أيسر التفاسير 001

  • Uploaded by: Mrw
  • 0
  • 0
  • November 2019
  • PDF

This document was uploaded by user and they confirmed that they have the permission to share it. If you are author or own the copyright of this book, please report to us by using this DMCA report form. Report DMCA


Overview

Download & View أيسر التفاسير 001 as PDF for free.

More details

  • Words: 448,536
  • Pages: 1,269
‫الكتاب ‪ :‬أيسر التفاسير لكلم العلي الكبير‬ ‫نسخة موافقة للمطبوع‬ ‫المؤلف ‪ :‬جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري‬ ‫الناشر ‪ :‬مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‬ ‫الطبعة ‪ :‬الخامسة‪1424 ،‬هـ‪2003/‬م‬ ‫مصدر الكتاب ‪ :‬موقع مكتبة المدينة الرقمية‬ ‫‪http://www.raqamiya.org‬‬ ‫[ الكتاب موافق للمطبوع ‪ ،‬ومعه حاشيته المسماة نهر الخير على أيسر‬ ‫التفاسير ]‬ ‫المجلد الول‬ ‫مقدمة‬ ‫‪...‬‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫مقدمة‬ ‫الحمد ل تعالى نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من‬ ‫يهده ال فل مضل له ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له وأشهد‬ ‫أن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة‪ .‬من يطع ال ورسوله فقد‬ ‫رشد‪ ،‬ومن يعص ال ورسوله فل يضر إل نفسه ول يضر ال شيئا‪.‬‬ ‫أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب ال وخير الهدي هدي محمد صلى ال عليه وسلم وشر المور‬ ‫محدثاتها‪ ،‬وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضللة‪.‬‬ ‫ثم أما بعد أيضا فهذا تفسير موجز لكتاب ال تعالى القرآن الكريم وضعته مراعيا فيه حاجة‬ ‫المسلمين اليوم إلى فهم كلم ال تعالى الذي هو مصدر شريعتهم‪ ،‬وسبيل هدايتهم وهو عصمتهم‬ ‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِين}‬ ‫شفَا ٌء وَرَ ْ‬ ‫من الهواء وشفاؤهم من الدواء‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬ ‫جمِيعا وَل َتفَ ّرقُوا} ‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬قدْ جَا َءكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ‬ ‫صمُوا ِبحَ ْبلِ اللّهِ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬وَاعْ َت ِ‬ ‫جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ‬ ‫ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّل ِم وَيُخْ ِر ُ‬ ‫َوكِتَابٌ مُبِينٌ َيهْدِي ِبهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬ ‫وَ َيهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ} ‪ .‬ومراعيا فيه أيضا رغبة المسلمين اليوم في دراسة كتاب ال وفهمه‬ ‫والعمل به‪ ،‬هي رغبة لم تكن لهم منذ قرون عدة حيث كان القرآن يقرأ على الموات دون الحياء‬ ‫ويُعتبر تفسيره خطيئة من الخطايا وذنبا من الذنوب‪ ،‬إذ ساد بين المسلمين القول‪ :‬بأن تفسير‬

‫جدَ لِلّهِ فَل تَدْعُو مَعَ اللّهِ أَحَدا} ‪.‬‬ ‫القرآن‪ :‬صوابه خطأ وخطأه كفر‪ ،‬فلذا القارئ يقرأ‪{ :‬وَأَنّ ا ْلمَسَا ِ‬ ‫والناس حول ضريح الولي المدفون في ناحية المسجد يدعونه بأعلى‬

‫( ‪)1/4‬‬ ‫أصواتهم‪ :‬يا سيدي يا سيدي كذا وكذا ول يجرؤ أحد أن يقول‪ :‬يا إخواننا ل تدعوا السيد فإن ال‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ‬ ‫جدَ لِلّهِ فَل تَدْعُو مَعَ اللّهِ َأحَدا} ويقرأ القارئ { َومَنْ لَمْ َي ْ‬ ‫تعالى يقول‪{ :‬وَأَنّ ا ْلمَسَا ِ‬ ‫فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ} ‪ .‬ويسمعه من يسمعه‪ ،‬ول يخطر على باله أن الية تصرح بكفر من لم‬ ‫يحكم بما أنزل ال‪ ،‬وأن أكثر المسلمين مورطون في هذا الكفر حيث تركوا تحكيم الشريعة‬ ‫السلمية إلى تحكيم القوانين الملفقة من قوانين الشرق والغرب وهكذا كان يقرأ القرآن على‬ ‫أموات الحياء وأحياء الموات فل يرى له أثر في الحياة‪.‬‬ ‫هذا ونظرا لليقظة السلمية اليوم فقد تعين وضع تفسير سهل ميسر يجمع بين المعنى المراد من‬ ‫كلم ال‪ ،‬وبين اللفظ الغريب من فهم المسلم اليوم‪ .‬نُبَين فيه العقيدة السلفية المنجية‪ .‬والحكام‬ ‫الفقهية الضرورية‪ .‬مع تربية التقوى في النفوس‪ ،‬بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل‪ ،‬والحث على‬ ‫أداء الفرائض واتقاء المحارم‪ .‬مع التجمل بالخلق القرآنية والتحلي بالداب الربانية‪ .‬وقد هممت‬ ‫بالقيام بهذا المتعين عدة مرات في ظرف سنوات‪ ،‬وكثيرا ما يطلب مني مستمعوا دروسي في‬ ‫التفسير في المسجد النبوي أن لو وضعت تفسيرا للمسلمين سهل العبارة قريب الشارة يساعد‬ ‫على فهم كلم ال تعالى‪ ،‬وكنت أعد أحيانا وأتهرب أحيانا أخرى‪ ،‬حتى ختمت التفسير ثلث‬ ‫مرات وقاربت الرابعة‪ ،‬وأنا بين الخوف والرجاء وشاء ال تعالى أن أجلس في أواخر محرم عام‬ ‫‪1406‬هـ‪ ،‬إلى فضيلة الدكتور عبد ال بن صالح العبيد رئيس الجامعة السلمية ويُلهم أن يقول‬ ‫لي‪ :‬لو أنك وضعت تفسيرا على غرار الجللين يحل محله في المعاهد ودور الحديث تلتزم فيه‬ ‫العقيدة السلفية التي خل منها تفسير الجللين فضّر كثيرا بقدر ما نفع‪ ،‬وصادف في النفس رغبتها‬ ‫فأجبته بأن سأفعل إن شاء ال تعالى‪ .‬وبهذا الوعد تعينت واستعنت بال تعالى وشرعت وفي أوائل‬ ‫رجب من العام نفسه تم تأليف المجلد الول الحاوي لثلث القرآن الكريم وفي أول رمضان كان‬ ‫المجلد الول قد طبع والحمد ل‪ ،‬وواصلت التأليف وال أسأل أن يتم في أقرب وقت‪ ،‬وأن يتقبله‬ ‫مني وهو منه وله‪ ،‬فينتفع به كل مسلم يقرأه بنية معرفة مراد ال تعالى‬

‫( ‪)1/5‬‬ ‫من كلمه ليعرف ربه تكسبه خشيته ومحبته ويعرف محابه تعالى ليتقرب بفعلها إليه‪ ,‬ويعرف‬ ‫مساخطه ليتجنبها خوفا مما لديه‪.‬‬

‫هذا وإن مميزات هذا التفسير التي بها رجوت أن يكون تفسير كل مسلم ومسلمة ل يخلو منه بيت‬ ‫من بيوت المسلمين هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬الوسطية بين الختصار المخل‪ ،‬والتطويل الممل‪.‬‬ ‫‪ -2‬اتباع منهج السلف في العقائد والسماء والصفات‪.‬‬ ‫‪ -3‬اللتزام بعدم الخروج عن المذاهب الربعة في الحكام الفقهية‪.‬‬ ‫‪ -4‬اخلؤه من السرائيليات صحيحها وسقيمها‪ .‬إل ما ل بد منه لفهم الية الكريمة وكان مما‬ ‫تجوز روايته لحديث‪" ..‬وحدثوا عن بني إسرائيل ول حرج" ‪.‬‬ ‫‪ -5‬إغفال الخلفات التفسيرية‪.‬‬ ‫‪ -6‬اللتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلف المفسرين في معنى الية‪ ،‬وقد‬ ‫ل آخذ برأيه في بعض التوجيهات للية‪.‬‬ ‫‪ -7‬إخلء الكتاب من المسائل النحوية والبلغية والشواهد العربية‪.‬‬ ‫‪ -8‬عدم التعرض للقراءات إل نادرا جدا للضرورة حيث يتوقف معنى الية على ذلك وبالنسبة‬ ‫للحاديث فقد اقتصرت على الصحيح والحسن منها دون غيرهما‪ ،‬ولذا لم أعزها إلى مصادرها‬ ‫إل نادرا‪.‬‬ ‫‪ -9‬خلو هذا التفسير من ذكر القوال وإن كثرت واللتزام بالمعنى الراجح والذي عليه جمهور‬ ‫المفسرين من السلف الصالح‪ .‬حتى إن القارئ ل يفهم أن هناك معنىً غير الذي فهم من كلم ربه‬ ‫تعالى‪ ،‬وهذه ميزة جليلة وذلك لحاجة جميع المسلمين على فكر إسلمي موحد صائب سليم‪.‬‬ ‫‪ -10‬التزمت في هذا التفسير بالخطة التي مثلتها هذه المميزات رجاء أن يسهل على المسلمين‬ ‫ل ل هم لهم إل مرضاة ال بفهم كلمه والعمل به‪ ،‬والحياة‬ ‫تناول كتاب ال دراسة وتطبيقا وعم ً‬ ‫عليه عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وقضاء وحكما‪ ،‬فلذا أخليته من كل ما من شأنه أن يشتت الذهن‪،‬‬ ‫أو يصرف عن العمل إلى القول والجدل‪.‬‬

‫( ‪)1/6‬‬ ‫ولذا فقد جعلت الكتاب دروسا منظمة متسقة فقد أجعل الية الواحدة درسا فأشرح كلماتها‪ ،‬ثم أبين‬ ‫معناها‪ ،‬ثم أذكر هدايتها المقصودة منها للعتقاد والعمل‪.‬‬ ‫وقد أجعل اليتين درسا‪ ،‬والثلث آيات والربع والخمس ول أزيد على الخمس إل نادرا‪ ،‬وذلك‬ ‫طلبا لوحدة الموضوع وارتباط المعنى به‪.‬‬ ‫وقد جعلت اليات مشكولة على قراءة حفص وبخط المصحف وإني أطالب المسلم أن يقرأ أولً‬ ‫اليات حتى يحفظها‪ ،‬فإذا حفظها درس كلماتها حتى يفهمها‪ ،‬ثم يدرس معناها حتى يعيه‪ ،‬ثم يقرأ‬ ‫هدايتها للعمل بها‪ .‬فيجمع بين حفظ كتاب ال تعالى وفهمه والعمل به‪ ،‬وبذلك يسود ويكمل ويسعد‬

‫إن شاء ال تعالى‪ .‬وقد جاء في الحديث ‪" 1‬أن ال تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما‪ ،‬ويضع آخرين"‬ ‫فمن قراه بحسن نية فحفظه وفهمه وعمل به وعلمه فقد يدعى في السماء عظيما‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫الصحيح‪" :‬خيركم من تعلم القرآن وعلمه"‪ .‬اللهم اجعلني وسائر المؤمنين ممن يفوزون بهذه‬ ‫الخيرية فيتعلمون كتابك ويعملون به ويعلمونه يا حيّ يا قيوم‪.‬‬ ‫وأخيرا أطالب كل مؤمن ومؤمنة يقرأ تفسيري هذا المسمى‪ :‬بأيسر التفاسير لكلم ال العلي الكبير‬ ‫أن يستغفر لي ويترحم عليّ هذا حقي عليه اللهم وفقه لدائه واغفر لي وله وارحمني وإياه وسائر‬ ‫المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات‪.‬‬ ‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين وصلى ال وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه‬ ‫أجمعين‪.‬‬ ‫وكتبه الراجي عفو ربه ورضوانه‬ ‫أبو بكر الجزائري‬ ‫المدينة المنورة ‪ 17‬رمضان ‪1406‬هـ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫[تنبيه]‬ ‫مراجع هذا التفسير أربعة وهي‪ :‬جامع البيان في تفسير القرآن لبن جرير الطبري‪ ،‬تفسير‬ ‫الجللين المحلى والسيوطي‪ ،‬تفسير المراغي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن لعبد الرحمن بن ناصر‬ ‫السعدي رحمهم ال أجمعين وجمعنا معهم في جنات النعيم‪.‬‬

‫( ‪)1/7‬‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬ ‫الحمد ل ذي الفضل والنعام‪ ،‬والصلة والسلم على محمد خير النام‪ ،‬وآله الماجد وصحبه‬ ‫الكرام‪ ،‬وبعد‪ :‬فإنه نظرا إلى حاجة طلبة العلم إلى المزيد من المعرفة وكان "أيسر التفاسير"قد‬ ‫ُوضِعَ وضعا خاصا‪ ،‬إذ الباعث عليه كان تقريب معاني كتاب ال تعالى إلى أفهام عامة المسلمين‪،‬‬ ‫وتجلية الحكام الشرعية لهم ليعبدوا ربهم باعتقاد الحق‪ ،‬وبالعمل بما شرُع دون ما ابتُدع مُزكّين‬ ‫نفوسهم بذلك مكملين آدابهم مهذبين أخلقهم بما أودع ال جل جلله كتابه من مناهج التربية‬ ‫الروحية والخلقية والداب النفسية‪ ،‬وهو ما صرحت به أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها‪ ،‬وقد‬ ‫سئلت عن خلق النبي صلى ال عليه وسلم فقالت‪ " :‬كان خلقه القرآن"‪ .‬إذ لم يقل ال تعالى –فيما‬ ‫شيْءٍ} إل في القرآن الكريم‪ ،‬ومرة أخرى أقول‪ :‬إنه نظرا‬ ‫علمنا‪ -‬في كتاب من كتبه {تِبْيَانا ِل ُكلّ َ‬

‫إلى حاجة طلبة العلم إلى المزيد من المعرفة وضعت هذه الحاشية التي هي أشبهُ بتعليق على‬ ‫"أيسر التفاسير" وأسميتها (نهر الخير) أودعت فيها مع مراعاة الختصار بعض ما يرغب طالب‬ ‫العلم في معرفته والحصول عليه من شاهد لغة‪ ،‬أو بيان‪ ،‬أو أثر جميل‪ ،‬أو مستند حديث جليل‪ ،‬أو‬ ‫كشف عن وجه لية ذات وجوه‪ ،‬أو الوقوف على سر من أسرار القرآن أو عجيبة من عجائب‬ ‫القرآن‪ ،‬التي ل تنقضي بمرور الزمان‪ ،‬ول تنتهي بتعاقب الملوان‪ .‬وأهم من ذلك تصويب رأي‪،‬‬ ‫أو تصحيح خطأ وقعا في التفسير‪ ،‬مع إزالة إبهام‪ ،‬أو إضافة بعض الحكام‪.‬‬ ‫وال تعالى أسأل أن يكون عملي فيه صالحا‪ ،‬ولوجهه خالصا‪ ،‬وأن ينفع بنهر الخير كما نفع بأيسر‬ ‫التفاسير إنه بر رحيم وعلى كل شيء قدير‪.‬‬ ‫أبو بكر الجزائري‬

‫( ‪)1/8‬‬ ‫سورة الفاتحة‬ ‫‪...‬‬ ‫الجزء الول‬ ‫سورة الفاتحة‬ ‫وهي مكية وآياتها ‪ 1‬سبع‬ ‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪ )3‬مَاِلكِ َيوْمِ الدّينِ (‬ ‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪ )2‬الرّ ْ‬ ‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪ )1‬ا ْل َ‬ ‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬ ‫{بِ ْ‬ ‫‪ )4‬إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ (‪ )5‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ (‪ )6‬صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ غَيْرِ‬ ‫ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ (‪})7‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫التفسير ‪ :2‬لغة الشرح والبيان‪ .‬واصطلحا‪ :‬شرح كلم ال ليُفهم مُرادُه تعالى منه فيطاع في أمره‬ ‫ونهيه‪ ،‬ويؤخذ بهدايته وإرشاده‪ .‬ويُعتبر بقصصه‪ ،‬ويتعظ بمواعظه‪.‬‬ ‫السورة‪ :‬السورة ‪ 3‬قطعة من كتاب ال تشتمل على ثلث آيات فأكثر‪ .‬وسور القرآن الكريم مائة‬ ‫وأربع عشرة سورة أطولها "البقرة"‪ 4‬وأقصرها "الكوثر"‪.‬‬ ‫الفاتحة‪ :‬فاتحة لكل شيء بدايته‪ .‬وفاتحة القرآن الكريم الحمد ل رب العالمين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية‪ :‬في اللغة العلمة‪ .‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫توهمت آيات لها فعرفتها ‪ ...‬لستة أعوام وإذا العام سابع‬ ‫‪ 2‬مصدر فسر تفسيرا أو فعله المجرد فسر كنصر فسرا إذا أبان الكلم وكشف معناه‪.‬‬ ‫‪ 3‬لفظ السورة مشتق إما من سور البلد لرتفاعها وعلو شأنها أو من سور الشراب وهي البقية إذ‬

‫هي بقية من كتاب ال تعالى أي قطعة منه‪ .‬وكونها مشتقة من الرفعة وعلو الشأن أولى‪ ،‬ويشهد‬ ‫لذلك قول الشاعر‪:‬‬ ‫ألم تر أن ال أعطاك سورة ‪ ...‬ترى كل ملك دونها يتذبذب‬ ‫‪ 4‬أطول آية في القرآن‪ ،‬آية الدّين في آخر البقرة‪ ،‬وأقصر آية فيه {مدهامتان} ‪ ،‬من سورة‬ ‫الرحمن‪.‬‬

‫( ‪)1/9‬‬ ‫ولذا سميت الفاتحة‪ .‬ولها أسماء ‪ 1‬كثيرة منها أم القرآن‪ .‬والسبع ‪ 2‬المثاني‪ .‬وأم الكتاب ‪،3‬‬ ‫والصلة ‪. -‬‬ ‫مكية‪ :‬المكي من السور‪ :‬ما نزل بمكة‪ ،‬والمدني منه ما نزل بالمدينة‪ .‬والسور المكية غالبها يدور‬ ‫على بيان العقيدة وتقريرها والحتجاج بها وضرب المثل لبيانها وتثبيتها‪ .‬وأعظم أركان العقيدة‪:‬‬ ‫توحيد ال تعالى في عبادته‪ ،‬وإثبات نبوة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتقرير مبدأ المعاد‬ ‫والدار الخرة‪ .‬والسور المدنية يكثر فيها التشريع وبيان الحكام من حلل وحرام‪.‬‬ ‫اليات‪ :‬جمع آية وهي لغةً‪ :‬العلمة‪ .‬وفي القرآن‪ :‬جملة من كلم ال تعالى تحمل الهدي للناس‬ ‫بدللتها على وجود ال تعالى وقدرته وعلمه‪ ،‬وعلى نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ورسالته‪.‬‬ ‫وآيات القرآن الكريم ست آلف ومائتا آية وزيادة ‪ .4‬وآيات الفاتحة سبع ‪ 5‬بدون البسملة‪.‬‬ ‫الستعاذة ‪6‬‬ ‫أعوذ بال من الشيطان الرجيم‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الستعاذة‪ :‬قول العبد‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم‬ ‫أعوذ‪ :‬أستجير وأتحصن‬ ‫بال‪ :‬برب كل شيء والقادر على كل شيء والعليم بكل شيء وإله الولين والخرين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بلغ بها صاحب التقان‪ ،‬نَيفا وعشرين اسما‪ ،‬ولم يرد في السنة من ذلك سوى أربع‪ :‬فاتحة‬ ‫الكتاب‪ ،‬وأم القرآن‪ ،‬والسبع المثاني‪ ،‬وأم الكتاب‪.‬‬ ‫‪ 2‬سميت بالسبع المثاني لنها تثنى أي تكرر في كل ركعة من الصلة‪.‬‬ ‫‪ 3‬سميت بأم الكتاب لشتمالها على أصول ما جاء في القرآن من العقائد والعبادات والشرائع‬ ‫والقصص‪.‬‬ ‫‪ 4‬الزيادة تتراوح ما بين أربع آيات إلى أربعين آية على خلف بين القراء‪.‬‬ ‫‪ 5‬وقيل البسملة هي الية السابعة‪ .‬وإليه ذهب الشافعي فأوجب قراءتها في الصلة وعلى القول‬

‫الراجح بأن البسملة آية‪ ،‬فالية السابعة هي‪{ :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ} ويكون {صِرَاطَ‬ ‫الّذِينَ أَ ْن َعمْتَ عَلَ ْيهِمْ} الية السادسة‪.‬‬ ‫‪ 6‬العياذ بال تعالى للستجارة بال من المكروه‪ ،‬واللياذ بال تعالى يكون لطلب المحبوب‪ ،‬يشهد‬ ‫لهذا قول الشاعر‪:‬‬ ‫يا من ألوذ به فيما أؤمله ‪ ...‬ومن أعوذ به ممن أحاذره‬ ‫ل يجبر الناس عظما أنت كاسره ‪ ...‬ول يهيضون عظما أنت جابره‬ ‫ لقول النبي صلى ال عليه وسلم عن ربه‪" :‬قسمت الصلة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما‬‫سأل فإذا قال الحمد ل رب العالمين قال ال حمدني عبدي‪ "...‬الحديث رواه النسائي وغيره‪.‬‬

‫( ‪)1/10‬‬ ‫الشيطان‪ :‬إبليس لعنه ال‬ ‫الرجيم‪ :‬المرجوم المبعد المطرود من كل رحمة وخير‪.‬‬ ‫معنى الستعاذة ‪ :‬أستجير وأتحصن بال ربي من الشيطان الرجيم أن يلبس علّي قراءتي‪ .‬أو‬ ‫يضلني فأهلك وأشقى‪.‬‬ ‫حكم الستعاذة‪ :‬يسن ‪ 1‬لكل من يريد قراءة شيء من القرآن سورة فأكثر أن يقول أعوذ بال من‬ ‫الشيطان الرجيم ثم يقرأ‪ .‬كما يستحب لمن غضب‪ ،‬أو خطر بباله خاطر سوء أن يستعيذ كذلك‪.‬‬ ‫البسملة‬ ‫حمَنِ الرّحِيم(‪})1‬‬ ‫{ ِبسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬ ‫البسملة ‪ :‬قول العبد‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫سمّى يعرف به ويتميز عن غيره‪.‬‬ ‫السم‪ :‬لفظ جُعل علمة على مُ َ‬ ‫ال ‪ :2‬اسم علم على ذات الرب تبارك وتعالى يُعرف به‪.‬‬ ‫حمَنِ ‪ :3‬اسم من أسماء ال تعالى مشتق من الرحمة دال على كثرتها فيه تعالى‪.‬‬ ‫الرّ ْ‬ ‫الرّحِيمِ‪ :‬اسم وصفة ل تعالى مشتق من الرحمة ومعناه ذو الرحمة بعباده المفيضة عليهم في الدنيا‬ ‫والخرة‪.‬‬ ‫معنى البسملة‪ :‬ابتدئ ‪ 4‬قراءتي متبركا باسم ال الرحمن الرحيم مستعينا به عز وجل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقول ال تعالى‪{ :‬فَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ} من سورة النحل‪.‬‬ ‫‪ 2‬اسم لم يُسم به غير ال تعالى‪ ،‬وهل هو جامد أو مشتق من ألِهَ يأله إلهة‪ ،‬وألوهة إذا عبد‪ ،‬فالله‬ ‫بمعنى المألوه أي‪ :‬المعبود‪ ،‬فلفظ إله اسم جنس يطلق على كل معبود بباطل كسائر اللهة أو بحق‬ ‫كال جل جلله‪.‬‬

‫‪ 3‬روى أن عيسى عليه السلم قال‪ :‬الرحمن رحمان الدنيا والخرة‪ ،‬والرحيم رحيم الخرة وأعم‬ ‫منه قول النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬رحمان الدنيا والخرة ورحيمهما" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬يقدر متعلق الجار والمجرور بحسب المقام‪ ،‬فالقارئ يقول‪ :‬ابتدئ قراءتي‪ ،‬والكاتب يقول‪ :‬أبتدئ‬ ‫كتابتي‪ ،‬والكل يقول‪ :‬أبتدئ أكلي وهكذا‪.‬‬

‫( ‪)1/11‬‬ ‫حكم البسملة‪:‬‬ ‫مشروع للعبد مطلوب منه أن يُبسمل عند قراءة كل سورة من كتاب ال تعالى إل عند قراءة‬ ‫سورة التوبة فإنه لييسمل وإن كان في الصلة المفروضة يبسمل سرا إن كانت الصلة جهرية‪.‬‬ ‫ويسن للعبد أن يقول باسم ال ‪ .1‬عند الكل والشرب‪ ،‬ولبس الثوب‪ ،‬وعند دخول المسجد‬ ‫والخروج منه‪ ،‬وعند الركوب‪ ،‬وعند كل أمر ‪ 2‬ذي بال‪.‬‬ ‫كما يجب عليه أن يقول بسم ال وال أكبر عند الذبح والنحر‪.‬‬ ‫حمْدُ‪ 3‬لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪})2‬‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حمْدُ} ‪ :‬الوصف بالجميل‪ ،‬والثناء به على المحمود ذي الفضائل والفواضل‪ ،‬كالمدح ‪ ،4‬والشكر‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫‪.5‬‬ ‫{لِلّهِ}‪ :‬اللم حرف جر ومعناها الستحقاق أي‪ :‬أن ال مستحق لجميع المحامد وال علم على ذات‬ ‫الرب تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫الرب‪ :‬السيد المالك المصلح المعبود ‪ 6‬بحق جل جلله‪.‬‬ ‫{ا ْلعَاَلمِينَ}‪ :‬جمع عالم وهو كل ما سوى ال تعالى‪،‬كعالم الملئكة‪ ،‬وعالم الجن‪ ،‬وعالم النس‪،‬‬ ‫وعالم الحيوان‪ ،‬وعالم النبات‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث‪" :‬سم ال وكل بيمينك" وهو في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 2‬لحديث‪" :‬كل أمر ذي بال ل يبدأ فيه ببسم ال فهو أبتر" والحديث وإن كان ضعيفا فإن العمل به‬ ‫لما في معناه من أحاديث صحاح‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحمد ل أعظم سورة في القرآن لحديث البخاري عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم قال له‪" :‬لعلمنك أعظم سورة في القرآن‪ ،‬وقوله له ما أنزل في التوراة ول في‬ ‫النجيل ول في القرآن مثلها" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬هناك فرق بين المدح والحمد‪ ،‬فالحمد يكون على الجميل الختياري كما يحمد ال تعالى على‬ ‫لطفه ورحمته وإحسانه‪ .‬وأما المدح فإنه يكون على الختياري والضطراري كما يمدح النسان‬

‫على جمال وجهه وهو ليس فعله وعلى إحسانه الذي هو عمله الختياري والثناء المدح وتكراره‬ ‫مرة بعد مرة‪.‬‬ ‫‪ 5‬الشكر‪ :‬الثناء باللسان على المنعم بما أولى من النعم‪ ،‬فهو أخص ممن الحمد موردا إذ مورده‬ ‫النعمة فقط وأعمّ متعلقا إذ متعلقه القلب واللسان والجوارح‪ ،‬لقول القائل‪:‬‬ ‫أفادتك النعماء مني ثلثة ‪ ...‬يدي ولساني والضمير المحجبا‬ ‫والحمد يعم المدح والشكر لحديث‪" :‬الحمد رأس الشكر"‪.‬‬ ‫‪ 6‬مما شهد لطلق لفظ الرب على المعبود قول الشاعر‪:‬‬ ‫أرب يبول الثعلبان برأسه ‪...‬‬ ‫لقد هان من بالت عليه الثعالب‬

‫( ‪)1/12‬‬ ‫معنى الية‪ :‬يخبر تعالى أن جميع أنواع المحامد من صفات الجلل والكمال هي له وحده دون من‬ ‫سواه؛ إذ هو رب كل شيء وخالقه ومالكه‪.‬‬ ‫وأن علينا ‪ 1‬أن نحمده ونثني عليه بذلك‪.‬‬ ‫حمَنِ الرّحِيم(‪})3‬‬ ‫{الرّ ْ‬ ‫تقدم شرح هاتين الكلمتين في البسملة‪ .‬وأنهما اسمان وصف بهما اسم الجللة "ال" في قوله‪:‬‬ ‫حمَنِ الرّحِيمِ} ثناء على ال تعالى لستحقاقه الحمد كله‪.‬‬ ‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ الرّ ْ‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫{مَاِلكِ‪َ 2‬يوْمِ الدّينِ(‪})4‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مَاِلكِ}‪ :‬المالك‪ :‬صاحب الملك المتصرف كيف يشاء‪.‬‬ ‫{ملك}‪ :‬الملك ذو السلطان المر الناهي المعطي المانع بل ممانع ول منازع‪.‬‬ ‫{ َيوْمِ الدّينِ}‪ :‬يوم الجزاء ‪ 3‬وهو يوم القيامة حيث يجزي ال كل نفس ما كسبت‪.‬‬ ‫معنى الية‪ :‬تمجيد ل تعالى بأنه المالك لكل ما في يوم القيامة حيث ل تملك نفس لنفس شيئا‬ ‫والملك الذي ل مَِلكَ يوم القيامة سواه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لن اللفظ خبر ومعناه النشاء أي قولوا‪ :‬الحمد ل‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ حفص {مالك} باسم الفاعل‪ ،‬وقرأ نافع {ملك} بدون ألف وهما قراءتان سبعيتان‪ ،‬وال حقا‬ ‫هو الملك المالك‪.‬‬ ‫‪ 3‬صح تفسير {يوم الدين} بيوم الحساب عن السلف من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫ولما كان الحساب غايته الجزاء صح إطلق لفظ الجزاء على يوم الدين‪ ،‬إذ يقال‪ :‬دانه يدينه بكذا‬

‫دنيا ودينا‪ ،‬إذا حاسبه وجزاه‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬الكيس من دان نفسه أي‪ :‬حاسبها‪ ،‬وعمل لما بعد‬ ‫الموت‪ ،‬والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على ال الماني" ‪ .‬رواه أحمد والترمذي وغيرهما‬ ‫وهو صحيح‪.‬‬

‫( ‪)1/13‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫في هذه اليات الثلث من الهداية ما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن ال تعالى يحب ‪ 1‬الحمد‪ ،‬فلذا حمد تعالى نفسه وأمر عباده به‪.‬‬ ‫‪ -2‬أن المدح يكون لمقتضٍ‪ .‬وإل فهو باطل وزور‪ ،‬فال تعالى لما حمد نفسه ذكر مقتضى الحمد‬ ‫وهو كونه رب العالمين والرحمن الرحيم ومالك يوم الدين‪.‬‬ ‫{إِيّاكَ‪َ 2‬نعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ(‪})5‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{إِيّاكَ}‪ :‬ضمير نصب يخاطب به الواحد‪.‬‬ ‫{ َنعْ ُبدُ‪ :}3‬نطيع مع غاية الذل لك والتعظيم والحب‪.‬‬ ‫{ َنسْ َتعِينُ } ‪ :‬نطلب عونك لنا على طاعتك ‪.4‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫علّمنا ال تعالى كيف نتوسل إليه في قبول دعائنا فقال‪ :‬احمدوا ال واثنوا عليه ومجدوه‪ ،‬والتزموا‬ ‫له بأن تعبدوه وحده ول تشركوا به وتستعينوه ول تستعينوا بغيره‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية هذه الية ما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬آداب الدعاء ‪ 5‬حيث يقدم السائل بين يدي دعائه حمد ال والثناء عليه وتمجيده‪ .‬وزادت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ما من أحد أحب إليه الحمد من ال تعالى حتى إنه حمد‬ ‫نفسه"‪ .‬ولفظ البخاري‪" .‬ل أحد أغير من ال‪ ،‬ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ول‬ ‫شيء أحب إليه المدح من ال‪ ،‬ولذلك مدح نفسه" وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ما أنعم ال على‬ ‫عبده بنعمة فقال‪ :‬الحمد ل إل كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" ‪ .‬رواه الببيهقي عن أنس بسند‬ ‫حسن‪.‬‬ ‫‪ 2‬العدول عن نعبدك ونستعينك إلى {إياك نعبد وإياك نستعين} لفادة الختصاص والحصر‪ ،‬وفي‬ ‫{إياك نعبد وإياك نستعين} نكتة بلغية وهي‪ :‬اللتفات من الغيبة إلى الخطاب وهي من المحسنات‬ ‫البديعية‪.‬‬

‫‪{ 3‬نعبد} مضارع عبده إذا أطاعه متذللً له خوفا منه وطمعا فيما عنده فأحبه لذلك غاية الحب‬ ‫وعظمه غاية التعظيم وهكذا تكون عبادة المؤمن لربه تعالى‪.‬‬ ‫‪ 4‬وعلى كل ما يهم العبد من أمور دينه ودنياه‪.‬‬ ‫‪ 5‬روى أبو داود والترمذي‪ ،‬والنسائي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سمع رجلً يدعو في‬ ‫صلته فلم يصلي على النبي صلى ال عليه وسلم فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬عجل هذا‪ ،‬ثم‬ ‫دعاه فقال له أو لغيره‪ :‬إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ال والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم ثم ليدع بعد مما شاء" ‪.‬‬

‫( ‪)1/14‬‬ ‫السنة الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم يسأل حاجته فإنه يستجاب ‪ 1‬له‪.‬‬ ‫‪ -2‬أن ل يعبد غير ربه‪ .‬وأن ل يستعينه إل هو سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫{ا ْهدِنَا ‪ 2‬الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ(‪})6‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْهدِنَا}‪ :‬أرشدنا وأدم هدايتنا‪.‬‬ ‫{ الصّرَاطَ}‪ :‬الطريق الموصل إلى رضاك وجنتك وهو السلم لك‪.‬‬ ‫{ا ْلمُسْ َتقِيمَ}‪ :‬الذي ل ميل فيه عن الحق ول زيغ عن الهدى‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫بتعليم من ال تعالى يقول العبد في جملة إخوانه المؤمنين سائلً ربه بعد أن توسل إليه بحمده‬ ‫والثناء عليه وتمجيده‪ ،‬ومعاهدته أن ل يعبد هو وإخوانه المؤمنون إل هو‪ ،‬وأن ل يستعينوا إل به‪.‬‬ ‫يسألونه أن يُديم هدايتهم ‪ 3‬للسلم حتى ل ينقطعوا عنه‪.‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫الترغيب في دعاء ال والتضرع إليه‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬الدعاء ‪ 4‬هو العبادة" ‪.‬‬ ‫{صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ(‪})6‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الصّرَاطَ}‪ :‬تقدم بيانه‪.‬‬ ‫علَ ْيهِمْ}‪ :‬هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ‪ ،5‬وكل من أنعم ال‬ ‫{الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أحمد عن أبي سعيد رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ما من مسلم يدعو‬ ‫ال عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ول قطيعة رحم إل أعطاه ال بها إحدى ثلث خصال‪ :‬إما أن‬ ‫يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الخرة‪ ،‬وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها‪ ،‬قالوا‪ :‬إذا‬

‫نكثر‪ ،‬قال‪ :‬ال أكثر‪".‬‬ ‫‪ 2‬فعل الهداية يتعدى بنفسه وبحرف الجر فمن الول قوله تعالى‪{ :‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ} ‪ ،‬ومن‬ ‫الثاني‪ ،‬قوله تعالى‪{ :‬مِنْ دُونِ اللّهِ فَاهْدُو ُهمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلجَحِيمِ} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الهداية نوعان‪ :‬هداية بيان وإرشاد‪ ،‬وهذه تطلب من ذوي العلم‪ ،‬فهم يبينون للسائل طرق الخير‬ ‫ويرشدونه إليها‪ .‬هداية توفيق إلى اعتقاد الحق ولزمه في العتقاد والقول والعمل‪ ،‬وهذه ل تطلب‬ ‫إل من ال تعالى‪ ،‬ومنها هذه الدعوة‪ :‬اهدنا الصراط المستقيم‪ ،‬ويشهد للهداية الولى‪ ،‬وهي هداية‬ ‫البيان قوله تعالى‪{ :‬وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ} ‪ .‬ويشهد للثانية قوله تعالى‪{ :‬إِ ّنكَ ل َتهْدِي مَنْ‬ ‫أَحْبَ ْبتَ} ‪ .‬فأثبت لنبيه هداية البيان ونفي عنه هداية التوفيق وهي الهداية القلبية الباطنة‪.‬‬ ‫‪ 4‬رواه أصحاب السنن‪ ،‬وصححه الترمذي عن النعمان بن بشير رضي ال عنه‪.‬‬ ‫‪ 5‬ورد هذا البيان في قوله تعالى من سورة النساء { َومَنْ يُطِعِ اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ‬ ‫حسُنَ أُولَ ِئكَ َرفِيقا} ‪.‬‬ ‫ن وَ َ‬ ‫شهَدَا ِء وَالصّالِحِي َ‬ ‫ن وَال ّ‬ ‫ن وَالصّدّيقِي َ‬ ‫علَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّي َ‬ ‫اللّهُ َ‬

‫( ‪)1/15‬‬ ‫عليهم باليمان به تعالى ومعرفته‪ ،‬ومعرفة محابه‪ ،‬ومساخطه‪ ،‬والتوفيق لفعل المحاب وترك‬ ‫المكاره‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫لما سأل المؤمن له ولخوانه الهداية إلى الصراط المستقيم‪ ،‬وكان الصراط مجملً بينه بقوله‪:‬‬ ‫{صِرَاطَ الّذِينَ أَ ْن َع ْمتَ عَلَ ْيهِمْ} ‪ ،‬وهو المنهج القويم المفضي بالعبد إلى رضوان ال تعالى والجنة‪،‬‬ ‫وهو السلم القائم على اليمان والعمل مع اجتناب الشرك ‪ 1‬والمعاصي‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية بما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬العتراف بالنعمة‪.‬‬ ‫‪ -2‬طلب حسن القدوة‪.‬‬ ‫{غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْي ِه ْم وَل الضّالّينَ(‪})7‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{غَيْرِ}‪ :‬لفظ يستثنى ‪ 2‬به كإلّ‪.‬‬ ‫ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِمْ‪ :‬من غضب ال تعالى عليهم لكفرهم وافسادهم في الرض؛ كاليهود‪.‬‬ ‫الضّالّينَ ‪ :‬من أخطأوا طريق الحق فعبدوا ‪ 3‬ال بما لم يشرعه؛ كالنصارى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الشرك‪ :‬عبادة غير ال مع ال تعالى‪ ،‬أو اعتقاد ربوبية أو ألهية كائن من كان مع ال تعالى ولو‬

‫لم يعبده إشراك المخلوق في صفات الخالق الذاتية أو الفعلية‪.‬‬ ‫‪ 2‬لفظ غير مفرد مضاف دائما لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ وأصله الوصف ويستنثى به‪.‬‬ ‫‪ 3‬الضلل ‪ :‬النحراف والبعد عن الهدي المطلوب وهو في الشرع نوعان‪ :‬ضلل في العتقاد‪،‬‬ ‫ل أو بعضا للمعتقد السلمي‬ ‫وضلل في العمل‪ .‬فالضلل في العتقاد‪ :‬هو كل اعتقاد مخالف ك ً‬ ‫الذي بينه ال تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬والضلل في العمل‪:‬‬ ‫هو عبادة ال تعالى بغير ما شرع والتقرب إليه عز وجل بما لم يشرعه قربة‪ ،‬ول ينجو من هذا‬ ‫الضلل إل من تمسك بكتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/16‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫لما سأل المؤمن ربّه الصراط المستقيم‪ ،‬وبينه بأنه صراط من أنعم عليهم بنعمة اليمان ‪ 1‬والعلم‬ ‫والعمل‪ .‬ومبالغة في طلب الهداية إلى الحق‪ ،‬وخوفا من الغواية استثنى كلً من طريق المغضوب‬ ‫عليهم‪ ،‬والضالين‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫الترغيب في سلوك سبيل الصالحين‪ ،‬والترهيب من سلوك سبيل الغاوين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫[تنبيه أول]‪ :‬كلمة‪ :‬آمين ليست من الفاتحة‪ .‬ويستحب أن يقولها المام إذا قرأ الفاتحة يمد بها‬ ‫صوته ويقولها المأموم‪ ،‬والمنفرد كذلك لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬إذا أمن المام فأمنوا"‬ ‫‪ .‬أي‪ :‬قولوا آمين بمعنى‪ :‬ال استجب دعاءنا‪ ،‬ويستحب الجهر بها؛ لحديث ابن ماجة‪ :‬كان النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم إذا قال‪{ ": :‬غَيْرِ ا ْل َم ْغضُوبِ عَلَ ْيهِ ْم وَل الضّالّينَ} ‪ .‬قال آمين حتى يسمعها‬ ‫أهل الصف الول فيرتج بها المسجد"‪.‬‬ ‫[تنبيه ثان]‪ :‬قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلة‪ ،‬أما المنفرد والمام فل خلف في‬ ‫ذلك‪ ،‬وأما المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءتها في السرية دون الجهرية‬ ‫لحديث‪" :‬من كان له إمام فقراءة ‪ 2‬المام له قراءة" ‪ ،‬ويكون مخصصا لعموم حديث‪" :‬ل صلة‬ ‫لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ النعمة اسم جنس تحته أربعة أنواع‪ :‬الولى‪:‬نعمة اليمان بال وبما أوجب اليمان به‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬نعمة معرفة ال تعالى بأسمائه وصفاته‪ .‬والثالثة‪ :‬نعمة معرفة محابه ومكارهه‪ .‬والرابعة‪:‬‬ ‫نعمة التوفيق لفعل المحاب وترك المكاره‪.‬‬

‫‪ 2‬رواه البخاري عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إذا أمّن المام فأمنوا‬ ‫فإنه من وافق تأمينه تأمين الملئكة غفر له ما تقدم من ذنوبه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/17‬‬ ‫سورة البقرة‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة البقرة ‪1‬‬ ‫مدنية وآياتها مائتان وست أو سبع وثمانون آية‬ ‫حمَنِ الرّحِيمِ‬ ‫بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬ ‫{الم(‪ )1‬ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ هُدىً لِ ْلمُ ّتقِينَ(‪ )2‬الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ‪ 2‬بِا ْلغَ ْيبِ وَيُقِيمُونَ الصّلةَ َو ِممّا‬ ‫ك وَبِالخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ(‪)4‬‬ ‫رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْن ِفقُونَ(‪ )3‬وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْل َ‬ ‫أُولَ ِئكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُون(‪َ })5‬‬ ‫(‪{) 1‬الم}‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫{الم}‪ :‬هذه من الحروف المقطعة تكتب الم‪ .‬وتقرأ هكذا‪:‬‬ ‫ألف لم ميم‪ .‬والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه‪ ،‬وآخرها‬ ‫القلم {ن} ومنها الحادية مثل‪{ :‬ص} ‪ ،‬و {ق} ‪ ،‬و {ن} ‪ ،‬ومنها الثنائية مثل‪{ :‬طه} ‪،‬و {يس} ‪،‬و‬ ‫{حم} ‪ ،‬ومنها الثلثية والرباعية والخماسية‪ ،‬ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫شيء كونها من المتشابه الذي استأثر ال تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب‪ ،‬ولذا يقال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ورد وصح في فضل سورة البقرة قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها‬ ‫بركة وتركها حسرة‪ ،‬ول يستطيعها البطلة" أي‪ :‬السحرة‪ .‬وروى الترمذي‪ ،‬وصححه‪ :‬أن النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم بعث بعثا وهم ذوو عدد‪ ،‬وقدّم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة‪ ،‬وقال‬ ‫له‪" :‬اذهب فأنت أميرهم" ‪ .‬وروى أيضا أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل تجعلوا بيوتكم‬ ‫مقابر‪ ،‬إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ نافع يؤمنون بتخفيف الهمز ة جمعا وإفرادا في كامل القرآن‪ ،‬وقرأها حفص مهموزة في كل‬ ‫القرآن‪.‬‬

‫( ‪)1/18‬‬

‫فيها‪ :‬ألمْ‪ :‬ال أعلم ‪ 1‬بمراده ذلك‪.‬‬ ‫وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين‪ :‬الولى‪ :‬أنه لما كان المشركون يمنعون سماع ‪2‬‬ ‫القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حم‪ .‬طس‪ .‬ق‪ .‬كهيعص‪.‬‬ ‫وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن‪ ،‬فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون‬ ‫ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة‪ .‬والثانية‪:‬لما أنكر المشركون كون القرآن كلم ال أوحاه إلى‬ ‫رسوله محمد صلى ال عليه وسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدي لهم كأنها‪ :‬أن هذا القرآن‬ ‫مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله‪ .‬ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالبا نحو‪:‬‬ ‫حكِيمِ} ‪{ ،‬طس ِت ْلكَ آيَاتُ ا ْلقُرْآنِ} ‪ ،‬كأنها تقول‪ :‬إنه من مثل هذه الحروف‬ ‫{الر ِت ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ الْ َ‬ ‫تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزوا فسلموا أنه كلم ال ووحيه وآمنوا به تفلحوا‪.‬‬ ‫{ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ ل رَ ْيبَ فِيهِ هُدىً لِ ْلمُ ّتقِينَ} (‪)2‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ذَِلكَ} ‪ :‬هذا‪ ،‬وإنما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك‪ .‬لما تفيده الشارة بلم البعد ‪ 3‬من علو المنزلة‬ ‫وارتفاع القدر والشأن‪.‬‬ ‫{ا ْلكِتَابُ‪ : }4‬القرآن الكريم الذي يقرأه رسول ال صلى ال عليه وسلم على الناس‪.‬‬ ‫{ل رَ ْيبَ‪ : }5‬لشك أنه وحي ال وكلمه أوحاه إلى رسوله‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى عن أبي بكر وعلي رضي ال عنهما وعن عامر الشعبي وسفيان الثوري إنهم قالوا‪:‬‬ ‫الحروف المقطعة هي سر ال في القرآن ول في كل كتاب من كتبه سر‪ .‬فهي من المتشابهة الذي‬ ‫انفرد ال بعلمه فل ينبغي أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها‪.‬‬ ‫ن وَا ْل َغوْا فِيهِ َلعَّلكُمْ‬ ‫س َمعُوا ِل َهذَا ا ْلقُرْآ ِ‬ ‫‪ 2‬دليله قوله تعالى من سورة فصلت‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا ل َت ْ‬ ‫َتغْلِبُونَ} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬اسم الشارة هو‪( :‬ذا) وهو للقريب ويقال (ذاك) للمتوسط البعد (وذلك) للبعيد‪.‬‬ ‫علَ ْيكُمُ الصّيَام} ‪ .‬أي فرض‪ ،‬وعلى العقد بين العبد‬ ‫‪ 4‬يطلق لفظ الكتاب على الفرض نحو‪{ :‬كُ ِتبَ َ‬ ‫وسيده نحو‪{ :‬وَالّذِينَ يَبْ َتغُونَ ا ْلكِتَابَ} ‪ .‬وعلى القدر‪ ،‬نحو‪{ :‬كِتَابَ اللّهِ} ‪ ،‬أي قدره وقضاؤه‪ ،‬ويصح‬ ‫في إعراب الكتاب أن يكون بدلً من اسم الشارة‪ ،‬ويصح أن يكون خبرا له‪.‬‬ ‫‪ 5‬وريب الدهر‪ :‬صروفه وخطوبه‪ ،‬وأصل الريب‪ :‬قلق النفس لحديث الصحيح‪ " :‬دع ما يريبك‬ ‫إلى ما ل يريبك‪ ،‬فإن الشك ريب وإن الصدق طمأنينة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/19‬‬

‫{فِيهِ هُدىً‪ :}1‬دللة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين‪.‬‬ ‫{لِ ْلمُ ّتقِينَ‪ :}2‬المتقين أي‪ :‬عذاب ال بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتابا فخما عظيما ل يحتمل الشك‪ ،‬ول‬ ‫يتطرق إليه احتمال‪ ،‬كونه غير وحي ال وكتابه بحال‪ ،‬وذلك لعجازه‪ ،‬وما يحمله من هدى ونور‬ ‫لهل اليمان والتقوى يهتدون بهما إلى سبيل السلم والسعادة والكمال‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقوية اليمان بال تعالى وكتابه ورسوله‪ ،‬الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان فضيلة التقوى وأهلها‪.‬‬ ‫ب وَ ُيقِيمُونَ الصّل َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْنفِقُون}َ‪.‬‬ ‫{الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْي ِ‬ ‫ك َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ وَبِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ}‪.‬‬ ‫{وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ‬ ‫أُولَ ِئكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُون}‪.‬‬ ‫شرح الجمل‪:‬‬ ‫{ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ}‪ :‬يصدقون تصديقا جازما بكل ما هو غيب ‪ 3‬ل يدرك بالحواس كالرب تبارك‬ ‫وتعالى ذاتا وصفاتٍ‪ ،‬والملئكة والبعث‪ ،‬والجنة ونعيمها والنار وعذابها‪.‬‬ ‫{وَ ُيقِيمُونَ ‪ 4‬الصّلةَ ‪ :}5‬يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها‬ ‫وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الهدي‪ :‬مصدر هدى‪ ،‬يهدي‪ .‬وهو مذكر‪ ،‬نحو‪ :‬هذا هدى هدىً‪ ،‬وهو من أسماء النهار‪ .‬وهو‬ ‫على وزن السُرى والبكى واللقى‪ ،‬من لقي الشيء‪ ،‬يلقاه لقيا‪.‬‬ ‫‪ 2‬المتقي‪ :‬اسم فاعل من اتقى‪ ،‬الذي أصله وقى إذا حفظ‪ .‬واتقى بزيادة تاء الفتعال لتخاذه وقاية‬ ‫تقيه وابدلت واو وقي في اتقى تاء وزيدت فيها همزة وصل وتاء الفتعال فصارت اتقى‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫طلب الوقاية والحفظ مما يخاف ويكره‪.‬‬ ‫‪ 3‬الغيب‪ :‬مصدر غاب‪ ،‬يغيب‪ ،‬غيبا‪ ،‬إذا لم يظهر فلم يرى للعيان‪ ،‬ومعناه‪ :‬محصل في الصدور‪.‬‬ ‫واليمان‪ .‬بالغيب مفتاح كل التقوى وكل خير‪.‬‬ ‫‪ 4‬إقام الصلة جعلها قائمة أي‪ :‬مؤداه ل تسقط ول تهمل‪ .‬نحو‪َ{ :‬أقِيمُوا الدّينَ} أي‪ :‬أظهروه‬ ‫بالعمل به والدعوى إليه‪ ،‬والصلة عمود الدين فمن أقامها أقام الدين ومن أقعدها فلم يقمها فقد‬ ‫ترك الدين وأهمله‪.‬‬ ‫‪ 5‬الصلة اسم جامد وزنها فعلة‪ ،‬ولذا يجمع على صوات بفتح الفاء والعين واللم بمعنى الدعاء‪،‬‬ ‫يقال‪ :‬صلى إذا دعا وهي =‬

‫( ‪)1/20‬‬ ‫{ َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ ‪ 1‬يُ ْنفِقُونَ} ‪ :‬من بعض ما آتاهم ال من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم‬ ‫وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولدهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين‪.‬‬ ‫{ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكَ}‬ ‫‪ :‬يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫{ َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ} ‪ :‬ويصدقون بما انزل ال تعالى من كتب على الرسل من قبلك؛ كالتوراة‬ ‫والنجيل والزبور‪.‬‬ ‫{وَبِالخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ ‪ : }2‬وبالحياة في الدار الخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم‬ ‫عالمون متيقنون ل يشكون في شيء من ذلك ول يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم‪.‬‬ ‫{أُولَ ِئكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَ ّب ِهمْ} ‪ :‬الشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والخبار عنهم بأنهم‬ ‫بما هداهم ال تعالى إليه من اليمان وصالح العمال هم متمكنون ‪ 3‬من الستقامة على منهج ال‬ ‫المفضي بهم إلى الفلح‪.‬‬ ‫{وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُفِْلحُون} ‪ :‬الشارة إلى أصحاب الهداية ‪ 4‬الكاملة والخبار عنهم بأنهم هم المفلحون‬ ‫‪ 5‬الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار‪.‬‬ ‫في الشرع عبادة ذات ركوع وسجود وتكبير وتلوة وتسبيح تفتح بالتكبير وتختم بالتسليم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫= في الشرع عبادة ذات ركوع وسجود وتلوة وتسبيح تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم‪.‬‬ ‫‪ 1‬الرزق هو‪ :‬كل ما أوجده ال تعالى في الدنيا للنسان من صنوف الموال وضروب المأكولت‬ ‫والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن‪ ،‬والمراد بالرزق في الية‪ :‬المال صامتا كان أو‬ ‫ناطقا‪.‬‬ ‫‪ 2‬اليقين‪ :‬اسم فاعل من يقن المر وضح وثبت‪ ،‬والمراد به‪ :‬العلم الحاصل عن نظر وتفكر‬ ‫موجب لعدم الشك واضطراب النفس‪.‬‬ ‫‪ 3‬دل على التمكن من الستقامة حرف‪( :‬على) في قولهم‪ :‬على هدى من ربهم فإن الستعلء‪ ،‬إذ‬ ‫الراكب على الفرس متمكن منها يصرفها كيف يشاء لعلوه عليها‪.‬‬ ‫‪ 4‬وهم المتقون أصحاب الصفات الخمس التي هي‪ :‬اليمان بالغيب‪ ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وإنفاق مما‬ ‫رزقهم ال‪ ،‬واليمان بما أنزل على محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبما أنزل على من قبله‪ ،‬واليمان‬ ‫بالخرة‪.‬‬ ‫‪ 5‬الفلح‪ :‬مشتق من فلح الرض إذا شقها‪ ،‬إذ الفلح الشق والقطع كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫إن الحديد بالحديد يفلح‪ .‬أي يشق ويقطع‪ .‬ومنه الفلح‪ ،‬وهو الرجل يشق الرض بالمحراث‪،‬‬

‫وعليه فالمفلح‪ :‬من شق طريقه بين صفوف أهل الموقف ودخل الجنة‪ ،‬ويطلق الفلح على الفوز‬ ‫وهو السلمة من المرهوب‪ ،‬والظفر بالمرغوب‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫لو كان حي مدرك الفلح ‪...‬‬ ‫أدركه ملعب الرماح ‪...‬‬ ‫أي فاز به‪.‬‬

‫( ‪)1/21‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ذكر تعالى في هذه اليات الثلث صفات المتقين من اليمان بالغيب وإقام الصلة وإيتاء الزكاة‪،‬‬ ‫واليمان بما أنزل ال من كتب واليمان بالدار الخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية‬ ‫من ربهم‪ ،‬وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الخرة بدخول الجنة بعد النجاة من‬ ‫النار‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫دعوة المؤمنين وترغيبهم في التصاف بصفات أهل الهداية والفلح‪ ،‬ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا‬ ‫ويفلحوا في دنياهم وأخراهم‪.‬‬ ‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَنْذَرْ َتهُمْ أَمْ َلمْ تُنْذِرْ ُهمْ ل ُي ْؤمِنُونَ(‪ )6‬خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَعَلَى‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َ‬ ‫غشَا َوةٌ وََلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(‪})7‬‬ ‫س ْم ِعهِ ْم وَعَلَى أَ ْبصَارِهِمْ ِ‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل أو‬ ‫{ َكفَرُوا} ‪ :‬الكفر‪ :‬لغة التغطية والجحود‪ ،‬وشرعا‪ :‬التكذيب ‪ 1‬بال وبما جاءت به رسله عنه ك ً‬ ‫بعضا‪.‬‬ ‫سوَاءٌ ‪ : }2‬بمعنى مُسْ َتوٍ انذارهم وعدمه‪ ،‬إذ ل فائدة منه لحكم ال بعدم هدايتهم‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ} ‪ :‬النذار التخويف بعاقبة الكفر والظلم والفساد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪1‬وقد يطلق الكفر على جحود النعمة والحسان‪ ،‬ومن ذلك قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬يكفرن‬ ‫العشير والحسان" ‪ ،‬لما قال‪" :‬رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء" ‪ .‬فقيل له‪ :‬بم يا رسول ال؟‪.‬‬ ‫قال‪ :‬يكفرن‪ ،‬قيل‪ :‬يكفرن بال؟ قال‪ :‬يكفرن العشير –أي الزوج‪ -‬ويكفر الحسان ‪.‬‬ ‫‪ 2‬سواء عليهم‪ :‬هذا خبر إن الذين كفروا‪ .‬وسواء‪ :‬اسم مصدر‪ ،‬إذ فعله استوى‪ ،‬والمصدر‬ ‫الستواء‪ ،‬واسم المصدر سواء‪ ،‬ولذا فهو بمعنى مستو‪ ،‬أي‪ :‬استوى إنذارهم وعدمه في إنهم ل‬

‫يؤمنون‪ ،‬وهذا من العام الخاص‪ ،‬إذ ما كل الكافرين ل يؤمنون وإنما من كتبت عليهم الشقوة‬ ‫إذللً؛ كأبي لهب وأبي جهل وعقبة والعاصي والنضر وغيرهم‪.‬‬

‫( ‪)1/22‬‬ ‫{ختم ‪ 1‬ال} ‪ :‬طبع‪ ،‬إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى ل يعلم‬ ‫ما فيه‪ ،‬ول يتوصل إليه فيبدل أو يغير‪.‬‬ ‫الغشاوة ‪ :‬الغطاء يغشى به ما يراد منع وصول شيء إليه‪.‬‬ ‫العذاب‪ :‬اللم يزيل عذوبة الحياة ولذتها‪.‬مناسبة اليتين لما قبلهما ومعناهما‪:‬‬ ‫لما ذكر أهل اليمان والتقوى والهداية والفلح ذكر بعدهم أهل الكفر والضلل والخسران‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫[إن الذين كفروا] ‪ 2‬إلخ‪ .‬فأخبر بعدم استعدادهم لليمان حتى استوى إنذارهم ‪ 3‬وعدمه وذلك‬ ‫لمضي سنة ال فيهم بالطبع على قلوبهم حتى ل تفقه‪ ،‬وعلى آذانهم ‪ 4‬حتى ل تسمع‪ ،‬ويجعل‬ ‫الغشاوة على أعينهم حتى ل تبصر‪ ،‬وذلك نتيجة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر‪ .‬وبذلك‬ ‫استوجبوا العذاب العظيم فحكم به عليهم‪ .‬وهذا حكم ال تعالى في أهل العناد والمكابرة والصرار‬ ‫في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في أهل العناد والمكابرة والصرار بأن يحرمهم ال تعالى الهداية‪ ،‬وذلك‬ ‫بتعطيل حواسهم حتى ل ينتفعوا بها فل يؤمنوا ول يهتدوا‪.‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من الصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم‪.‬‬ ‫{ َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّ ِه وَبِالْ َيوْمِ الْآخِ ِر َومَا ُهمْ ِب ُم ْؤمِنِينَ(‪)8‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الختم‪ :‬حقيقته السد على الناء‪ ،‬والغلق على الكتاب بطين ونحوه‪ ،‬والخاتم‪ :‬هو ما سد وأغلق‬ ‫به‪.‬‬ ‫‪ 2‬قطعت جملة‪ :‬إن الذين كفروا ولم تعطف على السابق لكمال النقطاع بينهما وهو التضاد‪ ،‬إذ‬ ‫الولى في ذكر الهداية والمهتدين‪ ،‬وهذه في ذكر الكفر والكافرين‪.‬‬ ‫‪ 3‬قد يقال‪ :‬ما دام قد علم ال تعالى أن بعضا ل يؤمنون فِلمَ ينذرون‪ ،‬إذا إنذارهم مع العلم بأنه ل‬ ‫ينفعهم‪ ،‬تكليف بالمحال‪ .‬والجواب‪ :‬أن دعوة النبي صلى ال عليه وسلم لكل أحد‪ ،‬وهو صلى ال‬ ‫عليه وسلم لم يعلم من كتب ال تعالى عليه الشقاء ممن كتب له السعادة‪ ،‬فلذا هو يدعو وينذر‪،‬‬ ‫ومن كان من أهل السعادة أجاب الدعوة‪ ،‬ومن لم يكن من أهلها رفضها ولم يجب‪.‬‬

‫‪ 4‬تقديم السمع على البصر في عدة آيات من القرآن يفيد أن حاسة السمع أنفع من حاسة البصر‪،‬‬ ‫وهو كذلك والعقل أعظم‪.‬‬

‫( ‪)1/23‬‬ ‫شعُرُونَ(‪ )9‬فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ اللّهُ‬ ‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬ ‫يُخَادِعُونَ اللّ َه وَالّذِينَ آمَنُوا َومَا َيخْدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫مَرَضا وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكذِبُونَ(‪})10‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َومِنَ النّاسِ‪ : }1‬من بعض الناس ‪.2‬‬ ‫{مَنْ َيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ‪ : }3‬صدقنا بال ربا وإلها ل إله غيره ول رب سواه‪.‬‬ ‫{وَبِالْ َيوْمِ الخِرِ} ‪ :‬صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة‪.‬‬ ‫{ ُيخَادِعُونَ‪ 4‬ال} ‪ :‬بإظهارهم اليمان وإخفائهم الكفر‪.‬‬ ‫س ُهمْ‪ : }5‬إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم ل على ال ول على رسوله ول على‬ ‫خدَعُونَ إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫{ َومَا يَ ْ‬ ‫المؤمنين‪.‬‬ ‫شعُرُونَ} ‪ :‬ل يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم‪.‬‬ ‫{ َومَا يَ ْ‬ ‫{فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ} ‪ :‬في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على‬ ‫أيديهم‪.‬‬ ‫{فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا} ‪ :‬شكا ونفاقا وألما وخوفا حسب سنة ال في أن السيئة ل تعقب إل سيئة‪.‬‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ} ‪ :‬موجع شديد الوقع على النفس‪.‬مناسبة الية لما قبلها وبيان معناها‪:‬‬ ‫{َ‬ ‫لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الناس مشتق من الناس‪ ،‬ينوس إذا تحرك كذا قيل‪ :‬وهل هو من النسيان‪ ،‬أو النس الكل‬ ‫محتمل لن آدم نسي ولنه حصل له النس بحواء‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومن الناس‪ :‬خبر‪ ،‬والمبتدأ من يقول‪ ،‬والسر في تقديم الخبر هنا‪ :‬هو إخفاء المخبر عنه‪ ،‬لنه‬ ‫ذو صفات ذميمة‪ ،‬وأفعال شنيعة نحو‪ ،‬قول‪ :‬ما بال أقوام يقولون‪ :‬كذا وكذا بما هو مؤذن بالتعجب‬ ‫من حالهم أيضا‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي اعتقدنا على علم إن ال ل إله إل هو ول رب سواه‪ ،‬إذ اليمان‪ :‬التصديق الجازم بوجود‬ ‫ال تعالى ربا وإلها موصوفا بالكمال منزها عن كل نقصان‪ ،‬والتصديق بكل ما أمر ال تعالى‬ ‫باليمان به من الملئكة والكتب‪ ،‬والرسل والبعث والقدر‪.‬‬ ‫‪ 4‬وإن قيل‪ :‬ما وجه مخادعتهم ل تعالى والمؤمنين بإظهارهم اليمان والسلم تمويها في نظرهم‬ ‫على ال‪ ،‬إذ لم يعرفوا جلله وكماله‪ ،‬وعلى المؤمنين ظنا منهم إنهم ل يعلمون ما يخفون في‬

‫نفوسهم من الكفر والعداء‪ .‬وأما مخادعة ال لهم فهي علمه تعالى بما يبطنون من الكفر والشر‬ ‫وعدم فضيحتهم بذلك‪ ،‬فلم يكشف أسرارهم ولم يذكرهم في وحيه بأسمائهم‪ ،‬ومخادعة المؤمنين‬ ‫لهم هي‪ :‬علمهم بنفاقهم وعدم مؤاخذتهم ونسبتهم إليه‪ .‬هذا ولو قلنا‪ :‬إن صيغة المفاعلة هنا ليست‬ ‫على بابها فهي بمعنى خدع يخدع‪ ،‬وذلك نحو‪ :‬عاقبت اللص وعالجت المريض فلم نحتج إلى ما‬ ‫ذكرنا‪ .‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 5‬قرأ نافع والجمهور‪ :‬وما يخادعون‪ ،‬بألف بعد الخاء‪ ،‬وقرأ حفص‪ :‬يخدعون‪ ،‬بسكون الخاء‪.‬‬

‫( ‪)1/24‬‬ ‫منتهاه ذكر المنافقين وهم‪ :‬المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن‪ ،‬وهم شر من الكافرين‬ ‫البالغين في الكفر أشده‪.‬‬ ‫أخبر تعالى أن فريقا من الناس وهم المنافقون ‪ 1‬يدّعون اليمان بألسنتهم ويضمرون الكفر في‬ ‫قلوبهم يخادعون ‪ 2‬ال والمؤمنين بهذا النفاق‪ .‬ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم‪ .‬كانوا بذلك‬ ‫خادعين أنفسهم ل غيرهم ولكنهم ل يعلمون ذلك ول يدرون به‪.‬‬ ‫كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضا وهو الشك والنفاق والخوف‪ ،‬وأنه زادهم مرضا عقوبة لهم‬ ‫في الدنيا وتوعدهم بالعذاب الليم في الخرة بسبب كذبهم وكفرهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫التحذير من الكذب والنفاق والخداع‪ ،‬وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة ل يتولد‬ ‫عنها إل سيئة مثلها‪.‬‬ ‫سدُونَ وََلكِنْ ل‬ ‫{وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ ل ُتفْسِدُوا فِي الَ ْرضِ قَالُوا إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ(‪ )11‬أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْلمُفْ ِ‬ ‫س َفهَاءُ‬ ‫س َفهَاءُ أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ال ّ‬ ‫شعُرُونَ(‪ )12‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ آمِنُوا َكمَا آمَنَ النّاسُ قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َكمَا آمَنَ ال ّ‬ ‫يَ ْ‬ ‫وََلكِنْ ل َيعَْلمُونَ(‪})13‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الفساد في الرض ‪ :‬الكفر وارتكاب المعاصي فيها‪.‬‬ ‫الصلح في الرض‪ :‬يكون باليمان الصحيح والعمل الصالح‪ ،‬وترك الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫{ل يشعرون} ‪ :‬ل يدرون ول يعلمون‪.‬‬ ‫{السفهاء} ‪ :‬جمع سفيه‪ :‬خفيف العقل ل يحسن التصرف والتدبير‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المنافق‪ :‬كل من يظهر اليمان ويبطن الكفر‪ ،‬والمذكرون كانوا على عهد رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وروي عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬إنهم كانوا ثلث مائة رجل‪ ،‬ومائة وسبعون‬

‫امرأة‪ ،‬بعضهم من الوس والخزرج وبعضهم من اليهود ورأس منافقي المشركين عبد ال بن أبي‬ ‫بن سلول‪ ،‬ولم يقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى أسلم من أسلم وهلك من هلك إل ما‬ ‫كان من عبد ال بن سبأ اليهودي الذي أوقد نار الفتنة بالتعاون مع المجوس‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخدع‪ :‬أصله الخفاء والفساد‪ ،‬ومنه مخدع البيت الذي تخفى فيه الشياء‪ ،‬والخادع والخادع‬ ‫بمعنى واحد‪ :‬وهو أن يظهر بقوله أو فعله إنه يريد النفع وهو يريد الضر‪ ،‬وهو حرام إل في‬ ‫الحرب فإنه جائز‪.‬‬

‫( ‪)1/25‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا ‪ 1‬قال لهم أحد المؤمنين ل تفسدوا ‪ 2‬في الرض بالنفاق وموالة‬ ‫اليهود والكافرين ردوا عليه قائلين‪ :‬إنما نحن ‪ 3‬مصلحون في زعمهم‪ ،‬فأبطل ال تعالى هذا الزعم‬ ‫وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون ل من عرضوا بهم من المؤمنين‪ ،‬إل أنهم ل يعلمون ذلك‬ ‫لستيلء الكفر على قلوبهم‪ .‬كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين صدقوا في‬ ‫إيمانكم وآمنوا إيمان فلن وفلن مثل‪ :‬عبد ال بن سلم‪ .‬ردوا قائلين‪ :‬أنؤمن ‪ 4‬إيمان السفهاء‬ ‫الذين ل رشد لهم ول بصيرة ‪ 5‬فرد ال تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم ونفاه عن المؤمنين‬ ‫الصادقين ووصفهم بالجهل وعدم العلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ذم الدعاء الكاذب وهو ل يكون غالبا إل من صفات المنافقين‪.‬‬ ‫‪ -2‬الصلح في الرض يكون بالعمل بطاعة ال ورسوله‪ ،‬والفساد فيها يكون بمعصية ال‬ ‫ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫العاملون بالفساد في الرض يبررون دائما إفسادهم بأنه إصلح وليس بإفساد‪.‬‬ ‫{وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خََلوْا إِلَى شَيَاطِي ِنهِمْ قَالُوا إِنّا َم َعكُمْ إِ ّنمَا نَحْنُ ُمسْ َتهْزِئُونَ(‪)14‬‬ ‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ(‪ )15‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ بِا ْلهُدَى َفمَا‬ ‫اللّهُ َيسْ َتهْ ِزئُ ِبهِ ْم وَ َيمُدّ ُهمْ فِي ُ‬ ‫حتْ ِتجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُوا ُمهْتَدِينَ(‪})16‬‬ ‫رَبِ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل الفساد‪ :‬جعل منفعة الشيء مضرة؛ كإفساد الطعام ونحو بما يلقى فيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذا‪ :‬هنا ليست شرطية بل لمطلق الظرفية‪.‬‬ ‫‪ 3‬قولهم‪ :‬إنما نحن مصلحون‪ :‬ل ذم فيه‪ ،‬وإنما جاءه الذم من كونهم مفسدين وادعوا إنه‬ ‫مصلحون‪.‬‬

‫‪ 4‬الستفهام هنا‪ :‬إنكاري‪ ،‬أي‪ :‬إذا دعوا إلى اليمان أنكروا دعوة من دعاهم طاعنين في إيمان‬ ‫المؤمنين‪ ،‬إذ نسبوهم إلى السفه‪ ،‬وهو خفة العقل‪ ،‬وقلة إدراك المور مبادئ وعواقب‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬بقوله‪ :‬أل إنهم هم السفهاء‪ ،‬فبرأ المؤمنين من هذا العيب ووصم به المنافقين‪ ،‬وهم أهله‬ ‫حقا‪ ،‬فإنه ل سفه أكبر من الكفر بالحق واليمان بالباطل‪.‬‬

‫( ‪)1/26‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َلقُوا ‪ : }1‬اللقاء‪ :‬والملقاة‪ :‬المواجهة وجها لوجه‪.‬‬ ‫{آمَنُوا} ‪ :‬اليمان الشرعي‪ :‬التصديق بال وبكل ما جاء به رسول ال عن ال‪ ،‬وأهله هم المؤمنون‬ ‫بحق‪.‬‬ ‫{خََلوْا} ‪ :‬الخلو بالشيء ‪ :2‬النفراد به‪.‬‬ ‫{شَيَاطِي ِنهِمْ‪ : }3‬الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ول يصلح من إنسان أو جان‪،‬‬ ‫والمراد بهم هنا رؤساؤهم في الشر والفساد‪.‬‬ ‫{مُسْ َتهْزِئُونَ‪ : }4‬الستهزاء‪ :‬الستخفاف والستسخار بالمرء‪.‬‬ ‫الطغيان ‪ :‬مجاوزة الحد في المر والسراف فيه‪.‬‬ ‫ال َعمَه ‪ :5‬للقلب؛ كالعمى للبصر‪ :‬عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلل‪.‬‬ ‫{اشْتَ َروُا ‪ : }6‬استبدلوا بالهدى الضللة‪ ،‬أي‪ :‬تركوا اليمان وأخذوا الكفر‪.‬‬ ‫{ ِتجَارَ ُتهُمْ} ‪ :‬التجارة‪ :‬دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه‪ ،‬والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم‬ ‫وهو اليمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزا وغنى في الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذُلوا‬ ‫وعُذبوا وافتقروا بكفرهم‪.‬‬ ‫المهتدي ‪ :‬السالك سبيلً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبل عناء‪ ،‬والضال خلف‬ ‫المهتدي‪ :‬وهو السالك سبيلً غير قاصدة فل تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل لقوا‪ :‬لقيوا نقلت الضمة إلى القاف‪ ،‬وحذفت الياء للتقاء الساكنين‪ ،‬إذ فعله لقي كرضي‪.‬‬ ‫‪ 2‬عدي فعل خلوا ب إلى ولم يعد بالباء‪ ،‬إذ يقال خل بكذا؛ لن خلو هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا‪.‬‬ ‫‪ 3‬فسر بعضهم الشياطين بالكهان وبشياطين الجن‪ ،‬والصحيح إنهم رؤساؤهم في الكفر والشر‬ ‫والفساد من منافقي اليهود وغيرهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬مكذبون بما ندعي إليه ساخرون من أهله‪.‬‬ ‫‪ 5‬العمه‪ :‬انطماس البصيرة والتحير في الرأي وفعله‪ ،‬عمه فهو عامه وأعمه‪.‬‬ ‫‪ 6‬الشتراء‪ :‬افتعال من شرى يشتري بمعنى‪ :‬باع‪ .‬إذ فعل شرى يكون بمعنى باع وبمعنى‬

‫اشترى‪ ،‬فاشترى كابتاع كلهما مطاوع فعله شرى أو باع‪ ،‬إذ كل من البائع والمشتري أخذ شيئا‬ ‫وأعطى آخر‪.‬‬

‫( ‪)1/27‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زالت اليات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم إذ أخبر تعالى عنهم في الية الولى (‪)14‬‬ ‫أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بال والرسول وما‬ ‫جاء به من الدين‪ ،‬وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضللة فلموهم عما ادّعوه من اليمان‪،‬‬ ‫قالوا لهم‪ :‬إنا معكم على دينكم وما آمنا أبدا‪ .‬وإنما أظهرنا اليمان استهزاء وسخرية بمحمد‬ ‫وأصحابه‪.‬‬ ‫كما أخبر في الية الثانية (‪ )15‬أنه تعالى يستهزئ بهم معاملة لهم بالمثل جزاء وفاقا ويزيدهم ‪1‬‬ ‫حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم لتزداد حيرتهم واضطراب نفوسهم وضلل‬ ‫عقولهم‪ .‬كما أخبر في الية (‪ )16‬أن أولئك البعداء في الضلل قد استبدلوا اليمان بالكفر‬ ‫والخلص بالنفاق‪ ،‬فلذلك ل تربح تجارتهم ‪ 2‬ول يهتدون إلى سبيل ربح أو نُجح محال‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه آخر وفي الحديث‪:‬‬ ‫"شراركم ذو الوجهين"‪.3‬‬ ‫‪ -2‬إن من الناس ‪ 4‬شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي ‪ ،5‬ويأمرون بالمنكر وينهون عن‬ ‫المعروف‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان نقم ال‪ ،‬وإنزالها بأعدائه عز وجل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تفسير لقوله تعالى‪:‬ويمدهم‪ ،‬إذ المد بالزيادة‪ ،‬يقال‪ :‬مده بكذا‪ ،‬إذا زاده‪ ،‬وقيل‪ :‬يستعمل أمد في‬ ‫الخير‪ ،‬نحو‪{ :‬وَ ُيمْدِ ْد ُكمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ} ويستعمل مد في الشر‪ ،‬كما في هذه الية‪{ :‬وَ َيمُدّهُمْ فِي‬ ‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ} ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 2‬إسناد الربح إلى التجارة لكونها سببا للربح‪ ،‬وإل فالربح للتاجر ل للتجارة‪ ،‬وهذا الستعمال في‬ ‫اللغة نحو قول الشاعر‪:‬‬ ‫نهارك هائم وليلك نائم ‪ ...‬كذلك في الدنيا تعيش البهائم‬ ‫إذ أسند الهيام إلى النهار‪ ،‬والنوم إلى الليل‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى البخاري ومسلم‪ ،‬والشاهد في قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬وتجدون شر الناس ذا الوجهين‬

‫الذي يأتي هؤلء بوجه وهؤلء بوجه‪.‬‬ ‫‪ 4‬شياطين النس كشياطين الجن‪ ،‬إذ كل من بعد في الشر وتوغل فيه وأصبح ل يروم الخير ول‬ ‫يحبه فهو شطان يستعاذ بال منه‪.‬‬ ‫‪ 5‬المعاصي‪ :‬جمع معصية‪ ،‬وهو ترك ما أوجب ال ورسوله القيام أو فعل ما حرم ال ورسوله‬ ‫فعله‪ ،‬سواء في ذلك العتقاد‪ ،‬والقول‪ ،‬والعمل إذا الواجبات والمنهيات تكون في العتقاد والقول‬ ‫والعمل‪.‬‬

‫( ‪)1/28‬‬ ‫تل‬ ‫حوْلَهُ ذَ َهبَ اللّهُ بِنُورِ ِه ْم وَتَ َر َكهُمْ فِي ظُُلمَا ٍ‬ ‫{مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارا فََلمّا َأضَا َءتْ مَا َ‬ ‫سمَاءِ فِيهِ ظُُلمَاتٌ وَرَعْ ٌد وَبَرْقٌ‬ ‫جعُون(‪َ )18‬أوْ َكصَيّبٍ مِنَ ال ّ‬ ‫ع ْميٌ َفهُمْ ل يَرْ ِ‬ ‫يُ ْبصِرُونَ(‪ )17‬صُمّ ُبكْمٌ ُ‬ ‫ت وَاللّهُ ُمحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ(‪َ )19‬يكَادُ الْبَرْقُ‬ ‫صوَاعِقِ حَذَرَ ا ْل َموْ ِ‬ ‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِمْ مِنَ ال ّ‬ ‫يَ ْ‬ ‫س ْم ِعهِمْ‬ ‫شوْا فِي ِه وَِإذَا أَظَْلمَ عَلَ ْيهِمْ قَامُوا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َلذَ َهبَ بِ َ‬ ‫طفُ أَ ْبصَارَهُمْ كُّلمَا َأضَاءَ َل ُهمْ مَ َ‬ ‫خَ‬ ‫يَ ْ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪})20‬‬ ‫وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مَثَُلهُمْ ‪ : }1‬صفتهم ‪ 2‬وحالهم‪.‬‬ ‫{اسْ َت ْوقَدَ} ‪ :‬أوقد نارا‪.‬‬ ‫ع ْميٌ} ‪ :‬ل يسمعون ول ينطقون ول يبصرون‪.‬‬ ‫{صُمّ ُب ْكمٌ ُ‬ ‫الصيب ‪ :‬المطر‪.‬‬ ‫الظلمات ‪ :‬ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر‪.‬‬ ‫الرعد ‪ :‬الصوت القاصف يُسمع ‪ 3‬حال تراكم السحاب ونزول المطر‪.‬‬ ‫البرق ‪ :‬ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر‪.‬‬ ‫صوَاعِقِ} ‪ :‬جمع صاعقة‪ :‬نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب ال تعالى‬ ‫{ال ّ‬ ‫بها من يشاء‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القول السائر‪ :‬مثل‪ :‬أحشفا وسوء كيله؟ والصيف ضيعت اللبن‬ ‫ويعرف المثل بأنه قول شبه مضر به بمورده ومضر به في الحال المشبه ومورده هو الحال‬ ‫المشبه بها‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله تعالى‪{ :‬مَثَُل ُهمْ} اليات‪ :‬تضمن مثلين‪ :‬ناريا‪ :‬وهو المثل الول‪ .‬ومائيا‪ :‬هو المثل الثاني‪،‬‬ ‫والمثلن وقعان من السياق الول موقع البيان والتقرير‪ ،‬والفذلكة‪ ،‬ولذا لم تعطف جملة مثلهم‬ ‫لكمال التصال بينها وبين الجمل السابقة‪.‬‬

‫‪ 3‬ظاهرة الرعد والبرق يفسرها علماء الطبيعة؛ بأنه نتيجة اتحاد كهرباء السحاب الموجبة‬ ‫بالسالبة‪.‬‬

‫( ‪)1/29‬‬ ‫{حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ} ‪ :‬توقيا للموت‪.‬‬ ‫{مُحِيطٌ} ‪ :‬المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته‪.‬‬ ‫{ َيكَادُ} ‪ :‬يقرب‪.‬‬ ‫طفُ} ‪ :‬يأخذه بسرعة‪.‬‬ ‫{ َيخْ َ‬ ‫{وَأَ ْبصَارِهِمْ} ‪ :‬جمع بصر وهو العين المبصرة‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫مثل ‪ 1‬هؤلء المنافقين فيما يظهرون من اليمان مع ما هم مبطنون من الكفر كمثل ‪ 2‬من أوقد‬ ‫نارا للستضاءة بها فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب ال بنورهم ‪3‬‬ ‫وتركهم في ظلمات ل يبصرون‪ .‬لنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم‬ ‫وذراريهم من القتل والسبي‪ ،‬وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل‬ ‫شيء حتى أنفسهم‪ .‬هذا المثل تضمنته الية الولى(‪ ،)17‬وأما الية الثاني(‪ )18‬فهي إخبار عن‬ ‫أولئك ‪ 4‬المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للهتداء فل آذانهم تسمع صوت الحق ول ألسنتهم‬ ‫تنطق به‪ ،‬ول أعينهم تبصر آثاره‪ ،‬وذلك لتوغلهم في الفساد‪ .‬فلذا هم ل يرجعون عن الكفر إلى‬ ‫اليمان بحال من الحوال‪ .‬وأما الية الثالثة والرابعة(‪ )20()19‬فهما تتضمنان مثلً آخر لهؤلء‬ ‫المنافقين‪ .‬وصورة المثل العجيبة والمنطقية على حالهم هي مطر ‪5‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المثل‪ :‬متحرك الوسط‪ ،‬الصل فيه أنه النظير والمشابه وفيه لغات وهي‪ :‬المثل بكسر الميم‪،‬‬ ‫والمثيل بفتح الميم وكسر المثلثة وإشباعها‪ .‬ونظير المثل الشبه والبديل‪ ،‬ففي كل واحد ثلث لغات‬ ‫ولنظير لها في اللغة‪ ،‬يقال‪ :‬شبه وشبه وشبيه وبَدَل وبدْل وبديل‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله‪{ :‬الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارا} ‪ .‬مفرد وقوله‪َ { :‬ذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ} ‪ .‬جمع‪ ،‬فهل الذي هنا بمعنى‪:‬‬ ‫الذين على حد قول القائل‪:‬‬ ‫وإن الذي حانت دمائهم ‪ ...‬هم القوم كل القوم يا أم خالد‬ ‫من الجائز أن يكون الذي بمعنى الذين لوروده في فصيح اللغة‪ ،‬وهو من باب اللتفات ل غير‪.‬‬ ‫‪ 3‬عدل عن لفظ‪ .‬ذهب ال بنارهم‪ .‬إلى قوله‪ :‬نورهم‪ .‬إشارة إلى أن السلم نور يهدي ل نار‬ ‫تحرق‪.‬‬ ‫‪ 4‬يرى ابن كثير أن هؤلء المنافقين كانوا قد آمنوا ثم بعد إيمانهم كفروا في الباطن مظهرين‬ ‫اليمان في الظاهر‪ ،‬ويرى ابن جرير خلف ذلك‪ ،‬وهو‪ :‬ما آمنوا ثم كفروا‪ ،‬وإنما آمنوا في‬

‫الظاهر ل غير‪ ،‬واحتج عليه ابن كثير بقول ال تعالى في سورة المنافقين‪ { :‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ آمَنُوا ثُمّ‬ ‫َكفَرُوا} اليات‪.‬‬ ‫‪ 5‬هو الصيب في قوله‪َ { :‬أوْ َكصَ ّيبٍ} ‪ ،‬وأصل صيب‪ :‬صيوب قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في‬ ‫الياء‪ ،‬نظيره‪ :‬سيد وميت؛ لن الفعل ساد يسود‪ ،‬ومات يموت‪ ،‬فسيد أصلها يسود‪ ،‬وميت أصلها‬ ‫ميوت وقلبت الواو ياء وأدغمت واو في قوله‪َ { :‬أوْ َكصَ ّيبٍ} هي بمعنى الواو‪.‬‬

‫( ‪)1/30‬‬ ‫غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف‪ ،‬وهم في وسطه مذعورون خائفون‬ ‫يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى ل يسمعوا صوت الصواعق حذرا أن تنخلع قلوبهم فيموتوا‪،‬‬ ‫ولم يحذروا مفرا ول مهربا لن ال تعالى محيط بهم هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن البرق‬ ‫لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون‪ ،‬فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه‪،‬‬ ‫س ْم ِعهِمْ وَأَ ْبصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ‬ ‫وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين‪{ ،‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَذَ َهبَ بِ َ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ} ‪ .‬هذه حال أولئك المنافقين‪ ،‬والقرآن ينزل بذكر الكفر‪ ،‬وهو‪ :‬ظلمات‪ ،‬وبذكر‬ ‫عَلَى ُكلّ َ‬ ‫الوعيد‪ ،‬وهو‪ :‬كالصواعق والرعد‪ ،‬وبالحجج والبينات‪ ،‬وهي‪ :‬كالبرق في قوة الضاءة‪ ،‬وهم‬ ‫خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا‪ ،‬فإذا نزل بآية ل تشير إليهم ول‬ ‫تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر‪ .‬وإذا نزل بآية فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه وقفوا‬ ‫حائرين ل يتقدمون ول يتأخرون‪ ،‬ولو شاء ال أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل؛ لنهم لذلك أهل‬ ‫وهو على كل شيء قدير ‪.1‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان ضرب المثال لتقريب المعاني إلى الذهان‪.‬‬ ‫‪ -2‬خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الرض بماء المطر‪.‬‬ ‫‪ -4‬شر الكفار المنافقون‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا ‪ 2‬النّاسُ اعْ ُبدُوا ‪ 3‬رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القدير‪ ،‬والقادر‪ ،‬والمقتدر‪ ،‬بمعنى‪ :‬واحد‪ ،‬إل أن القدير أبلغ لنه من أمثلة المبالغة‪ ،‬وقدرة ال‬ ‫تتعلق بالممكنات القابلة بالوجود والعدم‪ ،‬فل يقولن قائل‪ :‬هل يقدر ال على خلق ذات كذاته سبحانه‬ ‫وتعالى؟‪.‬‬ ‫‪ 2‬ياء‪ :‬حرف نداء للبعيد وينادى بها القريب تعظيما له نحو‪ :‬يا ال ‪ ،‬يا رب‪ ،‬وهو تعالى أقرب‬

‫من حبل الوريد‪ .‬أي‪ :‬صلة للتوصل بها لنداء ما فيه أل نحو‪ :‬أيها الناس‪ .‬ها‪ :‬حرف تنبيه أقحمت‬ ‫بين (أي) والمنادى‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل العبادة‪ :‬الخضوع والتذلل‪ ،‬مشتق من قولهم‪ :‬طريق معبد إذا كان موطوءا بالقدام‪ ،‬وهي‬ ‫في الشرع طاعة ال ورسوله باليمان وفعل المر واجتناب النهي مع غاية الحب والتعظيم لهما‬ ‫والتذلل وحده‪.‬‬

‫( ‪)1/31‬‬ ‫سمَاءَ بِنَا ًء وَأَنْ َزلَ مِنَ‬ ‫ج َعلَ‪َ 2‬ل ُك ُم الَ ْرضَ فِرَاشا وَال ّ‬ ‫وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ‪ 1‬تَ ّتقُونَ(‪ )21‬الّذِي َ‬ ‫جعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا‪ 3‬وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ(‪})22‬‬ ‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ ِبهِ مِنَ ال ّثمَرَاتِ رِزْقا َلكُمْ فَل َت ْ‬ ‫ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{النّاسُ} ‪ :‬لفظ جمع ل مفرد له من لفظه‪ ،‬واحده إنسان‪.‬‬ ‫{اعْ ُبدُوا} ‪ :‬أطيعوا باليمان والمتثال للمر والنهي مع غاية الحب ل والتعظيم‪.‬‬ ‫{رَ ّبكُمُ} ‪ :‬خالقكم ومالك أمركم وإلهكم الحق‪.‬‬ ‫{خََل َقكُمْ} ‪ :‬أوجدكم من العدم بتقدير عظيم‬ ‫{تَ ّتقُونَ} ‪ :‬تتخذون وقاية تحفظكم من عذاب ال‪ ،‬وذلك باليمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك‬ ‫والمعاصي‪.‬‬ ‫{فِرَاشا} ‪ :‬وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها‪.‬‬ ‫{بِنَاءً} ‪ :‬مبنية؛ كقبة فوقكم‪.‬‬ ‫{ال ّثمَرَاتِ} ‪ :‬جمع ثمرة ‪ 4‬وهو ما تخرجه الرض من حبوب وخضر وتخرجه الشجار من‬ ‫فواكه‪.‬‬ ‫{رِزْقا َل ُكمْ} ‪ :‬قوتا لكم تقتاتون به فتحفظ حياتكم إلى أجلها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لعل‪ :‬هنا على بابها‪ ،‬وهو الترجي والتوقع ولكن بالنظر إلى الناس ل إلى ال تعالى‪ ،‬فالناس هم‬ ‫الذين يرجون حصول النجاة لهم؟ ويتوقعون بعبادتهم لربهم تعالى‪ ،‬وقد تكون لعل‪ ،‬بمعنى‪ :‬كي‪،‬‬ ‫التعليلة أي‪ :‬اعبدوا ربكم كي تدفعوا عذابه‪ ،‬ويشهد له قول الشاعر‪:‬‬ ‫وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا ‪ ...‬نكف ووثقتم لنا كل موثق‬ ‫إذ المعنى‪ :‬كفوا‪ .‬لنكف‪.‬‬ ‫‪ 2‬جعل هنا‪ :‬بمعنى‪ :‬صير؛ لنه ناصب لمفعولين الرض فراشا‪ ،‬ويكون فعل جعل بمعنى‪ :‬خلق‪،‬‬ ‫نحو‪ :‬ما جعل ال من بحيرة‪.‬‬ ‫‪ 3‬وتجمع الثمرة على ثمر كشجر‪ ،‬وثمر كخشب‪.‬‬

‫‪ 4‬أندادا‪ :‬جمع ند بكسر النون‪ ،‬بمعنى الكفء والمثيل‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬الشريك ل في عبادته‪،‬‬ ‫وقول الرسول صلى ال عليه وسلم في الصحيح وقد سأله ابن مسعود عن أعظم الذنب‪" :‬أن تجعل‬ ‫ل ندا وهو خلقك" ‪ ،‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬للذي قال‪ :‬ما شاء ال وشئت‪" .‬أجعلتني ل ندا‪،‬‬ ‫قل‪ :‬ما شاء ال وحده" ‪ .‬رواه النسائي وغيره‪ .‬والند بفتح النون عود يتطيب به‪ ،‬وند البعير إذا‬ ‫هرب وفر‪ ،‬وندت بفلن شهره وسمع به‪.‬‬

‫( ‪)1/32‬‬ ‫أندادا ‪ :‬جمع ندّ‪ :‬النظير والمثيل تعبدونه دون ال أو مع ال تضادون به الرب تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫المناسبة ومعنى اليتين‪:‬‬ ‫وجه المناسبة‪ :‬أنه تعالى لما ذكر المؤمنين المفلحين والكافرين الخاسرين ذكر المنافقين وهم بين‬ ‫المؤمنين الصادقين والكافرين الخاسرين‪ ،‬ثم على طريقة اللتفات نادى الجميع بعنوان الناس‬ ‫ليكون نداء عاما للبشرية جمعاء في كل مكان وزمان وأمرهم بعبادته ليقوا أنفسهم من الخسران‪.‬‬ ‫معرفا لهم نفسه ليعرفوه بصفات الجلل والكمال فيكون ذلك أدعى لستجابتهم له فيعبدونه عبادة‬ ‫تنجيهم من عذابه وتكسبهم رضاه وجنته‪ ،‬وختم نداءه لهم بتنبيههم عن اتخاذ شركاء له يعبدونهم‬ ‫معه مع علمهم ‪ 1‬أنهم ل يستحقون العبادة لعجزهم عن نفعهم أو ضرهم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب عبادة ال تعالى‪ ،‬إذ هي ‪ 2‬علة الحياة كلها‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب معرفة ‪ 3‬ال تعالى بأسمائه وصفاته‪.‬‬ ‫‪ -3‬تحريم الشرك صغيره وكبيره ظاهره وخفيه‪.‬‬ ‫شهَدَا َء ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ‬ ‫{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ ِممّا نَزّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مّنْ مِثِْل ِه وَادْعُوا ‪ُ 4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أثبت لهم العلم الخاص بهم‪ ،‬وهو علمهم بأن ال هو الخالق الرازق المحي المميت‪ .‬إذا كانوا‬ ‫يعلمون ذلك ويعترفون به كما أنه لما عرفهم بنفسه في السياق إذ قال‪ { :‬الّذِي خََلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ‬ ‫ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ فِرَاشا} إلخ‪ .‬فلما عرفوا نهاهم عن اتخاذهم أندادا له يعبدونهم معه‪،‬‬ ‫قَبِْلكُمْ‪ ...‬الّذِي َ‬ ‫والحال إنهم يعلمون أنه وحده المستحق للعبادة‪.‬‬ ‫‪ 2‬لما روي عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬يقول ال تعالى‪" :‬يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء‬ ‫ن وَالِنْسَ إِل‬ ‫من أجلك وخلقتك من أجلي" ‪ ،‬أي لعبادته تعالى‪ ،‬وفي القرآن الكريم‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِ ّ‬ ‫لِ َيعْبُدُونِ}‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذ معرفة ال تعالى بأسمائه وصفاته يتوقف عليها خشيته ومحبته لقوله تعالى‪{ :‬إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ‬

‫مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاء} وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب عقل وشرعا‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي ادعوهم لمرين‪ :‬الول‪ :‬ليعينوكم على التيان بالمطلوب‪ .‬والثاني‪ :‬ليحضروا إتيانكم‬ ‫ويشاهدوه فيشهدون لكم بذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/33‬‬ ‫حجَا َرةُ أُعِ ّدتْ‬ ‫س وَالْ ِ‬ ‫إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪ )23‬فَإِنْ َلمْ َت ْفعَلُوا وَلَنْ َت ْفعَلُوا فَا ّتقُوا النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ‬ ‫لِ ْلكَافِرِينَ(‪})24‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الريب ‪ :‬الشك مع اضطراب النفس وقلقها‪.‬‬ ‫{عَ ْبدِنَا ‪ : }1‬محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{مّنْ مِثْلِهِ} ‪ :‬مثل القرآن ومثل محمد في أميته‪.‬‬ ‫ش َهدَا َءكُمْ} ‪ :‬أنصاركم‪ .‬وآلهتكم التي تدعون أنها تشهد لكم عند ال وتشفع‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫{ َوقُودُهَا} ‪ :‬ما تتقد به وتشتعل وهو‪ :‬الكفار والصنام المعبودة مع ال عز وجل‪.‬‬ ‫ع ّدتْ} ‪ :‬هيئت وأحضرت‪.‬‬ ‫{أُ ِ‬ ‫{لِ ْلكَافِرِينَ} ‪ :‬الجاحدين لحق ال تعالى في العبادة له وحده المكذبين برسوله وشرعه‪.‬‬ ‫مناسبة الية ومعناها‪:‬‬ ‫لما قرر تعالى في الية السابقة أصل الدين وهو‪ :‬التوحيد الذي هو عبادة ال تعالى وحده قرر في‬ ‫هذه الية أصل الدين الثاني وهو‪ :‬نبوة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذلك من طريق‬ ‫برهاني وهو‪ :‬إن كنتم في شك من القرآن الذي أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فأتوا بسورة من‬ ‫مثل سوره أو من رجل أمي مثل عبدنا في أميته‪ ،‬فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار‬ ‫باليمان بالوحي اللهي وعبادة ال تعالى بما شرع فيه‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير نبوة رسول ال صلى ال عليه وسلم بإثبات نزول القرآن عليه‪.‬‬ ‫‪ -2‬تأكد عجز البشر عن التيان بسورة مثل سور القرآن الكريم لمرور ألف سنة وأربعمائة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اسم العبد مأخوذ من التعبد والتذلل‪ :‬لن المملوك يذل مالكه بالخدمة ويعبده بكثرة استخدامه‪.‬‬ ‫ولما كانت عبادة ال أشرف الخصال كان التسمية بها أشرف السماء‪ ،‬فلذا سمى ال تعالى رسوله‬ ‫محمدا عبدا كما في هذه الية وآية السراء وأنشدوا لهذا قول الشاعر‪:‬‬ ‫يا قوم قلبي عند زهراء ‪ ...‬يعرفه السامع والرائي‬

‫ل تدعني إل بيا عبدها ‪...‬‬ ‫لنه أشرف أسمائي‬

‫( ‪)1/34‬‬ ‫وست سنين والتحدي قائم ولم يأتوا بسورة مثل سور القرآن‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وَلَنْ َت ْفعَلُوا} ‪.‬‬ ‫‪ -3‬النار تتقى باليمان والعمل الصالح‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬اتقوا النار ولو بشق تمرة" ‪.1‬‬ ‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أَنّ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ كُّلمَا رُ ِزقُوا مِ ْنهَا‬ ‫{وَبَشّرِ‪ 2‬الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫طهّ َرةٌ وَهُمْ فِيهَا‬ ‫ل وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِها وََلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ ُم َ‬ ‫مِنْ َثمَ َرةٍ رِزْقا قَالُوا هَذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِنْ قَ ْب ُ‬ ‫خَاِلدُونَ(‪})25‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَبَشّرِ ‪ : }3‬التبشير‪ :‬الخبار السار‪ ،‬وذلك يكون بالمحبوب للنفس‪.‬‬ ‫{ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ} ‪ :‬تجري النهار من خلل أشجارها وقصورها والنهار هي‪ :‬أنهار‬ ‫الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل ‪.4‬‬ ‫{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِها} ‪ :‬أعطوا الثمار وقُدم لهم يشبه بعضه بعضا في اللون مختلف في الطعم‪.‬‬ ‫طهّ َرةٌ} ‪ :‬من دم الحيض ‪ 5‬والنفاس وسائر المعائب والنقائص‪.‬‬ ‫{مُ َ‬ ‫{خَالِدُونَ} ‪ :‬باقون فيها ل يخرجون منها أبدا‪.‬‬ ‫المناسبة والمعنى‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى النار وأهلها ناسب أن يذكر الجنة وأهلها ليتم الترهيب والترغيب وهما أداة الهداية‬ ‫والصلح‪.‬‬ ‫في هذه الية الكريمة أمر ال تعالى رسوله أن يبشر المؤمنين المستقيمين بما رزقهم من جنات‬ ‫تجري من تحتها النهار ‪ 6‬لهم فيها أزواج مطهرات نقيات من كل أذى وقذر وهم فيها‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا من باب ذكر الترغيب بعد الترهيب وعطفه عليه‪ ،‬فقد أنذر الكافرين وواعد المؤمنين ليكون‬ ‫ذلك مثبطا عن العمال الفاسدة منشطا على العمال الصالحة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ويطلق لفظ التبشير على الخبر المحزن غير السار تهكما بصاحبه نحو قوله تعالى‪{ :‬فَ َبشّرْهُمْ‬ ‫ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ} ‪.‬‬ ‫‪ 4‬المذكورة في آية سورة القتال‪.‬‬ ‫‪ 5‬وكذا البول والغائط‪.‬‬ ‫‪ 6‬أي من تحت أشجارها‪ ،‬وإن لم يجر للشجار ذكر؛ لن الجنات دالة عليها‪.‬‬

‫( ‪)1/35‬‬ ‫خالدون‪ .‬كما أخبر عنهم بأنهم إذا قُدم لهم أنواع الثمار المختلفة قالوا هذا الذي رزقنا مثله في‬ ‫الدنيا‪ .‬كما أخبر تعالى أنهم أوتوه متشابها في اللون غير متشابه في الطعم زيادة في حسنه‬ ‫وكماله‪ .‬وعظيم اللتذاذ به‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل اليمان والعمل الصالح إذ بهما ‪ 1‬كان النعيم المذكور في الية لصحابهما‪.‬‬ ‫‪ -2‬تشويق المؤمنين إلى دار السلم ‪ ،2‬وما فيها من نعيم مقيم ليزدادوا رغبة فيها وعملً لها‪.‬‬ ‫بفعل الخيرات وترك المنكرات‪.‬‬ ‫{إِنّ اللّهَ ل يَسْ َتحْيِي أَنْ َيضْ ِربَ مَثَلً مَا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ‬ ‫ضلّ‬ ‫ضلّ بِهِ كَثِيرا وَ َيهْدِي ِبهِ كَثِيرا َومَا ُي ِ‬ ‫رَ ّبهِ ْم وََأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَ َيقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَلً ُي ِ‬ ‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‬ ‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مِيثَاقِ ِه وَ َيقْ َ‬ ‫سقِينَ(‪ )26‬الّذِينَ يَ ْن ُقضُونَ َ‬ ‫بِهِ إِل ا ْلفَا ِ‬ ‫سدُونَ فِي الَ ْرضِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(‪})27‬‬ ‫وَيُفْ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل يستحيي ‪ : }3‬ل يمنعه الحياء ‪ 4‬من ضرب المثال‪ ،‬وإن صغرت؛ كالبعوضة‪ ،‬أو أصغر منها؛‬ ‫كجناحها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بعد فضل ال تعالى ورحمته‪.‬‬ ‫‪ 2‬سميت دار السلم‪ :‬لسلمتها من وجود المنغصات فيها‪ ،‬إذ ل مرض ول هرم ول ألم ول تعب‬ ‫بها أبدا‪.‬‬ ‫‪ 3‬ل يستحيي‪ :‬بياءين‪ ،‬ويتسحي‪ :‬بياء واحدة‪ ،‬هما قراءتان سبعيتان‪ ،‬والخيرة على لغة تميم‪،‬‬ ‫واسم الفاعل من الولى مستحي‪ ،‬ومن الثانية‪ ،‬مستح‪.‬‬ ‫‪ 4‬الحياء‪ :‬تغير وانكسار يعتري النسان عند الخوف مما يعاب به أو يذمه‪ ،‬وال يوصف بالحياء‬ ‫على الوجه اللئق به‪ ،‬فصفة الحياء عنده تعالى ل تشبه صفات المحدثين كسائر صفاته سبحانه‬ ‫وتعالى‪ ،‬والستحياء والحياء بمعنى واحد‪ ،‬وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي‪،‬‬ ‫يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن ال حيي كريم يستحي أن يرفع العبد إليه العبد يديه‬ ‫فيردهما صفرا" ‪ ،‬فقد أثبت صفة الحياء ل عز وجل‪ ،‬وهو قطعا حياء واستحياء ل يشبه حياء‪،‬‬ ‫واستحياء البشر بحال من الحوال‪.‬‬

