬اختلف الفقهاء في التّسوية في الشّفعة بين المستحقّين لها ‪.‬‬

‫فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أنّهم يأخذون بالشّفعة على قدر حصصهم من الملك ‪،‬‬ ‫لنّه حقّ مستحقّ بالملك على قدره ‪ ،‬فلو كانت أرض بين ثلثة من الشّركاء مثلً ‪ :‬لواحد‬

‫نصفها ‪ ،‬ولخر ثلثها ‪ ،‬ولثالث سدسها ‪ ،‬فباع الوّل ‪ -‬وهو صاحب النّصف ‪ -‬حصّته أخذ‬ ‫الثّاني سهمين ‪ ،‬والثّالث سهما واحدا ‪.‬‬

‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة ‪ ،‬وبعض الحنابلة ‪ ،‬واختاره جمع من‬

‫المتأخّرين ‪ :‬إلى أنّ الشّركاء يقتسمون الشّقص على قدر رءوسهم ‪ ،‬وعلى هذا يقسم النّصف‬ ‫في المثال السّابق بين الشّريكين سواءً بسواء ‪ ،‬لنّ سبب الشّفعة هو أصل الشّركة ‪ ،‬وهم‬

‫مستوون فيها ‪ ،‬فيجب التّسوية بينهم في اقتسام المشفوع فيه ‪.‬‬

‫التّسوية بين النّاس في المرافق العامّة ‪:‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ المرافق العامّة ‪ -‬من الشّوارع والطّرق ‪ ،‬وأفنية الملك ‪،‬‬

‫والرّحاب بين العمران ‪ ،‬وحريم المصار ‪ ،‬ومنازل السفار ‪ ،‬ومقاعد السواق ‪ ،‬والجوامع‬

‫والمساجد ‪ ،‬والنهار الّتي أجراها اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬والعيون الّتي أنبع اللّه ماءها ‪،‬‬

‫والمعادن الظّاهرة وهي الّتي خرجت بدون عمل النّاس كالملح والماء والكبريت والكحل‬

‫ن هذه الشياء من المنافع المشتركة بين النّاس ‪ ،‬فهم فيها‬ ‫وغيرها والكل ‪ -‬اتّفقوا على أ ّ‬

‫سواسية ‪ ،‬فيجوز النتفاع بها للمرور والستراحة والجلوس والمعاملة والقراءة والدّراسة‬ ‫والشّرب والسّقاية ‪ ،‬وغير ذلك من وجوه النتفاع ‪.‬‬

‫ولكن ل يجوز اقتطاعها لحد من النّاس ‪ ،‬ول احتجازها دون المسلمين ‪ ،‬لنّ فيه ضررا‬

‫ق فيها للسّابق حتّى يرتحل عنها ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه‬ ‫بالمسلمين وتضييقا عليهم ‪ .‬ويكون الح ّ‬

‫وسلم ‪ِ « :‬منًى ُمنَاخ من سبق إليها » ‪ .‬ويشترط عدم الضرار ‪ ،‬فإذا تضرّر به النّاس لم يجز‬ ‫ذلك بأيّ حال ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم « ل ضرر ول ضرار » ‪.‬‬

‫تسوية القبر ‪:‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى استحباب رفع القبر مقدار شبر من‬

‫الرض ‪ ،‬أو أكثر منه بقليل إن لم يخش نبشه من كافر أو نحوه ‪ ،‬وذلك ليعلم أنّه قبر فيزار ‪،‬‬

‫ويترحّم على صاحبه ‪ ،‬ويحترم ‪.‬‬

‫واستدلّوا بما صحّ من أنّ قبر الرّسول صلى ال عليه وسلم رفع نحو شبر فعن جابر رضي ال‬ ‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم رفع قبره عن الرض قدر شبر » ‪.‬‬ ‫عنه « أ ّ‬

‫وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر رضي ال عنهم قال ‪ « :‬قلت لعائشة رضي ال عنها ‪ :‬يا‬

‫أمّه اكشفي لي عن قبر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وصاحبيه ‪ ،‬فكشفت لي عن ثلثة قبور‬ ‫‪ ،‬ل مشرفةً ول لطئةً مبطوحةً ببطحاء العرصة الحمراء » ‪.‬‬

‫وعن إبراهيم النّخعيّ رحمه ال أنّه قال ‪ :‬أخبرني من رأى قبر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬

‫وقبر أبي بكر وعمر رضي ال عنهما أنّها مسنّمة ‪.‬‬

‫وروي أيضا أنّ عبد اللّه بن عبّاس رضي ال عنهما لمّا مات بالطّائف ‪ ،‬صلّى عليه محمّد بن‬ ‫الحنفيّة رحمه ال ‪ ،‬وكبّر عليه أربعا ‪ ،‬وجعل له لحدا ‪ ،‬وأدخله القبر من قبل القبلة ‪ ،‬وجعل‬ ‫قبره مسنّما ‪ ،‬وضرب عليه فسطاطا ‪.‬‬

‫ن تسطيح القبر وتسويته بالرض أولى من تسنيمه ‪ ،‬لما صحّ عن‬ ‫ولكنّ الصّحيح عند الشّافعيّة أ ّ‬

‫القاسم بن محمّد من « أنّ عمّته عائشة رضي ال عنها كشفت له عن قبر رسول اللّه صلى ال‬ ‫عليه وسلم وقبر صاحبيه فإذا هي مسطّحة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء » ‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ -‬ويكره عند الجمهور ما زاد عن مقدار الشّبر زيادةً كبير ًة ‪ ،‬إن لم يكن لحاجة كخوف‬

‫نبش قبر المؤمن من نحو كافر ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم لعليّ رضي ال عنه « ل‬

‫تدع تمثالً إلّ طمسته ‪ ،‬ول قبرا مشرفا إلّ سوّيته » ‪ .‬والمشرف ما رفع كثيرا بدليل « قول‬ ‫القاسم في صفة قبر النّبيّ صلى ال عليه وسلم وصاحبيه ‪ :‬ل مشرفة ول لطئة » ‪.‬‬ ‫***************************************‬ ‫نهاية الجزء الحادي عشر ‪ /‬الموسوعة الفقهية‬

Related Documents

011
November 2019 41
011
July 2020 23
011
December 2019 51
011
May 2020 32
011
May 2020 23
011
November 2019 42

More Documents from ""

C++.docx
October 2019 86
El Gran Aviso.pdf
June 2020 39
El Proyecto.docx
October 2019 70
Corrientes Inducidas.docx
October 2019 60