‫( ‪)1/36‬‬

‫{أَنْ َيضْ ِربَ مَثَلً} ‪ :‬أن يجعل شيئا مثلً لخر يكشف عن صفته وحاله في القبح أو الحسن‪.‬‬ ‫{مَا َبعُوضَةً} ‪ :‬ما‪ :‬نكرة بمعنى‪ :‬شيء‪ .‬أي شيء كان يجعله مثلً‪ ،‬أو زائدة‪ .‬وبعوضة المفعول‬ ‫الثاني‪ .‬والبعوضة‪ :‬واحدة البعوض‪ ،‬وهو صغار البق‪.‬‬ ‫{ا ْلحَقّ} ‪ :‬الواجب الثبوت الذي يحيل العقل عدم وجوده‪.‬‬ ‫سقِينَ} ‪ :‬الفسق الخروج عن الطاعة‪ ،‬والفاسقون‪ :‬هم التاركون لمر ال تعالى باليمان والعمل‬ ‫{ا ْلفَا ِ‬ ‫الصالح‪ ،‬وبترك الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫{يَ ْن ُقضُونَ} ‪ :‬النقض‪ :‬الحل بعد البرام‪.‬‬ ‫عهْدَ اللّهِ} ‪ :‬ما عهد به إلى الناس من اليمان والطاعة له ولرسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ} ‪ :‬من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الشهاد عليه‪.‬‬ ‫صلَ} ‪ :‬من إدامة اليمان والتوحيد والطاعة وصلة الرحام‪.‬‬ ‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ ِبهِ أَنْ يُو َ‬ ‫{وَ َيقْ َ‬ ‫{وَ ُيفْسِدُونَ فِي الَرْضِ} ‪ :‬الفساد في الرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي‪.‬‬ ‫{ا ْلخَاسِرُونَ} ‪ :‬الكاملون في الخسران بحيث يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‪.‬‬ ‫سبب النزول والمعاني‪:‬‬ ‫لما ضرب ال تعالى المثلين السابقين الناري والمائي ‪ 1‬قال المنافقون‪ :‬ال أعلى وأجل أن يضرب‬ ‫هذا المثل‪ .‬فأنزل ال تعالى ردا عليهم قوله {إِنّ اللّهَ ل َيسْتَحْيِي} الية‪.‬‬ ‫ل بعوضة ‪ 2‬فما دونها ‪ 3‬فضلً عما هو أكبر ‪.4‬‬ ‫فأخبر تعالى أنه ل يمنعه الستحياء أن يجعل مث ً‬ ‫وإن الناس حيال ما يضرب ال من أمثال‪ ،‬قسمان‪ :‬مؤمنون‪ :‬فيعلمون أنه الحق من ربهم‪.‬‬ ‫وكافرون‪ :‬فينكرونها‪ ،‬ويقولون؛ كالمعترضين‪ :‬ماذا أراد ال بهذا مثلً!؟‪.‬‬ ‫كما أخبر تعالى أن ما يضرب من مثل يهدي به كثيرا من الناس ويضل به كثيرا‪ ،‬وأنه ل يضل‬ ‫عهْدَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مِيثَاقِهِ‬ ‫به إل الفاسقين الذين وصفهم بقوله‪{ :‬الّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أورده ابن جرير وارتضاه‪.‬‬ ‫‪ 2‬في قوله‪ :‬ما بعوضة إعرابات كثيرة ل طائل تحتها فنصب بعوضة على إنها بدل من ما النكرة‬ ‫التي هي في محل نصب فعل يضرب بمعنى يجعل‪ .‬ورفع بعوضة على إنها خبر‪ ،‬والمبتدأ هو‪:‬‬ ‫ما على إنها موصولة والتقدير‪ :‬الذي هو بعوضة‪.‬‬ ‫‪ 3‬كالذرة‪.‬‬ ‫‪ 4‬كالفراشة والجرادة‪.‬‬

‫( ‪)1/37‬‬

‫ل وَ ُيفْسِدُونَ فِي الَ ْرضِ} ‪ .‬وحكم عليهم بالخسران التام يوم‬ ‫طعُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَ َ‬ ‫وَيَقْ َ‬ ‫القيامة فقال‪{ :‬أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين ما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن الحياء ل ينبغي أن يمنع فعل المعروف وقوله والمر به‪.‬‬ ‫‪ -2‬يستحسن ضرب المثال لتقريب المعاني إلى الذهان‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا أنزل ال خبرا من هدى وغيره‪ ،‬يزداد به المؤمنون هدى وخيرا‪ ،‬ويزداد به الكافرون‬ ‫ضللً وشرا‪ ،‬وذلك لستعداد الفريقين النفسي المختلف ‪.1‬‬ ‫‪ -4‬التحذير من الفسق ‪ 2‬وما يستتبعه من نقض العهد‪ ،‬وقطع الخير‪ ،‬ومنع المعروف‪.‬‬ ‫جعُونَ(‪ُ )28‬هوَ الّذِي خََلقَ‬ ‫{كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتا فََأحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَ ْيهِ تُرْ َ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪})29‬‬ ‫ت وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬ ‫سمَاوَا ٍ‬ ‫سوّاهُنّ سَبْعَ َ‬ ‫سمَاءِ فَ َ‬ ‫جمِيعا ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬ ‫َلكُمْ مَا فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كَ ْيفَ ‪َ 3‬ت ْكفُرُونَ بِاللّهِ} ‪ :‬الستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ‪ ،‬لعدم وجود مقتض للكفر‪.‬‬ ‫{ َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتا فَأَحْيَا ُكمْ} ‪ :‬هذا برهان على بطلن كفرهم‪ ،‬إذ كيف يكفر العبد ربه وهو الذي خلقه‬ ‫بعد أن لم يك شيئا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذا المؤمنين مستعدون للخير والكافرون مستعدون للشر‪.‬‬ ‫‪ 2‬الفسق‪ :‬الخروج عن طاعة ال ورسوله‪ ،‬فإن كان الخروج على الطاعة في أصول الدين‬ ‫فصاحبه كافر‪ ،‬وإن كان في الفروع فل يكفر صاحبه‪ ،‬ول يقال‪ :‬الفاسق إل للذي أكثر من الفسق‬ ‫فأصبح الفسق لزما له ل ينفك عنه لكثرته منه وتوغله فيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬اسم استفهام مبني على الفتح يسأل به عن الحال ويضمن معنى التعجب كما هنا‪ ،‬إذ كيف يصح‬ ‫من العاقل أن ينكر خالقه وهو يعرف أنه مخلوق إذ كان عدما فأوجده‪.‬‬

‫( ‪)1/38‬‬ ‫{ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ} ‪ :‬إن إماتة الحي وإحياء الميت كلهما دال على وجود الرب تعالى وقدرته‪.‬‬ ‫جعُونَ} ‪ :‬يريد بعد الحياة الثانية وهو البعث الخر‪.‬‬ ‫{ ُثمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ‬ ‫جمِيعا} ‪ :‬أي أوجد ما أوجده من خيرات الرض كل ذلك لجلكم كي‬ ‫{خَلَقَ َل ُكمْ ‪ 1‬مَا فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫تنتفعوا به في حياتكم‪.‬‬ ‫سمَاءِ} ‪ :‬عل وارتفع قهرا لها فكونها سبع سماوات‪.‬‬ ‫{ ُثمّ اسْ َتوَى ‪ِ 2‬إلَى ال ّ‬ ‫سوّاهُنّ} أتم خلقهن سبع سماوات تامات‪.‬‬ ‫{فَ َ‬

‫علِيمٌ} ‪ :‬إخبار بإحاطة علمه تعالى بكل شيء‪ ،‬وتدليل على قدرته وعلمه‬ ‫شيْءٍ َ‬ ‫{وَ ُهوَ ‪ِ 3‬ب ُكلّ َ‬ ‫ووجوب عبادته‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال الخطاب مع الكافرين الذين سبق وصفهم بأخس الصفات وأسوأ الحوال‪ ،‬حيث قال لهم‬ ‫على طريقة اللتفات موبخا مقرعا‪{ :‬كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتا فََأحْيَاكُمْ} الية‪.‬‬ ‫وذكر من أدلة وجوده وكرمه‪ .‬ما يصبح الكفر به من أقبح المور وصاحبه من أحط الخلئق‬ ‫وأسوأهم حالً ومآلً‪ .‬فمن أدلة وجوده الحياء بعد الموت والماتة بعد الحياء‪ .‬ومن أدلة كرمه‬ ‫وقدرته أن خلق الناس في الرض جميعا لتوقف حياتهم عليه وخلق السموات السبع‪ ،‬وهو مع ذلك‬ ‫كله محيط بكل شيء سبحانه ل إله إل هو ول رب سواه‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬إنكار الكفر بال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬إقامة البرهان على وجود ال وقدرته ورحمته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث‪ " :‬يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي‪ :‬أي‪ :‬من أجل أن تذكرني‬ ‫وتشكرني" فعلة الحياة ذكر ال تعالى وشكره‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذهب ابن كثير إلى أن استوى هنا مضمن معنى قصد لتعديته بإلى‪ :‬إذ يقال استوى على كذا‪،‬‬ ‫إذا كان بمعنى العلو والرتفاع‪ ،‬واستوى إلى كذا‪ ،‬إذا قصده‪ ،‬ويكون المعنى‪ :‬ثم قصد إلى السماء‪،‬‬ ‫أي السموات فخلقهن سبع سموات‪ ،‬ولفظ‪ :‬السماء اسم جنس تحته أفراد لذا قال‪ :‬فسواهن بالجمع‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرئ في السبع بفتح الهاء‪ :‬من فهو‪ ،‬وقرئ بإسكانها وهذا عام في كل لفظ‪ ،‬إذا تقدمه واو أو فاء‬ ‫عطف‪ .‬أدخلت عليه اللم نحو‪ :‬وهو كذا وهذا التسكين للتخفيف‪.‬‬

‫( ‪)1/39‬‬ ‫‪ -3‬حلّية كل ‪ 1‬ما في الرض من مطاعم ومشارب وملبس ومراكب إل ما حرمه الدليل الخاص‬ ‫جمِيعا} ‪.‬‬ ‫من الكتاب أو السنة لقوله‪{ :‬خََلقَ‪َ 2‬ل ُكمْ مَا فِي الَرْضِ َ‬ ‫س ِفكُ‬ ‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ‬ ‫علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً قَالُوا ‪ 3‬أَتَ ْ‬ ‫{وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ إِنّي جَا ِ‬ ‫ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا ل َتعَْلمُونَ(‪})30‬‬ ‫حمْ ِد َ‬ ‫ال ّدمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ ِب َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{لِ ْلمَل ِئكَةِ} ‪ :‬جمع ملك ويخفف فيقال ملك‪ ،‬وهم خلق من عالم الغيب أخبر النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم أن ال تعالى خلقهم من نور ‪.4‬‬

‫{الخليفة ‪ : }5‬من يخلف غيره‪ ،‬والمراد به هنا آدم عليه السلم‪.‬‬ ‫{ ُيفْسِدُ فِيهَا} ‪ :‬الفساد في الرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي‪.‬‬ ‫س ِفكُ ‪ : }6‬يسيل الدماء بالقتل والجرح‪.‬‬ ‫{وَيَ ْ‬ ‫حمْ ِدكَ} ‪ :‬نقول سبحان ال وبحمده‪ .‬والتسبيح‪ :‬التنزيه عما ل يليق بال تعالى‪.‬‬ ‫{نُسَبّحُ بِ َ‬ ‫{وَ ُنقَدّسُ َلكَ} ‪ :‬فننزهك عما ل يليق بك‪ .‬والتقديس‪ :‬التطهير والبعد عما ل ينبغي‪ .‬واللم في لك‬ ‫زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدّسَه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذهب بعضهم إلى أن الصل في الشياء الحظر حتى يأتي دليل الباحة؛ لن المملوكات ل تحل‬ ‫إل بإذن مالكها‪ ،‬فهذا مذهب ثان‪ ،‬حسن ذكره‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي خلق لكم ما في الرض جميعا من أجل تتقوا به على طاعته ل على معصيته‪.‬‬ ‫‪ 3‬المفروض أن يقترن‪( :‬قالوا) بالفاء ولكن نظرا إلى أسلوب الحوار لم يقترن بها كما في قوله‪:‬‬ ‫{قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ} ‪.‬‬ ‫‪ 4‬خلق الملئكة من النور‪ ،‬صح عن النبي صلى ال عليه وسلم في صحيح مسلم‪.‬‬ ‫‪ 5‬استدل بهذه الية على وجوب نصب خليفة للمسلمين يحكمهم بشريعة ربهم عز وجل‪.‬‬ ‫‪ 6‬السفك‪ :‬الصب‪ :‬يقال‪ :‬سفك الدم إذا صبه‪ ،‬كما يقال‪ :‬سفحه‪ .‬والسفاك والسفاح بمعنى إل أن‬ ‫السفاح قد يراد به كثير الكلم‪ ،‬وسفك الدمع كذلك‪ ،‬والدم المسفوح‪ ،‬المصبوب‪.‬‬

‫( ‪)1/40‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫يأمر تعالى رسوله أن يذكر قوله للملئكة إني جاعل في الرض خليفة يخلفه في إجراء أحكامه‬ ‫في الرض‪ ،‬وإن الملئكة تساءلت ‪ 1‬متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد‬ ‫في الرض بالكفر والمعاصي قياسا على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه‪ .‬فأعلمهم ربهم أنه‬ ‫يعلم من الحكم والمصالح ما ل يعلمون‪.‬‬ ‫والمراد من هذا التذكير‪ :‬المزيد من ذكر الدلة الدالة على وجود ال تعالى وقدرته وعلمه وحكمته‬ ‫الموجبة لليمان به تعالى ولعبادته دون غيره‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬سؤال من ل يعلم غيره ممن يعلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف‪.‬‬ ‫‪ -3‬معرفة بدء الخلق‪.‬‬

‫‪ -4‬شرف آدم وفضله‪.‬‬ ‫سمَاءِ َهؤُلءِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ(‬ ‫ضهُمْ عَلَى ا ْلمَل ِئكَةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَ ْ‬ ‫سمَاءَ كُّلهَا ُثمّ عَ َر َ‬ ‫{وَعَلّمَ آ َد َم الَ ْ‬ ‫سمَا ِئهِمْ‬ ‫حكِيمُ(‪ )32‬قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِ ْئهُمْ بِأَ ْ‬ ‫‪ )31‬قَالُوا سُ ْبحَا َنكَ ل عِ ْلمَ لَنَا إِل مَا عَّلمْتَنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬ ‫ن َومَا كُنْتُمْ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُو َ‬ ‫سمَا ِئهِمْ قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬ ‫فََلمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَ ْ‬ ‫َتكْ ُتمُونَ(‪})33‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ هو سؤال استعلم واستكشاف عن الحكمة في ذلك‪ ،‬وليس هو من باب العتراض على ال‬ ‫أبدا‪.‬‬

‫( ‪)1/41‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آدَمَ ‪ : }1‬نبي ال أبو البشر عليه السلم‪.‬‬ ‫سمَاءَ} أسماء الجناس كلها؛ كالماء والنبات والحيوان والنسان‪.‬‬ ‫{الَ ْ‬ ‫ضهُمْ} ‪ :‬عرض المسميات أمامهم‪ ،‬ولما كان بينهم العقلء غلب جانبهم‪ ،‬وإل لقال عرضها‪.‬‬ ‫{عَ َر َ‬ ‫{أَنْبِئُونِي} ‪ :‬أخبروني‪.‬‬ ‫{ َهؤُلءِ}‪ :‬المعرضين عليهم من سائر المخلوقات‪.‬‬ ‫{سُ ْبحَا َنكَ‪ :}2‬تنزيها لك وتقديسا‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ} ‪ :‬ما غاب عن النظار في السموات والرض‪.‬‬ ‫{غَ ْيبَ ال ّ‬ ‫ج َعلُ فِيهَا مَنْ ُيفْسِدُ فِيهَا} الية‪.‬‬ ‫{تُ ْبدُونَ} تظهرون من قولهم‪{ :‬أَ َت ْ‬ ‫{ َتكْ ُتمُونَ} ‪ :‬تبطنون وتخفون‪ ،‬يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر ال تعالى وعدم طاعته‪.‬‬ ‫حكِيمُ ‪ : }3‬الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه‪ ،‬ول يفعل ول يترك إل لحكمة‪.‬‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى في معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه أنه علم آدم‬ ‫أسماء الموجودات ‪ 4‬كلها‪ ،‬ثم عرض الموجودات على الملئكة وقال أنبوئني بأسماء هؤلء إن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هل آدم مشتق من الدمة التي هي حمرة تضرب إلى بياض‪ ،‬أو هو اسم جامد أعجمي؛ كآزر‪،‬‬ ‫وعابر‪ ،‬ذهب إلى كل وجه قوم‪.‬‬ ‫‪ 2‬سبحان‪ :‬اسم مصدر فعله سبح مضعفا‪ .‬اختص بتنزيه ال تعالى فكان بذلك اسم تسبيح؛ كالعلم‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحكيم‪ :‬ذو الحكمة‪ ،‬وهو الذي ل يصدر عنه قول ول فعل خال من حكمة اقتضته‪ .‬والحكيم‬

‫مشتق من أحكم الشيء إذا أتقنه وخلصه من الخلل والفساد‪ ،‬ومنه حكمة الدابة‪ :‬وهي حديدة تجعل‬ ‫في فمها تمنعها من اختلف سيرها‪ ،‬ويقال‪ :‬أحكم فلنا‪ :‬أي أمنعه من فعل كذا‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫أبني حنيفة احكموا سفهائكم ‪ ...‬إني أخاف عليكم أن أغضبا‬ ‫‪ 4‬ليس في المسألة ما يدعو إلى الستغراب أو النكار إذ كتاب المقادير في أسماء الموجودات‬ ‫كلها‪ ،‬وكذا سائر صفاتها وأحوالها‪ ،‬والعرض التلفازي اليوم يسهل على المرء إدراك كيفية عرض‬ ‫ال تعالى الموجودات أمام الملئكة‪ .‬وذكر آدم لسمائها كما علمها بتعليم ال تعالى له‪.‬‬

‫( ‪)1/42‬‬ ‫كنتم صادقين في دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك‪ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫عّلمْتَنَا} ‪ ،‬ثم قال تعالى لدم‪ :‬أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة‬ ‫{سُ ْبحَا َنكَ ل عِلْمَ لَنَا إِل مَا َ‬ ‫فأنبأهم بأسمائهم واحدا واحدا حتى القصعة‪ ،‬والقُصَيْعة‪ ..‬وهنا ظهر شرف آدم عليهم‪ ،‬وعتب‬ ‫ن َومَا كُنْتُمْ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ وَأَعَْلمُ مَا تُبْدُو َ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫عليهم ربهم بقوله‪{ :‬أَلَمْ َأ ُقلْ َل ُكمْ إِنّي أَعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬ ‫َتكْ ُتمُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان قدرة ال تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها‪.‬‬ ‫‪ -2‬شرف العلم وفضل العالم ‪ 1‬على الجاهل‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة العتراف ‪ 2‬بالعجز والقصور‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها‪.‬‬ ‫جدُوا إِل إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ‪})34(3‬‬ ‫سجُدُوا ل َدمَ فَسَ َ‬ ‫{وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{اسْجُدُوا} ‪ :‬السجود ‪ :4‬هو وضع الجبهة والنف على الرض‪ ،‬وقد يكون بانحناء الرأس دون‬ ‫وضعه على الرض لكن مع تذلل وخضوع‪.‬‬ ‫{إِبْلِيسَ} ‪ :‬قيل كان اسمه الحارث‪ ،‬ولما تكبر عن طاعة ال أبلسه ال أي‪ :‬أيأسه من كل خير‬ ‫ومسخه شيطانا‪.‬‬ ‫{أَبَى} ‪ :‬امتنع ورفض السجود لدم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يشهد لهذا حديث أبي داود إذ فيه‪" :‬وإن الملئكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬دل على هذا قولهم‪ :‬ل علم لنا إل ما علمتنا‪ ،‬ولذا قال العلماء‪ :‬الواجب على من سأل على ما ل‬ ‫يعلم أن يقول‪ :‬ال أعلم‪ ،‬وروي عن علي رضي ال عنه‪ ،‬قال‪" :‬ما أبردها على الكبد"!! فقل له‪:‬‬

‫وما ذاك؟ فقال‪" :‬أن يسأل الرجل عما ل يعلم فيقول‪ :‬ال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر القرطبي في تفسيره‪ :‬أن السجود الذي أمرت به الملئكة هو أن يسجدوا ل تعالى مستقبلين‬ ‫وجه آدم وعليه فهو كصلتنا خلف المقام‪ ،‬الصلة ل والستقبال للمقام‪.‬‬ ‫‪ 4‬أجمع أهل السلم قاطبة أن السجود ل يكون إل ل تعالى‪ .‬وفي الحديث‪" :‬ل ينبغي أن يسجد‬ ‫لحد إل ل رب العالمين"‪.‬‬

‫( ‪)1/43‬‬ ‫{وَاسْ َتكْبَرَ} ‪ :‬تعاظم في نفسه فمنعه الستكبار ‪ 1‬والحسد من الطاعة بالسجود لدم‪.‬‬ ‫{ا ْلكَافِرِينَ} ‪ :‬جمع كافر‪ .‬من كذب بال تعالى أو كذب بشيء من آياته أو بواحد من رسله أو أنكر‬ ‫طاعته‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫جدُوا ل َدمَ‪ }...‬سجود‬ ‫يذكر تعالى عباده بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله‪{ :‬وَِإذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْ ُ‬ ‫تحية وإكرام فسجدوا إل إبليس تعاظم في نفسه وامتنع عن السجود الذي هو طاعة ال‪ ،‬وتحية‬ ‫آدم‪ .‬تكبرا وحسدا لدم في شرفه فكان بامتناعه عن طاعة ال من الكافرين الفاسقين عن أمر ال‪.‬‬ ‫المر الذي استوجب ابلسه ‪ 2‬وطرده‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬التذكير بإفضال ال المر الذي يوجب الشكر ويرغب فيه‪.‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب إبلس الشيطان‪ ،‬وامتناع اليهود من قبول السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير عداوة إبليس‪ ،‬والتنبيه إلى أنه عدو تجب عداوته أبدا‪.‬‬ ‫‪ -4‬التنبيه إلى أن من المعاصي ما يكون ‪ 3‬كفرا أو يقود إلى الكفر‪.‬‬ ‫جكَ‪ 5‬الْجَنّةَ َوكُل مِ ْنهَا رَغَدا‬ ‫ت وَ َزوْ ُ‬ ‫سكُنْ‪ 4‬أَ ْن َ‬ ‫{ َوقُلْنَا يَا آدَمُ ا ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستكبار‪ :‬طلب الكبر في النفس وتصوره فيها‪ ،‬وفي صحيح مسلم‪" :‬أن ال ل يدخل الجنة من‬ ‫كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‪.‬‬ ‫‪ 2‬البلس‪ :‬اليأس من كل خير‪ ،‬وإبلس إبليس كان عقوبة له على كفره وكبره وحسده‪ ،‬وكان‬ ‫قبل إبلسه يقال له‪ :‬عزازيل‪ ،‬وبالعربية‪ :‬الحارث‪.‬‬ ‫‪ 3‬كترك الصلة وقتل المؤمن لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من ترك الصلة فقد كفر" ‪،‬‬ ‫وقوله‪" :‬سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ‪ .‬وقوله‪" :‬ل ترتدوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب‬ ‫بعض" ‪ .‬والكفر كفران‪ :‬كفر مخرج من الملة‪ ،‬وكفر نعمة ل يخرج منها‪ ،‬ولكن صاحبه إن لم‬

‫يتب منه وتقبل توبته يدخل النار به‪.‬‬ ‫جكَ الْجَنّةَ} بعد طرد إبليس منها‪ ،‬والمراد من السكن السكان‪ ،‬وهو‬ ‫ت وَ َزوْ ُ‬ ‫سكُنْ أَ ْن َ‬ ‫‪ 4‬قال‪{ :‬ا ْ‬ ‫القامة الطويلة ل السكون النفسي‪ ،‬وهدوء البال‪ ،‬وإن كان لزما للقامة الطيبة‪ ،‬ولفظ السكن‬ ‫مشعر بعدم القامة الدائمة‪ ،‬لن من سكن دار لبد وأن يرحل منها يوما من اليام‪.‬‬ ‫‪ 5‬لفظ الزوج يطلق على كل من الرجل وامرأته‪ ،‬لن كل واحد منهما صير الثاني زوجا له‪،‬‬ ‫ويقال للمرأة زوجة بالتاء كما في قول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬يا فلن هذه زوجتي فلنة"‬ ‫‪ .‬وذلك أمنا من اللبس‪ ،‬وغلط الفرزدق في قوله‪:‬‬ ‫وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ‪ ...‬كساعي إلى أسد الشرى يستبلها‬ ‫ول معنى لتغليطه وقد صح الحديث بلفظ زوجة‪.‬‬

‫( ‪)1/44‬‬ ‫ج ُهمَا‬ ‫حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَل َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ(‪ )35‬فَأَزَّل ُهمَا الشّيْطَانُ عَ ْنهَا ‪ 1‬فَأَخْ َر َ‬ ‫ِممّا كَانَا فِي ِه َوقُلْنَا اهْ ِبطُوا َب ْعضُكُمْ لِ َب ْعضٍ‪ 2‬عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ مُسْ َتقَرّ َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(‪)36‬‬ ‫فَتََلقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَ ْيهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ(‪})37‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{رَغَدا} ‪ :‬العيش الهني الواسع يقال له‪ :‬الرغد‪.‬‬ ‫{الشّجَ َرةَ} ‪ :‬شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرما أو نبيذا أو غيرهما وما دام ال تعالى‬ ‫لم يعين نوعها فل ينبغي السؤال عنها‪.‬‬ ‫{الظّاِلمِينَ} ‪ :‬لنفسهما بارتكاب ما نهى ال تعالى عنه‪.‬‬ ‫{فَأَزَّل ُهمَا} ‪ :‬أوقعهما في الزلل‪ ،‬وهو مخالفتهما لنهي ال تعالى لهما عن الكل من الشجرة‪.‬‬ ‫{مُسْ َتقَرّ} ‪ :‬المستقر‪ :‬مكان الستقرار والقامة‪.‬‬ ‫{إِلَى حِينٍ} ‪ :‬الحين‪ :‬الوقت مطلقا قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة‪.‬‬ ‫{فَتََلقّى ‪ 3‬آدَمُ} ‪ :‬أخذ آدم ما ألقى ال تعالى إليه من كلمات التوبة‪.‬‬ ‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}‪.‬‬ ‫{كَِلمَاتٍ} ‪ :‬هي قوله تعالى‪{ :‬رَبّنَا ظََلمْنَا أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ َلمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ‬ ‫{فَتَابَ عَلَيْهِ} ‪ :‬وفقه للتوبة فتاب ‪ 4‬وقبل توبته‪ ،‬لنه تعالى تواب رحيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عن‪ ،‬هنا‪ :‬هي كما في قوله تعالى‪{ :‬إِل عَنْ َموْعِ َدةٍ} بمعنى بسببها‪ ،‬أي أوقعهما في الزلل بسبب‬ ‫الكل من الشجرة التي زينها لهما فضمير عنها عائد إلى الشجرة‪.‬‬ ‫ع ُدوّ} تصح أن تكون حالً من ضمير {اهْبِطُوا} ويصح أن تكون مستأنفة‬ ‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬ ‫‪ 2‬جملة‪َ { :‬ب ْع ُ‬ ‫استئنافا ابتدائيا‪.‬‬

‫‪ 3‬لفظ‪" :‬فتلقى" مشعر بالكرام‪ ،‬والمسرة‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬وَتَتََلقّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ} ‪.‬‬ ‫‪ 4‬يتساءل البعض‪ :‬هل آدم ارتكب بأكله من الشجرة كبيرة‪ ،‬وهل يجوز في حق النبياء ارتكاب‬ ‫الكبائر؟؟‬ ‫والجواب‪ :‬أن آدم ما نبئ إل بعد أن هبط إلى الرض‪ ،‬إذ هي دار التكليف‪ .‬أما وهو في السماء‬ ‫فما كان قد نبئ بعد وأكله من الشجرة لم يترتب عليه عقاب أكثر من الخروج من الجنة؛ لنها‬ ‫ليست دار إقامة لمن يخالف فيها أمر ال تعالى‪ ،‬أما النبياء فل يجوز في حقهم ارتكاب الكبائر‬ ‫ول الصغائر لعصمة ال تعالى لهم؛ لنهم محل أسوة لغيرهم‪.‬‬

‫( ‪)1/45‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في الية الولى(‪ )35‬يخبر تعالى عن إكرامه لدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها‬ ‫ويأكلن من نعيمها ما شاءا إل شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها ‪ 1‬والكل من ثمرها حتى ل‬ ‫يكونا من الظالمين‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )36‬أخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الكل‬ ‫من الشجرة فأكل منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلً للبقاء في الجنة فأهبطا إلى الرض‬ ‫مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة‪.‬‬ ‫وفي الية الثالثة(‪ )37‬يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهو‪{ :‬رَبّنَا ظََلمْنَا‬ ‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ} فقالها توبة فتاب ال عليهما وهو التواب‬ ‫أَ ْنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ‬ ‫الرحيم‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬كرامة آدم وذريته على ربهم تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬شؤم المعصية وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة‪.‬‬ ‫‪ -3‬عداوة الشيطان للنسان ووجوب معرفة ذلك لتقاء وسوسوته‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التوبة ‪ 2‬من الذنب وهي الستغفار بعد العتراف بالذنب وتركه والندم على فعله‪.‬‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ(‬ ‫جمِيعا فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ مِنّي هُدىً َفمَنْ تَبِعَ ُهدَايَ فَل َ‬ ‫{قُلْنَا اهْبِطُوا مِ ْنهَا َ‬ ‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ(‪})39‬‬ ‫‪ )38‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذا كان الفعل قرب يقرب بالفتح فمعناه التلبس بالفعل‪ ،‬وإذا كان قرب بضم الراء فمعناه الدنو‬ ‫من الشيء‪ .‬هكذا يرى بعضهم‪.‬‬

‫‪ 2‬التوبة‪ :‬هي الرجوع من المخالفة إلى المتابعة‪ ،‬أي من المعصية إلى الطاعة‪ ،‬هذا حدها لغة‪ .‬إما‬ ‫شرعا‪ :‬فهي كما نص في الفائدة الرابعة من هذا التفسير‪.‬‬

‫( ‪)1/46‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫جمِيعا} ‪ :‬انزلوا من الجنة ‪ 1‬إلى الرض لتعيشوا فيها متعادين ‪.2‬‬ ‫{قُلْنَا اهْبِطُوا مِ ْنهَا َ‬ ‫{فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ ‪ 3‬مِنّي هُدىً} ‪ :‬إن يجيئكم من ربكم هدى‪ :‬شرع ضمنه كتاب وبينه رسول‪.‬‬ ‫{ َفمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} ‪ :‬أخذ ‪ 4‬بشرعي فلم يخالفه ولم يحد عنه‪.‬‬ ‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ} ‪ :‬جواب شرط فمن اتبع هداي‪ ،‬ومعناه إتباع الهدى يفضي‬ ‫{فَل َ‬ ‫بالعبد إلى أن ل يخاف ول يحزن ل في الدنيا ول في الخرة‪.‬‬ ‫{ َكفَرُوا َوكَذّبُوا} ‪ :‬كفروا‪ :‬جحدوا شرع ال‪ ،‬وكذبوا رسوله‪.‬‬ ‫{َأصْحَابُ النّارِ} ‪ :‬أهلها الذين ل يفارقونها بحث ل يخرجون منها‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أنه أمر آدم وحواء ‪ 5‬وإبليس بالهبوط إلى الرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكل‬ ‫من الشجرة‪ ،‬وأعلمهم أنه إن أتاهم منه هدى فاتبعوه ولم يحيدوا عنه يأمنوا ويسعدوا فلن يخافوا‬ ‫ولن يحزنوا‪ ،‬وتوعد من كفر به وكذب رسوله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا بالخلود ‪ 6‬في النار‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬المعصية تسبب الشقاء والحرمان‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذهب المعتزلة –أذهب ال ريحهم‪ -‬إلى أن الجنة التي هبطا منها آدم وحواء كانت بستانا في‬ ‫الرض في مرتفع منها‪ ،‬وهو قول باطل ل يسمع له ول يلتفت إليه‪ ،‬إذ كل سياق القرآن دال على‬ ‫إنها الجنة دار النعيم لولياء ال في الخرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬إبليس وذريته‪ ،‬وآدم وذريته‪ ،‬وكان هذا قبل أن يوجد لكل منهما ذرية‪ ،‬ثم أوجدت كما أخبر‬ ‫تعالى‪ ،‬وكانت العداوة على أشدها‪.‬‬ ‫‪ 3‬فإما‪ :‬أصلها فإن ما‪ ،‬فإن شرطية وأدخلت عليها ما الزائدة لتقوية الكلم وأدغمت فيها نون إن‬ ‫فصارت إما‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا عام في كل أجيال بني آدم فمن جاءه هدى ال بواسطة نبي وكتاب ال فأخذ به واتبعه نجا‬ ‫مما يصيب غيره من الخوف والحزن في الدنيا والخرة معا‪.‬‬ ‫‪ 5‬حواء‪ :‬لم تذكر باسمها في القرآن وإنما ذكرت بعنوان الزوج‪ ،‬ولكن ذكرت في السنة‬

‫الصحيحة‪ ،‬إنها خلقت من ضلع آدم عليه السلم‪ ،‬والسر في عدم ذكرها باسمها‪ :‬إن المروءة تأبى‬ ‫على صاحبها ذكر المرأة باسمها فلذا تذكر النساء تابعات لخطاب الرجال‪.‬‬ ‫‪ 6‬روى مسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬إما أهل النار الذين هم أهلها فل يموتون فيها‬ ‫ول يحيون‪ ،‬ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأصابتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذنت‬ ‫الشفاعة"‪ ،‬ومعناه يخرجون من النار بالشفاعة لهم‪.‬‬

‫( ‪)1/47‬‬ ‫‪ -2‬العمل بكتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم يسبب المن والسعاد والعراض عنهما‬ ‫يسبب الخوف والحزن والشقاء والحرمان‪.‬‬ ‫‪ -3‬الكفر والتكذيب جزاء صاحبهما الخلود في النار‪.‬‬ ‫{يَا بَنِي إِسْرائيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَتِيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َعهْ ِدكُ ْم وَإِيّايَ فَارْهَبُون(‬ ‫‪ )40‬وَآمِنُوا ِبمَا أَنْزَ ْلتُ ُمصَدّقا ِلمَا َم َعكُ ْم وَل َتكُونُوا َأ ّولَ كَافِرٍ ِب ِه وَل تَشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنا قَلِيلً‬ ‫ق وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ(‪ )42‬وََأقِيمُوا الصّلةَ‬ ‫ل وَ َتكْ ُتمُوا ا ْلحَ ّ‬ ‫طِ‬ ‫وَإِيّايَ فَا ّتقُون(‪ )41‬وَل تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬ ‫وَآتُوا ال ّزكَا َة وَا ْر َكعُوا مَعَ الرّا ِكعِينَ(‪})43‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بنو ‪ 1‬إسرائيل ‪ :‬إسرائيل‪ :‬هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلم وبنوه هم‪ :‬اليهود؛ لنهم‬ ‫يعودون في أصولهم إلى أولد يعقوب الثنى عشر ‪2‬‬ ‫النعمة ‪ :‬النعمة هنا اسم جنس بمعنى النعم‪ ،‬ونعم ال تعالى على بني إسرائيل كثيرة ‪ 3‬ستمر‬ ‫أفرادها في اليات القرآنية التية‪.‬‬ ‫{وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِي} ‪ :‬الوفاء بالعهد‪ :‬إتمامه‪ ،‬وعهد ال عليهم أن يبينوا أمر محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫ويؤمنوا به‪.‬‬ ‫{أُوفِ ِب َعهْ ِدكُمْ} ‪ :‬أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم في الدنيا وعزكم فيها‪.‬‬ ‫{وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} ‪ :‬اخشوني ول تخشوا غيري‪.‬‬ ‫{وَآمِنُوا ِبمَا أَنْزَ ْلتُ} ‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫{وَل تَشْتَرُوا ‪ 4‬بِآيَاتِي} ‪ :‬ل تعتاضوا على بيان الحق في أمر محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هم يوسف عليه السلم وأخوته يهوذا‪ ،‬وبنيامين‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬ ‫‪ 2‬بنو‪ :‬حمع ابن ‪ ،‬وقيل عن الولد‪ :‬البن من البناء‪ ،‬لنه مسند إليه موضوع عليه‪ .‬واسرا‪ :‬عبد‬ ‫وئيل‪ :‬ال وقرئ‪ :‬إسرائين‪ .‬وهي لغة مشهورة‪.‬‬ ‫‪ 3‬منها‪ :‬إنجائهم من فرعون‪ ،‬وتحررهم من سلطانه‪ ،‬ومنهم إهلك عدوهم‪ ،‬وإنزال المن والسلوى‬

‫عليهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬الشتراء هنا‪ :‬بمعنى الستبدال‪ ،‬ولذا جاز دخول الباء على غير المشتري به‪ ،‬وهو الثمن‪ ،‬إذ‬ ‫الصل أن تدخل الباء على المشترى به‪ .‬فتقول‪ ،‬اشتريت الثوب بدرهم‪.‬‬

‫( ‪)1/48‬‬ ‫{ َثمَنا قَلِيلً}‪ :‬متاع الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫{وَإِيّايَ فَا ّتقُونِ} ‪ :‬واتقوني وحدي في كتمانكم الحق وجحدكم نبوة نبيي محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫أن أنزل بكم نقمتي‪.‬‬ ‫طلِ} ‪ :‬أي ل تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به‪ ،‬وذلك قولهم‪ :‬محمد‬ ‫{وَل تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬ ‫نبي ولكن مبعوث إلى العرب ل إلى بني إسرائيل‪.‬‬ ‫{وَا ْر َكعُوا َمعَ الرّا ِكعِينَ} ‪ :‬الركوع الشرعي‪ :‬انحناء الظهر في امتداد واعتدال مع وضع الكفين‬ ‫على الركبتين والمراد به هنا‪:‬الخضوع ‪ 1‬ل والسلم له عز وجل‪.‬‬ ‫مناسبة اليات ومعناها‪:‬‬ ‫لما كان السياق في اليات السابقة في شأن آدم وتكريمه‪ ،‬وسجود الملئكة له وامتناع إبليس لكبره‬ ‫وحسده‪ ،‬وكان هذا معلوما لليهود؛ لنهم أهل كتاب‪ ،‬ناسب أن يخاطب ال تعالى بني إسرائيل‬ ‫مذكرا إياهم بما يجب عليهم من اليمان والستقامة‪ .‬فناداهم بعنوان بنوتهم لسرائيل عليه السلم‪،‬‬ ‫فأمرهم ونهاهم‪ ،‬أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد لينجز لهم ما وعدهم‪،‬‬ ‫وأمرهم أن يرهبوه ‪ 2‬ول يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم‪ ،‬وأن ل يكونوا‬ ‫أول من يكفر ‪ 3‬به‪ .‬ونهاهم عن العتياض عن بيان الحق في أمر اليمان برسوله محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم ثمنا قليلً من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه في ذلك وحذرهم أن هم كتموا الحق أن‬ ‫ينزل بهم عذابه‪ .‬ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعا للحق وبعدا عنه حتى ل يؤمنوا برسوله‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم وأمرهم بإقام ‪ 4‬الصلة وإيتاء الزكاة والذعان ل تعالى بقبول السلم‬ ‫والدخول فيه كسائر المسلمين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وجائز أن يراد به الصلة مع المصلين وهم‪ :‬الرسول وأصحابه‪ .‬إذ الخطاب ليهود المدينة‬ ‫بصورة خاصة‪ ،‬ول منافاة بين ما شرحت به الية‪ ،‬وبين ما ذكر هنا تعليقا‪ ،‬إذ السلم ل يستلزم‬ ‫الصلة وفي الية دليل تأكيد صلة الجماعة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الرهب‪ ،‬والرهبة‪ ،‬الخوف‪ ،‬ويجوز في الرهب إسكان الهاء وفتحها‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الجملة تأكيد لجملة ‪ :‬وأمنوا بما أنزلت‪ ..‬أي‪ :‬أمنوا بما أنزلت أي‪ ،‬من القرآن بمعنى ل‬

‫تكونوا أولمن يكفر به منكم يا بني إسرائيل‪ ،‬إذ العرب سبق أن كفروا بالقرآن قبلهم فأول كافر به‪،‬‬ ‫أي منهم وهو اليهود‪.‬‬ ‫‪ 4‬أمرهم بإقام الصلة وإيتاء الزكاة بعد اليمان قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أمرت أن أقاتل الناس‬ ‫حتى يشهدوا أن ل إله إل ال‪ ،‬ويقيموا الصلة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ . "..‬الحديث‪ .‬ومعنى الخطاب أنه‬ ‫أمرهم بالدخول في السلم والخروج من اليهودية الباطلة‪.‬‬

‫( ‪)1/49‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب ذكر النعم لشكر ال تعالى عليها‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الوفاء بالعهد ل سيما ما عاهد عليه العبد ربه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب بيان الحق وحُرمة كتمانه‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة خلط ‪ 1‬الحق بالباطل تضليلً للناس وصرفهم عنه كقول اليهود‪ :‬محمد نبي ولكن‬ ‫للعرب خاصة حتى ل يؤمن به يهود‪.‬‬ ‫سكُ ْم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَل َت ْعقِلُونَ(‪ )44‬وَاسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ‬ ‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬ ‫{أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْ َ‬ ‫جعُونَ(‬ ‫شعِينَ(‪ )45‬الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّن ُهمْ مُلقُو رَ ّب ِه ْم وَأَ ّنهُمْ إِلَيْهِ رَا ِ‬ ‫وَالصّلةِ وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ إِل عَلَى الْخَا ِ‬ ‫‪})46‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫البر ‪ :‬البر‪ :‬لفظ جامع لكل خير‪ .‬والمراد هنا‪ :‬اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم والدخول في‬ ‫السلم مقابل الذكر‪ ،‬وهو هنا الترك‪.‬‬ ‫النسيان ‪ :‬مقابل الذكر‪ ،‬وهو هنا الترك‪.‬‬ ‫تلوة الكتاب ‪ :‬قراءته‪ ،‬والكتاب هنا‪ :‬التوراة التي بأيدي اليهود‪.‬‬ ‫العقل ‪ :‬قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار‪ ،‬والصالح والفاسد‪.‬‬ ‫الستعانة ‪ :‬طلب العون للقدرة على القول والعمل‪.‬‬ ‫الصبر ‪ : 2‬حبس النفس على ما تكره‪.‬‬ ‫الخشوع ‪ :‬حضور القلب وسكون الجوارح‪ ،‬والمراد هنا‪ :‬الخضوع ل والطاعة لمره ونهيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫طلِ} إذ اللبس الخلط بين المتشابهات في الصفات‪ ،‬يقال‬ ‫‪ 1‬مأخوذ من قوله‪{ :‬وَل تَلْبِسُوا ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬ ‫في المر لبسه‪ :‬أي اشتباه‪ ،‬فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق ليقبل ويضل به‬ ‫الناس‪.‬‬

‫‪ 2‬مواطن الصبر ثلثة‪ :‬صبر على الطاعة فل تفارق‪ ،‬وصبر عن المعصية فل ترتكب‪ ،‬وصبر‬ ‫على المصائب فل يجزع منها ول يتسخط‪ ،‬ولكن يصبر‪ ،‬ويسترجع أي‪ :‬يقول‪ :‬إنا ل وإنا إليه‬ ‫راجعون‪.‬‬

‫( ‪)1/50‬‬ ‫{ َيظُنّونَ} ‪ :‬يوقنون ‪.1‬‬ ‫{مُلقُو رَ ّبهِمْ} ‪ :‬بالموت‪ ،‬راجعون إليه يوم القيامة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ينعي الحق تبارك وتعالى في الية الولى(‪ )44‬على علماء بني إسرائيل أمرهم بعض العرب‬ ‫باليمان بالسلم ونبيه‪ ،‬ويتركون أنفسهم فل يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة‪ ،‬وفيها‬ ‫بعث النبي محمد والمر باليمان به واتباعه ويقرعهم موبخا لهم بقوله‪ :‬أفل تعقلون‪ ،‬إذ العاقل‬ ‫يسبق إلى الخير ثم يدعو إليه‪.‬‬ ‫وفي اليتين الثانية والثالثة(‪ )46-45‬يرشد ال تعالى بني إسرائيل إلى الستعانة بالصبر والصلة‬ ‫حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها‪ ،‬وهي اليمان بمحمد والدخول في دينه‪ ،‬ثم‬ ‫يعلمهم أن هذه المواجهة صعبة شاقة ‪ 2‬على النفس ل يقدر عليها إل المخبتون لربهم الموقنون‬ ‫بلقاء ال‪ ،‬والرجوع إليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قبح ‪ 3‬سلوك من يأمر غيره بالخير ول يفعله‪.‬‬ ‫‪ -2‬السيئة قبيحة وكونها من ‪ 4‬عالم أشد قبحا‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية الستعانة على صعاب المور وشاقها بالصبر والصلة‪ ،‬إذ كان النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم إذ حزبه أمر فزع ‪ 5‬إلى الصلة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يطلق الظن ويراد به اليقين‪ ،‬ل الظن المقابل للشك‪ ،‬أفاد ابن جرير في تفسيره‪ :‬وأورد أن الظن‬ ‫من أسماء الضطاد فيطلق على الشك واليقين‪ ،‬فإطلق الصدفة على الضياء والظلمة معا‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجمهور على تفسير الضمير في‪{ :‬وَإِ ّنهَا َلكَبِيرَة} بالصلة وخالفتهم في ذلك لوجود من قال‪:‬‬ ‫إنها ما أمروا به ونهوا عنه‪ ،‬وهو أعم من الصلة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ورد الوعيد الشديد فيمن يأمر بالمعروف ول يفعله وينهى عن المنكر ويرتكبه من ذلك قول‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬مررت ليلة أسرى بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم‬ ‫بمقاريض من نار‪ ،‬قلت من هؤلء يا جبريل قال‪ :‬هؤلء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر‬

‫وينسون أنفسهم" ‪ .‬رواه أحمد‪ .‬ومثله كثير في السنن والصححاح‪ ،‬إل أن أهل العلم ممن السلف‬ ‫قالوا‪ :‬ل يمنع العالم من أن يؤمر بالمعروف‪ ،‬وإن كان ل يأتيه ومن أن ينهي عن منكر وإن كان‬ ‫يأتيه‪ ،‬وهو حق‪ ،‬إذ ل يسلم من الذنب إل المعصوم‪.‬‬ ‫‪ 4‬لن من يعلم ليس كمن ل يعلم‪.‬‬ ‫‪ 5‬رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬

‫( ‪)1/51‬‬ ‫‪ -4‬فضلية الخشوع ل والتطامن له‪ ،‬وذكر الموت‪ ،‬والرجوع إلى ال تعالى للحساب والجزاء‪.‬‬ ‫{يَا بَنِي إِسْرائيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَتِيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )47‬وَا ّتقُوا َيوْما ل‬ ‫ل وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ(‪})48‬‬ ‫ع ْد ٌ‬ ‫شفَاعَ ٌة وَل ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا َ‬ ‫تَجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئا وَل ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يَا بَنِي إِسْرائيلَ} ‪ :‬تقدم شرح هذه الجملة‪.‬‬ ‫{ َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ‪ : }1‬آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك‬ ‫على عهد موسى عليه السلم وفي آزمنة صلحهم واستقامتهم‪.‬‬ ‫{وَا ّتقُوا َيوْما} ‪ :‬المراد باليوم‪ :‬يوم القيامة بدليل ما وصف به‪ .‬واتقاؤه‪ :‬هو اتقاء ما يقع فيه من‬ ‫الهوال والعذاب‪ .‬وذلك اليمان والعمل ‪ 2‬الصالح‪.‬‬ ‫{ل تَجْزِي َنفْسٌ} ‪ :‬ل تغني نفس عن نفس أخرى أي غنى‪ .‬ما دامت كافرة ‪.3‬‬ ‫شفَاعَةٌ‪ : }4‬هذه النفس الكافرة إذ هي التي ل تنفعها شفاعة الشافعين‪.‬‬ ‫{وَل ُيقْبَلُ مِ ْنهَا َ‬ ‫ع ْدلٌ} ‪ :‬على فرض أنها تقدمت بعدل‪ ،‬وهو الفداء فإنه ل يؤخذ منها‪.‬‬ ‫{وَل ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا َ‬ ‫{وَل هُمْ يُ ْنصَرُونَ} ‪ :‬يدفع العذاب عنهم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ينادي ال سبحانه وتعالى بني إسرائيل مطالبا إياهم بذكر نعمه عليهم ليشكروها باليمان برسوله‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم وقبول ما جاء به من الدين الحق‪ ،‬وهو السلم‪ ،‬محذرا إياهم من‬ ‫عذاب يوم القيامة‪ ،‬آمرا لهم باتقائه باليمان وصالح العمال‪ .‬لنه يوم عظيم ل تقبل فيه شفاعة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالعالمين‪ :‬عالمو زمانهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬وترك الشرك‪ ،‬والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ 3‬لن أهل اليمان والتوحيد وإن دخلوا النار يخرجون منها بشفاعة شافع أو بإيمانهم‪ .‬بخلف من‬ ‫مات كافرا أو مشركا‪.‬‬ ‫‪ 4‬الشفاعة‪ :‬ضم جاه إلى جاه ليحصل النفع للمشفوع له‪ .‬والشفعة‪ :‬ضم ملك إلى ملك‪ ،‬والشفع‪:‬‬

‫الزوج مقابل الوتر‪ ،‬ول تقبل شفاعة أحد يوم القيامة إل بشرطين اثنين‪ .‬الول‪ :‬أن يكون الشافع قد‬ ‫أذن ال تعالى له‪ .‬في الشفاعة‪ .‬والثاني‪ :‬أن يكون المشفوع له ممن رضي ال قوله وعمله وهو‬ ‫المؤمن الموحد‪.‬‬

‫( ‪)1/52‬‬ ‫لكافرٍ‪ ،‬ول يؤخذ منه عدل أي فداء‪ ،‬ول ينصره بدفع العذاب عنه أحد‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب ذكر النعم لتشكر ‪ 1‬بحمد ال وطاعته‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة باليمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي‬ ‫‪ -3‬تقرير أن الشفاعة ل تكون لنفس كافرة‪ .‬وأن الفداء يوم القيامة ل يقبل ‪ 2‬أبدا‪.‬‬ ‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ ِنسَا َءكُمْ َوفِي‬ ‫{وَإِذْ‪ 3‬نَجّيْنَا ُكمْ مِنْ آلِ فِرْ َ‬ ‫عوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(‬ ‫عظِيمٌ (‪ )49‬وَإِذْ فَ َرقْنَا ِبكُمُ الْ َبحْرَ فَأَنْجَيْنَا ُك ْم وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْ َ‬ ‫ذَِلكُمْ بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ َ‬ ‫ع َفوْنَا عَ ْنكُمْ‬ ‫جلَ مِنْ َب ْع ِدهِ وَأَنْتُمْ ظَاِلمُونَ(‪ )51‬ثُمّ َ‬ ‫‪ )50‬وَإِ ْذ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْ َبعِينَ لَيَْلةً ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫ب وَا ْلفُ ْرقَانَ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ(‪})53‬‬ ‫شكُرُونَ(‪ )52‬وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَا َ‬ ‫مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫النجاة ‪ :‬الخلص من الهلكة؛ كالخلص من الغرق‪ ،‬والخلص من العذاب‪.‬‬ ‫عوْنَ} ‪ :‬اتباع ‪ 4‬فرعون‪ .‬وفرعون ‪ 5‬ملك مصر على عهد موسى عليه السلم‪.‬‬ ‫{آلِ فِرْ َ‬ ‫{يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ} ‪ :‬يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شكر ال على نعمة يكون بالعتراف بالنعمة وحمدا ل تعالى عليها‪ ،‬وصرفها فيما فيه رضاه‬ ‫سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقوله تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْ َأحَ ِدهِمْ مِلءُ الْأَ ْرضِ ذَهَبا وََلوِ‬ ‫افْتَدَى بِهِ} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذ ظرفية ويقدر لها العامل وهو‪ :‬اذكروا إن نجيناكم‪ .‬اذكروا إذ فرقنا بكم البحر‪..‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 4‬ممن هم على دين الباطل‪ ،‬من القباط المصريين وسواء كانوا أقارب له‪ ،‬أم أباعد ويشهد له‬ ‫حديث‪" :‬آل محمد كل تقي"‪.‬‬ ‫‪ 5‬قيل أن فرعون مصر اسمه الوليد بن مصعب بن الريان‪.‬‬

‫( ‪)1/53‬‬

‫وَيَسْتَحْيُونَ‪ِ 1‬نسَا َءكُمْ ‪ :‬يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة‪ ،‬ويذبحون الولد خوفا منهم إذا كبروا‪.‬‬ ‫بلء ‪ 2‬عظيم ‪ :‬ابتلء وامتحان شديد ل يطاق‪.‬‬ ‫{فَ َرقْنَا ‪ِ 3‬ب ُكمُ الْبَحْرَ‪ : }4‬صيرناه فرقتين‪ ،‬وما بينهما يبس ل ماء فيه لتسلكوه فتنجوا‪ ،‬والبحر هو‪:‬‬ ‫بحر القلزم (الحمر)‪.‬‬ ‫جلَ} ‪ :‬عجل من ذهب صاغه لهم السامري ودعاهم إلى عبادته فعبده أكثرهم‪ ،‬وذلك في‬ ‫{اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫غيبة موسى عنهم‪.‬‬ ‫الشكر ‪ :‬إظهار النعمة بالعتراف بها وحمد ال تعالى عليها وصرفها في مرضاته‪.‬‬ ‫ب وَا ْلفُ ْرقَانَ‪ : }5‬الكتاب‪ :‬التوراة‪ ،‬والفرقان‪ :‬المعجزات التي فرق ال تعالى بها بين الحق‬ ‫{ا ْلكِتَا َ‬ ‫والباطل‪.‬‬ ‫{ َتهْتَدُونَ} ‪ :‬إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫تضمنت هذه اليات الخمس أربع نعم عظمى أنعم ال تعالى بها على بني إسرائيل‪ ،‬وهي التي‬ ‫أمرهم بذكرها ليشكروه عليها باليمان برسوله محمد صلى ال عليه وسلم ودينه السلم‪.‬‬ ‫فالنعمة الولى‪ :‬انجاؤهم من فرعون وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم وما كانوا يصبونه عليهم‬ ‫من ألوان العذاب‪ .‬من ذلك‪ :‬ذبح الذكور من أولدهم وترك البنات لستخدامهن في المنازل‬ ‫كرقيقات‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقيل يكشفون عن حياء المرأة‪ :‬أي‪ :‬فرجها لينظروا هل هي حبلى أو ل؟ ليتمكنوا من قتل‬ ‫الذكور وإبقاء الناث‪.‬‬ ‫‪ 2‬البلء يكون بالخير والشر‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَنَبْلُوكُمْ بِالشّ ّر وَالْخَيْرِ فِتْ َنةً} الية‪ .‬وهو هنا كذلك فقد‬ ‫ابتلى بنو إسرائيل بالشر من قتل واستبعاد وبالخير من إنجائهم وإهلك أعدائهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬الفرق‪ :‬الفصل بين الشياء؛ كالفصل بين الحق والباطل‪ ،‬والفصل بين المجتمعين من كل شيء‪،‬‬ ‫والباء في فرقنا بكم البحر‪ :‬للملبسة‪.‬‬ ‫‪ 4‬البحر‪ :‬الماء المالح‪ ،‬والبلدة أيضا‪ ،‬ومن الخيل الواسع الجري‪ ،‬فقد قال صلى ال عليه وسلم في‬ ‫فرس أبي طلحة‪" :‬وإن وجدناه لبحرا" ‪ .‬يعني واسع الجري‪.‬‬ ‫‪ 5‬الفرقان‪ :‬لفظ عام يطلق على كل ما يفرق به بين الحق والباطل؛ كالمعجزات واليات والعلوم‬ ‫الصحيحة‪.‬‬

‫( ‪)1/54‬‬

‫والثانية ‪ :‬فلق البحر لهم وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون ‪.1‬‬ ‫والثالثة ‪ :‬عفوه تعالى عن أكبر زلة زلوها وجريمة اقترفوها‪ ،‬وهي اتخاذهم عجل ‪ 2‬صناعيا إلها‬ ‫وعبادتهم له‪ .‬فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم بالعذاب لعلة أن يشكروه تعالى بعبادته وحده دون‬ ‫سواه‪.‬‬ ‫والرابعة ‪ :‬ما أكرم به نبيهم موسى عليه السلم من التوراة التي فيها الهدى والنور والمعجزات‬ ‫التي أبطلت باطل فرعون‪ ،‬وأحقت دعوة الحق التي جاء بها موسى عليه السلم‪.‬‬ ‫هذه النعم هي محتوى اليات الخمس‪ ،‬ومعرفتها معرفة لمعاني اليات في الجملة اللهم إل جملة‬ ‫عظِيمٌ} في الية الولى فإنها‪ :‬إخبار بأن الذي حصل لبني إسرائيل من‬ ‫{ َوفِي ذَِلكُمْ بَلءٌ مِنْ رَ ّبكُمْ َ‬ ‫عذاب على أيدي فرعون وملئه إنما كان امتحانا من ال واختبارا عظيما لهم‪ .‬كما أن الية الثالثة‬ ‫فيها ذكر مواعدة ال تعالى لموسى بعد نجاة ‪ 3‬بني إسرائيل أربعين ليلة‪ ،‬وهي‪ :‬القعدة وعشر‬ ‫الحجة ليعطيه التوراة يحكم ‪ 4‬بها بني إسرائيل فحدث في غيابه أن جمع السامري حُلي نساء بني‬ ‫إسرائيل وصنع منه عجلً ودعاهم إلى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إل أن ال منّ عليهم‬ ‫بالعفو ليشكروه‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية هذه اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ذكر النعم يحمل ‪ 5‬على شكرها‪ ،‬والشكر هو الغاية من ذكر النعمة‪.‬‬ ‫‪ -2‬أن ال تعالى يبتلي عباده لحكم عالية فل يجوز العتراض على ال تعالى فيما يبتلي به عباده‪.‬‬ ‫‪ -3‬الشرك ظلم ‪ ،6‬لنه وضع العبادة في غير موضعها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة‪{َ :‬وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} في اليات حالية‪ ،‬وإن قيل الذين تم لهم هذا النعام هم من كانوا مع‬ ‫موسى عليه السلم‪ ،‬فكيف يخاطب به يهود اليوم‪ .‬فالجواب‪ :‬أن النعم على السلف نعم على‬ ‫الخلف‪.‬‬ ‫‪ 2‬القوم الذين مروا بهم فوجدوهم عاكفين على أصنام لهم هم قوم من الكنعانيين‪ ،‬وهم الفينيقيون‬ ‫سكان سواحل بلد الشام إذ كانوا يعبدون عجلً مقدسا لهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬كان يوم نجاة بني إسرائيل يوم عاشوراء المحرم‪ ،‬لما في البخاري وغيره من أن النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرا وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا‪:‬‬ ‫يوم صالح أنجى ال تعالى فيه بني إسرائيل‪ .‬فصامه‪ .‬رسول ال صلى ال عليه وسلم وأمر‬ ‫بصيامه وقال‪" :‬نحن أحق بموسى منهم" أو كما قال‪.‬‬ ‫‪ 4‬ومما يؤسف ويحزن أن المسلمين لما ابتلهم ال باستعمار النصارى لهم كانوا كلما استقل‬ ‫شعب أو إقليم طلب قانون الكافرين فحكم به المسلمين‪ ،‬وبنو إسرائيل لما استقلوا على يد موسى‬ ‫ذهب يأتيهم بقانون الرب ليحكمهم به‪.‬‬

‫‪ 5‬ولذا كان مبدأ الشكر‪ :‬العتراف بالنعمة أولً‪ ،‬وهو ذكرها بالقلب‪ ،‬واللسان‪.‬‬ ‫عظِيمٌ} ‪.‬‬ ‫ظلْمٌ َ‬ ‫‪ 6‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ الشّ ْركَ لَ ُ‬

‫( ‪)1/55‬‬ ‫‪ -4‬إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه‬ ‫ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين‪.‬‬ ‫س ُكمْ‬ ‫جلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫سكُمْ بِاتّخَا ِذكُمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫{وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َقوْمِهِ‪ 1‬يَا َقوْمِ إِ ّن ُكمْ ظََلمْ ُتمْ أَ ْنفُ َ‬ ‫ذَِلكُمْ خَيْرٌ َل ُكمْ عِنْدَ بَارِ ِئ ُكمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيم(‪ )54‬وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ‬ ‫جهْ َرةً فََأخَذَ ْتكُمُ الصّاعِقَ ُة وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(‪ )55‬ثُمّ َبعَثْنَاكُمْ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتكُمْ َلعَّلكُمْ‬ ‫حَتّى نَرَى اللّهَ َ‬ ‫ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم َومَا‬ ‫شكُرُونَ (‪ )56‬وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَ ّ‬ ‫تَ ْ‬ ‫سهُمْ يَظِْلمُونَ(‪})57‬‬ ‫ظََلمُونَا وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ظلم النفس ‪ : 2‬تدسيتها بسيئة الجريمة‪.‬‬ ‫جلَ} ‪ :‬بجعلكم العجل الذي صاغه السامري من حلي نسائكم إلها عبدتموه‪.‬‬ ‫{بِاتّخَا ِذكُمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫البارئ ‪ :‬الخالق عز وجل‪.‬‬ ‫سكُمْ ‪ : }3‬أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من ‪ 4‬عبدَه منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا‬ ‫{فَاقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫فتاب عليهم بقبول توبتهم‪.‬‬ ‫جهْ َرةً ‪ : }5‬نراه عيانا‪.‬‬ ‫{نَرَى اللّهَ َ‬ ‫__________‬ ‫سخَرْ َقوْمٌ مِنْ َقوْمٍ‪ ...‬وَل نِسَاءٌ‬ ‫‪ 1‬لفظ القوم يراد به الرجال دون النساء كما في قوله تعالى‪ { :‬ل يَ ْ‬ ‫مِنْ نِسَاءٍ} كقول زهير‪:‬‬ ‫وما أدري وسوف إخال أدري ‪ ...‬أقوم آل حصن أم نساء‬ ‫وقد يطلق على الرجال والنساء نحو قوله تعالى‪{ :‬إِنّا أَرْسَلْنَا نُوحا إِلَى َق ْومِهِ} الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬ومرتكب الذنب بدل أن يزكي نفسه بعمل صالح‬ ‫دساها بعمل سيء فكان بذلك واضعا شيئا في غير موضعه‪ ،‬إذ المطلوب من العبد تزكية نفسه‬ ‫لتتأهل للكمال والسعاد‪ ،‬ل تدسيتها لتخيب وتخسر‪.‬‬ ‫‪ 3‬قتل بعضهم بعضا‪ :‬كان عقوبة لمن عبدوا العجل‪ ،‬ولمن لم يعبدوه؛ لنهم ما غيروا المنكر وقد‬ ‫رأوه‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال بعضهم‪ :‬قتل النفس هنا تذليلها بالطاعات وكفها عن الشهوات وليس بصحيح‪.‬‬

‫‪ 5‬أصل الجهر‪ :‬الظهور ومنه‪ :‬قرأ جهرا أي أي أظهر القراءة‪ ،‬وجهر مصدر جهر‪ ،‬وقرأ بفتح‬ ‫الهاء وإسكانها نحو زهرة‪ ،‬وزهرة ومعناه‪ :‬علنية أو عيانا‪.‬‬

‫( ‪)1/56‬‬ ‫عقَةُ} ‪ :‬نار محرقة التي تكون مع السحب والمطار والرعود‪.‬‬ ‫{الصّا ِ‬ ‫{ َبعَثْنَاكُمْ} ‪ :‬أحييناكم ‪ 1‬بعد موتكم‪.‬‬ ‫ن وَالسّ ْلوَى} ‪ :‬المن‪ :‬مادة لزجة حلوة كالعسل ‪ ،2‬والسلوى‪ :‬طائر يقال له السماني‪.‬‬ ‫{ا ْلمَ ّ‬ ‫الطيبات ‪ :‬الحلل‪.‬‬ ‫المناسبة ومعنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر ال تعالى اليهود بما أنعم على أسلفهم مطالبا إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله‪ .‬ذكرهم هنا‬ ‫ببعض ذنوب أسلفهم ليتعظوا فيؤمنوا‪ ،‬فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلها وعبادتهم له‪ .‬وذلك بعد‬ ‫نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة ال تعالى‪ ،‬وتركه هارون خليفة له فيهم‪ ،‬فصنع‬ ‫السامري لهم عجلً من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه‪ ،‬فأطاعوه أكثرهم وعبدوا‬ ‫العجل‪ ،‬فكانوا مرتدين بذلك فجعل ال توبتهم من ردتهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبدَه فقتلوا‬ ‫منهم سبعين ألفا‪ ،‬فكان ذلك توبتهم فتاب ال عليهم إنه هو التواب الرحيم‪ ،‬كما ذكرهم بحادثة‬ ‫أخرى وهي‪ :‬إنه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بأمر ال تعالى منهم سبعين رجلً من‬ ‫خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل‪ ،‬وذهب بهم إلى جبل الطور ليعتذروا إلى ربهم‬ ‫سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا‬ ‫كلمه‪ ،‬فأسمعهم قوله‪{ :‬إِنّي أَنَا اللّهُ} ل إله إل أنا أخرجتكم من أرض مصر بيدٍ شديدة فاعبدوني‬ ‫ول تعبدوا غيري‪ .‬ولما أعلمهم موسى بأن ال تعالى جعل توبتهم وقتلهم أنفسهم‪ ،‬قالوا‪ :‬لن نؤمن‬ ‫لك‪ ،‬أي لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى ال جهرة‪ ،‬وكان‬ ‫هذا منهم ذنبا عظيما لتكذيبهم رسولهم فغضب ال عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا‬ ‫واحدا واحدا وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة‪ ،‬وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه‬ ‫كما ذكرهم بنعمة أخرى‪ ،‬وهي إكرامه لهم وإنعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم‪ ،‬وإنزال المن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إحيائهم بعد موتهم دليل على البعث الخر‪ ،‬إذ كان موتهم بإخراج أرواحهم ولم يكن مجرد‬ ‫همود كما قيل‪.‬‬ ‫‪ 2‬وفي الحديث الذي رواه مسلم‪ :‬الكمأه من المن الذي أنزل ال على بني إسرائيل وماؤها شفاء‬ ‫للعين‪.‬‬

‫( ‪)1/57‬‬ ‫والسلوى ‪ 1‬أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى‪َ { :‬ومَا ظََلمْنَاهُمْ} إشارة إلى أن‬ ‫محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيهم إذ قالوا له‪{ :‬فَاذْ َهبْ أَ ْنتَ‬ ‫وَرَ ّبكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ‪ .‬وما ظلمهم ‪ 2‬في محنة التيه‪ ،‬ولكن كانوا هم الظالمين لنفسهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عبادة المؤمن غير ال وهو يعلم أنها عبادة لغير ال تعالى تعتبر ردة منه ‪ ،3‬وشركا‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية قتال المرتدين‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬من بدل دينه فاقتلوه"‪ ،‬ولكن بعد استتابته‪.‬‬ ‫‪ -3‬علة الحياة كلها شكر ال تعالى ‪ 4‬بعبادته وحده‪.‬‬ ‫‪ -4‬الحلل‪ ،‬من المطاعم والمشارب وغيرها‪ ،‬ما أحله ال‪ ،‬والحرام ما حرمه ال عز وجل‪.‬‬ ‫حطّةٌ َن ْغفِرْ‬ ‫سجّدا َوقُولُوا ِ‬ ‫{وَإِذْ‪ 5‬قُلْنَا ادْخُلُوا َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُتمْ رَغَدا وَادْخُلُوا الْبَابَ ُ‬ ‫َلكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ(‪ )58‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا َق ْولً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السلوى‪ :‬اسم جنس جمعي واحده‪ :‬سلواه‪ ،‬وقيل‪ :‬ل واحد له‪ ،‬وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل‬ ‫الصيد‪ ،‬تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء‪ ،‬ويسمى أيضا‪ :‬السماني كالحباري‪.‬‬ ‫سهُمْ يَظِْلمُونَ} تقديم المفعول وهو أنفسهم على‬ ‫‪ 2‬وفي قوله تعالى‪َ { :‬ومَا ظََلمُونَا وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫الفاعل وهو الضمير في يظلمون لفادة القصر‪ ،‬وهو قصر ظلمهم على أنفسهم حيث لم يتجاوز‬ ‫إلى غيرهم ل موسى ول ربه تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬بدليل أمر ال بني إسرائيل بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده لنه في حكم المرتد‪ ،‬والمرتد‬ ‫يقتل لحديث الصحيح‪" :‬من بدل دينه فاقتلوه" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬دل عليه قوله تعالى‪ُ { :‬ثمّ َبعَثْنَاكُمْ} أي أحييناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون‪ ،‬وأصرح قوله تعالى‪:‬‬ ‫{ َومَا خََل ْقتُ الْجِنّ وَالْأِنْسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ} والعبادة هي الشكر‪.‬‬ ‫‪ 5‬ذهب الشيخ محمد طاهر ابن عاشور‪ ،‬صاحب تفسير "التحرير والتنوير" إلى أن القائل لبني‬ ‫إسرائيل‪{ :‬ادْخُلُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ‪ }..‬الية‪ .‬هو موسى عليه السلم وأن هذا المر كان في بداية أمرهم‬ ‫لما خرجوا من مصر‪ ،‬وأن الذين ظلموا منهم هم‪ :‬عشرة رجال من اثنا عشر بعث بهم موسى‬ ‫عليه السلم جواسيس يكتشفون أمر العدو ويقدرون قوته قبل إعلن الحرب عليهم‪ ،‬فرجعوا وهم‬ ‫يهولون من شأن العدو وقوته‪ ،‬وينشرون الفزع والرعب في بني إسرائيل ما عدا اثنين منهم‪،‬‬ ‫وهما‪ :‬يوشع ابن نون قريب موسى‪ ،‬وطالب بن بقتة‪ ،‬الذين ذكرا في سورة المائدة‪{ :‬قَالَ‬ ‫رَجُلنِ‪ }..‬الية‪ ،‬وخالف في هذا جمهور المفسرين‪ ،‬وادعى الغلط لهم‪ ،‬وما حمله على ذلك سوى‬

‫أن السياق ما زال مع موسى وقومه مع أن ال تعالى لم يذكر موسى بل قال‪{ :‬وَإِذْ قُلْنَا ا ْدخُلُوا هَ ِذهِ‬ ‫ا ْلقَرْيَةَ} والرسول صلى ال عليه وسلم في حديث البخاري قال‪ :‬قيل لبني إسرائيل ولم يقل قال‬ ‫موسى لبني إسرائيل‪ ،‬ونص الحديث‪" :‬قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا قولوا حطة يغفر لكم‬ ‫خطاياكم فبدلوا وقالوا‪ :‬حطة حبة في شعرة" ‪ .‬والمر لهم حقيقة‪ .‬هو ال تعالى على لسان يوشع‪،‬‬ ‫إذ هو الذي قاد الحملة ونصره ال‪ ،‬ودخل بيت المقدس‪ ،‬وأحاديث الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫شاهدة‪.‬‬

‫( ‪)1/58‬‬ ‫سقُونَ(‪})59‬‬ ‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬ ‫غَيْرَ الّذِي قِيلَ َل ُهمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظََلمُوا رِجْزا مِنَ ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلقَرْيَةَ ‪ : }1‬مدينة القدس‪.‬‬ ‫{رَغَدا} ‪ :‬عيشا واسعا هنيئا‪.‬‬ ‫سجّدا} ‪ :‬ركعا‪ 2‬متطامنين ل‪ ،‬خاضعين شكرا ل على نجاتهم من التيه‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫{حِطّةٌ} ‪ :‬حطة ‪ :3‬فعلة مثل ردة‪ ،‬وحدة من ردت وحددت‪ ،‬أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى أحطط‬ ‫عنا خطايانا ورفع (حطة) ‪ 4‬على إنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره‪ :‬دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا‬ ‫{ َن ْغفِرْ} ‪ :‬نمحو ونستر‪.‬‬ ‫{خَطَايَاكُمْ} ‪ :‬الخطايا‪ :‬جمعة خطيئة ‪ :5‬الذنب يقترفه العبد‪.‬‬ ‫{فَبَ ّدلَ} غيروا ‪ 6‬القول الذي قيل لهم قولوه وهو حطة فقالوا‪ :‬حبة في شعره ‪.7‬‬ ‫{ ِرجْزا ‪ : }8‬وباء الطاعون‪.‬‬ ‫سقُونَ} ‪ :‬يخرجون عن طاعة ال ورسوله إليهم‪ ،‬وهو يوشع عليه السلم‪.‬‬ ‫{ َيفْ ُ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫تضمنت الية الولى (‪ )58‬تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لسلفهم تجلت فيها‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سميت المدينة قرية‪ :‬من التقري الذي هو التجمع مأخوذ من قريت الماء في الحوض‪ ،‬إذ‬ ‫جمعته‪ ،‬ومنه قرى الضيف‪ ،‬وهو ما يجمع له من طعام وشراب‪ ،‬وفراش‪.‬‬ ‫‪ 2‬لن السجود الذي هو وضع الجبهة على الرض متعذر المشي معه‪ ،‬فلذا فسر السجود بانحناء‬ ‫الركوع في تطامن وخضوع‪.‬‬ ‫‪ 3‬يوجد باب حطة اليوم في المسجد القصى‪.‬‬ ‫‪ 4‬وقرأ حطة بالنصب على تقدير أحطط عنا ذنوبنا حطة‪.‬‬ ‫‪ 5‬المفروض أن تجمع خطيئة على خطائئي‪ ،‬نحو حميلة وحمائل‪ ،‬ولكنهم استثقلوا الجمع بين‬

‫همزتين فقلبوا الهمزة الولى ياء والثانية ألفا فصارت خطايا‪.‬‬ ‫‪ 6‬من هذا أخذ حرمة تبديل لفظ تعبدنا ال به بلفظ أخر ولو أتى معناه مثل‪ :‬ال أكبر في افتتاح‬ ‫الصلة‪ ،‬والسلم عليكم في الخروج منها‪ .‬وما لم يتعبدن ال بلفظ يجوز للعالم تبديله وذلك كرواية‬ ‫الحديث بالمعنى للعالم دون الجاهل وعليه جمهور المة‪.‬‬ ‫‪ 7‬و (في شعرة) كنوا بهذا عن كون فتحهم البلد‪ ،‬ودخولهم إياها من المحال كالذي يحاول ربط‬ ‫حبة في شعرة‪.‬‬ ‫‪ 8‬والرجس‪ :‬بالسين عذاب فيه نتن وعفونة وقذر‪.‬‬

‫( ‪)1/59‬‬ ‫نعمة ال على بني إسرائيل وهي‪ :‬حال تستوجب الشكر‪ ،‬وذلك إنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد‬ ‫مات كل من‪ :‬موسى وهارون‪ ،‬وخلفهم في بني إسرائيل فتى موسى يوشع بن نون‪ ،‬وغزا بهم‬ ‫العمالقة وفتح ال تعالى عليهم بلد القدس أمرهم ال تعالى أمر إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه‬ ‫القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا‪ .‬واشكروا لي هذه النعام بأن تدخلوا باب المدينة راكعين‬ ‫متطامنين قائلين‪ .‬دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا التي اقترفناها بنقولنا عن الجهاد على عهد‬ ‫موسى وهارون‪ .‬نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثوابا كما تضمنت الية الثانية(‪)59‬‬ ‫حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذي‬ ‫أمروا به والقول الذي قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين‪ :‬حبة في شعيرة!! ومن‬ ‫ثم انتقم ال منهم فانزل على الظالمين منهم طاعونا أفنى منهم خلقا كثيرا جزاء فسقهم عن أمر ال‬ ‫عز وجل‪ .‬وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تذكير البناء بأيام ‪ 1‬الباء للعظة والعتبار‪.‬‬ ‫‪ -2‬ترك الجهاد إذا وجب يسبب ‪ 2‬للمة الذل والخسران‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير عن عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشارع‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة ‪ 3‬تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة الحسان ‪ 4‬في القول والعمل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد باليام‪ :‬ما وقع فيها من خير وغيره‪ ،‬ثمرة كسبهم ونتاج أعمالهم بالطاعة ل تعالى‪ ،‬أو‬ ‫المعصية ل عز وجل‪.‬‬ ‫‪ 2‬يشهد له حديث أبي داود وأحمد إذ فيه وتركوا الجهاد في سبيل ال أنزل ال بهم بلء ل يرفعه‬

‫حتى يراجعوا دينهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬كتأويل الروافض‪ ،‬لفظ‪ :‬بقرة بعائشة رضي ال عنها في قوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا‬ ‫َبقَ َرةً} وكتأويل بعض المعاصرين إن ربا البنوك ليس هو ربا الجاهلية الحرام‪.‬‬ ‫‪ 4‬المحسن‪ :‬من صح عقد توحيده‪ ،‬وأحسن سياسة نفسه‪ ،‬وأقبل على أداء فرضه‪ ،‬وكفى المسلمين‬ ‫شره‪ .‬هكذا عرفه بعضهم‪ ،‬وأقرب من هذا‪ ،‬المحسن‪ :‬من راقب ال تعالى في نياته‪ ،‬ومعتقداته‪،‬‬ ‫وأقواله‪ ،‬وأفعاله فأحسن في ذلك كله ولم يسيء فيه وبذل المعروف للناس‪ ،‬ولم يسيء إليهم‪،‬‬ ‫وحسب الحسان فضيلة أن ال يحب المحسنين‪ ،‬ومن أحبه ال أسعده وما أشقاه‪.‬‬

‫( ‪)1/60‬‬ ‫عشْ َرةَ عَيْنا قَدْ عَِلمَ ُكلّ‬ ‫حجَرَ فَا ْنفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬ ‫سقَى مُوسَى ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َ‬ ‫{وَإِذِ اسْتَ ْ‬ ‫أُنَاسٍ مَشْرَ َب ُهمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّ ِه وَل َتعْ َثوْا فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ(‪ )60‬وَإِذْ قُلْ ُتمْ يَا مُوسَى‬ ‫طعَامٍ وَاحِدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الَ ْرضُ مِنْ َبقِْلهَا َوقِثّائِهَا َوفُو ِمهَا‬ ‫لَنْ َنصْبِرَ عَلَى َ‬ ‫سهَا وَ َبصَِلهَا قَالَ أَ َتسْتَبْدِلُونَ الّذِي ُهوَ أَدْنَى بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا ِمصْرا فَإِنّ َلكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‬ ‫وَعَدَ ِ‬ ‫ضبٍ مِنَ اللّهِ َذِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا َي ْكفُرُونَ بآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ‬ ‫سكَنَ ُة وَبَاءُوا ِب َغ َ‬ ‫َوضُرِبَتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ وَا ْلمَ ْ‬ ‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ(‪})61‬‬ ‫ع َ‬ ‫النّبِيّينَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ ذَِلكَ ِبمَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سقَى ‪ :‬طلب لهم من ال تعالى السقيا أي‪ :‬الماء للشرب وغيره‪.‬‬ ‫اسْتَ ْ‬ ‫ِب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ ‪ :‬عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلد مدين‪ .‬وهل هي من شجر الجنة‬ ‫هبط بها آدم‪ ،‬كذا قيل وال أعلم‪ .‬والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع الكذان رخو كالمدر‪.‬‬ ‫وهل هو الذي فر بثوب موسى في حادثة ‪ 1‬معروفة‪ ،‬كذا قيل‪ ،‬أو هو حجر من سائر الحجار ‪2‬؟‬ ‫ال أعلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الحادثة كما هي في الصحيح‪ :‬أن موسى عليه السلم اتهمه قوم‪ :‬بالدرة‪( :‬انتفاخ في إحدى‬ ‫الخصيتين)‪ .‬فأراد ال تعالى أن يبرئه منها‪ ،‬فدخل موسى البحر يغتسل‪ ،‬ووضع ثوبه على حجر‬ ‫ففر الحجر بالثوب فلحقه موسى فمر به بني إسرائيل حتى أن علموا أن تهمته باطلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬كون ال في الحجر لبيان الجنس وأن أي‪ :‬حجر يضربه موسى يتفجر منه الماء أظهر في‬ ‫المعجزة وأدل على قدرة ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/61‬‬

‫{فَا ْنفَجَ َرتْ} ‪ :‬النفجار‪ :‬النفلق فانفجرت‪ :‬انفلقت من العصا العيون‪.‬‬ ‫{مَشْرَ َب ُهمْ} ‪ :‬موضع شربهم‪.‬‬ ‫{رِ ْزقِ اللّهِ} ‪ :‬ما رزق ال به العباد من سائر الغذية‪.‬‬ ‫{وَل َتعْ َثوْا} ‪ :‬العَ َثيّ والعِثِيّ‪ :‬أكبر الفساد وفعله عثي كرضي‪ ،‬يعثي كيرضي‪ ،‬وعثا يعثو‪ ،‬كعدا‬ ‫يعدو‪.‬‬ ‫{ ُمفْسِدِينَ} ‪ :‬الفساد‪ :‬العمل بغير طاعة ال ورسوله في كل مجالت الحياة‪.‬‬ ‫البقل ‪ :‬وجمعه البقول‪ :‬سائر أنواع الخضر؛ كالجزر والخردل والبطاطس‪ ،‬ونحوها‪.‬‬ ‫القثاء ‪ :‬الخيار والقتة‪ ،‬ونحوهما‪.‬‬ ‫الفوم ‪ :‬الفوم‪ :‬الحنطة‪ ،‬وقيل‪ :‬الثوم لذكر البصل ‪ 1‬بعده‪.‬‬ ‫{أَ َتسْتَبْدِلُونَ} ‪ :‬الستبدال‪ :‬ترك شيء وأخذ آخر بدلً عنه‪.‬‬ ‫{َأدْنَى} ‪ :‬أقل صلحا وخيرية ومنافع؛ كاستبدال المن والسلوى بالفوم والبقل‪.‬‬ ‫{ ِمصْرا} ‪ :‬مدينة من ‪ 2‬المدن‪ ،‬قيل لهم هذا وهم في التيه؛ كالتعجيز لهم والتحدي لنهم نكلوا عن‬ ‫قتال الجبارين فأصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين‪.‬‬ ‫{ َوضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّةُ} ‪ :‬أحاطت بهم ولزمتهم الذلة وهي الصغار والحتقار‪.‬‬ ‫سكَنَةُ} ‪ :‬والمسكنة‪ :‬وهي الفقر والمهانة‪.‬‬ ‫{وَا ْلمَ ْ‬ ‫ضبٍ} ‪ :‬رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب ال وسخطه عليهم وبئس ما‬ ‫{وَبَاءُوا ِب َغ َ‬ ‫رجعوا به‪.‬‬ ‫{ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ} ‪ :‬ذلك إشارة إلى ما أصابهم ‪ .3‬من الذلة والمسكنة والغضب وبأنهم أي بسبب كفرهم‬ ‫وقتلهم النبياء وعصيانهم‪ ،‬فالباء سببية‪.‬‬ ‫العتداء ‪ :‬مجاوزة الحق إلى الباطل‪ ،‬والمعروف إلى المنكر والعدل إلى الظلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لن إبدال التاء فاء شائع‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا بناءا على صرف مصر إذ هو منون منصوب‪ ،‬ولو أريد به مصر التي خرجوا منها لقرئ‬ ‫مصر ممنوعا من الصرف للعلمية والتأنيث‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا عام في اليهود المعاصرين للدعوة السلمية‪ ،‬ومن قبلهم‪ ،‬ومن يأتي بعدهم‪ ،‬لن التعليل‬ ‫كان بكفرهم بآيات ال‪ ،‬وقتلهم النبياء‪ ،‬والكل موافق راب بهذه الجرائم‪ ،‬وعصيانهم واعتدائهم‬ ‫ملزم لهم ما فارقهم إلى اليوم‪.‬‬

‫( ‪)1/62‬‬

‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يُذكر ال تعالى اليهود المعاصرين لنزول القرآن بالمدينة النبوية بأياديه في أسلفهم وأيامه عز‬ ‫وجل فيهم وفي الية الولى رقم(‪ )60‬ذكرهم بأنهم لما عطشوا في التيه‪ ،‬استسقى ‪ 1‬موسى ربه‬ ‫فسقاهم بأمر خارق للعادة‪ ،‬ليكون لهم ذلك آية ليلزموا اليمان والطاعة وهو أن يضرب موسى‬ ‫عليه السلم بعصاه الحجر ‪ 2‬فيتفجر الماء منه من اثنا عشر موضعا كل موضع يمثل عينا يشرب‬ ‫منها سبط ‪ 3‬من أسباطهم الثنى عشر حتى ل يتزاحموا فيتضرروا‪ ،‬أكرمهم ال بهذه النعمة‪،‬‬ ‫ونهاهم عن الفساد في الرض بارتكاب المعاصي‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )61‬ذكرهم بسوء أخلق كانت في سلفهم‪ ،‬منها‪ :‬عدم الصبر‪ ،‬والتعنت‪ ،‬وسوء‬ ‫التدبير‪ ،‬والجهالة بالخير‪ ،‬والرعونة‪ ،‬وغيرها‪ .‬وهذا ظاهر في قولهم يا موسى بدل يا نبي ال أو‬ ‫رسول ال لن نصبر على طعام واحد‪ .‬وقولهم‪ :‬إدع لنا ربك بدل ادع ال تعالى لنا‪ ،‬أو ادع لنا‬ ‫ل عنهما وفي قول موسى عليه‬ ‫ربنا عز وجل‪ .‬وفي مللهم اللحم والعسل وطلبهم الفوم والبصل بد ً‬ ‫السلم‪ :‬تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ‪ 4‬ما يقرر ذلك كما ذكرهم بالعاقبة المرة التي‬ ‫كانت لهم نتيجة كفرهم بآيات ال وقتلهم النبياء‪ ،‬واعتدائهم وعصيانهم‪ ،‬وهي‪ :‬أن ضرب ‪ 5‬ال‬ ‫تعالى عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم‪.‬‬ ‫كل هذا وغيره مما ذكّر ال تعالى اليهود به في كتابه من أجل أن يذكروا فيتعظوا ويشكروا‪،‬‬ ‫فيؤمنوا بنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويدخلوا في دينه‪ ،‬فيكملوا ويسعدوا بعد أن ينجوا مما‬ ‫حاق بهم من الذلة والمسكنة والغضب في الدنيا‪ ،‬ومن عذاب النار يوم القيامة‪.‬‬ ‫هداية التيتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان الوعظ والتذكير بنعم ال تعالى ونقمه في الناس‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية مشروعية الستسقاء وهو سنة مؤكدة في السلم‪ ،‬فقد استسقى النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم وسقى ال المة بدعائه غير مرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬انفجار الماء من الحجر معجزة عظيمة‪ ،‬وانفجار الماء من بين أصابع النبي محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم معجزة أعظم‪ ،‬لن انفجار الماء من الحجار معهود معروف ولكن من أصابع هي لحم‬ ‫ودم غير معهود قط‪.‬‬ ‫‪ 3‬السبط‪ :‬في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب‪.‬‬ ‫‪ 4‬في قوله‪{ :‬أَتَسْتَبْدِلُونَ} إلخ‪ .‬إنكار عليهم وتوبيخ لهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬إحاطة الزل والمسكنة بهم ذكر في آية آل عمران مقيدا بما لم يكن لهم حبل من ال‪ :‬وهو‬ ‫الدخول في السلم‪ ،‬وحبل من الناس‪ :‬وهو حماية دولة قوية لهم؛ كبريطانيا أولً‪ ،‬وأمريكا ثانيا‪.‬‬

‫( ‪)1/63‬‬ ‫‪ -2‬مطالبة ذي النعمة بشكرها ‪ ،1‬وذلك بطاعة ال تعالى بفعل أوامره‪ .‬وترك نواهيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬ذم الخلق السيئة والتنديد بأهلها للعظة والعتبار‪.‬‬ ‫‪ -4‬التنديد بكبائر الذنوب؛ كالكفر‪ ،‬وقتل النفس بغير الحق ل سيما قتل النبياء أو خلفائهم وهم‬ ‫العلماء المرون بالعدل في المة‪.‬‬ ‫ع ِملَ صَالِحا فََلهُمْ‬ ‫{إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ َ‬ ‫علَ ْيهِ ْم وَل هُمْ َيحْزَنُونَ(‪})62‬‬ ‫خ ْوفٌ َ‬ ‫أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَل َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الّذِينَ آمَنُوا ‪ : }2‬هم المسلمون آمنوا بال ووحده وآمنوا برسوله واتبعوه‪.‬‬ ‫{وَالّذِينَ هَادُوا} ‪ :‬هم اليهود سموا ‪ 3‬يهودا لقولهم‪ :‬إنا هدنا إليك‪ ،‬أي‪ :‬تبنا ورجعنا‪.‬‬ ‫{وَال ّنصَارَى} ‪ :‬الصليبيون سموا نصارى‪ :‬إما لنهم يتناصرون أو لنزول مريم بولدها عيسى قرية‬ ‫الناصرة‪ ،‬والواحد‪ :‬نصران ‪ 4‬أو نصراني وهو الشائع على اللسنة‪.‬‬ ‫{وَالصّابِئِينَ} ‪ :‬أمة كانت بالموصل يقولون ل إله إل ال‪ .‬ويقرأون الزبور‪ .‬ليسوا يهودا ول‬ ‫نصارى‪ ،‬واحدهم صابئ ‪ ،5‬ولذا كانت قريش تقول لمن قال ل إله إل ال‪ :‬صابئ‪ ،‬أي مائل عن‬ ‫حدَ فيه ال تعالى‪.‬‬ ‫دين آبائه إلى دين جديد و ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كما قيل‪ :‬من لم يشكر النعم تعرض لزوالها‪ ،‬ومن شكرها فقد قيدها بعقالها‪.‬‬ ‫‪ 2‬يرى بعض المفسرين أن المراد (بالذين آمنوا)‪ :‬المنافقون‪ ،‬والصحيح ما ذكرناه وهم المسلمون‪،‬‬ ‫وسموا بالمؤمنين لصحة إيمانهم‪ ،‬والفائدة من ذكره هي‪ :‬ليعلم اليهود وغيرهم أن النسب‬ ‫والنتساب إلى الدين ل يؤهل للسعادة في الدار الخرة‪ ،‬وإنما يؤهل اليمان الصحيح والعمل‬ ‫الصالح‪ ،‬إذ بهما تزكوا النفس وتطهر فتتأهل لجوار ال تعالى في الملكوت العلى‪.‬‬ ‫‪ 3‬أو نسبة إلى يهودا وهو أكبر أولد يعقوب عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬نصرن على وزن سكران‪ ،‬والجمع‪ :‬نصارى؛ كسكارى‪.‬‬ ‫‪ 5‬قرئ بالتخفيف‪ :‬الصابين‪ ،‬وهي قراءة وارش عن نافع‪.‬‬

‫( ‪)1/64‬‬ ‫مناسبة الية ومعناها‪:‬‬ ‫لما كانت الية في سياق دعوة اليهود إلى السلم ناسب أن يعلموا أن النسب ل قيمة لها وإنما‬

‫العبرة باليمان الصحيح والعمل الصالح المزكي للروح البشرية والمطهر لها‪ ،‬فلذا المسلمون‬ ‫واليهود والنصارى والصابئون ‪ 1‬وغيرهم؛ كالمجوس وسائر أهل الديان من آمن منهم بال‬ ‫واليوم الخر حق اليمان وعمل صالحا مما شرع ال تعالى من عبادات فل خوف عليهم بعد‬ ‫توبتهم‪ ،‬ول حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تركوا من الدنيا‪ ،‬إذ الخرة خير وأبقى‪.‬‬ ‫واليمان الصحيح ل يتم لحد إل باليمان بالنبي الخاتم محمد صلى ال عليه وسلم والعمل الصالح‬ ‫ل يكون إل بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه‪ ،‬إذ بشريعته نسخ ال سائر الشرائع‬ ‫قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهي ل تزكي النفس ول تطهرها‪ .‬والسعادة الخروية متوقفة على زكاة‬ ‫النفس ‪ 2‬وطهارتها‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬العبرة بالحقائق ل باللفاظ‪ ،‬فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم‪ ،‬ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم‬ ‫بجوارحه ل تغني النسبة عنه شيئا‪ ،‬واليهودي والنصراني والصابئ‪ ،‬وكل ذي دين نسبته إلى دين‬ ‫قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح ل يزكي النفس‪ ،‬هذه النسبة ل تنفعه‪ ،‬وإنما الذي ينفع اليمان‬ ‫الصحيح والعمل الصالح‪.‬‬ ‫‪ -2‬أهل اليمان الصحيح والستقامة على شرع ال الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن‬ ‫وإذا انتفى الخوف حصل المن‪ ،‬وإذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة‪.‬‬ ‫{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَا َقكُمْ‪ 3‬وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عامة أهل العلم على أن الصابئة ليسوا أهل كتاب فل تنكح نسائهم ول تؤكل ذبائحهم؛ لنهم‬ ‫وثنيون ول كتاب لهم على الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقوله تعالى‪َ { :‬قدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬مأخوذ من وثق الشيء بالحبل إذا شده به تقوية له‪.‬‬

‫( ‪)1/65‬‬ ‫حمَتُهُ‬ ‫ِبقُ ّو ٍة وَا ْذكُرُوا ‪ 1‬مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ(‪ُ )63‬ثمّ َتوَلّيْتُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ فََلوْل َفضْلُ‪ 2‬اللّهِ عَلَ ْيكُمْ وَرَ ْ‬ ‫َلكُنْتُمْ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ(‪ )64‬وََلقَدْ عَِلمْتُمُ الّذِينَ اعْ َت َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َلهُمْ كُونُوا ‪ 3‬قِرَ َدةً خَاسِئِينَ(‬ ‫جعَلْنَاهَا ‪َ 4‬نكَالً ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ(‪})66‬‬ ‫‪ )65‬فَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الميثاق ‪ :‬العهد المؤكد باليمين‪.‬‬ ‫{الطّورَ} ‪ :‬جبل‪ .‬أو هو الجبل الذي ناجى ال تعالى عليه موسى عليه السلم‬

‫{ ِب ُق ّوةٍ} ‪ :‬بجد وحزم وعزم‪.‬‬ ‫{ َتوَلّيْتُمْ} ‪ :‬رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة‪.‬‬ ‫{اعْ َت َدوْا مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ} ‪ :‬تجاوزوا الحد فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا‪.‬‬ ‫{قِرَ َدةً} ‪ :‬القردة‪ :‬جمع قرد‪ ،‬حيوان معروف مسخ ال تعالى المعتدين في السبت على نحوه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي اذكروا ما تضمنه الكتاب الذي هو التوراة‪ ،‬اذكروا حفظا لشرائعه وأحكامه وعملً به‪،‬‬ ‫واذكروا وعد ال تعالى فيه ووعيده رجاء أن تحصل لكم التقوى فتنجوا من الخسران‪.‬‬ ‫‪ 2‬من فضل ال تعالى عليهم إنه لم يعاجلهم بالعقوبة جزاء توليهم عن الطاعة‪ ،‬وإعراضهم عنها‬ ‫بعد أخذ الميثاق عليهم‪ ،‬ومن رحمته أنه في أرسل فيهم الرسل فلم تنقطع سلسلتهم إلى عيسى ابن‬ ‫مريم عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬المر هنا‪ :‬كوني ل شرعي إذ ل طاقة لهم على التحول إلى قردة‪ ،‬وإنما تحولوا بأمره اليرادي‬ ‫الكوني الذي ل يتخلف فيه مراده عز وجل‪.‬‬ ‫جعَلْنَاهَا} يعود إلى العقوبة التي هي مسخهم قردة‪.‬‬ ‫‪ 4‬الضمير في قوله‪َ { :‬ف َ‬

‫( ‪)1/66‬‬ ‫{خَاسِئِينَ} ‪ :‬مبعدين عن الخير ذليلين مهانين‪.‬‬ ‫{ َنكَالً} ‪ :‬عقوبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سببا فيه‬ ‫{ِلمَا بَيْنَ َيدَ ْيهَا َومَا خَ ْل َفهَا} ‪ :‬لما بين يدي العقوبة من الناس‪ ،‬ولمن يأتي بعدهم‪.‬‬ ‫{ َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ‪ : }1‬يتعظون ‪ 2‬بها فل يقدمون على معاصي ال عز وجل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يذكر الحق عز وجل اليهود بما كان لسلفهم من أحداث لعلهم يعتبرون فيذكرهم بحادثة امتناعهم‬ ‫من تحمل العمل بالتوراة‪ ،‬وإصرارهم على ذلك حتى رفع ال تعالى فوقهم جبلً فأصبح كالظلة‬ ‫فوق رؤسهم‪ ،‬حينئذ أذعنوا غير أنهم تراجعوا بعد ذلك ولم يفوا بما التزموا به فاستوجبوا‬ ‫الخسران لول رحمة ال بهم‪.‬‬ ‫كما يذكرهم بجريمة كانت لبعض أسلفهم وهي أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت فاحتالت‬ ‫طائفة منهم على الشرع واصطادوا فنكل ال تعالى بهم فمسخهم ‪ 3‬قردة‪ ،‬وجعلهم عظة وعبرة‬ ‫للمعتبرين ‪.4‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق‪.‬‬

‫‪ -2‬يجب أخذ أحكام الشرع بحزم‪ ،‬وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل تتم التقوى لعبد إل إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة ‪ 5‬الحتيال لباحة المحرم وسوء عاقبة المحتالين المعتدين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يمتنعون من فعل الذنب الذي كان سببا في العقوبة‪.‬‬ ‫‪ 2‬خص المتقين بالموعظة؛ لنهم أحياء القلوب وذووا بصائر نيرة‪ ،‬فيشاهدون آثار المعاصي في‬ ‫أصحابها فيتقونها ويبتعدون عنها‪.‬‬ ‫‪ 3‬جرت سنة ال فيمن يسمخهم إنهم ل يعيشون ثلثا حتى يهلكوا ولم يبقى منهم أحد‪ ،‬كذا صح‬ ‫عن ابن عباس رضي ال عنه‪.‬‬ ‫‪ 4‬هم أهل البصائر من أهل اليمان والتقوى‪ ،‬إذ هم أرباب العقول‪ ،‬والعاقل من اعتبر بغيره‪.‬‬ ‫‪ 5‬روى أحمد بسند جيد عن أبي هريرة أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل ترتكبوا ما ارتكبت‬ ‫اليهود فتستحلوا محارم ال بأدنى الحيل" ‪.‬‬

‫( ‪)1/67‬‬ ‫{وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َقوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ تَذْ َبحُوا َبقَ َرةً قَالُوا أَتَتّخِذُنَا هُزُوا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ َأكُونَ‬ ‫ض وَل ِبكْرٌ‬ ‫مِنَ الْجَاهِلِينَ‪ )67(1‬قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَرَةٌ ل فَا ِر ٌ‬ ‫عوَانٌ بَيْنَ ذَِلكَ فَا ْفعَلُوا مَا ُت ْؤمَرُونَ(‪ )68‬قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا َلوْ ُنهَا قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ‬ ‫َ‬ ‫صَفْرَاءُ فَاقِعٌ َلوْ ُنهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ(‪ )69‬قَالُوا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا ِهيَ إِنّ الْ َبقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّا‬ ‫سّلمَةٌ‬ ‫سقِي الْحَ ْرثَ مُ َ‬ ‫ض وَل َت ْ‬ ‫إِنْ شَاءَ اللّهُ َل ُمهْتَدُونَ(‪ )70‬قَالَ إِنّهُ َيقُولُ إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ ل َذلُولٌ تُثِي ُر الَ ْر َ‬ ‫ل شِيَةَ فِيهَا قَالُوا النَ جِ ْئتَ بِا ْلحَقّ فَذَبَحُوهَا َومَا كَادُوا َي ْفعَلُونَ(‪})71‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫البقرة ‪ :‬واحدة البقر‪ ،‬والذكر ثور‪ ،‬والنثى بقرة‪.‬‬ ‫الذبح‪ :‬قطع الودجين والمارن‪.‬‬ ‫الهزؤ ‪ :‬السخرية واللعب‪.‬‬ ‫الجاهل ‪ : 2‬الذي يقول أو يفعل ما ل ينبغي قوله أو فعله‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬استعاذ موسى بال أن يكون من الجاهلين‪ ،‬إذ الهزوء والسخرية‪ ،‬من أفعال أهل الجهل فكان‬ ‫قول موسى هذا وصما لهم بالجهل وفساد العقل‪ .‬وسوء الخلق‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجاهل الذي جهل المر فقال أو عمل فيه بدون علم فأفسد وأساء‪.‬‬

‫( ‪)1/68‬‬ ‫الفارض ‪ : 1‬المسنة‪ .‬والبكر الصغيرة التي لم تلد بعد‪ .‬والعوان‪ :‬النصف وسط بين المسنة‬ ‫والصغيرة‪.‬‬ ‫فاقع ‪ :‬يقال‪ :‬أصفر فاقع شديدة الصفرة؛ كأحمر قاني‪ ،‬وأبيض ناصع ‪2‬‬ ‫الذلول ‪ :‬الريضة التي زالت صعوبتها فأصبحت سهلة منقادة‪.‬‬ ‫{تُثِي ُر الَ ْرضَ} ‪ :‬تقلبها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى‪ :‬أنها لم تستعمل في الحرث ول في سقاية‬ ‫الزرع أي لم يُسن عليها‪ ،‬وذلك لصغرها‪.‬‬ ‫{مسلّمة} ‪ :‬سليمة من العيوب؛ كالعور والعرج ‪.3‬‬ ‫{ل شِ َيةَ فِيهَا} ‪ :‬الشية‪ :‬العلمة أي ل توجد فيها لون غير لونها ‪ 4‬من سواد أو بياض‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫واذكر يا رسولنا لهؤلء اليهود عيبا آخر من عيوب أسلفهم الذين يعتزون بهم وهو سوء سلوكهم‬ ‫مع أنبيائهم فيكون توبيخا لهم لعلهم يرجعون عن غيهم فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين‬ ‫الحق‪ .‬اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالً لرثه ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي‬ ‫الذي هو منه‪ ،‬ولما اختلفوا في القاتل‪ ،‬قالوا نذهب إلى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل‬ ‫فجاءوه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إن ال تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها‬ ‫فينطق مبينا من قتله فلما قال لهم ذلك‪ ،‬قالوا‪ :‬أتتخذنا هزوا‪ ،‬فوصفوا نبي ال بالسخرية واللعب‪،‬‬ ‫وهذا ذنب قبيح وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون‪ ،‬حتى شدد ال تعالى عليهم المر الذي‬ ‫كادوا معه ل يذبحون مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم ‪ .5‬ولكن شددوا‬ ‫فشدد ال عليهم فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء‬ ‫جلدها ذهبا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفارض‪ :‬المسنة التي فرضت سنها فقطعته‪ ،‬لن الفرض لغة القطع‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه اللفاظ يؤتي بها لتأكيد الوصف‪ ،‬فيقال‪ :‬أخضر مدهام‪ ،‬وأورق خطباني "الخطباني‪ ،‬نبت"‪.‬‬ ‫‪ 3‬استدل الجمهور بهذه الصفات المذكورة للبقرة على جواز بيع السلم في الحيوان‪ ،‬كما استدلوا‬ ‫بقول الرسول صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬ل تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر‬ ‫إليها" ‪ ،‬وخالف أبو حنيفة بعدم صحة السلم في الحيوان‪.‬‬ ‫‪ 4‬لن الشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين‪ ،‬ولذا قيل النمام واش؛ لنه لون الكلم‬ ‫بألوان من كذبه وباطله‪.‬‬

‫‪ 5‬نقل ابن كثير عن ابن جرير الرواية التالية‪ :‬إنما أمروا بأدنى بقرة‪ ،‬ولكنهم لما شددوا‪ ،‬شدد ال‬ ‫عليهم‪ ،‬وأيم ال لو أنهم لم يتثنوا لما بينت لهم آخر الدهر‪.‬‬

‫( ‪)1/69‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الخلق‪ ،‬ليتجنب مثلها‬ ‫المسلمون‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة العتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة المر والنهي‬ ‫وعلتها‪.‬‬ ‫‪ -3‬الندب إلى الخذ بالمتيسر وكراهة ‪ 1‬التشدد في المور‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان فائدة الستثناء بقول‪ :‬إن شاء ال‪ ،‬إذ لو لم يقل اليهود‪ :‬إن شاء ‪ 2‬ال لمهتدون ما كانوا‬ ‫ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة‪.‬‬ ‫‪ -5‬ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص النبياء مثل قولهم‪ :‬الن جئت بالحق‪ ،‬إذ‬ ‫مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إل في هذه المرة من عدة مرات سبقت!!‪.‬‬ ‫ضهَا كَذَِلكَ يُحْيِي‬ ‫{وَإِذْ قَتَلْ ُتمْ َنفْسا فَادّا َرأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ ُمخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ(‪َ )72‬فقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِ َب ْع ِ‬ ‫حجَا َرةِ َأوْ‪َ 4‬أشَدّ‬ ‫ستْ قُلُو ُبكُمْ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ َف ِهيَ كَالْ ِ‬ ‫‪ 3‬اللّهُ ا ْل َموْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ(‪ )73‬ثُمّ َق َ‬ ‫شقّقُ فَ َيخْرُجُ مِنْهُ ا ْلمَاءُ وَإِنّ‬ ‫س َوةً‪ 5‬وَإِنّ مِنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَجّرُ مِنْ ُه الَ ْنهَا ُر وَإِنّ مِ ْنهَا َلمَا يَ ّ‬ ‫قَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وشاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم في الصحيحين‪" :‬يسروا ول تعسروا‪ ،‬بشروا ول‬ ‫تنفروا" ‪ ،‬وقوله صلى ال عليه وسلم لصحابه‪ " :‬إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"‪ .‬رواه‬ ‫الترمذي‪.‬‬ ‫‪ 2‬يشهد لصحة هذا أن نبي ال سليمان لما لم يتثن لم تلد له امرأة من المائة إل واحدة‪ ،‬وجاءت به‬ ‫نصف ولد‪ ،‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬لو استثنى لكان دركا لحاجته "‪ ،‬كما في‬ ‫البخاري‪.‬‬ ‫‪ 3‬لما كانت عقيدة البعث والجزاء ذات تأثير كبير في إصلح النسان خلقا وسلوكا ذكرها تعالى‬ ‫في أثناء سياق القصة مع أن اليهود مؤمنون بالبعث الخر‪.‬‬ ‫‪ 4‬أو‪ :‬بمعنى الواو وليست لشك‪ ،‬وقد تكون بمعنى بل‪ ،‬وشاهد الول‪ :‬قول الشاعر‪:‬‬ ‫أتى الخلفة أو كانت له قدرا‬ ‫بمعنى وكانت وشاهد الثاني‪{ :‬وَأَ ْرسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ}‪ .‬الية‪ :‬أي‪ :‬بل يزيدون‬

‫لستحالة الشك على ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 5‬القسوة في عرف اللغة‪ :‬اليبس والصلبة‪ ،‬ووصفت قلوب اليهود بذلك؛ لنها خالية من اللطف‬ ‫والرحمة‪.‬‬

‫( ‪)1/70‬‬ ‫عمّا َت ْعمَلُونَ(‪})74‬‬ ‫مِ ْنهَا َلمَا َيهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّ ِه َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َنفْسا} ‪ :‬نفس الرجل الذي قتله وارثه استعجالً للرث‪.‬‬ ‫{فَادّارَأْتُمْ فِيهَا} ‪ :‬تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول قتلها القبيل الخر‪.‬‬ ‫{مَا كُنْتُمْ َتكْ ُتمُونَ} ‪ :‬من أمر القاتل سترا عليه دفعا للعقوبة والفضيحة‪.‬‬ ‫ضهَا} ‪ :‬ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلً‪.‬‬ ‫{بِ َب ْع ِ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقول تعالى لليهود موبخا لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلفكم قريبه ليرثه‪ ،‬فاختصم في شأن القتل كل‬ ‫جماعة تنفي أن يكون القاتل منها‪ ،‬والحال أن ال تعالى مظهر ما تكتمونه ل محالة إحقاقا للحق‬ ‫وفضيحة للقاتلين‪ ،‬فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة‪ ،‬فيحيا ويخبر عن قاتله ففعلتم‬ ‫وأحيا ال القتيل وأخبر بقاتله ‪ 1‬فقتل به‪ ،‬فأراكم ال تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على‬ ‫حلمه وعلمه وقدرته‪ ،‬وكان المفروض أن تعقلوا عن ال آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلقكم‬ ‫وطاعتكم‪ ،‬ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة فهي ل ترق‬ ‫ول تلين ول تخشع على عكس الحجارة‪ ،‬إذ منها ما تتفجر منه العيون‪ ،‬ومنها ما يلين فيهبط من‬ ‫خشية ال؛ كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى‪ ،‬وكما أضطرب أحد تحت قدمي رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ .‬ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من‬ ‫الذنوب والثام‪ ،‬وسيجزيكم به جزاء عادلً إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬صدق نبوة الرسول محمد صلى ال عليه وسلم وتقريرها أمام اليهود‪ ،‬إذ يخبرهم بأمور جرت‬ ‫لسلفهم لم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه الية شاهد لمالك في أن الجريح إذا أخبر عن جرحه‪ .‬ومات آن إخباره يعد لوثا‬ ‫وتجري في الحادث القسامة‪ ،‬وخالفه الجمهور وقالوا‪ :‬إخبار القتيل ل يكفي في وجود اللوث‬ ‫المقتضي للقسامة‪ ،‬ولرأي مالك شاهد من السنة‪ ،‬وهي الجارية التي رض رأسها كما في البخاري‪.‬‬

‫( ‪)1/71‬‬ ‫يكن يعلمها‪ ،‬غيرهم وذلك إقامة الحجة عليهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬الكشف عن نفسيات اليهود وإنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليهود من أقسى البشر قلوبا إلى اليوم‪ ،‬إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم‬ ‫ضاحكون‪.‬‬ ‫‪ -4‬من علمات الشقاء‪ :‬قساوة القلوب‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬من ل يرحم ل يرحم" ‪.1‬‬ ‫عقَلُوهُ‪3‬‬ ‫س َمعُونَ كَلمَ اللّهِ ُثمّ ُيحَ ّرفُونَهُ مِنْ َبعْدِ مَا َ‬ ‫ط َمعُونَ‪ 2‬أَنْ ُي ْؤمِنُوا َلكُمْ َوقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَ ْ‬ ‫{َأفَ َت ْ‬ ‫حدّثُو َنهُمْ ِبمَا‬ ‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ قَالُوا أَتُ َ‬ ‫وَهُمْ َيعَْلمُونَ(‪ )75‬وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَل َب ْع ُ‬ ‫فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ َأفَل َت ْعقِلُونَ(‪َ )76‬أوَل َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا ُيسِرّونَ َومَا‬ ‫ي وَإِنْ هُمْ إِل َيظُنّونَ(‪})78‬‬ ‫ُيعْلِنُونَ(‪َ )77‬ومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِن ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ط َمعُونَ} ‪ :‬الهمزة للنكار الستبعادي‪ ،‬والطمع‪ :‬تعلق النفس بالشيء رغبة فيه‪.‬‬ ‫{َأفَ َت ْ‬ ‫{ ُي ْؤمِنُوا َلكُمْ} ‪ :‬يتابعونكم على دينكم (السلم)‪.‬‬ ‫{كَلمَ اللّهِ‪ : }4‬في كتبه؛ كالتوراة والنجيل والقرآن‪.‬‬ ‫{ ُيحَ ّرفُونَهُ ‪ : }5‬التحريف‪ :‬الميل بالكلم على وجه ل يدل على معناه كما قالوا في نعت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬متفق عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الطمع والرجاء‪ ،‬وهو ترقب شيء محبوب وضدها اليأس‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬فهموه فهما جليا واضحا ومع هذا يجافونه على بصيرة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ويدخل في الجملة‪ :‬الذين سمعوا كلم ال مع موسى عليه السلم في جبل الطور وهم السبعون‬ ‫الذين اختارهم موسى وخرج بهم إلى الطور طلبا لتوبتهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬التحريف‪ :‬مصدر حرف الشيء إذا مال به إلى الحرف الذي هو الطرف والبعد عن وسط‬ ‫الجادة‪.‬‬

‫( ‪)1/72‬‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم في التوراة‪ :‬أكحل العينين ربعة‪ ،‬جعد الشعر‪ ،‬حسن الوجه‪ ،‬قالوا‪:‬‬ ‫طويل أزرق العينين‪ ،‬سبط الشعر‪.‬‬ ‫{وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا}‪ :‬إذا لقي منافقوا اليهود المؤمنين قالوا‪ :‬آمنا بنبيكم ودينكم‪.‬‬

‫{أَ ُتحَدّثُو َنهُمْ} ‪ :‬الهمزة‪ :‬للستفهام النكاري‪ ،‬وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي في التوراة‪.‬‬ ‫{ ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ} ‪ :‬إذا خل منافقوا اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم في التوراة‪ ،‬وهو مما فتح ‪ 1‬ال به عليهم ولم يعلمه غيرهم‪.‬‬ ‫{لِ ُيحَاجّوكُمْ ِبهِ} ‪ :‬يقولون لهم ل تخبروا المؤمنين بما خصكم ال به من العلم حتى ل يحتجوا عليكم‬ ‫به‪ ،‬فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم ال ‪.2‬‬ ‫{ُأمّيّونَ} ‪ :‬المي‪ :‬المنسوب إلى أمة كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه‪ ،‬فلذا هو لم يتعلم الكتابة‬ ‫والقراءة ‪.3‬‬ ‫{َأمَا ِنيّ} ‪ :‬الماني‪ :‬جمع أمنية وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه‪،‬‬ ‫وإما القراءة من تمنى الكتاب إذا قرأه ‪.4‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم‪ ،‬ويذكر وجه استبعاده بما‬ ‫عرف به اليهود سلفا وخلفا من الغش والحتيال بتحريف الكلم وتبديله‪ ،‬تعمية وتضليلً حتى ل‬ ‫يُهتدى إلى وجه الحق فيه‪ ،‬ومن كان هذا حاله يبعد جدا تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق‬ ‫{وَإِذَا َلقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا} وهم كاذبون وإذا خل بعضهم ببعض أنكروا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من الجائز أن يكون معنى بما فتح ال به عليهم‪ ،‬أي‪ :‬قضى وحكم من إنزال المصائب بهم‬ ‫والكوارث باسلفهم وهي كثيرة؛ لن فتح تكون بمعنى حكم ومنه قوله تعالى‪{ :‬رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا‬ ‫وَبَيْنَ َقوْمِنَا بِا ْلحَق} أي‪ :‬أحكم‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الكلم جارٍ على عقيدة اليهود في تشبيههم الرب تعالى بحكام البشر في رواج الحيل عليه‪،‬‬ ‫وإمكان مغالطته وإنه تعالى يوجد الشيء ثم يندم ويأسف كما هو صريح في التوراة فلذا أنكروا‬ ‫على بعضهم إخبار المؤمنين بصدق النبوة المحمدية مخافة أن يحتجوا عليهم يوم القيامة بذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬وجائز أن يكون منسوبا إلى المة فيكون بمعنى العامي المنسوب إلى العامة‪.‬‬ ‫‪ 4‬وشاهده قول الشاعر في عثمان رضي ال عنه‪:‬‬ ‫تمنى كتاب ال أول ليلة ‪ ...‬وآخره لقى حمام المقادر‬ ‫أي‪ :‬قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل فيه رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/73‬‬ ‫على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه‪ ،‬متعللين بأن مثل هذا‬ ‫العتراف يؤدي إلى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة‪ ،‬وسبحان ال كيف فسد ذوق‬ ‫القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على ال‪ ،‬قال تعالى في التنديد بهذا‬

‫ن َومَا ُيعْلِنُونَ} ؟‪.‬‬ ‫الموقف الشائن‪َ{ :‬أوَ ل َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ‬ ‫ومن جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله‬ ‫تعالى‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ ُأمّيّونَ ل َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ إِل َأمَا ِنيّ} إل مجرد قراءة فقط‪ ،‬أما إدراك المعاني‬ ‫الموجبة لمعرفة الحق واليمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب‪ ،‬وما يقولونه ويتفوهون به لم َي ْعدُ‬ ‫الحرص والظن الكاذب‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن أبعد الناس عن قبول الحق والذعان له اليهود‪.‬‬ ‫‪ -2‬قبح إنكار الحق بعد معرفته‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبح الجهل بال وبصفاته العل وأسمائه الحسنى‪.‬‬ ‫‪ -4‬ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه فضلً عن معرفة حكمه وأسراره وواقع أكثر المسلمين‬ ‫اليوم شاهد على هذا فإن حفظة القرآن منهم من ل يعرفون معانيه فضلً عن غير الحافظين له‪.‬‬ ‫{ َفوَ ْيلٌ‪ 1‬لِلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ‪ُ 2‬ثمّ َيقُولُونَ َهذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِ َيشْتَرُوا بِهِ َثمَنا قَلِيلً َفوَ ْيلٌ َلهُمْ‬ ‫ِممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ َل ُهمْ ِممّا َيكْسِبُونَ(‪َ )79‬وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّاما َمعْدُو َدةً ُقلْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في قوله تعالى‪َ { :‬فوَ ْيلٌ َلهُمْ} إلخ‪ .‬بيان سبب عذابهم وهو كذبهم على ال بكتابة شيء‪ ،‬ونسبته‬ ‫إلى ال تعالى كما هو أكلهم الحرام الذي كسبوه بالكتابة الباطلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله‪ :‬بأيديهم‪ .‬هو نحو نظرته بعيني‪ ،‬وقلته بلساني‪ ،‬تأكيد ل غير‪.‬‬

‫( ‪)1/74‬‬ ‫سبَ‬ ‫علَى اللّهِ مَا ل َتعَْلمُونَ(‪ )80‬بَلَى مَنْ كَ َ‬ ‫ع ْه َدهُ أَمْ َتقُولُونَ َ‬ ‫عهْدا فَلَنْ ُيخِْلفَ اللّهُ َ‬ ‫خذْتُمْ عِ ْندَ اللّهِ َ‬ ‫أَتّ َ‬ ‫خطِيئَتُهُ فَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‪})81‬‬ ‫طتْ بِهِ َ‬ ‫سَيّئَةً وَأَحَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ويل ‪ :‬الويل ‪ :1‬كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو عذاب‪.‬‬ ‫{ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه إلى ال تعالى ليتوصلوا به إلى أغراض‬ ‫دنية من متاع الدنيا القليل‪.‬‬ ‫{مِنْ عِ ْندِ اللّهِ} ‪ :‬ينسبون ما كتبوه بأيديهم إلى التوراة بوصفها ‪ 2‬كتاب ال ووحيه إلى موسى عليه‬ ‫السلم‪.‬‬ ‫{ َيكْسِبُونَ} ‪ :‬الكسب يكون في الخير‪ ،‬وهو هنا في الشر فيكون من باب التهكم بهم‪.‬‬ ‫{أَيّاما َمعْدُو َدةً} ‪ :‬أربعين ‪ 3‬يوما وهذا من كذبهم وتضليلهم للعوام منهم ليصرفوهم عن السلم‪.‬‬

‫عهْدا} ‪ :‬الهمزة للستفهام النكاري‪ ،‬والعهد‪ :‬الوعد المؤكد‪.‬‬ ‫{أَتّخَذْ ُتمْ عِنْدَ اللّهِ َ‬ ‫{سَيّ َئةً} ‪ :‬هذه سيئة الكفر والكذب على ال تعالى‪.‬‬ ‫طتْ ‪ِ 4‬بهِ} ‪ :‬الحاطة بالشيء‪ :‬اللتفاف به والدوران عليه‪.‬‬ ‫{وَأَحَا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الويل‪ :‬مصدر أمات‪ ،‬العرب فعله‪ ،‬ومؤنثه‪ :‬الويلة‪ ،‬والجمع‪ :‬الويلت‪ ،‬وإعرابه‪ :‬إن أفرد ولم‬ ‫يضف الرفع بالبتداء وخبره المجرور بحرف الجر‪ ،‬وإن أضيف إلى ضمير نصب نحو‪ :‬ويلك ل‬ ‫تفعل كذا‪ ،‬وإن أضيف إلى ظاهر رفع البتداء‪ ،‬نحو‪ :‬ويل أمه‪ .‬مسعر حرب الحديث‪.‬‬ ‫‪ 2‬من المعلوم إن التوراة قد أخذت من اليهود في حملة بختنصر‪ ،‬وفي حملة القائد الروماني‪ ،‬ولذا‬ ‫ضاع أكثرها وزيد فيها ونقص بحيث ما أصبحت صالحة لهداية البشرية‪ ،‬ومن هنا أصبح‬ ‫علماؤهم يكتبون الكلمات وينسبونها إلى التوراة التي هي كتاب ال في الصل‪ ،‬ويزعمون أن ما‬ ‫كتبوه هو من كتاب ال‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر ابن كثير في سبب نزول قوله تعالى‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َت َمسّنَا النّارُ إِل أَيّاما} أن عكرمة قال‪:‬‬ ‫"خاصمت اليهود رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬لن ندخل النار إل أربعين ليلة‪ ،‬وسيخلفنا‬ ‫فيها آخرون‪ ،‬يعنون محمدا وأصحابه‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده على رؤسهم‪" :‬بل‬ ‫أنتم خالدون مخلدون ل يخلفنكم فيها أحد" فأنزل ال عز وجل‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َتمَسّنَا النّارُ‪ }...‬الية‪.‬‬ ‫‪ 4‬بين هذا رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله‪ :‬في رواية أحمد‪ ،‬فقال‪" :‬إياكم ومحقرات الذنوب‬ ‫فإنهن يجتمعن على الرجل" ‪.‬‬

‫( ‪)1/75‬‬ ‫{خَطِيئَتُهُ} ‪ :‬الخطيئة‪ :‬واحدة الخطايا وهي الذنوب عامة‪.‬‬ ‫الخلود ‪ :‬البقاء الدائم الذي ل تحول معه ول ارتحال‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يتوعد الرب تبارك وتعالى بالعذاب الليم أولئك المضللين من اليهود الذين يحرفون كلم ال‪،‬‬ ‫ويكتبون أمورا من الباطل وينسبونها إلى ال تعالى ليتوصلوا بها إلى أغراض دنيوية سافلة‪.‬‬ ‫وينكر عليهم تبجحهم الفارغ بأنهم ل يعذبون بالنار مهما كانت ذنوبهم ما داموا على ملة اليهود إل‬ ‫أربعين يوما ثم يخرجون‪ ،‬وجائز أن يتم هذا لو كان هناك عهد من ال تعالى قطعه لهم به ولكن‬ ‫أين العهد؟ إنما هو الدعاء الكاذب فقط ثم يقرر العليم الحكيم سبحانه وتعالى حكمه في مصير‬ ‫النسان بدخول النار أو الجنة ذلك الحكم القائم على العدل والرحمة البعيد عن التأثير بالنساب‬ ‫والحساب‪ ،‬فيقول‪{ :‬بلى}‪ ،‬ليس المر كما تدعون‪ ،‬وإنما هي الخطايا والحسنات فمن كسب سيئة‬ ‫وأحاطت ‪1‬به خطيئته ‪ 2‬فخبثت نفسه ولوثتها فهذا ل يلئم خبث نفسه إل النار‪ ،‬ومن آمن وعمل‬

‫صالحا فزكى باليمان والعمل الصالح نفسه وطهرها فإنه ل يلئم طهارة روحه وزكاة نفسه إل‬ ‫الجنة دار النعيم‪ .‬أما الحسب والنسب والدعاءات الكاذبة فل تأثير لها البتة‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التحذير الشديد من الفتاوى الباطلة التي تحرم ما أحل ال أو تحلل ما حرم ليتوصل بها‬ ‫صاحبها إلى غرض دنيوي كمال‪ ،‬أو حظوة لدى ذي سلطان‪.‬‬ ‫‪ -2‬إبطال النتفاع بالنسب والنتساب‪ ،‬وتقرير أن سعادة النسان؛ كشقائه مردهما في السعادة إلى‬ ‫اليمان والعمل الصالح‪ .‬وفي الشقاوة إلى الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -3‬التنبيه على خطر الذنوب صغيرها وكبيرها‪ ،‬وإلى العمل على تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح‬ ‫قبل أن تحوط بالنفس فتحجبها عن التوبة‪ .‬والعياذ بال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬دل على هذا على أن المعلق على شرطين ل يتم بأقلهما‪ ،‬وهو في قوله صلى ال عليه وسلم‬ ‫للذي قال له‪ :‬قل لي في السلم قولً ل أسأل عنه أحدا بعدك‪ .‬قال‪" :‬قل آمنت بال ثم استقم"‬ ‫حديث حسن ذكره النووي في الربعين‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ نافع‪ :‬خطيئاته‪ ،‬بالجمع‪ .‬وقرأ حفص‪ :‬خطيئته بالفراد‪.‬‬

‫( ‪)1/76‬‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪ )82‬وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَاقَ‬ ‫{وَالّذِينَ‪ 1‬آمَنُوا وَ َ‬ ‫ن َوقُولُوا‬ ‫بَنِي إِسْرائيلَ ل َتعْبُدُونَ‪ 2‬إِل اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْن ‪ِ ِ 3‬إحْسَانا وَذِي ‪ 4‬ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬ ‫خذْنَا‬ ‫لِلنّاسِ حُسْنا وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ ثُمّ َتوَلّيْتُمْ إِل قَلِيلً‪ 5‬مِ ْنكُ ْم وَأَنْتُمْ ُمعْ ِرضُونَ(‪ )83‬وَإِذْ أَ َ‬ ‫ش َهدُونَ(‪ُ )84‬ثمّ أَنْتُمْ‪6‬‬ ‫س ُكمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ ثُمّ َأقْرَرْ ُت ْم وَأَنْتُمْ تَ ْ‬ ‫س ِفكُونَ ِدمَا َءكُ ْم وَل تُخْ ِرجُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫مِيثَا َقكُمْ ل تَ ْ‬ ‫ن وَإِنْ‬ ‫سكُ ْم وَ ُتخْرِجُونَ فَرِيقا مِ ْنكُمْ مِنْ دِيَارِ ِهمْ َتظَاهَرُونَ عَلَ ْيهِمْ بِالِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬ ‫َهؤُلءِ َتقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫جهُمْ َأفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ وَ َت ْكفُرُونَ بِ َب ْعضٍ َفمَا‬ ‫يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ُتفَادُوهُمْ وَ ُهوَ ُمحَرّمٌ عَلَ ْي ُكمْ إِخْرَا ُ‬ ‫جَزَاءُ مَنْ َي ْفعَلُ ذَِلكَ مِ ْن ُكمْ إِل خِ ْزيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُ َردّونَ ِإلَى َأشَدّ ا ْل َعذَابِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ آمَنُوا‪ }...‬إلخ‪ .‬بعد ذكر النار وأهلها من باب ذكر الترغيب بعد الترهيب‬ ‫كما في سنة القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله‪{ :‬ل َتعْبُدُونَ‪ }..‬إلخ‪ .‬تفسير لمضمون الميثاق‪ .‬والجملة خبرية لفظا‪ ،‬إنشائية معنى‪ ،‬إذ هي‬ ‫في معنى اعبدوا ال وحده‪ ،‬وأحسنوا بالوالدين‪ .‬وقولوا للناس حسنا‪ .‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الوالدان‪ :‬الم‪ ،‬والب‪ .‬يقال‪ :‬للم‪ ،‬والد‪ ،‬ووالدة‪ .‬فلذا ثنى على الوالدين‪ ،‬أو هو من باب‬

‫التغليب؛ كالعمرين في أبي بكر وعمر رضي ال عنهما‪.‬‬ ‫‪ 4‬ذي‪ :‬بمعنى صاحب‪.‬‬ ‫‪ 5‬فيه إنصاف واحتراز حيث استثنى من لم يتل عما التزم به من بنود العهد‪ ،‬وإن كان قليلً‪.‬‬ ‫‪ 6‬أعرب‪( :‬أنتم) خبر مقدم‪ ،‬وهؤلء مبتدأ مؤخر‪ ،‬وتقتلون‪ :‬حال‪ .‬وأعرب أيضا‪( :‬أنتم) مبتدأ‪،‬‬ ‫وهؤلء منادى‪ ،‬والخبر‪ ،‬تقتلون‪ :‬أي‪ :‬ثم أنتم يا هؤلء تقتلون‪ .‬وفيه معنى التعجب من حالهم‬ ‫والنكار عليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/77‬‬ ‫خ ّففُ عَ ْن ُهمُ‬ ‫عمّا َت ْعمَلُونَ(‪ )85‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا ‪ 1‬ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ فَل يُ َ‬ ‫َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫ب وَل هُمْ يُ ْنصَرُون(‪})86‬‬ ‫ا ْلعَذَا ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الميثاق ‪ :‬العهد ‪ 2‬المؤكد باليمين‪.‬‬ ‫حسنا ‪ :‬حسن القول‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطبة باللين‪ ،‬والكلم الطيب الخالي‬ ‫من البذاءة والفحش‪.‬‬ ‫توليتم ‪ :‬رجعتم عما التزمتم به مصممين على أن ل تتوبوا‪.‬‬ ‫سفك الدماء ‪ : 3‬إراقتها وصبها بالقتل والجراحات‪.‬‬ ‫تظاهرون ‪ :‬قرئ تظّاهرون‪ ،‬وتظاهرون بتاء واحدة ومعناه تتعاونون‪.‬‬ ‫بالثم والعدوان ‪ :‬الثم‪ :‬الضار الموجب للعقوبة‪ ،‬والعدوان الظلم‪.‬‬ ‫أسارى ‪ :‬جمع أسير‪ :‬من أخذ في الحرب‪.‬‬ ‫الخزي ‪ :‬الذل والمهانة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في تذكير اليهود ‪ 4‬بما كان لسلفهم من خير وغيره والمراد هدايتهم لو‬ ‫كانوا يهتدون‪ ،‬فقد ذكرهم في الية(‪ )83‬بما أخذ ال تعالى عليهم في التوراة من عهود ومواثيق‬ ‫على أن يعبدوا ال وحده ول يشركوا في عبادته سواه‪ .‬وأن يحسنوا للوالدين ولذي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬باعوا آخرتهم بدنياهم فخسروا خسرانا عظيما بحقارة الدنيا‪ ،‬وعظم الخرة‪ ،‬والشتراء في‬ ‫الية بمعنى‪ :‬الستبدال‪ ،‬استبدلوا الخرة فلم يعملوا لها بالدنيا حيث قصروا أعمالهم على‬ ‫تحصيلها‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الميثاق تضمنه الوصايا العشر المنزلة على موسى عليه السلم‪ ،‬أو على القل بعضه‬ ‫والبعض الخر تضمنه ما أخذ عليهم عند رفع الطور عليهم لما رفضوا اللتزام بما في التوراة‪.‬‬

‫سكُمْ} ليس معناه أن أحدهم يقتل‬ ‫س ِفكُونَ ِدمَا َء ُكمْ} ‪ ،‬وقوله‪َ { :‬تقْتُلُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫‪ 3‬قوله تعالى في الية‪َ { :‬ت ْ‬ ‫نفسه ويسفك‪ :‬أي يسيل دمه‪ ،‬وإنما ل يسفك بعضكم دم بعض‪ ،‬ول يقتل بعضكم بعضا؛ لنكم أمة‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫‪ 4‬هم يهود المدينة‪ ،‬وهم ثلث طوائف‪ :‬بنو قينقاع‪ ،‬وبنو النضير‪ ،‬وقريظة‪.‬‬

‫( ‪)1/78‬‬ ‫القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس الحسن من القول ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة‪،‬‬ ‫وندد بصنيعهم حيث نقض هذا العهد والميثاق أكثرهم ولم يفوا به وفي الية الثانية(‪ )84‬ذكرهم‬ ‫بميثاق خاص أخذه عليهم في التوراة أيضا وهو السرائيلي ل يقتل السرائيلي ول يخرجه من‬ ‫داره بغيا وعدوانا عليه‪ ،‬وإذا وقع في السر وجب فكاكه بكل وسيلة ول يجوز تركه أسيرا بحال‪،‬‬ ‫أخذ عليهم بهذا ميثاقا غليظا وأقروا به وشهدوا عليه وفي الية الثالثة(‪ )85‬وبخهم على عدم‬ ‫وفائهم بما التزموا به حيث صار اليهودي يقتل ‪ 1‬اليهودي ويخرجه من داره بغيا وعدوانا عليه‪.‬‬ ‫وفي نفس الوقت إن أتاهم يهودي أسيرا‪ 2‬فَدوه بالغالي والرخيص‪ ،‬فندد ال تعالى بصنيعهم هذا‬ ‫الذي هو إهمال واجب وقيام بآخر تبعا لهوائهم فكانوا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض‪،‬‬ ‫ومن هنا توعدهم بخزي الدنيا وعذاب الخرة‪ .‬وفي الية الرابعة(‪ )86‬أخبر أنهم بصنيعهم ذلك‬ ‫اشتروا الحياة الدنيا بالخرة فكان جزاؤهم عذاب الخرة حيث ل يخفف عنهم ول ينصرون فيه‬ ‫بدفعه عنهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية تذكير الناس ووعظهم بما يكون سببا لهدايتهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب عبادة ال وتوحيده فيها‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الحسان إلى الوالدين ولذوي القربى واليتامى ‪ 3‬والمساكين‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب معاملة الناس بحسن ‪ 4‬الدب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حصل لهم هذا بالمدينة النبوية وذلك أن سكان المدينة كانوا يتألفون من قبيلتين‪ :‬الوس‪،‬‬ ‫والخزرج‪ ،‬وقبائل اليهود الثلث‪ ،‬وكانت تندلع الحروب بينهم لتفه السباب‪ ،‬وكانوا بنو قينقاع‬ ‫وبنو النضير حلفا للخزرج‪ ،‬وبنو قريظة حلفا للوس‪ ،‬فإذا اندلعت الحرب بين الوس والخزرج‬ ‫قاتل اليهود مع حلفاؤهم‪ ،‬وبذلك يقتل اليهودي أخاه ويسفك دمه وإذا انتهت الحرب فادوا أسراهم‬ ‫طاعة ل تعالى إذا أوجب ذلك عليهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬السر‪ :‬مأخوذ من السار وهو‪ :‬القد الذي يشد به المحمل فيسمى أخيذ الحرب‪ :‬أسيرا‪ ،‬لنه يشد‬

‫وثاقه‪ ،‬وجمع‪ :‬أسرى‪ ،‬وأسارى؛ كسكرى‪ ،‬وسكارى‪ ،‬ثم سمي كل أخيه في الحرب‪ :‬أسيرا‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى مسلم عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬كافل التيم له أو‬ ‫لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار الراوي بالسبابة والوسطى‪ .‬أي‪ :‬من أصابعه كما روي‬ ‫أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬الساعي على الرملة والمسكين‬ ‫كالمجاهد في سبيل ال" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬بأن يكون اللفظ طيبا والوجه منبسطًا‪.‬‬

‫( ‪)1/79‬‬ ‫‪ -5‬تعرض أمة السلم لخزي الدنيا وعذاب الخرة بتطبيقها بعض أحكام الشريعة وإهمالها‬ ‫البعض الخر‪.‬‬ ‫‪ -6‬كفر من يتخير أحكام الشرع فيعمل ما يوافق مصالحه وهواه‪ ،‬ويعمل ما ل يوافق‪.‬‬ ‫‪ -7‬كفر من ل يقيم دين ال إعراضا عنه ودعم مبالة به‪.‬‬ ‫ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ‬ ‫ل وَآتَيْنَا عِيسَى ‪ 1‬ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ‬ ‫سِ‬ ‫ب َو َقفّيْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ بِالرّ ُ‬ ‫{وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَا َ‬ ‫س ُكمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ فَفَرِيقا كَذّبْتُ ْم َوفَرِيقا َتقْتُلُونَ(‪)87‬‬ ‫ا ْلقُدُسِ َأ َفكُّلمَا ‪ 2‬جَا َءكُمْ رَسُولٌ ِبمَا ل َت ْهوَى ‪ 3‬أَ ْنفُ ُ‬ ‫َوقَالُوا قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ َلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيلً مَا ُي ْؤمِنُونَ(‪ )88‬وََلمّا جَا َءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ‬ ‫ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ َوكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا جَاءَهُمْ مَا عَ َرفُوا َكفَرُوا ِبهِ فََلعْنَةُ‬ ‫سهُمْ أَنْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ َبغْيا أَنْ يُنَ ّزلَ اللّهُ مِنْ‬ ‫سمَا اشْتَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬ ‫علَى ا ْلكَافِرِينَ(‪ )89‬بِ ْئ َ‬ ‫اللّهِ َ‬ ‫ب وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ ُمهِينٌ(‪})90‬‬ ‫غضَ ٍ‬ ‫ضبٍ عَلَى َ‬ ‫َفضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ فَبَاءُوا ِب َغ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عيسى‪ :‬معرب يسوع‪ ،‬أو يشوع؛ لن عيسى أخف منهما‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله تعالى‪َ{ :‬أ َفكُّلمَا جَا َء ُكمْ} ‪ .‬إلخ‪ .‬إيحاء باللوم والعتاب بل هو تقريع وتوبيخ لليهود على‬ ‫تمردهم على رسلهم بتكذيب البعض وقتل البعض اتباعا لهوائهم وأغراضهم الدنية‪.‬‬ ‫‪ 3‬تهوى‪ :‬مضارع هوى بكسر الواو‪ ،‬إذا أحب‪ ،‬ومنه حديث البخاري‪ :‬وال ما أرى ربك إل‬ ‫يسارع في هواك أي حبك والقائلة عائشة رضي ال عنه‪ .‬ويجمع الهوى على أهواء‪.‬‬

‫( ‪)1/80‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مُوسَى} ‪ :‬موسى بن عمران نبي مرسل إلى بني إسرائيل‪.‬‬ ‫{ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬التوراة‪.‬‬

‫{ َو َقفّيْنَا} ‪ :‬أرسلناهم ي ْقفُو بعضهم بعضا أي واحدا بعد واحد‪.‬‬ ‫سلِ} ‪ :‬جمع رسول‪ :‬ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه‪.‬‬ ‫{بِالرّ ُ‬ ‫{الْبَيّنَاتِ} ‪ :‬المعجزات وآيات ال في النجيل‪.‬‬ ‫{بِرُوحِ‪ 1‬ا ْلقُدُسِ} ‪ :‬جبريل عليه السلم‪.‬‬ ‫{غُ ْلفٌ} ‪ :‬عليها غلف يمنعها من الفهم لما تدعونا إليه‪ ،‬أو هي أوعية للعلم فل نحتاج معها إلى أن‬ ‫نتعلم عنك‪.‬‬ ‫{كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} ‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫{يَسْ َتفْتِحُونَ ‪ : }2‬يطلبون الفتح أي النصر‪.‬‬ ‫سمَا} ‪ :‬بئس كلمة ذم‪ ،‬ضدها نِعمَ فإنها للمدح‪.‬‬ ‫{بِئْ َ‬ ‫{بغيا‪ : }3‬حسدا وظلما‪.‬‬ ‫ضبٍ ‪ : }4‬رجعوا والغضب ضد الرضا‪ ،‬ومن غضب ال عليه أبعده ومن رضي ال‬ ‫{فَبَاءُوا ِب َغ َ‬ ‫عنه قربه وأدناه‪.‬‬ ‫{ ُمهِينٌ} ‪ :‬عذاب فيه إهانة وصغار وذل للمعذب به‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام ال تعالى على بني إسرائيل‪ ،‬وذكر معايبهم وبيان مثالبهم‪،‬‬ ‫لعل ذكر النعام يحملهم على الشكر فيؤمنوا‪ ،‬وذكر المعايب يحملهم على الصلح والتوبة فيتوبوا‬ ‫ويصلحوا‪ ،‬ففي الية (‪ )87‬يذكر تعالى منته بإعطاء موسى التوراة وإرسال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الروح‪ :‬جوهر نوراني لطيف ل يدرك بالحواس فيطلق على نفس النسان دون أنفس‬ ‫الحيوانات‪ ،‬ويطلق على جبريل عليه السلم وعلى ملك عظيم من الملئكة‪ ،‬والقدس مصدر أو اسم‬ ‫مصدر بمعنى‪ :‬النزاهة‪ ،‬والطهارة‪ ،‬والمقدس‪ :‬معناه المطهر المنزه عما ل يليق به‪.‬‬ ‫‪ 2‬وذلك بإيمانهم واتباعهم للنبي المنتظر‪ .‬أل إنهم لما جاءهم كفروا به‪ ،‬وهذه طبيعتهم كما قيل‪:‬‬ ‫شنشنه أعرفها من أخزم‪.‬‬ ‫‪ 3‬مفعول لجله علة لكفرهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬هل تعدد الغضب لتعدد كفرهم بما أمروا باليمان به‪ ،‬إذ كفروا بعيسى فباؤا بغضب وكفروا‬ ‫بمحمد صلى ال عليه وسلم فباؤا بغضب آخر‪ ،‬أو هو شدة الحال عليهم لكثرة كفرهم وفسقهم؟‪.‬‬

‫( ‪)1/81‬‬ ‫الرسل بعده بعضهم على أثر بعض‪ ،‬وبإعطاء عيسى البينات وتأييده بروح القدس جبريل عليه‬ ‫السلم ومع هذا فإنهم لم يستقيموا بل كانوا يقتلون النبياء ويكذبونهم‪ ،‬فوبخهم ال تعالى على ذلك‬

‫سكُمُ اسْ َتكْبَرْتُمْ َففَرِيقا كَذّبْتُمْ َوفَرِيقا َتقْتُلُونَ} ‪ .‬وفي‬ ‫بقوله‪َ { :‬أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ‪َ 1‬رسُولٌ ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬ ‫الية الثانية(‪ )88‬يذكر تعالى تبجحهم بالعلم واستغناءهم به‪ ،‬ويبطل دعواهم وثبت علة ذلك وهي‪:‬‬ ‫أن ال لعنهم بكفرهم‪ ،‬فلذا هم ل يؤمنون‪ ،‬وفي الية الثالثة(‪ )89‬يذكر تعالى كفرهم بالقرآن ونبيه‬ ‫بعد أن كانوا قبل بعثة النبي صلى ال عليه وسلم يقولون للعرب إن نبيا قد أظل زمانه وسوف‬ ‫نؤمن به ونقاتلكم معه وننتصر ‪ 2‬عليكم‪ ،‬فما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة ال ‪ 3‬عليهم؛ لنهم‬ ‫كافرون‪ .‬وفي الية الرابعة(‪ )89‬يقبح ال تعالى سلوكهم حيث باعوا أنفسهم رخيصة‪ ،‬باعوها‬ ‫بالكفر فلم يؤمنوا بالقرآن ونبيه حسدا ‪ 4‬أن يكون في العرب نبي يوحى إليه‪ ،‬ورسول يطاع ويتبع‪،‬‬ ‫فرجعوا من طول رحلتهم في الضلل بغضب عظيم سببه كفرهم بعيسى‪ ،‬وبغضب عظيم سببه‬ ‫كفرهم بمحمد صلى ال عليه وسلم ومع الغضب العذاب المهين في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬واجب النعمة الشكر‪ ،‬وواجب الذنب التوبة‪.‬‬ ‫‪ -2‬قبح رد الحق لعدم موافقته لهوى النفس‬ ‫‪ -3‬فظاعة جريمة القتل والتكذيب بالحق‪.‬‬ ‫‪ -4‬سوء عاقبة التبجح بالعلم وإدعاء عدم الحاجة إلى المزيد منه‪.‬‬ ‫‪ -5‬ذم الحسد وأنه أخو البغي وعاقبتهما الحرمان والخراب‪.‬‬ ‫‪ -6‬شر ما يخاف منه سوء الخاتمة والعياذ بال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجمهور من النحاة‪ :‬على أن همزة الستفهام في‪َ{ :‬أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ} ونحوها مقدمة من تأخير إذ‬ ‫موقعها بعد الفاء العاطفة‪ ،‬ولما كان حرف الستفهام وخاصة الهمزة له الصدارة‪ ،‬قدمت الهمزة‬ ‫على الفاء العاطفة فقال‪َ{ :‬أ َفكُّلمَا} وخلف الجمهور يرى أن الهمزة داخلة على محذوف يقدر‬ ‫بحسب المقام‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا معنى قوله تعالى‪َ { :‬وكَانُوا مِنْ قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُوا فََلمّا جَاءَ ُهمْ مَا عَ َرفُوا كَفَرُوا‬ ‫بِه} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم يقل ال تعالى‪ :‬فلعنة ال عليهم‪ ،‬وإنما قال‪{ :‬فلعنة ال على الكافرين} إشارة إلى سبب اللعنة‪،‬‬ ‫وهو الكفر ل الجنس‪ ،‬أو العرق‪ ،‬وليعم كل كافر أيضا‪.‬‬ ‫‪ 4‬سمي الحسد‪ :‬بغيا وظلما؛ لن البغي والظلم بمعنى‪ ،‬والظلم وضع الشيء في غير موضعه‪،‬‬ ‫والحاسد متمني زوال النعمة عن المحسود وهو في هذا الحال ظالم متعد؛ لنه ل يناله من زوالها‬ ‫نفع ول من بقاءها ضرر‪.‬‬

‫( ‪)1/82‬‬

‫حقّ‬ ‫{وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ آمِنُوا ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا ُن ْؤمِنُ ِبمَا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا وَ َي ْكفُرُونَ ِبمَا وَرَا َءهُ‪ 1‬وَ ُهوَ الْ َ‬ ‫ُمصَدّقا‪ِ 2‬لمَا َم َعهُمْ ُقلْ فَِلمَ َتقْتُلُونَ‪ 3‬أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ(‪ )91‬وََلقَدْ جَا َء ُكمْ مُوسَى‬ ‫جلَ مِنْ َبعْ ِد ِه وَأَنْ ُتمْ ظَاِلمُونَ(‪ )92‬وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ خُذُوا‬ ‫بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫سمَا‬ ‫جلَ ِب ُكفْرِهِمْ ُقلْ بِئْ َ‬ ‫عصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫س ِمعْنَا وَ َ‬ ‫س َمعُوا ‪ 5‬قَالُوا َ‬ ‫مَا آتَيْنَاكُمْ‪ِ 4‬ب ُقوّ ٍة وَا ْ‬ ‫يَ ْأمُ ُركُمْ بِهِ إِيمَا ُنكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪})93‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ} ‪ :‬من القرآن‪.‬‬ ‫{ ِبمَا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا} ‪ :‬التوراة‪.‬‬ ‫{وَ ُهوَ ا ْلحَقّ ُمصَدّقا} ‪ :‬القرآن الكريم مقرر لصول الديان اللهية؛ كالتوحيد والنبوات والبعث‬ ‫والجزاء في الدار الخرة‪.‬‬ ‫البينات ‪ :‬المعجزات‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬بما سواه وهو القرآن الكريم دل عليه السياق‪.‬‬ ‫صدّقا} حال مؤكدة‪ ،‬ويصح أن تكون حال مؤسسة‪.‬‬ ‫حقّ} حالية‪ُ { : ،‬م َ‬ ‫‪ 2‬جملة‪َ { :‬و ُهوَ الْ َ‬ ‫‪ 3‬التيان بالمضارع في‪َ { :‬تقْتُلُونَ} مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة كما في‬ ‫إشارة إلى استعدادهم لفعل تلك الفعلة الشنيعة وهي قتل النبياء والعلماء‪.‬‬ ‫‪ 4‬فإن قيل لقد سبق مثل هذا القصص‪ ،‬فما الفائدة من إعادته هنا؟ الجواب‪ :‬إنه ذكر فيه ما لم‬ ‫س َمعُوا‪ .}...‬إلخ‪.‬‬ ‫يذكر هناك‪ ،‬وهو قوله‪{ :‬وَا ْ‬ ‫س َمعُوا‪ }...‬ليس المراد بالسماع بالحاسة‪ ،‬وإنما المراد الطاعة والمتثال؛ كقول المرء‪:‬‬ ‫‪ 5‬قوله‪{ :‬وَا ْ‬ ‫عصَيْنَا} ليس معناه‬ ‫فلن ل يسمع كلمي‪ ،‬فإن معناه ل يمتثل أمري ول يطيعني كما أن قوله‪{ :‬وَ َ‬ ‫بلفظ عصينا وإنما معناه إنهم لم يمتثلوا المر الصادر إليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/83‬‬ ‫جلَ} ‪ :‬يريد إلها عبدتموه في غيبة موسى عليه السلم‪.‬‬ ‫{اتّخَذْ ُتمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫جلَ} ‪ :‬أي حب العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك‪.‬‬ ‫{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْلعِ ْ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في بني إسرائيل وتقريعهم على سوء أفعالهم‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )91‬يخبر‬ ‫تعالى أن اليهود إذا دعوا إلى اليمان بالقرآن يدّعون أنهم في غير حاجة إلى إيمان جديد بحجة‬ ‫أنهم مؤمنون من قبل بما أنزل ال تعالى في التوراة وبهذا يكفرون بغير التوراة وهو القرآن‪ ،‬مع‬

‫أن القرآن حق‪ ،‬والدليل أنه مصدق لما معهم من حق في التوراة‪ ،‬ثم أمر ال رسوله أن يبطل‬ ‫دعواهم موبخا إياهم بقوله‪ { :‬فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَ ْبلُ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ} إذ قتل النبياء يتنافى‬ ‫مع اليمان تمام المنافاة‪.‬‬ ‫وفي الية الثالثة(‪ )93‬يذكر تعالى اليهود بما أخذه على أسلفهم من عهد وميثاق بالعمل بما جاء‬ ‫في التوراة عندما رفع الطور فوق رؤوسهم تهديدا لهم غير أنهم لم يفوا بما عاهدوا عليه‪ ،‬كأنهم‬ ‫قالوا سمعنا وعصينا‪ ،‬فعبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم بسبب كفرهم ثم أمر رسوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم أن يقبح ما ادعوه من أن إيمانهم هو الذي أمرهم بقتل النبياء وعبادة العجل‪ ،‬والتمرد‬ ‫والعصيان‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية توبيخ أهل الجرائم على جرائمهم إذا أظهروها‪.‬‬ ‫‪ -2‬جرأة اليهود على قتل النبياء والمصلحين من الناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب أخذ أمور الشرع بالحزم والعزم والقوة‪.‬‬ ‫‪ -4‬اليمان بالحق ل يأمر صاحبه إل بالمعروف‪ ،‬واليمان بالباطل المزيف يأمر صاحبه بالمنكر‪.‬‬ ‫{ ُقلْ إِنْ كَا َنتْ َلكُمُ‪ 1‬الدّارُ الخِ َرةُ عِنْدَ اللّهِ خَاِلصَةً مِنْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية تحمل الرد على مزاعم أخرى لليهود وهي دعواهم إنهم أولياء ال وإن الجنة لهم دون‬ ‫غيرهم‪ ،‬ولذا فهم في غير حاجة إلى دين جديد كالسلم الذي جاء محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫فأمر ال رسوله أن يباهلهم فطلب منهم أن يتمنوا الموت وسألوه فنكلوا ولم يباهلوا وظهر بذلك‬ ‫كذبهم وتمت فضيحتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/84‬‬ ‫دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪ )94‬وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ‬ ‫حدُهُمْ َلوْ ُي َعمّرُ أَ ْلفَ‬ ‫بِالظّاِلمِينَ(‪ )95‬وَلَ َتجِدَ ّنهُمْ َأحْ َرصَ النّاسِ عَلَى حَيَا ٍة َومِنَ الّذِينَ َأشْ َركُوا َيوَدّ أَ َ‬ ‫سَنَةٍ َومَا ُهوَ ِبمُ َزحْزِحِهِ مِنَ ا ْلعَذَابِ أَنْ ُي َعمّ َر وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ(‪ُ )96‬قلْ مَنْ كَانَ‪ 1‬عَ ُدوّا‬ ‫ى وَبُشْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ )97‬مَنْ كَانَ‬ ‫لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُد ً‬ ‫ع ُدوّ لِ ْلكَافِرِينَ(‪})98‬‬ ‫سلِ ِه وَجِبْرِيلَ‪َ 2‬ومِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫عَ ُدوّا لِلّ ِه َومَلئِكَتِ ِه وَرُ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الدّارُ الخِ َرةُ} ‪ :‬المراد منها نعيمها وما أعد ال تعالى فيها لوليائه‪.‬‬ ‫{خَاِلصَةً} ‪ :‬خاصة ل يدخلها أحد سواكم‪.‬‬

‫{فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ} ‪ :‬تمنوه في نفوسكم واطلبوه بألسنتكم‪ ،‬فإن من كانت له الدار الخرة ل خير له في‬ ‫بقائه في الدنيا‪.‬‬ ‫{إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ} ‪ :‬أي في دعوى أن نعيم الخرة خاص بكم ل يشارككم فيه غيركم‪.‬‬ ‫{حَيَاةٍ} ‪ :‬التنكير فيها لتعم كل حياة ولو كانت ذميمة‪.‬‬ ‫{ َيوَدّ} ‪ :‬يحب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫ع ُدوّا لِجِبْرِيلَ‪ }...‬إلخ‪ .‬أن اليهود قالوا للنبي صلى ال‬ ‫‪ 1‬روى الترمذي في سبب نزول‪{ :‬مَنْ كَانَ َ‬ ‫عليه وسلم‪ :‬إنه ليس نبي من النبياء إل يأتيه ملك من الملئكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي‪،‬‬ ‫فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل‪" :‬قالوا‪ :‬ذلك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذلك عدونا لو‬ ‫قلت‪ :‬ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك‪ ،‬فأنزل ال الية إلى قوله‪{ :‬لِ ْلكَافِرِينَ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر جبريل وميكائيل بعد ذكرهم في عموم الملئكة دليل على شرفهما وعلو مقامهما‪.‬‬

‫( ‪)1/85‬‬ ‫{الّذِينَ أَشْ َركُوا} ‪ :‬هم غير أهل الكتاب من سائر الكفار‪.‬‬ ‫{ ِبمُزَحْ ِزحِهِ} ‪ :‬بمبعده من العذاب‪.‬‬ ‫{أَنْ ُي َعمّرَ} ‪ :‬تعميره ألف سنة‪.‬‬ ‫جبريل ‪ :‬روح القدس الموكل بالوحي يتنزل به على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{نَزَّلهُ عَلَى قَلْ ِبكَ} ‪ :‬نزل جبريل القرآن على قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{ ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ} ‪ :‬القرآن مصدق لما في الكتب السابقة من نعت الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم والبشارة به ومن التوحيد ووجوب السلم ل تعالى‪.‬‬ ‫ميكال ‪ : 1‬ميكال وميكائيل‪ :‬ملك من أعاظم الملئكة‪ ،‬وقيل‪ :‬معناه عبيد ال‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الرد على اليهود وإبطال حججهم الواهية‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )94‬أمر ال‬ ‫تعالى الرسول صلى ال عليه وسلم أن يقول لهم مباهلً إياهم‪ :‬إن كانت الدار الخرة خالصة لكم‬ ‫ل يدخل الجنة معكم أحد فتمنوا الموت لتدخلوا الجنة وتستريحوا من عناء الدنيا ومكابدة العيش‬ ‫فيها‪ ،‬فإن لم تتمنوا ظهر كذبكم وثبت كفركم وأنكم أصحاب النار‪ ،‬وفعلً ما تمنوا الموت ولو‬ ‫تمنوه لماتوا عن آخرهم‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )95‬أخبر تعالى أن اليهود لن يتمنوا الموت أبدا‪ ،‬وذلك بسبب ما قدموه من‬ ‫الذنوب والخطايا العظام الموجبة لهم عذاب النار بأنهم مجرمون ظلمة وال عليم بالظالمين‪،‬‬ ‫وسيجزيهم بظلمهم إنه حكيم عليم‪.‬‬

‫وفي الية الثالثة(‪ )96‬يخبر ال تعالى أن اليهود أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين‬ ‫الذين يود الواحد منهم أن يعيش ألف سنة‪ ،‬فكيف يتمنون الموت إذا وهم على هذا الحال من‬ ‫الحرص على الحياة‪ ،‬وذلك لعلمهم بسوء مصيرهم إن هم ماتوا‪ .‬كما يخبر تعالى أن الكافر ل‬ ‫ينجيه من العذاب طول العمر ولو عاش أكثر من ألف سنة‪ ،‬ثم هدد ال تعالى اليهود وتوعدهم‬ ‫بقوله‪{ :‬وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ} من الشر والفساد وسيجزيهم به‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في جبريل وميكائيل لغات عدة‪ ،‬أشهرها‪ :‬جبريل وجبرائيل وجبرين –بالنون‪ -‬وميكائيل‪،‬‬ ‫وميكال‪ ،‬ميكائيل‪ .‬وعن ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬عبد ال‪ ،‬وميكائيل‪ ،‬عبيد ال‪.‬‬

‫( ‪)1/86‬‬ ‫وفي الية الرابعة (‪ )97‬يأمر تعالى رسوله أن يرد على اليهود قولهم‪ :‬لو كان الملك الذي يأتيك‬ ‫بالوحي ميكائيل لمنا بك‪ ،‬ولكن لما كان جبريل‪ ،‬فجبريل عدونا؛ لنه ينزل بالعذاب‪ ،‬بقوله‪{ :‬مَنْ‬ ‫كَانَ عَ ُدوّا ِلجِبْرِيلَ} فليمت غيظا وحنقا‪ ،‬فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن بإذن ربه على قلب‬ ‫رسوله مصدقا –القرآن‪ -‬لما سبقه من الكتب وهدى يهتدى به وبشرى يبشر به المؤمنون‬ ‫الصالحون‪.‬‬ ‫وفي الية الخامسة (‪ )98‬يخبر تعالى أن من يعاديه عز وجل ويعادي أولياءه ‪ 1‬من الملئكة‬ ‫والرسل وبخاصة جبريل فإنه كافر‪ ،‬وال عدو له ولسائر الكافرين‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬صحة السلم‪ ،‬وبطلن اليهودية‪ ،‬وذلك لفشل اليهود في المباهلة بتمني الموت‪.‬‬ ‫‪ -2‬المؤمن الصالح يفضل الموت على الحياة لما يرجوه من الراحة والسعادة بعد الموت‪.‬‬ ‫‪ -3‬صدق القرآن فيما أخبر به عن اليهود من حرصهم على الحياة ولو كانت رخيصة ذميمة‪ ،‬إذ‬ ‫هذا أمر مشاهد منهم إلى اليوم‪.‬‬ ‫‪ -4‬عداوة ال تعالى للكافرين‪ .‬ولذا وجب على المؤمن معاداة أهل الكفر لمعاداتهم ل‪ ،‬ومعاداة ال‬ ‫تعالى لهم‪.‬‬ ‫عهْدا نَبَ َذهُ فَرِيقٌ‬ ‫سقُونَ‪َ )99(3‬أ َوكُّلمَا عَاهَدُوا َ‬ ‫ت َومَا َيكْفُرُ ِبهَا إِل ا ْلفَا ِ‬ ‫{وََلقَدْ‪ 2‬أَنْ َزلْنَا إِلَ ْيكَ آيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬ ‫مِ ْنهُمْ َبلْ َأكْثَرُهُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬يقول‬ ‫ال تعالى‪ :‬من عادى لي وليا فقد أذنته بالحرب"‪.‬‬

‫سقُون} نزل ردا على ابن‬ ‫‪ 2‬ذكر الطبري أن قوله تعالى‪{ :‬وََلقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ آيَاتٍ‪ }...‬إلى قوله‪{ :‬ا ْلفَا ِ‬ ‫صوريا اليهودي‪ ،‬حيث قال للرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك‬ ‫من آية بينة فنتبعك بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬كابن صوريا‪ ،‬وأضرابه ممن تعمدوا الخروج عن منهج الحق وهم يعلمون‪.‬‬

‫( ‪)1/87‬‬ ‫ل ُي ْؤمِنُونَ(‪ )100‬وََلمّا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَبَذَ‪ 1‬فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا‬ ‫ظهُورِهِمْ كَأَ ّنهُمْ ل َيعَْلمُونَ(‪})101‬‬ ‫ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّ ِه وَرَاءَ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آيَاتٍ بَيّنَاتٍ} ‪ :‬هي آيات القرآن الكريم الواضحة فيما تدل عليه من معان‪.‬‬ ‫{ َي ْكفُرُ ِبهَا} ‪ :‬يجحد بكونها كتاب ال ووحيه إلى رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫سقُونَ} ‪ :‬الخارجون عما يجب أن يكونوا عليه من اليمان بال والسلم له ظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫{ا ْلفَا ِ‬ ‫{َأوَ كُّلمَا عَا َهدُوا}‪ :‬الهمزة للستفهام النكاري‪ ،‬والواو عاطفة على تقديره أكفروا بالقرآن ونبيه‪،‬‬ ‫وكلما عاهدوا إلخ‪...‬‬ ‫العهد ‪ :‬الوعد الملزم‪.‬‬ ‫{نَ َبذَه} ‪ :‬طرحه وألقاه غير آبه به ول ملتفت إليه‪.‬‬ ‫{رَسُولٌ} ‪ :‬التنكير للتعظيم‪ ،‬والرسول هو محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن قبله عيسى عليه السلم‬ ‫{ِلمَا َم َعهُمْ} ‪ :‬من نعت الرسول صلى ال عليه وسلم وتقرير نبوته‪ ،‬وسائر أصول الدين في‬ ‫التوراة‪.‬‬ ‫{كِتَابَ اللّهِ} ‪ :‬التوراة ‪ 2‬لدللتها على نبوة النبي محمد صلى ال عليه وسلم وصحة دينه السلم‪.‬‬ ‫ظهُورِهِمْ} ‪ :‬أي أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه لمنافاته لما هم معروفون عليه من الكفر‬ ‫{وَرَاءَ ُ‬ ‫بالنبي محمد صلى ال عليه وسلم؛ كأنهم ل يعلمون مع أنهم يعلمون حق العلم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في تقرير نبوة رسول ال صلى ال عليه وسلم وعموم رسالته والرد على‬ ‫اليهود وإظهار‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النبذ‪ :‬الطرح واللقاء‪ ،‬ولذا سمي اللقيط منبوذا‪ ،‬وسمي النبيذ‪ :‬نبيذا؛ لنه طرح التمر والزبيب‬ ‫في الماء وعليه قول الشاعر‪:‬‬ ‫نظرت إلى عنوانه فنبذته ‪ ...‬كنبذك نعلً من نعالك‬ ‫يكون القرآن الكريم‪ ،‬فقد نبذوه أيضا بعد علمهم؛ بأنه الحق مصدقا لما معهم‪.‬‬

‫( ‪)1/88‬‬ ‫ما هم عليه من الفسق والظلم في الية الولى(‪ )99‬يرد تعالى على قول ابن صوريا اليهودي‬ ‫ت َومَا َي ْكفُرُ ِبهَا إِل‬ ‫للرسول صلى ال عليه وسلم ما جئتنا بشيء‪ ،‬بقوله‪ {:‬وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ آيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬ ‫سقُونَ} ؛ كالعور بن صوريا اليهودي‪ .‬وفي الية الثانية(‪ )100‬ينكر الحق سبحانه وتعالى‬ ‫ا ْلفَا ِ‬ ‫على اليهود كفرهم ونبذهم للعهود والمواثيق وليسجل عليهم عدم إيمان أكثرهم بقوله‪َ { :‬بلْ َأكْثَرُهُمْ‬ ‫ل ُي ْؤمِنُونَ} ‪ .‬وفي الية الثالثة(‪ )101‬ينعي البارئ عز وجل على علماء اليهود نبذهم للتوراة لما‬ ‫رأوا فيها من تقرير نبوة محمد صلى ال عليه وسلم وإثباتها فقال‪{ :‬وََلمّا جَاءَهُمْ َرسُولٌ مِنْ عِ ْندِ‬ ‫ظهُورِ ِهمْ‪ 2‬كَأَ ّنهُمْ ل‬ ‫اللّهِ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعهُمْ نَ َبذَ‪ 1‬فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ُ‬ ‫َيعَْلمُونَ}‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الفسق العام ينتج الكفر‪ ،‬إن العبد إذا فسق ‪ 3‬وواصل الفسق عن أوامر ال ورسوله سيؤدي به‬ ‫ذلك إلى أن ينكر ما حرم ال وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بال‪.‬‬ ‫‪ -2‬اليهود ل يلتزمون بوعد ول يفون بعهد‪ ،‬فيجب أن ل يوثق في عهودهم أبدا‪.‬‬ ‫‪ -3‬التوراة أحد كتب ال عز وجل المنزلة أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه‬ ‫السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬قبح جريمة من تنكر للحق بعد معرفته‪ ،‬ويصبح وكأنه جاهل به‪.‬‬ ‫ن َومَا َكفَرَ‬ ‫{وَاتّ َبعُوا ‪ 4‬مَا تَتْلُوا الشّيَاطِينُ عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال السدي في تفسير هذه الية‪ :‬لما جاءهم محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬عارضوه بالتوراة‬ ‫فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف‪ ،‬وسحر هاروت وماروت فلم توافق‬ ‫القرآن‪ .‬فهذا معنى‪{ :‬وََلمّا جَاءَهُمْ‪. }...‬‬ ‫‪ 2‬الظهور‪ :‬جمع ظهر ويجمع على ظهران يقال لمن أعرض عن شيء‪ :‬رماه وراء ظهره‪.‬‬ ‫‪ 3‬الفسق‪ :‬مشتق من فسقت الرطبة‪ ،‬إذا خرجت من قشرتها‪ ،‬وبه سميت الفأرة فويسقة لخروجها‬ ‫من جحرها على أهل الدار‪.‬‬ ‫‪ 4‬اشتهر بين علماء السلف أن ما تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان كان سببه‪ :‬أن مردة من‬ ‫الشياطين كتبوا كتابا ضمنوه الكثير من ضروب السحر والشعوذة والباطيل ونسبوه إلى كاتب‬ ‫سليمان‪ ،‬وهو‪ :‬أصف ودفنوه تحت كرسي سليمان حين ابتلي بنزع ملكه‪ ،‬ولما مات سليمان أخرج‬ ‫الكتاب شياطين الجن بالتعاون مع شياطين النس‪ ،‬وأعلنوا في الناس أن سليمان كان ساحرا‪ ،‬وما‬

‫غلب الجن والنس إل بالسحر‪ ،‬فصدقهم أناس وكذب آخرون‪ ،‬ولما بعث محمد صلى ال عليه‬ ‫وسلم وكفر به اليهود وتنكروا للتوراة لتفاقها مع القرآن أنزل ال تعالى قوله‪{ :‬وَاتّ َبعُوا مَا تَتْلُوا‬ ‫الشّيَاطِينُ} فبرأ سليمان وكفر اليهود‪.‬‬

‫( ‪)1/89‬‬ ‫ن وََلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ‪َ 1‬ومَا أُنْ ِزلَ‪ 2‬عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ‬ ‫سُلَ ْيمَا ُ‬ ‫ت َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّى َيقُول إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَل َت ْكفُرْ فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ بِهِ بَيْنَ‬ ‫َومَارُو َ‬ ‫ا ْلمَرْ ِء وَ َزوْجِهِ َومَا ُهمْ ِبضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِل بِِإذْنِ اللّ ِه وَيَ َتعَّلمُونَ مَا َيضُرّهُمْ وَل يَ ْن َف ُعهُ ْم وََلقَدْ‬ ‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ(‪)102‬‬ ‫ق وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا بِهِ أَ ْنفُ َ‬ ‫عَِلمُوا َلمَنِ اشْتَرَاهُ مَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَل ٍ‬ ‫وََلوْ أَ ّن ُهمْ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ خَيْرٌ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪})103‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مَا تَتْلُوا الشّيَاطِينُ} ‪ :‬الذي تتبعه وتقول به الشياطين من كلمات السحر‪.‬‬ ‫{عَلَى مُ ْلكِ سُلَ ْيمَانَ} ‪ :‬على عهد سليمان ووقت حكمه‪.‬‬ ‫{الشّيَاطِينَ} ‪ :‬جمع شيطان وهو من خبث وتمرد ولم يبق فيه قابلية للخير‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬السحر مشتق من قولهم‪ :‬سحرت الصبي‪ ،‬إذا خدعته أو عللته بشيء ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫أرانا موضعين لمر غيب ‪ ...‬ونسحر بالطعام والشراب‬ ‫يريد أن الناس مسرعون إلى الموت وهم مخدعون بالطعام وبالشراب‪.‬‬ ‫ل بمعنى الوحي اللهي ولكن إلهاما لهما فبرع فيه وتفوق على غيرهما‪.‬‬ ‫‪ 2‬لم يكن إنزا ً‬

‫( ‪)1/90‬‬ ‫{السّحْرَ ‪ : }1‬هو كل ما لطف مأخذه وخفي سببه مما له تأثير على أعين الناس أو نفوسهم أو‬ ‫أبدانهم‪.‬‬ ‫ت َومَارُوتَ} ‪ :‬ملكان وجدا للفتنة‪.‬‬ ‫{هَارُو َ‬ ‫{فَل َت ْكفُرْ} ‪ :‬ل تتعلم منا السحر لتضر به فتكفر بذلك‪.‬‬ ‫{بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء وَ َزوْجِهِ} ‪ :‬بين الرجل وامرأته‪.‬‬ ‫{اشْتَرَاهُ} ‪ :‬اشترى السحر بتعلمه والعمل به‪.‬‬ ‫الخلق‪ :‬النصيب ‪ 2‬والحظ‪.‬‬ ‫{مَا شَ َروْا} ‪ :‬ما باعوا به أنفسهم‪.‬‬

‫{َلمَثُوبَةٌ} ‪ :‬ثواب وجزاء‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في بيان ما عليه اليهود من الشر والفساد‪ ،‬ففي الية الولى (‪ )102‬يخبر‬ ‫تعالى‪ :‬أن اليهود لما نبذوا التوراة لتقريرها بنبوة محمد صلى ال عليه وسلم وتأكيدها لصحة دينه‬ ‫اتبعوا الباطيل والترهات التي جمعها شياطين النس والجن في صورة رُقى وعزائم وكانوا‬ ‫يحدثون بها‪ ،‬ويدّعون أنها من عهد سليمان بن داود عليهما السلم‪ ،‬وأنها هي التي كان سليمان‬ ‫ل ول نبيا وإنما كان ساحرا كافرا‪ ،‬فلذا‬ ‫يحكم بها النس والجن‪ ،‬ولزم هذا أن سليمان لم يكن رسو ً‬ ‫نفى ال تعالى عنه ذلك بقوله‪َ { :‬ومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَانُ} وأثبته للشياطين فقال‪َ { :‬وَلكِنّ الشّيَاطِينَ َكفَرُوا‬ ‫ُيعَّلمُونَ النّاسَ السّحْرَ} ‪ .‬كما يعلمونهم ما ألهمه الملكان هاروت وماروت ‪ 3‬ببابل العراق من‬ ‫ضروب السحر وفنونه‪ ،‬وهنا أخبرنا تعالى عن ملكي الفتنة أنهما يقولن لمن جاءهما يريد تعلم‬ ‫السحر‪ :‬إنما نحن فتنة فل تكفر بتعلمك السحر وهذا القول منهما يفهم منه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حصر بعضهم أصول السحر في ثلثة هي‪ -1 :‬زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما‬ ‫اعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفس المسحور الضعيف روحا المستعد لقبول التأثير ويشهد‬ ‫س وَاسْتَرْهَبُو ُهمْ} ‪ -2 .‬استخدام مؤثرات من خصائص‬ ‫لهذا قوله تعالى‪{ :‬سَحَرُوا أَعْيُنَ النّا ِ‬ ‫الجسام من حيوان ومعادن؛ كالرئبق وسائر العقاقير المؤثرة ويشهد لهذا قوله تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا‬ ‫صَ َنعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} ‪ -3‬الشعوذة باستخدام خفايا الحركة والسرعة حين يخيل أن الجماد يتحرك‪.‬‬ ‫سعَى} الية‪.‬‬ ‫سحْرِهِمْ أَ ّنهَا تَ ْ‬ ‫ويشهد لهذا قوله تعالى‪{ :‬يُخَ ّيلُ إِلَ ْيهِ مِنْ ِ‬ ‫‪ 2‬الحظ والنصيب من الخير خاصة لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنما يلبس هذا من لخلق له" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الملكان وهما‪ :‬هاروت وماروت ذكرا قصتهما علماء السلف ورواها مثل‪ :‬أحمد وعبد الرزاق‬ ‫وابن أبي حاتم وابن جرير‪ ،‬وخلق كثير ولم يصح فيها حديث عن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫ولكنها مروية عن ابن عمر‪ ،‬وابن عباس وعلي رضي ال عنهم‪ ،‬ولعلهم مروية عن كعب‬ ‫الحبار‪ ،‬وفي اليات عبارة وإشارة ول مانعا شرعا ول عقلً من هذه القصة‪ ،‬ومفادها أن‬ ‫الملئكة أنكروا على بني آدم =‬

‫( ‪)1/91‬‬ ‫بوضوح أن أقوال الساحر وأعماله التي يؤثر بها على الناس منها ما هو كفر في حكم ال وشرعه‬ ‫قطعا‪.‬‬ ‫كما أخبر تعالى في هذه الية أن ما يتعلمه الناس من الملكين إنما يتعلمونه ليفرقوا بين الرجل‬ ‫وامرأته‪ ،‬وأن ما يحدث به من ضرر هو حاصل بإذن ال تعالى حسب سنته في السباب‬

‫والمسببات‪ ،‬ولو شاء ال أن يوجد مانعا يمنع من حصول المر بالضرر لفعل وهو على كل شيء‬ ‫قدير‪ .‬فبهذا متعلموا السحر بسائر أنواعه إنما هم يتعلمون ما يضرهم ول ينفعهم‪ .‬وفي آخر الية‬ ‫يقرر تعالى علم اليهود بكفر الساحر ومتعلم السحر ومتعاطيه حيث أخبر تعالى أنهم ل نصيب لهم‬ ‫في الخرة من النعيم المقيم فيها‪ .‬فلذا هم كفار قطعا‪.‬‬ ‫وأخيرا يقبح تعالى ما باع به اليهود أنفسهم‪ ،‬ويسجل عليهم الجهل بنفي العلم إذ قال تعالى‪:‬‬ ‫سهُمْ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ} ‪.‬‬ ‫{وَلَبِئْسَ مَا شَ َروْا ِبهِ أَ ْنفُ َ‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )103‬يفتح تعالى على اليهود باب التوبة فيعرض عليهم اليمان والتقوى فيقول‪:‬‬ ‫{وََلوْ أَ ّنهُمْ آمَنُوا وَا ّت َقوْا َلمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬العراض عن الكتاب والسنة لتحريمهما الشر والفساد والظلم يفتح أمام المعرضين أبواب‬ ‫الباطل من ا لقوانين الوضعية‪ ،‬والبدع الدينية‪ ،‬والضللت العقلية‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيعْشُ عَنْ‬ ‫حمَنِ ُنقَ ّيضْ َلهُ شَ ْيطَانا َف ُهوَ َلهُ قَرِينٌ‪ ،‬وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِيلِ [سبيل السعادة والكمال]‬ ‫ِذكْرِ الرّ ْ‬ ‫وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ}‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر ‪ 1‬الساحر وحرمة تعلم السحر‪ ،‬وحرمة استعماله‪.‬‬ ‫__________‬ ‫= ما يرتكبون من الذنوب والمعاصي ويعجبون من ذلك‪ ،‬فأمرهم تعالى أن يختاروا ملكين منهم‬ ‫ويركب فيهم غرائز بني آدم ويكلفهم وينزلهم إلى الرض يعبدون ال كبنى آدم ثم ينظرون هل‬ ‫يعصون ال أو ل يعصونه‪ ،‬فلما نزل إلى الرض ارتكب كبائر الذنوب‪ ،‬فخير بين عذاب الدنيا‬ ‫وعذاب الخرة‪ ،‬فاختار عذاب الدنيا فجعل في بابل يعلمان الناس السحر فإذا آتاهما من يريد ذلك‬ ‫نصحا له بأن تعلم السحر كفر‪ ،‬فإذا أصر وجهاه إلى شيطان فأتاه فعلمه كيفية السحر وما يصل‬ ‫إليها إل بعد أن يكفر أفظع أنواع الكفر‪.‬‬ ‫‪ 1‬اختلف هل للسحر حقيقة أو هو مجرد خداع ل أصل له‪ .‬أهل السنة والجماعة‪ :‬أن له حقيقة‬ ‫وهو أنواع عديدة‪ ،‬وحكمه أن من تعاطاه إذا أضر به فأفسد عقلً أو عضوا أو قتل فإنه يقتل بذلك‬ ‫وإل فإنه يعذر حتى يتوب منه‪ ،‬ويشهد لمذهب الجمهور أن النبي صلى ال عليه وسلم سحره لبيد‬ ‫بن العصم‪ ،‬وأنزل ال تعالى سورة الفلق فرقاه بها جبريل فشفي‪ ،‬وقال‪" :‬إن ال شفاني"‪.‬‬ ‫والحديث في البخاري وغيره‪.‬‬

‫( ‪)1/92‬‬

‫‪ -3‬ال تعالى خالق الخير والضير‪ ،‬ول ضرر ول نفع إل بإذنه ‪ 1‬فيجب الرجوع إليه في جلب‬ ‫النفع‪ ،‬ودفع الضر بدعائه والضراعة إليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬العلم المهم؛ كالظن الذي ل يقين معه ل يغير من نفسية صاحبه شيئا فل يحمله على فعل خير‬ ‫ول على ترك شر بخلف الرسوخ في العلم فإن صاحبه يكون لديه من صادق الرغبة وعظيم‬ ‫الرهبة ما يدفعه إلى اليمان والتقوى ويجنبه الشرك والمعاصي‪ .‬وهذا ظاهر في نفي ال تعالى‬ ‫العلم عن اليهود في هاتين اليتين‪.‬‬ ‫س َمعُوا وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )104‬مَا َيوَدّ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقُولُوا رَاعِنَا َوقُولُوا انْظُرْنَا وَا ْ‬ ‫حمَ ِتهِ‬ ‫ب وَل ا ْلمُشْ ِركِينَ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَاللّهُ يَخْ َتصّ بِرَ ْ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ(‪})105‬‬ ‫مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{رَاعِنَا} ‪ :‬أمهلنا وانظرنا حتى نعي ما تقول‪.‬‬ ‫{ا ْنظُرْنَا} ‪ :‬أمهلنا حتى نفهم ما تقول ونحفظ‪.‬‬ ‫{وَلِ ْلكَافِرِينَ} ‪ :‬الجاحدين المكذبين ل ورسوله المستهزئين بهما أو بأحدهما‪.‬‬ ‫{أَلِيمٌ} ‪ :‬كثير اللم شديد اليجاع‪.‬‬ ‫ب وَل ا ْلمُشْ ِركِينَ} ‪ :‬اليهود والنصارى والوثنين من العرب وغيرهم‪.‬‬ ‫{مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫{مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَ ّبكُمْ} ‪ :‬من الوحي اللهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع الهداية‬ ‫وطرق السعاد والكمال في الدارين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي‪ :‬أن ابن بطال قال‪ :‬في كتاب وهب بن منبه أن يأخذ المسحور سبع ورقات من‬ ‫سدر أخضر فيدقها بين حجرين ثم يخلطلها بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ثم يحثو منها ثلث‬ ‫حثيات ويغتسل به فإنه يذهب عن كل ما ألم إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/93‬‬ ‫ضلِ} ‪ :‬ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه‪ .‬وال عز وجل هو صاحب الفضل إذ كل‬ ‫{ا ْل َف ْ‬ ‫ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو في غنى عنه ول حاجة به إليه أبدا‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫أما الية الولى(‪ )104‬فقد أمر ال تعالى المؤمنين أن يراعوا ‪ 1‬الدب في مخاطبة نبيهم صلى ال‬ ‫عليه وسلم تجنبا للكلمات المشبوهة؛ ككلمة‪ :‬راعنا‪ ،‬إذ قد تكون من الرعونة‪ ،‬ولما تدل عليه صيغة‬ ‫المفاعلة؛ إذ كأنهم يقولون‪ :‬راعنا نُراعك‪ ،‬وهذا ل يليق أن يخاطب به الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬

‫وأرشدهم تعالى إلى كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الدب وهي انظرنا ‪ ،2‬وأمرهم أن يسمعوا‬ ‫لنبيهم إذا خاطبهم حتى ل يضطروا إلى مراجعته‪ ،‬إذ الستهزاء بالرسول والسخرية منه‬ ‫ومخاطبته بما يفهم الستخفاف بحقه وعلو شأنه وعظيم منزلته كفر بواح‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )105‬أخبر تعالى عباده المؤمنين بأن الكافرين من أهل الكتاب ومن غيرهم من‬ ‫المشركين الوثنيين ل يحبون أن يُنزل عليكم من خير من ربكم وسواء كان قرآنا يحمل أسمى‬ ‫الداب وأعظم الشرائع وأهدى سبل السعادة والكمال‪ ،‬أو كان غير ذلك من سائر أنواع الخيرات‪،‬‬ ‫وذلك حسدا منهم للمؤمنين كما أخبرهم أنه تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده فحسد‬ ‫الكافرين لكم ل يمنع فضل ال عليكم ورحمته بكم متى أرادكم بذلك‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب التأدب مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في مخاطبته بعدم استعمال أي لفظة قد‬ ‫تفهم غير الجلل والكبار له صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب السماع لرسول ال بامتثال أمره واجتناب نهيه‪ ،‬وعند مخاطبته لمن أكرمهم ال تعالى‬ ‫بمعايشته والوجود معه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سبب نزول هذه الية‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‪ }...‬إلخ‪ .‬أن اليهود استغلوا كلمة‪ :‬راعنا‪ ،‬وصاروا يقولونها‬ ‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم ينوون بها سب رسول ال صلى ال عليه وسلم لوجود كلمة‬ ‫في العبرية مثلها ومعناه‪ :‬السب والشتم؛ كالرعونة‪ .‬فأنزل ال هذه الية‪ ،‬أرشد فيها المسلمين إلى‬ ‫ترك كلمة‪ :‬راعنا‪ ،‬وإبدالها‪ :‬بانظرنا‪ ،‬فانقطع الطريق عن اليهود لعنهم ال‪.‬‬ ‫‪ 2‬معنى انظرنا‪ :‬هو معنى راعنا‪ ،‬ولكن لما استعملها اليهود وصاروا ينوون بها سب النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم؛ لنها عندهم من الرعونة لذلك أرشد ال المسلمين إلى كلمة‪ :‬انظر‪.‬‬

‫( ‪)1/94‬‬ ‫التحذير ‪ 1‬من الكافرين كتابيين أو مشركين؛ لنهم أعداء حسدة للمؤمنين فل يحل الركون إليهم‬ ‫والطمئنان إلى أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬إذ الريبة ل تفارقهم‪.‬‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ(‪)106‬‬ ‫علَى ُكلّ َ‬ ‫سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مِ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َ‬ ‫{مَا نَنْسَخْ‪ 2‬مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُنْ ِ‬ ‫ي وَل َنصِيرٍ(‪َ )107‬أمْ‬ ‫ن وَِل ّ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َومَا َل ُكمْ مِنْ‪ 3‬دُونِ اللّهِ مِ ْ‬ ‫أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫سوَاءَ‬ ‫ضلّ َ‬ ‫ل َومَنْ يَتَ َب ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِالِيمَانِ َفقَ ْد َ‬ ‫تُرِيدُونَ‪ 4‬أَنْ تَسْأَلوا رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْب ُ‬ ‫السّبِيلِ(‪})108‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫{نَنْسَخْ} ‪ :‬نبدل أو نزيل‪.‬‬ ‫{مِنْ آيَةٍ} ‪ :‬من آيات القرآن‪ :‬جملة كلمات تحمل معنى صحيحا؛ كالتحريم أو التحليل‪ ،‬أو الباحة‪.‬‬ ‫سهَا} ‪ :‬نمسحها من قلب النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{نُنْ ِ‬ ‫{أََلمْ َتعْلَمْ} ‪ :‬الستفهام للتقرير‪.‬‬ ‫{وَِليّ} ‪ :‬حافظ يحفظكم بتولي أموركم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه الية إرشاد المسلمين إلى عدم مشابهة الكافرين في القول والعمل وحتى في الزي‬ ‫واللباس‪ ،‬ويشهد لهذه رواية أحمد عن ابن عمر رضي ال عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫قال‪" :‬بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد ال وحده ل شريك له وجعل رزقي تحت ظل‬ ‫رمحي‪ ،‬وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬معرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للعالم‪ .‬روى أن عليا رضي ال عنه أرسل إلى رجل كان‬ ‫يخوف الناس في المسجد فجاءه فقال له‪ :‬أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فاخرج من‬ ‫مسجدنا ول تذكر فيه‪ .‬وعن ابن عباس مثله‪ ،‬وقال له‪ :‬هلكت وأهلكت‪.‬‬ ‫ي وَل َنصِيرٍ} صلة‪.‬‬ ‫ن وَِل ّ‬ ‫‪ 3‬من‪ :‬ابتداء الغاية والثانية وهي‪{ :‬مِ ْ‬ ‫‪ 4‬أم‪ ،‬هنا‪ :‬هي المنقطعة بمعنى‪ :‬بل الضرابية‪.‬‬

‫( ‪)1/95‬‬ ‫{ َنصِيرٍ} ‪ :‬ناصر يدفع عنكم المكروه‪.‬‬ ‫{َأمْ تُرِيدُونَ} ‪ :‬بل أتريدون‪ ،‬إذ (أم) هنا للضراب النتقالي فهي بمعنى‪ :‬بل‪ ،‬والهمزة‪ ،‬وما سئله‬ ‫موسى هو‪ ،‬قول بني إسرائيل له‪( :‬أرنا ال جهرة)‪.‬‬ ‫سوَاءَ السّبِيلِ} ‪ :‬وسط الطريق المن من الخروج عن الطريق‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫{َ‬ ‫يخبر تعالى رادا على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا‪ :‬إن محمدا يأمر أصحابه ‪ 1‬اليوم‬ ‫بأمر وينهى عنه غدا‪ ،‬أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكما شاقا على المسلمين إلى حكم أخف؛‬ ‫كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى اثنين‪ .‬أو حكما خفيفا إلى شاق زيادة في‬ ‫الجر؛ كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان‪ ،‬أو حكما خفيفا إلى حكم خفيف مثله؛ كنسخ القبلة من‬ ‫بيت المقدس إلى الكعبة‪ ،‬أو حكما غير حكم آخر؛ كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلً عنه‪ ،‬أو نسخ الية بإزالتها من‬ ‫التلوة‪ ،‬ويبقى حكمها؛ كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالً من ال‪ ،‬فقد نسخ اللفظ‬ ‫سهَا} ‪ ،‬وهي قراءة نافع‪،‬‬ ‫من التلوة وبقي الحكم‪ .‬أو ينسخ الية وحكمها‪ .‬وهذا معنى قوله‪َ{ :‬أوْ نُ ْن ِ‬ ‫فقد ثبت أن قرآنا نزل وقرأه رسول ال صلى ال عليه وسلم وبعض أصحابه ثم نسخه ال تعالى‬

‫لفظا‪ ،‬ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد‪ .‬وهذا مظهر من مظاهر القدرة‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ} ‪ ،‬وهو أيضا مظهر من مظاهر‬ ‫اللهية الدال عليه قوله‪َ{ :‬ألَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫ت وَالَرْضِ} فهو تعال يتصرف‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫التصرف الحكيم الدال عليه قوله‪{ :‬أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة المة ومتطلبات حياتها الروحية‬ ‫والمادية‪ .‬فسبحانه من إله قدير حكيم‪ :‬ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد‪.‬‬ ‫أما قوله تعالى في آية (‪َ{ :)108‬أمْ تُرِيدُونَ أَنْ َتسْأَلوا رَسُوَلكُمْ‪ ، }2‬فهو توبيخ لمن طالب‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الكلم إشارة إلى سبب نزول هذه اليات‪ ،‬والمراد بالذين قالوا أن محمدا‪..‬إلخ ‪ :‬هم اليهود‪،‬‬ ‫واليهود ينفون وجود النسخ في الشرائع وهم مخطئون في ذلك خطأ كبيرا‪ ،‬إذ قد أباح ال تعالى‬ ‫أن لدم أن ينكح بناته بنيه فترة من الزمن‪ ،‬ثم نسخ ذلك‪ ،‬وأباح لنوح أكل سائر الحيوان بعد نزوله‬ ‫من السفينة‪ ،‬ثم نسخ ذلك‪ .‬كما أوحى ال إلى إبراهيم أن يذبح ولده‪ ،‬ثم نسخ ذلك إذ فداه بذبح‬ ‫عظيم قبل الذبح‪ ،‬وهذا نسخ للمر قبل فعله‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله تعالى‪َ { :‬كمَا سُ ِئلَ مُوسَى مِنْ قَ ْبلُ‪ . }..‬معنى سؤال بني إسرائيل موسى بأن يريهم ال‬ ‫جهرة‪ ،‬أي‪ :‬مواجهة بعد أن سمعوا كلمه‪ ،‬كما سألوه غير هذا تعنتا وجهلً بمقام الرسول موسى‬ ‫عليه السلم‪ ،‬ولذا حذر ال المؤمنين من مثل هذه المواقف القبيحة‪.‬‬

‫( ‪)1/96‬‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم بأمور ليس في مكنته‪ ،‬وإعلم من يجري على أسلوب التعنت وسوء‬ ‫الدب مع الرسول صلى ال عليه وسلم قد يصاب بزيغ القلب فيكفر‪ ،‬دلّ على هذا قوله تعالى‪:‬‬ ‫سوَاءَ السّبِيلِ} ‪.‬‬ ‫ضلّ َ‬ ‫{ َومَنْ يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِالِيمَانِ َفقَ ْد َ‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ثبوت النسخ في القرآن الكريم‪ ،‬كما هو ثابت في السنة‪ ،‬وهما أصل التشريع ول نسخ في‬ ‫قياس ول إجماع‪.‬‬ ‫‪ -2‬رأفة ال تعالى بالمؤمنين في نسخ الحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب التسليم ل والرضا بأحكامه‪ ،‬وعدم العتراض عليه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬ذم التنطع في الدين وطرح السئلة المحرجة ‪ 1‬والتحذير منم ذلك‪.‬‬ ‫سهِمْ مِنْ َبعْدِ مَا‬ ‫{وَدّ كَثِيرٌ‪ 2‬مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ يَرُدّو َنكُمْ مِنْ َب ْعدِ إِيمَا ِنكُمْ ُكفّارا حَسَدا‪ 3‬مِنْ‪ 4‬عِنْدِ أَ ْنفُ ِ‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ(‪ )109‬وََأقِيمُوا‬ ‫علَى ُكلّ َ‬ ‫صفَحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫عفُوا ‪ 5‬وَا ْ‬ ‫حقّ فَا ْ‬ ‫تَبَيّنَ َلهُمُ الْ َ‬ ‫سكُمْ‬ ‫الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُوا لَ ْنفُ ِ‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬روى مسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬هلك المتنطعون" وفسر بالمتعين في السؤال عن‬ ‫عويص المسائل التي يندر وقوعها‪.‬‬ ‫‪ 2‬مناسبة هاتين اليتين لما قبلهما ظاهرة‪ ،‬وهي أنه لما حذر تعالى المؤمنين من مسلك اليهود مع‬ ‫أنبياءهم في السئلة المحرجة المتعنتة‪ ،‬أعلمهم أن أعدائهم من اليهود يودون لهم الكفر بعد إيمانهم‬ ‫حسدا لهم وعلى رأس هؤلء كعب بن الشرف‪ ،‬وحيي بن أخطب‪ ،‬وأبو ياسر وغيرهم‪ ،‬كما أن‬ ‫ابن أبي‪ ،‬وجماعة من سكان المدينة كانوا يعملون جاهدين على صرف من آمن عن إيمانه‪ ،‬ولما‬ ‫لم يحن الوقت للقتال‪ ،‬أمرهم تعالى بالصفح والعفو والعداد حتى يأتي المر بالقتال‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحسد ثلثة أنواع‪ :‬وهي‪ :‬تمني زوال نعمة عمن هي به‪ ،‬وتمني زوالها ولو لم تحصل‬ ‫لمتمنيها‪ ،‬وهذا شر وأقبح من الول‪ ،‬وهما محرمان لها لما فيهما من تسفيه المنعم عز وجل‪ ،‬إذ‬ ‫الحاسد معترض على قسمة ال وعطاؤه عباده ما شاء‪ .‬وتمني حصول نعمة كالتي حصلت لغيره‪،‬‬ ‫وهذا مباح وليس حراما ويشهد له الحديث الصحيح‪" :‬ل حسد إل في اثنتين" الحديث ويسمى‬ ‫غبضا‪.‬‬ ‫سهِمْ} تأكيد لمضمون التي قبلها‪ .‬ومنه قوله تعالى‪َ َ{ :‬يكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ}‪،‬‬ ‫‪ 4‬جملة‪{ :‬مِنْ عِنْدِ أَ ْنفُ ِ‬ ‫{ َيقُولُونَ بَِأ ْفوَا ِههِم} ‪.‬‬ ‫‪ 5‬فاعفوا‪ :‬أصلها‪ :‬فاعفووا‪ ،‬حذفت الضمة للثقل‪ ،‬وحذفت الواو للتقاء الساكنين‪ ،‬فصارت‪ :‬فاعفوا‪.‬‬

‫( ‪)1/97‬‬ ‫مِنْ خَيْرٍ َتجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‪.})110‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَدّ} ‪ :‬أحب‪.‬‬ ‫{أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫{حَسَدا} ‪ :‬الحسد تمني زوال النعمة على من هي به‪.‬‬ ‫حقّ} ‪ :‬عرفوا أن محمدا رسول ال وأن دينه هو الدين الحق‪.‬‬ ‫{تَبَيّنَ َل ُهمُ الْ َ‬ ‫صفَحُوا} ‪ :‬ل تؤاخذهم ول تلوموهم‪ ،‬إذ العفو ترك العقاب‪ ،‬والصفح العراض عن‬ ‫عفُوا وَا ْ‬ ‫{فَا ْ‬ ‫الذنب‪.‬‬ ‫{حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ} ‪ :‬أي الذن بقتالهم والمراد بهم يهود المدينة‪ ،‬وهم‪ :‬بنو قينقاع‪ ،‬وبنو‬ ‫النضير‪ ،‬وبنو قريظة‪.‬‬ ‫{وََأقِيمُوا الصّلةَ} ‪ :‬إقامة الصلة‪ :‬أداؤها في أقواتها مستوفاة الشروط والركان والسنن‪.‬‬ ‫{وَآتُوا ال ّزكَاةَ} ‪ :‬أعطوا زكاة أموالكم وافعلوا كل ما من شأنه يزكي أنفسكم من الطاعات‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في الية الولى(‪ )109‬يخبر تعالى المؤمنين بنفسية كثير من أهل الكتاب وهي الرغبة الملحة في‬ ‫أن يتخلى المسلمون عن دينهم الحق ليصبحوا كافرين‪ ،‬ومنشأ هذه الرغبة الحسد الناجم عن نفسية‬ ‫ل ترغب أن ترى المسلمين يعيشون في نور اليمان بدل ظلمات الكفر‪ ،‬وبعد أن أعلم عباده‬ ‫المؤمنين بما يضمر لهم أعداؤهم‪ ،‬أمرهم بالعفو ‪ 1‬والصفح؛ لن الوقت لم يحن بعد لقتالهم فإذا‬ ‫حان الوقت قاتلوهم وشفوا منهم صدورهم‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )110‬أمر ال تعالى المؤمنين بإقام الصلة وإيتاء الزكاة وفعل ‪ 2‬الخيرات‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا العفو والصفح نسخ بالذن بقتال اليهود وإجلئهم‪ ،‬وبقي العفو عن المسلم والصفح عنه إذا‬ ‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ} ‪،‬‬ ‫أساء إلى أخيه المسلم لجهالة به‪ ،‬فإنه محمود‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ َ‬ ‫وقال رسوله‪" :‬من غفر غفر له" ‪.‬‬ ‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ َتجِدُوهُ عِنْدَ‬ ‫‪ 2‬فعل الخيرات هنا مستفاد من قوله تعالى في الية‪َ { :‬ومَا ُتقَ ّدمُوا لَنْفُ ِ‬ ‫اللّه} ‪.‬‬

‫( ‪)1/98‬‬ ‫تهذيبا لخلقهم وتزكية لنفوسهم وواعدهم بحسن العاقبة بقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ‪ِ 1‬بمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ} ‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليهود والنصارى يعلمون أن السلم حق وأن المسلمين على حق فحملهم ذلك على حسدهم‬ ‫ثم عداوتهم‪ ،‬والعمل على تكفيرهم‪ ...‬وهذه النفسية ما زالت طابع أهل الكتاب إزاء المسلمين إلى‬ ‫اليوم‪.‬‬ ‫‪ -2‬في الظرف الذي لم يكن مواتيا للجهاد على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالعداد للجهاد‪ ،‬وذلك‬ ‫بتهذيب الخلق والرواح وتزكية النفوس بإقام الصلة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء على‬ ‫طاقاتهم الروحية والبدنية إلى حين يؤذن لهم بالجهاد‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقوية الشعور ‪ 2‬بمراقبة ال تعالى ليحسن العبد نيته وعمله‪.‬‬ ‫خلَ الْجَنّةَ إِل مَنْ كَانَ هُودا َأوْ َنصَارَى تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ ُقلْ هَاتُوا ‪ 3‬بُرْهَا َنكُمْ إِنْ كُنْتُمْ‬ ‫{ َوقَالُوا لَنْ يَ ْد ُ‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ‬ ‫حسِنٌ فَلَهُ أَجْ ُرهُ عِ ْندَ رَبّ ِه وَل َ‬ ‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ‬ ‫صَا ِدقِين(‪ )111‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬ ‫شيْءٍ‬ ‫ستِ الْ َيهُودُ عَلَى َ‬ ‫شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَى لَيْ َ‬ ‫ستِ ال ّنصَارَى عَلَى َ‬ ‫يَحْزَنُونَ(‪َ )112‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ‬ ‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ‬ ‫وَهُمْ يَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ كَذَِلكَ قَالَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ فَاللّهُ َي ْ‬ ‫يَخْتَِلفُون(‪})113‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬مثل هذه الجملة المذيل بها الكلم تكون للترغيب كما هنا‪ ،‬وتكون للترهيب‪ ،‬أي‪ :‬تصلح للوعد‬ ‫والوعيد‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا مستفاد من قوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على بطلن التقليد‪ ،‬وهو قبول قول الغير بل دليل‪ ،‬وفي الية أن من ادعى شيئا‬ ‫نفيا أو إثباتا يطالب بالدليل بطلت دعواه‪.‬‬

‫( ‪)1/99‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلجَنّةَ} ‪ :‬دار النعيم وتسمى دار السلم وهي فوق السماء السابعة‪.‬‬ ‫{هُودا ‪ : }1‬يهودا‪.‬‬ ‫{ َنصَارَى} ‪ :‬صليبيين مسيحيين‪.‬‬ ‫{َأمَانِ ّيهُمْ ‪ : }2‬جمع أمنية ما يتمناه المرء بدون ما يعمل للفوز به‪ ،‬فيكون غرورا‪.‬‬ ‫البرهان ‪ :‬الحجة الواضحة‪.‬‬ ‫ح َكمِ‬ ‫{بَلَى} ‪ :‬حرف إجابة يأتي بعد نفي مقرون باستفهام ‪ 3‬غالبا نحو قوله تعالى‪{ :‬أَلَيْسَ اللّهُ بِأَ ْ‬ ‫الْحَا ِكمِينَ} ؟ بلى‪ ،‬أي‪ :‬هو أحكم الحاكمين‪ ،‬ولما ادعى اليهود والنصارى أن الجنة ل يدخلها إل‬ ‫من كان يهوديا أو نصرانيا قال تعالى‪( :‬بلى) أي ليس المر كما تزعمون فل يدخل الجنة يهودي‬ ‫ول نصراني ولكن يدخلها من أسلم وجهه ل وهو محسن أي‪ :‬عبد آمن فصدق وعمل صالحا‬ ‫فأحسن‪.‬‬ ‫ليست على شيء ‪ :‬أي‪ :‬من الدين الحق‪.‬‬ ‫{يَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬أي‪ :‬التوراة والنجيل‪.‬‬ ‫الذين من قبلهم ‪ :‬هذا اللفظ صادق على مشركي العرب‪ ،‬وعلى غيرهم من أمم جاهلة سبقت‪.‬‬ ‫سبب نزول اليتين ومعناهما‪:‬‬ ‫لما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة التقى باليهود في مجلس النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫ولعدائهم السابق تماروا فادعت اليهود أن الجنة ل يدخلها إل من كان يهوديا‪ ،‬وادعت النصارى‬ ‫أن الجنة ل يدخلها إل من كان نصرانيا فرد ال تعالى عليهم وأبطل دعواهم حيث طالبهم‬ ‫بالبرهان عليها فلم يقدروا وأثبت تعالى دخول الجنة لمن زكى نفسه باليمان الصحيح والعمل‬ ‫الصالح‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هود‪ :‬جمع هائد‪ ،‬أي‪ :‬متبع اليهودية‪ ،‬ومثله‪ :‬عوذ‪ ،‬جمع عائد‪ ،‬وهي‪ :‬الحديثة النتاج من الظباء‪،‬‬

‫والبل‪ ،‬والخيل‪.‬‬ ‫‪ 2‬ما تمناه اليهود وأشير إليه هنا بقوله‪{ :‬تِ ْلكَ َأمَانِ ّيهُمْ} هو أن ل ينزل على المؤمنين خير من ربهم‬ ‫وأن يردوهم كفارا‪ ،‬وأن يدخلون الجنة وحدهم دون غيرهم‪.‬‬ ‫عظَامَهُ‪ ،‬بلى} فقد أجيب بها ولم‬ ‫جمَعَ ِ‬ ‫سبُ النْسَانُ أَلّنْ نَ ْ‬ ‫‪ 3‬ومن غير الغالب قوله تعالى‪{ :‬أَ َيحْ َ‬ ‫ج َههُ} ‪.‬‬ ‫يتقدمها نفي مقرون باستفهام‪ ،‬ومنه هذه الية‪{ :‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬

‫( ‪)1/100‬‬ ‫حسِنٌ} يريد قلبه وجوارحه ‪ 1‬فآمن ووحد وعمل صالحا‬ ‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُ ْ‬ ‫فقال‪{ :‬بَلَى مَنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬ ‫فأحسن فهذا الذي يدخل الجنة وهي أجره على إيمانه وصالح أعماله‪ ،‬فل هو يخاف ول يحزن‪.‬‬ ‫هذا معنى اليتين الولى(‪ )111‬والثانية(‪ )112‬والثالثة(‪ )113‬فقد سجلت كفر كل من اليهود‬ ‫والنصارى‪ ،‬بشهادتهم على بعضهم بعضا فقد كفر اليهود والنصارى بقولهم‪ :‬إنهم ليسوا على شيء‬ ‫من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له‪ ،‬وكفّر النصارى اليهود بقولهم‪ :‬ليست اليهود على شيء مع‬ ‫أنهم يقرأون التوراة والنجيل‪ ،‬فلذا كان تكفيرهم لبعضهم لبعض حقا وصدقا‪ .‬ثم أخبر تعالى أن ما‬ ‫وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من الكفر والضلل قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم‬ ‫وذلك لجهلهم‪ ،‬وأخبر تعالى أنه سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضللهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إبطال تأثير النسب ‪ 2‬في السعادة والشقاء‪ ،‬وتقرير أن السعادة بدخول الجنة مردها إلى تزكية‬ ‫النفس باليمان والعمل الصالح‪ ،‬وإن الشقاوة بدخول النار مردها إلى الشرك‪ ،‬وارتكاب الذنوب فل‬ ‫نسبة إلى يهودية أو نصرانية أو غيرهما تُغني عن صاحبها‪ ،‬وإنما المغني بعد فضل ال ورحمته‬ ‫اليمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر اليهود والنصارى وهو شر كفر؛ لنه كان على علم‪.‬‬ ‫‪ -3‬السلم الصحيح القائم على أسسه الثلثة اليمان والسلم والحسان هو سبيل ‪ 3‬النجاة من‬ ‫النار والفوز بالجنة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬ذاته‪ ،‬إذ طاعة ال تعالى تكون بها قلبا وجوارح‪ ،‬ومن إطلق الوجه على الذات‪ ،‬قول‬ ‫الشنفري‪:‬‬ ‫إذا قطع رأسي وفي الرأس أكثري ‪ ...‬وغودر عند الملتقى ثم سائري‬ ‫قوله وفي الرأس أكثري‪ :‬فيه تفصيل الرأس الذي هو بمعنى الوجه على سائر الجسد لفضليته‪،‬‬ ‫فكذلك إطلق الوجه في الية و إرادة الذات‪ ،‬لن الوجه أشرف الذات‪.‬‬

‫‪ 2‬ويشهد لهذا قول الرسول صلى ال عليه وسلم في صحيح مسلم‪" :‬ومن بطأ به عمله لم يسرع به‬ ‫نسبه" الحديث‪.‬‬ ‫جهَهُ لِلّ ِه وَ ُهوَ مُحْسِنٌ} الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا مستفاد من قوله تعالى‪{ :‬بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَ ْ‬

‫( ‪)1/101‬‬ ‫سعَى فِي خَرَا ِبهَا أُولَ ِئكَ مَا كَانَ َلهُمْ أَنْ‬ ‫سمُ ُه وَ َ‬ ‫{ َومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَنْ ُي ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬ ‫عذَابٌ عَظِيمٌ(‪ )114‬وَلِلّهِ ا ْلمَشْ ِرقُ‬ ‫ي وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬ ‫يَ ْدخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ َلهُمْ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬ ‫جهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(‪})115‬‬ ‫وَا ْل َمغْرِبُ فَأَيْ َنمَا ُتوَلّوا فَثَ ّم وَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َومَنْ أَظَْلمُ} ‪ :‬الستفهام للنكار والنفي‪ ،‬والظلم وضع الشيء في غير محله مطلقا‪.‬‬ ‫سعَى ‪ 1‬فِي خَرَا ِبهَا} ‪ :‬عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو يمنع الصلة فيها وصرف الناس عن‬ ‫{وَ َ‬ ‫التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضا‪.‬‬ ‫الخزي ‪ :‬الذل والهوان ‪.2‬‬ ‫{فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ} ‪ :‬هناك ال تعالى إذ ال عز وجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقا أو غربا‬ ‫شمالً أو جنوبا وجد ال تعالى‪ ،‬إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف ل يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه‬ ‫أن الرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه‪ ،‬فليس هناك جهة تخلو من علم ال‬ ‫تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها‪ .‬ويقرر هذا قوله‪{ :‬إِنّ اللّ َه وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ‪ ،‬إنه واسع الذات والعلم‬ ‫والفضل والجود والكرم عليم بكل شيء لنه محيط بكل شيء‪.‬‬ ‫شرح اليتين‪:‬‬ ‫ففي الية الولى(‪ )114‬ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلما ممن منع مساجد ‪ 3‬ال تعالى‬ ‫أن يعبد ال تعالى فيها‪ ،‬لن العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل السعي‪ :‬المشي‪ ،‬ومنه السعي بين الصفا والمروة‪ ،‬وهو المشي بينهما ثم أطلق على‬ ‫التسبب مطلقا يقال‪ :‬سعى فلن في مصلحتك وسعى فلن في الفساد بين فلن وفلن‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقد نال صناديد قريش حيث أزلهم وأخزاهم يوم الفتح على يد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وأصحابه رضوان ال عليهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬المساجد‪ :‬جمع مسجد بكسر الجيم على غير قياس إذ فعل بالفتح‪ ،‬يفعل بالضم‪ ،‬السم منه‬ ‫كالمصدر مفعل بالفتح‪ ،‬ونظير المسجد المطلع والمشرق والمسكن والمرفق‪ .‬والمسجد بالفتح‪:‬‬ ‫جبهة المرء وأعضاء سجوده السبعة‪.‬‬

‫( ‪)1/102‬‬ ‫الحياة كلها وعطلها‪ ،‬وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشا‬ ‫بصدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام‪ ،‬أو فلطيوس ملك الروم الذي خرّب المسجد القصى‬ ‫‪ ،1‬أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلً‪ ،‬ولذا ضمن تعالى قوله‪{ :‬مَا كَانَ َلهُمْ‬ ‫أَنْ يَ ْدخُلُوهَا إِل خَا ِئفِينَ} ‪ ،‬أمر المسلمين بجهاد الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم‬ ‫فيذلوا ويهونوا‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )115‬يخبر تعالى رادا على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بين‬ ‫المقدس إلى الكعبة‪ ،‬مؤذنا بجواز صلة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت‪ ،‬فأخبر‬ ‫تعالى أن له المشرق والمغرب ‪ 2‬خلفا وملكا وتصرفا‪ ،‬يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها شرقا‬ ‫أو غربا‪ ،‬جنوبا أو شمالً‪ ،‬فل اعتراض ول إنكار وأن ال تعالى محيط بالكائنات‪ ،‬فحيثما توجه‬ ‫العبد في صلته فهو متوجه إلى ال تعالى‪ ،‬إل أنه تعالى أمر بالتوجه في الصلة إلى الكعبة بمن‬ ‫عرف جهتها ل يجوز له أن يتجه إل إليها‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم جريمة من يتعرض للمساجد بأي أذى ‪ 3‬أو إفساد‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب حماية المساجد من دخول الكافرين إل أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلء‬ ‫صاغرون‪.‬‬ ‫‪ -3‬صحة صلة ‪ 4‬النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب استقبال القبلة إل عند العجز ‪ 5‬فيسقط هذا الواجب‪.‬‬ ‫‪ -5‬العلم بإحاطة ال تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلما فل يخفى عليه من أمر العوالم شيء ول‬ ‫يعجزه آخر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقد خرب بيت المقدس أيضا بختنصر اليهودي البابلي قبل النصارى‪.‬‬ ‫‪ 2‬بناء على كروية الرض‪ ،‬فإن الرض كلها مشرق ومغرب‪ ،‬إذ كل مكان تشرق فيه هو مكان‬ ‫تغرب فيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬من عظم ذنب من منع مساجد ال أن يذكر فيها اسمه أخذ المالكية أن المرأة الصرورة التي لم‬ ‫تحج الفرض ل تمنع من الحج وإن لم يكن معها محرم‪ ،‬وعدو منعها من أداء الفريضة من الصد‬ ‫عن المسجد عن الحرام‪.‬‬ ‫‪ 4‬إذ صح عن ابن عمر رضي ال عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يصلي النافلة على‬

‫راحتله حيثما اتجهت به القبلة وإلى غيرها‪.‬‬ ‫‪ 5‬للعجز صور منها‪ :‬أن يكون مريضا ل يقدر على التحول‪ ،‬ومنها‪ :‬أن يكون خائفا‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬ ‫يكون مقاتلً أو هاربا‪ ،‬ومنها‪ :‬أن يكون جاهلً بها فطلبها ولم يعرف فصلى حيث ترجح القبلة وإن‬ ‫لم يصبها‪.‬‬

‫( ‪)1/103‬‬ ‫ت وَالَ ْرضِ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ(‪ )116‬بَدِيعُ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫{ َوقَالُوا ‪ 1‬اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا سُ ْبحَانَهُ َبلْ لَهُ مَا فِي ال ّ‬ ‫ض وَإِذَا َقضَى َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ(‪َ )117‬وقَالَ الّذِينَ ل َيعَْلمُونَ َلوْل ‪2‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬ ‫ال ّ‬ ‫ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آيَةٌ َكذَِلكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ َتشَا َب َهتْ قُلُو ُبهُمْ َقدْ بَيّنّا الياتِ ِلقَوْمٍ‬ ‫يُوقِنُونَ(‪ )118‬إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ َبشِيرا وَنَذِيرا وَل تُسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ ا ْلجَحِيمِ(‪})119‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سبحانه ‪ :‬تنزه وتقدس عن كل نقص ومنه أن يكون له ولد‪.‬‬ ‫قانتون ‪ :‬خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه‪.‬‬ ‫بديع السموات ‪ :‬مبدعها أي موجدها على غير مثال سابق‪.‬‬ ‫قضى أمرا ‪ :‬حكم بإيجاده‪.‬‬ ‫أو تأتيه آية ‪ :‬كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى‪.‬‬ ‫ول تسأل ‪ :‬قرئ بالتاء للمجهول‪ ،‬ول نافية والفعل مرفوع‪ ،‬وقرئ بالبناء للمعلوم ول ناهية والفعل‬ ‫مجزوم‪.‬‬ ‫الجحيم ‪ :‬دركة من دركات النار وهي أشدها عذابا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر‬ ‫زيفها ويبطلها نهائيا ففي اليتين الولى(‪ )116‬والثانية(‪ )117‬يذكر تعالى قول‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الضمير المرفوع في {قالوا} عائد إلى الفرق الثلث‪ ،‬وهم‪ :‬أهل الكتاب‪ ،‬ومشركوا العرب‪.‬‬ ‫‪ 2‬لول‪ :‬بمعنى لعل التحضيضية‪.‬‬

‫( ‪)1/104‬‬ ‫أهل الكتاب والمشركين في أن ال اتخذ ولدا‪ ،‬إذ قالت اليهود‪ :‬العزير ابن ال‪ ،‬وقالت النصارى‪:‬‬ ‫المسيح ابن ال‪ ،‬وقال بعض مشركي العرب‪ :‬الملئكة بنات ال‪ ،‬ذكر تعالى قولهم اتخذ ال ولدا ثم‬

‫نزه ‪ 1‬نفسه عن هذا القول الباطل والفرية ‪ 2‬الممقوتة‪ ،‬وذكر الدلة العقلية على بطلن الدعوى‪.‬‬ ‫فأولً‪ :‬مِلْكيةُ ال تعالى لما في السموات والرض‪ ،‬وخضوع ‪ 3‬كل من فيهما لحكمه وتصريفه‬ ‫وتدبيره يتنافى عقلً مع اتخاذ ولد منهم‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬قدرة ال تعالى المتجلية في إبداعه السموات والرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى‬ ‫معها احتياجه إلى الولد ‪ ،4‬وهو مالك كل شيء ورب كل شيء‪ ،‬وفي الية الثالثة(‪ )118‬يرد تعالى‬ ‫على قولة المشركين الجاهلين‪َ{ :‬لوْل ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آ َيةٌ} حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا‪،‬‬ ‫فأخبر تعالى أن مثل هذا الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والنتكاس‪ ،‬فقد قال‬ ‫اليهود لموسى أرنا ال جهرة‪ ،‬أما رؤية ال وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة المتحان‬ ‫والتكليف‪ ،‬لذا لم يجب إليه أحدا من قبلهم ول من بعدهم‪ ،‬وأما اليات فما أنزل ال تعالى وبينه في‬ ‫كتابه من اليات الدالة على اليمان بال ووجوب عبادته وتوحيده فيها‪ ،‬وعلى صدق نبيه في‬ ‫رسالته ووجوب اليمان به واتباعه كاف ومغن عن أية آية مادية يريدونها‪ ،‬ولكن القوم لكفرهم‬ ‫وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم‪ ،‬واليات يراها وينتفع بها الموقنون‬ ‫ل الشاكون المكذبون‪.‬‬ ‫وفي الية الرابعة(‪ )119‬يخفف تعالى على نبيه همّ مطالبة المشركين باليات بأنه غير مكلف‬ ‫بهداية أحد ول ملزم بإيمان آخر‪ ،‬ول هو مسئول ‪ 5‬يوم القيامة عمن يدخل النار من الناس‪ ،‬إذ‬ ‫مهمته محصورة في التبشير ‪ 6‬والنذار تبشير من آمن وعمل صالحا بالفوز بالجنة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وذلك بقوله‪{ :‬سبحانه} مصدر معناه‪ :‬التبرئة والتنزيه والمحاشاة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أحرج البخاري عن ابن عباس رضي ال عنهما عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬قال ال‬ ‫تعالى‪ :‬كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك‪ ،‬وشتمني ولم يكن له ذلك‪ .‬فأما تكذيبه إياي فزعم أني ل‬ ‫أقدر أن أعيده كما كان‪ ،‬وأما شتمي إياي فقوله لي‪ :‬ولد‪ ،‬فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الخضوع هنا تفسير القنوت‪ ،‬والقنوت يكون بمعنى الطاعة في ذلة وانكسار وخشوع‪ ،‬كما هو‬ ‫في هذا السياق ويكون بمعنى السكوت كما في الصلة‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} أي‪ :‬ل‬ ‫تتكلموا في صلتكم‪ ،‬ويكون بمعنى الدعاء في الصلة‪.‬‬ ‫‪ 4‬من الدلة العقلية على إبطال فرية اتخاذ ال تعالى الولد‪ :‬أن الولدية تقضي التجانس‪ ،‬وال تعالى‬ ‫ليس كمثله شيء‪ ،‬وهو ل يجانسه شيء‪ ،‬ثم الولد يتنافى مع الرق والملك وال له ملك السموات‬ ‫والرض‪ ،‬فكيف يكون الرقيق ولدا؟!‪.‬‬ ‫جحِيمِ} ‪،‬‬ ‫‪ 5‬قرأ نافع وحده {ول تَسأل} بفتح التاء وسكون اللم في قوله‪{ :‬وَل ُتسَْألُ عَنْ َأصْحَابِ الْ َ‬ ‫وروي عن ابن عباس رضي ال عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬يا ليت شعري ما فعل‬ ‫أبواي" فأنزل ال تعالى هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 6‬البشير كالنذير فعلهما بشر‪ ،‬وأنذر‪ .‬واسم الفاعل‪ :‬مبشر ومنذر‪ ،‬ونقل إلى بشير ونذير للمبالغة‬

‫في الفعل‪.‬‬

‫( ‪)1/105‬‬ ‫والنجاة من النار‪ ،‬وإنذار من كفر وعمل سوءا بدخول النار والعذاب الدائم فيها‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة نسبة أي شيء إلى ال تعالى بدون دليل من الوحي اللهي‪ ،‬إذ أنكر تعالى نسبة الولد‬ ‫إليه أنكره على أهل الكتاب والمشركين معا‪.‬‬ ‫‪ -2‬تشابه قلوب أهل الباطل في كل زمان ومكان لستجابتهم للشيطان وطاعتهم له‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل ينتفع باليات إل أهل اليقين لصحة عقولهم وسلمة قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬على المؤمن أن يدعو إلى ال تعالى‪ ،‬وليس عليه أن يهدي‪ ،‬إذ الهداية بيد ال‪ ،‬وأما الدعوة‬ ‫فهي في قدرة النسان‪ ،‬وهو مكلف بها‪.‬‬ ‫{وَلَنْ تَ ْرضَى عَ ْنكَ الْ َيهُو ُد وَل ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ مِلّ َتهُمْ‪ُ 1‬قلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ‬ ‫ن وَِليّ وَل َنصِيرٍ(‪ )120‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ‬ ‫أَ ْهوَاءَ ُهمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ‪ 2‬مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ‬ ‫حقّ تِلوَتِهِ أُولَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َومَنْ َيكْفُرْ بِهِ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ(‪})121‬‬ ‫يَتْلُونَهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ملتهم ‪ :‬دينهم الذي هم عليه من يهودية ونصرانية‪.‬‬ ‫قل إن الهدى هدى ال ‪ :‬الهدى‪ :‬ما أنزل به كتابه وبعث به رسوله وهو السلم‪ ،‬ل ما ابتدعه‬ ‫اليهود والنصارى من بدعة اليهودية والنصرانية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ملتهم‪ :‬بمعنى مللهم‪ ،‬إذ لكل كافر ملة‪ ،‬ومن هنا ذهب الجمهور إلى أن الكفر ملة واحدة‪ ،‬وذهب‬ ‫أحمد في رواية له ومالك إلى أن الكفر ملل‪ ،‬ولذا فل يرث اليهودي النصراني‪ ،‬ول النصراني‬ ‫اليهودي‪ ،‬ول المجوسي‪ .‬إذ لكل ملة‪ ،‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل يتوارث أهل‬ ‫ملتين" ويبقى معنى الكفر ملة واحدة‪ ،‬أي‪ :‬إنه ليس فيه فاضل‪ ،‬ومفضول‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن أحمد استدل على كفر من قال بخلق القرآن بهذه الية‪{ :‬مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ}‬ ‫وهو القرآن‪ .‬فمن قال بخلق القرآن‪ ،‬قال بخلق علم ال تعالى‪ .‬وهو كفر صريح‪.‬‬

‫( ‪)1/106‬‬

‫من ولي ول نصير ‪ :‬الولي من يتولك ويكفيك أمرك‪ ،‬والنصير من ينصرك ويدفع عنك الذي‪.‬‬ ‫يتلونه حق ‪ 1‬تلوته ‪ :‬ل يحرفون كلمه عن مواضعه ول يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت‬ ‫الرسول محمد صلى ال عليه وسلم وغيره‪.‬‬ ‫أولئك هم الخاسرون ‪ :‬المشار إليهم كفار أهل الكتاب والخسران خسران الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أهل الكتاب يكشف عوارهم ويدعوهم إلى الهدى لو كانوا يهتدون‪ ،‬ففي الية‬ ‫الولى(‪ )120‬يخبر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع‬ ‫ملتهم الباطلة‪ ،‬وهي اليهودية أو النصرانية‪ ،‬وفي هذا نهي عن اتباعهم ثم أمره أن يخبرهم أن‬ ‫الهدى هدى ‪ 2‬ال الذي هو السلم وليس اليهودية ول النصرانية‪ ،‬إذ هما بدعتان من وضع أرباب‬ ‫الهواء والطماع المادية‪.‬‬ ‫ثم يحذر ال رسوله وأمته من اتباع اليهود والنصارى بعد الذي جاءهم والنعمة التي أتمها عليهم‬ ‫ي وَل‬ ‫ن وَِل ّ‬ ‫وهي السلم فيقول‪{ :‬وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َبعْدَ الّذِي جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ‬ ‫َنصِير} ‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )112‬يخبر تعالى أن الذين آتاهم ال الكتاب التوراة والنجيل فكانوا يتلونه حق‬ ‫تلوته فل يحرفون ول يكتمون هؤلء يؤمنون بالكتاب حق اليمان‪ ،‬أما الذين يحرفون كلم ال‬ ‫ويكتمون ما جاء فيه من نعوت النبي صلى ال عليه وسلم فهؤلء ل يؤمنون به وهم الخاسرون‬ ‫دون غيرهم‪ ،‬ومن آمن ‪ 3‬من أهل الكتاب بكتابه وتله حق تلوته سوف يؤمن بالنبي المي‬ ‫ويدخل في دينه قطعا‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يحصل المسلم على رضا اليهود والنصارى إل بالكفر بالسلم واتباع دينهم الباطل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتابعوهم بإحسان كان أحدهم إذا مر بآية رحمة‬ ‫سألها ال تعال‪،‬ى وإذ تعالى مر بآية عذاب تعوذ بال من العذاب‪.‬‬ ‫‪ 2‬أن ما يهدي إليه الرب تعالى عباده المؤمنين بمعنى ما يوفقهم إليه من السلم ظاهرا وباطنا‪،‬‬ ‫فيعملون بطاعته وطاعة رسوله في المنشط والمكره‪ ،‬ذلك هو هدى ال المبعد عن الضلل‬ ‫والموصل إلى دار السلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬كعبد ال بن سلم‪ ،‬ومن آمن على عهد رسول ال من أحبار أهل الكتاب‪.‬‬

‫( ‪)1/107‬‬

‫وهذا ما ل يكون للمسلم أبدا‪ ،‬فلذا طلب رضا اليهود والنصارى محرم ل يحل أبدا‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل دين ‪ 1‬حق إل السلم فل ينبغي أن يُلتفت إلى غيره بالمرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬من يوالي اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولية ال تعالى ويحرم نصرته‪.‬‬ ‫‪ -4‬طريق الهداية في تلوة كتاب ال حق تلوته بأن يجوده قراءة ويتدبره هداية ويؤمن بحكمه‬ ‫ومتشابهه‪ ،‬ويحلل حلله ويحرم حرامه‪ ،‬ويقيم حدوده كما يقيم حروفه‪.‬‬ ‫{يَا بَنِي ‪ِ 2‬إسْرائيلَ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَ ِتيَ الّتِي أَ ْن َع ْمتُ عَلَ ْيكُ ْم وَأَنّي َفضّلْ ُتكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )122‬وَا ّتقُوا َيوْما‬ ‫شفَاعَةٌ وَل ُهمْ يُ ْنصَرُونَ(‪})123‬‬ ‫ع ْدلٌ وَل تَ ْن َف ُعهَا َ‬ ‫ل َتجْزِي َنفْسٌ عَنْ َنفْسٍ شَيْئا وَل ُيقْبَلُ‪ 3‬مِ ْنهَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إسرائيل ‪ :‬لقب يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلم‪.‬‬ ‫وبنو إسرائيل‪ :‬هم اليهود‪.‬‬ ‫العالمين ‪ :‬البشر الذين كانوا في زمانهم مطلقا‪.‬‬ ‫ل تجزي ‪ :‬ل تقضي ول تغني‪.‬‬ ‫العدل ‪ :‬الفداء‪.‬‬ ‫شفاعة ‪ :‬وساطة أحد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يشهد لهذا قوله صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬والذي نفسي بيده ما يسمع بي أحد من هذه‬ ‫المة يهودي ول نصراني ثم ل يؤمن بي إل دخل النار"‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا النداء الثالث الذي نادى ال تعالى به بني إسرائيل يأمرهم بذكر نعمه ليشكروها باليمان‬ ‫برسوله‪ ،‬والدخول في دين السلم‪ ،‬لكن حالهم كما قال القائل‪:‬‬ ‫لقد أسمعت لو ناديت حيا ‪ ...‬ولكن ل حياة لمن تنادي‬ ‫‪ 3‬يلحظ تقديم الشفاعة في النداء الثاني على أخذ العدل وتأخير الشفاعة في هذا النداء وتقديم‬ ‫العدل وما هو إل تفنن في السلوب إذهابا للسآمة‪ .‬وهذا شأن الكلم البليغ‪.‬‬

‫( ‪)1/108‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يعظ الرحمن عز وجل اليهود فيناديهم ‪ 1‬بأشرف ألقابهم ويأمرهم نعمه تعالى عليهم وهي كثيرة‪،‬‬ ‫ويأمرهم أن يذكروا تفضيله تعالى لهم على عالمي زمانهم‪ ،‬والمراد من ذكر النعم شكرها‪ ،‬فهو‬ ‫تعالى في الحقيقة يأمرهم بشكر نعمه‪ ،‬وذلك باليمان به وبرسوله والدخول في دينه الحق‬ ‫(السلم)‪.‬‬ ‫كما يأمرهم باتقاء عذاب يوم القيامة حيث ل تغني نفس عن نفس شيئا ول يقبل منها فداء ول‬

‫تنفعها شفاعة‪ ،‬وهذه هي نفس الكافر المشرك‪ ،‬حيث ل شفاعة تنال الكافر أو المشرك‪ ،‬ول يوجد‬ ‫لهم ناصر ينصرهم فيدفع عنهم العذاب‪ ،‬إذ اتقاء عذاب يوم القيامة يكون باليمان بال ورسوله‬ ‫والعمل الصالح‪ ،‬بعد التخلي عن الكفر والمعاصي‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب ذكر نعم ال على العبد ليجد بذلك دافعا نفسيا لشكوها‪ ،‬إذ غاية الذكر هي الشكر‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة باليمان وصالح العمال بعد التخلي عن الشرك والعصيان‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحالة الفداء يوم القيامة‪ ،‬وتعذر وجود شافع يشفع لمن مات على الشرك ل بإخراجه من‬ ‫النار‪ ،‬ول بتخفيف العذاب عنه‪.‬‬ ‫{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ‪ 2‬رَبّهُ‪ِ 3‬بكَِلمَات ٍ‪4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بهذا النداء ختم الحجاج مع اليهود في هذه السورة‪ ،‬فلم يجري لهم ذكر بعد فكان من براعة‬ ‫المقطع‪ .‬ذكر هذا صاحب التحرير والتنوير‪ ،‬وليس صحيحا‪ ،‬بل الصحيح‪ :‬أن ختم الحجاج مع‬ ‫ظَلمُوا مِ ْنهُمْ} الية ‪.149‬‬ ‫اليهود انتهى عند قوله تعالى‪{ :‬إِل الّذِينَ َ‬ ‫‪ 2‬أبرهم بالسريانية والعبرية أيضا معناه‪ :‬أب رحيم‪ ،‬ولرحمته جعلها ال تعالى كافلً للطفال‬ ‫المؤمنين في الجنة إلى يوم القيامة إن صح الحديث بذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر الربوبية هنا تشريف لبراهيم عليه السلم وإيذان بأن ابتلؤه كان تربية له وإعدادا له‬ ‫لمر خطير‪.‬‬ ‫‪ 4‬الكلمات‪ :‬جمع كلمة‪ ،‬وهي اللفظ المفرد‪ ،‬وتطلق على الكلم أيضا‪ ،‬والمراد بها هنا كلمات‬ ‫تحمل الوامر التكليفية‪ ،‬ومن أبرزها ما يلي‪ :‬كسر الصنام‪ ،‬والهجرة‪ ،‬وذبح إسماعيل‪ ،‬وبناء‬ ‫البيت العتيق‪ ،‬والختان‪ ،‬والصلة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وخصال الفطرة‪ ،‬والصدق‪ ،‬والصبر‪ ،‬وبالجملة‪ :‬فقد‬ ‫نهض إبراهيم بكل ما عاهد إليه ربه بالقيام به من الشرائع‪ ،‬فلذا أكرمه بالمامة وشرفه بها‪.‬‬

‫( ‪)1/109‬‬ ‫عهْدِي الظّاِلمِينَ(‪})124‬‬ ‫ل َومِنْ ذُرّيّتِي قَالَ ل يَنَالُ َ‬ ‫فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما قَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ابتلى ‪ :‬اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه‪.‬‬ ‫بكلمات ‪ :‬متضمنة أوامر ونواهي‪.‬‬ ‫أتمهن ‪ :‬قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها‪.‬‬ ‫إماما ‪ :‬قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال‪.‬‬

‫الظالمين ‪ :‬الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول ال مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى‪،‬‬ ‫وكذا المشركين في اليات السابقة لهذه الية‪ ،‬أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلءه تعالى لنبيه‬ ‫وخليله إبراهيم عليه السلم بما كلفه من أوامر ونواهي‪ ،‬فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام‪،‬‬ ‫وهو أنه جعله إماما للناس‪ ،‬ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه الوثنيين‪ ،‬وتحطيم أوثانهم‪،‬‬ ‫والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قربانا ل‪ ،‬وبناء البيت‪ ،‬وحجة الدعوة إليه مما‬ ‫استحق به المامة للناس كافة‪ ،‬وفي هذا تبكيت للفرق الثلثة‪ :‬العرب المشركين‪ ،‬واليهود‪،‬‬ ‫والنصارى‪ .‬إذ كلهم يدعي انتماءه لبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم‬ ‫مشركون‪ ،‬عادل وهم ظالمون‪ ،‬مُتبع للوحي اللهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون‪ ،‬وفي الية‬ ‫بيان رغبة إبراهيم في أن تكون المامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها ال تعالى في ذريته‬ ‫‪ 2 1‬كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم ل يستحقونها فهي ل تكون إل في أهل الخير‬ ‫والعدل و الرحمة ل تكون في الجبابرة القساة ول الظالمين العتاة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الذرية‪ :‬مأخوذ من ذرأ ال الخلق درأً‪ ،‬أي‪ :‬خلقهم والجمع‪ :‬ذراري‪.‬‬ ‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَاب} الية من سورة العنكبوت‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال تعالى‪{ :‬وَ َ‬

‫( ‪)1/110‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬المامة ل تنال إل بصحة اليقين ‪ 1‬والصبر على سلوك سبيل المهتدين‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية ولية العهد‪ ،‬بشرط أن ل يعهد إل إلى من كان على غاية من اليمان والعلم‬ ‫والعمل والعدل والصبر‪.‬‬ ‫ل وعملً‪ 2‬يؤهل لن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬القيام بالتكاليف الشرعية قو ً‬ ‫عهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ‬ ‫ى وَ َ‬ ‫خذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَلّ ً‬ ‫س وََأمْنا وَاتّ ِ‬ ‫جعَلْنَا الْبَ ْيتَ مَثَابَةً‪ 3‬لِلنّا ِ‬ ‫{ وَإِذْ َ‬ ‫ج َعلْ‬ ‫طهّرَا بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِينَ وَا ْلعَا ِكفِينَ وَال ّركّعِ السّجُودِ(‪ )125‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬ ‫سمَاعِيلَ أَنْ َ‬ ‫وَإِ ْ‬ ‫هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ َأهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْن ُهمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ قَالَ َومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلً‬ ‫ضطَ ّرهُ إِلَى عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ(‪})126‬‬ ‫ثُمّ َأ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫البيت ‪ :‬الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة‪.‬‬

‫مثابة ‪ :‬مرجعا يثوب إليه العمار والحجاج‪.‬‬ ‫أمنا ‪ :‬مكانا آمنا يأمن فيه كل من دخله‬ ‫مقام إبراهيم ‪ :‬الحجر الذي كان قد قام عليه إبراهيم أيام كان يبني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء‬ ‫احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران‪ ،‬فجيء بهذا الحجر فقام عليه‬ ‫فسمي مقام إبراهيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫جعَلْنَا مِ ْنهُمْ أَ ِئمّةً َي ْهدُونَ بَِأمْرِنَا َلمّا صَبَرُوا‬ ‫‪ 1‬شاهد هذا في كتاب ال تعالى إذ قال عز وجل‪َ { :‬و َ‬ ‫َوكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة‪ .‬فلذا قيل‪ :‬بالصبر واليقين تنال المامة في الدين‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا مستفاد من قوله تعالى‪{ :‬وَِإذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما}‬ ‫‪.‬‬ ‫‪ 3‬مثابة‪ :‬أصله‪ :‬ثاب مصدر ثاب يثوب مثابا‪ ،‬وزيدت فيه التاء للمبالغة كما زيدت في علمة‬ ‫ونسابة‪ ،‬ويشهد لهذا قول الشاعر‪:‬‬ ‫جعل البيت مثابة لهم ‪...‬‬ ‫ليس منه الدهر يقضون الوطر‬

‫( ‪)1/111‬‬ ‫مصلى ‪ :‬مكانا يصلى فيه أو عنده أو إليه‪.‬‬ ‫عهدنا ‪ :‬وصينا وأمرنا‪.‬‬ ‫تطهير البيت ‪ :‬تنزيه عن القذار الحسية؛ كالدماء والبوال‪ .‬ومعنوية؛ كالشرك والبدع والمفاسد‪.‬‬ ‫اضطره ‪ :‬ألجأه مكرها إلى العذاب‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معا بأبي النبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه‬ ‫السلم‪ ،‬ومآثره الطيبة الحميدة‪ ،‬ومواقفه اليمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلن دعوى كل من أهل‬ ‫الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذبا وزورا‪ ،‬إذ هو موحد وهم مشركون‪ ،‬وهو مؤمن‬ ‫وهم كافرون‪ ،‬فقال تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ :‬اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس ‪1‬‬ ‫يثوبون إليه في كل زمان حجاجا وعمارا‪ ،‬وأمنا دائما من دخله‪ ،‬أمن على نفسه وماله وعرض‪.‬‬ ‫وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‪ ،‬فكان من سنة من طاف بالبيت‬ ‫أن يصلي خلف المقام ركعتين‪ ،‬كما أوصينا ‪ 2‬من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من‬ ‫كل رجز معنويا؛ كالصنام وعبادة غير ال تعالى‪ ،‬أو حسيا؛ كالقذار والوساخ من دم أو بول‬ ‫حتى يتمكن الطائفون والعاكفون ‪ 3‬والمصلون من آداء هذه العبادات بل أي أذى يلحقهم أو‬

‫يضايقهم‪.‬‬ ‫هذه ما تضمنته الية الولى(‪ ،)125‬أما الية الثانية(‪ )126‬فقد تضمنت أمر ال تعالى لرسوله أن‬ ‫يذكر دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل بلدا آمنا ‪ 4‬من دخله يأمن فيه ‪ 5‬على نفسه وماله وعرضه‪،‬‬ ‫وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن ال قد استجاب لبراهيم دعوته إل إن الكافرين‬ ‫ل يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الخرة حيث‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن موسى عليه السلم حج البيت وإن هودا حجه من قبل‪،‬‬ ‫وكذا سائر النبياء والمرسلين‪.‬‬ ‫‪ 2‬الية وعهدنا‪ :‬إل إن الوعد المؤكد وقوعه يصير عهدا‪ ،‬فإن عدي بإلى صار وصية‪ ،‬فلذا‬ ‫فسرنا‪ :‬العهد‪ ،‬هنا بالوصية‪.‬‬ ‫‪ 3‬العكوف‪ :‬ملزمة المسجد للصلة والعبادة‪ ،‬والعاكفون الملزمون للمسجد الحرام من ساكن مكة‬ ‫وغريب‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجمهور على أن الحدود تقام على أصحابها في الحرم‪ ،‬وخالف أبو حنيفة في هذا‪ ،‬وقول‬ ‫الجمهور أصح وعليه العمل‪ .‬فقد روى البخاري أن عمر بن سعيد قال‪" :‬إن الحرم ل يعيذ عاصيا‪،‬‬ ‫ول فارا بدم‪ ،‬ول فارا بخربة"‪.‬‬ ‫‪ 5‬هل كانت مكة حراما قبل دعوة إبراهيم أو بعد دعوته خلف‪ ،‬ويشهد لقولها ما كانت حراما‬ ‫قول النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن إبراهيم حرم مكة ودعا لهلها‪ "..‬الحديث في مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/112‬‬ ‫يلجئهم تعالى مضطرا لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه –وهو‬ ‫النار‪ -‬من مصير‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬منة ال تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمنا توجب حمد ال على كل مؤمن‪.‬‬ ‫‪ -2‬سنة صلة ركعتين خلف المقام لمن ‪ 1‬طاف البيت‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب حماية البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف‬ ‫وقائم وراكع وساجد‪.‬‬ ‫‪ -4‬بركة دعوة إبراهيم لهل مكة‪ ،‬واستجابة ال تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة‪.‬‬ ‫‪ -5‬الكافر ل يحرم الرزق لكفره ‪ 2‬بل له الحق في الحياة إل أن يحارب فيقتل أو يسلم‪.‬‬ ‫‪ -6‬مصير من مات كافرا إلى النار‪ ،‬ل محالة‪ ،‬والموت في الحرم ل يغني عن الكافر شيئا‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ(‪ )127‬رَبّنَا‬ ‫سمَاعِيلُ‪ 4‬رَبّنَا َتقَبّلْ مِنّا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬ ‫{وَإِذْ يَ ْر َفعُ‪ 3‬إِبْرَاهِيمُ ا ْلقَوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ وَإِ ْ‬ ‫سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ(‬ ‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬ ‫ك َومِنْ ذُرّيّتِنَا ُأمّةً مُسِْلمَةً َل َ‬ ‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ‪َ 5‬ل َ‬ ‫وَا ْ‬ ‫ح ْكمَةَ‬ ‫ب وَالْ ِ‬ ‫ك وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ‬ ‫‪ )128‬رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِيهِمْ َرسُولً مِ ْنهُمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَا ِت َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري عن عمر رضي ال عنه إنه قال‪" :‬وافقت ربي في ثلث‪ :‬قلت يا رسول ال لو‬ ‫اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى‪ ،‬فنزلت‪{ :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَّلىً} الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا مستفاد من قول ال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلً‪ }..‬إلخ‪ ،‬إذ إبراهيم عليه السلم سأل‬ ‫الرزق للمؤمنين لغير نظرا إلى أن ال تعالى رد طلبه في سؤاله المامة لكافة ذريته‪ ،‬إذ قال‪{ :‬ل‬ ‫عهْدِي الظّاِلمِينَ} فمن هنا استثنى إبراهيم غير المؤمنين فأعلمه ال أن الغذاء حق الحي مؤمنا‬ ‫يَنَالُ َ‬ ‫كان أو كافرا‪.‬‬ ‫‪ 3‬التيان بالمضارع هنا مع أن السياق في أمور مضت من أجل استحضار الحالة كأنها مشاهدة‬ ‫وذلك إبرازا لمواقف إمام الموحدين إبراهيم المشرفة ترغيبا في القتداء به‪.‬‬ ‫‪ 4‬إسماعيل‪ :‬هو الولد البكر لبراهيم‪ ،‬وأمه‪ :‬هاجر الجارية المصرية‪ ،‬ومعنى إسماعيل‪ :‬سمع ال‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذا كسؤال المسلم في صلته‪{ :‬اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ} أي‪ :‬أدم هدايتنا واحفظ سيرنا عليه‬ ‫جعَلْنَا مُسِْلمَيْنِ َلكَ} ‪ ،‬أي‪ :‬أدم لنا إسلمنا‬ ‫حتى نفوز برضاك والجنة‪ ،‬فكذلك سؤال إبراهيم‪{ :‬رَبّنَا وَا ْ‬ ‫واحفظها علينا حتى ل نتركه؛ لنه علة وجودنا وغاية أملنا في الحياة‪.‬‬

‫( ‪)1/113‬‬ ‫حكِيمُ(‪})129‬‬ ‫وَيُ َزكّيهِمْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإذ ‪ :‬ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره‪ :‬أذكر وقت كذا وكذا‪.‬‬ ‫القواعد ‪ :‬جمع قاعدة ما يبنى عليه الجدار من أساس ونحوه‪.‬‬ ‫البيت ‪ :‬الكعبة حماها ال وطهرها‪.‬‬ ‫إنك أنت السميع العليم ‪ :‬هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهم‪.‬‬ ‫مسلمين ‪ :‬منقادين لك خاضعين لمرك ونهيك‪ ،‬راضين بحكمك‪ ،‬عابدين لك‪.‬‬ ‫أرنا مناسكنا ‪ :‬علمنا كيف نحج بيتك‪ ،‬تمسكا وتعبدا لك‪.‬‬ ‫تب علينا ‪ :‬وفقنا للتوبة إذا زللنا وأقبلها منا‪.‬‬ ‫وابعث فيهم رسولً ‪ :‬هذا الدعاء استجابه ال تعالى‪ ،‬ومحمد صلى ال عليه وسلم هو ما طلباه‪.‬‬ ‫الكتاب ‪ :‬القرآن‪.‬‬ ‫الحكمة ‪ :‬السنة وأسرار الشرع والصابة في المور كلها‪.‬‬

‫يزكيهم ‪ :‬يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم‪ ،‬ويهذب أخلقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة‪ ،‬وما‬ ‫بينه لهم من ضروب الطاعات‪.‬‬ ‫العزيز الحكيم ‪ :‬العزيز الغالب الذي ل يغلب‪ .‬الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في‬ ‫موضعه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليه السلم المنبئة عن مكانته السامية في كمال‬ ‫اليمان والطاعة‪ ،‬وعظيم الرغبة في الخير والرحمة‪ ،‬فقد تضمنت اليات الثلث ذكر إبراهيم‬ ‫وإسماعيل وهما يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان ال تعالى بأن يتقبل ‪ 1‬منهما عملهما‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ} ‪.‬‬ ‫متوسلين إليه بأسمائه وصفاته‪{ :‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه من كمال الحال إذ هو في حال البناء‪ ،‬والتعب‪ ،‬والعرق‪ ،‬ويسأل أن يتقبل منه عمله‪ .‬هذا‬ ‫شأن الكمال من الرجال‪ .‬قال تعالى عنهم‪{ :‬وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آ َتوْا َوقُلُوبُهُ ْم َوجِلَةٌ} الية‪.‬‬

‫( ‪)1/114‬‬ ‫كما يسألنه عز وجل أن يجعلها مسلمين له‪ ،‬وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة ‪ 1‬له مؤمنة به‬ ‫موحدة له ومنقادة لمره ونهيه مطيعة‪ ،‬وأن يعلمهما مناسك ‪ 2‬حج بيته العتيق ليحجاه على علم‪،‬‬ ‫ويتوب عليهما‪ ،‬كما سأله عز وجل أن يبعث في ذريتهم رسولً منهم يتلو عليهم آيات ال ويعلمهم‬ ‫الكتاب والحكمة ويزكيهم اليمان وصالح العمال‪ ،‬وجميل الخلل وطيب الخصال‪.‬‬ ‫وقد استجاب ال تعالى دعاؤهما فبعث في ذريتهما من أولد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر‬ ‫المحجلين نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد قرر هذا صلى ال عليه وسلم بقوله‪" :‬أنا دعوة ‪3‬‬ ‫أبي إبراهيم وبشارة عيسى‪ "...‬عليهم جميعا السلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل السهام بالنفس في بناء المساجد ‪.4‬‬ ‫‪ -2‬المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف أل يقبل منه فيسأل ال تعالى ويتوسل إليه‬ ‫بأسمائه وصفاته أن يتقبله منه‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية سؤال ال للنفس وللذرية الثبات على السلم حتى الموت عليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب طلب تزكية النفس باليمان والعمل الصالح‪ ،‬وتهذيب الخلق بالعلم والحكمة‪.‬‬ ‫‪ -6‬مشروعية التوسل إلى ال تعالى في قبول الدعاء‪ ،‬وذلك بأسمائه تعالى وصفاته ل بحق فلن‬

‫وجاه فلن‪ ،‬كما هو شأن المبتدعة والضلل‪ .‬ففي هذه اليات الثلث توسل إبراهيم وإسماعيل‬ ‫بالجمل التالية‪:‬‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ}‬ ‫‪{ -1‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هي أمة السلم التي أنشأها بعون ال تعالى محمد الذي بعثه ال رسولً في ذرية إسماعيل‬ ‫للعالمين‪.‬‬ ‫‪ 2‬النسك في اللغة‪ :‬الغسل بالماء‪ ،‬يقال‪ :‬نسك ثوبه إذا غسله‪ ،‬وهو في الشرع‪ :‬اسم للعبادة‪ ،‬لن‬ ‫العبادة تطهر النفس وتزكيها‪ ،‬يقال‪ :‬رجل ناسك ومتنسك إذا لزم العبادة يغسل بها نفسه لتطهر‬ ‫وتزكو فيفلح بذلك ويفوز‪ .‬ومناسك الحج‪ :‬هي العبادات المشروعة فيه من إحرام وطواف وذبح‬ ‫الهدي وغير ذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬رواه أحمد بلفظ‪" :‬إني عند ال لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته وسأنبئكم بأول ذك‪.‬‬ ‫دعوة إبراهيم‪ ،‬وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬من بنى ل مسجدا بنى ال له قصرا في الجنة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/115‬‬ ‫‪{ -2‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ} ‪.‬‬ ‫حكِيمُ}‬ ‫‪{ -3‬إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫طفَيْنَاهُ‪ 2‬فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ‬ ‫سفِهَ َنفْسَ ُه وََلقَدِ اصْ َ‬ ‫غبُ‪ 1‬عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِل مَنْ َ‬ ‫{ َومَنْ يَرْ َ‬ ‫الصّالِحِينَ(‪ )130‬إِذْ قَالَ َلهُ رَبّهُ َأسْلِمْ قَالَ َأسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪َ )131‬ووَصّى ‪ِ 3‬بهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‬ ‫شهَدَاءَ إِذْ‬ ‫طفَى َلكُمُ الدّينَ فَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ(‪ )132‬أَمْ‪ 4‬كُنْتُمْ ُ‬ ‫وَ َيعْقُوبُ يَا بَ ِنيّ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬ ‫ك وَإِلَهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِيمَ‬ ‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ َبعْدِي قَالُوا َنعْبُدُ إَِل َه َ‬ ‫َ‬ ‫ت وََلكُمْ مَا‬ ‫سمَاعِيلَ وَِإسْحَاقَ إِلَها وَاحِدا وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ(‪ )133‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬ ‫وَإِ ْ‬ ‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ(‪})134‬‬ ‫كَسَبْتُ ْم وَل تُسْأَلونَ َ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫ومن يرغب عن ملة إبراهيم ‪ :‬الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه‪ ،‬وملة إبراهيم هي عبادة‬ ‫ال وحده بما شرع لعباده‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام للنفي والنكار‪ ،‬وملة إبراهيم هي عبادة ال وحده ل شريك له بما شرع ال تعالى‬ ‫لعباده من أنواع العبادات في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الصطفاء‪ :‬مأخوذ من الصفوة‪ ،‬وهو تخير الصفى‪ :‬أي الكثر صفاء‪ ،‬واصطفى‪ :‬قلبت فيه‬

‫التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الطباق‪ ،‬إذ الصل‪ :‬اصطفى‪ ،‬أي‪ :‬طلب الصفوة‪.‬‬ ‫‪ 3‬وصى وأوصى‪ ،‬بمعنى‪ :‬عهد إليه بكذا‪ ،‬والموصى به هنا هو كلمة‪{ :‬أَسَْل ْمتُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} ‪،‬‬ ‫وذلك بعبادته وحده بما شرع بعد خلع النداد‪ .‬وذي‪ :‬هي ملة إبراهيم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أم‪ :‬بمعنى‪ :‬بل‪ .‬والهمزة هي التي للستفهام النكاري وتقدير الكلم‪ :‬بل أكنتم شهداء حين‬ ‫حضر يعقوب الموت فوصى بنيه‪ .‬يوبخهم على كذبهم وينكر عليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/116‬‬ ‫إل من سفه ‪ 1‬نفسه ‪ :‬ل يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين السلم إل عبد جهل قدر نفسه‬ ‫فأزلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها‪ ،‬وهي‪ :‬السلم‪.‬‬ ‫اصطفيناه ‪ :‬اخترناه لرسالتنا والبلغ عنا‪ ،‬ومن ثم رفعنا شأنه وأعلينا مقامه‪.‬‬ ‫أسلم ‪ :‬أنقد لمرنا ونهينا‪ ،‬فاعبدنا وحدنا ول تلتفت إلى غيرنا‪.‬‬ ‫اصطفى لكم الدين ‪ :‬اختار لكم الدين السلمي ورضيه لكم‪ ،‬فل تموتن ‪ 2‬إل وأنتم مسلمون‪.‬‬ ‫يعقوب ‪ :‬هو إسرائيل ابن إسحق بن إبراهيم‪ ،‬وبنوه هم‪ :‬يوسف وأخوته‪.‬‬ ‫أمة خلت ‪ :‬جماعة أمرها واحد‪ .‬خلت‪ :‬مضت إلى الدار الخرة‪.‬‬ ‫لها ما كسبت ‪ :‬أجر ما كسبته من الخير‪.‬‬ ‫ولكم ما كسبتم ‪ :‬من خير ‪ 3‬أو غيره‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى في اليات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلصا وعملً صالحا‬ ‫غبُ عَنْ‬ ‫وصدقا ووفاءا فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ يَرْ َ‬ ‫مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ} تلك الملة الحنيفية الواضحة السهلة‪ .‬اللهم ل أحد يرغب عنها إل عبد جهل قدر‬ ‫نفسه‪ ،‬ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والكمال والسعاد‪ ،‬وضمن هذا الخبر ذكر تعالى‬ ‫إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من الصطفاء في الدنيا والسعاد في الخرة في جملة‬ ‫الصالحين‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية (‪ )131‬يذكر تعالى إن ذاك إل اصطفاء تم لبراهيم عند استجابته لمر ربه‬ ‫بالسلم‪ ،‬حيث أسلم ولم يتردد‪ .‬وفي الية الثالثة (‪ )132‬يذكر تعالى إقامة الحجة على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سفه نفسه‪ :‬استخف بقدرها جهلً به‪ .‬ولذا نصب نفسه لتضمن سفه معنى جهل‪.‬‬ ‫‪ 2‬في قوله‪{ :‬فَل َتمُوتُنّ إل وَأَنْتُمْ ُمسِْلمُونَ} إيجاز بليغ‪ ،‬إذ معناه‪ :‬الزموا السلم ودموا عليه ول‬ ‫تفارقوه حتى تموتوا‪ .‬وجملة‪{ :‬وَأَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ} في محل نصب على الحال‪ ،‬والمعنى‪ :‬مطيعون‬

‫خاضعون‪.‬‬ ‫سبُ ُكلّ َنفْسٍ إل عَلَ ْيهَا}‪.‬‬ ‫‪ 3‬فيه معنى‪{ :‬وَل تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَى} ومعنى {وَل َتكْ ِ‬

‫( ‪)1/117‬‬ ‫المشركين وأهل الكتاب معا‪ ،‬إذ ملة السلم القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه‪ ،‬كما‬ ‫وصى بها يعقوب بنيه وقال لهم‪ :‬ل تموتن إل على السلم‪ ،‬فأين الوثنية العربية واليهودية‬ ‫والنصرانية من ملة إبراهيم‪ ،‬إل فليثب العقلء إلى رشدهم‪.‬‬ ‫وفي الية الرابعة(‪ )133‬يوبخ تعالى اليهود القائلين كذبا وزورا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬ألست‬ ‫شهَدَاءَ} أي‪ :‬كنتم حاضرين لما حضر‬ ‫تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬أَمْ كُنْ ُتمْ ُ‬ ‫يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهما إياهم‪{ :‬مَا َتعْبُدُونَ مِنْ َبعْدِي} ؟ فأجابوه بلسان واحد‪َ { :‬نعْ ُبدُ إَِل َهكَ‬ ‫سِلمُونَ}‪.‬‬ ‫سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَها وَاحِدا‪ 2‬وَ َنحْنُ لَهُ مُ ْ‬ ‫وَإِلَهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِيمَ‪ 1‬وَإِ ْ‬ ‫فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا‪ ،‬وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب‬ ‫وصى بنيه باليهودية‪ ،‬وثبت أنه وصاهم بالسلم ل باليهودية‪.‬‬ ‫وفي الية الخيرة(‪ )134‬ينهى تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم‪{ :‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ قَدْ خََلتْ} –يعني‬ ‫إبراهيم وأولده‪ -‬لها ما كسبت من اليمان وصالح العمال‪ ،‬ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من‬ ‫الكفر والمعاصي وسوف ل تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم‬ ‫وتجزون بها‪ ،‬فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في أخرتكم وهو اليمان الصحيح والعمل‬ ‫الصالح‪ ،‬ول يتم لكم هذا إل بالسلم‪ ،‬فاسلموا‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يرغب عن السلم بتركه أو طلب غيره من الديان إل سفيه ل يعرف قدر نفسه‪.‬‬ ‫‪ -2‬السلم دين البشرية ‪ 3‬جمعاء‪ ،‬وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالسلم حتى الموت عليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال‪ :‬اليهود قوم بهت‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فيه إطلق لفظ الب على العم؛ لن إسماعيل عم ليعقوب وليس بأب له‪ ،‬وفيه إطلق الب على‬ ‫الجد أيضا‪ ،‬ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن الجد كالب يحجب الخوة عن الرث؛ لن الب‬ ‫يحجب الخوة حجب إسقاط‪.‬‬ ‫‪ 2‬أن نوحده باللوهية‪ ،‬أي‪ :‬العبادة ول نشرك به في عبادته سواه‪.‬‬ ‫‪ 3‬السلم هو ملة سائر النبياء‪ ،‬وأن تنوعت أنواع التكليف عندهم‪ ،‬واختلفت مناهج العمل بينهم‪،‬‬

‫إذ السلم هو انقياد ل وخضوع‪ ،‬ولذا قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬نحن معشر النبياء‬ ‫أولد علت ديننا واحد" ‪.‬‬

‫( ‪)1/118‬‬ ‫‪ -5‬يحسن بالمرء ترك العتزاز بشرف وصلح ‪ 1‬الماضين ‪ ،2‬والقبال على نفسه بتزكيتها‬ ‫وتطهيرها‪.‬‬ ‫‪ -6‬سنة ال في الخلق أن المرء يجزى بعمله‪ ،‬ول يسأل عن عمل غيره‪.‬‬ ‫‪ -7‬يطلق لفظ الب على العم تغليبا و تعظيما‪.‬‬ ‫{ َوقَالُوا ‪ 3‬كُونُوا هُودا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪)135‬‬ ‫ط َومَا‬ ‫ب وَالَسْبَا ِ‬ ‫ق وَ َي ْعقُو َ‬ ‫سحَا َ‬ ‫ل وَإِ ْ‬ ‫سمَاعِي َ‬ ‫قُولُوا آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا ‪َ 4‬ومَا أُنْ ِزلَ إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬ ‫أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ ل ُنفَرّقُ‪ 5‬بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُ ْم وَ َنحْنُ لَهُ ُمسِْلمُونَ(‪)136‬‬ ‫سمِيعُ‬ ‫شقَاقٍ فَسَ َي ْكفِي َكهُمُ اللّ ُه وَ ُهوَ ال ّ‬ ‫فَإِنْ آمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْتُمْ ِبهِ َفقَدِ اهْ َت َدوْا وَإِنْ َتوَلّوْا فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ‬ ‫ا ْلعَلِيمُ(‪ )137‬صِ ْبغَةَ اللّهِ َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَ ًة وَنَحْنُ لَهُ عَا ِبدُونَ(‪})138‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تهتدوا ‪ :‬تصيبوا طريق الحق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"‪ ،‬وفي هذا المعنى قال الشاعر‬ ‫الحكيم‪:‬‬ ‫ل تقل أصلي وفصلي يا فتى‬ ‫إنما أصل الفتى ما قد حصل ‪ 2‬ذكر ابن كثير عن ابن إسحاق ابن عبد ال بن صوريا العور‬ ‫اليهودي قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما الهدى إل ما نحن عليه‪ ،‬فاتبعنا يا محمد تهتد‪،‬‬ ‫وقال النصارى مثل ذلك‪ .‬فأنزل ال عز وجل‪َ { :‬وقَالُوا كُونُوا هُودا َأوْ َنصَارَى َتهْتَدُوا} الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية‬ ‫ويفسرونها بالعربية لهل السلم فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تصدقوا أهل الكتاب‬ ‫ول تكذبوهم وقولوا‪ :‬آمنا بال وما أنزل علينا‪ ،‬وما أنزل إليكم‪. "..‬‬ ‫‪ 4‬السباط‪ :‬أولد يعقوب عليهم السلم وهم‪ :‬اثنا عشر ولدا‪ :‬يوسف وبنيامين وبوذا ولكل واحد‬ ‫منهم أمة من الناس‪ .‬الواحد‪ :‬سبط والجمع‪ :‬أسباط‪ ،‬والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيبلة‪ ،‬وفي‬ ‫ولد إسماعيل عليه السلم‪ ،‬وسموا السباط من السبط‪ ،‬وهو‪ :‬التتابع لنهم متتابعون‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬ل نؤمن ببعض ونكفر ببعض كصنيع اليهود والنصارى‪.‬‬

‫( ‪)1/119‬‬ ‫ملة إبراهيم ‪ :‬دين إبراهيم الذي كان عليه‪.‬‬ ‫حنيفا‪ : 1‬مستقيما على دين ال موحدا فيه ل يشرك بال شيئا‪.‬‬ ‫ما أوتي موسى ‪ :‬التوراة‪.‬‬ ‫وما أوتي عيسى ‪ :‬النجيل‪.‬‬ ‫في شقاق ‪ :‬خلف وفراق وعداء لك وحرب عليك‪.‬‬ ‫صبغة ال ‪ :‬دينه الذي طهرنا به ظاهرا وباطنا فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على‬ ‫الثوب المصبوغ‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى السلم فقد قال اليهود للرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم وأصحابه‪ .‬كونوا يهودا تهتدوا إلى الحق‪ ،‬وقالت النصارى من وفد نجران‪ ،‬كذلك كونوا‬ ‫نصارى تهتدوا‪ .‬فحكى ال تعالى قولهم‪ ،‬وعلم رسوله أن يقول لهم ل تتبع يهودية ول نصرانية بل‬ ‫تتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )136‬أمر ال تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة‪،‬‬ ‫وهي اليمان بال وما أنزل من القرآن‪ ،‬وما أنزل على النبياء كافة‪ ،‬وما أوتي موسى وعيسى من‬ ‫التوراة والنجيل خاصة‪ ،‬مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والسلم الظاهر والباطن ل رب‬ ‫العالمين‪.‬‬ ‫وفي الية الثالثة(‪ )137‬يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيمانا صحيحا‬ ‫كإيمانكم ‪ 2‬فقد اهتدوا‪ ،‬وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم ل يعدو شقاقا وحربا ل ورسوله‪ ،‬وال‬ ‫تعالى سيكفيكهم بما شاء وهو السميع لقوالهم الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة‪ ،‬وقد أنجز ‪ 3‬تعالى‬ ‫وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز مع ما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل الحنف‪ :‬الميل ومنه قولهم‪ :‬رجل أحنف أي‪ :‬مائل القدمين إلى بعضهما بعضا‪ ،‬قالت أم‬ ‫الحنف‪ :‬وال لول الحنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله‪ .‬ولما مال إبراهيم عن أديان الشرك‬ ‫إلى دين التوحيد قيل فيه‪ :‬حنيف‪ ،‬وصار بمعنى مستقيم‪ ،‬إذ هو على منهج الحق‪ ،‬وغيره على‬ ‫الباطل‪.‬‬ ‫‪ 2‬الية‪{ :‬فَإِنْ آمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ‪ ، }..‬وكان ابن عباس يقرأها‪" :‬فإن آمنوا بالذي أمنتم به" وهو‬ ‫تفسير ل قراءة‪ ،‬وعليه فمثل‪ :‬زائدة نظيرها‪ ،‬ليس كمثله شيء‪ ،‬أي ليس كهو شيء‪.‬‬

‫‪ 3‬نعم‪ :‬أنجز ال تعالى وعده لرسوله فكفاه اليهود الذين وطنوا العزم على قتله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فحاولوا وخابوا ولم يقدروا إذ كفاه ال تعالى إياهم‪.‬‬

‫( ‪)1/120‬‬ ‫جللهم به من الخزي والعار‪.‬‬ ‫وفي الية الرابعة(‪ 138‬يقول تعالى لرسوله ردا على اليهود والنصارى قولوا لهم‪ :‬نتبع ‪ 1‬صبغة‬ ‫ال بها وفطرته عليها وهي السلم‪ ،‬ونحن له تعالى عابدون‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل هداية إل في السلم ول سعادة ول كمال إل بالسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬الكفر برسول‪ ،‬كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى‪ ،‬وكفر النصاري بمحمد صلى ال عليه‬ ‫وسلم فأصبحوا بذلك كافرين‪ ،‬وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا بذلك مؤمنين‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل يزال اليهود والنصارى في عداء للسلم وحرب على المسلمين‪ ،‬والمسلمون يكفيهم ال‬ ‫تعالى شرهم إذا هم استقاموا على السلم عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وحكما‪.‬‬ ‫‪ -4‬الواجب على من دخل السلم أن يغتسل غسلً كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة ‪ 2‬ال تعالى‪،‬‬ ‫ل المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولدته في ماء يقال له المعمودي‬ ‫وإدعاء أنه طهر بذلك ول يحتاج إلى الختان‪.‬‬ ‫عمَاُلكُ ْم وَنَحْنُ َلهُ مُخِْلصُونَ(‪َ )139‬أمْ‬ ‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬ ‫{ ُقلْ أَتُحَاجّونَنَا فِي اللّ ِه وَ ُهوَ رَبّنَا وَرَ ّبكُ ْم وَلَنَا أَ ْ‬ ‫ق وَ َي ْعقُوبَ‬ ‫ل وَإِسْحَا َ‬ ‫سمَاعِي َ‬ ‫َتقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصبغ‪ :‬الشيء يصبغ به‪ ،‬فالصبح بدون تاء كالقشر‪ ،‬فزيدت فيه التاء‪ ،‬فقيل‪ :‬صبغة؛ كقشرة‪،‬‬ ‫وهي في الية منصوبة "صبغة" إما إنها بدل من ملة المنصوبة بتقدير‪ :‬نتبع ملة‪ ،‬وإما إنها على‬ ‫المفعولية المطلقة‪ ،‬أي‪ :‬صبغنا صبغة ال‪ ،‬نحو‪ :‬وعد ال حقا‪ ،‬وفي هذا رد على اليهود‬ ‫والنصارى‪ ،‬إذ اليهود نشأت فيهم الصبغة‪ ،‬إذ كان الكاهن يغتسل كل عام ليكفر خطايا بني‬ ‫إسرائيل في يوم عيد معلوم لهم‪ ،‬والنصارى ما زالوا يعمدون أطفالهم يوم السابع‪ ،‬فيغمسونهم في‬ ‫الماء‪ .‬هذه صبغة اليهود والنصارى‪ ،‬أما صبغة المسلمين‪ ،‬فهي اتباع ملة إبراهيم عليه السلم‪،‬‬ ‫وشتان ما بينهما‪.‬‬ ‫‪ 2‬تعميد النصارى لطفالهم‪ ،‬وهو صبغهم بالماء؛ كالثوب يصبغ باللون من اللوان‪ ،‬فهم يرون أن‬ ‫الولد لما يصبغ بالماء أصبح نصرانيا ل يفارقه‪ .‬أي هذا الثم الذي هو النصراني‪.‬‬

‫( ‪)1/121‬‬ ‫شهَا َدةً‪ 2‬عِ ْن َدهُ مِنَ اللّهِ‬ ‫وَالَسْبَاطَ كَانُوا هُودا َأوْ َنصَارَى ُقلْ أَأَنْتُمْ‪ 1‬أَعْلَمُ أَمِ اللّ ُه َومَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ كَتَمَ َ‬ ‫عمّا‬ ‫ت وََلكُمْ مَا َكسَبْتُ ْم وَل تُسْأَلونَ َ‬ ‫عمّا َت ْعمَلُونَ(‪ )140‬تِ ْلكَ ُأمّةٌ َقدْ خََلتْ َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬ ‫َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫كَانُوا َي ْعمَلُون(‪})141‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أتحاجوننا ‪ 3‬في ال ‪ :‬أتجادلوننا في دينه واليمان به وبرسوله‪ ،‬والستفهام للنكار‪.‬‬ ‫له مخلصون ‪ : 4‬مخلصون العبادة له‪ ،‬ل نشرك غيره فيها‪ ،‬وأنتم مشركون‪.‬‬ ‫شهادة عنده من ال ‪ :‬المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من اليمان بالنبي محمد صلى‬ ‫ال عليه وسلم عند ظهوره‪.‬‬ ‫الغافل ‪ :‬من ل يتفطن للمور لعدم مبالته بها‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في ال تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بال من‬ ‫الرسول والمؤمنين‪ ،‬وقالوا نحن أبناء ال وأحباؤه‪ ،‬فعلّم ال رسوله كيف يرد عليهم منكرا عليهم‬ ‫دعواهم الباطلة‪ .‬كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والنبياء بعده كانوا هودا أو‬ ‫نصارى ‪ ،5‬إذ قال له‪ :‬قل لهم‪{ :‬أَأَنْ ُتمْ أَعَْلمُ أَمِ اللّهُ؟} فإن قالوا نحن أعلم‪ ،‬كفروا‪ ،‬وإن قالوا ال أعلم‬ ‫انقطعوا؛ لن ال تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبدا يهودا ول نصارى‪ ،‬ولكن كانوا مسلمين‪ ،‬ثم هددهم‬ ‫تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن كثير‪ ،‬عن الحسن البصري‪ :‬إن أهل الكتاب كانوا يقراءون في كتاب ال الذي آتاهم‪ :‬إن‬ ‫الدين السلم وإن محمدا رسول ال وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والسباط كانوا براء‬ ‫من اليهودية والنصرانية فشهدوا ل بذلك وأقروا على أنفسهم ل‪ ،‬فكتموا شهادة ال عندهم من‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬والستفهام أيضا للتعجب من حالهم وللتوبيخ لهم على سوء سلوكهم‪ ،‬ومعنى في ال‪ ،‬أي‪ :‬في‬ ‫دينه ووليته ونسخ شرائعه السابقة بالسلم وكفر من لم يؤمن بمحمد صلى ال عليه وسلم ودينه‬ ‫الذي هو السلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬الخلص‪ :‬تخليص العبادة من اللتفات إلى غير ال تعالى‪ .‬وعرفه الجنيد فقال‪ :‬الخلص سر‬ ‫بين العبد وبين ال تعالى ل يعلمه ملك فيكتبه ول شيطان فيفسده‪ ،‬ول هو فيميله‪.‬‬

‫( ‪)1/122‬‬

‫شهَا َدةً عِنْ َدهُ مِنَ اللّ ِه َومَا‬ ‫نعوت الرسول والمر باليمان به عند ظهوره فقال‪َ { :‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ كَ َتمَ َ‬ ‫عمّا َت ْعمَلُونَ}‪.‬‬ ‫اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫ثم أعاد لهم ما أدبهم به في اليات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلحهم لو كانوا أهلً لذلك‪،‬‬ ‫فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنسب الفارغة إلى الولين غير مجد لهم ول نافع‪،‬‬ ‫فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر باليمان والسلم والحسان‪ ،‬أما من مضوا فهم أمة قد‬ ‫أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به‪ ،‬وأنتم لكم ما كسبتم وستجزون به‪ ،‬ول تجزون بعمل غيركم‬ ‫ول تسألون عنه‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضيلة الخلص وهو عدم اللتفات إلى غير ال تعالى عند القيام بالعبادات‪.‬‬ ‫‪ -2‬كل امرئ يجزى بعمله‪ ،‬وغير مسئول عن عمل غيره‪ ،‬إل إذا كان سببا فيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليهودية والنصرانية ‪ 1‬بدعة ابتدعها اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫‪ -4‬تفاوت الظلم بحسب الثار المترتبة عليه‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة ‪ 2‬كتمان الشهادة ل سيما شهادة من ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -6‬عدم التكال على حسب الباء والجداد ووجوب القبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها‬ ‫باليمان الصحيح والعمل الصالح‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال تعالى‪{ :‬مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفا مُسْلِما} آل عمران‪.‬‬ ‫شهَا َدةَ َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْ ُبهُ} البقرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ قال تعالى‪{ :‬وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬

‫( ‪)1/123‬‬ ‫الجزء الثاني‬ ‫س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ‪ 2‬مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِتهِمُ‪ 3‬الّتِي كَانُوا عَلَ ْيهَا ُقلْ لِلّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ‬ ‫{سَ َيقُولُ‪ 1‬ال ّ‬ ‫شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ‬ ‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّ ًة وَسَطا لِ َتكُونُوا ُ‬ ‫َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ(‪َ )142‬وكَذَِلكَ َ‬ ‫علَ ْيهَا إِل لِ َنعَْلمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ‬ ‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ َ‬ ‫شهِيدا َومَا َ‬ ‫وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬ ‫عقِبَيْ ِه وَإِنْ كَا َنتْ َلكَبِي َرةً إِل عَلَى الّذِينَ َهدَى اللّ ُه َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ إِنّ اللّهَ‬ ‫يَ ْنقَلِبُ عَلَى َ‬ ‫بِالنّاسِ لَ َرؤُوفٌ َرحِيمٌ(‪})143‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫السفهاء ‪ :‬جمع سفيه‪ ،‬وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خُلق‬ ‫وسوء سلوك‪.‬‬

‫ما ولهم ‪ :‬ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة‪.‬‬ ‫القبلة ‪ :‬الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلته‪.‬‬ ‫أمة وسطا‪ :‬وسط كل شيء خياره‪ ،‬والمراد منه أن أمة محمد صلى ال عليه وسلم خير المم‬ ‫وأعدلها‪.‬‬ ‫ينقلب على عقبيه ‪ :‬يرجع إلى الكفر بعد اليمان‪.‬‬ ‫لكبيرة ‪ :‬شاقة على النفس صعبة ل تطاق إل بجهاد كبير‪ ،‬وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة‬ ‫حديثة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا إخبار بما سيقوله السفهاء من المنافقين واليهود والمشركين قبل أن يقوله‪ ،‬وفائدته‪ ،‬أولً‪:‬‬ ‫تقرير النبوة المحمدية‪ ،‬إذ هذا إخبار بالغيب فكان كما أخبر‪ ،‬وثانيا‪ :‬توطين نفس الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم والمؤمنين به حتى ل يضرهم عند سماعه من السفهاء‪ ،‬لن مفاجأة المكروه أليمة‬ ‫شديدة‪ ،‬فإن ذهبت المفاجأة هان المر‪ ،‬وخف اللم‪ ،‬وهذا من باب "قبل الرمي يراش السهم"‪.‬‬ ‫ومناسبة اليات لما قبلها استمرار الحجاج إلى أنه كان في الصول وأصبح في الفروع‪.‬‬ ‫‪{ 2‬من الناس} في محل نصب على الحال‪ ،‬وال فيه للجنس ليدخل في اللفظ كل سفيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬هي بيت المقدس‪ ،‬ومن جملة ما قالوه سفها واستهزاء التبس عليه أمره وتحير‪ :‬قد اشتاق محمد‬ ‫إلى مولده‪.‬‬

‫( ‪)1/124‬‬ ‫إيمانكم ‪ :‬صلتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة‪.‬‬ ‫رؤوف رحيم ‪ :‬يدفع الضرر عنكم ويفيض الحسان عليكم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر ال تعالى بأمر يعلمه قبل وقوعه‪ ،‬وحكمة الخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس‬ ‫المؤمنين‪ ،‬إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه فل تضطرب له نفوس المؤمنين‪.‬‬ ‫علَ ْيهَا ُقلْ} ؟ وحصل هذا‬ ‫س َفهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلهُمْ عَنْ قِبْلَ ِت ِهمُ الّتِي كَانُوا َ‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬سَ َيقُولُ ال ّ‬ ‫لما حول ال تعالى رسوله والمؤمنين من استقبال بيت المقدس ‪ 1‬في الصلة إلى الكعبة تحقيقا‬ ‫لرغبة رسول ال صلى ال عليه وسلم في ذلك ولعلة الختبار ‪ 2‬التي تضمنتها الية التالية فأخبر‬ ‫تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود والمنافقين والمشركين وعلّم المؤمنين كيف يردون على‬ ‫ق وَا ْل َمغْ ِربُ َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ ِإلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ} فل اعتراض عليه‬ ‫السفهاء‪ ،‬فقال‪ُ { :‬قلْ لِلّهِ ا ْلمَشْ ِر ُ‬ ‫يوجه عباده حيث يشاء‪ ،‬ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‪.‬‬ ‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطا} خيارا عدولً‪ 3‬أي‪ :‬كما هديناكم‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )143‬يقول تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ َ‬

‫إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلم جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك‬ ‫للشهادة على المم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالت ربهم‪ ،‬وأنتم لذلك ل تشهد‬ ‫عليكم المم ولكن يشهد عليكم رسولكم‪ ،‬وفي هذا من التكريم والنعام ما ال به ‪ 4‬عليم‪ .‬ثم ذكر‬ ‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُول}‬ ‫تعالى العلة في تحويل القبلة فقال‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده ل ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجازي‬ ‫السفهاء فيهلك بالردة معهم‪ .‬ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة على‬ ‫النفس إل على الذين هداهم ال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ صلى المؤمنون قرابة سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس من قبل تحويل ال تعالى القبلة‬ ‫بهذه اليات التي نزلت في شانها‪ .‬وروى مالك أن تحويل القبلة كان قبل غزوة بدر بشهرين‪.‬‬ ‫جعَلْنَا ا ْلقِبْلَةَ الّتِي كُ ْنتَ عَلَ ْيهَا إِل لِ َنعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ ِممّنْ‬ ‫‪ 2‬الختبار في قوله تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫عقِبَيْهِ} ‪.‬‬ ‫يَ ْنقَلِبُ عَلَى َ‬ ‫‪ 3‬في هذه الية دليل على صحة الجماع ووجوب الحكم به لعدالة المة بشهادة ربها‪ ،‬فإذا أجمعت‬ ‫على أمر وجب الحكم به‪ ،‬وفي أي عصر من العصور إلى قيام الساعة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ومن هذا التكريم أنهم إذا شهدوا على أحدهم بالخير وجبت له الجنة لحديث الصحيح‪" :‬مرت‬ ‫جنازة فأثنى عليها خير‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬وجبت وجبت وجبت" الحديث فسأل‬ ‫فقال‪" :‬من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة‪ ،‬ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار‪ ،‬أنتم شهداء ال‬ ‫في الرض"‪.‬‬

‫( ‪)1/125‬‬ ‫إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك ل يجدون أي صعوبة في النتقال من طاعة إلى‬ ‫طاعة ومن قبلة إلى قبلة‪ ،‬ما دام ربهم قد أحب ذلك وأمر به‪.‬‬ ‫وأخيرا طمأنهم تعالى على أجور صلتهم التي صلوها إلى بيت ‪ 1‬المقدس وهي صلة قرابة سبعة‬ ‫عشر شهرا ل يُضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس‬ ‫أو من حي حتى صلى إلى الكعبة‪ ،‬وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز النسخ في السلم فهذا نسخ إلى بدل من الصلة إلى بيت المقدس إلى الصلة إلى‬ ‫الكعبة في مكة المكرمة‪.‬‬ ‫‪ -2‬الراجيف وافتعال الزمات وتهويل المور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة‪ ،‬فعلى‬

‫المؤمنين أن يثبتوا ول يتزعزوا حتى يظهر الباطل وينكشف والزيف وتنتهي الفتنة‪.‬‬ ‫‪ -3‬أفضلية أمة السلم على سائر المم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز امتحان المؤمن وجريانه عليه‪.‬‬ ‫‪ -5‬صحة صلة من صلى إلى غير القبلة وهو ل يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه إعادتها ولو‬ ‫صلى شهورا إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أداه اجتهاده‪.‬‬ ‫جدِ‬ ‫ج َهكَ‪ 3‬شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫سمَاءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا َف َو ّ‬ ‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬ ‫{قَدْ نَرَى َتقَلّبَ‪َ 2‬و ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ورد في الحديث عن البراء قال‪ :‬مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس‪ ،‬فقال الناس‪ :‬ما‬ ‫حالهم في ذلك‪ ،‬فأنزل ال‪َ { :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ} ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى البخارى في سبب نزول هذه الية أن البراء قال‪ :‬صلينا مع رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم علم ال هوى نبيه‪ ،‬أي‪ :‬حبه‪،‬‬ ‫سمَاءِ} الية‪.‬‬ ‫ج ِهكَ فِي ال ّ‬ ‫ب وَ ْ‬ ‫فنزلت‪{ :‬قَدْ نَرَى َتقَّل َ‬ ‫‪ 3‬تحويل وجهك‪ :‬أي‪ :‬تحويل وجهك ونظرك بعينك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحي بذلك‪،‬‬ ‫لسيما وقد نزلت اليات الولى‪{ :‬سيقول} الية‪ ،‬إذ هي موحية بذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/126‬‬ ‫حقّ مِنْ‬ ‫شطْ َرهُ‪ 2‬وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ الْ َ‬ ‫الْحَرَا ِم وَحَ ْيثُ مَا كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ‪َ 1‬‬ ‫ك َومَا‬ ‫عمّا َي ْعمَلُونَ(‪ )144‬وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َت َ‬ ‫رَ ّبهِ ْم َومَا اللّهُ ِبغَافِلٍ َ‬ ‫ض وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَا َءهُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ‬ ‫أَ ْنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَ َتهُمْ‪َ 3‬ومَا َب ْعضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ َب ْع ٍ‬ ‫إِ ّنكَ إِذا َلمِنَ الظّاِلمِينَ(‪ )145‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَا َءهُ ْم وَإِنّ فَرِيقا مِ ْنهُمْ‬ ‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ(‪})147‬‬ ‫لَ َيكْ ُتمُونَ ا ْلحَقّ وَهُمْ َيعَْلمُونَ(‪ )146‬الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تقلب وجهك في السماء ‪ :‬تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظارا لنزول الوحي‪.‬‬ ‫فلنولينك قبلة ترضاها ‪ :‬فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة‪.‬‬ ‫فول وجهك شطر المسجد ‪ :‬حول وجهك جهة المسجد الحرام بمكة‪.‬‬ ‫الحرام ‪ :‬بمعنى‪ :‬المحرم ل يسفك فيه دم ول يقتل فيه أحد‪.‬‬ ‫الشطر ‪ :‬هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام‪ ،‬لن‬ ‫الشطر لغة‪ :‬النصف أو الجزء مطلقا‪.‬‬ ‫أنه الحق من ربهم ‪ :‬أي تحول القبلة جاء منصوصا عليه في الكتب السابقة‪.‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬اختلف في أول صلة صلها رسول ال صلى ال عليه وسلم والمؤمنون إلى الكعبة‪ ،‬فقيل‪:‬‬ ‫الظهر‪ ،‬وقيل‪ :‬العصر‪ ،‬ولم يرجح أحد القولين‪ ،‬وقيل‪ :‬كانت صلة الظهر في مسجد بني سلمة‪،‬‬ ‫المعروف بمسجد القبلتين حتى صلوا بعض الصلة إلى بيت المقدس وبعضها إلى الكعبة‪ ،‬فسمي‬ ‫لذلك مسجد القبلتين‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في‪ :‬هل الغائب عن البيت الحرام يصلى إلى عين الكعبة أو إلى جهتها‪ .‬الصواب أنه‬ ‫يصلي إلى جهة الكعبة ناويا استقبال البيت‪ ،‬لن استقبال عين الكعبة معتذر على غير الموجود في‬ ‫المسجد الحرام‪ ،‬أما في المسجد الحرام فل تصح صلته إن لم يستقبل عين الكعبة‪.‬‬

‫( ‪)1/127‬‬ ‫آية ‪ :‬حجة وبرهان‪.‬‬ ‫يعرفونه ‪ :‬الضمير عائد إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أي‪ :‬يعلمون أنه نبي ال ورسوله لما‬ ‫في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية‪.‬‬ ‫من الممترين ‪ :‬الشاكين والمتراء‪ :‬الشك وعدم التصديق‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يعلم ال تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلب وجهه في السماء انتظارا لوحي يؤمر فيه باستقبال‬ ‫الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود لقبلة أبيه إبراهيم‪ ،‬إذ هي أول قبلة وأفضلها‬ ‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ} ‪ ،‬وبهذا المر اللهي تحولت القبلة‪ ،‬وروي أنه‬ ‫ج َهكَ شَطْرَ‪1‬ا ْلمَ ْ‬ ‫فبناء على ذلك { َف َولّ وَ ْ‬ ‫كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون‬ ‫وراءه ركعتين إلى بيت المقدس‪ ،‬وركعتين إلى الكعبة‪ ،‬وكيل تكون القبلة خاصة بمن كان‬ ‫بالمدينة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَحَ ْيثُ مَا كُنْتُمْ} أي‪ :‬في نواحي البلد وأقطار الرض { َفوَلّوا وُجُو َه ُكمْ‬ ‫شطْ َرهُ} أي شطر المسجد الحرام‪ ،‬كما أخبر تعالى في هذه الية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن‬ ‫َ‬ ‫تحول القبلة حق وأنه بأمر ال تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة‪ ،‬فقد‬ ‫علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغاف عما يعملونه‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )145‬يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صلى ال عليه وسلم لو أتى ‪2‬‬ ‫اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه أو حقيقة القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك‬ ‫وصلوا إلى قبلته‪ ،‬كما إن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود‪ ،‬ول اليهود‬ ‫ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى‪ ،‬كما أن النبي صلى ال عليه وسلم والمؤمنين لم يكونوا‬ ‫أبدا ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم ال إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم‪.‬‬ ‫وأخيرا يحذر ال رسوله أن يتبع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضللتهم بعد الذي أعطاه‬ ‫من العلم وهداه إليه من الحق‪ ،‬وحاشاه صلى ال عليه وسلم أن يفعل‪ ،‬ولو فعل لكان من الظالمين‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬الشطر‪ :‬لغة‪ :‬النصف ومنه الحديث‪" :‬الطهور شطر اليمان" ‪ ،‬والشاطر من الناس ‪ :‬من أخذ‬ ‫في نحو غير الستواء‪ ،‬وهو الذي أعيا أهله خبثا‪ ،‬وهو من بعُد عن طاعة ال ورسوله أيضا‪.‬‬ ‫‪ 2‬قلت في التفسير‪ :‬لو أتى اليهود إلخ‪ :‬لن لئن في الية بمعنى لو‪ ،‬لنها أجيبت بجواب لو‪ ،‬وهو‬ ‫المضي والوقوع‪ ،‬إذ قال تعالى‪{ :‬وَلَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِب ُكلّ آيَةٍ مَا تَ ِبعُوا قِبْلَ َتكَ} ‪ ،‬فقوله‪:‬‬ ‫{مَا تَ ِبعُوا} جواب لئن‪ ،‬والمفروض فيها أن يجاب بالمضارع‪.‬‬

‫( ‪)1/128‬‬ ‫وفي الية الثالثة(‪ )146‬يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما حاء به‬ ‫هو الحق معرفة تامة كمعرفتهم لبنائهم‪ ،‬ولكن فريقا كبيرا يكتمون الحق وهم يعلمون إنه الحق‪،‬‬ ‫وفي الية الرابعة(‪ )147‬يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه‬ ‫من ربه فل ينبغي أن يكون من الشاكين ‪ 1‬بحال من الحوال‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب استقبال القبلة في الصلة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه ‪ 2‬إلى جهة مكة‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم إيثارا للدنيا على الخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت‪.‬‬ ‫‪ -4‬علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي صلى ال عليه وسلم يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه‬ ‫النبي الخاتم وأعرضوا عن اليمان به وعن متابعته إيثارا للدنيا على الخرة‪.‬‬ ‫جمِيعا إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ‬ ‫جهَةٌ ُهوَ ُموَلّيهَا فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا َتكُونُوا يَ ْأتِ ِبكُمُ اللّهُ َ‬ ‫{وَِل ُكلّ‪ 3‬وِ ْ‬ ‫ك َومَا‬ ‫حقّ مِنْ رَ ّب َ‬ ‫جدِ الْحَرَا ِم وَإِنّهُ َللْ َ‬ ‫شطْرَ‪ 4‬ا ْلمَسْ ِ‬ ‫ج َهكَ َ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫جتَ َفوَ ّ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪َ )148‬ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ} يقال‪ :‬امترى‪ .‬فلن في كذا إذا‬ ‫‪ 1‬هذا تفسير قوله تعالى‪{ :‬الْ َ‬ ‫اعتراه اليقين مرة والشك مرة أخرى فلدافع أحدهما بالخر‪ ،‬ومنه المتراء‪ ،‬لن كل واحد يشك‬ ‫في قول صاحبه‪ ،‬والمتراء‪ :‬الشك‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي عن ابن عباس أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬البيت قبلة لهل المسجد‪ ،‬والمسجد‬ ‫قبلة لهل الحرم‪ ،‬والحرم قبلة لهل الرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الوجهة‪ :‬من المواجهة وهي الجهة والوجه كلها بمعنى واحد‪ ،‬ومفعول موليها محذوف أي‬ ‫وجهة‪ ،‬أو يكون موليها بمعنى متوليها وحينئذ فل حذف ول تقدير‪.‬‬ ‫‪ 4‬اختلف في الجهة التي كان الرسول صلى ال عليه وسلم يستقبلها في مكة قبل الهجرة‪ ،‬والراجح‬

‫أنه كان يجعل الكعبة أمامه وهو متجه إلى الشام‪ ،‬بمعنى أنه يصلي بين الركنين اليمانيين‪ ،‬ولما‬ ‫قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس حتى حول إلى الكعبة‪ ،‬وهل كان استقباله بيت المقدس باجتهاد‬ ‫منه أو بوحي‪ ،‬الظاهر أنه باجتهاد منه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/129‬‬ ‫جدِ الْحَرَا ِم وَحَ ْيثُ مَا‬ ‫ج َهكَ‪ 1‬شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫جتَ َفوَ ّ‬ ‫عمّا َت ْعمَلُونَ(‪َ )149‬ومِنْ حَ ْيثُ خَ َر ْ‬ ‫اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫شوْ ُهمْ‬ ‫حجّةٌ إِل الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ فَل تَخْ َ‬ ‫علَ ْيكُمْ ُ‬ ‫كُنْتُمْ َفوَلّوا وُجُو َهكُمْ شَطْ َرهُ لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ َ‬ ‫شوْنِي وَلُتِمّ ِن ْعمَتِي عَلَ ْيكُ ْم وََلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ(‪َ )150‬كمَا أَرْسَلْنَا ‪ 2‬فِيكُمْ َرسُولً مِ ْنكُمْ يَتْلُو عَلَ ْيكُمْ‬ ‫وَاخْ َ‬ ‫ح ْكمَ َة وَ ُيعَّل ُمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ(‪ )151‬فَا ْذكُرُونِي ‪َ 3‬أ ْذكُ ْركُمْ‬ ‫ب وَالْ ِ‬ ‫آيَاتِنَا وَيُ َزكّيكُ ْم وَ ُيعَّل ُمكُمُ ا ْلكِتَا َ‬ ‫شكُرُوا لِي وَل َت ْكفُرُونِ(‪})152‬‬ ‫وَا ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ولكلٍ وجهة هو موليها ‪ :‬التنوين في (كل) دال على محذوف‪ ،‬هو لكل أهل ملة؛ كالسلم‪،‬‬ ‫واليهودية‪ ،‬والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلتهم‪.‬‬ ‫الخيرات ‪ :‬البر والطاعة ل ورسوله‪.‬‬ ‫الحجة ‪ :‬الدليل القوي الذي يظهر صاحبه على من يخاصمه‪.‬‬ ‫نعمتي ‪ :‬نعم ال كثيرة وأعظمها نعمة السلم وإتمامها بمواصلة التشريع والعمل به إلى نهاية‬ ‫الكمال‪ ،‬وكان ذلك في حجة الوداع بعرفات حيث نزلت آية‪ { :‬الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َنكُ ْم وَأَ ْت َم ْمتُ‬ ‫عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُ ُم الِسْلمَ دِينا} ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫جدِ الْحَرَامِ}‬ ‫ج َهكَ شَطْرَ ا ْلمَسْ ِ‬ ‫‪ 1‬قال ابن كثير والقرطبي‪ :‬قبلة‪ :‬استدل مالك بقول ال تعالى‪َ { :‬ف َولّ َو ْ‬ ‫أن المصلي ينظر أمامه ل إلى موضع سجوده كما هو مذهب الجمهور‪ ،‬أبي حنيفة والشافعي‬ ‫ل لمر ال‬ ‫وأحمد والذي أراه يحقق المطلوب من الية هو أن ينظر المصلي أولً أمامه امتثا ً‬ ‫تعالى‪ ،‬ثم بعد ذلك ينظر إلى موضع سجوده‪.‬‬ ‫‪ 2‬الكاف‪ :‬في محل نصب على النعت لمصدر محذوف تقديره ولتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما‬ ‫أرسلنا وهو التشبيه نعمة استقللكم في القبلة باستقللكم في الرسالة‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل الذكر يكون بالقلب‪ ،‬ولما كان القلب باطنا جعل اللفظ باللسان دليلً عليه‪ ،‬فأصبح الذكر‬ ‫يطلق على ذكر اللسان وإن كان المطلوب هما معا أي ذكر القلب واللسان‪ ،‬والجملة أمر وجواب‪:‬‬ ‫فاذكروني أمر‪ ،‬وأذكركم جواب وجزاء‪ ،‬وذكر ال للعبد أعظم‪ ،‬وقد ورد في فضل الذكر الكثير‬ ‫من الحاديث منها‪ :‬حديث ابن ماجة ونصه‪" :‬أن رجلً قال يا رسول ال إن شرائع السلم قد‬ ‫كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به‪ .‬قال‪ :‬ل يزال لسانك رطبا بذكر ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/130‬‬ ‫رسولً ‪ :‬هو محمد صلى ال عليه وسلم والتنكير فيه للتعظيم‪.‬‬ ‫يزكيكم ‪ :‬يطهركم من الذنوب والخلق السيئة والملكات الرديئة‪.‬‬ ‫الحكمة ‪ :‬السنة وهي كل قول صالح ل ينتهي صلحه ونفعه بمرور الزمن‪.‬‬ ‫الشكر ‪ :‬إظهار النعمة ‪ 1‬بصرفها فيما من أجله وهبها ال تعالى لعباده‪.‬‬ ‫والكفر ‪ :‬جحد النعمة وإخفائها وصرفها في غير ما يحبه ال تعالى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد تقرير تلك الحقيقة التي تضمنتها آية‪َ { :‬ولَئِنْ أَتَ ْيتَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ ...‬إلخ‪ .‬وهي أن النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم لو أتى أهل الكتاب بكل آية تدل على صدقه في أمر القبلة ما اتبعوا قبلته‪،‬‬ ‫وما هو بتابع قبلتهم‪ ،‬وما بعضهم بتابع قبلة بعض‪ ،‬فل اليهود يستقبلون مطلع الشمس‪ ،‬ول‬ ‫النصارى يستقبلون بيت المقدس‪ .‬أخبر تعالى أن لكل أمة قبلة مولية وجهها إليها في صلتها‪،‬‬ ‫فاتركوا أيها المسلمون أهل تلك الملل الضالة وسابقوا في الخيرات ونافسوا في الصالحات شكرا‬ ‫لربكم على نعمة هدايته لكم لقبلة أبيكم إبراهيم فإنه تعالى جامعكم ليوم القيامة وسائلكم ومجازيكم‬ ‫بأعمالكم إنه على كل شيء قدير‪ ،‬هذا ثم أمر ال رسوله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام‬ ‫حيثما كان في الحضر كان أو في السفر وأعلمه أن تحوله إلى الكعبة حق ثابت من ربه تعالى فل‬ ‫يتردد فيه‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته اليتان(‪ )149-148‬وأما الية(‪ )150‬فإنه تعالى أمر رسوله والمؤمنين بأن يولوا‬ ‫وجههم شطر المسجد ‪ 2‬الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى ل يكون لعدائهم‬ ‫من اليهود والمشركين حجة‪ ،‬إذ يقول اليهود‪ :‬ينكرون ديننا ويستقبلون قبلتنا‪ ،‬ويقول المشركون‪:‬‬ ‫يدعون إنهم على ملة إبراهيم ويخالفون قبلته‪ .‬هذا بالنسبة للمعتدلين منهم‪ ،‬أما الظالمون‬ ‫والمكابرون فإنه ل سبيل إلى إقناعهم إذ قالوا بالفعل‪ :‬ما تحول إلى الكعبة إل ميلً إلى دين آبائه‬ ‫ظَلمُوا‬ ‫ويوشك أن يرجع إليه‪ ،‬فمثل هؤلء ول يبالي بهم ول يلتفت إليهم كما قال تعالى‪{ :‬إِل الّذِينَ َ‬ ‫شوْنِي} ‪ .‬فاثبتوا على قبلتكم الحق‬ ‫شوْهُمْ‪ 3‬وَاخْ َ‬ ‫خَ‬ ‫مِ ْنهُمْ فَل تَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ورد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬أن ال تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى‬ ‫أثرها عليه" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قد ورد في اليات المر بتولية الرسول والمؤمنين وجوههم شطر المسجد الحرام‪ ،‬وهو تكرار‬ ‫تطلبه المقام فكان من مقتضيات الحال التي يوجبها الكلم البليغ الرفيع‪ ،‬ومن مقتضيات الحال‬ ‫إسكات السفهاء وقطع الطريق عليهم ورفع معنويات المؤمنين حيت تأثر بعضهم بما أثاره اليهود‬

‫والمنافقون والمشركون حول تحويل القبلة‪.‬‬ ‫‪ 3‬الخشية‪ :‬مرادفة للخوف‪ ،‬والخوف هو فزع في القلب تخف له العضاء‪ ،‬ولخفة العضاء به‬ ‫سمي خوفا‪.‬‬

‫( ‪)1/131‬‬ ‫لتم نعمتي عليم بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها‪ ،‬ولهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت‬ ‫عليكم بإرسال رسولي‪ ،‬يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة‪ ،‬ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من أمور‬ ‫الدين والدنيا معا‪ ،‬وفي الية الخيرة(‪ )152‬أمر تعالى المؤمنين بذكره وشكره‪ ،‬ونهاهم عن نسيانه‬ ‫شكُرُوا لِي وَل َت ْكفُرُونِ}‪ 1‬لما في ذكره بأسمائه وصفاته‬ ‫وكفره‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُ ْم وَا ْ‬ ‫ووعده ووعيده من موجبات محبته ورضاه ولما في شكره بإقامة الصلة وأداء سائر العبادات من‬ ‫مقتضيات رحمته وفضله‪ ،‬ولما في نسيانه وكفرانه من التعرض لغضبه وشديد عقابه وأليم عذابه‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬العراض عن جدل المعاندين‪ ،‬والقبال على الطاعات تنافسا فيها وتسابقا إليها إذ هو أنفع‬ ‫وأجدى من الجدل والخصومات مع من ل يرجى رجوعه إلى الحق‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب استقبال القبلة في الصلة وسواء كان في السفر أو في الحضر إل أن المسافر يجوز‬ ‫أن يصلي النافلة حيث توجهت دابته أو طيارته أو سيارته إلى القبلة وإلى غيرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة خشية الناس ‪ 2‬ووجوب خشية ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب شكر ال تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب ‪ 3‬تعلم العلم الضروري ليتمكن العبد من عبادة ال عبادة تزكي نفسه‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب ‪ 4‬ذكر ال بالتهليل والتكبير والتسبيح ووجوب شكره بطاعته‪.‬‬ ‫‪ -7‬حرمة نسيان ذكر ال‪ ،‬وكفران نعمه بترك شكرها‪.‬‬ ‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْ َتعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ(‪})153‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ورد في الصحيح أن ال تعالى يقول‪ " :‬من ذكرني في نفسي ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن ذكرني في‬ ‫مل ذكرته في مل خير منه" والمراد من المل‪ :‬الخير‪ ،‬الملئكة‪ ،‬وورد ‪" :‬أنا مع عبدي إذا هو‬ ‫ذكرني وتحركت بي شفتاه"‪ .‬وقال معاذ بن جبل‪" :‬ما عمل ابن آدم عملً أنجى له من عذاب ال‬ ‫من ذكر عز وجل"‪.‬‬ ‫‪ 2‬في هذا إبطال للتقية التي جعلها الروافض من أصول دينهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهو حديث‬

‫صحيح السناد‪.‬‬ ‫‪ 4‬شاهده من القرآنك {يا أيها الذين أمنوا اذكروا ال ذكرا كثيرا} الحزاب‬

‫( ‪)1/132‬‬ ‫شيْءٍ‪ 1‬مِنَ‬ ‫شعُرُونَ(‪ )154‬وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ بِ َ‬ ‫{وَل َتقُولُوا ِلمَنْ ُيقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ َبلْ َأحْيَا ٌء وََلكِنْ ل تَ ْ‬ ‫س وَال ّثمَرَاتِ وَبَشّرِ‪ 2‬الصّابِرِينَ(‪ )155‬الّذِينَ ِإذَا َأصَابَ ْتهُمْ‬ ‫ف وَالْجُوعِ وَنَ ْقصٍ مِنَ الَْأ ْموَالِ وَالْأَ ْنفُ ِ‬ ‫خ ْو ِ‬ ‫الْ َ‬ ‫حمَ ٌة وَأُولَ ِئكَ ُهمُ‬ ‫جعُونَ(‪ )156‬أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِ ْم صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِ ْم وَرَ ْ‬ ‫ُمصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬ ‫ا ْل ُمهْتَدُونَ(‪})157‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الستعانة ‪ :‬طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل‪.‬‬ ‫الصبر ‪ :‬حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره‪.‬‬ ‫الشعور ‪ :‬الحساس بالشيء المفضي إلى العلم به‪.‬‬ ‫البتلء ‪ :‬الختبار والمتحان لظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف‪.‬‬ ‫الموال ‪ :‬جمع مال وقد يكون ناطقا وهو المواشي‪ ،‬ويكون صامتا وهو النقدان وغيرها‪.‬‬ ‫المصيبة ‪ :‬ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله‪.‬‬ ‫الصلوات ‪ :‬جمع صلة وهي من ال تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها‪.‬‬ ‫ورحمة ‪ :‬الرحمة‪ :‬النعام وهو جلب ما يسر‪ ،‬ودفع ما يضر‪ ،‬وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة‬ ‫من النار‪.‬‬ ‫المهتدون ‪ :‬إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلء ال تعالى لهم وصبرهم على ذلك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة السلم المسلمون ليرشدهم إلى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ شيء يدل على تهويل الفاجعة الدال عليها الخوف والجوع وما بعدهما كما يدل أيضا على‬ ‫أن ما يبتليهم به من ذلك هو هين فل يقاس بما يصيب به أهل عداوته من أهل الشرك والكفر‬ ‫والفسق إذا أخذهم بذنوبهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أسند التبشير إلى الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لنه متأهل له بالرسالة فغيره ل يملكه‪ ،‬وقد ل‬ ‫يصدق فيه‪ ،‬كما أن اللفظ دال على سمو مقامه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/133‬‬

‫ما يكون عونا لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم‪ ،‬وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم‬ ‫نسيانه وكفره فقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْ َتعِينُوا} أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر‬ ‫والشكر‪ ،‬وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر ال تعالى به‬ ‫وبإقام الصلة‪ ،‬وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة‪ ،‬فإذا صبروا نالهم عون ال تعالى‬ ‫وتقويته وهذا ما تضمنته الية الولى(‪ .)153‬أما الية الثانية(‪ )154‬فقد تضمنت نهيه تعالى لهم‬ ‫أن يقولوا معتقدين أن من قتل في سبيل ال إذ هو حي في البرزخ وليس بميت‪ ،‬بل هو حي يرزق‬ ‫في الجنة كما قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في‬ ‫الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش"‪( .‬رواه مسلم)‪ .‬فلذا ل يقال لمن قتل في‬ ‫سبيل ال‪ :‬مات ‪ 1‬ولكن استشهد وهو شهيد وحي عند ربه حياة ل نحسها ول نشعر بها بمفارقتها‬ ‫للحياة في هذه الدار‪ .‬وأما الية الثالثة(‪ )155‬فإنه يقسم ‪ 2‬تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم‬ ‫بشيء من الخوف ‪ 3‬بواسطة أعداءه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع‬ ‫لحصار العدو ولغيره من السباب‪ ،‬وبنقص الموال الماشية للحرب والقحط‪ ،‬وبالنفس؛ كموت‬ ‫الرجال‪ ،‬وبفساد الثمار بالجوائح‪ ،‬كل ذلك لظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره‬ ‫واجتناب نهيه‪ ،‬ومن ل يصبر فيحرم ولية ال وأجره‪ ،‬ثم أمره رسوله بأن يبشر الصابرين‪ ،‬وبين‬ ‫في الية الرابعة(‪ )156‬حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا ل‪ ،‬فله أن يصيبنا‬ ‫بما شاء لن ملكه وعبيده‪ ،‬وإن إليه راجعون بالموت‪ ،‬فل جزع إذا ولكن تسليم لحكمه ‪ 4‬ورضا‬ ‫بقضاءه وقدره‪ ،‬وفي الية الخامسة(‪ )157‬أخبر تعالى مبشرا أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم‬ ‫وبرحمة من ربهم‪ ،‬وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم‪ ،‬فقال‪{ :‬أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِ ْم صََلوَاتٌ مِنْ رَ ّبهِمْ‬ ‫حمَ ٌة وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمهْتَدُونَ} ‪.‬‬ ‫وَرَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل يقال لمن قتل في سبيل ال مات‪ ،‬بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنما انتقل من‬ ‫حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة‪ ،‬كما أن لفظ الموت مفزع للنسان فإذا دارت المعركة وسقط‬ ‫الشهداء‪ ،‬وقيل‪ :‬مات فلن وفلن يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة‪ :‬الموت‪ ،‬ولذا ل يقال‪ :‬مات‪،‬‬ ‫ولكن‪ :‬استشهد‪.‬‬ ‫‪ 2‬دل على القسم‪ :‬اللم في قوله‪َ { :‬ولَنَبُْلوَ ّنكُمْ} إذ هي موطئة للقسم كأنما قال‪ :‬وعزتي وجللي‬ ‫لنبلونكم ‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬من فسر الخوف بالخوف من ال‪ ،‬والجوع‪ :‬بالصيام‪ ،‬ونقص من الموال‪ :‬بالزكاة لم يخطأ‪،‬‬ ‫ولكن ما فسرت به الية هو الصواب الحق الذي عليه أئمة التفسير‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى أحمد والترمذي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي ال عنهما أن‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ما من مسلم ول مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها‬ ‫فيحدث لذلك استرجاعا إل جدد ال له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" ‪.‬‬

‫( ‪)1/134‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضيلة الصبر والمر به والستعانة بالصبر والصلة على المصائب والتكاليف في الحديث‬ ‫كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة‪.‬‬ ‫‪ -3‬قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والهل والمال فيصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند‬ ‫ربه‪.‬‬ ‫جعُونَ} وفي الصحيح يقول‬ ‫‪ -4‬فضيلة السترجاع عند المصيبة وهو قول‪{ :‬إِنّا لِلّ ِه وَإِنّا إِلَ ْيهِ رَا ِ‬ ‫جعُونَ} اللهم أجرني‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول ‪{ :‬إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَا ِ‬ ‫في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إل آجره ال في مصيبته وأخلف له خيرا منها" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫ط ّوفَ ِب ِهمَا َومَنْ‬ ‫شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيهِ أَنْ يَ ّ‬ ‫{إِنّ الصّفَا ‪ 1‬وَا ْلمَ ْر َوةَ مِنْ َ‬ ‫ط ّوعَ خَيْرا فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(‪})158‬‬ ‫تَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الصفا والمروة ‪ : 2‬جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية‪ ،‬والمروة‪ :‬جبل آخر مقابل الصفا‬ ‫من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (‪)760‬ذراعا‪.‬‬ ‫شعائر ال ‪ :‬أعلم دينية جمع شعيرة‪ ،‬وهي العلمة على عبادة ال تعالى‪ ،‬فالسعي بين الصفا‬ ‫والمروة شعيرة لنه دال على طاعة ال تعالى‪.‬‬ ‫الحج ‪ : 3‬زيارة بيت ال تعالى لداء عبادات معينة تسمى نسكا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج البخاري عن عاصم ابن سليمان قال‪ :‬سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال‪ :‬كنا‬ ‫نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان السلم أمسكنا عنهما فأنزل ال عز وجل‪{ :‬إِنّ الصّفَا‬ ‫ط ّوفَ ِب ِهمَا} ‪.‬‬ ‫علَيْهِ أَنْ َي ّ‬ ‫شعَائِرِ اللّهِ َفمَنْ حَجّ الْبَ ْيتَ َأوِ اعْ َتمَرَ فَل جُنَاحَ َ‬ ‫وَا ْلمَ ْروَةَ مِنْ َ‬ ‫‪ 2‬الصفا‪ :‬لغة‪ :‬جمع صفاه‪ ،‬وتجمع على‪ :‬صفي وأصفاء‪ ،‬مثل‪ :‬أرجاء‪ :‬الحجارة الملساء الصلبة‬ ‫البيضاء‪ .‬والمروة‪ :‬واحدة المرور وهي الحجارة الصغار التي فيها لين‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحج‪ :‬لغة‪ :‬القصد‪ ،‬والعمرة‪ :‬الزيارة‪ ،‬وشاهد الحج القصد قول الشاعر‪:‬‬ ‫فاشهد من عوف حلولً كثيرة ‪ ...‬يحجون سب الزبرقان المعصفرة‬ ‫الحلول‪ :‬الجماعة الكثيرة‪ ،‬ويحجون بمعنى‪ :‬يقصدون‪.‬‬

‫( ‪)1/135‬‬

‫العمرة ‪ :‬زيارة بيت ال تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس‬ ‫أو تقصيره‪.‬‬ ‫الجناح ‪ :‬الثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه‪.‬‬ ‫يطوف ‪ :‬يسعى بينهما ذاهبا جائيا‪.‬‬ ‫خيرا ‪ :‬الخير‪ :‬اسم لكل ما يجلب المسرة‪ ،‬ويدفع المضرة‪ ،‬والمراد به هنا العمل الصالح‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يخبر ال تعالى مقررا فريضة ‪ 1‬السعي بين الصفا والمروة‪ ،‬ودافعا ما توهمه بعض المؤمنين من‬ ‫وجود إثم في السعي بينهما نظرا إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له‪ :‬إساف‪ ،‬وآخر‬ ‫صفَا‬ ‫على المروة يقال له‪ :‬نائلة‪ ،‬يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬إِنّ ال ّ‬ ‫وَا ْلمَ ْروَةَ} يعني السعي بينهما من شعائر ال‪ :‬أي عبادة من عبادته إذ تعبد بالسعي بينهما نبينه‬ ‫إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما‪ .‬فمن حج البيت لداء فريضة الحج أو اعتمر‬ ‫لداء واجب العمرة فليسعى بينهما أداءً لركن الحج والعمرة ول إثم عليه في كون المشركين كانوا‬ ‫يسعون بينهما لجل الصنمين‪ :‬إساف ونائلة‪.‬‬ ‫ثم أخبر تعالى واعدا عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به ويثبه‬ ‫عليه‪ ،‬لنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها لعلمه بتلك العمال ونيات‬ ‫طوّعَ خَيْرا فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ‪.‬‬ ‫أصحابها‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ َت َ‬ ‫هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫من هداية هذه الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب السعي بين الصفا ‪ 2‬والمروة لكل من طاف بالبيت حاجا أو معتمرا‪ ،‬وقد قال رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬اسعوا فإن ال كتب عليكم السعي" ‪( .3‬رواه الدارقطني‪ ،‬ولم يعل)‬ ‫وسعى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السعي‪ :‬ركن الحج عند مالك‪ ،‬وأحمد والشافعي ولم يره ركنا أبو حنيفة‪ ،‬وما ذهب إليه‬ ‫الجمهور هو الذي يؤخذ به لحديث‪" :‬اسعوا فإن ال كتب عليكم السعي" ‪ ،‬وكتب بمعنى‪ :‬فرض‬ ‫لغة‪ ،‬وشرعا‪.‬‬ ‫‪ 2‬من ترك السعي وسافر‪ ،‬يعود إليه محرما فيطوف بالبيت ويسعى بحكم أنه فرض وركن‪ ،‬ومن‬ ‫قال بوجوبه دون ركنيته يجزئه ذبح شاة‪.‬‬ ‫‪ 3‬وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم خرج من باب الصفا بعد أن طاف بالبيت وهو‬ ‫يقول‪" :‬إن الصفا والمرة من شعائر ال" ثم قال‪" :‬أبدأ بما بدأ ال به " فدل هذا على وجوب البدء‬

‫في السعي بالصفا قبل المروة‪ ،‬ودل فعلة صلى ال علية وسلم على أن السعى سبعة اشواط‬ ‫لينقص وليزيد‪.‬‬

‫( ‪)1/136‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم في عمرته كلها وفي حجه كذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل حرج في الصلة في كنيسة حولت مسجدا‪ ،‬ول يضر كونها كانت معبدا للكفار‪.‬‬ ‫‪ -3‬الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات‪ ،‬وذلك من سائر النوافل؛ كالطواف والصلة‬ ‫والصيام والصدقات والرباط والجهاد‪.‬‬ ‫ت وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْلكِتَابِ أُولَ ِئكَ يَ ْلعَ ُن ُهمُ اللّهُ‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ‬ ‫وَيَ ْلعَ ُنهُمُ اللعِنُونَ(‪ )159‬إِل الّذِينَ تَابُوا وََأصْلَحُوا ‪ 1‬وَبَيّنُوا فَأُولَ ِئكَ أَتُوبُ عَلَ ْيهِ ْم وَأَنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ(‬ ‫ج َمعِينَ(‪)161‬‬ ‫‪ )160‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةُ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ أَ ْ‬ ‫ب وَل هُمْ يُ ْنظَرُونَ(‪})162‬‬ ‫خ ّففُ عَ ْن ُهمُ ا ْلعَذَا ُ‬ ‫خَاِلدِينَ فِيهَا ل يُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يكتمون ‪ : 2‬يخفون ويغطون حتى ل يظهر الشيء المكتوم ول يعرف فيؤخذ به‪.‬‬ ‫البينات ‪ :‬جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته‪ ،‬والمراد به هنا ما يثبت نبوة محمد صلى‬ ‫ال عليه وسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب‪.‬‬ ‫الهدى ‪ :‬ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه والمراد به هنا ما جاء به‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم من الدين الصحيح المفضي بالخذ به إلى الكمال والسعادة في‬ ‫الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تابوا‪ :‬أي رجعوا إلى اليمان والدخول في السلم‪ ،‬وأصلحوا‪ :‬أي ما أفسدوه من عقائد الناس‪،‬‬ ‫وأخلقهم وأرواحهم‪ ،‬وبينوا‪ :‬أي ما كتموهم من العمل الواجب بيانه والمحرم كتمانه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الكتمان يكون بإلغاء الحفظ المقرر‪ ،‬وإلغاء التدريس والتعليم للواجب بيانه وتعليمه والدعوة إليه‪.‬‬

‫( ‪)1/137‬‬ ‫في الكتاب ‪ :‬التوراة والنجيل‪.‬‬ ‫اللعنة ‪ :‬الطرد والبعد من كل خير ورحمة‪.‬‬ ‫اللعنون ‪ :‬من يصدر عنهم اللعن؛ كالملئكة والمؤمنين‪.‬‬ ‫أصلحوا ‪ :‬ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه واليمان بما كذبوا به‬

‫وأنكروه‪.‬‬ ‫ول هم ينظرون ‪ :‬أي بأن يمهلوا ليعتذروا‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬وَل ُي ْؤذَنُ َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ} ‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫عاد الساق بعد الجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد‬ ‫بجرائم علماء أهل الكتاب‪ ،‬ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق واليمان به فأخبره تعالى أن الذين‬ ‫يكتمون ما أنزله ‪ 1‬من البينات والهدى في التوراة والنجيل من صفات الرسول محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم والمر باليمان به وبما جاء به من الدين‪ ،‬هؤلء البعداء يلعنهم ال تعالى وتلعنهم‬ ‫الملئكة والمؤمنون ‪ .2‬هذا ما تضمنته الية الولى(‪ )159‬وفي الية الثانية(‪ )160‬استثنى تعالى‬ ‫من المبعدين من رحمته من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعد ما عرفوه فينوا وأصلحوا فهؤلء‬ ‫يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم‪.‬‬ ‫وفي الية الثالثة(‪ )161‬والرابعة(‪ )162‬أخبر تعالى أن الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه‬ ‫ودينه ولم يتوبوا فماتوا على كفرهم أن عليهم ‪ 3‬لعنة ال والملئكة والناس أجمعين‪.‬‬ ‫ولذا فهم مطردون مبعدون من الرحمة اللهية وهي الجنة خالدون في جهنم ل يخفف عنهم‬ ‫عذابها‪ ،‬ول يمهلون فيعتذرون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية عامة في كل من كتم علما واجب البيان ويعم العلم المنصوص والمستنبط وما لم يكن‬ ‫واجب البيان فل يدخل صاحبه في هذا الوعيد‪ ،‬إذ من العلم ما ل يجوز بيانه لحديث‪" :‬حدث الناس‬ ‫بما يفهمون‪ ،‬أتحبون أن يكذب ال ورسوله" وحديث الصحيح‪" :‬أفل أخبر الناس؟ قال‪ :‬ل إذا‬ ‫فيتكلوا"‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج ابن ماجة بسند حسن أن النبي صلى ال عليه وسلم قال في اللعنون‪" :‬دواب الرض" ‪،‬‬ ‫ولذا فاللفظ عام يشمل كل من يتأتى منه اللعن‪ ،‬ويدخل الملئكة والمؤمنون دخولً أوليا‪.‬‬ ‫‪ 3‬هل يجوز لعن المؤمن العاصي المعين؟ ل يجوز لعن المؤمن العاصي المعين وذلك للحديث‬ ‫الصحيح‪" :‬ل تكونوا عون الشيطان على أخيكم" ‪ ،‬إذ لعنوا مؤمنا حال إقامة الحد عليه؛ حد شرب‬ ‫الخمر‪.‬‬

‫( ‪)1/138‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح‪" :‬من كتم علما ألجمه ال بلجام من نار" ‪ .‬وقال أبو‬ ‫هريرة رضي ال عنه في ظروف معينة‪" :‬لول آية من كتاب ال ما حدثتكم حديثا" وتل‪{ :‬إِنّ الّذِينَ‬

‫َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ} إلخ‪...‬‬ ‫‪ -2‬يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله إصلح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغيره‪،‬‬ ‫وإظهار ما كتم‪ ،‬وأداء ما أخذه بغير الحق‪.‬‬ ‫‪ -3‬من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالدا في العذاب مخلدا ل‬ ‫يخفف عنه ول ينظر فيعتذر‪ ،‬ول يفتر عنه العذاب فيستريح‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز لعن ‪ 1‬المجاهرين بالمعاصي؛ كشراب الخمر‪ ،‬والمرابين ‪ ،2‬والمتشبهين من الرجال‬ ‫بالنساء ومن النساء بالرجال‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ‬ ‫حمَنُ الرّحِيمُ(‪ )163‬إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬ ‫ح ٌد ل إِلَهَ إِل ُهوَ الرّ ْ‬ ‫{وَإَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَا ِ‬ ‫سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا‬ ‫س َومَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬ ‫ل وَال ّنهَارِ وَالْفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَ ْنفَعُ النّا َ‬ ‫اللّ ْي ِ‬ ‫سمَاءِ‬ ‫سخّرِ بَيْنَ ال ّ‬ ‫ح وَالسّحَابِ ا ْلمُ َ‬ ‫بِ ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّ ٍة وَ َتصْرِيفِ الرّيَا ِ‬ ‫ض لياتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ(‪})164‬‬ ‫وَالَرْ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الله ‪ :‬المعبود بحق ‪ 3‬أو باطل‪ ،‬وال سبحانه وتعالى هو الله الحق المعبود بحق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فإن قيل‪ :‬ما كل الناس يلعنونهم‪ .‬فالجواب‪ :‬إما أن يكون من باب تغليب الكثر على القل‪ ،‬وإما‬ ‫ض وَيَ ْلعَنُ َب ْعضُكُمْ َبعْضا} ‪.‬‬ ‫ضكُمْ بِ َب ْع ٍ‬ ‫أن يكون يوم القيامة لقوله تعالى‪{ :‬ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكْفُرُ َب ْع ُ‬ ‫‪ 2‬لكن ل على سبيل التعيين‪ ،‬وإنما على العموم؛ كلعن ال آكل الربا مثلً‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم يرد في القرآن لفظ الله إل ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وأما إله بالتنكير فكثير‪.‬‬

‫( ‪)1/139‬‬ ‫وإلهكم إله واحد ‪ :‬في ذاته وصفاته‪ ،‬وفي ربوبيته فل خالق ول رازق ول مدبر للكون والحياة إل‬ ‫هو وفي ألوهيته أي في عبادته فل معبود بحق سواه‪.‬‬ ‫اختلف الليل والنهار ‪ :‬بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث ل يكون النهار دائما ول‬ ‫الليل دائما‪.‬‬ ‫وبث فيها من كل دابة ‪ :‬وفرق في الرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب‪.‬‬ ‫تصريف الرياح ‪ :‬باختلف مهابها مرة صبا‪ ،‬ومرة دبور‪ ،‬ومرة شمالية‪ ،‬ومرة غربية‪ ،‬أو مرة‬ ‫ملقحة‪ ،‬ومرة عقيم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما أوجب ال على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الله الواحد الرحمن‬ ‫الرحيم‪ ،‬وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته‪،‬‬

‫وأسمائه وصفاته‪ ،‬ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة‪ :‬وإلهكك إله واحد‪ ،‬قالوا‪ :‬هل من‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫دليل –يريدون على أنه ل إله إل ال ‪ -1‬فانزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬ ‫وَالَرْضِ} إلى قوله‪َ { :‬ي ْعقِلُونَ} مشتملة على ست آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع‬ ‫على وجود ال وقدرته وعلمه وحكمته‪ ،‬وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه‪.‬‬ ‫الولى‪ :‬خلق السموات ‪ 2‬الرض وهو خلق عظيم ل يتأتى إل للقادر الذي ل يعجزه شيء‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬اختلف الليل والنهار بتعاقبهما وطول هذا وقصر ذاك‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬جريان ‪ 3‬الفلك –السفن‪ -‬في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الطنان من‬ ‫الرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم‪.‬‬ ‫الرابعة‪ :‬إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة ل إله إل ال أولها كفر وآخرها إيمان‪ ،‬لن أولها نفي لكل إله‪ ،‬وآخرها إثبات اللوهية ل‬ ‫سبحانه وتعالى وحده دون سواه‪.‬‬ ‫‪ 2‬جمع لفظ‪ :‬السموات؛ لنها أجسام متباينة‪ ،‬وأفرد لفظ الرض؛ لنها نوع واحد من تراب طبقة‬ ‫فوق أخرى‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على جواز ركوب البحر للجهاد والحج والتجارة إل في حالة غلبت الهلك‬ ‫الطارئ‪ ،‬فإنه ل يجوز‪ ،‬وحديث أم حرام في الموطأ وغيره دليل على الجواز للنساء كالرجال‪.‬‬

‫( ‪)1/140‬‬ ‫الخامسة‪ :‬تصريف الرياح ‪ 1‬حارة وباردة ملقحة وغير ملقحة‪ ،‬شرقية وغربية وشمالية وجنوبية‬ ‫بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم‪.‬‬ ‫السادسة‪ :‬السحاب ‪ 2‬المسخر بين السماء والرض تكوينه وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هنا ول‬ ‫يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم‪.‬‬ ‫ففي هذه اليات الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود ال تعالى وعلمه وقدرته وحكمته‬ ‫ورحمته‪ ،‬وهو لذلك رب العالمين وإله الولين والخرين ول رب غيره‪ ،‬ول إله سواه‪.‬‬ ‫إل أن الذي يجد هذه الدلة ويراها ماثلة في اليات المذكورة هو العاقل‪ ،‬أما من ل عقل له؛ لنه‬ ‫عطل عقله فلم يستعمله في التفكير والفهم والدراك‪ ،‬واستعمل بدل العقل الهوى فإنه أعمى ل‬ ‫يبصر شيئاَ وأصم ل يسمع شيئا‪ ،‬وأحمق ل يعقل شيئا‪ ،‬والعياذ بال تعالى‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل إله إل ال فل تصح العبادة لغير ال تعالى‪ ،‬لنه ل إله حق ‪ 3‬إل هو‪.‬‬

‫‪ -2‬اليات الكونية في السموات والرض تثبت وجود ال تعالى ربا وإلها موصوفا بكل كمال‬ ‫منزها عن كل نقصان‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليات التنزيلية القرآنية ‪ 4‬تثبت وجود ال ربا وإليها وتثبت النبوة المحمدية وتقرر رسالته‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬النتفاع باليات مطلقا –آيات الكتاب أو آيات الكون‪ -‬خاص بمن يستعملون عقولهم دون‬ ‫أوهوائهم‪.‬‬ ‫حبّ اللّهِ‬ ‫{ َومِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ ْندَادا يُحِبّو َنهُمْ َك ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن سب الريح‪ ،‬فقد روى ابن ماجة أن النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم قال‪" :‬ل تسبوا الريح فإنها من روح ال‪ ،‬تأتي بالرحمة والعذاب‪ ،‬ولكن سلوا ال من‬ ‫خيرها وتعوذوا بال من شرها" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬سمي السحاب‪ :‬سحابا لنه يسحب من موضع إلى آخر‪ ،‬أي من بلد إلى بلد آخر‪.‬‬ ‫‪ 3‬في بعض تلبية الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬لبيك إله الحق لبيك"‪.‬‬ ‫‪ 4‬اليات الكونية‪ :‬هي المنسوبة إلى الكون الذي هو الخلق الذي كونه ال تعالى فكان وذلك‬ ‫السموات والرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات واليات التنزيلية هي المنسوبة إلى‬ ‫القرآن المنزل من ال على رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/141‬‬ ‫جمِيعا وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ‬ ‫ظَلمُوا ِإذْ يَ َروْنَ ا ْلعَذَابَ أَنّ ا ْلقُ ّوةَ لِلّهِ َ‬ ‫وَالّذِينَ آمَنُوا َأشَدّ حُبّا لِلّهِ وََلوْ يَرَى الّذِينَ َ‬ ‫ط َعتْ ِبهِ ُم الَسْبَابُ(‪)166‬‬ ‫ا ْلعَذَابِ(‪ِ )165‬إذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُوا مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُوا وَرََأوُا ا ْلعَذَابَ وَ َتقَ ّ‬ ‫عمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ‬ ‫َوقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُوا َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا تَبَرّأُوا مِنّا َكذَِلكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَ ْ‬ ‫عَلَ ْيهِ ْم َومَا ُهمْ بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ(‪})167‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أندادا ‪ :‬جمع ند‪ ،‬وهو المثل والنظير‪ ،‬والمراد بالنداد هنا‪ :‬الشركاء يعبدونها بحبها والتقرب إليها‬ ‫بأنواع العبادات؛ كالدعاء والنذر لها والحلف بها‪.‬‬ ‫التبرؤ ‪ :‬التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه‪.‬‬ ‫الذين اتبعوا ‪ :‬المعبودون والرؤساء المضلون‪.‬‬ ‫الذين اتبعوا ‪ :‬المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلل‪.‬‬ ‫السباب ‪ :‬جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين وفي كل ما يتوصل‬ ‫به إلى مقصد وغرض خاص‪.‬‬

‫كرة ‪ :‬رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫الحسرات‪ :‬جمع حسرة وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما تقرر في اليتين السابقتين بالدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس أي ربهم ومعبودهم‬ ‫واحد وهو ال جل جلله وعظم سلطانه أخبر تعالى أنه مع هذا البيان والوضوح‬

‫( ‪)1/142‬‬ ‫يوجد ناس يتخذون من دون ‪ 1‬ال آلهة أصناما ورؤساء يحبونهم ‪ 2‬كحبهم ‪ 3‬ل تعالى‪ ،‬أي يسوون‬ ‫‪ 4‬بين حبهم وحب ال تعالى‪ ،‬والمؤمنون أشد منهم حبا ل تعالى‪ ،‬كما أخبر تعالى أنه لو يرى‬ ‫المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمرا فظيعا يعجز الوصف عنه‪ ،‬ولعلموا أن‬ ‫القوة ل وأن ال شديد العذاب إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضللة من‬ ‫متبوعيهم الجهلة المقلدين وعاينوا ‪ 5‬العذاب أمامهم وتقطعت لك الروابط التي كانت تربط بينهم‪،‬‬ ‫وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضللة فيتبرءوا منهم في الدنيا‬ ‫كما تبرءوا منهم في الخرة‪ ،‬وكما أراهم ال تعالى العذاب فعاينوه‪ ،‬يريهم أعمالهم القبيحة من‬ ‫الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فل يخرجونهم منها أبدا‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب حب ‪ 6‬ال وحب كل ما يُحب ال عز وجل بحبه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬من الشرك الحب ‪ 7‬مع ال تعالى‪ ،‬ومن التوحيد الحب بحب ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -3‬يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إل رابطة اليمان والخوة فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬تبرؤ ‪ 8‬رؤساء الشرك والضلل ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على‬ ‫الظلم والشر والفساد‪ ،‬وليس بنافعهم ذلك شيئا‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا ‪ 9‬النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي الْأَ ْرضِ حَللً طَيّبا وَل تَتّ ِبعُوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬دون‪ :‬تكون بمعنى غير وسوى‪ ،‬ول يطرد‪ ،‬إذ أصلها إنها ظرف مكان‪ ،‬نحو‪ :‬جلست دونك‪،‬‬ ‫وتكون بمعنى‪ :‬الرديء‪ ،‬تقول‪ :‬هذا التمر‪ :‬دون‪.‬‬ ‫‪ 2‬فالية الكريمة تعني‪ :‬المشركين عبدة الوثان ورؤساء أهل الكتاب‪ ،‬لقوله‪ :‬يحبونهم‪ ،‬وهي عامة‬ ‫في كل من يحب غير ال تعالى من مخلوقاته وحب ال تعالى‪ ،‬إذ الحب إما أن يكون ل وإل فهو‬ ‫شرك في حب ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬وذلك لنهم كانوا يدعون ال في الشدة‪ ،‬ويعظمون حرمات الحرم‪ ،‬والشهر الحرم‪ ،‬فلذا هم‬

‫يحبون ال تعالى ولكن يحبون آلهتهم ورؤسائهم أكثر من حب ال تعالى لجهلهم به سبحانه‬ ‫وتعالى‪.‬‬ ‫‪ 4‬لحديث ابن مسعود في الصحيح‪" :‬قلت أي الذنب أعظم يا رسول ال؟ قال‪ :‬أن تجعل ل ندا وهو‬ ‫خلقك" ‪.‬‬ ‫‪ 5‬معاينة العذاب تكون عند الموت وعند العرض والمسائلة يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ 6‬الحديث الصحيح‪" :‬أحب ال لما يغذوكم من النعم‪ ،‬وأحبوني بحب ال"‪.‬‬ ‫‪ 7‬الحب‪ :‬حبان‪ :‬حب عبادة‪ ،‬وهذا ل يكون إل ل تعالى‪ .‬وحب غريزة؛ كحب الطعام والشراب‪،‬‬ ‫وسائر الملذ‪ ،‬فهذا يجب القصد فيه وعدم الفراط فقط‪ ،‬وخير الحب ما كان لجل ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 8‬وشواهد هذا في غير آية من القرآن كقوله تعالى‪ { :‬تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا َيعْبُدُونَ} ‪.‬‬ ‫‪ 9‬قيل‪ :‬هذه الية نزلت في ثقيف‪ ،‬وخزاعة‪ ،‬وبني مدلح‪ ،‬إذ حرموا من النعام ماحرموا‪ ،‬وعلى‬ ‫كل فهي عامة في كل من حرم غير ما حرم ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/143‬‬ ‫علَى اللّهِ مَا‬ ‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ(‪ )168‬إِ ّنمَا يَ ْأمُ ُركُمْ بِالسّو ِء وَا ْلفَحْشَاءِ‪ 1‬وَأَنْ َتقُولُوا َ‬ ‫خُ‬ ‫ُ‬ ‫علَيْهِ آبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ‬ ‫ل َتعَْلمُونَ(‪ )169‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا أَ ْلفَيْنَا َ‬ ‫آبَاؤُهُمْ ل َي ْعقِلُونَ شَيْئا وَل َيهْتَدُونَ(‪})170‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الحلل ‪ :‬ما انحلت عقدة الحظر عنه وهو ما أذن ال تعالى فيه‪.‬‬ ‫الطيب ‪ :‬ما كان طاهرا غير نجس‪ ،‬ول مستقذر تعافه النفوس‪.‬‬ ‫خطوات الشيطان ‪ :‬الخطوات‪ :‬جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي‪ ،‬والمراد بها هنا‪:‬‬ ‫مسالك الشيطان‪ ،‬وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل ال وتحليل ما حرم‪.‬‬ ‫عدو مبين ‪ :‬عداوته بينة وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة وأكثر الشرور‬ ‫والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وإغوائه‪.‬‬ ‫السوء ‪ : 2‬كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب‪.‬‬ ‫الفحشاء ‪ : 3‬كل خصلة قبيحة؛ كالزنا‪ ،‬واللواط‪ ،‬والبخل‪ ،‬وسائر المعاصي ذات القبح الشديد‪.‬‬ ‫ألفينا ‪ :‬وجدنا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد ذلك العرض لحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها‪ ،‬وهي الخلود في‬ ‫عذاب النار نادى الرب ذو الرحمة الواسعة البشرية ‪ 4‬جمعاء {يَا أَ ّيهَا النّاسُ كُلُوا ِممّا فِي‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬لفظ الفحشاء‪ :‬لم يطلق في القرآن إل على فاحشة واللواط‪ ،‬اللهم إل في آية واحدة‪{ :‬الشّ ْيطَانُ‬ ‫َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ} ‪ ،‬فإن الفحشاء هنا بمعنى‪ :‬البخل‪ ،‬بمنع الزكاة‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬السوء ما ل حد فيه من الذنوب‪ ،‬والفحشاء ما فيه حد‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل الفحشاء‪ :‬قبح المنظر وعليه قول الشاعر‪ :‬وجيد كجيد الريم ليس بفاحش‪ .‬ثم توسع فيه‬ ‫فأصبح يطلق على ما قبح من المعاني‪.‬‬ ‫‪ 4‬أنه وإن كان سبب نزول الية خاصا فإن معناها عام‪ ،‬والعبرة بعموم اللفظ ل بخصوص‬ ‫السبب‪.‬‬

‫( ‪)1/144‬‬ ‫الَرْض} ‪ ،‬وهوِ عطاؤه وإفضاله‪ ،‬حللً طيبا‪ 1‬حيث أذن لهم فيه‪ ،‬وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه ل‬ ‫خير لهم في أكله لما فيه من الذي لبدانهم وأرواحهم معا‪ ،‬ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم‬ ‫فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلكهم‪ ،‬وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان ل‬ ‫يأمرهم إل بما يضر أبدانهم وأرواحهم والسوء وهو كل ما يسوء النفس والفحشاء وهي أقبح‬ ‫الفعال وأردى الخلق وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على ال فيقولوا عليه ما ل يعلمون‬ ‫فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم ال‪ ،‬وال في ذلك بريء ‪ ،‬وهذه قاصمة الظهر والعياذ بال‬ ‫تعالى‪ ،‬حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا‬ ‫الفواحش وحللوا وشرعوا ما لم يأذن به ال ربهم‪ ،‬وقال لهم رسول ال اتبعوا ما أنزل ال قالوا ل‪،‬‬ ‫بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا‪ ،‬يا سبحان ال يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلً‪ ،‬أيقلدون‬ ‫‪ 2‬آباءهم ولو كان آباءهم ل يعقلون شيئا من أمور الشرع والدين‪ ،‬ول يهتدون إلى ما فيه الصلح‬ ‫والخير‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب طلب الحلل والقتصار على العيش منه ولو كان ضيقا قليلً‪.‬‬ ‫‪ -2‬الحلل ما أحل ال‪ ،‬والحرام ما حرمه ال تعالى فل يستقل العقل بشيء من ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة اتباع مسالك الشيطان وهي كل معتقد أو قول أو عمل نهى ال تعالى عنه‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب البتعاد عن كل سوء وفحش لنهما مما يأمر بهما الشيطان‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة تقليد من ل علم له ول بصيرة في الدين‪.‬‬ ‫‪ -6‬جواز اتباع أهل العلم والخذ بأقوالهم وآرائهم المستقاة من الوحي اللهي الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يصح إعراب‪{ :‬حَللً طَيّبا} على إنهما حالن من { ِممّا فِي الَ ْرضِ} ويصح أيكون طيبا‪ :‬صفة‬

‫لحلل‪ ،‬كما يصح أن يكون حللً مفعول لكلوا‪.‬‬ ‫‪ 2‬استدل بهذه الية على حرمة التقليد في العقائد مطلقا‪ ،‬أما في الفروع فهو أهون‪ ،‬والتقليد هو‬ ‫قبول الحكم بل دليل ول حجة‪.‬‬

‫( ‪)1/145‬‬ ‫عمْيٌ َفهُمْ ل َي ْعقِلُونَ(‬ ‫سمَعُ إِل دُعَا ًء وَنِدَا ًء صُمّ ُبكْمٌ ُ‬ ‫{ َومَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا َكمَ َثلِ الّذِي يَ ْنعِقُ ِبمَا ل يَ ْ‬ ‫‪})171‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مثل ‪ :‬المثل‪ :‬الصفة والحال‪.‬‬ ‫ينعق ‪ :‬يصيح‪ :‬والسم النعيق ‪ 1‬وهو الصياح ورفع الصوت‪.‬‬ ‫الدعاء ‪ :‬طلب القريب؛ كدعاء المؤمن ربه‪ :‬يارب‪ .‬يارب‪.‬‬ ‫النداء ‪ : 2‬طلب البعيد؛ كأذان الصلة‪.‬‬ ‫الصم ‪ :‬جمع أصم فاقد حاسة السمع فهو ل يسمع‪.‬‬ ‫البكم ‪ :‬جمع أبكم فاقد حاسة النطق فهو ل ينطق‪.‬‬ ‫ل يعقلون ‪ :‬ل يدركون معنى الكلم ول يميزون بين الشياء لتعطل آلة الدراك عندهم‪ ،‬وهي‬ ‫العقل‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما نددت الية قبل هذه(‪ )170‬بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول‬ ‫لهم رؤساؤهم ويطيقون ما يأمرونهم به مسلمين به ل يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت هذه الية‬ ‫بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى‬ ‫أصبحوا؛ كالشياه من الغنم يسوقها راعيها‪ ،‬حيث شاء فإذا نعق بها داعيا لها أجابته ولو كان‬ ‫دعاؤه إياها لذبحها‪ ،‬وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي ل تدري لم نوديت‪ ،‬إذ هي ل‬ ‫تسمع ول تفهم إل مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد ‪ 3‬الطويل والتباع بدون دليل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النعيق‪ :‬دعاء الراعي‪ ،‬وتصويته للغنم‪ ،‬وعليه قول الشاعر‪:‬‬ ‫فانعق بضأنك يا جرير فإنما ‪ ...‬منتك نفسك في الخلء ضللً‬ ‫‪ 2‬وفي الحديث‪" :‬أن بللً أندى صوتا" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهناك معنى آخر للية قاله الطبري‪ :‬وهو أن المراد مثل الكافرين في دعاؤهم آلهتهم؛ كمثل‬ ‫الذي ينعق بشيء بعيد فهو ل يسمع من أجل البعد فليس للناعق من ذلك إل النداء الذي يتعبه‬ ‫وينصبه وما فسرناه به أصح وأمثل‪.‬‬

‫( ‪)1/146‬‬ ‫فقال تعالى‪َ { :‬ومَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا} في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلل كمثل غنم ‪ 1‬ينعق‬ ‫بها راعيها فهو إذا صاح فيها داعيا لها أو مناديا لها سمعت الصوت وأجابت ولكن ل تدري لماذا‬ ‫دعيت ول لماذا نوديت لفقدها العق‪ .‬وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلل إلى‬ ‫اليمان والهداية فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلل الجامدين كمثل الذي نعق‬ ‫إلخ‪....‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬تسلية الدعاة إلى ال تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلل‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة التقليد لهل الهواء والبدع‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب طلب العلم والمعرفة حتى ل يفعل المؤمن ول يترك إل على علم بما فعل وبما ترك‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل يتابع إل أهل العلم والبصيرة في الدين؛ لن اتباع الجهال يعتبر تقليدا‪.‬‬ ‫شكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْ ُبدُونَ(‪ )172‬إِ ّنمَا‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا ‪ 2‬مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ‬ ‫حمَ ا ْلخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَل عَادٍ فَل‬ ‫حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َتةَ‪ 3‬وَالدّ َم وَلَ ْ‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‪})173‬‬ ‫إِثْمَ عَلَ ْيهِ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال‪ :‬نعق الغراب‪ ،‬ونغق بالغين‪ ،‬ونعق‪ ،‬نعق إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها‪ ،‬ونغق‬ ‫بمعناه‪ ،‬فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح‪ ،‬قيل فيه نعب‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج مسلم قول النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬يا آيها الناس إن ال طيب ل يقبل إل طيبا‪ ،‬وإن‬ ‫عمَلُوا صَالِحا‬ ‫سلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَا ْ‬ ‫ال أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال ‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الرّ ُ‬ ‫إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ} ‪ ،‬وقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ‪ }..‬الية‪ .‬ثم ذكر‬ ‫الرجل يطيل الرجل‪ ،‬أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب‪ ،‬ومطعمه حرام ومشربه حرام‬ ‫وملبسه حرام‪ ،‬وغذي بالحرام‪ ،‬فأنى يستجاب لذلك؟! "‪.‬‬ ‫‪ 3‬الميت والميتة بتسكين الياء‪ :‬هو مات قطعا وانتهت حياته‪ ،‬والميت‪ ،‬والميتة بتشديد الياء‪ :‬وهو‬ ‫ما لم يمت بعد ولكنه آيل أمره إلى الموت‪ ،‬هكذا يرى أرباب اللغة واستشهدوا بقول ال تعالى‬ ‫لرسوله‪{ :‬إِ ّنكَ مَ ّيتٌ وَإِ ّنهُمْ مَيّتُونَ} الية‪ ،‬وهذا دليل إطلق ميت بالتشديد على من لم يمت بعد كما‬ ‫استشدوا بقول الشاعر‪:‬‬ ‫ليس من مات فاستراح بميت ‪...‬‬ ‫إنما الميت ميت الحياء‬

‫( ‪)1/147‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الطيبات ‪ :‬جمع طيب وهو الحلل‪.‬‬ ‫واشكروا ل ‪ :‬اعترفوا بنعم ال عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في مرضاته‬ ‫إن كنتم إياه تعبدون ‪ :‬إن كنتم مطيعين ل منقادين لمره ونهيه‪.‬‬ ‫حرم ‪ :‬حظر ومنع‪.‬‬ ‫الميتة ‪ :‬ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية‪.‬‬ ‫الدم ‪ :‬المسفوح السائل‪ ،‬ل المختلط باللحم‪.‬‬ ‫الخنزير ‪ :‬حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ول يغار على أنثاه‪.‬‬ ‫وما أهل به لغير ال ‪ :‬الهلل‪ :‬رفع الصوت باسم من تذبح له من اللهة‪.‬‬ ‫اضطر ‪ :‬ألجئ وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب‪.‬‬ ‫غير باغ ول عاد ‪ :‬الباغي الظالم الطالب لما ل يحل له والعادي المعتدي المجاوز لما له إلى ما‬ ‫ليس له‪.‬‬ ‫الثم ‪ :‬أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية‪.‬‬ ‫معنى اليتين الكريمتين‪:‬‬ ‫بعد أن بينت الية السابقة(‪ )171‬حال الكفرة المقلدة لبائهم في الشرك وتحريم ما أحل ال من‬ ‫النعام حيث سيبوا لللهة السوائب‪ ،‬وحموا لها الحامات‪ ،‬وبحروا لها البحائر‪ ،‬نادى الجبار عز‬ ‫ل كلوا من‬ ‫وجل عباده المؤمنين‪ :‬يا أيها الذين آمنوا بال ربا وإلها وبالسلم دينا وبمحمد رسو ً‬ ‫طيبات ما رزقناكم واشكروا ل ربكم ما أنعم به عليكم من حلل اللحوم‪ ،‬ول تحرموها كما حرمها‬ ‫مقلدة المشركين‪ ،‬فإنه تعالى لم يحرم عليكم ‪ 1‬إل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره‬ ‫تعالى‪ .‬ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلك فأكل فل إثم عليه على شرط أن ل‬ ‫يكون في سفره باغيا على المسلمين ول عاديا بقطع الطريق عليهم وذلك؛ لن ال غفور لوليائه‬ ‫التائبين إليه رحيم بهم ل يتركهم في ضيق ول حرج‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لما أباح تعالى لعباده المؤمنين الحلل الطيب وهو كثير لم يعدده لكثرته‪ ،‬وعدد الحرام لقلته‪،‬‬ ‫فذكر الميتة والدم إلخ‪ ..‬كما فعل النبي صلى ال عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم فعدل عن‬ ‫بيان المباح لكثرته وذكره المحرم لقلته‪ ،‬فقال‪" :‬ل يبلس القميص ول السراويل‪ "...‬إلخ‪ .‬وهذا من‬ ‫اليجاز البليغ‪.‬‬

‫( ‪)1/148‬‬

‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬الندب إلى أكل الطيبات من رزق ال تعالى في غير إسراف‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب شكر ال تعالى بالعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة أكل الميتة ‪ ،1‬والدم المسفوح‪ ،‬ولحم الخنزير وما أهل به لغير ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز الكل من المذكورات عند الضرورة ‪ 2‬وهي خوف الهلك مع مراعاة الستثناء في‬ ‫غ وَل عَادٍ} ‪.‬‬ ‫الية وهو {غَيْرَ بَا ٍ‬ ‫‪ -5‬أذن النبي صلى ال عليه وسلم في أكل السمك ‪ 3‬والجراد وهما من الميتة‪ ،‬وحرم أكل كل ذي‬ ‫ناب ‪ 4‬من السباع وذي مخلب من الطيور‪.‬‬ ‫ب وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنا قَلِيلً أُولَ ِئكَ مَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ إِل‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )174‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُا الضّللَةَ‬ ‫النّا َر وَل ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وَل يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ‬ ‫ق وَإِنّ‬ ‫بِا ْلهُدَى وَا ْلعَذَابَ بِا ْل َم ْغفِ َرةِ َفمَا َأصْبَرَ ُهمْ عَلَى النّارِ(‪ )175‬ذَِلكَ‪ 5‬بِأَنّ اللّهَ نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَ ّ‬ ‫شقَاقٍ َبعِيدٍ(‪})176‬‬ ‫الّذِينَ اخْتََلفُوا فِي ا ْلكِتَابِ َلفِي ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه أصول المحرمات الربعة‪ ،‬وأما المختنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما‬ ‫ذبح على النصب فهي متفرعة عن تلك الصول وهي مذكورة في أول المائدة‪.‬‬ ‫‪ 2‬من وجد طعام ل تقطع فيه يد يأكله ول يأكل من الميتة بإذن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫للمحتاج أن يأكل من الثمر المعلق‪ ،‬فقال‪" :‬من أصاب منه من ذي حاجة بغية غير متخذ خبنة فل‬ ‫شيء عليه" ‪ ،‬وقوله من‪ :‬أي من الثمر المعلق‪ ،‬إذ سئل عنه فقال‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬للحديث الصحيح‪" :‬أحل لنا ميتتان‪ :‬الحوت والجراد‪ ،‬ودمان‪ :‬الكبد والطحال" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬لحديث صحيح‪" :‬نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي‬ ‫مخلب من الطيور" ‪.‬‬ ‫‪ 5‬إشارة إلى الحكم عليهم بأنهم من الخلود في النار‪ ،‬كما هو صالح أن يكون إشارة إلى ما تقدم‬ ‫من الوعيد‪ ،‬والمعنى متقارب‪.‬‬

‫( ‪)1/149‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يكتمون ‪ :‬يجحدون ويخفون‪.‬‬ ‫ما أنزل ال من الكتاب ‪ :‬الكتاب‪ :‬التوراة وما أنزل ال فيه صفة النبي محمد صلى ال عليه وسلم‬

‫والمر باليمان به‪.‬‬ ‫ل يكلمهم ال ‪ : 1‬لسخطه عليهم ولعنه لهم‪.‬‬ ‫ول يزكيهم ‪ :‬ل يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عليهم‪.‬‬ ‫الضللة ‪ :‬العماية المانعة من الهداية إلى المطلوب‪.‬‬ ‫الشقاق ‪ :‬التنازع والعداء حتى يكون صاحبه في شق‪ ،‬ومنازعة في آخر‪.‬‬ ‫بعيد ‪ :‬يصعب إنهاؤه والوفاق بعده‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات الثلث نزلت قطعا في أحبار ‪ 2‬أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق‬ ‫وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس ‪ 3‬من الدنيا يجحدون أمر النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم ودينه إرضاء للعوام حتى ل يقطعوا هداياهم ومساعدتهم المالية‪ ،‬وحتى يبقى لهم‬ ‫السلطان الروحي عليهم‪ ،‬فهذا معنى قوله تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ‬ ‫وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنا قَلِيلً} ‪ ،‬وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار إذ هو‬ ‫مسببها ومع النار غضب الجبار فل يكلمهم ول يزكيهم ولهم عذاب أليم‪.‬‬ ‫كما أخبر تعالى عنهم في الية(‪ )175‬أنهم وهم البعداء اشتروا الضللة بالهدى أي الكفر باليمان‪،‬‬ ‫والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة‪ ،‬فما أجرأ هؤلء على معاصي ال‪ ،‬وعلى التقحم في النار‪ ،‬فلذا‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬فمَا َأصْبَرَ ُهمْ‪ 4‬عَلَى النّارِ} ‪ .‬وكل هذا الذي تم مما توعد ال به هؤلء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل يكلمهم كلم تشريف وتكريم كما يكلم أولياؤه الصالحين‪ .‬أما ما كان من كلم وتحقير نحو‪:‬‬ ‫{اخْسَأُوا فِيهَا وَل ُتكَّلمُونِ} ‪ ،‬فل يدخل في هذا النفي‪ .‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬أن هذه الية نزلت في أحبار اليهود‪ ،‬كانوا يصيبون من‬ ‫سفلتهم هدايا‪ ،‬وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم‪ ،‬فلما بعث من غيرهم‪ ،‬غيروا صفته‬ ‫وقالوا‪ :‬هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان حتى ل يتبع محمدا صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو الرشوة التي يأخذها القاضي والمفتي والعياذ بال‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا تعجب للمؤمنين من حالهم‪.‬‬

‫( ‪)1/150‬‬ ‫الكفرة؛ لن ال نزل الكتاب بالحق مبينا فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم ومبينا‬ ‫سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب ال وأليم عذابه‪.‬‬ ‫وفي الية الخيرة(‪ )176‬أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والنجيل وهم اليهود‬ ‫والنصارى ‪ 1‬لفي عداء واختلف بينهم بعيد‪ ،‬وصدق ال فما زال اليهود والنصارى مختلفين‬

‫متعادين إلى اليوم‪ ،‬ثمرة اختلفهم في الحق الذي أنزله ال وأمرهم بالخذ به فتركوه وأخذوا‬ ‫بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة كتمان الحق ‪ ،2‬ل سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالً أو رياسة‪.‬‬ ‫‪ -2‬تحذير علماء السلم من سلوك مسالك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء ‪ 3‬الناس‬ ‫بالباطل للحصول على منافع مادية معينة‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من الختلف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ وََلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ‬ ‫{لَيْسَ الْبِرّ أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ‬ ‫ن وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى حُبّهِ َذوِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ‬ ‫ب وَالنّبِيّي َ‬ ‫وَا ْلمَل ِئكَةِ وَا ْلكِتَا ِ‬ ‫ن َوفِي ال ّرقَابِ وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْدِهِمْ إِذَا عَا َهدُوا‬ ‫وَالسّائِلِي َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ويدخل في هذا مشركو العرب فقد اختلفوا في القرآن فقالوا‪ :‬شعر‪ ،‬وقالوا‪ :‬سحر‪ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫أساطير‪.‬‬ ‫شهَا َد َة َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ‬ ‫‪ 2‬يدخل في كتمان الشهادة التي حرمها ال تعالى بقوله‪{ :‬وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬ ‫قَلْبُهُ} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬يشهد له حديث‪" :‬من سئل عن علم فكتمه ألجمه ال يوم القيامة بلجام من نار" ‪.‬‬

‫( ‪)1/151‬‬ ‫ن صَ َدقُوا وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُتّقُونَ(‪})177‬‬ ‫وَالصّابِرِينَ‪ 1‬فِي الْبَأْسَاءِ وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ ِئكَ الّذِي َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫البر ‪ :‬اسمُ جامع لكل خير وطاعة ل ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ولكن البر من آمن بال ‪ :‬البر‪ :‬الحق برُ من آمن بال واليوم الخر إلى آخر الصفات‪.‬‬ ‫وأتى المال على حبه ‪ :‬أعطى المال ‪ 2‬حيث تعين اعطاؤه مع شدة حبه ‪ 3‬له فآثر ما يحب ال على‬ ‫ما يحب‪.‬‬ ‫ذوي القربى ‪ :‬أصحاب القرابات‪ ،‬القرب فالقرب‪.‬‬ ‫اليتامى ‪ :‬جمع يتيم وهو من مات والده وهو لم يبلغ الحنث‪.‬‬ ‫ابن السبيل‪ :‬المسافر البعيد الدار المنقطع عن أهله وماله‪.‬‬ ‫السائلين ‪ :‬جمع سائل‪ :‬الفقير المحتاج الذي أذن له في السؤال لدفع غائلة الحاجة عن نفسه‪.‬‬

‫في الرقاب ‪ :‬الرقاب‪ :‬جمع رقبة والنفاق منها معناه في عتقها‪.‬‬ ‫الباساء والضراء ‪ :‬البأساء‪ :‬شدة البؤس من الفقر‪ ،‬والضراء‪ :‬شدة الضر أو المرض‪.‬‬ ‫وحين البأس ‪ :‬عند القتال واشتداده في سبيل ال تعالى‪.‬‬ ‫أولئك الذين صدقوا ‪ : 4‬أي في دعواهم اليمان والبر والبرور‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫في اليات الثلث السابقة لهذه الية ندد ال تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به‬ ‫من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة كما تضمن ذلك تخويف علماء السلم من أن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نصب‪{ :‬والصابرين } على المدح إذ هو معطوف على‪{ :‬والموفون} وهو مرفوع‪ ،‬ونظيره قوله‬ ‫تعالى ‪ {:‬وَا ْل ُمقِيمِينَ الصّل َة وَا ْل ُمؤْتُونَ ال ّزكَاةَ} والنصب على المدح شائع في كلم العرب‪ ،‬وهو‬ ‫إشارة وتنبيه على فضيلة الصبر وميزته‪ ،‬وقرئ‪{ :‬والصابرون} بالرفع على الصل‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه دليل على أن في المال حقا غير الزكاة وشاهده قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن في المال‬ ‫حقا سوى الزكاة" رواه ابن ماجة والترمذي‪.‬‬ ‫‪ 3‬ويصح أن يكون على حب ال ل على شيء آخر‪ ،‬أي أعطى المال من أعطاهم لجل حب ال‬ ‫عز وجل‪.‬‬ ‫‪ 4‬ورد في فضل الصدق قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر‬ ‫وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الجنة يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صديقا "‪.‬‬ ‫في الصحيح‪.‬‬

‫( ‪)1/152‬‬ ‫يكتموا العلم على الناس طلبا لحظوظ الدنيا الفانية‪ ،‬وفي هذه الية رد ال تعالى على أهل الكتاب‬ ‫أيضا تبجحهم بالقبلة وادعاءهم اليمان والكمال فيه لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بين المقدس‬ ‫بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق‪ ،‬إذ الولى قبلة اليهود‪ ،‬والثانية قبلة النصارى‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬ ‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ} ‪ ،‬وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم‬ ‫{لَيْسَ‪ 1‬الْبِرّ} كل البر {أَنْ ُتوَلّوا وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْل َمشْرِ ِ‬ ‫الذي يقصر إسلمه على الصلة ول يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات‪،‬‬ ‫بين تعالى لهم البار الحق في دعوى اليمان والسلم والحسان فقال‪{ :‬وََلكِنّ الْبِرّ} ‪ 2‬أي‪ :‬ذا البر‬ ‫أو البار حق هو {مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} وذكر أركان اليمان إل السادس منها "القضاء والقدر"‪{ ،‬ال ّرقَابِ‬ ‫وََأقَامَ الصّل َة وَآتَى ال ّزكَاةَ} وهما من أعظم أركان السلم‪ ،‬وأنفق المال في سبيل ال مع حبه له‬ ‫وضنه به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فهو ينفق ماله على من ل يرجو منه‬ ‫جزاء ول مدحا ول ثناء؛ كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة‪ ،‬وفي‬

‫تحرير الرقاء وفكاك السر وأقام الصلة أدامها وعلى الوجه الكمل في أدائها وأتى الزكاة‬ ‫المستحقين لها‪ ،‬وإقام الصلة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد السلم‪ ،‬وذكر من صفاتهم الوفاء‬ ‫بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الحوال‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْ ِدهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا‬ ‫وَالصّابِرِينَ فِي الْبَ ْأسَا ِء وَالضّرّا ِء وَحِينَ الْبَأْسِ} وهذا هو مبدأ الحسان وهو مراقبة ال تعالى‬ ‫والنظر إليه وهو يزاول عبادته‪ ،‬ومن هنا قرر تعالى أن هؤلء هم الصادقون في دعوى اليمان‬ ‫والسلم‪ ،‬وهم المتقون بحق غضب ال وأليم عذابه‪ ،‬جعلنا ال منهم‪ ،‬فقال تعالى مشيرا لهم بلم‬ ‫ص َدقُوا وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلمُ ّتقُونَ} ‪.3‬‬ ‫ن َ‬ ‫البعد وكاف الخطاب ليعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم {أُولَ ِئكَ الّذِي َ‬ ‫هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬الكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض ل يعتبر صاحبه ‪ 4‬مؤمنا ول ناجيا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ حفص‪{ :‬البر} بالنصب على إنه خبر ليس مقدما والسم أن وما دخلت عليه‪ ،‬والتقدير‪:‬‬ ‫تولية وجوهكم‪ ،‬وقرأ غيره‪{ :‬البر} مرفوعا على أنه اسم والخبر أن وما دخلت عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقيل هو على حذف مضاف‪ ،‬أي‪ :‬ولكن البر بر من آمن على حد {واسأل القرية} أي‪ :‬أهل‬ ‫القرية‪ ،‬وما أولناه به أقرب وأيسر‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الية‪{ :‬ليَسَ اَلْبِر} ‪...‬إلخ‪ .‬آية عظيمة تضمنت قواعد الشرع وأمهات الحكام لم تضمن آية‬ ‫غيرها ما تضمنته هي‪ ،‬إذ تضمنت أركان اليمان وقاعدتي السلم؛ الصلة والزكاة‪ ،‬والجهاد‬ ‫والصبر‪ ،‬والوفاء‪ ،‬والتقوى والنفاق العام والخاص‪.‬‬ ‫ب وَ َت ْكفُرُونَ بِ َب ْعضٍ‪ }..‬الية‪.‬‬ ‫‪ 4‬شاهدوه من القرآن في قوله تعالى‪َ{ :‬أفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَا ِ‬

‫( ‪)1/153‬‬ ‫‪ -2‬أركان ‪ 1‬اليمان هي المذكورة في هذه الية‪ ،‬والمراد بالكتاب ‪ 2‬في الية الكتب‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان وجوه النفاق المرجو ثوابه يوم القيامة وهو ذوي القربى إلخ‪....‬‬ ‫‪ -4‬بيان عظم شأن الصل والزكاة‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب الوفاء بالعهود‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب الصبر وخاصة عند القتال‪.‬‬ ‫‪ -7‬التقوى هي ملك المر‪ ،‬والغاية التي ما بعدها للعاملين غاية‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِالْحُرّ وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْ ِد وَالُنْثَى بِالُنْثَى َفمَنْ‬ ‫حمَةٌ َفمَنِ‬ ‫خفِيفٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَرَ ْ‬ ‫ف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ ذَِلكَ تَ ْ‬ ‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُو ِ‬ ‫عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬ ‫ُ‬ ‫اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )178‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الَلْبَابِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ(‪})179‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كتب ‪ 3‬عليكم القصاص ‪4‬‬ ‫‪ :‬كتب‪ :‬فرض‪ ،‬والقصاص‪ :‬إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف‪.‬‬ ‫في القتلى‬ ‫‪ :‬الفاء سببية‪ ،‬أي بسبب القتل‪ ،‬والقتلى‪ :‬جمع قتيل وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أركان اليمان‪ :‬ستة‪ :‬جاءت في حديث جبريل الذي رواه مسلم وهي‪" :‬أن تؤمن بال وملئكته‬ ‫وكتبه ورسله واليوم الخر تؤمن والقدر خيره وشره"‪ ،‬ولم يذكر القدر في الية؛ لن الكتاب دال‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن أل‪ :‬التي في الكتاب للجنس‪ ،‬والجنس تحته أفراد كالنسان‪ ،‬أفراده كثيرون‪ ،‬والكتب‬ ‫المطلوب اليمان بها هي‪ :‬كل ما أنزل من كناب وأعظمها‪ :‬القرآن‪ ،‬والتوراة‪ ،‬والنجيل‪ ،‬والزبور‪،‬‬ ‫وصحف إبراهيم عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬كتب هنا‪ :‬هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ول منافاة بين ما شرع‬ ‫وفرض علينا في القرآن والسنة‪ ،‬وما كتب في كتاب المقادير إذا الكل سبق به علم ال وأراده‬ ‫فكان كما أراد‪.‬‬ ‫‪ 4‬القصاص‪ :‬مأخوذ من قص الثر إذا تتبعه‪ ،‬ومنهم‪ :‬قاص؛ لنه يتتبع الخبار والثار والقاتل؛‬ ‫كأنه سلك طريقا فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/154‬‬ ‫الحر ‪ :‬الحر خلف العبد ‪ 1‬والعبد‪ ،‬هو‪ :‬الرقيق المملوك‪.‬‬ ‫فمن عفي له من أخيه شيء ‪ :‬فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو‪.‬‬ ‫فاتباع بمعروف ‪ :‬فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين‪.‬‬ ‫وأداء إليه بإحسان ‪ :‬وأن يكون أداء الدية بإحسان خاليا من المماطلة والنقص‪.‬‬ ‫ل من القصاص‬ ‫ذلك تخفيف من ربكم ‪ :‬أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بد ً‬ ‫تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط‪ ،‬وأنتم مخبرون بين‬ ‫العفو والدية والقصاص‪.‬‬ ‫فمن اعتدى بعد ذلك ‪ :‬يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله ‪ 2‬ل غير‪.‬‬ ‫القصاص ‪ :‬المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضا‪.‬‬ ‫حياة ‪ :‬إبقاء شامل عميم‪ ،‬إذ من يريد أن يقتل‪ ،‬يذكر أنه سيقتل فيترك القتل فيحيا‪ ،‬ويحيا من أراد‬ ‫قتله‪ ،‬ويحيا بحياتهما خلق كثير وعدد كبير‪.‬‬

‫أولي اللباب ‪ :‬أصحاب العقول الراجحة‪ ،‬واحد اللباب‪ :‬لبٌ‪ :‬وهو في النسان العقل‪.‬‬ ‫لعلكم تتقون ‪ :‬ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لتقاء ما يضر ول يسر في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫هذه الية نزلت في حين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الخر‪ ،‬فلذا يقتل الحر‬ ‫بالعبد‪ ،‬والرجل بالمرأة تطاولً وكبرياء‪ ،‬فحدث بين الحيين قتل وهم في السلم‪ ،‬فشكوا ذلك إلى‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فنزلت هذه الية تبطل ذحل ‪ 3‬الجاهلية وتقرر مبدأ العدل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد مخالفا للجمهور لعموم آية المائدة‪{ :‬ال َنفْس بِالنَفسْ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية‪ ،‬فقال مالك والشافعي‪ ،‬وكثير من العلماء هو كمن قتل ابتداء إن‬ ‫شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الخرة‪ ،‬وقال آخرون عذابه أن يقتل ول يمكن‬ ‫الحاكم الولي من العفو‪ .‬وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬أمره إلى المام‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذحل الجاهلية‪ :‬ثأر الجاهلية وعاداتها‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن من أعتى الناس‬ ‫على ال يوم القيامة ثلثة‪ ،‬رجل قتل غير فاتلة‪ ،‬ورجل قتل في الحرم‪ ،‬ورجل أخذ بذحول‬ ‫الجاهلية" ‪.‬‬

‫( ‪)1/155‬‬ ‫والمساواة ‪ 1‬في السلم فقال تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ‬ ‫بِالْحُ ّر وَا ْلعَ ْبدُ بِا ْلعَبْ ِد وَالُنْثَى ‪ 2‬بِالُنْثَى} ‪ ،‬فل يقتل بالرجل رجلن‪ ،‬ول بالمرأة رجل ول امرأتان‬ ‫ول بالعبد حر ول عبدان‪.‬‬ ‫فمن تنازل له أخوه ‪ 3‬وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقا فليتبع ذلك ول يقل‪ :‬ل‬ ‫أقبل إل القصاص‪ ،‬بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو‪،‬وليطلب ولي‬ ‫الدم الدية بالرفق والدب‪ ،‬وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث ل يماطل ول ينقص منه شيئا‪.‬‬ ‫ثم ذكر تعالى منته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيرا بين‬ ‫ثلثة‪ :‬العفو‪ ،‬أو الدية‪ ،‬أو القود "القصاص" في حين أن اليهود كان مفروضا عليهم القصاص فقط‪،‬‬ ‫والنصارى الدية فقط‪ ،‬وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القصة‪ ،‬وهو أن من أخذ الدية وعفا عن‬ ‫القتل ثم تراجع وقتل فقال‪َ { :‬فمَنِ اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ‪ .‬واختلف في هذا العذاب الليم‬ ‫هل هو عذاب الدنيا‪ ،‬أو هو عذاب الخرة‪ ،‬ومن هنا قال مالك والشافعي‪ :‬حكم هذا المعتدي كحكم‬ ‫القاتل ابتداء إن عفي عنه قبل‪ ،‬وإن طولب بالقود أو الدية أعطى‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬ترد منه الدية‬ ‫ويترك لمر ال‪ ،‬وقال عمر بن العزيز –رحمه ال‪ :-‬يرد أمره إلى المام يحكم فيه يحقق‬ ‫المصلحة العامة‪ .‬ثم أخبر تعالى‪ :‬أن في القصاص الذي شرع لنا‪ ،‬وكتبه علينا مع التخفيف حياة‬

‫عظيمة لما فيه من الكف عن إزهاق الرواح وسفك الدماء‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ‬ ‫يَا أُولِي الَلْبَابِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬حكم القصاص في السلم وهو المساواة والمماثلة فيقتل ‪ 4‬الرجل بالرجل‪ ،‬والمرأة بالمرأة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجمهور على أن الجماعة تقتل بالواحد‪ ،‬وذلك إذا باشروا القتل فقتلوا لقول عمر رضي ال عنه‬ ‫في قتل غلم قتله سبعة فقتلهم‪ ،‬وقال‪" :‬لو تمال عليه أهل صنعاء لقتلهم ولم يخالفه أحد فكان‬ ‫إجماعا‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذهب بعض إلى أن الرجل ل يقتل بالمرأة وحالفهم الجمهور لية المائددة‪َ { :‬وكَتَبْنَا عَلَ ْيهِمْ فِيهَا‬ ‫أَنّ ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ} الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخوة‪ :‬أي في السلم إذ ل يقتل المسلم بالذمي‪ ،‬لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل يقتل‬ ‫مسلم بكافر" ‪ ،‬وهو مذهب الجمهور‪ ،‬وذلك لعدم تكافؤا الدمين"‪.‬‬ ‫‪ 4‬اختلف في هل يقتل الرجل بولده فذهب الجمهور إلى عدم قتله به‪ ،‬وذهب مالك إلى أنه إذا‬ ‫أضجعه يقتل به‪ ،‬فإذا رماه بحجر أو بعصا أو بأي سبب فيه شبهة إنه لم يرد قتله فل يقتل به‬ ‫لحديث‪ " :‬إدرأوا الحدود بالشبهات" ‪.‬‬

‫( ‪)1/156‬‬ ‫والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة‪ ،‬ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث‪" :‬المرء مقتول بما قتل به"‬ ‫‪.‬‬ ‫ولما كان العبد مقوما بالمال فإنه ل يقتل به الحر‪ ،‬بل يدفع إلى سيده مال‪ .‬وبهذا حكم الصحابة‬ ‫والتابعون وعليه الئمة الثلثة‪ :‬مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وخالف أبو حنيفة فرأى القود فيقتل الحر‬ ‫بالعبد أخذا بظاهر هذه الية‪.‬‬ ‫‪ -2‬محاسن الشرع السلمي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو ‪ 1‬والدية بدل‬ ‫القصاص‪.‬‬ ‫‪ -3‬بلغة القرآن الكريم‪ ،‬إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون‪ :‬القتل أنفى للقتل‪ ،‬فقال‬ ‫القرآن‪{ :‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ} ‪ .‬فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظا وواقعا‪.‬‬ ‫حقّا‬ ‫لقْرَبِينَ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬ ‫ن وَا َ‬ ‫حضَرَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ‪ 3‬إِنْ تَ َركَ خَيْرا ا ْلوَصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْ ِ‬ ‫{كُ ِتبَ‪ 2‬عَلَ ْي ُكمْ إِذَا َ‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪)181‬‬ ‫علَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫س ِمعَهُ فَإِ ّنمَا إِ ْثمُهُ َ‬ ‫عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ(‪َ )180‬فمَنْ َبدّلَهُ َبعْدَ مَا َ‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‪})182‬‬ ‫علَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫َفمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا َأوْ إِثْما فََأصْلَحَ بَيْ َن ُهمْ فَل إِثْمَ َ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كتب ‪ :‬فرض وأثبت‪.‬‬ ‫خيرا ‪ :‬مالً نقدا‪ ،‬أو عرضا‪ ،‬أو عقارا‪.‬‬ ‫الوصية ‪ :‬الوصية ما يوصى به من مال وغيره‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في أخذ الدية من قاتل العمد فقال الجمهور‪ :‬ولي الدم يخير بين أخذ الدية والقصاص‪،‬‬ ‫ول خيار للقاتل‪ ،‬فلو قال‪ :‬اقتصوا مني ليس له ذلك بل هو لولي الدم لنه مخير بين ثلثة‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية‪{ :‬كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمْ} إلخ‪ .‬تسمى آية الوصية وذكر الفعل والوصية مؤنثة لحد أمرين‪:‬‬ ‫الول‪ :‬الفصل بين الفعل والفاعل‪ ،‬والثاني‪ :‬ما ل فرج له يذكر ويؤنث‪.‬‬ ‫‪ 3‬المراد من الموت هنا‪ :‬أسبابه‪ ،‬إذا العرب إذا أحضر السبب كنت به عن المسبب‪ ،‬قال جرير في‬ ‫مهاجاته الفرزدق‪:‬‬ ‫أنا الموت الذي حدثت عنه ‪ ...‬فليس لهارب مني نجاة‬ ‫فكنى بنفسه عن الموت‪ ،‬إذ هو سبب مجيئه في نظره وزعمه‪.‬‬

‫( ‪)1/157‬‬ ‫المعروف ‪ :‬ما تعارف عليه الناس كثيرا أو قليلً بحيث ل يزيد على الثلث‪.‬‬ ‫التبديل ‪ :‬التغيير للشيء بآخر‪.‬‬ ‫جنفا أو إثما ‪ :‬الجنف‪ :‬الميل عن الحق خطأ‪ ،‬والثم‪ :‬تعمد الخروج عن الحق والعدل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بمناسبة ذكر آية القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل‪ ،‬والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل‬ ‫قتله‪ ،‬ذكر تعالى آية الوصية هنا فقال تعالى‪ :‬كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت‬ ‫إن ترك مالً الوصية ‪ ،1‬أي‪ :‬اليصاء للوالدين والقربين بالمعروف حقا على المتقين‪ ،‬ثم نسخ ال‬ ‫تعالى هذا الحكم بآية المواريث ‪ ،2‬ويقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬فل وصية لوارث" ‪،3‬‬ ‫ونسخ الوجوب وبقي الستحباب ولكن لغير الوالدين والقربين الوارثين إل أن يجيز ذلك الورثة‬ ‫وأن تكون الوصية ثلثا فأقل‪ ،‬فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدارقطني‬ ‫ل تجوز الوصية لوارث إل أن يشاء الورثة‪ ،‬ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح‬ ‫حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث‪ ،‬وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك‬ ‫ديونا لزمة‪ ،‬وحقوقا واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن‬ ‫عمر في الصحيح‪ " :‬ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إل ووصيته مكتوبة‬ ‫عنده" ‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)180‬وأما الية الثانية ‪ )181( 4‬فيقول تعالى لعباده‬

‫المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص أو غيره أو بدل نوعا بآخر فل‬ ‫إثم على الموصي ولكن الثم على من بدل وغير‪ ،‬وختم هذا الحكم بقوله‪ :‬أن ال سميع عليم‪،‬‬ ‫تهديدا ووعيدا لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء‪ ،‬وفي الية الخيرة(‪)182‬‬ ‫أخر تعالى أن من خاف ‪ 5‬من موص جنفا أو ميلً عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون‬ ‫تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إيما على الموصى حيث جار‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬إِنْ تَ َركَ خَيْرا} ‪ :‬هذا شرط وجوبه الوصية إل أن الشائع أن جواب الشرط يكون مقرونا بالفاء‬ ‫وسقطت هنا جوازا كما في قول الشاعر‪:‬‬ ‫من يفعل الحسنات ال يشكرها ‪ ...‬والشر بالشر عند ال مثلن‬ ‫أي‪ :‬فال يشكره‪.‬‬ ‫حلِيمٌ}‪.‬‬ ‫‪ 2‬آية المواريث في النساء وهي‪{ :‬يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ‪ }...‬إلى آخر اليات إلى { َ‬ ‫‪ 3‬نص الحديث‪" :‬إن ال أعطى كل ذي حق حقه فل وصية لوارث" ‪ .‬رواه أصحاب السنن‬ ‫وغيرهم‪ ،‬وهو صحيح السناد‪.‬‬ ‫‪ 4‬هي قوله تعالى‪َ { :‬فمَنْ خَافَ} إلخ‪ ..‬والخطاب لسائر المسلمين‪ ،‬والجماع على أن الموصي أن‬ ‫يغير في وصيته ويرجع فيما شاء منها إل ما كان من تدبير العبد فإنه ل يرجع فيه‪.‬‬ ‫‪ 5‬الخوف هنا‪ :‬بمعنى الظن والتوقع‪ ،‬وقرئ‪{ :‬موصٍ} ‪ ،‬من وصى المضاعف‪ ،‬أما {موصٍ} فهو‬ ‫من أوصى فهو موصٍ‪.‬‬

‫( ‪)1/158‬‬ ‫وتعدى على علم في وصيته فأصلح ‪ 1‬بينهم‪ ،‬أي‪ :‬بين الموصي والموصى لهم فل إثم عليه في‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ} وعدا‬ ‫إصلح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط‪ ،‬وختم هذا الحكم بقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ َ‬ ‫بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬نسخ الوصية للوارثين مطلقا بإجازة ‪ 2‬الورثة‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحباب ‪ 3‬الوصية بالمال لمن ترك مالً كثيرا يوصي به في وجوه البر والخير‪.‬‬ ‫‪ -3‬تأكد الوصية حضر ‪ 4‬الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع‬ ‫الحقوق فيأثم بإضاعتها‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير ‪ 5‬الصالح‪.‬‬ ‫علَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ(‪ )183‬أَيّاما‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ َ‬

‫طعَامُ‬ ‫سفَرٍ َف ِع ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَ َر وَعَلَى الّذِينَ ُيطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ َ‬ ‫َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬ ‫ط ّوعَ خَيْرا َف ُهوَ خَيْرٌ لَ ُه وَأَنْ َتصُومُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ(‪})184‬‬ ‫سكِينٍ َفمَنْ تَ َ‬ ‫مِ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كتب‬ ‫‪ :‬فرض وأثبت‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أوصى بما ل يجوز النتفاع به أو تناوله واستعماله كمن أوصى أو بناء قبة على ميت أو‬ ‫إحياء بدعة مولد ونحوه فإنه يجوز تبديله بما هو جائر ول يصح إمضاؤه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحديث الصحيح‪" :‬فل وصية لوارث"‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث سعد في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 4‬لحديث ابن عمر رضي ال عنهما في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 5‬يجوز تبديل الوصية إذا كان فيها جور أو محرم لقوله تعالى‪َ { :‬فمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا َأوْ‬ ‫إِثْما فََأصْلَحَ بَيْ َنهُمْ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ} ‪.‬‬

‫( ‪)1/159‬‬ ‫الصيام ‪ :‬لغة المساك‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬المتناع عن الكل والشرب وغشيان النساء من طلوع‬ ‫الفجر إلى غروب الشمس ‪.1‬‬ ‫أياما معدودات ‪ :‬تسعة وعشرون أو ثلثون يوما بحسب شهر رمضان‪.‬‬ ‫فعدة من أيام أخر ‪ :‬فعل من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد اليام التي‬ ‫أفطر فيها‪.‬‬ ‫يطيقونه ‪ :‬أي‪ :‬يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض ل يرجأ برؤه‪.‬‬ ‫فدية طعام مسكين ‪ :‬فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكينا‪ ،‬ول‬ ‫قضاء عليه‪.‬‬ ‫فمن تطوع خيرا ‪ :‬أي‪ :‬زاد على المُدّين ‪ 2‬أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له‪.‬‬ ‫وأن تصوموا خيرا ‪ :‬الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الفطار مع الطعام‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما هاجر الرسول صلى ال عليه وسلم وأصبحت دار إسلم أخذ التشريع ينزل ويتوالى‪ ،‬ففي‬ ‫اليات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة ال في ذلك‪ ،‬وكان من أعظم ما يكون في‬ ‫المؤمن من ملكة التقوى الصيام‪ ،‬فأنزل ال تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة‪ ،‬فناداهم‬ ‫بعنوان اليمان‪ :‬يا أيها الذين آمنوا‪ .‬وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم‬

‫من المم السابقة‪ ،‬فقال‪ { :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ َكمَا كُ ِتبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ‪ }...‬علل ذلك بقوله‪:‬‬ ‫{َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ} أي‪ :‬ليعدكم به للتقوى التي هي امتثال الوامر واجتناب النواهي‪ ،‬لما في الصيام من‬ ‫مراقبة ال تعالى‪ ،‬وقوله‪{ :‬أَيّاما َمعْدُودَاتٍ} ذكره ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته‪ ،‬إذ لم يجعله‬ ‫شهورا ول أعواما‪ .‬وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر ويقضي بعد الصحة أو‬ ‫سفَرٍ‪َ 4‬فعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} كما أن‬ ‫العودة من السفر فقال لهم‪َ { :‬فمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضا َأوْ عَلَى ‪َ 3‬‬ ‫غير المريض والمسافر إذا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي بنية امتثال أمر ال تعالى به‪ ،‬أو بنية التقرب إليه عز وجل‪.‬‬ ‫‪ 2‬هل الواجب مد أو مدان خلف‪ ،‬فمن الفقهاء من يرى مدين‪ ،‬ومنهم من يرى مدا واحدا‪ ،‬والمد‪:‬‬ ‫الحفنة بحفنة الرجل المعتدل بين القصر والطول‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي في حالة سفر فلذا ل ينبغي لمن عزم على السفر أن يفطر حتى يغادر بلده المقيم به شأن‬ ‫الصيام كشأن الصلة فل يقصر حتى يغادر مباني البلد‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي فالواجب صيام عدة من أيام أخر‪.‬‬

‫( ‪)1/160‬‬ ‫كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكينا‪ ،‬وأعلمهم أن‬ ‫ش ِهدَ مِ ْنكُمُ‬ ‫الصيام في هذه الحال خير‪ .‬ثم نسخ هذا الحكم الخير بقوله في الية التية‪َ { :‬فمَنْ َ‬ ‫صمْهُ} وقوله‪{ :‬إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ} يريد‪ :‬تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والخروية‪ ،‬وهي‬ ‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬ ‫ال ّ‬ ‫كثيرة أجلها مغفرة الذنوب وذهاب المراض‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فرضية الصيام وهو شهر رمضان‪.‬‬ ‫‪ -2‬الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن‪.‬‬ ‫‪ -3‬الصيام يكفر الذنوب لحديث‪" :‬من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ‪.‬‬ ‫‪ -4‬رخصة الفطار للمريض ‪ 1‬والمسافر‪.‬‬ ‫‪ -5‬المرأة الحامل أو المرضع دل قوله‪{ :‬وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أنه يجوز لهما الفطار مع‬ ‫القضاء‪ ،‬وكذا الشيخ الكبير فإنه يفطر ول يقضي‪ ،‬والمريض مرضا ل يرجى برؤه كذلك‪ .‬إل أن‬ ‫عليهما أن يطعما عن كل يوم مسكينا بإعطائه حفنتي طعام كما أن المرأة الحامل والمرضع ‪ 2‬إذا‬ ‫خافت على حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكينا‪.‬‬ ‫‪ -6‬في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة أشير إليها بلفظ‪{ :‬إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ}‪.‬‬

‫من هذه الفوائد‪:‬‬ ‫‪ -1‬يعود الصائم الخشية من ال تعالى في السر والعلن‪.‬‬ ‫‪ -2‬كسر حدة الشهوة‪ ،‬ولذا أرشد العازب ‪ 3‬إلى الصوم‪.‬‬ ‫‪ -3‬يربي الشفقة والرحمة في النفس‪.‬‬ ‫‪ -4‬فيه المساواة بين الغنياء والفقراء والشراف ‪ 4‬والوضاع‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المريض له حالتان‪ .‬الولى‪ :‬أن يكون مرضه شديدا فهذا يجب عليه أن يفطر‪ .‬والثانية‪ :‬أن‬ ‫يكون مرضه غير شديد فيستحب له الفطر‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الكلم إجمال وهذا تفصيله‪ :‬الحامل والمرضع إذا خافتا على طفليهما فعليهما القضاء‬ ‫والطعام‪ ،‬وإن خافتا على نفسيهما فعليهما الصيام دون الطعام‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث‪" :‬يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه فإنه له وجاء"‬ ‫أي خصاء‪.‬‬ ‫‪ 4‬الشراف‪ :‬جمع شريف‪ ،‬والوضاع‪ :‬جمع وضيع‪ ،‬وهو الدنيء‪.‬‬

‫( ‪)1/161‬‬ ‫‪ -5‬تعويد المة النظام والوحدة والوئام‪.‬‬ ‫‪ -6‬يذهب المواد المترسبة في البدن‪ ،‬وبذلك تتحسن ‪ 1‬صحة الصائم‪.‬‬ ‫شهِدَ مِ ْنكُمُ‬ ‫س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ‬ ‫شهْرُ‪َ 2‬ر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ هُدىً لِلنّا ِ‬ ‫{َ‬ ‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَل يُرِيدُ‬ ‫صمْهُ‪َ 3‬ومَنْ كَانَ مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬ ‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬ ‫ال ّ‬ ‫شكُرُونَ(‪})185‬‬ ‫ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِ ّدةَ وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَا ُك ْم وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫شهْرُ َر َمضَانَ} ‪ :‬هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية‪ ،‬ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة‪،‬‬ ‫{َ‬ ‫ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا جر جوفه من العطش ‪.4‬‬ ‫{الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ} ‪ :‬هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن‪،‬‬ ‫وذلك في ليلة القدر منه لية‪{ :‬إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَ ْيلَةِ ا ْلقَدْرِ} ‪ ،‬أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ‬ ‫إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل نجما بعد نجم‪ ،‬وابتدئ نزوله على رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم في رمضان أيضا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث‪" :‬صوموا تصحوا وسافروا تغنموا "‪.‬‬ ‫شهْر} بالنصب فيكون بدلً من قوله‪{ :‬أَيّاما َمعْدُودَاتٍ} ‪ ،‬وقرئ بالرفع فيكون مبتدأ‬ ‫‪ 2‬قرئ‪َ { :‬‬

‫شهْرَ }‪ .‬وقد يكون المبتدأ محذوفا تقديره هي‪ :‬أي اليام المعدودات‪.‬‬ ‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬ ‫والخبر‪َ { ،‬فمَنْ َ‬ ‫‪ 3‬قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان‬ ‫ثلثين يوما" ‪ ،‬أوضح طريق للصوم والفطار وبه العمل والحمد ل‪.‬‬ ‫‪ 4‬والرمضاء‪ :‬شدة الحر‪ ،‬ويشهد لذلك حديث مسلم‪ " :‬صلة الوابين إذا رمضت الفصال" ‪ ،‬أي‬ ‫اشتد الحر في الرض فلم يقوى الفصيل على الوقوف على الرض بأخفافه فيبرك‪.‬‬

‫( ‪)1/162‬‬ ‫{هُدىً لِلنّاسِ} ‪ :‬هاديا للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين‪.‬‬ ‫{وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ} ‪ :‬البينات‪ :‬جمع بينة‪ ،‬والهدى‪ :‬الرشاد‪ ،‬والمراد أن القرآن نزل‬ ‫هاديا للناس ومبينا لهم سبيل الهدى موضحا طريق الفوز والنجاة فارقا لهم بين الحق والباطل في‬ ‫كل شؤون الحياة‪.‬‬ ‫شهد الشهر ‪ : 1‬حضر العلن ‪ 2‬عن رؤيته‪.‬‬ ‫{ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ} ‪ :‬فعليه القضاء بعدد اليام التي أفطرها مريضا أو مسافرا‪.‬‬ ‫{وَلِ ُت ْكمِلُوا ا ْلعِدّة} ‪ :‬وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلثين أو تسعة وعشرون يوما‪.‬‬ ‫{وَلِ ُتكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا َهدَاكُمْ} ‪ :‬وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلل إلى العودة من‬ ‫صلة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير‪ ،‬وصفته المشهورة‪ :‬ال أكبر ال أكبر ل إله إل ال‪،‬‬ ‫ال أكبر ال أكبر ول الحمد‪.‬‬ ‫شكُرُونَ} ‪ :‬فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من الشاكرين ل تعالى‬ ‫{وََلعَّلكُمْ َت ْ‬ ‫على نعمه؛ لن الشكر ‪ 3‬هو الطاعة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة السلم الصيام في الية السابقة وأنه أيام معدودات بين في هذه‬ ‫الية أن المراد من اليام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هاديا‬ ‫شهْرُ‪َ 4‬ر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ‬ ‫موضحا طرق الهداية‪ ،‬وفارقا به بين الحق والباطل‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬‬ ‫شهْرَ} يريد شهر رمضان‪،‬‬ ‫شهِدَ مِ ْنكُمُ ال ّ‬ ‫س وَبَيّنَاتٍ مِنَ ا ْلهُدَى وَا ْلفُ ْرقَانِ َفمَنْ َ‬ ‫ا ْلقُرْآنُ هُدىً لِلنّا ِ‬ ‫ومعنى‪ :‬شهد‪ ،‬كان حاضرا غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلل رمضان‪ ،‬فليصمه على سبيل‬ ‫الوجوب إن كان مكلفا‪ .‬ثم ذكر عذر المرض والسفر‪ ،‬وأن على من أفطر بهما قضاء ما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في قبول شهادة الواحد في هلل رمضان‪ ،‬والذي عليه الكثر وهو الحوط للدين أن‬ ‫الواحد إذا كان عدلً تقبل شهادته‪ ،‬هذا في الصام‪ ،‬أما في الفطار وهو رؤية هلل شوال فل بد‬ ‫من شاهدين اثنين‪.‬‬

‫‪ 2‬إذا أسلم الكافر ليلً وبلغ الصبي وجب عليهما الصيام من الغد‪ ،‬أما إذا أسلم الكافر وبلغ الغلم‬ ‫في نهار رمضان فإنه يستحب لهما المساك ول يجب‪.‬‬ ‫شكْرا} ‪ ،‬والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح وهو‬ ‫عمَلُوا آلَ دَاوُدَ ُ‬ ‫‪ 3‬يشهد له قوله تعالى‪{ :‬ا ْ‬ ‫العمل‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫أفادتكم النعماء مني ثلثة ‪ ...‬يدي ولساني والضمير المحجبا‬ ‫‪ 4‬يجمع رمضان على رمضانات‪ ،‬وأرمضاء ويجوز أن يقال شهر رمضان‪ .‬ورمضان بدون شهر‬ ‫لحديث‪" :‬إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/163‬‬ ‫أفطر بعدده‪ ،‬وأخبر تعالى أنه يريد بالذن في الفطار للمريض والمسافر ليس بالمة‪ ،‬ول يريد‬ ‫سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ‬ ‫بها العسر فله الحمد وله المنة‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ كَانَ مَرِيضا َأوْ عَلَى َ‬ ‫يُرِيدُ اللّهُ ِبكُمُ الْيُسْ َر وَل يُرِيدُ ِبكُمُ ا ْلعُسْرَ} ‪.‬‬ ‫ثم علل تعالى للقضاء بقوله ولتكملوا العدة‪ ،‬أي‪ :‬عدة أيام رمضان‪ ،‬هذا أولً‪ ،‬وثانيا‪ :‬لتكبروا ال‬ ‫على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلل شوال وأخيرا ليعدكم بالصيام والذكر للشكر‪،‬‬ ‫شكُرُونَ} ‪.‬‬ ‫وقال عز وجل‪{ :‬وََلعَّل ُكمْ تَ ْ‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل ‪ 1‬شهر رمضان وفضل القرآن‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب صيام رمضان على المكلفين‪ ،‬والمكلف هو‪ :‬المسلم العاقل مع سلمة المرأة من دمي‬ ‫الحيض والنفاس‪.‬‬ ‫‪ -3‬الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه‪ ،‬والمسافر مسافة ‪ 2‬قصر‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب القضاء على من أفطر لعذر ‪.3‬‬ ‫‪ -5‬يسر الشريعة السلمية وخلوها من العسر ‪ 4‬والحرج‪.‬‬ ‫‪ -6‬مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه‪ ،‬وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى السلم‪.‬‬ ‫‪ -7‬الطاعات‪ :‬هي الشكر‪ ،‬فمن لم يطع ال ورسوله لم يكن شاكرا فيعد مع الشاكرين‪.‬‬ ‫ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْ َتجِيبُوا لِي وَلْ ُيؤْمِنُوا بِي َلعَّلهُمْ‬ ‫{ وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬ ‫يَرْشُدُونَ(‪})186‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يكفي في بيان فضل رمضان قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إذا جاء رمضان فتحت أبواب‬ ‫الجنة وغلقت أبواب النار‪ ،‬وصفدت الشياطين"‪ .‬رواه مسلم‪ ،‬قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬من صام‬

‫رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‪ ،‬ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم‬ ‫من ذنبه " في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 2‬أوسط ما قيل في مسافة القصر إنها أربعة بُرُد‪ ،‬وهي ثمانية وأربعون ميلً‪ ،‬والميل‪ :‬ألفا ذراع‬ ‫عند أهل الندلس وهو يعادل الكيلو المتر المعروف الن‪.‬‬ ‫‪ 3‬لقوله تعالى‪َ { :‬فعِ ّدةٌ مِنْ أَيّامٍ ُأخَرَ} أي فعليه قضاء أيام أخر بعدد ما أفطر‪.‬‬ ‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} ‪ ،‬وقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬دين‬ ‫‪ 4‬لقوله تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫ال يسر" ‪ ،‬وقوله لصحابه‪" :‬يسروا ول تعسروا‪ ،‬وبشروا ول تنفروا" ‪ .‬في الصحيح‪.‬‬

‫( ‪)1/164‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الداعي ‪ :‬السائل ربه حاجته‬ ‫{فَلْيَسْ َتجِيبُوا لِي} ‪ :‬أي‪ :‬يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل المأمور وترك‬ ‫المنهي والتقرب إليّ بفعل القرب وترك ما يوجب السخط‪.‬‬ ‫شدُونَ} ‪ :‬بكمال القوتين العلمية والعملية‪ ،‬إذ الرشد‪ :‬هو العلم بمحاب ال ومساخطه‪ ،‬وفعل‬ ‫{يَرْ ُ‬ ‫المحاب وترك المساخط‪ ،‬ومن ل علم له ول عمل فهو السفيه الغاوي والضال الهالك‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي قائلين‪ :‬أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل ال‬ ‫ع َوةَ‪ 1‬الدّاعِ} الية‪ ،‬ومعنى المناجاة‪:‬‬ ‫تعالى قوله‪ { :‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬ ‫المكالمة بخفض الصوت‪ ،‬والمناداة برفع الصوت‪ ،‬وإجابة ال دعوة عبده قبول طلبه وإعطاؤه‬ ‫مطلوبه ‪ .2‬وما على العباد إل أن يستجيبوا لربهم باليمان به وبطاعته في أمره ونهيه‪ ،‬وبذلك يتم‬ ‫رشدهم ويتأهلون للكمال والسعاد في الدارين الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬قرب ال تعالى من عباده إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه ول يبعد عن ال شيء من‬ ‫خلقه إذ ما من كائن إل وال يراه ويسمعه ويقدر عليه‪ ،‬وهذه حقيقة القرب‪.‬‬ ‫‪ -2‬كراهية رفع ‪ 3‬الصوت بالعبادات إل ما كان في التلبية والذان ‪ 4‬والقامة‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الستجابة ل تعالى باليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫‪ -4‬الرشد في طاعة ال والغي والسفه في معصيته تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬دل على فضل الدعاء أن النبي صلى ال عليه وسلم أطلق عليه لفظ العبادة‪ ،‬فقال‪" :‬الدعاء هو‬

‫العبادة" رواه أبو داود‪ ،‬ومما يحرم الجابة‪ :‬أكل الحرام‪ ،‬والستعجال‪ .‬وأن يقول دعوت فلم‬ ‫يستجب لي‪ ،‬ذلك لحديث مسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬على الداعي أن يعزم في دعوته ول يقل‪ :‬اللهم أعطني كذا إن شئت‪ ،‬فقد قال رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم في حديث البخاري‪" :‬إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة‪ ،‬ول يقولن اللهم إن شئت‬ ‫فاعطني فإنه ل مستكره له" ‪.‬‬ ‫خفِيّا} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬يستحب السرار بالدعاء لقوله تعالى‪{ :‬زكريّا‪ِ ،‬إذْ نَادَى رَبّهُ نِدَاءً َ‬ ‫‪ 4‬من الوقات التي يرجى فيه استجابة الدعاء‪ :‬ما بين الذان والقامة‪ ،‬والسحر‪ ،‬ووقت الفطر‪،‬‬ ‫وحال السفر‪ ،‬والمرض‪ ،‬وفي السجود‪ ،‬ودبر الصلوات‪ ،‬وعند اشتداد الكرب من ظلم وغيره‪ ،‬فقد‬ ‫ورد من الحاديث والثار ما يصدق هذا ويؤكده‪.‬‬

‫( ‪)1/165‬‬ ‫حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى ِنسَا ِئكُمْ هُنّ لِبَاسٌ َلكُ ْم وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ َلهُنّ عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ‬ ‫{ ُأ ِ‬ ‫ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ َوكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ‬ ‫عفَا عَ ْنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُ ّ‬ ‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ‬ ‫أَ ْنفُ َ‬ ‫ن وَأَنْتُمْ‬ ‫ل وَل تُبَاشِرُوهُ ّ‬ ‫س َودِ مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْي ِ‬ ‫ط الَ ْ‬ ‫َلكُمُ ا ْلخَيْطُ الَبْيَضُ مِنَ ا ْلخَيْ ِ‬ ‫جدِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َتقْرَبُوهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ(‪})187‬‬ ‫عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{لَيَْلةَ الصّيَامِ‪ : }1‬الليلة التي يصبح العبد بعدها صائما‪.‬‬ ‫{ال ّر َفثُ} ‪ :‬الجماع‪.‬‬ ‫{لِبَاسٌ َلكُمْ} ‪ :‬كناية عن اختلط بعضكم ببعض؛ كاختلط الثوب بالبدن‪.‬‬ ‫سكُمْ} ‪ :‬بتعريضها للعقاب‪ ،‬ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن‬ ‫{ َتخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫يحل ال لكم ذلك‪.‬‬ ‫{بَاشِرُوهُنّ} ‪ :‬جامعوهن‪ ،‬أباح لهم ذلك ليلً‪.‬‬ ‫{وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ} ‪ :‬اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم ‪ ،2‬ول يكن الجماع لمجرد‬ ‫الشهوة‪.‬‬ ‫ط الَبْ َيضُ} ‪ :‬الفجر الكاذب وهو بياض ‪ 3‬يلوح في الفق؛ كذنب السرحان ‪.4‬‬ ‫{ا ْلخَيْ ُ‬ ‫__________‬ ‫حلّ َلكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئكُمْ} الية أن عمر رضي‬ ‫‪ 1‬روي في سبب نزول هذه الية‪{ :‬أُ ِ‬ ‫ال عنه بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله‪ ،‬ثم جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫حلّ َلكُمْ لَ ْيلَةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ} الية‪.‬‬ ‫وشكى إليه ما حدث له من وقاع أهله ليلً‪ ،‬فأنزل ال تعالى‪{ :‬أُ ِ‬ ‫‪ 2‬ويحتمل اللفظ معاني أخرى مثل‪ :‬ما أبيح لكم‪ ،‬وليلة القدر‪ ،‬والرخصة‪ ،‬والتوسعة‪.‬‬

‫‪ 3‬لحديث مسلم‪" :‬ل يغرنكم من سحوركم آذان بلل‪ ،‬ول بياض الفق المستطيل هكذا حتى‬ ‫يستطير هكذا وأشار بيديه يعني معترضا‪.‬‬ ‫‪ 4‬السرحان‪ :‬الذئب‪.‬‬

‫( ‪)1/166‬‬ ‫س َودِ} ‪ :‬سواد يأتي بعد البياض الول فينسخه تماما‪.‬‬ ‫ط الَ ْ‬ ‫{ا ْلخَيْ ِ‬ ‫{ا ْلفَجْرِ} ‪ :‬انتشار الضوء أفقيا ينسخ سواد الخيط السود ويعم الضياء الفق كله‪.‬‬ ‫جدِ} ‪ :‬منقطعون إلى العبادة في المسجد تقربا إلى ال تعالى‪.‬‬ ‫{عَا ِكفُونَ‪ 1‬فِي ا ْلمَسَا ِ‬ ‫{حُدُودُ اللّهِ} ‪ :‬جمع حد وهو ما شرع ال تعالى من الطاعات فعلً أو تركا‪.‬‬ ‫{كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ} ‪ :‬أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك‬ ‫ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة‬ ‫التية‪ .‬كأن الصيام يبتدئ من النوم ل من طلوع الفجر‪ ،‬ثم إن ناسا أتوا نسائهم وأخبروا ذلك‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فأنزل ال تعالى هذه الية الكريمة تبيح لهم الكل والشرب‬ ‫حلّ َلكُمْ لَيَْلةَ الصّيَامِ ال ّر َفثُ إِلَى نِسَا ِئ ُكمْ} أي‪:‬‬ ‫والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر‪ ،‬فقال تعالى‪ُ{ :‬أ ِ‬ ‫الختلط بهن‪ ،‬إذ ل غنى للرجل عن امرأته ول المرأة عن زوجها {هُنّ لِبَاسٌ َلكُ ْم وَأَنْ ُتمْ لِبَاسٌ‬ ‫َلهُنّ}‪ .‬يسترها وتستره؛ كالثوب يستر الجسم‪ ،‬وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان‬ ‫نسائهم ليلً بعد النوم قبل أن ينزل حكم ال فيه بالباحة أو المنع‪ ،‬فكان ذلك منهم خيانة لنفسهم‬ ‫عفَا عَ ْنكُمْ} ‪ .‬وأعلن لهم عن الباحة‬ ‫سكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُ ْم وَ َ‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬عَلِمَ اللّهُ أَ ّن ُكمْ كُنْتُمْ َتخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫ن وَابْ َتغُوا مَا كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ} ‪ .‬يريد من الولد ‪ ،2‬لن الجماع ل يكون لمجرد‬ ‫بقوله‪ { :‬فَالنَ بَاشِرُوهُ ّ‬ ‫قضاء الشهوة بل للنجاب والولد‪ .‬وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه وهو النهار من طلوع‬ ‫ط الَبْ َيضُ مِنَ الْخَ ْيطِ‬ ‫الفجر إلى غروب الشمس فقال تعالى‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيّنَ َل ُكمُ الْخَ ْي ُ‬ ‫سوَدِ‪ 3‬مِنَ ا ْلفَجْرِ ثُمّ أَ ِتمّوا الصّيَامَ إِلَى اللّ ْيلِ} وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم‬ ‫الَ ْ‬ ‫فل يحل للرجل وهو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬العتكاف‪ :‬ملزمة المسجد للعبادة وهو من سنن السلم فقد اعتكف رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ويستحب أن يكون في العشر الواخر من رمضان‪ ،‬وأقله يوم وليلة‪ .‬ول يصح إل في‬ ‫المسجد الذي تقام فيه صلة الجمعة‪ ،‬ويفسده الجماع ويجب قضاؤه على من أفسده بجماع أهله‪.‬‬ ‫‪ 2‬تقدم ما يحتمله اللفظ من غير الولد في رقم (‪ )2‬من هذا التعليق‪.‬‬

‫‪ 3‬فلذا قيل الفجر‪ :‬فجران‪ ،‬كاذب وصادق‪ ،‬وقد بينها الرسول صلى ال عليه وسلم في حديث‬ ‫مسلم‪ :‬النف الذكر تحت رقم ‪.3‬‬

‫( ‪)1/167‬‬ ‫معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته وإن فعل أثم وفسد اعتكافه وجب عليه قضاؤه‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪{ :‬وَل تُبَاشِرُوهُنّ‪ 1‬وَأَنْتُمْ عَا ِكفُونَ فِي ا ْلمَسَاجِدِ} وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات‬ ‫والمحرمات هي حدوده تعالى فل يحل القرب منها ول تعديها فقال عز وجل‪{ :‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَل‬ ‫َتقْرَبُوهَا} ثم قال‪َ { :‬كذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ} فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة‬ ‫وهي بيان الشرائع والحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة ليعد بذلك المؤمنين‬ ‫للتقوى‪ ،‬إذ ل يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم‪ .‬وقد فعل فله الحمد وله‬ ‫المنة‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬إباحة الكل والشرب والجماع في ليال الصيام من غروب الشمس ‪ 2‬إلى طلوع الفجر‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ظرف الصيام وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان ما يسمك عنه الصائم وهو الكل الشرب والجماع‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية العتكاف وخاصة في رمضان‪ ،‬وأن المعتكف ل يحل له مخالطة امرأته وهو‬ ‫معتكف حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها‪.‬‬ ‫‪ -5‬استعمال الكتابة بدل التصريح فيما يتسحي من ذكره‪ ،‬حيث كنى بالمباشرة عن الوطء‪.‬‬ ‫‪ -6‬حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده‪.‬‬ ‫‪ -7‬بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -8‬ثبت بالسنة‪ :‬سنة ‪ 3‬السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر‪ ،‬واستحباب تعجيل‬ ‫الفطر ‪.4‬‬ ‫حكّامِ لِتَ ْأكُلُوا فَرِيقا مِنْ‬ ‫طلِ وَتُدْلُوا ِبهَا إِلَى الْ ُ‬ ‫{ وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المباشرة‪ :‬كناية عن الجماع‪ :‬إذ البشرة تمس البشرة فيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬يحرم الوصال‪ :‬وهو صيام يومين فأكثر بل إفطار لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إياكم‬ ‫والوصال‪ ،‬إياكم الوصال‪ ،‬يحذر منه "‪ .‬أخرجه البخاري‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث مسلم‪" :‬إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬لحديث‪" :‬ل تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" رواه أحمد‪.‬‬

‫( ‪)1/168‬‬ ‫َأ ْموَالِ النّاسِ بِالِثْ ِم وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ(‪})188‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫طلَ ‪ :‬خلف الحق ‪.1‬‬ ‫الْبَا ِ‬ ‫َتُدْلُوا ‪ :‬الدلء بالشيء‪ ،‬إلقاؤه ‪ ،2‬والمراد هنا‪ :‬إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم‬ ‫بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم‪.‬‬ ‫{فَرِيقا} ‪ :‬أي‪ :‬طائفة وقطعة من المال‪.‬‬ ‫{بِالِثْمِ} ‪ :‬المراد به هنا‪ :‬بالرشوة وشهادة الزور‪ ،‬واليمين الفاجرة أي الحلف بالكذب ليقضي‬ ‫القاضي لكم بالباطل في صورة حق‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما أخر تعالى في الية السباقة أنه يبين للناس ‪ 3‬أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي بين‬ ‫في هذه الية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل‪ ،‬وأنه حرام فل يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه بغير‬ ‫طيب نفس منه‪ .‬وذكر نوعا هو شر أنواع أكل المال بالباطل‪ ،‬وهو دفع الرشوة إلى القضاة‬ ‫والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أمال إخوانهم‬ ‫بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها المرء كاذبا‪.‬‬ ‫حكّامِ لِتَ ْأكُلُوا فَرِيقا مِنْ َأ ْموَالِ‬ ‫طلِ وَتُدْلُوا ِبهَا إِلَى الْ ُ‬ ‫وقال تعالى‪ { :‬وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬ ‫النّاسِ بِالِثْ ِم وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ} أي‪ :‬وأنتم تعلمون حرمة ذلك‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة أكل مال المسلم بغير حق سواء كان بسرقة أو بغصب أو غش أو احتيال ومغالطة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الباطل‪ :‬لغة‪ :‬الذاهب الزائل‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬أدلى دلوه في البئر إذا ألقاها فيها ليخرج الماء‪ ،‬والحبل الذي يلقى بالدلو يقال له‪ :‬الرشاء‪،‬‬ ‫ومنه أخذ اسم الرشوة‪ ،‬فالراشي يعطي الرشوة ليستخلص الحكم له‪.‬‬ ‫‪ 3‬إن هذه الية وإن نزلت في سبب خاص‪ :‬وهو تخاصم عبدان ابن أشوع الحضرمي مع أمرؤ‬ ‫القيس الكندي‪ ،‬إذ ادعى الول مالً على الثاني‪ ،‬فأنكر وأراد أن يحلف‪ ،‬فنزلت فإنها عامة في أمة‬ ‫السلم قاطبة‪ ،‬فل يحل أكل مال أمرء مسلم بغير حق‪ ،‬فيدخل فيه القمار والخداع‪ ،‬والغصوب‪،‬‬ ‫وجحد الحقوق وكذا ما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه‪ ،‬وذلك كمهر البغي‪ ،‬وحلوان‬ ‫الكاهن‪ ،‬وأثمان بيع الخمر وغيرها‪.‬‬

‫( ‪)1/169‬‬ ‫‪ -2‬حرمة الرشوة تدفع للحاكم ليحكم ‪ 1‬بغير الحق‪.‬‬ ‫‪ -3‬مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة إل أن مال المسلم أشد حرمة لحديث‪" :‬كل‬ ‫المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله "‪ .2‬ولقوله تعالى‪{ :‬وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ} وهو يخاطب‬ ‫المسلمين‪.‬‬ ‫ظهُورِهَا‬ ‫س وَا ْلحَجّ‪ 5‬وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬ ‫ن الَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ‪ 4‬لِلنّا ِ‬ ‫{يَسْأَلو َنكَ‪ 3‬عَ ِ‬ ‫وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ(‪})189‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الَهِلّةِ} ‪ :‬جمع هلل‪ :‬وهو القمر في بداية ظهوره في الثلثة اليام الولى من الشهر؛ لن الناس‬ ‫إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلل الهلل‪.‬‬ ‫المواقيت ‪ :‬جمع ميقات‪ :‬الوقت المحدد المعلوم للناس‪.‬‬ ‫إتيان البيوت من ظهورها ‪ :‬أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشيا أن يدخل من الباب‪.‬‬ ‫{وََلكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى} ‪ :‬البر الموصل إلى رضوان ال‪ .‬بر عبد‪ :‬اتقى ال تعالى بفعل أوامره‬ ‫واجتناب نواهيه ليس البر دخول البيوت من ظهورها‪.‬‬ ‫الفلح ‪ :‬الفوز‪ :‬وهو النجاة من النار ودخول الجنة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حكم الحاكم ل يحل الحرام سواء أموالً أو فروجا لهذه الية ولقول الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم في الصحيحين عن أم سلمة أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬أل إنما أنا بشر وإنما يأتيني‬ ‫الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له‪ ،‬فمن قضيت له بحق مسلم فإنما‬ ‫هي قطعة من نار فيلحملها أو ليذرها "‪.‬‬ ‫‪ 2‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬حقيقة السؤال هي‪ :‬طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا عن شيء فإن كان طلب شيء تعدى‬ ‫الفعل بنفسه نحو‪ :‬سأله مالً‪ ،‬وإن كان إخبارا عن شيء تعدى بعن نحو‪ :‬سأله عن كذا‪.‬‬ ‫‪ 4‬الوقت والميقات‪ :‬بمعنى واحد‪ ،‬إل أن الميقات أخص من الوقت فإنه عام‪.‬‬ ‫‪ 5‬ذكر الحج خصوصا لنه يفوت بفوات وقته إذا تقدم أو تأخر‪ ،‬إذ الحج يوم واحد وهو تاسع‬ ‫الحجة‪ ،‬ومكان واحد وهو عرفة لحديث‪" :‬الحج عرفة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/170‬‬

‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫روى أن بعض الصحابة رضوان ال عليهم سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلين‪ :‬ما بال‬ ‫الهلل يبدوا دقيقا‪ ،‬ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدرا‪ ،‬ثم ل يزال ينقص حتى يعود كما كان أول‬ ‫بدئه؟ فأنزل ال تعالى هذه الية‪َ { :‬يسْأَلو َنكَ عَنِ الَهِلّةِ} وأمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول‬ ‫لهم‪ :‬هي مواقيت للناس‪ ،‬وعلة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق‪ :‬هي أن يعرف‬ ‫الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لعمالهم ‪ 1‬فبوجود القمر على هذه الحوال تعرف عدة النساء‬ ‫وتعرف الشهور‪ ،‬فنعرف رمضان ‪ 2‬ونعرف شهر الحج ووقته‪ ،‬كما نعرف آجال العقود في البيع‬ ‫واليجار‪ ،‬وسداد الديون وما إلى ذلك‪ .‬وكان النصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة‬ ‫وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص ل يدخل من الباب حتى ل يظله نجف الباب‬ ‫فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت ل من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبرا‪ ،‬فأبطل ال تعالى‬ ‫ظهُورِهَا وََلكِنّ الْبِرّ} ‪ .‬بر‬ ‫هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل‪{ :‬وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬ ‫أهل التقوى والصلح‪ .‬وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال‪{ :‬وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا} ‪،‬‬ ‫وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والخرة‪ .‬فقال‪ { :‬وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال ‪ 3‬عما ل يعنيه‪.‬‬ ‫‪ -2‬فائدة الشهور القمرية عظيمة إذ بها تعرف كثير من العبادات‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة البتداع في الدين ‪ 4‬ولو كان برغبة في طاعة ال تعالى وحصول الجر‪.‬‬ ‫‪ -4‬المر بالتقوى المفضية إلى فلح العبد ونجاته في الدارين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من ذلك بيوع الجال وبيع السلم فل بد من تحديد الوقت بعام معين أو شهر معين‪.‬‬ ‫‪ 2‬لحديث عبد الرازق والحاكم عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬جعل ال‬ ‫الهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته‪ ،‬فإن غم عليكم فعدوا ثلثين يوما" فإن غم‬ ‫في أول رمضان عددنا شعبان ثلثين يوما وإن غم في آخر رمضان عددنا رمضان ثلثين يوما‪.‬‬ ‫‪ 3‬وشاهده في السنة قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من حسن إسلم المرء تركه مال يعنيه" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال القرطبي في تفسير هذه الية‪ :‬بيان أن ما لم يشرعه ال قربة ول ندب إليه ل يصير قربة‬ ‫يتقرب بها إلى ال تعالى واستشهد بحديث أبي إسرائيل إذ نذر أن يقوم ول يقعد ول يستظل ول‬ ‫يتكلم ويصوم‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬مروه فليتكلم وليستظل وليقعد ولتم صومه" ‪.‬‬ ‫فأبطل ما لم يكن قربة وصحح ما هو قربة‪.‬‬

‫( ‪)1/171‬‬

‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ(‪ )190‬وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ‬ ‫{ َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَل َتعْ َتدُوا إِنّ اللّهَ ل ُي ِ‬ ‫جدِ ا ْلحَرَامِ‬ ‫شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَل ُتقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ا ْلمَسْ ِ‬ ‫َثقِفْ ُتمُوهُمْ‪ 1‬وََأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَ ْيثُ َأخْرَجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ أَ َ‬ ‫غفُورٌ‬ ‫حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِين َ(‪ )191‬فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫ع ْدوَانَ إِل عَلَى الظّاِلمِينَ(‬ ‫رَحِيمٌ(‪َ )192‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْنَةٌ وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْ َت َهوْا فَل ُ‬ ‫‪})193‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{سَبِيلِ اللّهِ} ‪ :‬الطريق الموصل إلى رضوانه وهو السلم‪ ،‬والمراد إعلء كلمة ‪ 2‬ال‪.‬‬ ‫{الّذِينَ ُيقَاتِلُونَكُمْ} ‪ :‬المشركون الذين يبدؤونكم بالقتال‪.‬‬ ‫{وَل َتعْتَدُوا}‪ : 3‬ل تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والطفال ومن اعتزل القتال‪.‬‬ ‫{ َث ِقفْتُمُوهُمْ} ‪ :‬تمكنتم من قتالهم‪.‬‬ ‫{وَا ْلفِتْنَةُ} ‪ :‬الشرك ‪.4‬‬ ‫سجِدِ الْحَرَامِ} ‪ :‬المراد به مكة والحرم من حولها‪.‬‬ ‫{ا ْلمَ ْ‬ ‫{وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ} ‪ :‬بأن لم يبق من يعبد غير ال تعالى‪.‬‬ ‫ع ْدوَانَ} ‪ :‬أي‪ :‬ل اعتداء بالقتل والمحاربة إل على الظالمين‪ .‬أما من أسلم فل يقاتل‪.‬‬ ‫{فَل ُ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات الثلث‪َ { :‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} من أوائل ما نزل في شأن قتال المشركين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال رجل ثقف لقف‪ ،‬إذا كان محكما لما يتناوله والمراد‪ :‬اقتلوهم حيث تمكنتم من ذلك غالبين‬ ‫لهم قاهرين‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال" ‪ .‬في‬ ‫الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 3‬يدخل في هذا النهي كل محرم؛ كالميتة و تحريق الشجار وقتل الحيوان لحديث في الصحيح‪" :‬‬ ‫اغزوا في سبيل ال قاتلوا من كفر بال‪ ،‬اغزوا ول تغلوا‪ ،‬ول تغدروا ول تمثلوا ول تقتلوا الوليد‬ ‫ول أصحاب الصوامع" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬يصح تفسير الية‪ :‬بأن الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجعوكم بها إلى الكفر أشد من القتل‬ ‫أي‪ :‬من قتل المؤمن‪.‬‬

‫( ‪)1/172‬‬

‫وهي متضمنة الذن لرسول ال صلى ال عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم والكف عمن‬ ‫يكف عنهم‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي‪ :‬في سبيل إعلء كلمة ال ليعبد وحده‪{ .‬الّذِينَ‬ ‫ُيقَاتِلُو َنكُمْ} ‪ ،‬واقتلوهم حيث تمكنتم منه‪ ،‬وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من‬ ‫دياركم‪ ،‬ول تتحرجوا من القتل‪ ،‬فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالضطهاد والتعذيب أشد‬ ‫سجِدِ الْحَرَامِ حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فل تكونوا البادئين فإن قاتلوكم‬ ‫من القتل‪{ :‬وَل ُتقَاتِلُوهُمْ‪ 1‬عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬ ‫فاقتلوهم‪ .‬كذلك القتل والخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم‪ .‬فإن انتهوا‬ ‫عن الشرك والكفر وأسلموا فإن ال يغفر لهم ويرحمهم؛ لن ال تعالى غفور رحيم‪.‬‬ ‫أما الية الرابعة(‪ )193‬وهي قوله تعالى‪َ { :‬وقَاتِلُو ُهمْ حَتّى ل َتكُونَ فِتْ َنةٌ} فهي مقررة لحكم‬ ‫سابقاتها‪ ،‬إذ فيها المر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالً يستمر حتى ل يبقى في مكة من‬ ‫يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون الدين كله ل فل يعبد غيره‪ ،‬وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن‬ ‫اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ول تقاتلوهم‪ ،‬إذ ل عدوان ‪ 2‬إل على الظالمين وهم بعد إسلمهم ما‬ ‫أصبحوا ظالمين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب قتال من يقاتل المسلمين‪ ،‬والكف عمن يكف عن قتالهم‪ ،‬وهذا قبل نسخ هذه الية‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة العتداء في القتال بقتل الطفال والشيوخ والنساء إل أن يقاتلن‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة القتال عند المسجد الحرام‪ ،‬أي مكة والحرم إل أن يبدأ العدو بالقتال فيه فيقاتل‪.‬‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ} ‪.‬‬ ‫‪ -4‬السلم يجب ما قبله لقوله تعالى‪{ :‬فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫‪ -5‬وجوب الجهاد وهو فرض كفاية ما وجد مؤمن يضطهد لسلمه أو يفتن في دينه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القول بأن هذه الية محكمة أصح لن دللتها على ذلك واضحة وهو أن ل يقاتل في الحرم‬ ‫المكي وأن ل يبدأ به فإذا بدأ المشركون بقتال المؤمنين قاتلهم المؤمنون فيه‪ ،‬ويشهد لهذا حديث‬ ‫ابن عباس في الصحيح‪" :‬إن هذا البلد حرمه ال يوم خلق السموات والرض فهو حرام لحرمة ال‬ ‫تعالى إلى يوم القيامة" ‪ .‬الحديث‪.‬‬ ‫‪ 2‬قتال من قاتل المسلمين ل يسمى عدوانا إل من باب المشاكلة نحو‪َ { :‬وجَزَاءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ مِثُْلهَا} ‪،‬‬ ‫إذ الولى حقا سيئة‪ ،‬أما الثانية فإنها قصاص عادل وسميت سيئة مشاكلة في اللفظ‪.‬‬

‫( ‪)1/173‬‬ ‫شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ‪ِ 1‬قصَاصٌ َفمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ فَاعْتَدُوا عَلَ ْيهِ ِبمِ ْثلِ‪ 2‬مَا‬ ‫شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ‬ ‫{ال ّ‬ ‫اعْتَدَى عَلَ ْي ُك ْم وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُتّقِينَ(‪ )194‬وَأَ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَل تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ‬

‫حسِنِينَ(‪})195‬‬ ‫حبّ ا ْلمُ ْ‬ ‫حسِنُوا إِنّ اللّهَ يُ ِ‬ ‫إِلَى ال ّتهُْلكَ ِة وَأَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫شهْرُ الْحَرَامُ} ‪ :‬الشهر المحرم القتال فيه والشهر الحرم أربعة ثلثة سرد وواحد فرد‪ .‬فالثلثة‬ ‫{ال ّ‬ ‫هي القعدة والحجة ومحرم‪ ،‬والرابع الفرد‪ :‬رجب‪.‬‬ ‫الحرمات ‪ :‬جمع حرمة؛ كالشهر الحرام‪ ،‬والبلد الحرام‪ ،‬والحرام‪.‬‬ ‫{أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُتّقِينَ} ‪ :‬المتقون‪ :‬هم المؤمنون الذين يتقون معاصي ال تعالى ومخالفة سنته في‬ ‫الحياة وكونه تعالى معهم‪ :‬يسددهم ويعينهم وينصرهم‪.‬‬ ‫{ال ّتهُْلكَةِ} ‪ :‬الهلكة والهلك مثلها‪.‬‬ ‫الحسان ‪ :‬اتقان الطاعة وتخليصها من شوائب الشرك‪ ،‬وفعل الخير ‪ 3‬أيضا‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫الية الولى(‪ )194‬في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم‬ ‫أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام‪ ،‬ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في‬ ‫الحرم‪ ،‬ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم‪ ،‬وهكذا الحرمات قصاص‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحرمات‪ :‬جمع حرمة‪ ،‬كالظلمات‪ :‬جمع ظلمة‪ ،‬والحرمة‪ :‬ما منع العبد من انتهاكه‪ ،‬والقصاص‬ ‫يمعنى المساواة هذه الية ل خلف بين العلماء في أنها أصل المماثلة في القصاص‪ ،‬فمن جرح‬ ‫جرح بمثل ما جرح‪ ،‬ومن قتل يقتل بمثل ما قتل به‪ ،‬اللهم إل من قتل بزنا أو لواط فهذا قطعا ل‬ ‫مماثلة فيه ولكن يقتل بالسيف‪.‬‬ ‫‪ 2‬لهذا الية نظيرها وهو قوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله‪{ :‬وَجَزَاءُ‬ ‫سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثُْلهَا} ‪ ،‬وهي بالنسبة إلى المة قد نسخت بآيات الجهاد‪ ،‬أما بالنسبة للفراد فالجمهور‬ ‫على أن الفرد ل يعاقب بنفسه ولكن بواسطة الحاكم‪ ،‬ولكن يرى بعضهم كالمام الشافعي‪ :‬أن‬ ‫الفرد إذا لم يتوصل إلى أخذ حقه إل بالمعاقبة فلينظر إذا كان يمكنه أن يأخذ بقدر ما أخذ منه‬ ‫مساواة بل زيادة فل بأس أن يأخذ بشرط أن يأمن من نسبته إلى السرقة حتى ل يتعرض إلى‬ ‫إقامة الحد عليه‪.‬‬ ‫‪ 3‬فعل الخير يشمل مواساة الفقراء والمساكين وصلة ذو الرحام كما يشمل عدم الساءة إلى‬ ‫المسيء بالعفو والصفح عنه فهو باب واسع‪.‬‬

‫( ‪)1/174‬‬ ‫بينهم ومساواة‪ .‬ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه مثل اعتدائه عليهم‪ ،‬وأمرهم بتقواه عز وجل‬ ‫وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر‪.‬‬

‫وأما الية ‪ )195(1‬فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لعداد العدة وتسيير السرايا ولمقاتلين ونهاهم‬ ‫أن يتركوا النفاق في سبيل ال الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا النفاق والجهاد كانوا كمن ألقى‬ ‫بيده في الهلك‪ ،‬وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر‬ ‫عليهم فهلكوا‪ .‬كما أمرهم بالحسان في أعمالهم كافة وإحسان العمال إتقانها وتجويدها‪ ،‬وتنقيتها‬ ‫من الخلل والفساد‪ ،‬وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم‪ ،‬فقال تعالى ‪{ :‬وََأحْسِنُوا إِنّ‬ ‫حسِنِينَ} ومن أحبه ال أكرمه ونصره وما أهانه ول خذله‪.‬‬ ‫حبّ ا ْلمُ ْ‬ ‫اللّهَ ُي ِ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬احترام الشهر الحرام وسائر الحرمات‪.‬‬ ‫‪ -2‬جواز المقاصة والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء‪.‬‬ ‫‪ -3‬رد العتداء والنيل من المعتدي الظالم البادي ‪ 2‬بالظلم والعتداء‪.‬‬ ‫‪ -4‬معية ال تعالى لهل اليمان والتقوى والحسان‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة الحسان لحب ال تعالى للمحسنين‪.‬‬ ‫سكُمْ حَتّى يَبْلُغَ‬ ‫ي وَل تَحِْلقُوا ُرؤُو َ‬ ‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْد ِ‬ ‫{وَأَ ِتمّوا الْحَجّ‪ 3‬وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ فَإِنْ ُأ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪1‬روي أن أبا أيوب النصاري رضي ال عنه قال‪ :‬هذه الية نزلت فينا معاشر النصار‪ ،‬وذلك‬ ‫أنه لما نصر ال رسوله وأظهر دينه قلنا‪ :‬هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل ال عز وجل‪:‬‬ ‫{وَأَ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} الية‪ ،‬واللقاء باليد في التهلكة‪ :‬أن نقيم في أموالنا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا ليس على بابه وإنما هو في المعتدي الكافر‪ ،‬أما المسلم فإن العفو عنه محمود ومطلوب‬ ‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّه} وقال رسوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أدي‬ ‫أيضا‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ َ‬ ‫المانة لمن ائتمنك ول تخن من خانك" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الية دليل على مشروعية العمرة وهي كذلك سنة واجبة‪ ،‬أما الحج فقد فرض بالكتاب في قوله‬ ‫تعالى‪{ :‬وَِللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً} وبالنسبة في حديث ابن عمر‪" :‬بني‬ ‫السلم على خمس" إذ فيه حج البيت والجماع أيضا‪.‬‬

‫( ‪)1/175‬‬ ‫سكٍ فَِإذَا‬ ‫ص َدقَةٍ َأوْ نُ ُ‬ ‫ن صِيَامٍ َأوْ َ‬ ‫سهِ َففِدْيَةٌ مِ ْ‬ ‫حلّهُ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضا َأوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْ ِ‬ ‫ا ْلهَ ْديُ مَ ِ‬ ‫جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي ا ْلحَجّ‬ ‫َأمِنْتُمْ َفمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى ا ْلحَجّ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬ ‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ وَاتّقُوا اللّهَ‬ ‫جعْ ُتمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ ذَِلكَ ِلمَنْ َلمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬ ‫وَسَ ْبعَةٍ ِإذَا رَ َ‬ ‫وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪})196‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ} ‪ :‬فإتمامهما ‪ 1‬أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما‬ ‫{وَأَ ِتمّوا الْحَ ّ‬ ‫وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع‪ ،‬وأن يخلص فيهما ل تعالى‪.‬‬ ‫حصِرْتُمْ} ‪ :‬الحصر والحصار ‪ 2‬أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما‬ ‫{فَإِنْ ُأ ْ‬ ‫بعدو يصده عن دخول مكة أو مرض شديد ل يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة ‪.3‬‬ ‫{ َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ} ‪ :‬أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو‬ ‫بعير‪.‬‬ ‫سكُمْ} ‪ :‬ل يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدي فإن ذبح‬ ‫{وَل تَحِْلقُوا ُرؤُو َ‬ ‫تحلل بحلق رأسه‪.‬‬ ‫{ َففِدْيَةٌ} ‪ :‬فالواجب هو فدية من صيام أو صدقة أو نسك‪.‬‬ ‫{ َفمَنْ َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى ا ْلحَجّ} ‪ :‬فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر‬ ‫الحج وحج فعلً فالواجب ما استيسر من الهدي‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ومن إتمامها أن يخرج لهما ل لتجارة ول غيرها فيخرج لهما ل غيرهما كما قال علي رضي‬ ‫ال عنه‪" :‬أن تحرم بهما من دويرة أهلك‪ ،‬والحج تمامه عرفة‪ ،‬والعمرة والسعي بعد الطواف‬ ‫والحلق أو التقصير"‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذهب مالك والشافعي إلى أن المحصر بمرض ل يحل له أن يتحلل بل عليه أن يبقى على‬ ‫إحرامه حتى يطوف ولو بعد عام‪ ،‬وذهب غيرهما إلى أن المريض الشديد المرض حكمه حكم‬ ‫المحصر بالعدو ينحر ويتحلل‪ ،‬وإن كان الحج فرضا عليه القضاء‪ ،‬وإن كان نفلً فل قضاء عليه‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا إذا لم يشترط عند إحرامه‪ ،‬أما إذا اشترط بقوله عند إحرامه‪" :‬محلي حيث حبستني" فإنه‬ ‫يتحلل ول شيء عليه إل ما كان من مالك فإنه ل يرى الشتراط وهو محجوج بحديث ضباعة‪:‬‬ ‫"حجي واشترطي"‪.‬‬

‫( ‪)1/176‬‬ ‫جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ} ‪ :‬فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هديا لعجزه عنه‪ ،‬فالواجب صيام‬ ‫{ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬ ‫عشرة أيام ثلثة في مكة وسبعة في بلده‪.‬‬ ‫جدِ ا ْلحَرَامِ} ‪ :‬أي ما وجب من الهدي أو الصيام عند العجز‬ ‫{ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ َأهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَسْ ِ‬ ‫وهو لغير أهل الحرم أما سكان مكة والحرم ‪ 1‬حولها وهم أهل الحرم فل يجب عليهم شيء إن‬ ‫تمتعوا‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه‬ ‫المطلوب وأن يريدوا بهما ال تعالى‪ ،‬ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامها‪ ،‬فالواجب‬ ‫عليهم أن يذبحوا ما تيسر لهم‪ ،‬فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم‪ ،‬وذلك بحلق شعر رؤوسهم‬ ‫أو تقصيره‪ ،‬كما أعلمهم أن من كان منهم مريضا أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر‬ ‫رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس‪ ،‬فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلثة على‬ ‫التخيير‪ :‬صيام ثلثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان ‪ 2‬من طعام‪ ،‬أو ذبح شاة‪ .‬كما‬ ‫أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة‬ ‫أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه‬ ‫وسبعة أيام إذا رجع إلى بلده‪ .‬وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والخذ بتشريعه و‬ ‫شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ}‬ ‫حذرهم من إهمال أمره والستخفاف بشرعه فقال‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب إتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما بالحرام من الميقات‪ ،‬وإن كان الحج ‪ 3‬تطوعا‬ ‫والعمرة غير واجبة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المكي وساكن الحرم إن حصرا بمرض ل يحل لهما التحلل بذبح الهدي بل عليهما أن يحمل‬ ‫على نعش ويوقف بهما بعرفة ويطاف بهما وهما على النعش‪.‬‬ ‫‪ 2‬ويجزئ اليوم كيلو رز أو بر أو تمر لكل مسكين ول يجوز إلقاء ذلك لحمام الحرم كما يفعل‬ ‫الجهال‪.‬‬ ‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ} ‪ ،‬وقوله‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا‬ ‫‪ 3‬لقول ال تعالى‪{ :‬وَأَ ِتمّوا ا ْلحَ ّ‬ ‫عمَاَلكُمْ} فمن شرع في عبادة يجب أن يتمها‪.‬‬ ‫ل وَل تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬ ‫الرّسُو َ‬

‫( ‪)1/177‬‬ ‫‪ -2‬بيان حكم الحصار ‪ ،1‬وهو ذبح شاة من مكان الحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير‪ ،‬ثم‬ ‫القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد‪ ،‬لن الرسول صلى ال عليه وسلم قضى هو وأصحابه العمرة‬ ‫التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان فدية الذى‪ :‬وهي أن من ارتكب محظورا من محظورات الحرام بأن حلق أو لبس‬ ‫مخيطا أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان حكم التمتع ‪ ،2‬وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في‬ ‫أشهر الحج وتحلل منها وبقي في مكة وحج من عامه أن عليه ذبح ‪ 3‬شاة فإن عجز صام ثلثة‬

‫أيام في مكة وسبعة في بلده‪.‬‬ ‫‪ -5‬المر بالتقوى وهي طاعة ال تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه‪ ،‬والتحذير من "تركها لما‬ ‫يترتب عليه من العقاب الشديد"‬ ‫ج َومَا َت ْفعَلُوا‬ ‫ق وَل جِدَالَ فِي الْحَ ّ‬ ‫ث وَل فُسُو َ‬ ‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ َفمَنْ فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ فَل َر َف َ‬ ‫{ا ْلحَجّ أَ ْ‬ ‫مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّ ُه وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ‪ 4‬الزّادِ ال ّت ْقوَى وَاتّقُونِ يَا أُولِي الَلْبَابِ(‪ )197‬لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ‬ ‫شعَرِ ا ْلحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ‬ ‫جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْلً مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِنْدَ ا ْلمَ ْ‬ ‫َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الواجب على المحصر أن يذبح هدي في الحرم وإن عجز ذبحه في مكان الحصار‪ ،‬وإن عجز‬ ‫ذبحه حيث أمكنه وإن لم يجده لفقر صام عشرة أيام بدله‪ ،‬والواجب أن ل يتحلل إل بعد نحر‬ ‫الهدي إن كان ذلك في مقدوره‪ ،‬هذا أوسط المذاهب في هذه المسألة الشائكة الكثيرة الراء‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل خلف في جواز الحرام بأي نسك من أنواع النسك الثلثة إل أن الفراد لمن يعتمر في غير‬ ‫أشهر الحج ويحج من عامه أفضلها‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاه الحصار أولً ل بد وأن تكون سليمة؛ كشاة الضحية في سنها وسلمتها من العور‬ ‫والعرج والهزال والمرض‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى البخاري عن ابن عباس قال‪" :‬كان أهل اليمن يحجون ول يتزودون ويقولون نحن‬ ‫المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل ال تعالى‪{ :‬وتزودوا‪ " }....‬الية‪ ،‬والزاد‪ :‬التمر‪،‬‬ ‫والسويق يومئذ وهو ما يتحاجه الحاج من سائر أنواع الزاد‪.‬‬

‫( ‪)1/178‬‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ(‪})199‬‬ ‫س وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫َلمِنَ الضّالّينَ(‪ُ )198‬ثمّ َأفِيضُوا مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّا ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ} ‪ :‬هي شوال والقعدة وعشر ‪ 1‬ليال من الحجة هذه هي الشهر التي يحرم فيها‬ ‫{َأ ْ‬ ‫بالحج‪.‬‬ ‫{فَ َرضَ} ‪ :‬نوى الحج وأحرم ‪ 2‬به‪.‬‬ ‫{فَل َر َفثَ} ‪ :‬الرفث‪ :‬الجماع ومقدماته‪.‬‬ ‫{وَل فُسُوقَ} ‪ :‬الفسق والفسوق‪ :‬الخروج عن طاعة ال بترك واجب أو فعل حرام‪.‬‬ ‫الجدال ‪ :‬المخاصمة والمنازعة‪.‬‬ ‫الجناح ‪ :‬الثم‪.‬‬ ‫{تَبْ َتغُوا َفضْلً} ‪ :‬تطلبوا ربحا في التجارة من الحج‪.‬‬

‫{َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ} ‪ :‬الفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب‬ ‫الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة‪.‬‬ ‫شعَرِ الْحَرَامِ} ‪ :‬مزدلفة وذكر ال تعالى عندها‪ :‬هو صلة المغرب والعشاء جمعا بها وصلة‬ ‫{ا ْلمَ ْ‬ ‫الصبح‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر ‪ 3‬معلومة وهي شوال‬ ‫والقعدة وعشر ليال من الحجة فل يحرم بالحج إل فيها‪ .‬وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن‬ ‫يتجنب الرفث والفسق ‪ 4‬والجدال ‪ 5‬حتى ل يفسد حجه أو ينقص أجره‪ ،‬وانتدب الجاج‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لو أحرم ليلة العاشر وهي ليلة العيد ووصل إلى عرفة ووقف بها قبل طلوع الفجر صح حجه‪.‬‬ ‫‪ 2‬يكره أن يحرم المسلم بالحج قبل أشهره‪ ،‬ولو أحرم صح إحرامه وعليه المضي فيه والفضل له‬ ‫أن يتحلل بعمرة وإن بقى على إفراده كره له ذلك‪ ،‬وصح منه‪ ،‬هذا أرجح المذاهب في هذه‬ ‫المسألة‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم يذكر أشهر الحج في الية بالتعيين وذلك للعلم بها ولبيان الرسول صلى ال عليه وسلم لها‪،‬‬ ‫وقال أشهر وهي شهران وعشر ليال من باب التغليب‪.‬‬ ‫‪ 4‬أنه بتجنب هذه الثلثة يكون حجه مبرور لقول الرسول صلى ال عليه وسلم في صحيح مسلم‪:‬‬ ‫"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه‪ ،‬الحج المبرور ليس له جزاء إل الجنة" ‪ .‬قالت‬ ‫العلماء‪ :‬الحج المبرور‪ :‬الذي لم يعص ال تعالى فيه وحف بفعل الخيرات‪.‬‬ ‫‪ 5‬الجدال‪ :‬مأخوذ من الجدال الذي هو الفتل للحبل ونحوه‪ ،‬فالمجادل يريد أن يفتل رأي من يجادله‬ ‫أي يثنيه عنه ويرده عليه‪.‬‬

‫( ‪)1/179‬‬ ‫إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال‪َ { :‬ومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ} ولزمه أنه يثيب عليه‬ ‫ويجزي به‪ .‬وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن‬ ‫السؤال فقال‪ :‬وتزودوا‪ ،‬وأرشد إلى خير الزاد‪ ،‬وهو التقوى‪ ،‬ومن التقوى عدم سؤال الناس‬ ‫أموالهم والعبد غير محتاج وأمرهم بتقواه عز وجل‪ ،‬أي بالخوف منه حتى ل يعصوه في أمره‬ ‫ونهيه فقال‪{ :‬وَا ّتقُونِ يَا أُولِي الَلْبَابِ} ‪ ،‬وال أحق أن يتقى؛ لنه الواحد القهار‪ ،‬ثم أباح لهم‬ ‫التجار أثناء وجودهم في مكة ومنى فقال‪{ :‬لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْلً مِنْ رَ ّبكُمْ} يريد‬ ‫رزقا حللً بطريق التجارة المباحة‪ ،‬ثم أمرهم بذكر ال تعالى في مزدلفة بصلة المغرب والعشاء‬ ‫والصبح فيها وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس فقال عز من قائل‪{ :‬فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ‬

‫شعَرِ ا ْلحَرَامِ} ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلل الذي كانوا‬ ‫‪ 1‬عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِنْدَ ا ْلمَ ْ‬ ‫فيه وانتدبهم إلى شكره وذلك بالكثار من ذكره فقال تعالى ‪ {:‬وَا ْذكُرُوهُ َكمَا َهدَاكُ ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ‬ ‫قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ} ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف بعرفة والفاضة منها فليقفوا كلهم بعرفات‪،‬‬ ‫وليفيضوا جميعا منها فقال عز وجل‪{ :‬ثُمّ َأفِيضُوا مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ} ‪ ،‬وذلك أن الحمس ‪2‬‬ ‫كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا الحطمة‪ .‬وأخيرا أمرهم باستغفار‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ} ‪.‬‬ ‫ال أي‪ :‬طلب المغفرة منه ووعدهم بالمغفرة بقوله‪{ :‬وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحرام‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحباب فعل الخيرات للحاج أثناء حجه ليعظم أجره ويبر حجه‪.‬‬ ‫‪ -3‬إباحة التجار والعمل للحاج طلبا للرزق على أن ل يحج لجل ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب ‪ 3‬المبيت بمزدلفة لذكر ال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجماع على أن من وقف بعرفة قبل الزوال وخرج منها قبل الزوال إنه ما حج‪ ،‬أما من وقف‬ ‫بعد الزوال وخرج قبل غروب الشمس فالجمهور على صحة حجه‪ ،‬وعليه ذبح شاه وقال مالك‪:‬‬ ‫يبطل حجه‪ .‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحمس‪ :‬جمع أحمس‪ ،‬من هو أشد تحمسا وحماسة لحماية الحرم وهم قريش ومن يمت إليهم‬ ‫بنسب وكانوا يقولون‪ :‬نحن أهل ال في بلدته‪ ،‬وقبطان بيته‪.‬‬ ‫‪ 3‬القول بركنية المبيت بمزدلفة قول شاذ ل يلتفت إليه‪ ،‬وأما الوجوب فمتأكد بالية والحديث‪،‬‬ ‫والخروج منها بعد النزول بها بعد نصف الليل للعجزة والضعفة جائر بإذن الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم كما هو ثابت في السنن‪.‬‬

‫( ‪)1/180‬‬ ‫‪ -5‬وجوب شكر ال تعالى بذكره وطاعته على هدايته وإنعامه‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب المساواة في أداء مناسك الحج بين سائر الحجاج فل يتميز بعضهم عن بعض في أي‬ ‫شعيرة من شعائر الحج‪.‬‬ ‫‪ -7‬الترغيب في الستغفار ‪ 1‬والكثار منه‪.‬‬ ‫س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ كَ ِذكْ ِر ُكمْ‪ 2‬آبَا َءكُمْ َأوْ أَشَدّ ِذكْرا َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي‬ ‫{فَإِذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ‬ ‫حسَنَةً‪َ 3‬وفِي الْآخِ َرةِ‬ ‫الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَلقٍ(‪َ )200‬ومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا َ‬ ‫حسَابِ(‪ )202‬وَا ْذكُرُوا‬ ‫حسَنَ ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ(‪ )201‬أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬ ‫َ‬

‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ َومَنْ تََأخّرَ فَل إِثْمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَى وَاتّقُوا‬ ‫اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ َتعَ ّ‬ ‫اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ(‪})203‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َقضَيْتُمْ} ‪ :‬أديتم وفرغتم منها‪.‬‬ ‫المناسك ‪ :‬جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة‪.‬‬ ‫الخلق ‪ :‬الحظ والنصيب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يسن الستغفار ثلثا بعد كل صلة فريضة لما صح عنه صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا سلم‬ ‫من صلته قال‪" :‬استغفر ال ثلثا " وسيد الستغفار هو‪" :‬اللهم أنت ربي ل إله إل أنت خلقتني‬ ‫وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبو لك بنعمتك علي‬ ‫وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت "‪.‬‬ ‫‪ 2‬الكاف‪ :‬في محل نصب‪ ،‬أي ذكرا كذكركم فهي بمعنى مثل‪ ،‬وأو هنا للضراب النتقالي‪ ،‬أي‬ ‫بل اذكروه ذكرا أشد من ذكركم آبائكم‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي عن علي رضي ال عنه إنه كان يقول‪" :‬حسنة الدنيا‪ :‬المرأة الصالحة‪ ،‬وحسنة الخرة‪:‬‬ ‫الحور العين‪ ،‬وقد ل يصح هذا عن علي‪ ،‬وما فسرنا به أعم وأشمل وأعظم‪.‬‬

‫( ‪)1/181‬‬ ‫{حَسَنَةً} ‪ :‬حسنة الدنيا‪ :‬كل ما يسر ول يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلل وحسنة‬ ‫الخرة النجاة من النار ودخول الجنان‪.‬‬ ‫{ َوقِنَا} ‪ :‬احفظنا ونجنا من عذاب النار‪.‬‬ ‫{ َنصِيبٌ} ‪ :‬حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح‪.‬‬ ‫اليام المعدودات ‪ : 1‬أيام التشريق الثلثة بعد يوم العيد‪.‬‬ ‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ} ‪ :‬رمى يوم الول والثاني وسافر‪.‬‬ ‫{ َتعَ ّ‬ ‫{ َومَنْ تَأَخّرَ} ‪ :‬رمى اليام الثلثة كلها‪.‬‬ ‫{فَل إِ ْثمَ} ‪ :‬أي ل ذنب في التعجل ول في التأخر‪.‬‬ ‫{ِلمَنِ ا ّتقَى} ‪ :‬للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه‪.‬‬ ‫{ ُتحْشَرُونَ} ‪ :‬تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بهذا اليات الربع انتهى الكلم على أحكام الحج‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )200‬يرشد تعالى المؤمنين‬ ‫إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الفاضة‪ ،‬واستقروا بمنى‬

‫للراحة والستجمام أن يكثروا من ذكر ال تعالى عند رمي الجمرات‪ ،‬وعند الخروج من الصلوات‬ ‫ذكرا مبالغا في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم ‪2‬‬ ‫وأحساب أجدادهم‪ .‬وبين تعالى حالهم وهي أن منهم من همه الدنيا فهو ل يسأل ال تعالى إل ما‬ ‫يهمه منها‪ ،‬وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية‪ ،‬وأن منهم من يسأل ال تعالى خير الدنيا‬ ‫والخرة‪ ،‬وهم المؤمنون الموحدون فيقولون‪{ :‬رَبّنَا آتِنَا فِي ‪ 3‬الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا‬ ‫عَذَابَ النّارِ} ‪ ،‬وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح‬ ‫النافع فلله الحمد والمنة‪ ،‬وفي الية(‪ )202‬يخبر تعالى أن لهل الدعاء الصالح وهم المؤمنون‬ ‫الموحدون نصيبا من الجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬اليام المعدودات‪ :‬أيام التشريق‪ ،‬واليام المعلومات‪:‬‬ ‫أيام العشر من أول الحجة‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال أهل العلم‪ :‬إن عادة العرب في الجاهلية إنهم إذا قضوا حجهم وقفوا عند الجمرات يفاخرون‬ ‫بآبائهم حتى أن الرجل ليقول اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل‬ ‫ما أعطيته‪ ،‬فل يذكر غير أبيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والخرة وفي الصحيحين أن أنس بن مالك‪ :‬قال‬ ‫كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪{ :‬ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الخرة‬ ‫حسنة وقنا عذاب النار} ‪.‬‬

‫( ‪)1/182‬‬ ‫وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة‪ ،‬وفي الية(‪ )203‬يأمر تعالى عباده‬ ‫الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين‪:‬‬ ‫ال أكبر ال أكبر ل إله إل ال‪ ،‬ال أكبر أل أكبر ول الحمد ثلث مرات إلى عصر اليوم الثالث‬ ‫في أيام التشريق ‪ 1‬ثم أخبرهم ال تعالى بأنه ل حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي‬ ‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَل‬ ‫اليوم الثاني‪ ،‬كما ل حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى‪َ { :‬فمَنْ َتعَ ّ‬ ‫علَيْهِ} فالمر على التخيير وقيد نفي الثم بتقواه عز وجل فمن ترك‬ ‫إِثْمَ‪ 2‬عَلَيْ ِه َومَنْ تََأخّرَ فَل إِثْمَ َ‬ ‫واجبا أو فعل محرما فإن عليه إثم معصيته ول يطهره منها إل التوبة ففي الثم مقيد بالتعجل‬ ‫ودعمه فقط‪ .‬فكان قوله تعالى لمن اتقى قيدا ً جميلً‪ ،‬ولذا أمرهم بتقواه عز وجل‪ ،‬ونبههم إلى‬ ‫مصيرهم الحتمي‪ ،‬وهو الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى‪ ،‬فليستعدوا لذلك بذكره وشكره والحرص‬ ‫على طاعته‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الذكر بمنى عند رمس الجمرات إذ يكبر مع كل حصاة قائلً‪ :‬ال أكبر‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضيلة الذكر ‪ 3‬والرغبة فيه؛ لنه من محاب ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة سؤال ال تعالى الخيرين وعدم القتصار على أحدهما‪ ،‬وشره القتصار على طلب‬ ‫الدنيا وحطامها‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة دعاء‪{ :‬رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَ ًة َوفِي الْآخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ} ‪ .‬فهي جامعة‬ ‫للخيرين معا‪ ،‬فكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب المبيت ثلث ليال بمنى ووجوب الحمرات إذ بها يتأتى ذكر ال في اليام المعدودات‪،‬‬ ‫وهي أيام التشريق‪.‬‬ ‫‪ -6‬الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني‪.‬‬ ‫‪ -7‬المر بتقوى ال وذكر الحشر والحساب والجزاء‪ ،‬إذ هذا الذكر يساعد على تقوى ال عز‬ ‫وجل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقد رخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق بل خلف‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل أن هذا التخيير ونفي الثم على المتعجل والمتأخر لجل الحاج المتقي لنه حذر متحرز من‬ ‫كل ما يريبه فرفع الثم حتى ل يبقى في نفسه ما يؤلمه من التقديم والتأخير وهو وجه حسن للية‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى أحمد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر ال"‪.‬‬ ‫وروى مسلم أيضا عنه صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تصوموا هذه اليام فإنها أيام أكل وشرب وذكر‬ ‫ال"‪.‬‬

‫( ‪)1/183‬‬ ‫خصَامِ(‪)204‬‬ ‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ‬ ‫{ َومِنَ النّاسِ مَنْ ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬ ‫حبّ ا ْلفَسَادَ(‪ )205‬وَإِذَا قِيلَ‬ ‫ل وَاللّ ُه ل ُي ِ‬ ‫سَ‬ ‫ث وَالنّ ْ‬ ‫سعَى فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ‬ ‫وَإِذَا َتوَلّى َ‬ ‫جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ(‪َ )206‬ومِنَ النّاسِ مَنْ َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ‬ ‫خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ فَحَسْ ُبهُ َ‬ ‫لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ‬ ‫مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ َرؤُوفٌ بِا ْلعِبَادِ(‪})207‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ُيعْجِ ُبكَ}‪ : 1‬يروق لك وتستحسنه‪.‬‬ ‫في الدنيا ‪ :‬إذا تحدث في أمور الدنيا‪.‬‬ ‫خصَامِ} ‪ :‬فوي الخصومة شديدها‪ ،‬لذلقة لسانه‪.‬‬ ‫{أََلدّ‪ 2‬الْ ِ‬ ‫{ َتوَلّى} ‪ :‬رجع وانصرف‪ ،‬أو كانت له ولية‪.‬‬

‫سلَ} ‪ :‬الحرث‪ :‬الزرع‪ ،‬والنسل‪ :‬الحيوان‪.‬‬ ‫{ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ‬ ‫{َأخَذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ‪ 3‬بِالِثْمِ} ‪ :‬أخذته الحمية والنف بذنوبه فهو ل يتقي ال‪.‬‬ ‫سهُ} ‪ :‬يبيع نفسه ل تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله‪.‬‬ ‫{يَشْرِي َنفْ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين‪ ،‬والمؤمنين الصادقين‪ ،‬فقال تعالى مخاطبا‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬ومن الناس رجل منافق يحسن القول‪ ،‬وإذا قال يعجبك قوله لما‬ ‫عليه من طلء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬العجاب‪ :‬إيجاد العجب في النفس‪ ،‬والعجب انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف‬ ‫خفي السبب‪.‬‬ ‫‪ 2‬اللد‪ :‬لغة العوج والمنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق‪ ،‬ول يستقيم وفي‬ ‫الحديث‪" :‬إذ خاصم فجر" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الخذ‪ :‬أخذ الشيء باليد‪ ،‬ويطلق ويراد به الستيلء على الشيء نحو‪{ :‬خذوهم واحصروهم} ‪،‬‬ ‫وأخذته الحمى والعزة‪ :‬حال نفسية يرى صاحبها أنه ل يمانع فيما يفعل ويريد‪ ،‬وبالثم‪ :‬الباء‬ ‫للمصاحبة‪ ،‬أي‪ :‬أخذته العزة مصاحبة للثم كائنة معه‪ ،‬وهو احتراز من العزة المصاحبة لما هو‬ ‫محمود من الفعال؛ كالغضب ل تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/184‬‬ ‫ورونق‪ ،‬وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا بخلف أمور الخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول‬ ‫فيها؛ لنه كافر‪ ،‬و عندما يحدث يشهد ال أنه يعتقد ما يقول‪ ،‬فيقول للرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫سعَى‬ ‫يعلم ال أني مؤمن وأني أحبك‪ ،‬ويشهد ال أني كذا‪ ...‬وإذا قام من مجلسك وانصرف عنك‪َ { :‬‬ ‫‪ 1‬فِي الَ ْرضِ} أي‪ :‬مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم فيمنع المطر‬ ‫وتيبس المحاصيل الزراعية‪ ،‬وتمحل الرض وتموت البهائم وينقطع النسل وعمله هذا مبغوض ل‬ ‫تعالى فل يحبه ول يحب فاعله‪ .‬كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أمر بمعروف أو نهى عن‬ ‫منكر فقيل له اتق ال ل تفعل كذا أو اترك كذا تأخذه النفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس‬ ‫بها فل يتقي ال ول يتوب إليه فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشا ل يبرح‬ ‫منها أبدا‪ ،‬ولبئس المهاد جهنم‪.‬‬ ‫كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق فيقول من الناس رجل مؤمن صادق اليمان باع نفسه وماله‬ ‫ل تعالى طلبا لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلم فقال تعالى‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ‬ ‫يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ َرؤُوفٌ بِا ْلعِبَادِ} رحيم بهم‪.‬‬

‫قيل‪ :‬أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه اليات الثلثة الولى‪ :‬هو الخنس ‪ 2‬بن‬ ‫شريق‪ ،‬وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الية الرابعة(‪ )207‬هو‪ :‬صهيب بن سنان‬ ‫الرومي أبو يحي‪ ،‬إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم وأصحابه قالوا‪ :‬لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد‪ ،‬فلن نسمح لك بالهجرة إل إذا أعطيتنا‬ ‫مالك كله‪ ،‬فأعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة‪ ،‬ورآه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫قال له‪ :‬ربح البيع أبا يحي ربح البيع‪ .‬واليات وإن نزلت في شأن الخنس وصهيب فإن العبرة‬ ‫بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬فالخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته‪ ،‬وصيب مثل الخير‬ ‫والكمال لكل من يتصف بصفاته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫سعَى َلهَا‬ ‫‪ 1‬السعي‪ :‬المشي الحثيث‪ ،‬ويطلق على الكسب والعمل‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ أَرَادَ الْآخِ َر َة وَ َ‬ ‫سعْ َيهَا} ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪ 2‬أن العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬فقد روى ابن كثير عن نوف البكالي قوله‪ :‬إن ل‬ ‫أجد صفة ناس من هذه المة في كتاب ال المنزل‪ ،‬قوم يحتالون على الدنيا ألسنتهم أحلى من‬ ‫العسل وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس نسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب‪ ،‬يقول ال‬ ‫تعالى‪" :‬عليّ يجترئون وبي يغترون حلفت بنفسي لبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران‪.‬‬ ‫وذكر‪{ :‬ومن الناس‪ }...‬الية‪.‬‬

‫( ‪)1/185‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التحذير من الغترار بفصاحة ‪ 1‬وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل اليمان والخلص‪.‬‬ ‫‪ -2‬شر الناس من يفسد في الرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فسادا وهلكا للناس والمواشي‪.‬‬ ‫‪ -3‬قول الرجل يعلم ال‪ ،‬ويشهد ال يعتبر يمينا فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه‬ ‫أنه كاذب‪.‬‬ ‫‪ -4‬إذا قيل للمؤمن اتق ال يجب عليه أن ل يغضب أو يكره من أمره بالتقوى بل عليه أن يعترف‬ ‫بذنبه ويستغفر ال تعالى ويقلع عن المعصية فورا‪.‬‬ ‫‪ -5‬الترغيب في الجهاد بالنفس ‪ 2‬والمال وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل ال تعالى‬ ‫ول بعد ذلك إسرافا ول تبذيرا إذ السراف والتبذير في النفاق في المعاصي والذنوب‪.‬‬ ‫ع ُدوّ مُبِينٌ(‪)208‬‬ ‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬ ‫خُ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّ ًة وَل تَتّ ِبعُوا ُ‬ ‫حكِيمٌ(‪َ )209‬هلْ يَ ْنظُرُونَ إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ‬ ‫فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫لمُورُ(‪})210‬‬ ‫ج ُع ا ُ‬ ‫لمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ‬ ‫ياَ‬ ‫اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَ ُة َو ُقضِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{السّلْم} ‪ :‬السلم ‪.3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يشهد له حديث الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أن من الشعر لحكمة وأن من البيان لسحرا" ‪.‬‬ ‫سهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ}‬ ‫‪ 2‬تأول عمر وعلي وابن عباس هذه الية‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْ َ‬ ‫فيمن يأمر أحدا بمعروف وينهاه عن منكر فتأخذه العزة بالثم فيقاتل الواعظ له‪ ،‬فيبيع ل الواعظ‬ ‫نفسه ويقاتله‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي أن حذيفة بن اليمان قال في هذه الية‪" :‬السلم ثمانية أسهم‪ :‬الصلة سهم‪ ،‬والزكاة سهم‪،‬‬ ‫والصوم سهم‪ ،‬والحج سهم‪ ،‬والعمرة سهم‪ ،‬والجهاد سهم‪ ،‬والمر بالمعروف سهم‪ ،‬والنهي عن‬ ‫المنكر‪ .‬وقد خاب من ل سهم له في السلم"‪.‬‬

‫( ‪)1/186‬‬ ‫{كَافّةً}‪ : 1‬جميعا ل يتخلف عن الدخول في السلم ‪ 2‬أحد‪ ،‬ول يترك من شرائعه ول من أحكامه‬ ‫شيء‪.‬‬ ‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ} ‪ :‬مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبح‪.‬‬ ‫{خُ ُ‬ ‫{فَإِنْ زَلَلْ ُتمْ} ‪ :‬وقعتم في الزلل ‪ 3‬وهو الفسق والمعاصي‪.‬‬ ‫{الْبَيّنَاتُ} ‪ :‬الحجج والبراهين‪.‬‬ ‫{ َهلْ يَ ْنظُرُونَ} ‪ :‬ما ينظرون‪ :‬الستفهام للنفي‪.‬‬ ‫الظلل ‪ :‬جمع ظلة‪ :‬ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما‪.‬‬ ‫{ا ْل َغمَامِ} ‪ :‬السحاب الرقيق البيض‪.‬‬ ‫معنى اليتبن‪:‬‬ ‫ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين آمرا إياهم الدخول في السلم دخولً شموليا‪ ،‬بحيث ل‬ ‫يتخيرون بين شرائعه وأحكامه ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به‪ ،‬وما لم يوافق ردوه‬ ‫أو تركوه وأهملوه‪ ،‬وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع السلم وأحكامه كافة‪ ،‬ونهاهم عن اتباع خطوات‬ ‫الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر‪ ،‬إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم‬ ‫السبت وتحريم أكل البل بحجة أن هذا من دين ال الذي كان عليه صلحاء بني إسرائيل فنزلت‬ ‫هذه الية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع السلم وأحكامه‪ ،‬وتحذرهم من‬ ‫عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلك التام وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للنسان‪ .‬هذا ما‬ ‫تضمنته الية(‪ ،)208‬أما الية الثانية(‪ )209‬فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله‬

‫الشيطان فقبل بعض شرائع السلم ولم يقبل البعض الخر‪ ،‬وقد عرف أن السلم حق‪ ،‬وشرائعه‬ ‫أحق فقال تعالى‪{ :‬فَإِنْ زَلَلْ ُتمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُكمُ الْبَيّنَاتُ} يحملها كتاب ال القرآن ويبينها رسول ال‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن ال سينتقم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كآفة‪ :‬اسم يفيد الحاطة بأجزاء ما وصف به‪ ،‬فقوله تعالى‪{ :‬ادْخُلُوا فِي السّ ْلمِ كَافّةً} ‪ ،‬أي‪ :‬حتى‬ ‫ل يبقى مشروع ما يعمل به أو ل يبقى فرد ل يدخل فيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في تحديد معنى السلم في الية‪ ،‬والراجح أنها بمعنى السلم ويكون الخطاب معنيا به‬ ‫بعض من آمن من أهل الكتاب وبقى متمسكا ببعض شرائع التوراة؛ كتحريم يوم السبت‪ ،‬وتحريم‬ ‫شرب لبن البل‪ ،‬أمروا بالدخول في السلم كافة‪ ،‬أي‪ :‬بقبول شرائعه كلها وترك شرائع غيره‬ ‫وتكون بمعنى الصلح وترك الحرب والتهارج ويكون الخطاب للمسلمين عامة بترك التهارج بينهم‬ ‫والتقاتل‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل الزلل‪ :‬الزلق‪ ،‬وهو اضطراب القدم وتحركها في الموضع المراد إثباتها فيه‪ ،‬والمراد هنا‬ ‫عدم الثبات على طاعة ال ورسوله بفعل المر وترك النهي بتزيين الشيطان ذلك للعبد حتى يقع‬ ‫في الضرر‪.‬‬

‫( ‪)1/187‬‬ ‫منكم؛ لنه تعالى غالب على أمره حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيد‪ ،‬وأما الية الثالثة(‪)210‬‬ ‫فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في السلم‪ ،‬إذ ل عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة‬ ‫وظهرت ولحت الحجة‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬هلْ يَ ْنظُرُونَ} أي‪ :‬ما ينظرون ‪{ 1‬إِل أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ‬ ‫مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَة}ُ وعند ذلك يؤمنون‪ ،‬ومثل هذا اليمان الضطراري ل ينفع حيث يكون‬ ‫لمْرُ} إذا جاء ال تعالى لفصل القضاء‬ ‫ياَ‬ ‫العذاب لزاما‪ .‬بقضاء ال العادل‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و ُقضِ َ‬ ‫وانتهى المر إليه فحكم وانتهى كل شيء‪ ،‬فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في‬ ‫السلم المعبر عنه بالسلم؛ لن الدخول فيه حقا سلم‪ ،‬والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقا حرب‬ ‫عليهم أن يدخلوا في السلم أل إلى السلم يا عباد ال! فإن السلم خير من الحرب!‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب ‪ 2‬قبول شرائع السلم كافة وحرمة التخير فيها‪.‬‬ ‫‪ -2‬ما من مستحل حراما‪ ،‬أو تارك واجبا إل وهو متبع للشيطان في ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئل يكون أمن من مكر ‪ 3‬ال‪.‬‬ ‫‪ -4‬إثبات صفة المجيء للرب تعالى‪ :‬لفصل القضاء يوم القيامة‪.‬‬

‫‪ -5‬حرمة التسويق والمماطلة في التوبة‪.‬‬ ‫شدِيدُ‬ ‫سلْ بَنِي إِسْرائيلَ َكمْ آتَيْنَا ُهمْ مِنْ آ َيةٍ بَيّنَ ٍة َومَنْ يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫{َ‬ ‫ا ْل ِعقَابِ(‪ )211‬زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُوا الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ ا ّتقَوْا َف ْو َقهُمْ َيوْمَ‬ ‫ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ(‪})212‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الكلم صالح لن يعود إلى من يعجب قوله ويقبح عمله في قوله تعالى‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ‬ ‫َقوْلُهُ ‪ }...‬الية‪ ،‬وصالح لن يعود إلى المترددين من أهل الكتاب لعدم خلوصهم في السلم كله‪،‬‬ ‫وصالح لن يكون عائدا إلى كل متردد في السلم غير صادق في الدخول فيه إلى يوم القيامة‪،‬‬ ‫وهذا من إعجاز القرآن‪ ،‬وكونه كتاب هداية للناس كافة وفي كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده قوله تعالى‪َ{ :‬أفَ ُت ْؤمِنُونَ بِ َب ْعضِ ا ْلكِتَابِ وَ َتكْفُرُونَ بِ َبعْض} الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذ حصول المن لزمه الستمرار على المعاصي وعدم التوبة‪ ،‬وال يقول‪َ{ :‬أفََأمِنُوا َمكْرَ اللّهِ‬ ‫فَل يَ ْأمَنُ َمكْرَ اللّهِ إِل ا ْل َقوْمُ ا ْلخَاسِرُونَ}‪.‬‬

‫( ‪)1/188‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سلْ} ‪ :‬إسأل‪ :‬سقطت منه الهمزتان للتخفيف‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{بَنِي إِسْرائيلَ} ‪ :‬ذرية يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وإسرائيل لقب يعقوب‪.‬‬ ‫{آيَةٍ} ‪ :‬خارقة للعادة؛ كعصا موسى تدل على أن من أعطاه ال تلك اليات هو رسول ال حقا‪.‬‬ ‫وآيات بني إسرائيل التي آتاهم ال تعالى منها فلق البحر لهم‪ ،‬وإنزال المن والسلوى في التيه‬ ‫عليهم‪.‬‬ ‫{ ِن ْعمَةَ‪ 1‬اللّهِ} ‪ :‬ما يهبه لعباده من خير يجلب له المسرة ويدفع عنه المضرة ونعم ال كثيرة‪.‬‬ ‫سخَرُونَ} ‪ :‬يحتقرون ويستهزئون‪.‬‬ ‫{َيَ ْ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يأمر ال تعالى رسوله أن يسأل بني إسرائيل عن اليات الكثيرة التي آتاهم ال‪ ،‬وكيف كفروا بها‬ ‫فلم تنفعهم شيئا‪ ،‬والمراد تسليته صلى ال عليه وسلم من اللم النفسي الذي يحصل له من عدم‬ ‫إيمان أهل الكتاب والمشركين به وبما جاء به من الهدى وضمن ذلك تقريع اليهود وتأنيبهم على‬ ‫كفرهم بآيات ال وإصرارهم على عدم الدخول في السلم‪ .‬ثم أخبر تعالى أن من يبدل نعمة ال‬ ‫التي هي السلم بالكفر به ونبيه محمد صلى ال عليه وسلم فإن عقوبة ال تعالى تنزل به ل‬ ‫محالة في الدنيا أو في الخرة لن ال شديد العقاب ‪.2‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)211‬وأما الية الثانية(‪ )212‬فقد أخبر تعالى أن الشيطان زين للذين‬

‫كفروا بال ورسوله وشرائعه الحياة الدنيا فرغبوا فيها وعملوا لها وأصبحوا لم يروا غيرها‪،‬‬ ‫ولذلك سخروا من المؤمنين الزاهدين فيها لعلمهم بزوالها وقلة نفعها فلم يكرسوا كل جهدهم‬ ‫لجمعها والحصول عليها بل أقبلوا على طاعة ربهم وأنفقوا ما في أيدهم في سبيل ال طلبا لرضاه‪.‬‬ ‫كما أخبر أن المؤمنين المتقين سيجازيهم يوم القيامة خير الجزاء وأوفره فيسكنهم دار السلم في‬ ‫عليين‪ ،‬ويخزي أعدائهم الساخرين منهم ويهينهم فيسكنهم الدرك السفل من النار‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فسرت نعمة ال هنا‪ :‬بالسلم‪ ،‬وهو كذلك فإن السلم أكبر نعمة لما يجلبه من السعادة والكمال‬ ‫وما يدفعه من العقاب في الدارين‪.‬‬ ‫‪ 2‬جملة‪{ :‬أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ} خبرية متضمنة للوعيد ذيل بها الكلم‪ ،‬والعقاب من العقب كأن‬ ‫المعاقب يمشي بالمجازاة في أثار عقبه ليجزيه به‪.‬‬

‫( ‪)1/189‬‬ ‫وهو تعالى المتفضل ذو الحسان إذا رزق يرزق بغير ‪ 1‬حساب وذلك لواسع فضله وعظيم ما‬ ‫عنده‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫جلّ النعم؛‬ ‫‪ -1‬التحذير من كفر النعم لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب ومن أ َ‬ ‫نعمة السلم‪ ،‬فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لشد العقوبات وأقساها وما حل ببني‬ ‫إسرائيل من ألوان الهون والدون دهرا طويلً شاهد قوي وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن‬ ‫السلم واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضا‪.‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها نسيان الدار الخرة وترك العمل لها‪.‬‬ ‫فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الخرة‪ ،‬ولكن أبناء الخرة أهل اليمان والتقوى يكونون‬ ‫يوم القيامة فوقهم درجات إذ هم في أعالي الجنان والخرون في أسافل النيران‪.‬‬ ‫حكُمَ بَيْنَ‬ ‫ن وَأَنْ َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِيَ ْ‬ ‫ن َومُنْذِرِي َ‬ ‫ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُ َبشّرِي َ‬ ‫{كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬ ‫النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِل الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيا بَيْ َنهُمْ َفهَدَى‬ ‫اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ(‪})213‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية‪ :‬ترغيب في طلب فضل ال تعالى وفي الحديث الصحيح‪ " :‬يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" ‪،‬‬ ‫شيْءٍ َف ُهوَ ُيخِْلفُهُ} ‪ ،‬وفي الصحيح أيضا‪" :‬يقول ابن آدم‪ :‬مالي مالي‪،‬‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ومَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َ‬

‫وهل لك من مالك إل ما أكلت فأفنيت‪ ،‬وما لبست فأبليت‪ ،‬وما تصدقت فأبقيت‪ ،‬وما سوى ذلك‬ ‫فذاهب وتاركه للناس" ‪.‬‬

‫( ‪)1/190‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كَانَ النّاسُ‪ُ 1‬أمّ ًة وَاحِ َدةً} ‪ :‬كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة ‪ 2‬واحدة على السلم والتوحيد وذلك‬ ‫قبل قوم نوح‪.‬‬ ‫{النّبِيّينَ} ‪ :‬جمع نبي والمراد بهم الرسل إذ كل نبي ‪ 3‬رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة‬ ‫والنذارة والمستمدة من كتب ال تعالى المنزلة عليهم‪.‬‬ ‫{ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬اسم جنس يدخل فيه كل الكتب اللهية‪.‬‬ ‫{أُوتُوهُ} ‪ :‬أعطوه‪.‬‬ ‫{الْبَيّنَاتُ} ‪ :‬الحجج والبراهين تحملها الرسل إليهم وتورثها فيهم شرائع وأحكاما وهدايات عامة‪.‬‬ ‫{ َبغْيا}‪ : 4‬البغي‪ :‬الظلم والحسد‪.‬‬ ‫الصراط المستقيم ‪ :‬السلم المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال في الحياتين‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أن الناس ‪ 5‬كانوا ما بين آدم ونوح عليهما السلم في فترة طويلة أمة واحدة على دين‬ ‫السلم لم يعبد بينهم إل ال تعالى حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير ال تعالى فكان الشرك‬ ‫والضلل فبعث ال تعالى لهدايتهم نوحا عليه السلم فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك‪،‬‬ ‫وتوالت الرسل تحمل كتب ال تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه‪ .‬ثم أخبر‬ ‫تعالى عن سننه في الناس وهي أن الذين يختلفون في الكتاب‪ ،‬أي فيما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي الذين كانوا على الدين الحق وهم عشرة قرون من آدم إلى أن حدث فيهم الشرك‪ ،‬فبعث ال‬ ‫تعالى فيهم عبده الشكور نوحا عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬لفظ‪ :‬المة‪ :‬مأخوذ من أممت كذا إذا قصدته‪ ،‬فسميت الجماعة مقدصهم واحد أمة‪ ،‬وقد يطلق‬ ‫على الواحد أمة‪ ،‬إذ كان مقصده واحدا على خلف غيره‪ ،‬ومنه قول الرسول صلى ال عيه وسلم‬ ‫في قس بن ساعدة‪" :‬يحشر يوم القيامة أمة وحده"‪.‬‬ ‫‪ 3‬عدد النبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي‪ ،‬والرسل منهم‪ :‬ثلثمائة وثلثة عشر‪ ،‬هذا قول‬ ‫جمهور أهل السنة والجماعة‪ ،‬والرسل المذكورون بالسم العلم في القرآن‪ :‬خمسة وعشرون‬ ‫رسولً‪ ،‬وأول النبياء‪ :‬آدم‪ ،‬وأول الرسل‪ :‬نوح‪ ،‬وخاتم الرسل والنبياء محمد صلى ال عليهم‬ ‫وسلم أجمعين‪.‬‬

‫‪ 4‬منصوب على المفعول لجله‪ ،‬أي‪ :‬لم يختلفوا إل للبغي الذي هو الظلم الذي صار طبعا لهم‬ ‫لكثرة ممارستهم له والحسد الذي مل قلوبهم فأكلها أو كاد والعياذ بال‪.‬‬ ‫‪ 5‬لفظ‪ :‬الناس‪ :‬اسم جمع ليس له مفرد من لفظه‪ ،‬وإنما واحده من غير لفظه‪ ،‬وهو انسان‪ ،‬وآل فيه‬ ‫للستغراق‪ ،‬أي‪ :‬جميع أفراده‪ ،‬أي‪ :‬البشر كلهم‪.‬‬

‫( ‪)1/191‬‬ ‫يحويه من الشرائع والحكام هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات فهؤلء يحملهم الحسد وحب‬ ‫الرئاسة‪ ،‬والبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب‪ ،‬واليهود هم المثل لهذه السنة‪،‬‬ ‫فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم ال تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العابدين من أنبيائهم ورسلهم‬ ‫واختلفوا في كثير من الشرائع والحكام‪ ،‬وكان الحامل لهم على ذلك البغي والحسد‪ .‬والعياذ بال‪.‬‬ ‫وهدى ال تعالى أمة محمد صلى ال عليه وسلم لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى‪،‬‬ ‫فقال تعالى‪َ { :‬فهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ‪ }1‬لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق هداهم {بإذنه ‪}2‬‬ ‫ولطفه وتوفيقه‪ ،‬فله الحمد وله المنة‪ .‬ومن ذلك الحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا‬ ‫ال تعالى إليه‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليمان بعيسى عبد ال ورسوله حيث كفر بن اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله؟‬ ‫وألّهه النصارى‪ ،‬وجعلوه إلها مع ال‪ ،‬وقالوا فيه‪ :‬إنه ابن ال‪ .‬تعالى ال عن الصاحبة والولد‪.‬‬ ‫‪ -2‬يوم الجمعة وهو أفضل اليام‪ .‬أخذ اليهود السبت‪ ،‬والنصارى الحد‪ ،‬وهدى ال تعالى إليه أمة‬ ‫السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬القبلة قبلة أبي النبياء إبراهيم استقبل اليهود بيت المقدس‪ ،‬واستقبل النصارى مطلع الشمس‪،‬‬ ‫وهدى ال أمة السلم إلى استقبال البيت العتيق؛ قبلة إبراهيم عليه السلم‪ .‬وال يهدي من شاء‬ ‫إلى صراط مستقيم‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬الصل هو التوحيد‪ ،‬والشرك طارئ على البشرية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي من أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم المسلمون هداهم لليمان بكل الكتب وسائر الرسل‬ ‫ونجاهم مما اختلف فيه من قبلهم‪ ،‬والحمد ل‪.‬‬ ‫‪ 2‬الذن‪ :‬الخطاب بإباحة الشيء‪ ،‬وهو مشتق من فعل أذن إذا أصغى إذنه يستمع إلى كلم من‬ ‫يكلمه ثم أطلق على الخطاب بالباحة مطلقا‪.‬‬

‫( ‪)1/192‬‬ ‫‪ -2‬الصل في مهمة الرسل البشارة ‪ 1‬لمن آمن واتقى؟ والنذارة لمن كفر وفجر‪ ،‬وقد يشرع لهم‬ ‫قتال من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬من علمات خذلن المة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها‪ ،‬فيحرفون‬ ‫كلم ال ويبدلون شرائعه طلبا للرئاسة وجريا وراء الهواء والعصبيات‪ ،‬وهذا الذي تعاني منه‬ ‫أمة السلم اليوم وقبل اليوم‪ ،‬وكان سبب دمار بني إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ -4‬أمة السلم التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى‪:‬‬ ‫حقّ‪ 2‬بِِإذْنِهِ} ‪.‬‬ ‫{ َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ الْ َ‬ ‫‪ -5‬الهداية بيد ال فليطلب العبد دائما الهداية من ال تعالى بسؤاله المتكرر أن يهديه دائما إلى‬ ‫الحق ‪.3‬‬ ‫حسِبْتُمْ‪ 4‬أَنْ َتدْخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْل ُكمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا‬ ‫{َأمْ َ‬ ‫ل وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ(‪})214‬‬ ‫حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حسِبْتُمْ} ‪ :‬أظننتم – أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة‪ ،‬والستفهام إنكاري ينكر عليهم ظنهم‬ ‫{َأمْ َ‬ ‫هذا لنه غير واقع موقعه‪.‬‬ ‫{وََلمّا} ‪ :‬بمعنى لم النافية‪.‬‬ ‫{مَ َثلُ} ‪ :‬صفة وحال الذين من قبلكم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البشارة‪ :‬العلم بخير حصل أو سيحصل للمبشر به‪ ،‬والنذارة‪ :‬إعلم بشر أو ضر حصل أو‬ ‫سيحصل لمن أنذر به‪ ،‬والبشارة‪ :‬وعد‪ ،‬والنذارة‪ :‬وعيد‪.‬‬ ‫‪ 2‬في صحيح مسلم عن عائشة رضي ال عنها‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كان إذا قام من‬ ‫الليل يصلي يقول‪" :‬اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والرض عالم الغيب‬ ‫والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك‬ ‫تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"‪ .‬والتوسل بهذا الدعاء نافع للخروج من ظلمة الختلف‪.‬‬ ‫‪ 3‬ومن الدعاء المأثور في ذلك‪ :‬اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل وارزقنا اجتنابه‬ ‫ول تجعله ملتبسا علينا فنضل‪ ،‬واجعلنا للمتقين إماما‪.‬‬ ‫‪ 4‬في الية إشارة إلى مثل قول القائل‪" :‬على قدر أهل العزم تأتي العزائم‪ ،‬ومن طلب العل سهر‬ ‫الليالي‪ ،‬ومن يخطب الحسناء فل يغله المهر"‪.‬‬

‫( ‪)1/193‬‬

‫{الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّاءُ} ‪ :‬البأساء‪ :‬الشدة‪ ،‬من الحاجة وغيرها والضراء‪ :‬المرض والجراحات والقتل‪.‬‬ ‫{مَتَى َنصْرُ اللّهِ} ‪ :‬الستفهام للستبطاء‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ينكر تعالى على المؤمنين ‪ ،1‬وهم في أيام شدة ولواء ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان‬ ‫وابتلء في النفس والمال بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء ‪ 2‬والضراء والزلزال وهو‬ ‫الضطراب والقلق من الهوال حتى يقول الرسول والمؤمنون معه – استبطاءا للنصر الذي‬ ‫وُعدوا به‪ :‬متى نصر ال؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله‪{ :‬أَل إِنّ َنصْرَ‪ 3‬اللّهِ قَرِيبٌ}‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬البتلء بالتكاليف الشرعية‪ ،‬ومنها الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬الترغيب في التساء بالصالحين والقتداء بهم في العمل والصبر‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز العراض البشرية على الرسل كالقلق والستبطاء للوعد اللهي انتظارا له‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان ما أصاب الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه من شدة وبلء أيام الجهاد وحصار‬ ‫المشركين لهم‪.‬‬ ‫ن وَابْنِ السّبِيلِ‬ ‫لقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬ ‫ن وَا َ‬ ‫{يَسْأَلو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ ُقلْ مَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَالِدَيْ ِ‬ ‫َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ(‪})215‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ما من شك في أن المؤمنين وعلى رأسهم وقائدهم وإمامهم ورسولهم محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫قد مستهم البأساء والضراء في ظروف مختلفة منها‪ :‬هجرتهم وحروبهم في بدر وأحد والخندق‬ ‫وغيرها‪ ،‬والية تعنى كل ذلك وهو من مقتضيات النزول لهذه الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬وعن السلف تفسير البأساء بالفقر‪ ،‬والضراء بالنقم‪ ،‬والزلزل بالخوف من العداء‪ ،‬إذ الخوف‬ ‫يحدث اضطراب النفس وحركة العضاء‪.‬‬ ‫‪ 3‬وفي هذا المعنى حديث أبي رزين‪" :‬عجب ربك من قنوت عباده وقرب غيثه فينظر إليهم‬ ‫قانطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب" وحديث صحيح‪" :‬وال ليتمن ال هذا المر حتى يسير‬ ‫الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخاف إل ال والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون" ‪.‬‬

‫( ‪)1/194‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مِنْ خَيْرٍ} ‪ :‬من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير‪.‬‬

‫القربين ‪ :‬كالخوة والخوات وأولدهم‪ ،‬والعمام والعمات وأولدهم والخوال والخالت‬ ‫وأولدهم‪.‬‬ ‫{ َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ‪ : }1‬ما شرطية‪ ،‬ومن‪ :‬نيابية والخير هنا لسائر أنواع البر والحسان‪.‬‬ ‫علِيمٌ} ‪ :‬الجملة علة لجواب الشرط المحذوف والمقدر يثبكم عليه‪.‬‬ ‫{فَإِنّ اللّهَ بِهِ َ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫سال عمر و بن الجموح وكان ذا مال‪ .‬سأل ‪ 2‬رسول ال صلى ال علية وسلم‪ ،‬مادا ينفق وعلى‬ ‫من ينفق؟‪ .‬فنزلت الية جوابا لسؤاله‪ ،‬فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الحق‬ ‫بالنفاق عليهم هم الوالدان ‪ ،3‬والقربون‪ ،‬واليتامى‪ ،‬والمساكين‪ ،‬وابن السبيل‪ .‬وأعلمهم تعالى أن‬ ‫ما يفعله العبد من خير يعلمه ال تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير مطلقا‪.‬‬ ‫هداية ألية الكريمة‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬سؤال من ل يعلم حتى يعلم‪ ،‬و هذا طريق العلم‪ ،‬ولذا قالوا‪" :‬السؤال نصف العلم"‪.‬‬ ‫‪ -2‬أفضلية النفاق على المذكورين ‪ 4‬في الية إن كان المنفق غنيا وهم فقراء محتاجون‪.‬‬ ‫‪ -3‬الترغيب في فعل الخير والوعد من ال تعالى بالجزاء الوفى عليه‪.‬‬ ‫ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا‬ ‫{كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية في نفقة التطوع وقوله‪{ :‬من خير} إشارة إلى أن ما ينفق يجب أن يكون طيبا ل خبيثا‪ ،‬إذ‬ ‫لفظ الخير يدل على ذلك ويرمز له‪{ :‬من خير}‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقيل الية نزلت فيمن سألوا من المسلمين عن الوجوه التي ينفقون فيها فأجابهم ال تعالى مبينا‬ ‫لهم ذلك‪ ،‬وما ذهبنا إليه أن السائل عمرو بن الجموح وسؤاله عما ينفق من أنواع المال‪ ،‬وفيما‬ ‫ينفق أولى وألصق‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث صحيح في بيان من أحق بالنفاق عليه‪" :‬أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك" أي‪:‬‬ ‫القرب إليك فالقرب‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى أن ميمون بن مهران تل هذه الية‪َ { :‬يسْأَلو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ‪ }...‬الية‪ ،‬وقال‪ :‬هذا مواضع‬ ‫ل ول مزمارا ول تصاوير الخشب ول كسوة الحيطان‪.‬‬ ‫النفقة ما ذكر فيها طب ً‬

‫( ‪)1/195‬‬ ‫شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ ُتحِبّوا شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ َل ُك ْم وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ(‪})216‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كُتِب}َ ‪ :‬فرض فرضا مؤكدا حتى لكأنه مكتوب كتابة‪.‬‬

‫{ا ْلقِتَالُ} ‪ :‬قال الكافرون بجهادهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية‪.‬‬ ‫{كُ ْرهٌ} ‪ :‬مكروه في نفوسكم طبعا‪.‬‬ ‫َعَسَى ‪ :‬هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه مرجو الحصول متوقع ل على‬ ‫سبيل الجزم‪ ،‬إل أنها إن كانت من ال تعالى تفيد اليقين‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال ‪ 1‬المشركين والكافرين وهم يعلم أنه‬ ‫مكروه لهم بطبعهم لما فيه من اللم والتعاب وإضاعة المال والنفس‪ ،‬وأخبرهم أن ما يكرهونه‬ ‫قد يكون خيرا‪ ،‬وأن ما يحبونه قد يكون شرا‪ ،2‬ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما‬ ‫فيه من عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الخرة‪ ،‬كما أن‬ ‫ترك الجهاد محبوب لهم وهو شر لهم؛ لنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم‪ ،‬وانتهاك‬ ‫حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الخرة‪ .‬وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لشياء‬ ‫وهي شر لهم وكراهيتهم لشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم ال به قبل خلقه‪ ،‬وال يعلم وهم‬ ‫ل يعلمون فيجب التسليم ل تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه‬ ‫خير ل شر فيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئت الية‪{ :‬وكتب عليكم القتل} وقراءة القتال أشهر وأظهر‪ ،‬والفرق بين القتل والقتال ظاهر‪،‬‬ ‫وجاء كل اللفظين في قول عمرو بن ربيعة‪:‬‬ ‫كتب القتل والقتال علينا ‪ ...‬وعلى الغانيات جر الذيول‬ ‫‪ 2‬قال القرطبي‪ :‬كما اتفق في بلد الندلس تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار‬ ‫فاستولى العدو على البلد وأسر وقتل وسب واسترق فإن ل وإنا إليه راجعون‪ .‬ذلك بما قدمت‬ ‫أيدينا وكسبته‪ ،‬وأنشد لبي سعيد الضرير قوله شاهدا لمعنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫رب امرء تتقيه ‪ ...‬جر أمرا ترتضيه‬ ‫خفي المحبوب منه ‪...‬‬ ‫وبدا المكروه فيه‬

‫( ‪)1/196‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الجهاد على أمة السلم ما بقيت فتنة في الرض وشرك فيها‪.‬‬ ‫‪ -2‬جهل النسان بالعواقب يجعله يحب المكروه‪ ،‬ويكره المحبوب‪.‬‬

‫‪ -3‬أوامر ال كلها خير‪ ،‬ونواهيه ‪ 1‬كلها شر‪ .‬فلذا يجب فعل أوامره واجتناب نواهيه‪.‬‬ ‫سجِدِ‬ ‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َو ُكفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ‬ ‫{يَسْأَلو َنكَ عَنِ ال ّ‬ ‫الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَل يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَرُدّوكُمْ‬ ‫عمَاُلهُمْ فِي‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ‬ ‫الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‪ )217‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ(‪})218‬‬ ‫ح َمتَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬ ‫وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ‪ :‬أي المحرم‪ :‬قتال بدل اشتمال من الحرام‪ ،‬إذ السؤال عن القتال في الشهر‬ ‫الحرام (رجب)‪.‬‬ ‫{كَبِيرٌ} ‪ :‬أي ذنب عظيم‪.‬‬ ‫{ َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ} ‪ :‬صرف عن دين ال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالوامر‪ :‬ما أمر ال تعالى به في كتابه وعلى لسان رسوله من المعتقدات والعبادات‬ ‫والحكام‪ ،‬ومن النواهي ما نهى ال عنه في كتابه وعلى لسانه رسوله من المعتقدات الباطلة‬ ‫والعبادات المبتدعة والحكام الفاسدة‪.‬‬

‫( ‪)1/197‬‬ ‫{ َو ُكفْرٌ ِبهِ} ‪ :‬كفر بال تعالى‪.‬‬ ‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ} ‪ :‬مكة والمسجد الحرام فيها‪.‬‬ ‫{وَا ْلمَ ْ‬ ‫{أَ ْهلِهِ} ‪ :‬النبي صلى ال عليه وسلم والمهاجرون‪.‬‬ ‫{َأكْبَرُ} ‪ :‬أعظم وزرا‪.‬‬ ‫{وَا ْلفِتْنَةُ} ‪ :‬الشرك واضطهاد المؤمنين ليكفروا‪.‬‬ ‫عمَاُلهُمْ‪ : }1‬بطل أجرها فل يثابون عليها لردتهم‪.‬‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫{حَبِ َ‬ ‫{هَاجَرُوا} ‪ :‬تركوا ديارهم خوف الفتنة والضطهاد في ذات ال‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صلى ال عليه وسلم سرية بقيادة عبد‬ ‫ال بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار‪ .‬فشاء ال تعالى أن يلقى عبد ال ورجاله‬ ‫عيرا لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم رجلً يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين وأخذوا العير‬ ‫وقفلوا راجعين وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية‪ ،‬وهي أول ليلة من رجب‪ .‬فثارت ثائرة‬ ‫قريش وقالت‪ :‬محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه‪ ،‬وردد صوتها اليهود‪ ،‬والمنافقون بالمدينة حتى‬

‫أن الرسول صلى ال عليه وسلم وقف العير والسيرين ولم يقض فيهما بشيء‪ ،‬وتعرض عبد ال‬ ‫بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس‪ ،‬وما زال المر كذلك حتى أنزل ال تعالى‬ ‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ‪ 2‬قِتَالٍ فِيهِ} أي‪ :‬عن القتال فيه‪ ،‬أجبهم يا رسولنا وقل‬ ‫هاتين اليتين { َيسْأَلو َنكَ عَنِ ال ّ‬ ‫لهم القتال فيه وزر كبير بيد أن الصد عن دين ال والكفر به تعالى‪ ،‬وكذا الصد عن المسجد‬ ‫الحرام‪ ،‬وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولته بحق أعظم وزرا في حكم ال تعالى‪،‬‬ ‫كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لرجاعهم عنه دينهم الحق إلى الكفر بشتى‬ ‫أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام‪ .‬مضافا إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين‬ ‫إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا‪ .‬ثم أخبر تعالى المؤمنين محذرا إياهم من الرتداد مهما‬ ‫كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافرا فإن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إن وفاهم الموت على ذلك أما إن تابوا وماتوا على السلم ففي إثباتهم على أعمالهم قبل الردة‬ ‫خلف انظره على الصفحة التالية تحت رقم ‪.1‬‬ ‫‪ 2‬هذا كان قبيل نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام‪.‬‬

‫( ‪)1/198‬‬ ‫أعماله الصالحة كلها ‪ 1‬تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبدا‪ .‬هذا ما تضمنته الية‬ ‫الولى‪ ،‬أما الية الثانية(‪{ )218‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا ‪ }2‬فقد نزلت في عبد ال بن جحش‬ ‫وأصحابه طمأنهم ال تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس‬ ‫بذلك‪ ،‬وأنه يرجون رحمة ال أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم‪ ،‬وذلك ليمانهم‬ ‫وهجرتهم وجهادهم في سبيل ال‪ ،‬وقال تعالى فيهم‪{ :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ}‬ ‫ح َمتَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬ ‫سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَ ْرجُونَ‪َ 3‬ر ْ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام‪.‬‬ ‫‪ -2‬نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صلى ال عليه وسلم هوازن وثقيف في‬ ‫شوال وأول القعدة وهما في الشهر الحرم‪.‬‬ ‫‪ -3‬الكشف عن نفسية الكافرين وهي عزمهم الدائم على قتال المسلمين إلى أن يردوهم عن‬ ‫السلم ويخرجوهم منه‪.‬‬ ‫‪ -4‬الردة ‪ 4‬محبطة للعمل فإن تاب المرتد ‪ 5‬يستأنف العمل من جديد‪ ،‬وإن مات قبل التوبة فهو‬ ‫من أهل النار الخالدين فيها أبدا‪.‬‬

‫‪ -5‬بيان فضل اليمان والهجرة والجهاد في سبيل ال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬على هذا مالك وأبو حنيفة خلفا للشافعي إذ يرى رحمه ال تعالى أن من ارتدد ثم تاب يعود‬ ‫إليه كل عمل صالح عمله قبل الردة فل يعيد الحج إذا حج‪ ،‬والراجح ما قررناه في التفسير إذ أقل‬ ‫ما يقال عليه إعادة الحج طمعا في مغفرة ذنوبه وعدم مؤاخذاته‪ ،‬أما من مات كافرا فالجماع على‬ ‫عمَُلكَ} الية‪ ،‬وحمله الشافعي‬ ‫خلوده في النار‪ ،‬ودليل الجمهور قوله تعالى‪{ :‬لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَ َيحْبَطَنّ َ‬ ‫على أنه مطلق مقيد بآية الموت على الكفر فما دام لم يمت كافرا فإن أعماله قبل الردة ل تبطل‪،‬‬ ‫وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬نقل فعل هجر الشيء إذا تركه إلى هاجر‪ ،‬وهي صيغة المفاعلة إما أنه للمبالغة في الترك كما‬ ‫قيل عافاك ال‪ ،‬والمعافي واحد وهو ال تعالى‪ ،‬وأما لنه ترك شيئا عن عداوة ول تكون إل بين‬ ‫اثنين‪ ،‬فقيل‪ :‬هاجر‪ ،‬والمكان المهاجر منه يقال له‪ :‬مهاجر‪.‬‬ ‫‪ 3‬الرجاء‪ :‬ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله‪.‬‬ ‫‪ 4‬اختلف في المرتد هل يستتاب أو يقتل بالردة فورا والجمهور على أنه يستتاب أولً فإن أصر‬ ‫قتل ومالك يرى أن من سب النبي صلى ال عليه وسلم ل يستتاب ويقتل واستشهد بالمرأة التي‬ ‫قتلت خادمها بسب النبي صلى ال عليه وسلم وأخبرت الرسول صلى ال عليه وسلم فلم ينكر‬ ‫عليها‪ ،‬وكذلك الزنديق يقتل ول يستتاب‪.‬‬ ‫‪ 5‬الصل في قتل المرتد حديث صحيح‪" :‬من بدل دينه فاقتلوه" واختلف في قتل المرأة إذا ارتددت‬ ‫الجمهور إنها ل تقتل لنهي النبي صلى ال عليه وسلم عن قتل النساء والطفال في الحرب‪.‬‬

‫( ‪)1/199‬‬ ‫س وَإِ ْث ُمهُمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْف ِع ِهمَا وَيَسْأَلو َنكَ‬ ‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬ ‫{يَسْأَلو َنكَ عَنِ الْ َ‬ ‫مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُك ُم الياتِ َلعَّل ُكمْ تَ َت َفكّرُونَ(‪ )219‬فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ وَيَسْأَلو َنكَ‬ ‫ح وََلوْ شَاءَ‬ ‫سدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ‬ ‫خوَا ُنكُمْ وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْلمُفْ ِ‬ ‫عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلحٌ َل ُهمْ خَيْ ٌر وَإِنْ ُتخَالِطُو ُهمْ فَإِ ْ‬ ‫حكِيمٌ(‪})220‬‬ ‫اللّهُ لعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫خمْرِ‪ : }1‬كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه ل يميز ول يعقل‪ ،‬ويطلق لفظ الخمر على‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها‪.‬‬ ‫الميسر ‪ : 2‬القمار‪ ،‬وسمي ميسرا؛ لن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة‪.‬‬ ‫الثم ‪ : 3‬كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض‪.‬‬ ‫المنافع ‪ : 4‬جمع منفعة‪ ،‬وهي ما يسر ول يضر من سائر القوال والفعال والمواد‪.‬‬

‫{ا ْل َع ْفوَ} ‪ :‬العفو هنا‪ :‬ما فضل وزاد عن حاجة النسان من المال‪.‬‬ ‫{تَ َت َفكّرُونَ} ‪ :‬فتعرفون ما ينفع في كل منهما فتعلمون لدنياكم ما يصلحها‪ ،‬وتعملون لخرتكم ما‬ ‫يسعدكم فيها‪ ،‬وينجيكم من عذابها‪.‬‬ ‫{ ُتخَالِطُو ُهمْ} ‪ :‬تخلطون مالهم مع مالكم ليكون سواء‪.‬‬ ‫{لعْنَ َتكُمْ} ‪ :‬العنت‪ :‬المشقة الشديدة‪ ،‬يقال‪ :‬أعنته إذا كلفه مشقة شديدة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخمر‪ :‬مأخوذ من خمر الشيء إذا ستره وغطاه‪ ،‬ومنه خمار المرأة التي يغطي رأسها‪ ،‬وفي‬ ‫الحديث‪" :‬خمروا الناء" أي‪ :‬غطوه‪ ،‬والخمر تطلق أساسا على ماء العنب إذا على أو طبخ ثم‬ ‫أطلقت على كل ما خمر العقل وغطاه من سائر المسكرات‪.‬‬ ‫‪ 2‬الميسر‪ :‬مأخوذ من اليسر‪ ،‬وهو‪ :‬وجوب الشيء لصاحبه‪ ،‬يقال‪ :‬يسر لي كذا‪ ،‬إذا وجب شرط –‬ ‫والمضارع‪ :‬ييسر يسرا وميسرا‪ ،‬وهو القمار‪ ،‬وسواء كان بالزلم‪ ،‬أو النرد‪ ،‬أو الكعاب‪ ،‬أو‬ ‫الجوز‪ ،‬أو الكيرم‪.‬‬ ‫‪ 3‬والخمر كلها إثم‪ ،‬إذ ما فيها كله ضرر‪ ،‬وقد سماها العرب‪ :‬الثم‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫شربت الثم حتى ضل عقلي ‪ ...‬كذلك الثم يذهب بالعقول‬ ‫‪ 4‬والنفع الذي هو الربح إذ كانوا يشترونها من الشام بالرخص ويبيعونها بالغلء في ديارهم كان‬ ‫في الجاهلية‪ ،‬إما بعد ما حرمها ال تعالى وحرم بيعها فلم يبقى فيها نفع البنة‪.‬‬

‫( ‪)1/200‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء السلم فبدأ دعوتهم إلى التوحيد‬ ‫واليمان بالبعث الخر‪ ،‬إذ هما الباعث القوي على الستقامة في الحياة‪ ،‬ولما هاجر الرسول صلى‬ ‫ال عليه وسلم والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعا إسلميا وأخذت الحكام تنزل‬ ‫شيئا فشيئا فحدث يوما أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملن فخلط في القراءة فنزلت آية‬ ‫سكَارَى} فكانوا ل يشربونها إل في أوقات‬ ‫النساء‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقْرَبُوا الصّلةَ وَأَنْتُمْ ُ‬ ‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ}‬ ‫معينة‪ ،‬وهنا كثرت التساؤلت حول شرب الخمر فنزلت هذه الية‪{ :‬يَسْأَلو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬ ‫س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْف ِع ِهمَا} فترك الكثير ‪1‬‬ ‫فأجابهم ال تعالى بقوله‪ُ { :‬قلْ فِي ِهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬ ‫كلً من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الية‪ .‬وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعا باتا‬ ‫ويقول‪" :‬اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا" فاستجاب ال تعالى له‪ ،‬ونزلت آية المائدة‪{ :‬يَا أَ ّيهَا‬ ‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِرُ} إلى قوله‪َ { :‬ف َهلْ أَنْتُمْ مُنْ َتهُونَ} فقال عمر‪" :‬انتهينا ربنا" وبذلك‬ ‫الّذِينَ آمَنُوا إِ ّنمَا الْ َ‬ ‫حرمت الخمر وحرم الميسر تحريما قطعيا كاملً‪ ،‬ووضع الرسول صلى ال عليه وسلم حد الخمر‬

‫وهو الجلد‪ .‬وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال‪" :‬مدمن الخمر ل يكلمه ال يوم القيامة ول‬ ‫يزكيه" في ثلثة نفر وهم‪ :‬العاق لوالديه‪ ،‬ومسبل إزاره‪ ،‬ومدمن الخمر‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فِي ِهمَا إِ ْثمٌ كَبِيرٌ‪َ 2‬ومَنَافِعُ لِلنّاسِ} فهو كما قال تعالى فقد بين في سورة المائدة منشأ‬ ‫الثم‪ ،‬وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬وأي‬ ‫إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين‪ ،‬والعراض عن ذكر ال‪ ،‬وتضييع‬ ‫الصلة حقا إن فيهما لثما كبيرا‪ ،‬وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الثم قليلة ومنها‪ :‬الربح في‬ ‫تجارة الخمر وصنعها‪ ،‬وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة‪ ،‬وأما الميسر‬ ‫فمن منافعه الحصول على المال بل كد ول تعب وانتفاع بعض الفقراء به‪ ،‬إذ كانوا يقامرون على‬ ‫الجزور من البل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يرى كثير من المفسرين أن أية البقرة هذه نزلت قبل آية النساء وما رجحته في التفسير أولى‪،‬‬ ‫لن آية البقرة تعتبر محرمة للخمر والميسر بخلف آية النساء‪.‬‬ ‫‪ 2‬لما كان تحريم الخمر تدريجيا كان من الحكمة ذكر ما كانوا يرونه من المنافع في التجار بها‬ ‫وشربها وكذا منافع الميسر إذ كانوا يعطون ما يربحونه للفقراء‪ ،‬وحسبهم وهم المؤمنون صرفا‬ ‫لهم عن الخمر والميسر قوله‪{ :‬وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْف ِع ِهمَا} ‪ ،‬وإذا زادت المضرة على المنفعة بطل‬ ‫العمل عقلً وشرعا‪.‬‬

‫( ‪)1/201‬‬ ‫أما قوله تعالى في الية‪{ :‬وَ َيسْأَلو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ} فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول ال تعالى‪:‬‬ ‫{وَأَ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل ال‪ .‬فأجابهم‬ ‫ال تبارك وتعالى بقوله‪ُ { :‬قلِ ا ْل َع ْفوَ} أي‪ :‬ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم‪ .‬ومن‬ ‫هنا قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه البخاري‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمُ الياتِ َلعَّلكُمْ تَ َتفَكّرُونَ‪ ،‬فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ} أي‪ :‬مثل هذا البيان يبين ال‬ ‫لكم الشرائع والحكام والحلل ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والخرة‬ ‫فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على‬ ‫حسب ذلك‪.‬‬ ‫وهذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)219‬أما الية الثانية(‪{ :)220‬وَيَسْأَلو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى} الية‪ ،‬فإنه‬ ‫لما نزل قوله تعالى من سورة النساء‪{ :‬إِنّ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُلْما إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي‬ ‫سعِيرا} خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد‪ ،‬وفصل من كان‬ ‫بُطُو ِنهِمْ نَارا وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬ ‫في بيته يتيم يكفله‪ ،‬فصل طعامه عن طعامه‪ ،‬وشرابه عن شرابه‪ ،‬وحصل بذلك عنت ومشقة‬

‫كبيرة وتساءلوا عن المخرج‪ ،‬فنزلت هذه الية‪ ،‬وبينت لهم أن المقصود هو إصلح مال اليتامى‬ ‫وليس هو فصله أو خلطه‪ ،‬فقال تعالى‪ُ { :‬قلْ ِإصْلحٌ َلهُمْ‪ }...‬مع الخلط خير من الفصل مع عدم‬ ‫خوَا ُنكُمْ} ‪ ،‬والخ يخالط أخاه في ماله‪،‬‬ ‫الصلح‪ ،‬ودفع الحرج في الخلط فقال‪{ :‬وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ‪ 1‬فَإِ ْ‬ ‫وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائما على حذر‪ ،‬وكل هذا حماية‬ ‫لمال اليتيم الذي فقد والده‪ .‬ثم زاد ال في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى‪{ :‬وََلوْ‬ ‫شَاءَ اللّهُ لعْنَ َتكُمْ‪ }2‬أي‪ :‬أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫حكِيمٌ} أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به‪.‬‬ ‫{إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬فإخوانكم} ‪ :‬الفاء واقعة في جواب إن الشرطية‪ ،‬وإخوانكم‪ :‬خبر‪ ،‬والمبتدأ محذوف تقديره‪ :‬فهم‬ ‫إخوانكم‪.‬‬ ‫‪ 2‬مفعول المشيئة محذوف كما هو الغالب فيه‪ ،‬والتقدير‪ :‬ولو شاء ال عنتكم لعنتكم‪ ،‬أي‪ :‬كلفكم‬ ‫ما فيه العنت والمشقة‪ ،‬ولكنه لم يفعل رحمة بكم ولطفا بحالكم‪.‬‬

‫( ‪)1/202‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة ‪ 1‬الخمر والميسر حيث نسخت هذه الية بآية المائدة‪ ،‬لقوله تعالى فيها‪{ :‬فاجتنبوه}‬ ‫وقوله {فهل أنتم منتهون} ‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أفضل صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو ‪ 2‬العفو في هذه الية‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحباب التفكر في أمر الدنيا والخرة لعطاء الولى بقدر فنائها والخرة بحسب بقائها‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز خلط مال اليتيم بما كافله إذا كان أربح له وأوفر‪ ،‬وهو معنى الصلح في الية‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة مال اليتيم‪ ،‬والتحذير من المساس به وخلطه إذا كان يسبب نقصا فيه أو إفسادا‪.‬‬ ‫لمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُك ْم وَل تُ ْن ِكحُوا‬ ‫ن وَ َ‬ ‫{وَل تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ‬ ‫ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ‬ ‫ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ‬ ‫يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ(‪})221‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَل تَ ْنكِحُوا} ‪ :‬ل تتزوجوا‪.‬‬ ‫المة ‪ :‬خلف الحرة‪.‬‬ ‫{وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ} ‪ :‬أي أعجبكم حسنها وجمالها‪.‬‬ ‫{ َيدْعُونَ ِإلَى النّارِ} ‪ :‬بحالهم ومقالهم وأفعالهم‪.‬‬

‫{آيَاتِهِ} ‪ :‬أحكام دينه ومسائل شرعه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أن كل مسكر داخل في إثم الخمر‪ ،‬وقليله ككثيره في الحرمة سواء بإجماع المة‪ ،‬وكل أنواع‬ ‫الميسر ولو اختلفت المسميات؛ كاليانصيب وغيرها محرمة‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده حديث مسلم‪" :‬ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلهلك فإن فضل شيء عن‬ ‫أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" أي‪ :‬تصدق به على الفقراء‬ ‫والمساكين‪.‬‬

‫( ‪)1/203‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ينهى ال تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إل أن يؤمن بال ورسوله‪ ،‬فإن آمن جاز‬ ‫نكاحهن‪ ،‬وأعلمهم منفرا من نكاح المشركات مرغبا في نكاح المؤمنات‪ :‬ولمة مؤمنة فضلً عن‬ ‫حرة خير من حرة مشركة‪ ،‬ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها‪ ،‬كما نهاهم محرما عليهم أن‬ ‫يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا‪ ،‬فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم بناتهم ونساءهم فقال‬ ‫تعالى‪{ :‬وَل تُ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا} وقال منفرا مرغبا ولعبد مؤمن خير من حرٍ مشرك‬ ‫ولو أعجبهم المشرك لشرفه أو ماله أو سلطانه‪ ،‬وعلل لذلك بقوله‪{ :‬أولئك} أي المشركات‬ ‫والمشركون يدعون إلى النار فمخالطتهم مضرة ومفسدة ل سيما بالتزوج منهم‪ ،‬وال عز وجل‬ ‫يدعو إلى الجنة باليمان والعمل الصالح‪ ،‬وإلى المغفرة بالتوبة الصادقة‪ .‬فاستجيبوا له وأطيعوه‬ ‫فيما أمركم به ونهاكم عنه‪ .‬كما أنه تعالى يبين آياته للناس ليعدهم للتذكر والتعاظ فيقبلون على‬ ‫طاعته الموصلة إلى رضاه والجنة‪ ،‬ويبعدون عن معصيته المؤدية إلى سخطه والنار‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫حصَنَاتُ‬ ‫‪ -1‬حرمة نكاح المشركات‪ ،‬أما الكتابيات فقد أباحهن ال تعالى بآية المائدة‪ ،‬إذ قال‪{ :‬وَا ْلمُ ْ‬ ‫مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ‪ 1‬مِنْ قَبِْل ُكمْ} ‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة نكاح المؤمنة الكافر مطلقا‪ 2‬مشركا كان أو كتابيا‪.‬‬ ‫‪ -3‬شرط الولية في نكاح المرأة لقوله تعالى‪{ :‬وَل تُ ْن ِكحُوا ا ْلمُشْ ِركِينَ} فهو هنا يخاطب أولياء‬ ‫النساء المؤمنات‪ ،‬ولذا ل يصح نكاح إل بولي ‪.3‬‬ ‫‪ -4‬التنفير من مخالطة المشركين والترغيب في البعد عنهم؛ لنهم يدعون إلى الكفر بحالهم‬ ‫ومقالهم وأعمالهم‪ ،‬وبذلك هم يدعون إلى النار‪.‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬الخلف في حرمة نكاح الكتابيات ضئيل ول وزن له‪ ،‬وإن كان عدم التزوج بهن أفضل وأسلم‪،‬‬ ‫وهذا في الذميات‪ ،‬أما الحربيات فل يجوز نكاحهن‪ ،‬وعلى هذا مالك‪ ،‬وقد سئل ابن عباس عن‬ ‫نكاح الحربية الكتابية‪ ،‬فقال‪ :‬ل تحل‪.‬‬ ‫حلّ َل ُه ْم وَل هُمْ َيحِلّونَ} الممتحنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده من القرآن قوله تعالى‪{ :‬ل هُنّ ِ‬ ‫‪ 3‬لحديث‪" :‬ل نكاح إل بولي" وحديث أبي داود‪" :‬أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل‬ ‫باطل باطل" وهو حديث صحيح‪ .‬والولي‪ :‬عصبة المرأة القرب فالقرب فإن لم يكونوا فالسلطان‬ ‫ولي من ل ولي لها‪ .‬ومن أركان النكاح الشهاد عليه بشاهدين فأكثر وعليه الجمهور‪.‬‬

‫( ‪)1/204‬‬ ‫‪ -5‬وجوب موالة أهل اليمان ومعاداة أهل الكفر والضلل؛ لن الولين يدعون إلى الجنة‪،‬‬ ‫والخرين يدعون إلى النار‪.‬‬ ‫طهُرْنَ فَإِذَا‬ ‫ض وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬ ‫{وَيَسْأَلو َنكَ عَنِ ا ْل َمحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬ ‫طهّرِينَ(‪ )222‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ‬ ‫حبّ ا ْلمُ َت َ‬ ‫ن وَيُ ِ‬ ‫حبّ ال ّتوّابِي َ‬ ‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ يُ ِ‬ ‫تَ َ‬ ‫سكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلقُو ُه وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪})223‬‬ ‫َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َثكُمْ أَنّى شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُوا لَ ْنفُ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْل َمحِيضِ‪ : }1‬مكان الحيض وزمنه‪ ،‬والحيض‪ :‬دم يخرج من رحم المرأة إذا خل من الجنين‪.‬‬ ‫{أَذىً} ‪ :‬ضرر يضر المجامع في أيامه‪.‬‬ ‫{فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِيضِ} ‪ :‬اتركوا جماعهن ‪ 2‬أيام الحيض‪.‬‬ ‫طهُرْنَ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تجامعوهن حتى ينقطع دم ‪ 3‬حيضهن‪.‬‬ ‫{وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬ ‫طهّرْنَ} ‪ :‬إي‪ :‬إذا انقطع دم حيضهن واغتسلن منه‪.‬‬ ‫{فَإِذَا تَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يطلق على الحيض أيضا لنه مصدر حاضت المرأة حيضة ومحاضا ومحيضا‪ ،‬فهي حائض‪،‬‬ ‫وقد يقال‪ :‬حائضة‪ ،‬وعليه قول الشاعر‪:‬‬ ‫كحائضة يزني بها غير طاهر‬ ‫والحيضة‪ :‬المرأة الواحدة ‪ ،‬والحيضة بكسر الحاء‪ :‬الثم‪ ،‬والحيضة أيضا‪ :‬الخرقة تستثفر بها‬ ‫الحائض‪ .‬قالت عائشة‪ :‬يا ليتني كنت حيضة ملقاة‪ ،‬واشتقاق الكلمة من السيلن ومنعه الحوض‬ ‫لن الماء يسيل إليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجمهور على أن من وطأ امرأته في الحيض ل كفارة عليه‪ ،‬وإنما عليه التوبة والستغفار‪،‬‬ ‫وضعفوا حديث‪" :‬الكفارة بنصف دينار أو دينار" لضطرابه‪ ،‬وبه قال أحمد وعمل به‪.‬‬ ‫‪ 3‬أجمع العلماء على أن للمرأة ثلثة أحكام في رؤيتها الدم السائل من فرجها‪ :‬فإن كان أسود‬

‫غائرا تعلوه حمرة فذلك الحيض‪ ،‬ويحرم عليها الصوم والصلة ويحرم وطئها‪ ،‬وتقضي الصوم‬ ‫ول تقضي الصلة للحاديث الصحيحة في ذلك‪ ،‬وأكثر الحيض خمسة عشر يوما‪ ،‬وأقله ل حد له‬ ‫على الصحيح‪ ،‬وأقل الطهر أيضا خمسة عشر يوما ليكمل الشهر حيضا وطهرا‪ ،‬وإن كان الدم‬ ‫زائدا على مدة الحيض فهو الستحاضة وتصلي معه وتصوم وتوطأ أيضا‪ .‬والحكم الثالث‪ :‬دم‬ ‫النفاس وأكثره أربعين يوما‪ ،‬وأقله يوم وليلة وحكمه حكم الحيض‪.‬‬

‫( ‪)1/205‬‬ ‫{فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ} ‪ :‬أي‪ :‬جامعهن في قبلهن‪ ،‬وهن طاهرات متطهرات ‪.1‬‬ ‫{نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ} ‪ :‬يريد مكان إنجاب الولد‪ ،‬فشبه النساء بالحرث؛ لن الرض إذا حرثت‬ ‫أنبت الزرع‪ ،‬والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫{فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُمْ} ‪ :‬إذن بجماع المرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان في القبل الذي هو منبت‬ ‫الزرع‪ ،‬وهي طاهرة من الحيض والنفاس‪.‬‬ ‫س ُكمْ} ‪ :‬يريد العمال الصالحة‪ ،‬ومنها إرادة تحصين النفس والزوجة بالجماع وإرادة‬ ‫{ َوقَ ّدمُوا لَنْفُ ِ‬ ‫انجاب الولد الصالحين الذين يوحدون ال ويدعون لوالديهم طوال حياتهم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين ‪ 2‬عن المحيض هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب‬ ‫أو تهجر بالكلية حتى تطهر إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية‪ ،‬وأمره أن يقول لهم‪ :‬الحيض أذى‬ ‫يضر بالرجل المواقع فيه‪ ،‬وعليه فليعتزلوا النساء الحيض في الجماع فقط ل في المعاشرة‬ ‫والمأكلة والمشاربة‪ ،‬وإنما في الجماع فقط أيام سيلن الدم بل ل بأس بمباشرة الحائض في غير‬ ‫ما بين السرة والركبة‪ ،‬للحديث الصحيح في هذا كما أكد هذا المنع بقوله لهم‪{ :‬وَل َتقْرَبُوهُن}ّ ‪3‬‬ ‫طهّرْنَ} أي‪ :‬اغتسلن‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ل تجامعوهن حتى يطهرن بإنقطاع دمهن والغتسال بعده لقوله‪{ :‬فَِإذَا َت َ‬ ‫{فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ} بإتياهن وهو القبل ل الدبر فإنه محرم وأعلمهم تعالى أنه يحب‬ ‫التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والقذار‪ ،‬فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولهم‬ ‫عز وجل هذا معنى الية الولى(‪ )222‬أما الية الثانية(‪ )223‬وهي قوله تعالى‪{ :‬نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ‬ ‫َلكُمْ} فهي تضمنت جواب سؤال هو هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها إذ‬ ‫حصل هذا السؤال من بعضهم فعلً‪ ،‬فأخبر تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هل الزوجة الكتابية يحبرها زوجها أن تغتسل من الحيض والنفاس؟ أرى أن يأمرها مرغبا لها‬ ‫في ذلك وليس عليه إجبارها لنه ل إكراه في الدين‪ .‬وهي غير متعبدة به‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم عن أنس رضي ال عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها‪ ،‬ولم‬

‫يجامعوها في البيوت‪ ،‬فسأل أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم النبي صلى ال عليه وسلم فأنزل‬ ‫ال تعالى‪{ :‬وَ َيسْأَلو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيض} الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذا قيل ل تقرب بفتح الراء معناها ل تتلبث بالشيء‪ ،‬وإن قيل‪ :‬ل تقرب فمعناها‪ :‬ل تدنوا‪ ،‬ولذا‬ ‫جاز للزوج أن يقرب من زوجته الحائض أو النفساء ويباشرها من غير الفرج‪.‬‬

‫( ‪)1/206‬‬ ‫أنه ل مانع من ذلك إذا كان في القبل‪ ،‬وكانت المرأة طاهرة من دمي الحيض والنفاس‪ ،‬وسمى‬ ‫المرأة حرثا؛ لن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الرض الطيبة وما دام المر كذلك‬ ‫فيأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة إذ المقصود حاصل وهو الحصان وطلب الولد‪.‬‬ ‫فقوله تعالى‪{ :‬أَنّى شِئْتُمْ} يريد على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل‬ ‫سكُمْ} من الخير ما ينفعكم في آخرتكم‬ ‫ل في الدبر ‪ .1‬ثم وعظ تعالى عباده بقوله‪َ { :‬وقَ ّدمُوا لَ ْنفُ ِ‬ ‫واعلموا أنكم ملقوا ال تعالى فل تغفلوا عن ذكره وطاعته‪ ،‬إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم‬ ‫تقفون بين يدي ربكم‪ .‬وأخيرا أمر رسوله أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والخرة وسعادتهما من‬ ‫كان إيمانه صحيحا مثمرا التقوى والعمل الصالح‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس لما فيه من الضرر‪ ،‬ولقوله تعالى‪ { :‬فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي‬ ‫طهُرْنَ} ‪.‬‬ ‫ض وَل َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬ ‫ا ْلمَحِي ِ‬ ‫طهّرْنَ‬ ‫‪ -2‬حرمة وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬فَِإذَا تَ َ‬ ‫فَأْتُوهُنّ} ‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة ‪ 2‬نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى‪{ :‬فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ} وهو القبل‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة‪ ،‬والتطهير من القذار والنجاسات بالماء‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الخرة لقوله تعالى‪:‬‬ ‫س ُكمْ} ‪.‬‬ ‫{ َوقَ ّدمُوا لَنْفُ ِ‬ ‫‪ -6‬وجوب تقوى ال تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر‪.‬‬ ‫‪ -7‬بشرى ال تعالى على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم لكل مؤمن ‪ 3‬ومؤمنة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وذلك لتحريم وطء المرأة في دبرها للية الكريمة وللحاديث الصحاح وما أكثرها ومنها قوله‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬أيها الناس إن ال ل يستحي من الحق ل تأتوا النساء في أعجازهن" ‪،‬‬ ‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من أتى امرأة في دبرها لم ينظر ال إليه يوم القيامة" وور‪ :‬تلك‬

‫اللوطية الصغرى‪.‬‬ ‫‪ 2‬تقدمت الحاديث المحرمة لنكاح المرأة في دبرها ذات رقم ‪ 1‬في هذه الصفحة‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬صادق اليمان كما تقدم وعلمة صدقه أن يحركه للعمل الصالح ويحمله على ترك الشرك‬ ‫والمعاصي‪.‬‬

‫( ‪)1/207‬‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‬ ‫س وَاللّهُ َ‬ ‫جعَلُوا ‪ 1‬اللّهَ عُ ْرضَةً‪ 2‬لَ ْيمَا ِنكُمْ أَنْ‪ 3‬تَبَرّوا وَتَ ّتقُوا وَ ُتصْلِحُوا بَيْنَ النّا ِ‬ ‫{وَل تَ ْ‬ ‫غفُورٌ حَلِيمٌ(‪)225‬‬ ‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُك ْم وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ وَاللّهُ َ‬ ‫‪ )224‬ل ُيؤَا ِ‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ(‪ )226‬وَإِنْ عَ َزمُوا‬ ‫شهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِنْ نِسَا ِئ ِهمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ َأ ْ‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪})227‬‬ ‫الطّلقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫العرضة ‪ :‬ما يوضع مانعا من شيء‪ ،‬واليمين يحلفها المؤمن أن ل يفعل خيرا‪.‬‬ ‫اليمان ‪ :‬جمع يمين‪ ،‬نحو‪ :‬وال ل أفعل كذا أو وال لفعلن كذا‪.‬‬ ‫البرور ‪ :‬الطاعة وفعل البر‪.‬‬ ‫اللغو ‪ :‬الباطل‪ ،‬وما ل خير فيه‪ .‬ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلفه‪،‬‬ ‫أو ما يجري على لسانه من أيمان من غير أرادة الحلف‪.‬‬ ‫{كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُم}ْ ‪ :‬ما تعمد القلب وقصد اليمين لجله لفعله حتما أو منعه‪.‬‬ ‫{ ُيؤْلُونَ} ‪ :‬اليلء ‪ :4‬الحلف على عدم وطء الزوجة‪.‬‬ ‫التربص ‪ :‬النتظار والتمهل‪.‬‬ ‫{فَاءُوا} ‪ :‬رجعوا إلى وطء نسائهم بعد المتناع عنه باليمين‪.‬‬ ‫{الطّلقَ} ‪ :‬فك رابطة الزوجية وحلها بقوله‪ :‬هي طالق أو مطلقة أو طلقتك‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل نزلت الية في أبي بكر الصديق لما حلف أن ل ينفق على ابن خالته مسطح‪ ،‬لنه خاض‬ ‫في الفك‪ ،‬وقيل‪ :‬نزلت في عبد ال بن رواحة حين حلف أن ل يكلم ختنه بشير بن النعمان‪.‬‬ ‫‪ 2‬العرضة‪ :‬ما ينصب في الطريق مانعا‪ ،‬فيعترض طريق السائرين وأصبح يطلق على كل ما‬ ‫يوضع أمام الناس‪ ،‬يقال‪ :‬فلن أصبح عرضة للناس‪ .‬أي‪ :‬يقعون فيه‪ ،‬ويقال‪ :‬المرأة عرضة‬ ‫للنكاح‪ ،‬أي‪ :‬إذا بلغت فهي أمام أنظار الرجال‪.‬‬ ‫‪{ 3‬أن تبروا} أصلها‪ :‬أن ل تبروا فحذفت ل كما حذفت في {يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ أَنْ َتضِلّوا} أي‪ :‬أن ل‬ ‫تضلوا‪ ،‬وحذفها للتخفيف ولظهور المعنى المراد‪.‬‬ ‫‪ 4‬يقال‪ :‬ألى يؤلي إيلء‪ ،‬وائتلى وائتلي يأتلي ائتلء‪ ،‬وتألى تأليا إذا حلف على كذا‪ ،‬واليلء جائز‬

‫لتأديب الزواج ولكن ل يصل أربعة أشهر فقد ألى رسول ال صلى ال عليه وسلم من نسائه‬ ‫شهرا تأديبا لهن‪.‬‬

‫( ‪)1/208‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينهى ال تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعا من فعل الخير‪ ،‬وذلك كأن‬ ‫يحلف العبد أن ل يتصدق على فلن أو أن ل يكلم فلنا أو أن ل يصلح بين اثنين فقال تعالى‪:‬‬ ‫جعَلُوا اللّهَ} يريد الحلف به عرضة ليمانكم ‪ ،1‬أي‪ :‬مانعا لكم من فعل خير أو ترك إثم أو‬ ‫{وَل تَ ْ‬ ‫إصلح بين الناس‪ .‬وأخبرهم أنه سميع لقوالهم عليهم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عز وجل‪.‬‬ ‫ثم أخبرهم أنه تعالى ل يؤاخذهم باللغو ‪ 2‬في أيمانهم وهو أن يحلف الرجل على الشيء يظنه كذا‬ ‫فيظهر على خلف ما ظن‪ ،‬أو أن يجري على لسانه ما ل يقصده من الحلف كقوله‪ :‬ل‪ ،‬وال‪ ،‬بل‬ ‫وال‪ ،‬فهذا مما عفا عنه لعباده فل إثم فيه ول كفارة تجب فيه‪ .‬لكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من‬ ‫الثم‪ ،‬وذلك كأن يحلف المرء كاذبا ليأخذ حق أخيه المسلم بيمينه الكاذبة فهذه هي اليمين الغموس‬ ‫التي تغمس صاحبها في الثم ثم في النار وهذه ل تنفع فيها الكفارة الموضوعة لمن حلف على أن‬ ‫ل يفعل ثم حنث‪ ،‬وإنما على صاحب اليمين الغموس التوبة بتكذيب نفسه والعتراف بذنبه ورد‬ ‫الحق الذي أخذه بيمينه الفاجرة إلى صاحبه وبذلك يغفر ال تعالى له ويرحمه‪ ،‬وال غفور رحيم‪.‬‬ ‫وبمناسبة ذكر اليمين ذكر تعالى حكم من يولي من امرأته أي يحلف أن ل يطأها فأخبر تعالى أن‬ ‫على المولي تربص أربعة أشهر‪ ،‬فإن فاء إلى امرأته أي رجع إلى وطئها فبها ونعمت‪ ،‬وعليه أن‬ ‫يكفر عن يمينه‪ ،‬وإن لم يفيء إلى وطئها وأصر على ذلك فإن على القاضي أن يوفقه أمامه‬ ‫ويطالبه بالفيء فإن أبى طلقها عليه‪.‬‬ ‫غفُورٌ رَحِيم} يغفر‬ ‫شهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫قال ال تعالى‪{ :‬لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِنْ نِسَا ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ‬ ‫لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم لتوبتهم‪.‬‬ ‫وإن عزموا ‪ 3‬الطلق بأن أبوا أن يفيئوا طلقوا‪ ،‬وال سميع لقوالهم عليهم بما في قلوبهم‪.‬‬ ‫فليحذروه بعدم فعل ما يكره‪ ،‬وترك فعل ما يجب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اليمان جمع يمين وهو الحلف‪ ،‬وسمي الحلف يمينا أخذا من اليمين؛ لن عادة العرب إذا حلف‬ ‫أحدهم للخر وضع يده اليمنى على يده اليمنى‪ ،‬ويقال أعطاه يمينا إذا حلف له مؤكدا حلفه بوضع‬ ‫يده اليمنى على يد صاحبه اليمنى‪.‬‬ ‫‪ 2‬اللغو‪ :‬مصدر لغى يلغو لغوا‪ .‬إذا قال كلما خطأ وباطلً‪ ،‬ولذا المؤمنون إذا سمعوا اللغو‬ ‫أعرضوا ولم يلتفتوا إليه ولم يأبهوا له {وَالّذِينَ هُمْ عَنِ الّل ْغوِ ُمعْ ِرضُونَ} ‪.‬‬

‫‪ 3‬عزم الطلق‪ :‬هو التصميم عليه فإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلق وعليه فالمولى بين خير‬ ‫النظرين‪ ،‬وهما الفيء أو الطلق‪.‬‬

‫( ‪)1/209‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كراهية منع الخير بسبب اليمين‪ ،‬وعليه فمن حلف أن ل يفعل خيرا فليكفر عن يمينه وليفعل‬ ‫الخير لحديث الصحيح‪" :‬من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي‬ ‫هو خير" ‪.‬‬ ‫‪ -2‬لغو اليمين معفو عنها ولها صورتان‪ :‬الولى‪ :‬أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو ل يريد‬ ‫أن يحلف نحو ل وال‪ ،‬وبلى وال‪ ،‬والثانية‪ :‬أن يحلف على شيء يظنه كذا فيتبين خلفه‪ ،‬مثل أن‬ ‫يقول‪ :‬وال ما في جيبي درهم ول دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شيء من ذلك ثم‬ ‫يجده فهذه صورة لغو اليمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليمين المؤاخذ عليها العبد هي‪ :‬أن يحلف متعمدا الكذب قاصدا له من أجل الحصول على‬ ‫منفعة دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى‪َ { :‬وَلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ} وتسمى باليمين‬ ‫الغموس‪ ،‬واليمين الفاجرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬اليمين التي تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فل يفعل‪ ،‬أو‬ ‫يحلف أن ل يفعل كذا ثم يضطر ويفعل‪ ،‬ولم يقل أثناء حلفه إن شاء ال‪ ،‬والكفارة مبينة في آية‬ ‫المائدة وهي إطعام عشرة مساكين‪ ،‬أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام ثلثة أيام‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان حكم اليلء‪ ،‬وهو أن يحلف الرجل أن ل يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من ‪ 1‬أربعة‬ ‫أشهر فله أن ل يحنث نفسه ويستمر ممتنعا عن الوطء‪ ،‬إلى أن تنتهي مدة الحلف إل أن الفضل‬ ‫أن يطأ ويكفر عن ‪ 2‬يمينه‪ ،‬وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفئ إلى زوجته أو تطلق‬ ‫عليه وإن كان ساخطا غير راض‪.‬‬ ‫{وَا ْلمُطَّلقَاتُ‪ 3‬يَتَرَ ّبصْنَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ما السر في الربعة أشهر؟ يبدو أنه ثلث السنة‪ ،‬والثلث كثير كما في حديث سعد في الوصية‪،‬‬ ‫ويؤيد هذا ما أجراه عمر رضي ال عنه من سؤال النساء عن مدى صبر المرأة على زوجها‪.‬‬ ‫فقلن شهران‪ ،‬ويقل صبرها في ثلثة أشهر وينفد في أربعة أشهر‪ .‬فأمر قواد الجناد أن ل يمسكوا‬ ‫الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن‬ ‫يمينه وليفعل الذي هو خير" ‪.‬‬

‫‪{ 3‬والمطلقات} الجملة خبرية ومعناها النشاء وهو المر بالتربص ثلثة قروء‪ ،‬وهذا خاص‬ ‫بالحرائر‪ ،‬أما الماء فيتربص قرأين ل غير‪ ،‬ثبت هذا بالسنة الصحيحة‪ ،‬وهو قوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬طلق المة تطليقتان وقرءها حيضتان"‪.‬‬

‫( ‪)1/210‬‬ ‫خلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ‬ ‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا َ‬ ‫سهِنّ ثَلثَةَ قُرُو ٍء وَل َي ِ‬ ‫بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫الخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ َأحَقّ بِرَدّهِنّ فِي َذِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ‬ ‫حكِيمٌ(‪})228‬‬ ‫وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَ َرجَ ٌة وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَا ْلمُطَّلقَاتُ} ‪ :‬جمع مطلقة وهي المرأة تسوء عشرتها فيطلقها زوجها أو القاضي‪.‬‬ ‫{يَتَرَ ّبصْنَ} ‪ :‬ينتظرن‪.‬‬ ‫{قُرُوءٍ} ‪ :‬القرء‪ :‬إما مدة الطهر‪ ،‬أو مدة الحيض‪.‬‬ ‫{مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ} ‪ :‬من الجنة فل يحل للمطلقة أن تكتم ذلك‪.‬‬ ‫{وَ ُبعُولَ ُتهُنّ} ‪ :‬أزواجهن واحد البعولة‪ :‬بعل؛ كفحل ونخل‪.‬‬ ‫{بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ} ‪ :‬أي‪ :‬في مدة التربص والنتظار‪.‬‬ ‫{وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ} ‪ :‬يريد على الزوجة حقوق لزوجها‪ ،‬ولها حقوق على زوجها‪.‬‬ ‫جةٌ} ‪ :‬هي درجة القوامة ‪ 1‬أن الرجل شرعا هو القيم على المرأة‪.‬‬ ‫{وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَ َ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫بمناسبة طلق المؤلي إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الية‪{ :‬وَا ْلمُطَّلقَاتُ‪ }2‬إلخ‪ .‬أن‬ ‫على المطلقة التي تحيض أن تنتظر‪ ،‬فل تتعرض للزواج ‪ 3‬مدة ثلثة أقراء فإن انتهت المدة ولم‬ ‫يراجعها‬ ‫زوجها فلها أن تتزوج‪ ،‬وهذا النتظار يسمى عدة‪ ،‬وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها‪ ،‬إذ له‬ ‫حقّ‬ ‫الحق أن يراجعها ‪ 4‬فيها‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى في الية‪{ :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الدرجة دال على علو المنزلة وهو كذلك‪ ،‬وهو ظاهر في أنه يحميها‪ ،‬ويصونها وينفق‬ ‫عليها وتجب طاعته عليها‪ ،‬كما أن هناك فضلً الخلق والكسب والعمل؛ كالجهاد وشهود الجمعة‬ ‫والجماعات‪.‬‬ ‫‪ 2‬المطلقات‪ :‬جنس يشتمل كل مطلقة ويخرج من ل تحيض لصغر سن أو كبر بدليل الكتاب من‬ ‫سورة الطلق‪.‬‬ ‫‪ 3‬القرء‪ :‬لفظ مشترك بين الحيض والطهر‪ ،‬ولذا ذهب مالك إلى أن القرء‪ :‬الطهر‪ ،‬فجعل العدة‬

‫ثلثة أطهار‪ ،‬ورجحه قوله تعالى‪{ :‬فَطَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ} وهو أول الطهر‪ ،‬وذهب غيره إلى أن‬ ‫القرء‪ :‬الحيض‪ ،‬والكل جائز وواسع والحمد ل‪ ،‬إلى أن العتداد بالطهار أرفق بالمطلقة إذ تكون‬ ‫المدة أقصر لنها تطلق في طهر لم يجامعها فيه الزوج فيبقى عليها طهران فقط‪.‬‬ ‫‪ 4‬جعل ال تعالى مدة العدة رحمة بالزوجين‪ ،‬إذ قد تحدث لهما ندامة فيتراجعان بل كلفة‪ ،‬قال‬ ‫ح ِدثُ َب ْعدَ ذَِلكَ َأمْرا} ‪ ،‬أي‪ :‬المراجعة‪ ،‬وللرجعية‬ ‫تعالى من سورة الطلق‪{ :‬ل تَدْرِي َل َعلّ اللّهَ يُ ْ‬ ‫النفقة على الزوج‪ ،‬لنها محبوسة من أجله ول يجوز له أن يستمتع بها ل بالنظر ول غيره‪ ،‬ولو‬ ‫و طئها بدون نية مراجعة إثم ول حد عليه للشبهة‪.‬‬

‫( ‪)1/211‬‬ ‫بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحا}‪.‬‬ ‫كما أن على المطلقة أن ل تكتم الحيض بأن تقول‪ :‬ما حضت إل حيضة أو حيضتين وهي‬ ‫حاضت ثلثا تريد بذلك الرجعة لزوجها‪ ،‬ول تقول حضت ثلثا وهي لم تحض من أجل أن ل‬ ‫ترجع إلى زوجها‪ ،‬ول تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس‬ ‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي‬ ‫بولده‪ ،‬وهذا من كبائر الذنوب‪ .‬ولذا قال تعالى‪{ :‬وَل َي ِ‬ ‫حقّ‬ ‫أَرْحَا ِمهِنّ} ‪ ،‬يريد من حيض وحمل إن كن يؤمن بال واليوم الخر وقوله تعالى‪{ :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬ ‫بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ} يريد الزوج أحق بزوجته المطلقة ما دامت في عدتها وعلى شرط أن ل يريد‬ ‫بإرجاعها المضارة بها بل ل بد وأن يريد برجعتها الصلح وطيب العشرة بينهما وهذا ظاهر‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إِنْ أَرَادُوا ِإصْلحا} ‪ ،‬وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الصلح أيضا‪.‬‬ ‫ثم أخبر تعالى أن للزوجة من الحقوق على زوجها‪ ،‬مثل ما للزوج عليها من حقوق فقال تعالى‪:‬‬ ‫{وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ} وأخبر أن للرجل على المرأة درجة لم ترقها المرأة ولم تكن‬ ‫لها وهي القيومية المفهومة من قوله تعالى من سورة النساء‪{ :‬الرّجَالُ َقوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ ِبمَا‬ ‫حكِيمٌ}‬ ‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ وَ ِبمَا أَ ْن َفقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ} وختمت الية بجملة‪{ :‬وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫ضلَ اللّهُ َب ْع َ‬ ‫َف ّ‬ ‫إشعارا بوجوب تنفيذ هذه التعاليم لعزة ال تعالى وحكمته فإن الغالب يجب أن يطاع والحكيم يجب‬ ‫أن يسلم له في شرعه؛ لنه صالح نافع غير ضار‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان عدة المطلقة إذا كانت تحيض وهو التربص ثلثة حيض أو أطهار‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة كتمان المطلقة حيضا أو حملً خلقه ال تعالى في رحمها‪ ،‬ولي غرض كان‪.‬‬ ‫‪ -3‬أحقية ‪ 1‬الزوج بالرجعة من مطلقته إذا لم تنقض عدتها‪ ،‬حتى قبل الرجيعة زوجة بدليل أنها‬ ‫لو ماتت يرثها زوجها ولو مات ترثه‪ .‬وأنه ل يحل أن تخطب أو تتزوج ما دامت في عدتها‪.‬‬

‫‪ -4‬إثبات حقوق كل من ‪ 2‬الزوجين على صاحبه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫حقّ بِرَدّهِنّ} أن المطلقة لها حق أن ل ترجع والزوج له حق‬ ‫‪ 1‬معنى أحق في قوله‪{ :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬ ‫أن يراجعها متى شاء فكان هناك حقان أقواهما حق الزوج‪ .‬أو يقال‪ :‬اسم التفضيل هنا ليس على‬ ‫بابه‪ ،‬والول أظهر لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬اليم أحق بنفسها" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬من الحقوق المتبادلة بين الزوجين أن يتزين كل منهما لصاحبه بما يكون زينة عرفية لهما مما‬ ‫هو مباح‪.‬‬

‫( ‪)1/212‬‬ ‫‪ -5‬تقرير سيادة الرجل على المرأة لما وهبه ال من ميزات ‪ 1‬الرجولة المفقودة في المرأة‪.‬‬ ‫خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئا‬ ‫حلّ َل ُكمْ أَنْ تَأْ ُ‬ ‫ن وَل يَ ِ‬ ‫{الطّلقُ‪ 2‬مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَا ٍ‬ ‫حدُودَ اللّهِ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ ِبهِ تِ ْلكَ‬ ‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا ُ‬ ‫حدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬ ‫إِل أَنْ يَخَافَا أَل ُيقِيمَا ُ‬ ‫حدُودُ اللّهِ فَل َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ(‪})229‬‬ ‫ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الطّلقُ‪ : }3‬السم من طلق وهو أن يقول لزوجته‪ :‬أنت طالق أو طلقتك‪.‬‬ ‫{مَرّتَانِ‪ : }4‬يطلقها‪ ،‬ثم يردها‪ ،‬ثم يطلقها ثم يردها‪ .‬أي يملك الزوج الرجاع في طلقتين أما إن‬ ‫طلق الثالثة فل يملك ذلك ول ترجع حتى تنكح زوجا غيره‪.‬‬ ‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ} ‪ :‬حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن ل يؤدي‬ ‫{فَإِنْ ِ‬ ‫حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت‪ ،‬ويسمى‬ ‫هذا خلعا‪.‬‬ ‫{حُدُودَ اللّهِ} ‪ :‬ما يجب أن ينتهي إليه العبد من طاعة ال ول يتجاوزه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدم ذكر بعضها في الصفحة قبل ذي تحت رقم ‪.4‬‬ ‫‪ 2‬كان الطلق في الجاهلية وبرهة من الزمن في السلم ليس له حد فقد يطلق الرجل امرأته‬ ‫عشرات المرات حتى إن رجلً قال لمرأته ل آويك ول أدعك تحلين‪ .‬قالت وكيف؟ قال‪ :‬أطلقك‬ ‫فإذا دنا مضي عدتك راجعتك‪ ،‬فشكت ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك لرسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم فأنزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬الطلق مرتان} إلخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الطلق شرعا‪ :‬هو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين بألفاظ مخصوصة منها‪ :‬أنت طالق‪.‬‬ ‫والطلق مباح لرفع الضرر عن أحد الزوجين أو عن كليهما‪.‬‬

‫‪ 4‬روى الدارقطني‪ ،‬عن أنس‪ :‬أن رجلً قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬قال ال تعالى‪:‬‬ ‫{الطلق مرتان} فلما صار ثلثا؟‪ .‬قال‪{ :‬فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ} هي الثالثة‪.‬‬

‫( ‪)1/213‬‬ ‫الظالم ‪ :‬المتجاوز لما حد ال تعالى‪ ،‬والظلم وضع الشيء في غير موضعه‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان أحكام الطلق فيقرر تعالى في هذه الية أن الطلق الذي يملك الزوج‬ ‫الرجعة فيه هو طلقتان‪ :‬أولى‪ ،‬وثانية فقط‪ ،‬ومن هنا فمن طلق الثانية فهو بين خيارين؛ إما أن‬ ‫يمسك زوجته بمعروف‪ ،‬أو يطلقها بإحسان فإن طلقها فل تحل له حتى تنكح زوجا غيره‪ ،‬هذا‬ ‫معنى قوله تعالى‪{ :‬الطّلقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ} لي يحسن العشرة وهو أداء ما للزوج من‬ ‫حقوق‪ ،‬أو تسريح أي تطليق بإحسان بأن يعطيها باقي صداقها إن كان‪ ،‬ويمتعها بشيء من المال‬ ‫ول يذكرها بسوء‪.‬‬ ‫خذُوا ِممّا آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئا} ‪ :‬حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من‬ ‫حلّ َل ُكمْ‪ 1‬أَنْ تَأْ ُ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وَل يَ ِ‬ ‫مهر زوجته شيئا بدون رضاها‪ ،‬إل في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء‬ ‫معه‪ ،‬وهو غير ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالً ويطلقها ويسمى هذا خلعا‪،‬‬ ‫حدُودَ اللّهِ} وهي هنا‬ ‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا ُ‬ ‫وهو ‪ 2‬حلل على الزوج غير الظالم‪ ،‬وهذا معنى‪{ :‬فَإِنْ ِ‬ ‫المعاشرة الحسنة فل جناح أي ل إثم فميا فدت ‪ 3‬به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن‬ ‫يأخذه منها مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما‪.‬‬ ‫حدُودُ اللّهِ‪ }4‬يريد أحكام شرعه فل يحل تجاوز الحلل إلى الحرام‪ ،‬ول تجاوز‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬تِ ْلكَ ُ‬ ‫الحسان إلى الساءة ول المعروف إلى المنكر ومن يتعد حدود ال فقد ظلم نفسه‪ ،‬عرضها‬ ‫للعذاب‪ ،‬وما ينبغي له ذلك‪.‬‬ ‫__________‬ ‫خفْتُمْ أَل ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ} للحكام وولة المور‪.‬‬ ‫‪ 1‬الخطاب هنا للزواج وفي قوله‪{ :‬فَإِنْ ِ‬ ‫‪ 2‬ل خلف في أن المخالع منها بائنة ل يملك الزوج رجعتها في العدة‪ ،‬وهل يعتبر الخلع طلقا‬ ‫أو فسخا‪ .‬الراجح أنه طلق فتعتد المخالع منها عدة الطلق ثلثة قروء‪.‬‬ ‫‪ 3‬أما ما كان من الفدية مثل المهر أو أقل فل خلف فيه‪ ،‬أي‪ :‬في جوازه‪ ،‬وأما ما كان أكثر من‬ ‫المهر ففيه خلف‪ .‬والراجح على أنه جائز ولكنه مناف لمكارم الخلق‪.‬‬ ‫‪ 4‬القصر في جملة‪{ :‬فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ} ‪ ،‬قصر حقيقي‪ .‬إذ كل ظالم متعد لحدود ال‪.‬‬

‫( ‪)1/214‬‬

‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الطلق الثلث ‪ 1‬بلفظ واحد؛ لن ال تعالى قال‪{ :‬الطّلقُ مَرّتَانِ}‪.‬‬ ‫‪ -2‬المطلقة ثلث طلقات ل تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ‪ 2‬ويطلقها أو يموت عنها‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية الخلع وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها فتخلع نفسها منه بمال تعطيه إياه‬ ‫عوضا عما أنفق عليها في الزواج بها‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الوقوف عند حدود ال وحرمة تعديها‪.‬‬ ‫‪ -5‬تحريم الظلم وهو ثلثة أنواع‪ :‬ظلم الشرك وهذا ل يغفر للعبد إل بالتوبة منه‪ ،‬وظلم العبد‬ ‫لخيه النسان وهذا لبد من التحلل منه‪ ،‬وظلم العبد لنفسه بتعدي حد من حدود ال وهذا أمره إلى‬ ‫ال إن شاء غفره وإن شاء واخذ به‪.‬‬ ‫جعَا إِنْ‬ ‫حلّ لَهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ‬ ‫{فَإِنْ طَّل َقهَا فَل َت ِ‬ ‫حدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ(‪})230‬‬ ‫ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حلّ لَهُ} ‪ :‬الطلقة الثالثة فل تحل له إل بعد أن تنكح زوجا غيره‪.‬‬ ‫{فَإِنْ طَّل َقهَا فَل َت ِ‬ ‫{فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا} ‪ :‬أي ل إثم ول حرج عليهما في الزواج من جديد‪.‬‬ ‫جعَا} ‪ :‬أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بعقد جديد وبشرط أن يظنا إقامة حدود ال فيهما‪،‬‬ ‫{أَنْ يَتَرَا َ‬ ‫وإل فل يجوز نكاحهما‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يقول تعالى مبينا حكم من طلق امرأته الطلقة الثالثة‪ :‬فإن طلقها فل تحل له حتى تنكح زوجا‬ ‫غيره‪ ،‬ويكون النكاح صحيحا ويبني بها الزوج الثاني لحديث‪" :‬حتى تذوقي عسيلته‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وهو الطلق البدعي‪ ،‬والجمهور على أنه يقع ثلثة وخلف الجمهور يقولون‪ :‬طلق بدعي‬ ‫سهِنّ ثَل َثةَ قُرُوءٍ} والطلق‬ ‫ويقع واحدة‪ ،‬ودليلهم الية‪{ :‬الطلق مرتان}‪{ ،‬وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫بلفظ الثلث ليس فيه مرتان ول إقراء‪ ،‬فلذا هو بدعي ول تبين المطلقة به‪ ،‬بل هي مطلقة واحدة‬ ‫ل غير‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل يحل لمرء أن يتزوج مطلقة ثلثا ليحلها لزوجها للعن الرسول صلى ال عليه وسلم من‬ ‫يفعل ذلك في قوله‪" :‬لعن ال المحلل والمحلل له" ‪ .‬وسماه‪ :‬بالتيس المستعار‪.‬‬

‫( ‪)1/215‬‬

‫ويذوق عسيلتك" ‪ ،‬فإن طلقها الثاني بعد البناء و الخلوة والوطء أو مات عنها جاز لها أن تعود إلى‬ ‫الول إن رغب هو في ذلك وعلما من أنفسهما أنهما يقيمان حدود ال فيهما بإعطاء كل واحد‬ ‫حقوق صاحبه ‪ 1‬مع حسن العشرة وإل فل مراجعة تحل لهما‪ .‬ولذا قال تعالى‪{ :‬إِنْ ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا‬ ‫حدُودَ اللّهِ} ثم نوه ال تعالى بشأن تلك الحدود فقال‪{ :‬وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ} وهي شرائعه‪ ،‬بينهما‬ ‫ُ‬ ‫سبحانه وتعالى لقوم يعلمون ‪ ،2‬إذ العالمون بها هم الذين يقفون عندها ول يتعدونها فيسلمون من‬ ‫وصمه الظلم وعقوبة الظالمين‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬المطلقة ثلثا ل تحل لمطلقها ‪ 3‬إل بشرطين‪ :‬الول‪ :‬أن تنكح زوجا ًغيره نكاحا صحيحا‪،‬‬ ‫ويبنى بها ويطأها‪ .‬والثاني‪ :‬أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن ل يتكرر‬ ‫ذلك العتداء الذي أدى إلى الطلق ثلث مرات‪.‬‬ ‫‪ -2‬موت الزوج الثاني كطلقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الول بشرطه‪.‬‬ ‫‪ -3‬إن تزوجت المطلقة ثلثا بنية التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الول فل يحلها هذا‬ ‫النكاح لجل التحليل‪ ،‬لن الرسول صلى ال عليه وسلم أبطله وقال‪" :‬لعن ال المحلل والمحلل له"‬ ‫ويسمى بالتيس المستعار‪ ،‬ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلثا بقصد أن يحلها للول‪.‬‬ ‫ن ضِرَارا‬ ‫سكُوهُ ّ‬ ‫ف وَل ُتمْ ِ‬ ‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُو ٍ‬ ‫{وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ‬ ‫س ُه وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُزُوا وَا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْي ُك ْم َومَا‬ ‫لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪})231‬‬ ‫ظكُمْ ِب ِه وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬ ‫ح ْكمَةِ َي ِع ُ‬ ‫ب وَالْ ِ‬ ‫أَنْ َزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذهب بعض الفقهاء إلى أن ليس على الزوجة عمل لزوجها ول حق له عليها إل في الستمتاع‬ ‫بها‪ ،‬وهو قول واهٍ يرده ما كان عليه بنات رسول ال صلى ال عليه وسلم وأزواجه وأزواج‬ ‫أصحابه‪ ،‬إذ كن يطحن ويغسلن ويطبخن ويقمن بعمل المنزل ويأمرن بذلك بل ويضربن إن‬ ‫قصرن فيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي الذين يفهمون الحكام فهما يهيئهم للعمل بها وبإدراك مصالحها فل يتحيلون في فهمها‬ ‫ليتركوا العمل بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف فيمن طلقت طلقة أو طلقتين ثم تزوجت ومات زوجها وطلقها ورجعت إلى زوجها‬ ‫الول‪ ،‬فهل النكاح الجديد يهدم السابق أو تبقى على ما كانت عليه؟‪ .‬الجمهور على أنها تبقى على‬ ‫ما كانت عليه من طلقة أو طلقتين‪.‬‬

‫( ‪)1/216‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َأجََلهُنّ} ‪ :‬أجل المطلقة مقاربة ‪ 1‬انتهاء أيام عدتها‪.‬‬ ‫{َأوْ سَرّحُوهُنّ} ‪ :‬تسريح المطلقة تركها بل مراجعة لها حتى تنقضي عدتها وتبين من زوجها‪.‬‬ ‫{ضِرَارا} ‪ :‬مضارة لها وإضرارا بها‪.‬‬ ‫{لِ َتعْتَدُوا} ‪ :‬لتتجاوزوا حد الحسان إلى الساءة‪.‬‬ ‫{هُزُوا‪ : }2‬لعبا بها بعدم التزامكم بتطبيق أحكامها‪.‬‬ ‫{ ِن ْع َمتَ اللّهِ} ‪ :‬هنا هي السلم‪.‬‬ ‫ح ْكمَةِ‪ : }3‬السنة النبوية‪.‬‬ ‫{وَالْ ِ‬ ‫ظ ُكمْ بِهِ} ‪ :‬بالذي أنزله من أحكام الحلل والحرام لتشكروه تعالى بطاعته‪.‬‬ ‫{ َيعِ ُ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان أحكام الطلق والخلع والرجعة ففي هذه الية يأمر تعالى عباده المؤمنين‬ ‫إذا طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها ‪ 4‬بمعروف‪ ،‬والمعروف هو‬ ‫حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي عدتها ويسرحها بمعروف فعيطيها كامل حقوقها ول يذكرها‬ ‫إل بخير ويتركها تذهب حيث شاءت‪ .‬وحرم على أحدهم أن يراجع امراته من أجل أن يضر بها‬ ‫ن ضِرَارا لِ َتعْتَدُوا} يريد‬ ‫سكُوهُ ّ‬ ‫فل هو يحسن إليها ول يطلقها فتستريح منه‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وَل ُتمْ ِ‬ ‫عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي نفسها منه بمال وأخبر تعالى‪ :‬أن من‬ ‫يفعل هذا الضرار فقد عرض نفسه للعذاب الخروي‪.‬‬ ‫كما نهى تعالى المؤمنين عن التلعب بالحكام الشرعية‪ ،‬وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقد قال‬ ‫تعالى‪{ :‬وَل تَتّخِذُوا آيَاتِ‪ 5‬اللّهِ هُزُوا} وأمرهم أن يذكروا نعمة ال عليهم حيث من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بالجماع أن المراد من بلوغ الجل هنا‪ :‬مقاربة بلوغه لنه إذا بلغ الجل ل خيار له في‬ ‫المساك‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل خلف بين أهل العلم أن من طلق هازلً أن الطلق يلزمه لحديث أبي داود أن النبي صلى‬ ‫ال عليه وسلم قال‪" :‬ثلث جدهن جد وهزلهن جد‪ :‬النكاح والطلق والرجعة "‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحكمة‪ :‬هي السنة المبينة على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم مراد ال فيما ل نص عليه‬ ‫من الكتاب‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال أهل العلم‪ :‬إن من المساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على زوجته يطلقها‪،‬‬ ‫فإن لم يطلقها خرج من حد المعروف‪.‬‬ ‫‪ 5‬روي عن أبي الدرداء أنه قال‪ :‬كان الرجل في الجاهلية يطلق ويقول‪ :‬إنما طلقت وأنا لعب‪.‬‬ ‫خذُوا آيَاتِ اللّهِ هُزُوا} ‪.‬‬ ‫وينكح ويعتق ويقول‪ :‬كنت لعبا‪ .‬فنزلت هذه الية‪{ :‬وَل تَتّ ِ‬

‫( ‪)1/217‬‬ ‫عليهم بالسلم دين الرحمة والعدالة والحسان‪ ،‬وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‪.‬‬ ‫كما عليهم أن يذكروا نعمة ال عليهم زيادة على السلم وهي نعمة إنزال الكتاب‪ .‬والحكمة‬ ‫ليعظهم بذلك فيأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم‪ ،‬وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم‪ :‬ثم أمرهم‬ ‫بتقواه عز وجل‪ :‬فقال‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ} وأعلمهم أنه أحق أن يُتقى؛ لنه بكل شيء عليم ل يخفى عليه‬ ‫من أمرهم شيء فليحذروا أن يراهم على معصيته مجانبين لطاعته‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يحل للمطلق أن يراجع امرأته من أجل أن يضر بها ويظلمها حتى تخالعه بمال‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة التلعب بالحكام الشرعية بعدم مراعتها وتنفيذها‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب ذكر نعمة ال على العبد وذلك بذكرها باللسان‪ ،‬والعتراف ‪ 1‬بها في الجنان‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب تقوى ال تعالى في السر والعلن‪.‬‬ ‫‪ -5‬مراقبة ال تعالى في سائر شؤون الحياة؛ لنه بكل شيء عليم‪.‬‬ ‫جهُنّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْ َنهُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ‬ ‫{وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فَل َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬ ‫طهَ ُر وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم ل‬ ‫ذَِلكَ‪ 2‬يُوعَظُ ِبهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َل ُك ْم وَأَ ْ‬ ‫َتعَْلمُونَ(‪})232‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ} ‪ :‬أي انتهت عدتهن ‪.3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وصرفها فيما يرضي المنعم عز وجل وذلك باستعمال القوى الفعلية والبدنية في طاعة ال‬ ‫وإنفاق المال فيما يجب أن ينفق فيه‪.‬‬ ‫‪{ 2‬ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ} الشارة فيه إلى حكم العضل المحرم والمخاطب به سائر المسلمين ولم يقل‪:‬‬ ‫ذلكم‪ ،‬إذ الصل هو الشارة إلى المذكور وهو مفرد ولو قال‪ :‬ذلكم‪ ،‬جاز‪.‬‬ ‫‪ 3‬بلوغ الجل في هذه الية هو نهايته وليس كالية السابقة‪ ،‬إذ بلوغ الجل فيها المراد‪ :‬قرب‬ ‫نهايته‪ ،‬إذ لو بلغ الجل نهايته ما كان صحت مراجعتها‪.‬‬

‫( ‪)1/218‬‬

‫{فَل َت ْعضُلُوهُنّ} ‪ :‬أي ل تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل الذي طلقها ولم‬ ‫يراجعها حتى انقضت عدتها‪.‬‬ ‫ضوْا بَيْ َنهُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ} ‪ :‬إذا رضي الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك‪.‬‬ ‫{ِإذَا تَرَا َ‬ ‫{ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ} ‪ :‬أي النهي عن العضل يُكلف به أهل اليمان إذ هم القادرون على الطاعة‪.‬‬ ‫{ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُمْ} ‪ :‬أي ترك العضل خير لكم من العضل وأطهر لقلوبكم؛ إذ العضل قد يسبب‬ ‫ارتكاب الفاحشة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ينهى ال تعالى أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها‬ ‫الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها‪ ،‬إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو به‬ ‫وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الية استجابة لخت معقل بن يسار رضي‬ ‫ال عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها ‪ 1‬الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها‬ ‫معقل‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ذَِلكَ يُوعَظُ ِبهِ} أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل اليمان بال واليوم الخر‬ ‫فهم الحياء الذي يستجيبون ل ورسوله إذا أمروا أو نهوا‪.‬‬ ‫ل ومآلً‪ ،‬وأطهر‬ ‫وأخيرا أخبرهم تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم‪ ،‬حا ً‬ ‫لقلوبهم ومجتمعهم‪ .‬وأعلمهم أنه يعلم عواقب المور وهم ل يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه‪،‬‬ ‫والنصياع لمره ونهيه‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة العضل أي منع المطلقة أن ترجع إلى من طلقها‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب ‪ 2‬الولية على المرأة؛ لن الخطاب في الية كان للولياء {فَل َت ْعضُلُوهُنّ} ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اسم هذا الزوج‪( :‬أبو البداح) وكان قد طلق أخت معقل بن يسار‪ ،‬ورغب في العودة إليها بنكاح‬ ‫جديد بعد انقضاء عدتها‪ ،‬فأبى معقل وقال لها‪ :‬وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه‪ .‬فنزلت هذه‬ ‫الية‪{ :‬وإذا طلقتم‪ }...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬دليله‪ :‬أن أخت معقل كانت ثيبة ومعنها أخوها من الزواج بمن طلقها وراجعها ثم طلقها مرة‬ ‫ثانية وانقضت عدتها ولما نزلت هذه الية قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لمعقل‪ " :‬إن كنت‬ ‫مؤمنا فل تمنع أختك من أبي البداح "‪ ،‬فقال آمنت بال وردها إلى أبي البداح‪ ،‬فهذا دليل على‬ ‫شرطية الولي في النكاح البكر والثيب سواء‪.‬‬

‫( ‪)1/219‬‬

‫‪ -3‬المواعظ تنفع أهل اليمان لحياة قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬في امتثال أوامر ال واجتناب نواهيه الخير كله‪ ،‬والطهر جميعه‪.‬‬ ‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُ ِتمّ ال ّرضَاعَ َة وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُنّ‬ ‫ضعْنَ َأوْلدَهُنّ َ‬ ‫{وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬ ‫س َعهَا ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَدِهَا وَل َموْلُودٌ لَهُ ِبوََل ِدهِ وَعَلَى‬ ‫سوَ ُتهُنّ‪ 1‬بِا ْل َمعْرُوفِ ل ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِل وُ ْ‬ ‫َوكِ ْ‬ ‫ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالً عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَ َردْتُمْ أَنْ‬ ‫ضعُوا َأوْل َد ُكمْ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا‬ ‫تَسْتَ ْر ِ‬ ‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‪})233‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حوْلَيْنِ} ‪ :‬عامين‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ} ‪ :‬أي على الب‪.‬‬ ‫{بِا ْل َمعْرُوفِ} ‪ :‬بحسب حاله يسارا أو إعسارا‪.‬‬ ‫س َعهَا} ‪ :‬طاقتها وما تقدر عليه‪.‬‬ ‫{وُ ْ‬ ‫{ل ُتضَا ّر وَالِ َدةٌ ِبوَلَ ِدهَا ‪ : }2‬أي ل يحل أن تؤذي أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها‪ ،‬أو بمنعها‬ ‫الجرة على إرضاعه هذا في حال طلقها‪ ،‬أو موت زوجها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله تعالى‪{ :‬كسوتهن} ‪ ،‬إما أن يكون المراد به المرضع غير المطلقة‪ ،‬فهي التي يجب لها‬ ‫الكسوة‪ ،‬أما المرضع بأجرة فل كسوة لها وإنما لها ثمن الرضاع‪ ،‬أو يكون ذكر الكسوة من باب‬ ‫مكارم الخلق‪ ،‬إذ ذو الخلق الكريم يكرم مرضعة ولده بالكسوة وغيرها‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية دليل على أن الم أحق بالحضانة إذا طلقت أو مات الوالد ول خلف في ذلك ما لم‬ ‫تتزوج فإن حضانتها تسقط بذلك لقول الرسول صلى ال عليه وسلم لمن شكت إليه‪" :‬إنت أحق به‬ ‫ما لم تنكحي" ‪ .‬واختلف في مدة الحضانة‪ ،‬فمالك يرى‪ :‬أنها إلى بلوغ الغلم وتزوج الجارية‪،‬‬ ‫ورأى الشافعي‪ :‬أنها إلى ثمان سنوات ثم يخبر الولد بين أبيه وأمه‪ ،‬فأيهما اختار له ذلك‪ ،‬والبنت‬ ‫كذلك‪ .‬فقد صح أن النبي صلى ال عليه وسلم خير الولد بين أبيه وأمه‪.‬‬

‫( ‪)1/220‬‬ ‫{وَل َموْلُودٌ َلهُ} ‪ :‬أي ول يضار ‪ 1‬الوالد كذلك بأن يجبر على إرضاع الولد من أمه المطلقة أو‬ ‫يطالب بأجرة ل يطيقها‪.‬‬ ‫{وَعَلَى ا ْلوَا ِرثِ} ‪ :‬الوارث هو الرضيع ‪ 2‬نفسه إن كان له مال وإل فعلى من يكفله من عصبته‪.‬‬ ‫{ ِفصَالً} ‪ :‬فطاما للولد قبل نهاية العامين‪.‬‬

‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫بمناسبة بيان أحكام الطلق وقد تطلق المرأة أحيانا وهي حامل ذكر تعالى أحكام الرضاع‪ ،‬وقال‬ ‫عةَ} أي‪ :‬على الم‬ ‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَا َ‬ ‫ضعْنَ َأوْلدَهُنّ َ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَا ْلوَالِدَاتُ‪ 3‬يُ ْر ِ‬ ‫المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة‪ ،‬وأن على‬ ‫المولود له وهو الب إن كان موجودا نفقة المرضعة طعاما وشرابا وكسوة بالمعروف بحسب‬ ‫حال الوالد من الغنى والفقر‪ ،‬إذ ل يكلف ال نفسا إل ما آتاها من قدرة‪.‬‬ ‫ثم نبه تعالى على أنه ل يجوز أن تؤذى الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من إرضاع ولدها أو تكره‬ ‫على إرضاعه وهي ل تريد ذلك‪ ،‬أو تحرم النفقة مقابل الرضاع أو يضيق عليها فيها كما ل‬ ‫يجوز أن يضار أي يؤذي المولود له وهو الب‪ :‬بأن يجبر على إرضاع ولده من أمه وقد طلقها‬ ‫ول يأن يطالب بنفقة باهظة ل يقدر عليها‪ .‬وعلى الوارث وهو الرضيع نفسه إن كان له مال‪ .‬فإن‬ ‫لم يكن له مال فعلى عصبته الذكور القرب فالقرب أي عليهم أجرة الرضاع فإن لم يكن للولد‬ ‫مال وليس له عصبة وجب على الم أن ترضعه مجانا؛ لنها أقرب الناس إليه‪ ،‬ثم ذكر تعالى‬ ‫رخصتين في الرضاع‪ :‬الولى‪ :‬فطام قبل عامين‪ ،‬فإن لهما ذلك بعد التشاور في ذلك وتقدير‬ ‫مصلحة الولد من هذا الفطام المبكر‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬فَإِنْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬ل ضرر ول ضرار" ‪ ،‬ومن هنا رؤى في الحضانة جانب الولد فينظر‬ ‫فيمن يقدر على حفظه وتربيته‪ ،‬ولما كانت الم أرحم به وأحن عليه أعطيته ما لم تتزوج وتشغل‬ ‫عنه فإن تزوجت فأمها وهي جدته‪ ،‬وإما أم أبيه فخالته أحق به منها‪ ،‬والعبرة بمن يكون أرحم‬ ‫وأحفظ بالولد‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجمهور على أن المراد بالوارث‪ ،‬ورثة الرضيع إذا هلك من نساء ورجال‪ ،‬ذكره القرطبي في‬ ‫تفسيره‪ ،‬وقال غيره‪ :‬إن الوارث هو الرضيع إذا مات والده وترك مالً‪ .‬أجرة المرضع من ماله‪،‬‬ ‫فإن كان ل مال له فمن مال ورثته هو ول تضار هي في واجب نفقتها ول الوالد أو وارثه في‬ ‫أدائها‪ .‬وما فسرنا به الية واضح ومستقيم والحمد ل رب العالمين‪.‬‬ ‫‪{ 3‬والوالدات} مبتدأ‪ ،‬وجملة‪ :‬يرضعن‪ ،‬خبر‪ .‬فالجملة خبرية‪ ،‬ومعناها النشاء‪ .‬إذ ما تضمنته‬ ‫الجملة هو إرشاد من ال تعالى للمؤمنين في طريقة إرضاع أولدهن‪.‬‬

‫( ‪)1/221‬‬ ‫أَرَادَا ِفصَالً عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا} أي ل تضييق ول حرج‪ .‬والثانية إن‬ ‫أراد المولود له أن يسترضع لولده من مرضعا غير أمه فله ذلك إن طابت به نفسه الم‪ ،‬قال‬ ‫ضعُوا َأوْل َدكُمْ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ} بشرط أن يسلم الجرة ‪ 1‬المتفق عليها‬ ‫تعالى‪{ :‬وَإِنْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ تَسْتَ ْر ِ‬

‫بالمعروف بل إجحاف ول مماطلة‪ ،‬وأخيرا وعظ ال كلً من المرضِع والمرضَع له بتقواه في هذه‬ ‫الحدود التي وضعها لهما‪ ،‬وأعلمهم أنه بما يعملون بصير فليحذروا مخالفة أمره‪ ،‬وارتكاب نهيه‪.‬‬ ‫فسبحانه من إلهٍ عظيم برٍ رحيم‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب إرضاع الم ولدها الرضعة الولى "اللّبا" إن كانت مطلقة وسائر الرضاع إن كانت‬ ‫غير مطلقة‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان الحد العلى للرضاع وهو عامان ‪ 2‬تامان‪ .‬ولذا فالزيادة عليهما غير معتبرة شرعا‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز أخذ الجرة على الرضاع‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب نفقة القارب على بعضهم في حال الفقر‪.‬‬ ‫‪ -5‬جواز إرضاع الوالد ولده من ‪ 3‬مرضع غير والدته‪.‬‬ ‫شهُ ٍر وَعَشْرا فَِإذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ فَل‬ ‫سهِنّ أَرْ َب َعةَ أَ ْ‬ ‫{وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ(‪ )234‬وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا‬ ‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫علِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ‬ ‫سكُمْ َ‬ ‫خطْبَةِ النّسَاءِ َأوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد من الجرة هي تلك التي وجبت للمطلقة بإرضاعها ولدها قبل أخذ الوالد له ليرضعه عند‬ ‫غيرها إن لم يكن قد سلمها لها أيام إرضاعها للولد‪.‬‬ ‫‪ 2‬لحديث‪" :‬ل رضاع بعد فصال ول يتم بعد احتلم" رواه أبو دواد الطيالسي‪ .‬عن جابر ذكره ابن‬ ‫كثير‪ .‬وحديث ابن عباس عند البخاري‪" :‬ل يحرم من الرضاع إل ما كان في الحولين"‪ .‬ولذا فما‬ ‫كان من رضاع بعد الحولين فل يحرم بدللة هذا الحديث الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذا كان في ذلك مصلحة للرضيع أو لعجز الوالدة عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/222‬‬ ‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ‬ ‫وََلكِنْ ل ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا إِل أَنْ َتقُولُوا َق ْولً َمعْرُوفا وَل َتعْ ِزمُوا ُ‬ ‫غفُورٌ حَلِيمٌ(‪})235‬‬ ‫حذَرُوهُ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬ ‫سكُمْ فَا ْ‬ ‫وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يُ َت َو ّفوْنَ} ‪ :‬يوفيهم ال تعالى ما كتب لهم من العمر فيموتون‪.‬‬ ‫{وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا} ‪ :‬يتركون زوجات لهم‪.‬‬ ‫سهِنّ} ‪ :‬ينتظرن حتى انقضاء عدتهن‪ ،‬وهي أربعة أشهر وعشر ليال‪.‬‬ ‫{يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫{بََلغْنَ َأجََلهُنّ} ‪ :‬بلغن انتهاء العدة‪.‬‬

‫{فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ} ‪ :‬ل حرج عليكم أيها الولياء فيما فعلن في أنفسهن من مس الطيب والتجمل‬ ‫والتعرض للخطاب‪.‬‬ ‫{فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ} ‪ :‬ل إثم عليكم في التعريض دون التصريح بالخطبة‪ ،‬كما ل إثم في إضمار‬ ‫الرغبة في النفس‪.‬‬ ‫{حَتّى يَبُْلغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ} ‪ :‬أي حتى تنتهي العدة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان أحكام الطلق والعدد والنفقات‪ ،‬ففي هذه الية(‪ )234‬أن على من مات ‪1‬‬ ‫عليها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشر ليال إن كانت حرة‪ ،‬أو نصف المدة إن كانت أمة فل‬ ‫تتجمل ول تمس طيبا‪ ،‬ول تتعرض للخطاب بحال حتى تنقضي عدتها المذكورة في الية إل أن‬ ‫حمَالِ‬ ‫ت الَ ْ‬ ‫تكون حاملً فإن عدتها تنقضي ‪ 2‬بوضع حملها لقوله تعالى من سورة الطلق‪{ :‬وَأُول ُ‬ ‫حمَْلهُنّ} فإذا بلغت أجلها‪ ،‬أي‪ :‬انتهت المدة التي هي‬ ‫ضعْنَ َ‬ ‫أَجَُلهُنّ أَنْ َي َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من مات زوجها أو طلقها في غيبته عنها‪ :‬هل تعتد من يوم الطلق أو الوفاة أو من يوم يأتيها‬ ‫الخبر بذلك؟‪ .‬الجمهور وهو الراجح أنها تعتد من يوم الوفاة أو الطلق‪ ،‬وعليه فلو مات ز وجها‬ ‫أو طلقها ولم يلقها حتى انتهت مدة العدة فل عدة عليها بعد‪.‬‬ ‫‪ 2‬يرى بعض السلف أن تعتد المتوفى عنها زوجها بأقصى الجلين‪ ،‬أي‪ :‬بأطولهما‪ ،‬فإن كانت مدة‬ ‫الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشر اعتدت به‪ ،‬وإل اعتدت بوضع الحمل‪ ،‬وما عليه الجمهور‬ ‫أولى‪ ،‬وهو‪ :‬وضع الحمل‪.‬‬

‫( ‪)1/223‬‬ ‫محدة فيها فل جناح على ذوي زوجها المتوفي ول على ذويها هي فيما تفعل بنفسها من ترك‬ ‫الحداد ‪ 1‬والتعرض للخطاب للتزوج هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُمْ وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا‬ ‫سهِنّ‬ ‫شهُ ٍر وَعَشْرا فَإِذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬ ‫يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫بِا ْل َمعْرُوفِ} أي‪ :‬بما هو مباح لهن ووعظهم في ختام الية بقوله‪{ :‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ}‬ ‫فاحذروه فل تعملون إل ما أذن فيه لكم‪.‬‬ ‫أما الية الثانية(‪ )235‬فقد تضمنت تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلق أو وفاة فل يحل خطبتها‬ ‫لما في ذلك من الضرر؟ إذ قد تحمل هذه الخطبة من رجل مرغوب فيه لماله أو دينه أو نسبه أن‬ ‫تدعي المرأة انقضاء عدتها وهي لم تنقض‪ ،‬وقد تفوت على زوجها المطلق لها فرصة المراجعة‪،‬‬ ‫وهذا كله ضرر محرم‪ .‬كما تضمنت الية في صدرها رفع الحرج‪ ،‬أي‪ :‬الثم في التعريض‬ ‫علَ ْيكُمْ} أيها المسلمون فيما عرضتم‬ ‫بالخطبة دون اللفظ الصريح المحرم فقال تعالى‪{ :‬وَل جُنَاحَ َ‬

‫من خطبة النساء المعتدات نحو قوله‪ :‬إني راغب في الزواج‪ ،‬أو إذا انقضت عدتك تشاورينني إن‬ ‫أردت الزواج‪ .‬كما تضمنت الكشف عن نفسية الرجل إذ قال تعالى‪{ :‬عَلِمَ اللّهُ أَ ّن ُكمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ}‬ ‫مبدين رغبتكم منهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح‪ ،‬ولكن ل تواعدوهن سرا هذا اللفظ‬ ‫هو الدال على تحريم خطبة المعتدة من وفاة أو من طلق بائن‪ ،‬أما الطلق الرجعي فل يصح‬ ‫الخطبة فيه تعريضا ول تصريحا؛ لنها في حكم الزوجة‪ ،‬وقوله‪{ :‬إِل أَنْ َتقُولُوا َقوْلً َمعْرُوفا} هو‬ ‫الذن بالتعريض‪.‬‬ ‫كما تضمنت هذه الية حرمة عقد النكاح على المعتدة حتى تنتهي عدتها إذ قال تعالى‪{ :‬وَل‬ ‫عقْ َدةَ‪ 2‬ال ّنكَاحِ حَتّى يَبُْلغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ} ‪ ،‬والمراد من الكتاب المدة التي كتب ال على‬ ‫َتعْ ِزمُوا ُ‬ ‫المعتدة أن تتربص فيها‪ .‬وختمت الية بوعظ ال تعالى المؤمنين حيث أمرهم أن يعلموا أن ال‬ ‫يعلم ما في أنفسهم ول يخفى عليه شيء من أعمالهم وتصرفاتهم فليحذروه غاية الحذر‪ ،‬فل‬ ‫يخالفوه في أمره ول نهيه‪ .‬كما أعلمهم أنه تعالى غفور لمن تاب منهم بعد الذنب حليم عليهم ل‬ ‫يعاجلهم بالعقوبة ليتمكنوا من التوبة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحداد واجب على المتوفى عنها زوجها فقط لحديث الصحيح‪" :‬ل يحل لمرأة تؤمن بال‬ ‫واليوم الخر أن تحد على ميت فوق ثلث ليال إل على زوج أربعة أشهر وعشرا" ‪ .‬والحداد‪:‬‬ ‫هو ترك أنواع الزنية حتى الكحل والخضاب‪ ،‬وعليها لزوم البيت وعدم التعرض للخطاب‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ل تعقدوا على المعتدة حتى تنقضي عدتها‪ .‬يقال‪ :‬عزم كذا‪،‬وعزم على كذا بمعنى واحد‪.‬‬

‫( ‪)1/224‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان عدة الوفاة وهي أربعة أشهر ‪ 1‬وعشر ليال‪ ،‬وبينت السنة أن عدة المة على النصف‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها وهو عدم التزين ومس الطيب وعدم التعرض‬ ‫للخطاب وملزمة المنزل الذي توفى عنها زوجها وهي فيه فل تخرج منه إل لضرورة قصوى‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة خطبة المعتدة‪ ،‬وجواز التعريض لها بلفظ غير صريح‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة عقد النكاح على معتدة قبل انقضاء عدتها‪ ،‬وهذا من باب أولى ما دام الخطبة محرمة‬ ‫ومن عقد على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ول تحل له بعد عقوبة لهما ‪.2‬‬ ‫‪ -5‬وجوب مراقبة ال تعالى في السر والعلن واتقاء السباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم‪.‬‬ ‫{ل جُنَاحَ‪ 3‬عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ‪ 4‬النّسَاءَ مَا لَمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ‪َ 5‬تفْ ِرضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى‬ ‫علَى ا ْل ُمحْسِنِينَ(‪ )236‬وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ‬ ‫حقّا َ‬ ‫ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُرهُ وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ قَدَ ُرهُ مَتَاعا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬

‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ‪ 6‬مَا فَ َرضْتُمْ إِل أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ َي ْعفُوَ‬ ‫قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬الحكمة في العشر ليال بعد الربعة أشهر‪ ،‬أنها التي ينفخ فيها الروح في الجنين لحديث‪:‬‬ ‫"إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة" ‪ .‬الحديث‪ .‬فثلثة أربعينات بأربعة أشهر‪،‬‬ ‫وفي العشر بعد ينفخ فيه الروح‪ .‬والحديث هو حديث ابن مسعود في مسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا مذهب مالك‪ ،‬أما الجمهور فإنه يفارقها فإذا انتهت عدتها له أن يخطبها ويتزوجها‪ ،‬ول فرق‬ ‫في هذا بين عدة الوفاة أو الطلق غير الرجعي‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا استئناف بياني كأن سائلً سأل عن جواز الطلق قبل البناء وعدمه‪ ،‬فأجاب تعالى بقوله‪:‬‬ ‫{ل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ} الية‪ .‬مبينا الجواز وحكم المهر للمطلقة قبل البناء‪.‬‬ ‫‪ 4‬المطلقات أربع‪ :‬مطلقة قبل البناء‪ ،‬ولم يسم لها مهر فلها المتعة ول عدة عليها‪ .‬المطلقة قبل‬ ‫البناء وسمي لها مهر فلها نصفه إل أن يعفو‪ ،‬ومطلقة بعد البناء لها ما سمي من المهر‪ ،‬وعليها‬ ‫العدة‪ ،‬ومطلقة بعد البناء ولم يسم لها مهر فلها مهر مثيلتها‪.‬‬ ‫‪ 5‬أو هنا بمعنى الواو‪ ،‬أي‪ :‬ولم تفرضوا‪.‬‬ ‫‪ 6‬النصف‪ :‬فيه لغات‪ ،‬كسر النون‪ ،‬وضمها‪ ،‬ونصيف بفتح النون وإشباع الصاد‪ ،‬والنصيف أيضا‪:‬‬ ‫قناع المرأة‪.‬‬

‫( ‪)1/225‬‬ ‫ضلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‬ ‫سوُا ا ْل َف ْ‬ ‫ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَل تَنْ َ‬ ‫عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ‬ ‫الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬ ‫خفْتُمْ فَ ِرجَالً َأوْ‬ ‫سطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ(‪ )238‬فَإِنْ ِ‬ ‫‪ )237‬حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ وَالصّلةِ ا ْلوُ ْ‬ ‫عّل َمكُمْ مَا لَمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ(‪})239‬‬ ‫ُركْبَانا فَإِذَا َأمِنْ ُتمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الجناح ‪ :‬الثم المترتب على المعصية‪.‬‬ ‫{مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ} ‪ :‬ما لم تجامعوهن‪.‬‬ ‫{َأوْ َتفْ ِرضُوا} ‪ :‬تقدروا لهن ‪ 1‬مهرا‪.‬‬ ‫{ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُرهُ} ‪ :‬ذو الوسع في المال‪ ،‬وقدره‪ :‬ما يقدر عليه ويستطيعه‪.‬‬ ‫{ا ْل ُمقْتِرِ} ‪ :‬الضيق العيش‪.‬‬ ‫عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ} ‪ :‬هو الزوج‪.‬‬ ‫{الّذِي بِيَ ِدهِ ُ‬ ‫سوُا ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ} ‪ :‬أي المودة والحسان‪.‬‬ ‫{وَل تَنْ َ‬ ‫{حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ} ‪ :‬بأدائها في أوقاتها في جماعة مع استيفاء شروطها وأركانها وسننها‪.‬‬ ‫{وَالصّلةِ ا ْلوُسْطَى} ‪ :‬صلة العصر‪ ،‬أو الصبح فتجب المحافظة على كل الصلوات وخاصة‬

‫العصر والصبح لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من صلى البردين –العصر والصبح‪ -‬دخل‬ ‫الجنة"‪.‬‬ ‫{قَانِتِينَ} ‪ :‬خاشعين ساكنين ‪.2‬‬ ‫{فَ ِرجَالً} ‪ :‬مشاة على أرجلكم أو ركبانا على الدواب وغيرها مما يركب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في من مات زوجها قبل البناء بها ولم يسم لها صداق هل لها مثل صداق مثيلتها‪ ،‬أو‬ ‫ل صداق لها؟ ولكن لها الميراث وعليها العدة‪ .‬فمن قال‪ :‬بالقياس‪ ،‬ل صداق لها‪ ،‬ومن أخذ بحديث‬ ‫بروع الذي رواه الترمذي وصححه قال‪ :‬لها مهر المثل وترث وتعتد‪ .‬وبروع‪ :‬امرأة مات زوجها‬ ‫قبل البناء بها ولم يسم لها مهرا فقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم لها بمهر المثل والميراث‬ ‫والعدة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخشوع في الصلة مستلزم لترك الكلم فيها وكيف وقد سلم ابن مسعود على رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم وهو في صلته فلم يرد عليه‪ ،‬ثم اعتذر له بقوله‪" :‬إن في الصلة لشغل" أي‪ :‬عن‬ ‫الكلم‪.‬‬

‫( ‪)1/226‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلق وما يتعلق به‪ ،‬ففي هذه الية (‪ :)236‬يخبر تعالى‬ ‫عباده المؤمنين أنه ل إثم ول حرج عليهم إن هم طلقوا أزواجهم قبل البناء بهن‪ ،‬وقبل أن يسموا‬ ‫لهن مهورا أيضا‪ ،‬وفي هذين الحالين يجب عليهم أن يمتعوهن ‪ 1‬بأن يعطوا المطلقة قبل البناء ولم‬ ‫تكن قد أعطيت مهرا ول سمى لها فيعرف مقداره في هذه الحال‪ ،‬وقد تكون نادرة يجب على‬ ‫الزوج المطلق جبرا لخاطرها أن يعطيها مالً على قدر غناه وفقره تتمتع به أياما عوضا عما‬ ‫فاتها من التمتع بالزواج‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬ل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُوا‬ ‫حقّا عَلَى‬ ‫َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬ ‫حسِنِينَ}‪.‬‬ ‫ا ْلمُ ْ‬ ‫وأما الية الثانية(‪ )237‬فإنه تعالى يخبر أن من طلق امرأته قبل البناء بها وقد سمى لها صداقا قل‬ ‫أو كثر فإن عليه أن يعطيها وجوبا نصفه إل أن تعفو عنه المطلقة فل تأخذه تكرما‪ ،‬أو يعفو‬ ‫ل فقال عز وجل‪{ :‬وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ‬ ‫المطلق تكرما فل يأخذ منه شيئا فيعطيها إياه كام ً‬ ‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ} ‪-‬أي‪ :‬فالواجب نصف ما فرضتم‪ -‬إل أن‬ ‫َتمَسّوهُ ّ‬ ‫يعفون –المطلقات‪ -‬أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج‪ .‬ثم بعد تقرير هذا الحكم العادل‬ ‫الرحيم دعا الطرفين ‪ 2‬إلى العفو‪ ،‬وأن من عفا منهما كان أقرب إلى التقوى فقال عز وجل‪{ :‬وَأَنْ‬

‫سوُا‬ ‫َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى} ونهاهم مع هذا عن عدم نسيان المودة والحسان بينهما فقال‪{ :‬وَل تَنْ َ‬ ‫ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ} ‪.‬‬ ‫وأما الية الثانية(‪ )238‬فإنه تعالى يرشد عباده المؤمنين إلى ما يساعدهم على اللتزام بهذه‬ ‫الواجبات الشرعية والداب السلمية الرفيعة وهو المحافظة على إقامة الصلوات الخمس عامة‬ ‫ت وَالصّلةِ ا ْلوُسْطَى} ‪ ،‬وكانوا قبلها‬ ‫والصلة الوسطى خاصة فقال تعالى‪{ :‬حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬ ‫يتكلمون في الصلة فمنعهم من ذلك بقوله‪َ { :‬وقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} أي ساكنين خاشعين‪ .‬وإن حصل‬ ‫خوف ل يتمكنون معه من أداء الصلة على الوجه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء ولم يكن سمي لها مهرا ‪ ،‬ومستحبة لغيرها‪ .‬هذا أشهر المذاهب‬ ‫وأقربها من الحق‪ ،‬ومقدار المتعة موكول إلى المطلق‪ ،‬فليمتع بحسب حاله غنيا وفقرا‪ ،‬هذا في‬ ‫غير المطلقة قبل البناء ولم يسم لها مهرا ؛ لن متعتها واجبة‪ ،‬إذ ليس لها غيرها فقد يتولى‬ ‫القاضي بيان مقدارها‪.‬‬ ‫‪ 2‬وإن كان الخطاب صالحا لكل من الزوج والزوجة إل إن العفو من الزوجة أولى؛ لن الطلق‬ ‫كان منه‪ ،‬ولو كانت هي سببه لكان عفوها هي أولى‪ ،‬ولعل هذا سر قوله‪{ :‬أقرب للتقوى} ‪.‬‬

‫( ‪)1/227‬‬ ‫المطلوب من السكون والخشوع فليؤدوها وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم‪ ،‬حتى‬ ‫إذا زال الخوف وحصل المن فليصلوا على الهيئة التي كانوا يصلون عليها من سكون وسكوت‬ ‫خفْتُمْ فَ ِرجَالً َأوْ ُركْبَانا فَإِذَا َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ‪َ 1‬كمَا عَّل َمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا‬ ‫وخشوع‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬فَإِنْ ِ‬ ‫َتعَْلمُونَ} يريد ال تعالى بالذكر هنا إقام الصلة أولً‪ ،‬ثم الذكر العام مذكرا إياهم بنعمة العلم مطالبا‬ ‫إياهم بشكرها وهو أن يؤدوا الصلة على أكمل وجوهها وأتمها؛ لنها المساعد على سائر‬ ‫الطاعات وحسبها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ .‬هذا ما تضمنته الية الرابعة(‪.)239‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان حكم المطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر‪ ،‬وأن لها المتعة فقط بحسب حال المطلق من‬ ‫غنى وفقر‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان حكم المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداق فإن لها نصفه وجوبا إل أن تتنازل عنه‬ ‫برضاها فلها ذلك كما أن الزوج المطلق إذا تنازل عن النصف وأعطاها المسمى كاملً فله ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬الدعوة إلى إبقاء المودة والفضل والحسان بين السرتين‪ :‬أسرة المرأة المطلقة‪ ،‬وأسرة الزوج‬ ‫المطلق‪ ،‬حتى ل يكون الطلق سببا في العداوات والتقاطع‪.‬‬

‫‪ -4‬وجوب المحافظة على الصلوات الخمس وخاصة صلة العصر ‪ 2‬وصلة الصبح "الصلة‬ ‫الوسطى"‪.3‬‬ ‫‪ -5‬منع الكلم في الصلة لغير إصلحها‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب الخشوع في الصلة‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬فَإِذَا َأمِنْ ُتمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ} أي‪ :‬أتموا الصلة كما أمركم فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها‬ ‫وجلوسها كما تفعلون ذلك في حال المن وعدم الخوف‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في بيان الصلة الوسطى بلغ الخلف عشرة أقوال حتى عدت كل صلة الصلة‬ ‫الوسطى حتى يتم المحافظة على الصلوات الخمس كلها‪ ،‬وأقوى القوال إنها الصبح أو العصر‪،‬‬ ‫ورجح مالك‪ :‬الصبح‪ ،‬ورجح غيره‪ :‬العصر‪ ،‬والسنة الصحيحة شاهدة لمن قال أنها العصر‪ ،‬وذلك‬ ‫لحديث الصحيح‪" :‬شغلونا عن الصلة الوسطى صلة العصر" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الوسطى مؤنث الوسط‪ ،‬ووسط الشيء خيره وأعدله‪ ،‬وفي هذا المعنى قال الشاعر‪ ،‬يمدح‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم ‪ ...‬وأكرم الناس أما برةً وأبا‬ ‫وأفردت الصلة الوسطى بالذكر تشريفا لها‪.‬‬

‫( ‪)1/228‬‬ ‫‪ -7‬بيان صلة الخائف من عدو وغيره وأنه يجوز له أن يصلي وهو ماش أو راكب‪.‬‬ ‫‪ -8‬المر بملزمة ذكر ال‪ ،‬والشكر على نعمه وبخاصة نعمة العلم بالسلم‪.‬‬ ‫ح ْولِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَ َرجْنَ‬ ‫ج ِهمْ مَتَاعا‪ِ 1‬إلَى ا ْل َ‬ ‫{وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّةً لَزْوَا ِ‬ ‫طّلقَاتِ مَتَاعٌ‬ ‫حكِيمٌ(‪ )240‬وَلِ ْلمُ َ‬ ‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ‪َ 2‬‬ ‫فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ(‪ )241‬كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ(‪})242‬‬ ‫بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ح ْولِ} ‪ :‬العام‪.‬‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫{فَإِنْ خَرَجْنَ} ‪ :‬من بيت الزوج المتوفي قبل نهاية السنة‪.‬‬ ‫{مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ} ‪ :‬أي متعة ل مبالغة فيها‪ ،‬ول تقصير‪.‬‬ ‫حقّا} ‪ :‬متعينا على المطلقين التقياء‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان حقوق النساء المطلقات والمتوفى عنهن ففي هذه الية(‪ )240‬يخبر تعالى‬ ‫أن الذين يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجا فإن لهن من ال تعالى وصية على ورثة الزوج‬

‫المتوفى أن ينفذوها وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفى عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل وتشرب‬ ‫إلى نهاية السنة بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال إل إذا رغبت في الخروج بعد‬ ‫انقضاء العدة فلها ذلك‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ‪ 3‬يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالمتاع هنا‪ :‬هو السكنى في بيت زوجها المتوفى عنها إن كان له سكنى يملكها‪.‬‬ ‫حكِيمٌ} إشارة إلى وجوب تنفيذ وصية ال تعالى؛ لنه غالب على‬ ‫‪ 2‬في قوله تعالى‪{ :‬وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫أمره قاهر لعباده فكيف يخرجون عن طاعته‪ ،‬والحكيم ل يعترض عليه بل يسلم المر إليه رزقنا‬ ‫ال طاعته بالسلم إليه ظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في توجيه هذه الية فمن قائل‪ :‬بنسخها وأن الناسخ لها الية التي قبلها‪{ :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ‬ ‫شهُ ٍر وَعَشْرا} ‪ ،‬ومن قائل‪ :‬بنسختها آية المواريث‪،‬‬ ‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬ ‫مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫إذ المتوفى عنها إن لم يكن للزوج ولد الربع من التركة‪ ،‬ومن قائل‪ :‬وهو مجاهد ورجحه ابن‬ ‫جرير الطبري بعدم النسخ وأنه رحمة بالمؤمنة المتوفى عنها زوجها إذا أتمت عدة الوفاة أربعة‬ ‫أشهر وعشرا يسمح لها بالبقاء في بيت زوجها الهالك إلى نهاية السنة‪ ،‬وهذا حسب اختيارها‬ ‫ورغبتها فكانت هذه الوصية وصية رحمة مندوبا إليها‪ ،‬وهذا الذي رجحته في تفسير الية‬ ‫فليتأمل‪.‬‬

‫( ‪)1/229‬‬ ‫ح ْولِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا‬ ‫جهِمْ مَتَاعا إِلَى ا ْل َ‬ ‫وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّ ًة لَ ْزوَا ِ‬ ‫حكِيمٌ} وقوله فل جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن تقدم‬ ‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫معناه‪ ،‬وهو أن للمعتدة إذا انقضت عدتها أن تتزين وتمس الطيب وتتعرض للخطاب لتتزوج‪ .‬وما‬ ‫حكِيمٌ} إشارة إلى أن هذه الوصية قد شرعها عزيز حكيم فهي متعينة‬ ‫ختمت به الية‪{ :‬وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫التحقيق والتنفيذ‪.‬‬ ‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ} ففيها حكم آخر وهو أن‬ ‫وأما الية الثانية(‪{ )241‬وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬ ‫المطلقة المبني بها على مطلقها أن يمتعها بشيء من المال كثياب أو دابة أو خادمة‪ ،‬وعليه‬ ‫فالمطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها‪ ،‬والمطلقة قبل البناء‬ ‫وقد سمى لها المهر فإن لها نصف المهر ل غير‪ ،‬والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في هذه‬ ‫الية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الستحباب ‪1‬؛ لنها لها المهر كاملً‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثالثة(‪{ )242‬كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ} معناه كهذا التبيين‬ ‫لحكام الطلق والخلع والرضاع والعدد والمنع يبين تعالى لنا آياته المتضمنة أحكام شرعه لنعقلها‬ ‫ونعمل بها فنكمل عليها ونسعد في الحياتين الدنيا والخرة‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬البقاء على المعتدة عدة وفاة في بيت الهالك سنة إن طابت نفسها بذلك وذلك بعد انقضاء‬ ‫العدة الواجبة‪ ،‬فالزائد وهو سبعة أشهر وعشرون يوما في هذه الوصية إل أن جمهور أهل العلم‬ ‫يقولون بنسخ هذه الوصية‪ ،‬وعدم القول بالنسخ أولى‪ ،‬لختلفهم في الناسخ لها ‪.2‬‬ ‫‪ -2‬حق ‪ 3‬المطلقة المدخول بها في المتعة بالمعروف‬ ‫‪ -3‬منة ال على هذه المة ببيان الحكام لها لتسعد بها وتكمل عليها‪ ،‬فلله الحمد والشكر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدم مثل هذا البيان في اليات السابقة تحت رقم صفحة ‪ 227‬من نهر الخير‪.‬‬ ‫‪ 2‬رجح هذا القول شيخ السلم أحمد ابن تيمية‪ ،‬ومال إليه تلميذه‪ :‬ابن القيم‪ ،‬ولم يفصح عنه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬تقرير حق المتعة للمدخول بها على سبيل السنية والستحباب كما تقدمت في النهر‪.‬‬

‫( ‪)1/230‬‬ ‫حذَرَ ا ْل َم ْوتِ فَقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُوا ‪ 1‬ثُمّ أَحْيَا ُهمْ إِنّ‬ ‫{أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُوا مِنْ دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ ُألُوفٌ َ‬ ‫شكُرُونَ(‪َ )243‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ‬ ‫ضلٍ عَلَى النّاسِ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ ل يَ ْ‬ ‫اللّهَ لَذُو َف ْ‬ ‫ضعَافا كَثِي َر ًة وَاللّهُ َيقْ ِبضُ‬ ‫عفَهُ لَهُ َأ ْ‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪ )244‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ‬ ‫اللّهَ َ‬ ‫جعُونَ(‪})245‬‬ ‫ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬ ‫وَيَبْسُ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أََلمْ تَرَ} ‪ :‬ألم ينته إلى علمك ‪ ...‬فالرؤية قلبية والستفهام للتعجب‪.‬‬ ‫{أُلُوفٌ} ‪ :‬جمع ألف‪ ،‬وهي صيغة كثرة فهم إذا عشرات اللوف‪.‬‬ ‫{فِي سَبِيلِ اللّهِ} ‪ :‬الطريق الموصل إلى مرضاته وهو طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن ذلك‬ ‫جهاد الكفار والظالمين حتى ل تكون فتنة‪.‬‬ ‫{ ُيقْ ِرضُ اللّهَ} ‪ :‬يقتطع شيئا من ماله وينفقه في الجهاد لشراء السلح وتسيير المجاهدين‪.‬‬ ‫{ َيقْ ِبضُ وَيَبْسُطُ} ‪ :‬يضيق ويبسط يوسع‪ ،‬يقبض ابتلء‪ ،‬ويبسط امتحانا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخاطب ال تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم فيقول‪ :‬ألم ينته إلى علمك قصة الذين خرجوا من‬ ‫ديارهم فرارا من الموت وهم ألوف‪ ،‬وهم أهل مدينة من مدن ‪ 2‬بني إسرائيل أصابها ال تعالى‬ ‫بمرض ‪ 3‬الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم ال عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل‬ ‫عليه السلم‪ ،‬فهل أنجاهم فرارهم من الموت‪ ،‬فكذلك من يفر من القتال هل ينجيه فراره من‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬هذا المر أمر تكويني ل شرعي تعبدي‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر القرطبي أن اسم هذه القرية‪" :‬داوردان" وهي من نواحي شرق واسط بينهما فرسخ (معجم‬ ‫ياقوت)‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى الترمذي وصححه أن النبي صلى ال عليه وسلم ذكر الطاعون فقال‪" :‬بقيت رجز أو‬ ‫عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا منها‪ ،‬وإذا وقع‬ ‫بأرض ولستم بها فل تهبطوا عليها" ‪ .‬قلت‪ :‬هذا ما يعرف الن بالحجر الصحي‪.‬‬

‫( ‪)1/231‬‬ ‫الموت؟ والجواب‪ :‬ل‪ ،‬وإذا فلم الفرار من الجهاد إذا تعين؟ وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم‬ ‫بإحيائها فضل من ال عليها عظيم‪ ،‬ولكن أكثر الناس ل يشكرون‪ .‬وإذا فقاتلوا أيها المسلمون في‬ ‫سبيل ‪ 1‬ال ول تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال‪ ،‬واعلموا أن ال سميع لقوالكم عليم‬ ‫بنياتكم وأعمالكم فاحذروه‪ ،‬ثم فتح تعالى باب الكتتاب المالي للجهاد فقال‪{ :‬مَنْ ذَا الّذِي ‪ُ 2‬يقْ ِرضُ‬ ‫اللّهَ قَرْضا حَسَنا} ل شائبة شرك فيه لحد والنفس طيبة به فإن ال تعالى يضاعفه له أضعافا‬ ‫كثيرة الدرهم بسبعمائة درهم فأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل إعلء كلمة ال‪ ،‬ول تخافوا الفقر فإن‬ ‫ربكم يقبض ويبسط‪ :‬يضيق على العبد ابتلء ويوسع امتحانا‪ ،‬فمنعكم النفاق في سبيل ال ل يغير‬ ‫من تدبير ال شيئا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إذا نزل الوباء ببلد ل يجوز الخروج فرارا منه‪ ،‬بهذا ثبتت السنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب ذكر النعم وشكرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب القتال في سبيل ال إذا تعين‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل النفاق في سبيل ال‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان الحكمة في تضييق ال على العبد رزقه‪ ،‬وتوسيعه‪ ،‬وهو البتلء لجل الصبر والمتحان‬ ‫لجل الشكر‪ ،‬فيالخيبة من لم يصبر‪ ،‬عند التضييق عليه‪ ،‬ولم يشكر عند التوسعة له‪.‬‬ ‫{ أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ َب ْعدِ مُوسَى ِإذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ُنقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ‬ ‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَل ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَل ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ‬ ‫اللّهِ قَالَ َهلْ َ‬ ‫أُخْ ِرجْنَا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القتال في سبيل ال‪ :‬هو ما كان لعلء كلمة ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام هنا للتخصيص والتهييج على النفاق في سبيل ال‪.‬‬

‫( ‪)1/232‬‬ ‫مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِل قَلِيلً مِ ْن ُه ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ(‪َ )246‬وقَالَ َل ُهمْ‬ ‫حقّ بِا ْلمُ ْلكِ مِنْ ُه وَلَمْ‬ ‫نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َل ُكمْ طَالُوتَ مَلِكا قَالُوا أَنّى َيكُونُ َلهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَ َ‬ ‫س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي مُ ْلكَهُ مَنْ‬ ‫سطَةً فِي ا ْلعِ ْل ِم وَالْجِ ْ‬ ‫طفَاهُ عَلَ ْي ُك ْم وَزَا َدهُ بَ ْ‬ ‫صَ‬ ‫سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ ا ْ‬ ‫ُي ْؤتَ َ‬ ‫علِيمٌ(‪})247‬‬ ‫يَشَاءُ وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلمَلِ} ‪ :‬أشراف الناس من أهل الحل والعقد بينهم إذا نظر المرء إليهم ملوا عينه رواء وقلبه‬ ‫هيبة‪.‬‬ ‫عسى ‪ :‬كلمة توقع وترج‪.‬‬ ‫{كُ ِتبَ} ‪ :‬فرض ولزم‪.‬‬ ‫{مَلِكا} ‪ :‬يسوسهم في السلم والحرب‪.‬‬ ‫{أَنّى َيكُونُ} ‪ :‬الستفهام للنكار بمعنى كيف يكون له الملك‪.‬‬ ‫طفَاهُ} ‪ :‬فضله عليكم واختاره لكم‪.‬‬ ‫{اصْ َ‬ ‫بسطة في الجسم ‪ :‬أي طولً زائدا يعلو به من عداه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقد فرض ال تعالى على المؤمنين القتال‪ ،‬ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر وكان لبد‬ ‫من المال والرجال البطال الشجعان‪ ،‬فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر لتقوى‬ ‫الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معا‪ ،‬ومن هنا لمطاردة الجبن والبخل‬ ‫وهما من شر الصفات في الرجال ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت‬

‫( ‪)1/233‬‬ ‫التاركين ديارهم لغيرهم كيف أماتهم ال ولم ينجيهم فرارهم‪ ،‬ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم‬ ‫ولغيرهم‪ ،‬فالفرار من الموت ل يجدي الصبر والصمود حتى النصر‪ ،‬ثم أمر تعالى المؤمنين بعد‬ ‫أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال‪َ { :‬وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} ‪ ،‬ولما كان المال المقدم في‬ ‫القتال فتح ال لهم اكتتابا ماليا وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به‪ ،‬ثم‬ ‫قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تمنل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف‬ ‫المسلمين الذين يحاربهم البيض والحمر وبل هوادة وعلى طول الزمن فقال تعالى وهو يخاطبهم‬ ‫في شخص نبيهم صلى ال عليه وسلم‪{ :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا‬

‫لِنَ ِبيّ‪َ 1‬لهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ُنقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} يريد ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إياك قول أشراف‬ ‫بني إسرائيل –بعد وفادة موسى‪ -‬لنبي لهم ابعث لنا ‪ 2‬ملكا نقاتل في سبيل ال فنطرد أعداءنا من‬ ‫بلدنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربنا‪ .‬ونظرا إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف‬ ‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلقِتَالُ} بتعيين الملك‬ ‫النبي أن ل يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال‪َ { :‬هلْ‪َ 3‬‬ ‫القائد أن ل تقاتلوا!؟ فدفعتهم الحمية فقالوا‪ :‬وما لنا أل نقاتل في سبيل الحال أنا قد أخرجنا من‬ ‫ديارنا ‪ 4‬وأبنائنا‪ ،‬وذلك أن العدو وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنو إسرائيل‬ ‫فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنى والربا وعطلوا الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط ال‬ ‫عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لجئين‪.‬وما كان من نبي ال شمويل إل أن بعث من‬ ‫تلك الجماعات الميتة موتا معنويا رجلً منهم هو طالوت وقادهم فلما دنوا من المعركة جبنوا‬ ‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ‬ ‫وتولى أكثرهم ‪ 5‬منهزمين قبل القتال‪ ،‬وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم‪َ { :‬هلْ َ‬ ‫عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَل ُتقَاتِلُوا} ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هو شمويل بن بال بن علقمة‪ ،‬هكذا ذكره القرطبي في تفسيره‪ ،‬ويقال فيه‪ :‬شمعون أيضا‬ ‫ويعرف بابن العجوز؛ لن أمه كانت عجوزا فسألت ال الولد فوهبها إياه بعد عقم وكبر سن‪.‬‬ ‫‪{ 2‬ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ُنقَاتِلْ‪ }..‬فيه دليل على أن الجهاد لعلء كلمة ال لبد له من إمام تجتمع عليه‬ ‫كلمة المة وأيما جهاد يخلو من إمامة شرعية يقاتل تحت رايتها فعاقبتها خسر‪ ،‬وشاهد هذا حال‬ ‫المسلمين اليوم فقد قاتلوا الستعمار تحت شعار الحزاب فلما انتصروا خسروا كل شيء حتى‬ ‫دينهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬عسيتم‪ :‬بكسر السين‪ ،‬وعسيتم بفتح السين‪ ،‬وهما قراءتان سبعيتان‪ .‬الولى لنافع‪ ،‬والثانية‬ ‫لحفص‪.‬‬ ‫‪ 4‬أن الخروج من الوطن صعب على النفوس البشرية‪ ،‬وهذا رسول ال صلى ال عليه وسلم عند‬ ‫خروجه من مكة قال‪" :‬إني أعلم أنك أحب البلد إلى ال ولول أن قومك أخرجوني ما خرجت" ‪،‬‬ ‫ويقول‪" :‬اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أكثر" ‪.‬‬ ‫‪ 5‬ولذا نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أمته عن تمني لقاء العدو فقال‪" :‬ل تتمنوا لقاء العدو‬ ‫وسلوا ال العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا" ‪.‬‬

‫( ‪)1/234‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ )246‬من هذا القصص أما الية الثانية(‪ )247‬فقد تضمنت اعتراض‬ ‫مل بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكا عليهم بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة‪ ،‬وأنهم أحق‬ ‫علَ ْيكُ ْم وَزَا َدهُ َبسْطَةً فِي ا ْلعِ ْلمِ‬ ‫طفَاهُ َ‬ ‫بهذا المنصب منه‪ ،‬ورد عليهم حجتهم الباطلة بقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ اصْ َ‬

‫علِيمٌ} ‪ .‬كان هذا رد شمويل على قول المل‪{ :‬أَنّى‬ ‫‪ 1‬وَا ْلجِسْمِ وَاللّهُ ُيؤْتِي مُ ْل َكهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ‬ ‫سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ} ‪ .‬وكأنهم لما دمغتهم الحجة‬ ‫حقّ بِا ْلمُ ْلكِ مِنْهُ‪2‬وَلَمْ ُي ْؤتَ َ‬ ‫َيكُونُ َلهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَ َ‬ ‫وهي أن ال تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الختيار وأهله للولية بما أعطاه وزاده‬ ‫من العلم وقوة الجسم‪ ،‬والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلمة الحواس‬ ‫وشجاعة العقل والقلب أقول كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بطالوت على عادة بني إسرائيل‬ ‫في التعنت طالبوا بآية تدل على أن ال حقا اختاره لقيادتهم فقال لهم إلخ وهي الية(‪ )248‬التية‪.‬‬ ‫سكِينَةٌ مِنْ رَ ّب ُك ْم وَبَقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ آلُ مُوسَى وَآلُ‬ ‫{ َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ آيَةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َيكُمُ التّابُوتُ فِيهِ َ‬ ‫ك ليَةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ(‪})248‬‬ ‫حمُِلهُ ا ْلمَل ِئكَةُ إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫هَارُونَ تَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{نَبِ ّيهُمْ} ‪ :‬شمويل‪.‬‬ ‫{آيَةَ مُ ْلكِهِ} ‪ :‬علمة أن ال تعالى ملكه عليكم‪.‬‬ ‫{التّابُوتُ} ‪ :‬صندوق خشبي فيه بقية من آثار آل موسى وآل هارون‪.‬‬ ‫سكِي َنةٌ} ‪ :‬طمأنينة القلب وهدوء نفسي‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في تقديم العلم على الجسم إشارة إلى أن إمامة الجاهل وقيادته ل خير فيها‪ ،‬والمراد من العلم‬ ‫علم الشرائع وهي تتناول السلم والحرب فلذا هو كامل الهلية وحسبه اصطفاء ال تعالى واختياره‬ ‫له‪.‬‬ ‫‪ 2‬لن الملك في سبط يهوذا والنبوة في بني لوي‪ ،‬وطالوت من سبط بنيامين فما هو من سبط‬ ‫الملك ول في بني لوي أهل النبوة‪.‬‬

‫( ‪)1/235‬‬ ‫{وَ َبقِيّةٌ} ‪ :‬بقية الشيء ما تبقى منه بعد ذهاب أكثره وهي هنا رضاض من اللواح التي تكسرت‪،‬‬ ‫وعصا موسى وشيء من آثار أنبيائهم‪.‬‬ ‫حمِلُهُ ا ْلمَل ِئكَةُ} ‪ :‬من أرض العمالقة فتضعه بين يدي بني إسرائيل في مخيماتهم‪.‬‬ ‫{ َت ْ‬ ‫{إِنّ فِي َذِلكَ ليَةً َلكُمْ} ‪ :‬أي في إتيان التابوت الذي أخذه العدو بالقوة منكم في رده إليكم علمة‬ ‫قوية على اختيار ال تعالى لطالوت ملكا عليكم‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫قد أصبح بشرح الكلمات معنى الية واضحا وخلصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك ال‬ ‫تعالى لطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المخصوب منهم وهو رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر‬ ‫استمداد قوة معنوياتهم لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون؛ كرضاض اللواح‪ ،‬وعصا‬

‫موسى ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه‪ ،‬فكان هذا التابوت‬ ‫بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا للقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ول يزالون‬ ‫يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم‪ ،‬ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل ال‬ ‫تعالى لهم إتيان ‪ 1‬التابوت آية على تمليك طالوت عليهم وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم‬ ‫فتسكن ‪ 2‬به قلوبهم وتهدأ نفوسهم فيقاتلون وينتصرون بإذن ال تعالى‪" ،‬أما كيفية حمل الملئكة‬ ‫للتابوت فإن الخبار تقول إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذا ابتلوا بمرض البواسير وبآفات‬ ‫زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لنبي إسرائيل وساق ال أقدارا لقدار‪ ،‬فجعلوه‬ ‫في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل فمشت العربة فساقتها‬ ‫‪ 3‬الملئكة حتى وصلت بها إلى منازل بني‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نسبة التيان إلى التابوت أسلوب عربي‪ ،‬نحو‪" :‬عزم المر"‪ .‬و"جدار يريد أن ينقض" وال في‬ ‫التابوت للعهد فهو معروف لهم معهود عندهم‪ ،‬وقيل‪ :‬طوله ثلثة أذرع وعرضه ذراعان‪ ،‬وهو‬ ‫من خشب تعمل منه المشاط يقال له الشمشار وعليه صفائح الذهب‪.‬‬ ‫‪ 2‬السكينة‪ :‬قال فيها مجاهد إنها حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينه شعاع إلى آخر ما قال‪،‬‬ ‫والصحيح ما في التفسير ويؤيده قول ابن عطية‪ ،‬إذ قال‪" :‬والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء‬ ‫فاضلة من بقايا النبياء وأثارهم فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى إلى أنه صح عن‬ ‫نبينا صلى ال عليه وسلم أن السكينة تكون ملكا كما في حديث مسلم‪ :‬إذ كان رجل يقرأ سورة‬ ‫الكهف وعنده فرس مربوط فغشيته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل الفرس منها فلما أصبح أخبر‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم بذلك‪ ،‬فلما قال‪" :‬تلك السكينة نزلت للقرآن" ‪ .‬وتكون السكينة‬ ‫بمعناها‪ :‬وهو السكون كما في حديث مسلم‪" :‬إل نزلت عليهم السكينة‪ ،‬وحفتهم الملئكة" ‪ .‬الحديث‪.‬‬ ‫‪ 3‬هكذا تقول الروايات على أن حمل الملئكة كان يدفع العربة والسير بها إلى ديار بني إسرائيل‬ ‫ول مانع من حمل الية على ظاهرها وهو أن الملئكة أخذت التابوت وحملته إلى بني إسرائيل‬ ‫وهو الظاهر‪.‬‬

‫( ‪)1/236‬‬ ‫إسرائيل" فكانت آية وأعظم آية‪ ،‬وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت‪ ،‬وباسم ال تعالى قادهم في الية‬ ‫التالية(‪ )249‬بيان السير إلى ساحات القتال‪.‬‬ ‫ط َعمْهُ‬ ‫صلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ‪َ 1‬ومَنْ َلمْ يَ ْ‬ ‫{فََلمّا َف َ‬ ‫فَإِنّهُ مِنّي إِل مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِ ْنهُ إِل قَلِيلً مِ ْنهُمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ‬ ‫ت وَجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ‪ 2‬أَ ّنهُمْ مُلقُو اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَ َبتْ‬ ‫قَالُوا ل طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ بِجَالُو َ‬

‫فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ(‪})249‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫صلَ طَالُوتُ}‪ : 3‬انفصل من الديار وخرج يريد العدو‪.‬‬ ‫{ َف َ‬ ‫{بِا ْلجُنُودِ}‪ : 4‬العسكر وتعداده –كما قيل‪ :‬سبعون ألف مقاتل‪.‬‬ ‫{مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ} ‪ :‬مختبركم بنهر جار لعل هو نهر الردن الن‪.‬‬ ‫ط َعمْهُ} ‪ :‬لم يشرب منه‪.‬‬ ‫{ َومَنْ لَمْ َي ْ‬ ‫{غُ ْرفَةً}‪ : 5‬الغرفة بالفتح المرة‪ ،‬وبالضم السم من الغتراف‪.‬‬ ‫{وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ} ‪ :‬هم الذين لم يشربوا من النهر‪ ،‬أما من شرب فقد كفر وأشرك‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬ليس من أصحابي في هذه الحرب ول من جندي الذين أقاتل بهم ولم يرد خروجه من‬ ‫اليمان وهو كقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من غش فليس منا" ‪" ،‬ومن رغب عن سنتي‬ ‫فليس مني" ‪ ،‬فإنه ل يعني كفره‪.‬‬ ‫‪ 2‬الظن هنا‪ :‬بمعنى اليقين‪ ،‬أو يكون الظن على بابه وليس هو في لقاء ال تعالى وإنما هو في‬ ‫الموت في هذه الحرب هل يقتلون فيلقون ال أو لم يقتلوا‪.‬‬ ‫طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ} وبقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ‬ ‫‪ 3‬هل كان طالوت نبيا؟ يستدل على نبوته بقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ اصْ َ‬ ‫مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ} وال أعلم وعلى كل فهو عبد صالح‪.‬‬ ‫‪ 4‬لفظ الجند وجمعه‪ :‬جنود وأجناد‪ ،‬مشتق من الجند الذي هو غليظ الرض‪ ،‬إذ الجنود يعتصم‬ ‫بعضهم ببعض فيقوون ويغلظون على عدوهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬الغرفة بالضمة‪ :‬اسم ل يعرف كالكلة‪ ،‬اسم لما يؤكل‪ ،‬والغرفة أيضا‪ :‬البناء العالي‪ ،‬والجمع‪:‬‬ ‫غرف‪.‬‬

‫( ‪)1/237‬‬ ‫{أَ ّنهُمْ مُلقُو اللّهِ} ‪ :‬أي‪ :‬يوم القيامة فهم يؤمنون بالبعث الخر‪.‬‬ ‫{كَمْ مِنْ فِئَةٍ} ‪ :‬كم للتكثير‪ ،‬والفئة‪ :‬الجماعة يفيء بعضها إلى بعض‪.‬‬ ‫{وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ} ‪ :‬يسددهم ويعينهم وينصرهم‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫إنه لما خرج طالوت بالجيش أخبرهم أن ال تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر‬ ‫ينتهون إليه وهم في حر شديد وعطش شديد‪ ،‬ولم يأذن لهم في الشرب منه إل ما كان من غرفة‬ ‫واحدة‪ ،‬فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن‪ ،‬ومن عصى وشرب بغير المأذون به فهو الكافر ولما‬ ‫وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون؛ كالبهائم إل قليلً منهم‪ .‬وواصل طالوت السير فجاوز النهر‬

‫وهو ومن معه‪ ،‬ولما كانوا على مقربة من جيش العدو وكان قرابة مائة ألف قال الكافرون‬ ‫والمنافقون‪{ :‬ل طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ ِبجَالُوتَ َوجُنُو ِدهِ} فأعلنوا انهزامهم‪ ،‬وانصرفوا فارين‪ ،‬وقال‬ ‫المؤمنون الصادقون وهم الذين قال ال فيهم‪{ :‬قَالَ الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلقُو اللّهِ َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ‬ ‫غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ} كانت هذه الية في بيان سير طالوت إلى العدو‪،‬‬ ‫وفي اليتين التاليتين(‪250‬و ‪ )251‬بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين‬ ‫الصادقين قال تعالى‪:‬‬ ‫{وََلمّا بَرَزُوا ‪ِ 1‬لجَالُوتَ وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا ‪َ 2‬أفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ‬ ‫ح ْكمَ َة وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ‬ ‫ا ْلكَافِرِينَ(‪َ )250‬فهَ َزمُوهُمْ‪ 3‬بِإِذْنِ اللّ ِه َوقَ َتلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ وَا ْل ِ‬ ‫ضهُمْ‬ ‫وََلوْل َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البراز‪ :‬المكان الفسيح في الرض والمتسع منها والمتبرز الذاهب في البراز وكانوا يخرجون‬ ‫لقضاء الحاجة في البراز فأطلق لفظ‪ :‬البراز على ما يحل فيه‪ ،‬وهو‪ :‬العذرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه مشروعية الدعاء في مثل هذا الموقف‪ ،‬وقد دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم في بدر‬ ‫حتى سقط ردائه‪ ،‬وكان إذا لقى العدو قال‪" :‬اللهم بك أصول وبك أجول" ويقول‪" :‬اللهم إني أعوذ‬ ‫بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم" ‪ .‬وعلم أصحابه ذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬الهزم‪ :‬الكسر‪ ،‬ومنه قولهم‪ :‬سقاء متهزم‪ ،‬إذا أثنى بعضه على بعض مع الجفاف‪ ،‬وقيل في‬ ‫زمزم‪ :‬هزمه جبريل‪ ،‬أي‪ :‬هزمها جبريل برجله‪ ،‬فتكسرت الرض وخرج الماء‪.‬‬

‫( ‪)1/238‬‬ ‫علَى ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )251‬تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَقّ‬ ‫ضلٍ َ‬ ‫بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ الَ ْرضُ وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ‬ ‫وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ(‪})252‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بَرَزُوا ِلجَالُوتَ} ‪ :‬ظهروا في ميدان المعركة وجالوت قائد قوات العمالقة‪.‬‬ ‫{َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرا} ‪ :‬أصبب الصبر في قلوبنا صبا حتى تمتلئ فلم يبقى للخوف والجزع موضع‪.‬‬ ‫{وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا} ‪ :‬في أرض المعركة حتى ل ننهزم وذلك بتقوية قلوبنا والشد من عزائمنا‪.‬‬ ‫{دَاوُدُ} ‪ :‬هو نبي ال ورسوله داود‪ ،‬وكان يومئذ غير نبي ‪ 1‬ول رسول في جيش طالوت‪.‬‬ ‫ح ْكمَةَ} ‪ :‬كان ذلك بعد موت شمويل النبي وموت طالوت الملك‪.‬‬ ‫ك وَالْ ِ‬ ‫{وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ‬ ‫{وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ} ‪ :‬فعلمه صنعة الدروع‪ ،‬وفهم منطق الطير هو وولده سليمان عليهما السلم‪.‬‬ ‫ت الَ ْرضُ} ‪ :‬وذلك بغلبة أهل الشرك على أهل التوحيد‪ ،‬وأهل الكفر على أهل اليمان‪.‬‬ ‫{َلفَسَ َد ِ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫لما التقى الجيشان جيش اليمان وجيش الكفر طالب جالوت بالمبارزة فخرج ‪ 2‬له داود من جيش‬ ‫طالوت فقتله والتحم الجيشان فنصر ال جيش طالوت وكان عدد أفراده ثلثمائة وأربعة عشر‬ ‫مقاتلً ل غير لقول الرسول صلى ال عليه وسلم لهل بدر‪" :‬إنكم على عدة أصحاب طالوت"‬ ‫وكانوا ثلثمائة وأربعة عشر رجلً فهزم ال جيش الباطل على كثرته ونصر جيش الحق على‬ ‫قلته‪ .‬وهنا ظهر كوكب داود في الفق بقتله رأس الشر جالوت فمن ال عليه بالنبوة والملك بعد‬ ‫موت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬لم ينبأ بعد ولم يرسل‪ ،‬إذ الرسل ينبئون ويرسلون غالبا في سن الربعين‪.‬‬ ‫‪ 2‬لم يقص ال تعالى علينا شيئا عن كيفية قتل داود لجالوت لعدم الفائدة الكبيرة منها‪ ،‬وخلصتها‬ ‫كما يلي‪ :‬كان والد داود في جيش طالوت وله ستة أبناء معه‪ ،‬واسمه‪ :‬إيشا‪ ،‬وكان داود أصغرهم‬ ‫وكان يرعى الغنم‪ ،‬وكان لنبيهم درع وأوحى ال أن من استوت عليه درعه هو الذي يقاتل جالوت‬ ‫فاستوت على داود وقبل البراز‪ ،‬قال طالوت‪ :‬من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه ابنتي وكان‬ ‫داود قد مر بحجر فناداه أن خذني يا داود وقاتل بي فجعله في مخلته واحتفظ به‪ ،‬فلما برز‬ ‫لجالوت جعل الحجر في مقلعه وكان راميا فرمى جالوت فقتله‪ .‬وهذه بداية أمره عليه السلم‪.‬‬

‫( ‪)1/239‬‬ ‫ح ْكمَةَ‪1‬‬ ‫ك وَالْ ِ‬ ‫ت وَآتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ‬ ‫كل من النبي شمويل والملك طالوت قال تعالى‪َ { :‬وقَ َتلَ دَا ُودُ جَالُو َ‬ ‫وَعَّلمَهُ ِممّا يَشَاءُ} ‪.‬‬ ‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ}‬ ‫وختم ال القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله‪{ :‬وََلوْل َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬ ‫بالجهاد ‪ 2‬والقتال‪ ،‬لستولى أهل الكفر وأفسدوا الرض بالظلم والشرك والمعاصي‪ ،‬ولكن ال‬ ‫تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضا على بعض‪ ،‬ويدفع بعضا ببعض منة منه وفضلً‪ .‬كما قال عز‬ ‫ضلٍ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ} ‪.‬‬ ‫وجل‪{ :‬وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ‬ ‫ثم التفت إلى رسوله محمد صلى ال عليه وسلم وقال له تقريرا لنبوته وعلو مكانته‪{ :‬تِ ْلكَ آيَاتُ‬ ‫ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ} صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫حّ‬ ‫اللّهِ} التي تقدمت في هذا السياق {نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الجهاد الشرعي يشترط له المام المبايع بيعة شرعية‪.‬‬ ‫‪ -2‬يشترط للولية الكفاءة وأهم خصائصها العلم‪ ،‬وسلمة العقل والبدن‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز التبرك بآثار النبياء كعمامة النبي أو ثوبه أو نعله مثلً‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه‪.‬‬

‫‪ -5‬فضيلة اليمان بلقاء ال‪ ،‬وفضيلة الصبر على طاعة ال خاصة في معارك الجهاد في سبيل‬ ‫ال‪.‬‬ ‫‪ -6‬بيان الحكمة في مشروعية الجهاد‪ ،‬وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل اليمان والعدل‪ ،‬لتنتظم‬ ‫الحياة ويعمر الكون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فسر ابن كثير الحكمة بالنبوة لقرينة الملك‪ ،‬إذ جعله ال تعالى ملكا نبيا؛ كولده سليمان عليهما‬ ‫السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬وفي صحيح الحديث‪" :‬وهل تنصرون وترزقون إل بضعفائكم" وفيه معنى‪{ :‬وََلوْل َدفْعُ اللّهِ‬ ‫ضهُمْ بِ َبعْض} ‪ ،‬وأورد ابن كثير أحاديث في هذا المعنى وضعفها‪.‬‬ ‫النّاسَ َب ْع َ‬ ‫* في قول طالوت في رقم ‪ 1‬من قتل جالوت‪ :‬أشركه في ملكي وأزوجه ابنتي موجود نظيره في‬ ‫السلم‪ .‬إذ للمام أن يقول‪ :‬من جاءني برأس فلن فله كذا‪ ،‬ومن دخل حصن كذا فله كذا وكذا‪.‬‬

‫( ‪)1/240‬‬ ‫الجزء الثالث‬ ‫ضهُمْ دَ َرجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ‬ ‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ مِ ْنهُمْ مَنْ كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ‬ ‫سلُ‪َ 1‬فضّلْنَا َب ْع َ‬ ‫{تِ ْلكَ الرّ ُ‬ ‫ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ‬ ‫مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ‬ ‫ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا‬ ‫ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ آمَ َ‬ ‫الْبَيّنَا ُ‬ ‫يُرِيدُ(‪ )253‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَ ْن ِفقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ ل بَيْعٌ فِي ِه وَل خُلّ ٌة وَل‬ ‫شفَاعَ ٌة وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ(‪})254‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سلُ} ‪ :‬أولئك الرسل الذين قص ال تعالى على رسوله بعضا منهم وأخبره أنه منهم في‬ ‫{تِ ْلكَ الرّ ُ‬ ‫قوله‪{ :‬وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ} ‪ .‬في الية قبل هذه‪.‬‬ ‫{مَنْ كَلّمَ اللّهُ} ‪ :‬كموسى عليه السلم‪.‬‬ ‫ضهُمْ دَرَجَاتٍ} ‪ :‬وهو محمد صلى ال عليه وسلم حيث فضله ‪ 2‬تفضيلً على سائر‬ ‫{وَ َرفَعَ َب ْع َ‬ ‫الرسل‪.‬‬ ‫{الْبَيّنَاتِ} ‪ :‬المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته‪.‬‬ ‫{بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ} ‪ :‬جبريل عليه السلم كان يقف دائما إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه‬ ‫ال تعالى إليه‪.‬‬ ‫{اقْتَتَلُوا} ‪ :‬قتل بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫{أَ ْن ِفقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ} ‪ :‬النفقة الواجبة وهي الزكاة‪ ،‬ونفقة التطوع المستحبة‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أحمد عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى ال عليه وسلم قائلً‪ :‬أي النبياء كان أول؟ قال‪:‬‬ ‫"آدم" قلت‪ :‬رسول ونبي كان؟ قال‪" :‬نعم نبي مكلم" ‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول ال كم المرسلون؟ قال‪:‬‬ ‫"ثلثمائة وبضعة عشر جما غفيرا" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أنا سيد ولد آدم ول فخر" ‪ .‬ومع هذا زيادة في كماله قال‪" :‬ل‬ ‫تفضلوني على موسى" ‪ ،‬وقال على يونس بن متى‪" :‬فصلى ال عليّه ما أرفع مقامه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/241‬‬ ‫{ل بَيْعٌ فِيهِ}‪ : 1‬ل يشتري أحد نفسه بمال يدفعه فداء لنفسه من العذاب‪.‬‬ ‫{وَل خُلّةٌ} ‪ :‬أي‪ :‬صداقة تنفع صاحبها‪.‬‬ ‫شفَاعَةٌ} ‪ :‬تقبل إل أن يأذن ال لمن يشاء ويرضى‪.‬‬ ‫{وَل َ‬ ‫{وَا ْلكَافِرُونَ} ‪ :‬بمنع الزكاة والحقوق الواجبة ل تعالى ولعباده هم الظالمون‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫بعد أن قص ال تبارك وتعالى على رسوله قصة مل بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن‬ ‫يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد‪ ،‬وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثا من غير الممكن أن‬ ‫يعلمها أمي مثل محمد صلى ال عليه وسلم بدون ما يتلقاها وحيا يوحيه ال تعالى إليه وختم‬ ‫القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله‪{ :‬وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ}‪ ،‬أخبر ال تعالى أن أولئك الرسل فضل‬ ‫بعضهم على بعض‪ ،‬منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلم‪ ،‬ومنهم من فضله بالخلة‬ ‫كإبراهيم عليه السلم‪ ،‬ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومنهم‬ ‫من آتاه الملك ‪ 2‬والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلم‪ ،‬ومنهم من آتاه الملك والحكمة‬ ‫وسخر له الجن وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلم‪ ،‬ومنهم من آتاه البينات وأيده بروح‬ ‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ‪ 3‬مِ ْنهُمْ مَنْ كَلّمَ‬ ‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬ ‫القدس وهو عيسى عليه السلم‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬تِ ْلكَ الرّ ُ‬ ‫ضهُمْ دَرَجَاتٍ} كنبينا محمد صلى ال عليه وسلم إذ فضله بعموم رسالته وبختم‬ ‫اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ‬ ‫النبوات بنبوته‪ ،‬وبتفضيل أمته‪ ،‬وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته‪ ،‬وبتكليمه ومناجاته مع ما‬ ‫خصه من الشفاعة يوم القيامة‪ .‬ثم أخبر تعالى أنه لو يشاء هداية الناس لهداهم فلم يختلفوا بعد‬ ‫رسلهم ولم يقتتلوا من بعد ما جائتهم البينات وذلك لعظيم قدرته‪ ،‬وحرية إرادته فهو يفعل ما يشاء‬ ‫ويحكم ما يريد‪ .‬هذا بعض ما أفادته الية الولى(‪ )253‬أما الية الثانية(‪ )254‬فقد نادى ال تعالى‬ ‫عباده المؤمنين وأمرهم بالنفاق في سبيل ال تقربا إليه وتزودا للقائه قبل يوم القيامة حيث ل‬ ‫__________‬ ‫شفَاعَةٌ} بالنصب من غير تنوين‪ .‬وأنشد‬ ‫‪ 1‬قرأ ابن كثير‪ ،‬وأبو عمرو‪{ :‬ل بَيْعٌ فِي ِه وَل خُلّ ٌة وَل َ‬

‫حسان‪ ،‬وهو شاهد هذه القراءة‪:‬‬ ‫أل طعان ول فرسان عادية ‪ ...‬أل تجشؤكم عند التنانير‬ ‫يهجو ناسا فيصفهم بالقعود عن القتال وملزمة التنور للطعام‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحكمة هنا‪ :‬هي النبوة كما تقدم عن ابن كثير في‪" :‬نهر الخير"‪.‬‬ ‫‪ 3‬هل يجوز للمسلم أن يقول مثل موسى أفضل من هارون‪ ،‬أو إبراهيم أفضل من عيسى مثلً؟‪.‬‬ ‫الجواب‪ :‬ل‪ .‬لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تخيروا بين النبياء ول تفضلوا بين أنبياء ال" ‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ل تقولون فلن خير من فلن‪ ،‬ول فلن أفضل من فلن‪ .‬إذ نحن ل نقدر على التفضيل‪ ،‬وإنما‬ ‫يقدر عليه ال وحده‪ ،‬إذ هو يهب ما يشاء لمن يشاء‪.‬‬

‫( ‪)1/242‬‬ ‫فداء ببيع وشراء‪ ،‬ول صداقة تجدي ول شفاعة تنفع‪ ،‬والكافرون بنعم ال وشرائعه هم الظالمون‬ ‫المستوجبون ‪ 1‬للعذاب والحرمان والخسران‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تفاضل الرسل فيما بينهم بحسب جهادهم وصبرهم وما أهلهم ال تعالى له من الكمال‪.‬‬ ‫‪ -2‬صفة الكلم ل تعالى حيث كلم موسى في الطور‪ ،‬وكلم محمدا في الملكوت العلى‪.‬‬ ‫‪ -3‬الكفر واليمان والهداية والضلل‪ ،‬والحرب والسلم كل ذلك تبع لمشيئته تعالى وحكمته‪.‬‬ ‫‪ -4‬ذم الختلف في الدين وأنه مصدر شقاء وعذاب‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب النفاق في سبيل ال مما رزق ال تعالى عبده‪.‬‬ ‫‪ -6‬التحذير من الغفلة والخذ بأسباب النجاة يوم القيامة حيث ل فداء ول خلة تنفع ول شفاعة‬ ‫ومن أقوى السباب اليمان والعمل الصالح وإنفاق المال تقربا إلى ال تعالى في الجهاد وغيره‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ مَنْ ذَا‬ ‫خ ُذهُ سِ َن ٌة وَل َنوْمٌ َلهُ مَا فِي ال ّ‬ ‫حيّ ا ْلقَيّومُ ل تَأْ ُ‬ ‫{اللّهُ ل ‪2‬إَِلهَ إِل ُهوَ الْ َ‬ ‫شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِل ِبمَا شَاءَ‬ ‫شفَعُ عِنْ َدهُ إِل بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم َومَا خَ ْلفَهُمْ وَل يُحِيطُونَ بِ َ‬ ‫الّذِي َي ْ‬ ‫ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ(‪})255‬‬ ‫حفْ ُ‬ ‫ض وَل َيؤُو ُدهُ ِ‬ ‫ت وَالَرْ َ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي عند هذه الية‪{ :‬وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ} أي‪ :‬فكافحوهم بالقتال بالنفس وإنفاق‬ ‫المال‪ ،‬قال‪ :‬وقال عطاء ابن دينار‪ :‬الحمد ل الذي قال‪ :‬الكافرون هم الظالمون‪ ،‬ولم يقل الظالمون‬ ‫هم الكافرون‪.‬‬ ‫‪ 2‬صح أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬يا أبا المنذر –أبي بن كعب‪ -‬أتدري أي آية من كتاب‬ ‫ال معك أعظم؟" قال‪ :‬قلت ال ل إله إل هو الحي القيوم‪ .‬فضرب في صدري وقال‪" :‬ليهنك العلم‬

‫يا أبا المنذر"‪ .‬وروى أحمد‪" :‬أن آية الكرسي تعدل ربع القرآن وأن الزلزلة والكافرون والنصر‬ ‫كل واحدة تعدل ربع القرآن‪ ،‬وأن الصمد تعدل ثلث القرآن"‪.‬‬

‫( ‪)1/243‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{اللّهُ} ‪ :‬علم على ذات الرب تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫{ل إِلَهَ إِل ُهوَ} ‪ :‬الله المعبود‪ ،‬ول معبود بحق إل ال‪ ،‬إذ هو الخالق الرازق المدبر بيده كل‬ ‫شيء وإليه مصير كل شيء‪ ،‬وما عداه من اللهة فعبادتها بدون حق فهي باطلة‪.‬‬ ‫حيّ}‪ : 1‬ذو الحياة العظيمة التي ل تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة للقدرة والرادة والعلم‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫والسمع والبصر والكلم‪.‬‬ ‫{ا ْلقَيّومُ}‪ : 2‬القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليه‪ ،‬القائم على كل نفس بما كسبت‪.‬‬ ‫السّنة ‪ :‬النعاس يسبق النوم‪.‬‬ ‫{كُرْسِيّهُ} ‪ :‬الكرسي‪ :‬موضع القدمين‪ ،‬ول يعلم كنهه إل ال تعالى‪.‬‬ ‫{ َيؤُو ُدهُ} ‪ :‬يثقله ويشق عليه‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما أخبر تعالى عن يوم القيامة وأنه يوم ل بيع فيه ول شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون‪ ،‬أخبر‬ ‫عن جلله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال يوم‬ ‫حيّ‬ ‫القيامة فقال‪ { :‬اللّهُ ل ‪3‬إَِلهَ إِل ُهوَ} ‪ :‬أي‪ :‬أنه ال المعبود بحق ول معبود بحق سواه‪{ .‬ا ْل َ‬ ‫ا ْلقَيّومُ} الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت‪ .‬القيوم‪ :‬العظيم القيومية على كل‬ ‫شيء‪ ،‬لول قيوميته على الخلئق ما استقام من أمر العوالم شيء {ل تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة وَل َنوْمٌ‪ : }4‬إذ‬ ‫النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال المطلق‪ .‬وهذه الجملة برهان على الجملة‬ ‫قبلها‪ ،‬إذ من ينعس وينام ل يتأتى له القيومية على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحي‪ :‬أصلها الحيي؛ كالحذر فحذفت كسرة الياء الولى فسكنت وأدغمت في الثانية فصارت‬ ‫الحي‪ ،‬والقيوم أصلها القيووم‪ ،‬فقلبت الواو الولى ياء وأدغمت في الياء فصارت القيوم‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى الترمذي وقال حديث حسن صحيح‪" :‬إن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت‪ :‬سمعت رسول‬ ‫حيّ ا ْلقَيّومُ} ‪ ،‬و { الم اللّهُ‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬في هاتين اليتين ‪{ :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬ ‫حيّ ا ْلقَيّومُ} ‪ ،‬إن فيهما اسم ال العظم " ورواه أبو داود‪ ،‬أيضا‪.‬‬ ‫ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬ ‫‪ 3‬هذه آية الكرسي قال فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من قرأ دبر كل صلة مكتوبة آية‬ ‫الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إل أن يموت" رواه النسائي وغيره‪.‬‬

‫‪ 4‬ورد في الصحيح عن أبي موسى قال‪" :‬قام فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بأربع كلمات‬ ‫فقال‪ :‬إن ال ل ينام ول ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل‬ ‫الليل‪ ،‬وعمل الليل قبل عمل النهار‪ ،‬وحجابه النور أو النار لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما‬ ‫انتهى إليه بصره من خلقه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/244‬‬ ‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬خلقا وملكا‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫الخلئق ول يسعها حفظا ورزقا وتدبيرا‪{ .‬لَهُ مَا فِي ال ّ‬ ‫شفَعُ عِنْ َدهُ إِل بِِإذْنِهِ} ‪ :‬ينفي تعالى وهو الذي له ما في السموات وما في‬ ‫وتصرفا‪{ ،‬مَنْ ذَا الّذِي يَ ْ‬ ‫الرض ينفي أن يشفع عنده في الدنيا أو في الخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ}‬ ‫الشفاعة‪َ { .‬يعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ‪ : }1‬لكمال عجزهم‪َ { .‬وسِعَ كُرْسِيّهُ‪ 2‬ال ّ‬ ‫ظ ُهمَا} ‪ :‬ول يثقله أو يشق عليه حفظ السموات والرض وما فيهما‬ ‫حفْ ُ‬ ‫‪ :‬لكمال ذاته‪{ .‬وَل َيؤُو ُدهُ ِ‬ ‫وما بينهما‪{ .‬وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ} ‪ :‬العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي ل يغلبه شيء‪ ،‬العظيم‬ ‫الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬أنها أعظم آية في كتاب ال تعالى اشتملت على ثمانية عشر إسما ل تعالى ما بين ظاهر‬ ‫ومضمر‪ ،‬وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه‬ ‫وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه‪.‬‬ ‫‪ -2‬تستحب قراءتها بعد الصلة المكتوبة‪ ،‬وعند النوم‪ ،‬وفي البيوت لطرد الشيطان‪.‬‬ ‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ‬ ‫{ل ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ َقدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ َفمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬ ‫ج ُهمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪ )256‬اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُوا ُيخْرِ ُ‬ ‫ا ْلوُ ْثقَى ل ا ْنفِصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬ ‫وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُ ُهمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا‬ ‫خَاِلدُونَ(‪})257‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا كناية عن إحاطة علم ال بكل شيء‪ ،‬إذ ل يعزب على علمه مثقال ذرة في السموات ول في‬ ‫الرض وهو بكل شيء عليم‪ ،‬وأما الخلق فإنهم ل يعلمون إل ما شاء أن يعلمهم إياه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أورد ابن كثير عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪" :‬الكرسي موضع القدمين والعرش ل يقدر‬ ‫أحد قدره" رواه الحاكم موقوفا وقال صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ولم يخرجاه‪.‬‬

‫( ‪)1/245‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ} ‪ :‬ل يكره المرء على الدخول في الدين ‪ ،1‬وإنما يعتنقه بإرادته واختياره‪.‬‬ ‫{الرّشْدُ}‪ : 2‬الهدى الموصل إلى السعاد والكمال‪.‬‬ ‫{ا ْل َغيّ} ‪ :‬الضلل المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران‪.‬‬ ‫{بِالطّاغُوتِ}‪ : 3‬كل ما صرف عن عبادة ال تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما‪.‬‬ ‫{بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَى}‪ : 4‬ل إله إل ال محمد رسول ال‪.‬‬ ‫{ل ا ْن ِفصَامَ َلهَا} ‪ :‬ل تنفك ول تنحل بحال من الحوال‪.‬‬ ‫{اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُوا} ‪ :‬مُتوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه‪.‬‬ ‫{الظُّلمَاتِ} ‪ :‬ظلمات الجهل والكفر‪.‬‬ ‫{النّورِ} ‪ :‬نور اليمان والعلم‪.‬‬ ‫{َأوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ} ‪ :‬المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الوثان فأخرجوهم من‬ ‫اليمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر ال تعالى بعد ذكر صفات جلله وكماله في آية الكرسي أنه ل إكراه في دينه‪ ،‬وذلك حين‬ ‫أراد بعض النصار إكراه من تهود أو تنصر من أولدهم على الدخول في دين السلم‪ ،‬ولذا فإن‬ ‫أهل الكتابين ومن شابههم تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فل يخرجون منه إل باختيارهم‬ ‫وإرادتهم الحرة‪ ،‬أما الوثنيون والذين ل دين لهم سوى الشرك والكفر فيقاتلون حتى يدخلوا في‬ ‫السلم إنقاذا لهم من الجهل والكفر وما لزمهم من الضلل والشقاء‪.‬‬ ‫ثم أخبر تعالى أنه بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أولياءه قد تبين الهدى من الضلل والحق من‬ ‫الباطل‪ ،‬وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذي زين عبادة الصنام ويؤمن بال فيشهد أن‬ ‫ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال فقد استمسك ‪ 5‬من الدين بأمتن عروة وأوثقها‪ ،‬ومن يصر‬ ‫على الكفر بال واليمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت‪ .‬وال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الكراه‪ :‬الحمل على فعل المكروه‪ ،‬والدين هنا‪ :‬السلم‪ ،‬وجملة "ل إكراه" خبر بمعنى النشاء‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬رشد يرشد رشدا‪ ،‬ورشد يرشد رشدا‪ ،‬إذا اهتدى واستقام‪ ،‬وغوى ضده‪ ،‬وألغي مصدر من‬ ‫غوي يغوي‪ ،‬إذ ضل في معتقد أو رأي‪.‬‬ ‫‪ 3‬كان العرب في الجاهلية يسمون الصنم المعبود‪ :‬الطاغية‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬كان يهلون لمناة‬ ‫الطاغية"‪.‬‬ ‫‪ 4‬الوثقى‪ :‬مؤنث الوثق‪ ،‬وجمع الوثقى‪ :‬الوثائق‪ ،‬مثل‪ :‬الفضلى‪ ،‬والفضل‪.‬‬ ‫‪ 5‬السين والتاء في استمسك للتأكيد كما في استجاب بمعنى‪ :‬أجاب‪.‬‬

‫( ‪)1/246‬‬ ‫سميع لقوال عباده عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلً بكسبه‪ .‬ثم أخبر تعالى أنه ولي‬ ‫عباده المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات ‪ 1‬الكفر والجهل إلى نور العلم واليمان فيكملون‬ ‫ويسعدون‪ ،‬وأن الكافرين أوليائهم الطاغون من شياطين الجن والنس الذين حسنوا لهم الباطل‬ ‫والشرور‪ ،‬وزينوا لهم الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فأخرجوهم بذلك من النور إلى الظلمات فأهلوهم‬ ‫لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول ‪ 2‬في السلم إل‬ ‫باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرون على دينهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬السلم ‪ 3‬كله رشد‪ ،‬وما عداه ضلل وباطل‪.‬‬ ‫‪ -3‬التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل‪.‬‬ ‫‪ -4‬معنى ل إله إل ال‪ ،‬وهي اليمان بال والكفر بالطاغون‪.‬‬ ‫‪ -5‬ولية ال تعالى تنال باليمان والتقوى‪.‬‬ ‫‪ -6‬نصرة ال تعالى ورعايته لولياءه دون أعداءه‪.‬‬ ‫{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ ِإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ‬ ‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ‬ ‫قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬ ‫الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ(‪})258‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وحد تعالى لفظ النور‪ ،‬وجمع لفظ الظلمة‪ ،‬لن الحق واحد‪ ،‬والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬هل هذه الية‪{ :‬ل ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ} منسوخة بآية السيف؟ الراجح أنها محكمة غير منسوخة هل‬ ‫تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب ومن لهم شبهة كتاب؟ أما كفار قريش‪ ،‬الجماع على أن ل‬ ‫تؤخذ منهم الجزية‪ ،‬ومن عداهم مذهب مالك يرى أخذ الجزية منهم‪ ،‬والبقاء عليهم‪ ،‬ولعل هذا إن‬ ‫دعت الضرورة إلى ذلك‪ ،‬وما ذكرته في التفسير أصح المذاهب وأعدلها‪.‬‬ ‫‪ 3‬جاء في صحيح البخاري ما ملخصه‪ :‬أن عبد ال بن سلم رأى رؤيا كأنه في دوحة خضراء‬ ‫وفي وسطها عمود حديد أسفله في الرض وأعله في السماء في أعله عروة‪ "..‬الحديث وفسر له‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬الروضة بالسلم‪ ،‬والعمود عمود السلم‪ ،‬والعروة هي العروة‬ ‫الوثقى"‪ .‬أي أنت على السلم حتى تموت‪ .‬فكان مبشرا بالجنة رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/247‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أََلمْ تَرَ} ‪ :‬ألم ينته إلى علمك يا رسولنا‪ ،‬والستفهام يفيد التعجب من الطاغية المحاج لبراهيم‪.‬‬ ‫{حَاجّ} ‪ :‬جادل ومارى وخاصم‪.‬‬ ‫{فِي رَبّهِ} ‪ :‬في شأن ربه من وجوده تعالى وربوبيته وألوهيته للخلق كلهم‪.‬‬ ‫{آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ‪ : }1‬أعطاه الحكم والسيادة على أهل بلده وديار قومهم‪.‬‬ ‫{إِبْرَاهِيمُ} ‪ :‬هو أبو النبياء إبراهيم الخليل عليه السلم‪ ،‬وكان هذا الحجاج قبل هجرة إبراهيم إلى‬ ‫أرض الشام‪.‬‬ ‫{فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ} ‪ :‬انقطع عن الحجة متحيرا مدهوشا ذاك الطاغية الكافر وهو النمرود البابلي‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما ذكر ال تعالى وليته لولياءه وأنه مؤيدهم وناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ذكر‬ ‫مثالً لذلك وهو محاجة النمرود ‪ 2‬البابلي لبراهيم عليه السلم فقال تعالى مخاطبا رسوله محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪{ :‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} أي‪ :‬لم ينته إلى علمك حجاج ذاك‬ ‫الطاغية الذي بطرته نعمة الملك الذي آتيناه امتحانا له فكفر وادعى الربوبية وحاج خليلنا فبين إنه‬ ‫لمر عجب‪ .‬إذ قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت‪ ،‬وأنت ل تحيي ول تميت‪ ،‬فقال أنا أحيي ‪3‬‬ ‫وأميت‪ ،‬فرد عليه إبراهيم حجته قائلً‪ :‬ربي يأتي بالشمس من المشرق فآت بها أنت من المغرب‪،‬‬ ‫فاندهش وتحير وانقطع وأيد ال وليه إبراهيم فانتصر ‪ ،4‬فهذا مثال لخراج ال تعالى أولياؤه من‬ ‫ظلمة الجهل إلى نور العلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ هو ملك بابل وقيل أنه أحد الربعة الذين ملكوا المعمورة وهم مسلمان‪ ،‬وكافران‪ ،‬فالمسلمان‪:‬‬ ‫سليمان‪ ،‬وذو القرنين عليهما السلم‪ .‬والكافران‪ :‬النمرود‪ ،‬وبختنصر عليهما لعائن الرحمن‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال له النمرود بن كؤتن بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلم‪ ،‬وفي الية دليل على جواز‬ ‫إطلق اسم الملك على الحاكم الكافر ولما حارب ال تعالى أهلكه مع جيشه بالبعوض إذ فتح‬ ‫عليهم بابا من البعوض فأكلت الجيش فلم تتركه إل عظاما‪ ،‬وأما النمرود فقد دخلت بعوضة في‬ ‫دماغه فصار يضرب على دماغه حتى هلك بذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬يريد أنه يحيي من أراد حياته‪ ،‬ويميت من أراد موته‪ ،‬وهذا مجرد تمويه وسفسطة فلذا عدل‬ ‫إبراهيم عنها وألزمه الحجة إن كان صادقا في دعواه بالتيان بالشمس من المغرب كما يأتي بها‬ ‫ال من المشرق‪.‬‬ ‫‪ 4‬يذكر أهل التفسير هنا أن إبراهيم ذهب يمتار من عند الملك كغيره فجادله الملك ومنعه الميرة‬ ‫فعاد بل شيء وفي أثناء طريقه وجد رملً أحمر فمل منه غرارتين حتى ل يفاجئ أهله بالخيبة‬ ‫ولما وصل ونام قامت زوجته سارة ففتحت الغرارة فوجدتها دقيقا من أجود الدقيق الحواري‪.‬‬

‫( ‪)1/248‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬النعم تبطر صاحبها إذا حرم ولية ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬نصرة ال لولياءه وإلهامهم الحجة لخصم أعدائهم‪.‬‬ ‫‪-3‬إذا ظلم العبد ووالى الظلم حتى أصبح وصفا له يحرم هداية ال تعالى فل يهتدي أبدا‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقيدة الصحيحة السليمة‪.‬‬ ‫شهَا قَالَ أَنّى ُيحْيِي هَ ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْتِهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ‬ ‫{َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬ ‫مِائَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِا َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى‬ ‫س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا‬ ‫جعََلكَ آيَةً لِلنّا ِ‬ ‫ك وَلِنَ ْ‬ ‫حمَا ِر َ‬ ‫ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ‬ ‫طعَا ِم َ‬ ‫َ‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ(‪})259‬‬ ‫ثُمّ َنكْسُوهَا لَحْما فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{قَرْيَةٍ}‪ : 1‬مدينة لم يذكر ال تعالى اسمها فل يبحث عنها لعدم جدوى معرفتها‪.‬‬ ‫{خَاوِيَةٌ} ‪ :‬فارغة من سكانها ساقطة ‪ 2‬عروشها على مبانيها وجدرانها‪.‬‬ ‫{أَنّى يُحْيِي} ‪ :‬كيف يحيي ‪.3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سميت القرية قرية‪ :‬لجتماع الناس فيها‪ ،‬مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته‪ ،‬وهي في القرآن‪،‬‬ ‫المدينة الكبيرة‪ ،‬والمراد بها هنا بيت المقدس‪ ،‬وقد خربها الطاغية بختنصر ثم بعد سبعين سنة‬ ‫أعيد بناؤها كما كانت‪.‬‬ ‫‪ 2‬العريش‪ :‬سقف البيت‪ ،‬وجمعه‪ :‬عروش ‪ ،‬وهو كل ما يهيأ ليظل أو يكن من ينزل تحته‪ ،‬ومنه‬ ‫عريش الدالية‪ ،‬أي شجرة العنب‪ ،‬إذ يعرش لها عريش تمد عليه أغصانها لتتدلى منه عناقيدها‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف فيمن هو المار على القرية‪ ،‬هل هو عزيز أو إرميا‪ ،‬أو الخضر‪ ،‬وأرجح القوال إنه‬ ‫عزيز‪ ،‬وما دام ال ورسوله لم يذكرا اسمه فل داعي إلى ذكره‪ ،‬والتعرف إليه‪ ،‬ولذا لم أذكره في‬ ‫التفسير‪.‬‬

‫( ‪)1/249‬‬ ‫{ َبعْدَ َموْتِهَا} ‪ :‬بعد خوائها وسقوطها على عروشها‪.‬‬ ‫{لَبِ ْثتَ} ‪ :‬مكثت وأقمت‪.‬‬

‫{َلمْ يَتَسَنّهْ‪ : }1‬لم يتغير بمر السنين عليه‪.‬‬ ‫{آيَةً} ‪ :‬علمة على قدرة ال على بعث الناس أحياء يوم القيامة‪.‬‬ ‫{نُنْشِ ُزهَا} ‪ :‬في قراءة ورش‪ :‬ننشرها‪ ،‬بمعنى‪ :‬نحييها بعد موتها‪ .‬وننشزها‪ :‬نرفعها ونجمعها لتكون‬ ‫حمارا كما كانت‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫هذا مثل آخر معطوف على الول الذي تجلت فيه على حقيقتها ولية ال لبراهيم حيث أيده‬ ‫علَى قَرْ َي ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ}‬ ‫بالحجة القاطعة ونصره على عدوه النمرود‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬أوْ كَالّذِي مَرّ َ‬ ‫فارغة من سكانها ساقطة سقوفها على مبانيها فقال المار بها مستبعدا حياتها مرة ثانية‪ :‬كيف يحيي‬ ‫ال هذه القرية بعد خرابها؟ فأماته ال مائة عام ثم أحياه‪ ،‬وسأله‪ :‬كم لبتث؟ قال‪ :‬حسب عادة من‬ ‫نام في يوم واستيقظ فيه‪ ،‬فإنه يرى أنه نام يوما أو بعض يوم‪ ،‬فأجابه مصوبا له فهمه‪َ { :‬بلْ لَبِ ْثتَ‬ ‫مِائَةَ عَامٍ} ‪ ،‬ولكي تقتنع بما أخبرت به‪ ،‬فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين وشرابك وكان‬ ‫عصيرا من عنب فإنه لم يتغير طعمه ول لونه‪ ،‬وقد مر عليه قرن من الزمن‪ ،‬و انظر إلى‬ ‫حمارك فإنه هلك بمرور الزمن ولم يبقى منه إل عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته‬ ‫وفناؤه لمرور مائة سنة عليه‪ ،‬وانظر إلى العظام كيف نجمعها ونكسوها لحما فإذا هي حمارك‬ ‫الذي كنت تركبه من مائة سنة‪ ،‬ونمت وتركته إلى جانبك يرتع‪ ،‬وتجلت قدرة ال تعالى في عدم‬ ‫تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد‪ ،‬وهو سلة التين وشراب العصير‪ .‬وفي‬ ‫تغير الذي جرت العادة أنه ل يتغير إل في عشرات العوام‪ ،‬وهو الحمار‪ .‬كما هي ظاهرة في‬ ‫موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الرض ميتا لم يعثر عليه أحد طيلة مائة عام‪ .‬وقال له‬ ‫الرب تبارك وتعالى بعد أن وقفه على مظاهر قدرته فعلنا هذا بك لنريك ‪ 2‬قدرتنا على إحياء‬ ‫القرية متى أردنا إحياءها ولنجعلك في قصتك هذه آية للناس‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مشتق من السنة لن مر السنين يوجب التغير فتسنه تغير بمر السنين عليه‪ ،‬مثل تحجر الطين‬ ‫صار حجرا بمرور اليام أو الساعات عليه‪.‬‬ ‫جعََلكَ} قيل‪ :‬الواو مقحمة‪ ،‬والًصل‪ :‬لنجعلك‪ ،‬وعلى أصالة الواو وعدم إقحامها‬ ‫‪ 2‬قوله تعالى‪{ :‬وَلِ َن ْ‬ ‫يكون المعنى‪ ،‬أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ولنجعلك آية للناس‪ ،‬فالواو عاطفة إذا وهو وظيفتها أي‪:‬‬ ‫العطف‪.‬‬

‫( ‪)1/250‬‬ ‫تهديهم إلى اليمان بنا وتوحيدنا في عبادتنا وقدرتنا على البعث الخر الذي ل ريب فيه لتجزى‬ ‫كل نفس بما كسبت‪ ،‬وأخيرا لما لحت أنوار ولية ال في قلب هذا العبد المؤمن الذي أثار تعجبه‬

‫خراب القرية فاستبعد حياتها قال‪ :‬أعلم ‪ 1‬أن ال على كل شيء قدير‪ ،‬فهذا مصداق قوله تعالى‪:‬‬ ‫ج ُهمْ مِنَ الظُّلمَاتِ‪ِ 2‬إلَى النّورِ}‬ ‫{اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُوا ُيخْرِ ُ‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز طروء استبعاد ما يؤمن به العبد أنه حق وكائن‪ ،‬كما استبعد هذا المؤمن المار بالقرية‬ ‫حياة القرية مرة أخرى بعد ما شاهد من خرابها وخوائها‪.‬‬ ‫‪ -2‬عظيم قدرة ال تعالى بحيث ل يعجزه تعالى شيء وهو على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثبوت البعث الخر وتقريره‪.‬‬ ‫‪ -4‬ولية ال تعالى للعبد المؤمن التقي تجلت في إذهاب الظلمة التي ظهرت على قلب المؤمن‬ ‫علَمُ‬ ‫باستبعاده قدرة ال على إحياء القرية‪ ،‬فأراه ال تعالى من مظاهر قدرته ما صرح في قوله‪{ :‬أَ ْ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ} ‪.‬‬ ‫أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ َفخُذْ‬ ‫{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِي ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِ َي ْ‬ ‫سعْيا وَاعْلَمْ أَنّ‬ ‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬ ‫ج َعلْ عَلَى ُكلّ جَ َبلٍ مِ ْنهُنّ جُزْءا ثُمّ ادْ ُ‬ ‫أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ‬ ‫حكِيمٌ(‪})260‬‬ ‫اللّهَ عَزِيزٌ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقرئ‪ :‬أعلم‪ ،‬والقائل له حينئذ ال تبارك وتعالى أو ملك من ملئكته‪ ،‬أو هو خاطب نفسه قائلً‬ ‫لها اعلمي يا نفسي هذا العلم اليقيني الذي ما كنت تعلمينه‪.‬‬ ‫‪ 2‬لما قرر تعالى وليته للذين آمنوا وإنه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ذكر لذلك ثلثة‬ ‫أحداث تجلى في كل واحد منها مصداق ما أخبر به‪ ،‬فالول محاجة النمرود لبراهيم وإعطاءه‬ ‫تعالى نور العلم الذي أسكت به المجادل الكافر النمرود‪ .‬والثاني‪ :‬استبعاد عزيز إحياء ال مدينة‬ ‫القدس بعد تدميرها وتخريبها فأراه ال من آياته ما أذهب عنه ما وجده في نفسه من استبعاد حياة‬ ‫تلك المدينة‪ ،‬والثالث‪ :‬طلب إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى‪ ،‬وقد أراه ذلك فأذهب به ما‬ ‫وجده إبراهيم من التطلع إلى معرفة ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/251‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{إِبْرَاهِيمُ} ‪ :‬هو خليل الرحمن أبو النبياء عليه السلم‪.‬‬ ‫طمَئِنّ قَلْبِي} ‪ :‬يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفية‪.‬‬ ‫{لِ َي ْ‬ ‫{ َفصُرْهُنّ‪ 1‬إِلَ ْيكَ} ‪ :‬أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء‪.‬‬ ‫سعْيا} ‪ :‬مشيا سريعا وطيرانا‪.‬‬ ‫{َ‬

‫{عَزِيزٌ} ‪ :‬غالب ل يمتنع عنه ول منه شيء أراده بحال من الحوال‪.‬‬ ‫حكِيمٌ} ‪ :‬ل يخلق عبثا ول يوجد لغير حكمة‪ ،‬ول يضع شيئا في غير موضعه اللئق به‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫هذا مثل ثالث يوجه إلى الرسول والمؤمنين حيث تتجلى لهم وليته تعالى لعباده المؤمنين‬ ‫بإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى مجرد ظلمة باستبعاد شيء عن قدرة ال تعالى‪ ،‬أو تطلع‬ ‫إلى كيفية إيجاد شيء ومعرفة صورته‪ .‬فقال تعالى‪ :‬اذكروا {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ‬ ‫تُحْيِي ‪ 2‬ا ْل َموْتَى} ‪ .‬سأل إبراهيم ربه أن يريه طريقة الحياء كيف تتم هل هي جارية على نواميس‬ ‫معينة أم هي مجرد قدرة يقول صاحبها للشيء كن فيكون‪ ،‬فسأله ربه وهو عليم به أتقول الذي‬ ‫تقول ولن تؤمن؟ قال إبراهيم‪ :‬بلى أنا مؤمن بأنك على كل شيء قدير‪ ،‬ولكن أريد أن أرى صورة‬ ‫لذلك يطمئن لها قلبي ويسكن من التطلع والتشوق إلى معرفة المجهول لدي‪ .‬فأمره تعالى إجابه له‬ ‫لنه وليه فلم يشأ أن يتركه يتطلع إلى كيفية إحياء ربه الموتى‪ ،‬أمره بأخذ أربعة طيور ‪ 3‬وذبحها‬ ‫وتقطيعها أجزاء وخلطها مع بعضها بعضا ثم وضعها على أربعة جبال ‪ 4‬على كل جبل ربع‬ ‫الجزاء المخلوطة‪ ،‬ففعل‪ ،‬ثم أخذ برأس كل طير على حدة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فسر‪{ :‬صرهن} بأملهن وقطعهن كما في التفسير‪ ،‬والكل صحيح‪ ،‬إذ إما إمالتهن أولً ثم‬ ‫تقطيعهن وشاهد أملهن في قول العرب‪ :‬رجل أصور إذا كان مائل العنق‪ .‬وامرأة صوراء‪ ،‬وجمع‬ ‫صور؛ كسوداء وسود‪ ،‬وعليه قول الشاعر‪:‬‬ ‫ال يعلم أنا في تلفتنا ‪ ...‬يوم الفراق إلى جيراننا صور‬ ‫وشاهد قطعهن قوله‪ :‬صار الشيء يصوره إذا قطعه‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها‬ ‫‪ 2‬هذا السؤال وال ما كان عن شك من إبراهيم أبدا‪ ،‬وكيف وقد قال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬نحن أحق بالشك من إبراهيم" ‪ ،‬أي لو شك إبراهيم لكنا نحن أحرى بذلك لضعفنا ولكن ما‬ ‫شك إبراهيم‪ ،‬وكل ما طلبه زيادة اليقين برؤية كيفية الحياء كيف تتم‪ ،‬فسلم على إبراهيم الخليل‬ ‫وعلى محمد في العالمين‬ ‫‪ 3‬يروى عن ابن عباس وبعض علماء السلف إنها كانت حمامة وديكا وغرابا وطاووسا وليس في‬ ‫معرفتها كبير فائدة فلذا لم أذكرها في التفسير‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجبل‪ :‬قطعة عظيمة من الرض أرسى ال تعالى بها الرض حتى ل تضطرب وتتحرك‬ ‫ومنافعها كثيرة منها‪ :‬أن بعض الناس يتخذونها حصونا مانعة من وصول العدو إليهم‪ .‬قال‬ ‫السموأل‪:‬‬ ‫لنا جبل يحتله من نجيره ‪ ...‬منيع يرد الطرف وهو كليل‬ ‫وهو أحد جبال طيء شمال الحجاز‪.‬‬

‫( ‪)1/252‬‬ ‫ودعاه فاجتمعت أجزائه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به‬ ‫وطار في السماء وإبراهيم ينظر ويشاهد مظاهر قدرة ربه العزيز الحكيم‪ .‬سبحانه ل إله غيره ول‬ ‫رب سواه‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬غريزة ‪ 1‬النسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه‪.‬‬ ‫‪ -2‬ولية ال تعالى لبراهيم حيث أراه من آياته ما اطمئن به قلبه وسكنت له نفسه‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثبوت ‪ 2‬عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلئق أحياء بالحساب والجزاء‪.‬‬ ‫‪ -4‬زيادة اليمان واليقين كلما نظر العبد إلى آيات ال الكونية‪ ،‬أو قرأ وتدبر آيات ال القرآنية‪.‬‬ ‫{مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبَُلةٍ مِائَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ‬ ‫عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(‪ )261‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُث ّم ل يُتْ ِبعُونَ مَا‬ ‫ُيضَا ِ‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ(‪َ )262‬ق ْولٌ َمعْرُوفٌ‬ ‫أَ ْنفَقُوا مَنّا وَل أَذىً َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ‬ ‫ى وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ(‪})263‬‬ ‫ن صَ َد َقةٍ يَتْ َب ُعهَا أَذ ً‬ ‫َو َمغْفِ َرةٌ خَيْرٌ مِ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قالت العلماء‪ :‬من غرائز النسان التي جبل عليها حبه معرفة المجهول والية أكبر شاهد‪ ،‬إذ‬ ‫الخليل أحب أن يعرف كيفية إحياء الموتى‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ رؤية إبراهيم لكيفية إحياء ال تعالى الموتى من الطير أكبر دليل على قدرة ال تعالى على‬ ‫إحياء العباد يوم القيامة ومن هداية هذه الية إراءه المشركين المنكرين للبعث الخر هذه الحادثة‬ ‫العجيبة كأنهم يشاهدونها فتقوم بذلك الحجة عليهم وعلى كل منكر للبعث والحياة الخرة‪.‬‬

‫( ‪)1/253‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ‪ : }1‬صفتهم المستحسنة العجيبة‪.‬‬ ‫{سَبِيلِ اللّهِ} ‪ :‬كل ما يوصل إلى مرضاة ال تعالى من اليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫عفُ} ‪ :‬يزيد ويكثر حتى يكون الشيء أضعاف ما كان‪.‬‬ ‫{ ُيضَا ِ‬ ‫{مَنّا وَل أَذىً} ‪ :‬المن ‪ :2‬ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه على الوجه التفضل‬ ‫عليه‪ .‬والذى‪ :‬التطاول على المتصدق عليه وإذلله بالكلمة النابية أو التي تمس كرامته وتحط من‬

‫شرفه‪.‬‬ ‫{ َق ْولٌ َمعْرُوفٌ} ‪ :‬كلم طيب يقال للسائل المحتاج‪ ،‬نحو‪ :‬ال يرزقنا وإياكم‪ ،‬ال كريم‪ .‬ال يفتح‬ ‫علينا وعليك‪.‬‬ ‫{ َو َمغْفِ َرةٌ} ‪ :‬ستر على الفقير بعدم إظهار فقره‪ ،‬والعفو عن سوء خلقه إن كان كذلك‪.‬‬ ‫{غَ ِنيّ} ‪ :‬غني ذاتي ل يفتقر معه إلى شيء أبدا‪.‬‬ ‫{حَلِيمٌ} ‪ :‬ل يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويصفح‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى مرغبا في الجهاد بالمال لتقدمه على الجهاد بالنفس؛ لن العدة أولً والرجال ثانيا‪ ،‬أن‬ ‫مثل ما ينفقه المؤمن في سبيل ال وهو هنا الجهاد‪ ،‬في نماءه وبركته وتضاعفه‪ ،‬كمثل حبة ‪ 3‬بر‬ ‫بذرت في أرض طيبة فأنبتت سبع ‪ 4‬سنابل في كل سنبلة مائة حبة فأثمرت الحبة الواحدة سبعمائة‬ ‫حبة‪ ،‬وهكذا الدرهم الواحد ينفقه المؤمن في سبيل ال يضاعف إلى سبعمائة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي‪ :‬أنه روي أن هذه الية‪{ :‬مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ} نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد‬ ‫الرحمن بن عوف‪ ،‬إذ عثمان جهز جيش العسرة في غزوة تبوك‪ ،‬وعبد الرحمن خرج بنصف ماله‬ ‫وهو أربعة آلف‪ ،‬فدعا له الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬بارك ال لك فيما أمسكت وفيما‬ ‫أعطيت" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬المن‪ :‬من كبائر الذنوب‪ ،‬إذ صاحبه أحد ثلثة ل ينظر ال إليهم يوم القيامة ول يزكيهم ولهم‬ ‫عذاب أليم "في صحيح مسلم" والمنان هو الذي ل يعطي شيئا إل منة‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحب‪ :‬اسم جنس لكل ما يزرعه النسان ويقتاته وأكثر ما يراد بالحب‪ :‬البر‪ ،‬ومنه قول‬ ‫المتلمس‪:‬‬ ‫أليت حب العراق الدهر أطعمه ‪ ...‬والحب يأكله في القرية السوس‬ ‫والحبة بكسر الحاء‪ :‬بذور البقول مما ليس بقوت‪ ،‬وفي حديث الشفاعة‪" :‬فينبتون كما تنب الحبة‬ ‫في حميل السيل" وحبة القلب سويدائه‪ ،‬والحب معروف ضد الكره‪.‬‬ ‫‪ 4‬في الية‪ :‬دليل على مشروعية الزراعة‪ ،‬وهي واجب كفائي وورد فيها‪" :‬التمسوا الرزق في‬ ‫خبايا الرض" ‪ .‬رواه الترمذي عن عائشة رضي ال عنها‪.‬‬

‫( ‪)1/254‬‬ ‫عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ} هذا ما‬ ‫ضعف‪ ،‬وقد يضاعف إلى أكثر لقوله تعالى‪{ :‬وَاللّهُ ُيضَا ِ‬ ‫تضمنته الية الولى(‪ ،)261‬وأما الية الثانية(‪ )262‬فهي تحمل بشرى ال تعالى للمنفقين في‬ ‫سبيله الذين ل يتبعون ما أنفقوه منا به ول أذى لمن أنفقوه عليه بأن ل خوف عليهم فيما يستقبلونه‬

‫من حياتهم ول هم يحزنون على ما يتركون وراءهم ويخلفون‪ .‬وهذه هي السعادة حيث خلت‬ ‫حياتهم من الخوف والحزن حل محلها المن والسرور‪ .‬وأخيرا الية الثالثة(‪ )263‬وهي‪َ { :‬ق ْولٌ‬ ‫َمعْرُوفٌ‪ }...‬فإن ال تعالى يخبر بأن الكلمة الطيبة تقال للفقير ينشرح لها صدره وتطيب لها نفسه‬ ‫خير من مال يعطاه صدقة عليه يهان به ويذل فيشعر بمرارة الفقر أكثر‪ ،‬وألم الحاجة أشد‪،‬‬ ‫ومغفرة وستر لحالته وعدم فضيحته أو عفو عن سوء خلقه؛ كإلحاحه في المسألة‪ ،‬خير أيضا من‬ ‫صدقة يفضح ‪ 1‬به ويعاتب ويشنع عليه بها‪ ،‬وقوله في آخر الية‪{ :‬وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ} أي‪ :‬مستغن‬ ‫عن الخلق حليم ل يعاجل بالعقوبة من يخالف أمره‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل النفقة في الجهاد وإنها أفضل النفقات‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الصدقات وعواقبها الحميدة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة المن بالصدقة وفي الحديث‪" :‬ثلثة ل يدخلون الجنة‪ "...‬وذكر من بينهم المنان‪.‬‬ ‫‪ -4‬الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه‪ ،‬وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير‬ ‫من الصدقة يتبعها أذى‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬الكلمة الطيبة صدقة"‪.‬‬ ‫س وَل ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ‬ ‫ن وَالَذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَاَلهُ رِئَاءَ النّا ِ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُ ْبطِلُوا صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ‬ ‫صفْوَانٍ عَلَ ْيهِ‬ ‫ل َ‬ ‫وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَلُهُ َكمَ َث ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وصح عنه صلى ال عليه وسلم قوله‪" :‬الكلمة الطيبة صدقة" وقوله‪" :‬ولو أن تلقى أخاك بوجه‬ ‫طلق" ‪ ،‬قال‪" :‬ل يدخل الجنة مدمن خمر‪ ،‬ول عاق لوالديه ول منان"‪.‬‬

‫( ‪)1/255‬‬ ‫شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا وَاللّهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ(‬ ‫تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَهُ صَلْدا ل َيقْدِرُونَ عَلَى َ‬ ‫‪})264‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إبطال الصدقة ‪ : 1‬حرمان من ثوابها‪.‬‬ ‫{بِا ْلمَنّ‪ 2‬وَالَذَى} ‪ :‬تقدم معناهما‪.‬‬ ‫{رِئَاءَ النّاسِ} ‪ :‬مراءاة لهم ليكسب محمدتهم‪ ،‬أو يدفع مذمتهم‪.‬‬ ‫ص ْفوَانٍ}‪ : 3‬حجر أملس‪.‬‬ ‫{ َ‬ ‫{وَا ِبلٌ}‪ : 4‬مطر شديد‪.‬‬ ‫{صَلْدا} ‪ :‬أملس ليس عليه شيء من التراب‪.‬‬

‫{ل َيقْدِرُونَ} ‪ :‬يعجزون عن النتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫بعد أن رغب تعالى في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أحرها وهو المن والذى نادى عباده‬ ‫المؤمنين فقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا‪ }...‬ناهيا عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال‪{ :‬ل تُ ْبطِلُوا‬ ‫ن وَالَذَى} مشبها حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي ل يؤمن بال‬ ‫صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ‬ ‫س وَل ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ‪6‬‬ ‫واليوم الخر في بطلنها فقال‪{ :‬وَالَذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ‪ 5‬مَاَلهُ رِئَاءَ النّا ِ‬ ‫الخِرِ} وضرب مثلً لبطلن صدقات من يتبع صدقاته منا أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر‬ ‫ل يؤمن بال ول باليوم الخر فقال‪َ { :‬فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ صَ ْفوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ}‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قالت العلماء‪ :‬إن الصدقة التي يعلم ال من صاحبها إنه يمن أو يؤذي بها فإنها ل تقبل‪ ،‬وهو‬ ‫ن وَالَذَى} وإبطالها هو عدم قبولها وإذا لم‬ ‫كما قالوا‪ :‬لن ال تعالى قال‪{ :‬ل تُبْطِلُوا صَ َدقَا ِت ُكمْ بِا ْلمَ ّ‬ ‫تقبل فل يعطي صاحبها ثوابا عليها وهو معنى ل تقبل‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال طعم اللء أحلى من المن‪ ،‬وهو أمرّ من اللء عند المن‪ .‬اللء الول‪ :‬النعم‪ ،‬والثاني‪:‬‬ ‫شجر من الورق‪ .‬والمن الول‪ :‬شيء يشبه العسل‪ ،‬والثاني‪ :‬تذكير المنعم عليه بالنعمة‪.‬‬ ‫‪ 3‬الصفوان‪ :‬واحدة صفوانه‪.‬‬ ‫‪ 4‬يقال‪ :‬وبلت السماء تبل والرض مبولة‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪{ :‬فََأخَذْنَاهُ َأخْذا وَبِيلً} أي‪ :‬شديدا‪.‬‬ ‫‪ 5‬إن الكافر قد يعطي المال ولكن ليراه الناس فيمدحوه ويشكروه وهذا عمل أهل الجاهلية الماضية‬ ‫والحاضرة أيضا‪.‬‬ ‫‪ 6‬أي‪ :‬إنفاقا؛ كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس طلبا لمحمدتهم أو خوفا من مذمتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/256‬‬ ‫أي حجر أملس عليه تراب ‪{ ،1‬فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َر َك ُه صَلْدا} أي‪:‬نزل عليه مطر شديد فأزال التراب‬ ‫عنه فتركه أملس عاريا ليس عليه شيء‪ ،‬فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها‬ ‫شيْءٍ ِممّا كَسَبُوا} أي‪ :‬مما تصدقوا به‪،‬‬ ‫علَى َ‬ ‫شيء ينتفع به يوم القيامة‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬ل َيقْدِرُونَ َ‬ ‫{وَاللّهُ ل َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ‪ 2‬ا ْلكَافِرِينَ} إلى ما يسعدهم ويكملهم لجل كفرانهم به تعالى‪.‬‬ ‫هداية الية‪:‬‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة المن والذى في الصدقات وفسادها بها‪.‬‬ ‫‪ -2‬بطلن صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الرياء وهي من الشرك لحديث‪" :‬وإياكم والرياء فإنه الشرك الصغر" ‪.‬‬

‫سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ‬ ‫{ َومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫ح ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ‬ ‫ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‪ )265‬أَ َيوَدّ أَ َ‬ ‫طّ‬ ‫ض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ‬ ‫فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬ ‫ت وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ‬ ‫لَهُ جَنّةٌ مِنْ َنخِيلٍ وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَا ِ‬ ‫عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُ ُم الياتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ(‪})266‬‬ ‫ضعَفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ‬ ‫ذُرّيّةٌ ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬التراب على الصفوان‪ :‬عندما يراه الفلح يعجبه لنعومة التربة وصفائها فيبذر فيه رجاء أن‬ ‫يحصد ولكن إذا نزل عليه المطر الشديد وذهب به وبالبذر معه فيصاب صاحبه بخيبة المل‪،‬‬ ‫فكذلك المنفق رئاء الناس‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الجملة زيل بها الكلم لتحمل تحذيرا شديدا للمؤمنين أن يسلكوا مسالك الكافرين في إنفاقهم‬ ‫وأعمالهم فإنها باطلة خاسرة‪.‬‬

‫( ‪)1/257‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المثل ‪ :‬الصفة المستملحة المستغربة‪.‬‬ ‫{ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ} ‪ :‬طلبا لرضا ال تعالى‪.‬‬ ‫{وَتَثْبِيتا}‪ : 1‬تحقيقا وتيقنا بمثوبة ال تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله‪.‬‬ ‫{جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ‪ : }2‬بستان كثير الشجار بمكان مرتفع‪.‬‬ ‫ض ْعفَيْنِ} ‪ :‬مضاعفا مرتين‪ ،‬أو ضعفي ما يثمر غيرها‪.‬‬ ‫{ ِ‬ ‫الوابل ‪ :‬المطر الغزير الشديد‪.‬‬ ‫الطل ‪ :‬المطر الخفيف‪.‬‬ ‫عصَارٌ} ‪ :‬ريح عاصف فيها سموم‪.‬‬ ‫{إِ ْ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما ذكر ال تعالى خيبة المنفقين أموالهم رياء الناس محذرا المؤمنين من ذلك ذكر تعالى مرغبا‬ ‫في النفقة التي يريد بها العبد رضا ال وما عنده من الثواب الخروي فقال ضاربا لذلك مثلً‪:‬‬ ‫س ِهمْ} أي‪:‬‬ ‫{ َومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ} أي‪ :‬طلبا لمرضاته {وَتَثْبِيتا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫تحققا وتيقنا منهم بأن ال تعالى سيثيبهم عليها مثلهم في الحصول ما أمّلوا من رضا ال وعظيم‬ ‫الجر؛ كمثل جنة بمكان مرتفع عالٍ أصابها مطر غزير فأعطت ثمرها ضعفي ما يعطيه غيرها‬ ‫من البساتين‪ ،‬ولما كانت هذه الجنة بمكان عال مرتفع فإنها إن لم يصبها المطر الغزير فإن الندى‬ ‫والمطر اللين الخفيف كافٍ في سقيها وريها حتى تؤتي ثمارها مضاعفا مرتين‪ ،‬وختم تعالى هذا‬ ‫الكلم الشريف بقوله‪{ :‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ} قواعد به المنفقين ابتغاء مرضاته وتثبيتا من‬

‫أنفسهم بعظم الجر وحسن المثوبة‪ ،‬وأوعد به المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والذى‬ ‫والمنفقين رياء الناس بالخيبة والخسران‪.‬‬ ‫كان هذا معنى الية الولى(‪ )265‬وأما الية الثانية(‪ )266‬فإنه تعالى بسائل عباده تربية‬ ‫__________‬ ‫سهِمْ} ورجح ما فسرناه به في التفسير وهناك معنى آخر‬ ‫‪ 1‬لقد اختلف في معنى‪{ :‬وَتَثْبِيتا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫لطيف وهو‪ :‬وتثبيتا لنفسهم على اليمان وأفعال البر لن الحسنة تلد الحسنة‪ ،‬فهم ينفقون أموالهم‬ ‫طلبا لرضوان ال وترويضا منهم لنفسهم على فعل الخير والحسان‪.‬‬ ‫‪ 2‬الربوة‪ :‬مثلثة الراء‪ :‬المكان المرتفع‪.‬‬

‫( ‪)1/258‬‬ ‫ح ُدكُمْ‪ }1‬أي‪ :‬أيحب‬ ‫لهم وتهذيبا لخلقهم وسموا بهم إلى مدارج الكمال الروحي فيقول‪{ :‬أَ َيوَدّ أَ َ‬ ‫أحدكم أيها المنفقون في غير مرضاة ال تعالى أن يكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من‬ ‫تحتها النهار وله فيها من كل الثمرات والحال أنه قد تقدمت به السن وأصبح شيخا كبيرا‪ ،‬ومع‬ ‫هذا العجز فإنه له ذرية صغارا ل يقدرون على الكسب وجلب عيشهم بأنفسهم‪ ،‬وأصاب ذلك‬ ‫البستان الذي هو مصدر عيش الوالد وأولده أصابه ريح عاتية تحمل حرارة السموم ‪ 2‬فأتت على‬ ‫ذلك البستان فأحرقته‪ ،‬كيف يكون حال الرجل ‪ 3‬الكبير وأولده؟ هكذا الذي ينفق أمواله رئاء‬ ‫الناس يخسرها كلها في وقت هو أحوج إليها من الرجل العجوز وأطفاله الصغار‪ ،‬وذلك يوم ‪4‬‬ ‫القيامة‪ ،‬وأخيرا يمتن تعالى على عباده بما يبين لهم من اليات في العقائد والعبادات والمعاملت‬ ‫والداب ليتفكروا فيها فيهتدوا على ضوئها إلى كمالهم وسعادتهم فقال تعالى‪{ :‬كَذَِلكَ} أي‪ :‬كذلك‬ ‫التبيين {يُبَيّنُ اللّهُ َل ُك ُم الياتِ َلعَّل ُكمْ تَ َت َفكّرُونَ‪. }5‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان ضرب المثال تقريبا للمعاني إلى الذهان لينتفع بها‪.‬‬ ‫‪ -2‬مضاعفة أجر الصدقة الخالية من المن والذى ومراءاة الناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬بطلن صدقات المان والمؤذي والمرائي وعدم النتفاع بشيء منها‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التفكر في آيات ال ل سيما تلك التي تحمل بيان العقائد والحكام والداب والخلق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الود‪ :‬حب الشيء مع تمنيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬ولذا قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أبردوا بصلتكم في الحر فإن شدة الحر من فيح جهنم" رواه‬ ‫البخاري وغيره‪.‬‬

‫‪ 3‬روى الحاكم وذكره ابن كثير أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يدعو فيقول‪" :‬اللهم اجعل أوسع‬ ‫رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري"‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى البخاري أن عمر رضي ال عنه سأل يوما أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم عن‬ ‫هذه الية‪{ :‬أَ َيوَدّ َأحَ ُد ُكمْ} فقالوا‪ :‬ال أعلم‪ .‬فقال‪ :‬قولوا ‪ :‬نعلم ول نعلم‪ .‬فقال عبد ال ابن عباس‬ ‫رضي ال عنهما‪ :‬في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين‪ .‬فقال عمر‪ :‬يا ابن أخي قل ول تحقر‬ ‫نفسك‪ .‬فقال‪ :‬ضربت مثلً لرجل غني يعمل بطاعة ال ثم بعث ال له الشيطان فعمل بالمعاصي‬ ‫حتى أغرق أعماله‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬في زوال الدنيا وفنائها‪ ،‬وإقبال الخرة وبقاءها‪ ،‬وهذا ل يتنافى مع ما فسرنا به الية‪ .‬في‬ ‫التفسير‪.‬‬

‫( ‪)1/259‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَ ْن ِفقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُ ْم َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِنَ الَ ْرضِ وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ‬ ‫حمِيدٌ(‪ )267‬الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ‬ ‫ن وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِي ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬ ‫مِنْهُ تُ ْن ِفقُو َ‬ ‫ح ْكمَةَ مَنْ‬ ‫سعٌ عَلِيمٌ(‪ُ )268‬يؤْتِي ا ْل ِ‬ ‫ل وَاللّ ُه وَا ِ‬ ‫ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَا ِء وَاللّهُ َي ِع ُدكُمْ َم ْغفِ َرةً مِنْهُ َوفَضْ ً‬ ‫ح ْكمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا َومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو الَلْبَابِ(‪})269‬‬ ‫يَشَاءُ َومَنْ ُي ْؤتَ الْ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مِنْ طَيّبَاتِ مَا َكسَبْتُمْ} ‪ :‬من جيد أموالكم وأصلحها‪.‬‬ ‫ن الَ ْرضِ} ‪ :‬من الحبوب وأنواع الثمار‪.‬‬ ‫{ َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِ َ‬ ‫{وَل تَ َي ّممُوا ا ْلخَبِيثَ} ‪ :‬ل تقصدوا الرديء تنفقون منه‪.‬‬ ‫{إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ‪ : }1‬إل أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه بتساهل منكم‬ ‫وتسامح‪.‬‬ ‫حمِيدٌ} ‪ :‬محمود في الرض والسماء في الولى والخرى لما أفاض ويفيض من النعم على‬ ‫{َ‬ ‫خلقه‪.‬‬ ‫{ َيعِ ُد ُكمُ ا ْلفَقْرَ} ‪ :‬يخوفكم من الفقر ليمنعكم من النفاق في سبيل ال‪.‬‬ ‫{وَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلفَحْشَاءِ} ‪ :‬يدعوكم إلى ارتكاب الفواحش ومنها البخل والشح‪.‬‬ ‫ح ْكمَةَ} ‪ :‬فهم أسرار الشرع‪ ،‬وحفظ الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫{ا ْل ِ‬ ‫{أُولُو الَلْبَابِ} ‪ :‬أصحاب العقول الراجحة المفكرة فيما ينفع أصحابها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال‪ :‬أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز‪ ،‬وما في التفسير‬

‫فهو مأخوذ من تغميض العين لعدم رؤية العيب والرداءة‪ ،‬وقراءة الجمهور تشهد للمعنيين‬ ‫التجاوز‪ ،‬وتغميض العين‪.‬‬

‫( ‪)1/260‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعدما رغب تعالى عباده المؤمنين في النفاق في سبيله في الية السابقة ناداهم هنا بعنوان‬ ‫اليمان‪ ،‬وأمرهم بإخراج زكاة أموالهم من جيد ما يكسبون فقال تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‪ 1‬آمَنُوا أَ ْنفِقُوا‬ ‫مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ‪َ 2‬و ِممّا أَخْ َرجْنَا} يريد الحبوب والثمار كما أن ما يكسبونه يشمل النقدين‬ ‫والماشية من إبل وبقر وغنم‪ ،‬ونهاهم عن التصدق بالرديء من أموالهم‪ ،‬فقال‪{ :‬وَل تَ َي ّممُوا ‪3‬‬ ‫خذِيهِ إِل أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِيهِ} يريد ل ينبغي لكم أن تنفقوا الرديء وأنتم‬ ‫الْخَبِيثَ مِنْه ُ‪ 4‬تُ ْن ِفقُونَ وَلَسْ ُتمْ بِآ ِ‬ ‫لو أعطيتموه في حق لكم ما كنتم لتقبلوه لول أنكم تغمضون وتتساهلون في قبوله‪ ،‬وهذا منه تعالى‬ ‫تأديب لهم وتربية‪ .‬وأعلمهم أخيرا أنه تعالى غني عن خلقه ونفقاتهم فلم يأمرهم بالزكاة والصدقات‬ ‫لحاجة به‪ ،‬وإنما أمرهم بذلك لكمالهم وإسعادهم‪ ،‬وأنه تعالى حميد محمود بماله من إنعام على‬ ‫سائر خلقه‪ ،‬كان هذا معنى الية(‪ )267‬أما الية(‪ )268‬فإنه تعالى يحذر عباده من الشيطان‬ ‫ووسواسه فأخبرهم أن الشيطان يعدهم الفقر ‪ ،5‬أي‪ :‬يخوفهم منه حتى ل يزكوا ول يتصدقوا‬ ‫ويأمرهم بالفحشاء فينفقون أموالهم في الشر والفساد ويبخلون بها في الخير‪ ،‬والصالح العام‪ ،‬أما‬ ‫هو تعالى فإنه بأمره إياهم بالنفاق يعدهم مغفرة ذنوبهم؛ لن الصدقة تكفر الخطيئة‪ ،‬وفضلً منه‬ ‫وهو الرزق الواسع الحسن‪ ،‬وهو الواسع الفضل العليم بالخلق‪ .‬فاستجيبوا أيها المؤمنون لنداء ال‬ ‫تعالى‪ ،‬وأعرضوا عن نداء الشيطان فإنه عدوكم ل يعدكم إل بالشر‪ ،‬يأمركم إل بالسوء والباطل‪،‬‬ ‫كان هذا ما تضمنته الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )269‬فإن ال تعالى يرغب في تعلم العلم النافع‬ ‫الذي يحمل على العمل الصالح‪ ،‬ول يكون ذلك إل علم الكتاب والسنة حفظا وفهما وفقها فيهما‬ ‫فقال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما في هذه الية‪{ :‬الشّيْطَانُ َيعِ ُد ُكمُ‪ }...‬إلخ‪ .‬اثنتان من ال تعالى‪،‬‬ ‫واثنتان من الشيطان‪ .‬ويفسره حديث الترمذي إذ فيه قول صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن للشيطان لمة‬ ‫بابن آدم وللملك لمة‪ ،‬فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق‪ ،‬وأما لمة الملك‪ :‬فإيعاد بالخير‬ ‫وتصديق بالحق‪ ،‬فمن وجد ذلك فليعلم أنه من ال‪ ،‬ومن وجد الخرى فليتعوذ بال من الشيطان ‪،‬‬ ‫ثم قرأ‪{ :‬الشّ ْيطَانُ‪ }...‬الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬الية في الزكاة قطعا‪ ،‬والنهي عن النفاق من الرديء يشمل الزكاة‪ .‬والتطوع معا‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى الحاكم وصححه على شرط الشيخين في سبب نزول هذه الية عن البراء قال‪ :‬هذه الية‬

‫نزلت فينا‪ ،‬كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو‬ ‫فيعلقه في المسجد‪ ،‬وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه‬ ‫فيسقط من البسر والتمر فيأكل وكان أناس مما ل يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص‬ ‫فيعلقه فنزلت‪{ :‬وَل تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُونَ} الية‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬من الخبيث الذي هو الرديء‪.‬‬ ‫‪ 5‬تفتح فاء الفقر‪ ،‬وتضم كالضعف والضُعف‪.‬‬

‫( ‪)1/261‬‬ ‫ح ْكمَةَ مَنْ‪ 1‬يَشَاءُ} من طلبها وتعرض لها راغبا فيها سائلً ال‬ ‫تعالى‪ُ { :‬يؤْتِي} أي‪ :‬هو تعالى‪{ :‬الْ ِ‬ ‫تعالى أن يعلمه‪ ،‬وأخبر أخيرا أن من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا‪ 2‬فليطلب العاقل الحكمة‬ ‫قبل طلب الدنيا هذه تذكرة { َومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو الَلْبَابِ}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل وفي الناطق‬ ‫من البل والبقر والغنم إذ الكل داخل في قوله‪{ :‬مَا َكسَبْتُمْ} وهذا بشرط الحول ‪ 3‬وبلوغ النصاب‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الزكاة في الحرث‪ :‬الحبوب والثمار وذلك فيما بلغ نصابا‪ ،‬وكذا في المعادن إذ يشملها‬ ‫لفظ الخارج من الرض‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبح النفاق من الرديء وترك الجيد‪.‬‬ ‫‪ -4‬التحذير من الشيطان ووجوب مجاهدته بالعراض عن وساوسه ومخالفة أوامره‪.‬‬ ‫‪ -5‬إجابة نداء ال والعمل بإرشاده‪.‬‬ ‫‪ -6‬فضل العلم على المال‪.‬‬ ‫{ َومَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َن َفقَةٍ َأوْ نَذَرْ ُتمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْلمُهُ َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ(‪ )270‬إِنْ تُبْدُوا‬ ‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْل ُفقَرَاءَ‬ ‫ي وَإِنْ تُ ْ‬ ‫الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ‪ِ 4‬ه َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحكمة‪ :‬النبوة والقرآن والصابة في المور بوضع كل شيء في موضعه‪ ،‬فأعلى الحكمة النبوة‬ ‫ثم القرآن والسنة‪ .‬وفي الصحيح‪" :‬ل حسد إل في اثنين‪ :‬رجل آتاه ال مالً فسلطه على هلكته في‬ ‫الحق‪ ،‬ورجل آتاه ال الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" ‪ .‬واللفظ يشمل القرآن والسنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل الحكمة‪ :‬إحكام الشيء وإتقانه‪ ،‬وعليه فحفظ القرآن والسنة وفهما والعمل بهما هو الحكمة‪،‬‬ ‫وفي الصحيح‪" :‬من يرد ال به خيرا يفقهه في الدين"‪ .‬وورد‪ :‬رأس الحكمة مخافة ال‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحول‪ :‬هو مرور سنة كاملة على زكاة النقدين والنعام وعروض التجارة‪ ،‬والنصاب في‬

‫الحبوب والثمار خمسة أوسق لحديث الصحيح‪" :‬ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والوسق‪:‬‬ ‫ستون صاعا‪ ،‬والصاع‪ :‬أربعة أمداد‪ .‬وفي النقدين‪ :‬الذهب عشرون دينارا ما يعادل سبعين غراما‪،‬‬ ‫وفي الفضة‪ :‬مائتا درهم‪ :‬ما يعادل ‪ 460‬غراما‪ ،‬وفي الغنم أربعون شاة‪ ،‬وفي البقر ثلثون بقرة‪،‬‬ ‫وفي البل خمس منها‪.‬‬ ‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَاءَ} حكم‬ ‫‪ 4‬قوله تعالى‪ { :‬فَ ِن ِعمّا ِهيَ} ثناء على إبداء الصداقة وقوله‪{ :‬وَإِنْ ُت ْ‬ ‫على أن الخفاء خير من البداء‪ ،‬قال أحد الحكماء‪ :‬إذا اصطنعت المعروف فاستره‪ ،‬وإذا اصطنع‬ ‫إليك فانشره‪ .‬قال دعبل الخزاعي‪:‬‬ ‫إذا انتقموا أعلنوا أمرهم ‪...‬‬ ‫وإن أنعموا أنعموا باكتتام‬

‫( ‪)1/262‬‬ ‫َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَ ُي َكفّرُ عَ ْنكُمْ مِنْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ(‪})271‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مِنْ َن َفقَةٍ} ‪ :‬يريد قليلة أو كثيرة من الجيد أو الرديء‪.‬‬ ‫{مِنْ َنذْرٍ} ‪ :‬النذر ‪ :1‬التزام المؤمن بما لم يلزمه به الشارع‪ ،‬كأن يقول‪ :‬ل عليّ أن أتصدق بألف؛‬ ‫أو أصوم شهرا أو أصلى كذا ركعة يقول‪ :‬إن حصل ‪ 2‬لي كذا من الخير أفعل كذا من الطاعات‪.‬‬ ‫{إِنْ تُ ْبدُوا الصّ َدقَاتِ} ‪ :‬أي تظهروها‪.‬‬ ‫{فَ ِن ِعمّا ِهيَ} ‪ :‬فنعم تلك الصدقة التي أظهرتموها لُيفتدى بكم بها‪.‬‬ ‫{وَ ُي َكفّرُ عَ ْن ُكمْ مِنْ سَيّئَا ِتكُمْ} ‪ :‬يكفر بمعنى‪ :‬يسترها ول يطالب بها‪ ،‬ومن للتبعيض إذ حقوق العباد‬ ‫ل تكفرها الصدقة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫بعدما دعا تعالى عباده إلى النفاق في الية السابقة أخبر تعالى أنه يعلم ما ينفقه عباده فإن كان‬ ‫المنفق جيدا صالحا يعلمه ويجزي به وإن كان خبيثا رديئا يعلمه ويجزي به‪ ،‬وقال تعالى مخاطبا‬ ‫عباده المؤمنين‪َ { :‬ومَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ َنفَقَةٍ َأوْ نَذَرْ ُتمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْلمُهُ‪ }3‬فما كان مبتغي به وجه ال‬ ‫ومن جيد المال فسوف يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات‪ ،‬وما كان رديئا ونذرا لغير ال تعالى‬ ‫فإن أهله ظالمون وسيغرمون أجر نفقاتهم ونذرهم لغير ال ول يجدون من يثيبهم على شيء منها‬ ‫لنهم ظالمون فيها حيث وضعوها في غير موضعها‪َ { ،‬ومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ} هذا ما تضمنته‬ ‫الية الولى(‪.)270‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مما يجب علمه أنه شاع في العامة بين المسلمين النذر للولياء والصالحين وهو محرم قطعا إذ‬

‫هو من شرك العبادة فبعضهم يقول يا سيدى فلن إن قضى ال حاجتي فعلت لك كذا‪ ،‬وآخر يقول‪:‬‬ ‫إن حصل لي كذا ذبحت لك أو جددت بناء قبتك أو أنرت ضريحك‪ ،‬فيجب أن ينهى عن هذا كله‬ ‫ويعلم من يفعله عن هذا كله ويعلم من يفعله أنه أشرك بعبادة ربه‪.‬‬ ‫‪ 2‬النذر المشروط مكروه لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬النذر ل يأتي بخير وإنما يستخرج‬ ‫به من مال البخيل" ‪ .‬أو كما قال صلى ال عليه وسلم‪ .‬أم النذر المطلق فهو قربة من أفضل‬ ‫القرب‪ ،‬وفي التفسير بيان لكل من المطلق والمشروط فانظره‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية إبجاز بليغ إذ التقدير‪ :‬وما أنفقتم من نفقة فإن ال يعلهما‪ ،‬أو نذرتم من نذر فإن ال‬ ‫يعلمه‪ ،‬فحذف من الول لدللة الخير عليه تجنبا للتكرار المنافي لبلغة الكلم ‪.‬‬

‫( ‪)1/263‬‬ ‫أما الية الثانية(‪ )271‬فقد أعلم تعالى عباده المؤمنين أن ما ينفقونه لوجهه ومن طيب أموالهم علنا‬ ‫وجهرا هو مال رابح‪ ،‬ونفقة مقبولة يثاب عليها صاحبها‪ ،‬إل أن ما يكون من تلك النفقات سرا‬ ‫ويوضع في أيدي الفقراء يكون خيرا لصاحبه لبعده من شائبة الرياء‪ ،‬ولكرام الفقراء‪ ،‬وعدم‬ ‫تعريضهم لمذلة التصدق عليهم وإنه تعالى يكفر عن المنفقين سيئاتهم بصدقاتهم‪ ،‬وأخبر أنه عليم‬ ‫بأعمالهم فكان هذا تطمينا لهم على الحصول على أجور صدقاتهم‪ ،‬وسائر أعمالهم الصالحة‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬الترغيب في الصدقات ولو قلت والتحذير من الرياء فيها وإخراجها من رديء الموال‪.‬‬ ‫‪ -2‬جواز إظهار الصدقة ‪ 1‬عن سلمتها من الرياء‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل صدقة السر وعظم أجرها‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪ " :‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى‬ ‫ل تعلم شماله ما تنفق يمينه" ذكر من السبعة الذين يظلهم ال بظل عرشه يوم ل ظل إل ظله‪.‬‬ ‫سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ إِل ابْ ِتغَاءَ‬ ‫{لَيْسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَ ْنفُ ِ‬ ‫حصِرُوا فِي سَبِيلِ‬ ‫وَجْهِ اللّ ِه َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْيكُ ْم وَأَنْ ُت ْم ل ُتظَْلمُونَ(‪ )272‬لِ ْلفُقَرَاءِ‪ 2‬الّذِينَ أُ ْ‬ ‫اللّهِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صدقة التطوع السرار بها أفضل‪ ،‬ففي الحديث‪" :‬صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل" ‪،‬‬ ‫وفي الصحيح‪" :‬سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله‪ :‬إمام عادل‪ ،‬وشاب نشأ في عبادة ال‪،‬‬ ‫ورجلن تحابا في ال اجتمعا عليه وتفرقا عليه‪ ،‬ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى‬ ‫يعود إليه‪ ،‬ورجل ذكر ال خاليا ففاضت عيناه‪ ،‬ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‪ :‬إني‬ ‫أخاف ال رب العالمين‪ ،‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه" ‪.‬‬

‫والصدقة الواجبة وهي الزكاة إعلنها من أفضل إسرارها‪ .‬هذا ومرد القضية إلى حال المتصدق‬ ‫والمتصدق عليه فإن كان المتصدق بإعلنه يتبعه غيره ويكون كمن سن سنة حسنة فالعلن‬ ‫أفضل وإن كان المتصدق عليه يخجل ويستحي من الصدقة عليه فالسرار له أفضل من غيره‪.‬‬ ‫‪ 2‬من قال بوجوب صدقة الفطر‪ :‬منع إعطائها لفقراء أهل الذمة‪ ،‬ومن قال بثنيتها دون وجوبها‪:‬‬ ‫قال يجوز‪ ،‬والصحيح إنها حق لفقراء المسلمين لنشغالهم بصلة العيد وبالعبادة في رمضان‪،‬‬ ‫وأهل الذمة يعملون الليل والنهار‪.‬‬

‫( ‪)1/264‬‬ ‫ن ضَرْبا فِي الَرْضِ َيحْسَ ُبهُمُ الْجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّت َعفّفِ َتعْ ِر ُفهُمْ بِسِيمَاهُمْ ل يَسْأَلونَ‬ ‫ل َيسْتَطِيعُو َ‬ ‫النّاسَ إِ ْلحَافا َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(‪ )273‬الّذِينَ‪ 1‬يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِاللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ سِرّا‬ ‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ(‪})274‬‬ ‫وَعَلنِيَةً فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ُهدَا ُهمْ} ‪ :‬هدايتهم إلى اليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫{مِنْ خَيْرٍ} ‪ :‬من مال‪.‬‬ ‫سكُمْ} ‪ :‬ثوابه العاجل بالبركة وحسن الذكر والجل يوم القيامة عائد على أنفسكم‪.‬‬ ‫{فَلَ ْنفُ ِ‬ ‫{ ُي َوفّ إِلَ ْيكُمْ} ‪ :‬يرد أجره كاملً ل ينقص منه شيء‪.‬‬ ‫حصِرُوا} ‪ :‬حبسوا ومنعوا من التصرف لنهم هاجروا من بلدهم‪.‬‬ ‫{ُأ ْ‬ ‫{ضَرْبا فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬أي‪ :‬سيرا فيها لطلب الرزق بالتجارة وغيرها لحصار العدو لهم‪.‬‬ ‫{بِسِيمَاهُمْ} ‪ :‬علمات حاجتهم من رثاثة الثياب وصفرة الوجه‪.‬‬ ‫{مِنَ ال ّت َع ّففِ} ‪ :‬ترك سؤال الناس والكف عنه‪.‬‬ ‫{إِ ْلحَافا}‪ : 2‬إلحاحا وهو ملزمة السائل من يسأله حتى يعطيه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أمر تعالى بالصدقات ورغب فيها وسألها غير المؤمنين من الكفار واليهود فتحرج الرسول‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل نزلت في علي‪ ،‬إذ كان له أربعة دراهم فأنفقها على ما ذكر في الية‪ ،‬والية عامة في‬ ‫المنفقين من غير تبذير ول تقتير وفي كل حالة تتطلب النفاق سواء بالليل أو بالنهار سرا أو‬ ‫علنية‪.‬‬ ‫‪ 2‬اللحاح واللحاف‪ ،‬والحفاء مصادر ألح في السؤال‪ ،‬والحف وأحفى واللحاف مشتق من‬ ‫اللحاف؛ لنه يشتمل على الملتحق به‪ ،‬كذلك اللحاف في السؤال؛ لن المحلف يأتي أمام المسؤال‬ ‫ويأتي عن يمينه وعن شماله يسأله ل يفارقه حتى يعطيه أو يمنعه‪.‬‬

‫( ‪)1/265‬‬ ‫والمؤمنون من التصدق على الكافرين فأذهب ال تعالى عنهم هذا الحرج وأذن لهم بالتصدق على‬ ‫غير المؤمنين والمراد من الصدقة‪ :‬صدقة التطوع ل الواجبة وهي الزكاة‪ ،‬فقال تعالى مخاطبا‬ ‫رسوله وأمته تابعة له‪{ :‬لَيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُهمْ} لم يوكل إليك أمر هدايتهم لعجزك عن ذلك‪ ،‬وإنما‬ ‫الموكل إليك بيان الطريق لغير‪ ،‬وقد فعلت فل عليك أن ل يهتدوا‪ ،‬ولو شاء ال هدايتهم لهداهم‪،‬‬ ‫وما تنفقوا من مال تثابوا عليه‪ ،‬سواء كان على مؤمن أو كافر إذا أردتم به وجه ال وابتغاء‬ ‫مرضاته‪ ،‬وأكد تعالى هذا الوعد الكريم بقوله‪َ { :‬ومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْي ُكمْ} والحال أنكم ل‬ ‫تظلمون بنقص ما أنفقتم ولو كان النقص قليلً‪ .‬كان هذا معنى الية الولى(‪ ،)272‬أما الية الثانية‬ ‫حصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ‪ }...‬فقد بين تعالى فيها أفضل جهة ينفق فيها المال‬ ‫وهي‪{ :‬لِ ْلفُقَرَاءِ الّذِينَ ُأ ْ‬ ‫ويتصدق به عليها‪ ،‬وهي فقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأحصروا في‬ ‫المدينة بجوار رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يستطيعون ضربا في الرض للتجارة ول للعمل‪،‬‬ ‫ووصفهم تعالى بصفات يعرفهم بها رسوله والمؤمنون ولول تلك الصفات لحسبهم لعفتهم وشرف‬ ‫حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ال ّت َع ّففِ َتعْ ِر ُفهُمْ‬ ‫نفوسهم الجاهل بهم أغنياء غير محتاجين‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬يَ ْ‬ ‫بِسِيمَا ُهمْ} ل يسألون ‪ 1‬مجرد ‪ 2‬سؤال فضلً عن أن يلحوا ويلحفوا‪ .‬ثم في نهاية الية أعاد تعالى‬ ‫وعده الكريم بالمجازاة على ما ينفق في سبيله‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ}‬ ‫ولزمه أن يثيبكم عليه أحسن ثواب فابشروا واطمأنوا‪.‬‬ ‫وأما الية الثالثة(‪ )274‬في آخر آيات الدعوة إلى النفاق جاءت تحمل أعظم بشر للمنفقين في كل‬ ‫أحوالهم بالليل والنهار سرا وعلنية بأن أجر نفقاتهم مدخر لهم عند ربهم يتسلمونه يوم يلقونه‪،‬‬ ‫ول خوف عليهم ول هم يحزنون في الدنيا والبرزخ والخرة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز التصدق على الكافر المحتاج بصدقة التطوع ل الزكاة فإنها حق ‪ 3‬المؤمنين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬متى تحل المسألة؟ قال أحمد‪ :‬إذا لم يكن للمرء ما يغديه ويعشيه جاز له السؤال‪ ،‬وقال‪ :‬ل يسأل‬ ‫الرجل لغيره‪ ،‬ولكن يقول لغيره تصدقوا لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬اشفعوا تؤجروا" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي ل يسألون بإلحاح ول بدونه فهم ل يسألون غيرهم البتة‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أمرت أن آخد الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم" ‪،‬‬ ‫وشاهده في الصحيح‪" :‬خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم" ‪.‬‬

‫( ‪)1/266‬‬

‫‪ -2‬ثواب الصدقة عائد على المتصدق عليه فلذا ل يضر إن كان كافرا‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الخلص في الصدقة أي‪ :‬يجب أن يراد بها وجه ال تعالى ل غير‪.‬‬ ‫‪ -4‬تفاضل أجر الصدقة بحسب فضل وحاجة المتصدق عليه‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة التعفف وهو ترك السؤال مع الحتياج ‪ ،1‬وذم اللحاح في الطلب من غير ال تعالى‬ ‫أما ال عز وجل فإنه يحب الملحين في دعائه‪.‬‬ ‫‪ -6‬ل جواز التصدق بالليل والنهار وفي السر والعلن إذ الكل يثيب ال تعالى فعليه ما دام قد أريد‬ ‫به وجهه ل وجه سواه‪.‬‬ ‫بشرى ال تعالى للمؤمنين المنفقين بادخار أجرهم عنده تعالى و نفي الخوف والحزن عنهم مطلقا‪.‬‬ ‫{الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا‬ ‫ف وََأمْ ُرهُ‬ ‫حلّ اللّهُ الْبَ ْي َع وَحَرّمَ الرّبا َفمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ مَا سََل َ‬ ‫الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبا وََأ َ‬ ‫حقُ اللّهُ الرّبا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ‬ ‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ(‪َ )275‬يمْ َ‬ ‫إِلَى اللّ ِه َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬ ‫ت وََأقَامُوا الصّلةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬ ‫حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ(‪ )276‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫وَاللّهُ ل يُ ِ‬ ‫خوْفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ(‪})277‬‬ ‫َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَل َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أعطى شيئا من غير طلب ول تشوف جاز له أخذه لحديث الصحيح‪" :‬أن النبي صلى ال‬ ‫ل فقال عمر أعطه أفقر إليه مني‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬خذه وما‬ ‫عليه وسلم أعطى عمر ما ً‬ ‫جاءك من المال وأنت غير مشرف ول سائل فخذه ومال فل تتبعه نفسك" ‪.‬‬

‫( ‪)1/267‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يَ ْأكُلُونَ الرّبا ‪ : }1‬يأخذونه ويتصرفون فيه بالكل في بطونهم‪ ،‬وبغير الكل‪ ،‬والربا هنا‪ :‬ربا‬ ‫النسيئة وحقيقته أن يكون لك على المرء دين فإذا حل أجله ولم يقدر على تسديده تقول له‪ :‬أخر‬ ‫وزد‪ .‬فتؤخره أجلً وتزيد في رأس المال قدرا معينا‪ ،‬هذا هو ربا الجاهلية والعمل به اليوم في‬ ‫البنوك الربوية فيسلفون المرء مبلغا إلى أجل ويزيدون قدرا آخر نحو العشر أو أكثر أو أقل‪،‬‬ ‫والربا حرام بالكتاب والسنة والجماع وسواء كان ربا فضل ‪ 2‬أو ربا نسيئة‪.‬‬ ‫{ل َيقُومُونَ} ‪ :‬من قبوهم يوم القيامة‪.‬‬ ‫{يَ َتخَبّطُهُ‪ 3‬الشّ ْيطَانُ} ‪ :‬يضر به الشيطان ضربا غير منتظم‪.‬‬ ‫{مِنَ ا ْلمَسّ‪ : }4‬المس‪ :‬الجنون‪ ،‬يقال‪ :‬بفلن مس من جنون‪.‬‬ ‫{ َموْعِظَةٌ} ‪ :‬أمر أو نهي بترك الربا‪.‬‬

‫{فَلَهُ مَا سََلفَ} ‪ :‬ليس عليه أن يرد الموال التي سبقت توبته‪.‬‬ ‫حقُ اللّهُ الرّبا} ‪ :‬أي‪ :‬يذهبه شيئا فشيئا حتى ل يبقى منه شيء؛ كمحاق القمر آخر الشهر‪.‬‬ ‫{ َيمْ َ‬ ‫{وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ} ‪ :‬يبارك في المال الذي أخرجت منه‪ ،‬ويزيد فيه‪ ،‬ويضاعف أجرها أضعافا‬ ‫كثيرة‪.‬‬ ‫{ َكفّارٍ أَثِيمٍ} ‪ :‬الكفار‪ :‬شديد الكفر‪ ،‬يكفر بكل حق وعدل وخير‪ ،‬أثيم‪ :‬منغمس في الذنوب ل يترك‬ ‫كبيرة ول صغيرة إل ارتكبها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لغة الزيادة وشاهده الحديث‪" :‬وال ما أخذنا من لقمة إل ربا من تحتها" أي‪ :‬الطعام وعبر عن‬ ‫الخذ بالكل‪ ،‬لن الخذ يراد للكل غالبا‪ ،‬وكل حرام قد يطلق عليه الربا تجوزا‪.‬‬ ‫‪ 2‬ربا الفضل بيانه في حديث مسلم‪" :‬الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير‬ ‫والتمر والتمر بالملح بالملح مثل بمثل‪ ،‬يدا بيد‪ ،‬فمن زاد أو استزاد فقد أربى الخذ والمعطي‬ ‫سواء" ‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم في حديث آخر‪" :‬فإذا اختلفت الجناس فيبيعوا كيف شئتم إذا‬ ‫كان يدا بيد" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال‪ :‬خطة وتخبطة كملكه وتملكه‪ ،‬وعبده وتعبده‪ ،‬والتخبط‪ :‬الضرب في غير استواء‪ ،‬ومنهم‬ ‫قولهم‪ :‬خبط عشواء‪.‬‬ ‫‪ 4‬أصل المس‪ :‬اللمس باليد‪ ،‬ومن مسه الشيطان اختلط عقله وأصبح يصيح بسبب مس الشيطان له‬ ‫فيقال‪ :‬فلن يصرع من الجن‪ ،‬أي‪ :‬من مس الجن له‪ ،‬والشيطان من الجن‪ ،‬فالمرابي يقوم يوم‬ ‫القيامة من قبره كالمجنون الذي به مس الجن يصرع صرعه‪.‬‬

‫( ‪)1/268‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما حث ال على الصد قات وواعد عليها بعظيم الجر ومضا عف الثواب ذكر المرابين الذين‬ ‫يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدون طرق البر‪ ،‬ويصدون عن سبيل المعروف فبدل‬ ‫أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات‪ ،‬فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم‬ ‫يقومون‪ ،‬ويقعدون ويغفون ‪ 1‬ويُصرعون‪ ،‬حالهم من حال يصرع في الدنيا بمس الجنون‪ ،‬علمة‬ ‫يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم‪ .‬قال تعالى‪:‬‬ ‫{الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبا ل َيقُومُونَ إِل َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ} ‪ ,‬وذكر تعالى سبب‬ ‫هذه النقمة عليهم فقال‪{ :‬ذَِلكَ} أي‪ :‬أصابهم ذلك الخزي والعذاب بأنهم ردوا علينا حكمنا بتحريم‬ ‫الربا‪ ،‬وقالوا إنما البيع مثل الربا‪ ،‬إذ الربا الزيادة في نهاية الجر‪ ،‬والبيع في أوله‪ ،‬ورد تعالى‬ ‫حلّ اللّهُ الْبَيْعَ‪َ 2‬وحَرّمَ الرّبا} فما دام قد حرم الربا فل معنى للعتراض‪ ،‬ونسوا‬ ‫عليهم‪ ،‬فقال‪{ :‬وََأ َ‬

‫أن الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلو وترخص‪ ،‬وهي جارية على قانون الذن في التجار‪،‬‬ ‫وأما الزيادة في آخر البيع فهي زيادة في الوقت فقط‪ .‬ثم قال تعالى مبينا لعباده سبيل النجاة محذرا‬ ‫من طريق الهلك‪َ { :‬فمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ} وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه فانتهى عنه‬ ‫فله ما سلف قبل معرفته للتحريم‪ ،‬أو قبل توبته منه‪ ،‬وأمره بعد ذلك إلى ال إن شاء ثبته على‬ ‫التوبة فنجاه‪ ،‬وإن شاء خذله لسوء عمله‪ ،‬وفساد نيته فأهلكه وأرداه‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪{ :‬اللّهِ‬ ‫َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ} ‪ .‬أخبر تعالى أنه بعدله يمحق ‪ 3‬الربا‪ ،‬وبفضله‬ ‫يربي الصدقات‪ ،‬وأنه ل يحب كل كفار لشرع ال وحدوده‪ ،‬أثيم بغشيانه الذنوب وارتكابه‬ ‫المعاصي‪ .‬كان هذا معنى الية الولى(‪ ،)275‬أما الية الثانية(‪ )276‬فهي وعد رباني صادق‬ ‫وبشرى إلهية سارة لكل من آمن وعمل صالحا وأقام الصلة على الوجه الذي تقام به وآتي الزكاة‬ ‫بأن له أجره‪ ،‬وافٍ عند ربه يتسلمه يوم الحاجة إليه في عرصات القيامة وأنه ل يخاف مما‬ ‫يستقبله في الحياة الدنيا والخرة ول يحزن أيضا في الدنيا ول في الخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عطية‪ :‬وأما ألفاظ الية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام‬ ‫المجنون لن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في‬ ‫هيئة حركاته حتى يقال‪ :‬قد جن هذا‪ ،‬ولكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود‪ ،‬إذا كان يقرأ‪ :‬ل‬ ‫يقومون يوم القيامة مع –تظافر أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل‪.‬‬ ‫‪ 2‬في هذا دليل على أنه ل قياس مع‪ ،‬النص‪ ،‬فالمشركون قاسوا الربا على البيع فأبطل ال قياسهم؛‬ ‫لن الربا حرام فل يقاس على البيع الحلل‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى ابن مسعود أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل " أي‪:‬‬ ‫إلى قلة ونقصان‪.‬‬

‫( ‪)1/269‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان عقوبة آكل الربا يوم القيامة لستباحتهم وأكلهم له‪ ،‬وعدم التوبة منه‪.‬‬ ‫‪ -2‬تحريم الربا وكل مال حرام لما جاء في الية من الوعيد الشديد‪.‬‬ ‫‪ -3‬صفة الحب ل تعالى وأنه تعالى يحب أولياءه وهم أهل اليمان به وطاعته ويكره أعداءه وهم‬ ‫أهل الكفر به ومعاصيه من أكل الربا وغيره من كبائر الذنوب‪.‬‬ ‫‪ -4‬حلية البيع إن تم على شروطه المبنية في كتب الفقه‪.‬‬ ‫‪ -5‬من تاب من الربا تقبل توبته‪ ،‬ويحل له ما أفاده منه قبل التوبة بشرط سيأتي في اليات بعد‬

‫هذه‪.‬‬ ‫‪ -6‬وعيد ال تعالى بمحق الربا ووعده بإرباء ‪ 1‬الصدقة‪.‬‬ ‫‪ -7‬بشرى ال تعالى لهل اليمان والعمل الصالح مع إقامتهم للصلة وإيتائهم للزكاة‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا َبقِيَ مِنَ الرّبا إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪ )278‬فَإِنْ لَمْ َتفْعَلُوا فَأْذَنُوا‬ ‫ن وَل ُتظَْلمُونَ(‪ )279‬وَإِنْ كَانَ ذُو‬ ‫بِحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِنْ تُبْتُمْ فََلكُمْ ُرؤُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ ل تَظِْلمُو َ‬ ‫جعُونَ فِيهِ‬ ‫عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َتصَ ّدقُوا خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ(‪ )280‬وَا ّتقُوا َيوْما تُ ْر َ‬ ‫ت وَهُمْ ل ُيظَْلمُونَ(‪})281‬‬ ‫إِلَى اللّهِ ُثمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ّتقُوا اللّهَ} ‪ :‬خافوا عقابه بطاعته بأن تجعلوا طاعته وقاية تقيكم غضبه وعقابه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده من الكتاب‪َ { :‬يمْحَقُ اللّهُ الرّبا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ} ومن السنة قوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫"إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل" ‪ ،‬وقوله‪" :‬إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها ال منه فيأخذها‬ ‫بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله‪ ،‬وإن الرجل يتصدق باللقمة فتربوا في يد ال ‪-‬أو‬ ‫قال‪ -‬في كف ال حتى تكون مثل أحد فتصدقوا" ‪.‬‬

‫( ‪)1/270‬‬ ‫{وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبا} ‪ :‬اتركوا ما بقي عندكم من المعاملت الربوية‪.‬‬ ‫{فَأْذَنُوا ِبحَ ْربٍ} ‪ :‬اعلموا بحرب من ال ورسوله واحملوا سلحكم ولينفعكم ‪ 1‬سلح فإنكم‬ ‫المهزومون الهالكون‪.‬‬ ‫{فََلكُمْ ُرؤُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ} ‪ :‬بعد التوبة مالكم إل رأس المال الذي عند المدين لكم فخذوه واتركوا‬ ‫زيادة الربا‪.‬‬ ‫العسرة ‪ :‬الشدة والضائقة المالية‪.‬‬ ‫{فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َرةٍ} ‪ :‬أي انتظار للمدين إلى أن ييسر ال عليه فيعطيكم رأس مالكم الذي أخذه‬ ‫منكم‪.‬‬ ‫{وَأَنْ َتصَ ّدقُوا} ‪ :‬وأن تتصدقوا على المعسر بترك ما لكم عليه فذلك خير لكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بمناسبة ذكر عقوبة آكل الربا في اليات السابقة نادى ال تعالى عباده المؤمنين آمرا إياهم بتقواه‬ ‫تعالى‪ ،‬وذلك بطاعته وترك معصيته‪ ،‬وبالتخلي عما بقي عند بعضهم من المعاملت الربوية‬ ‫مذكرا إياهم بإيمانهم إذ من شأن المؤمن الستجابة لنداء ربه فعل ما يأمره به وترك ما ينهاه عنه‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبا إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ} ‪ ،‬ثم هذه‬

‫المتباطئين بقوله‪ :‬فإن لم تفعلوا فاعلموا بحرب ‪ 2‬قاسية ضروس من ال ورسوله‪ ،‬ثم بين لهم‬ ‫طريق التوبة وسبيل الخلص من محنة الربا بقوله‪ :‬وإن تبتم بترك الربا فلكم رؤوس ‪ 3‬أموالكم ل‬ ‫غير ل تظلمون بأخذ زيادة‪ ،‬ول تظلمون بنقص من رأس مالكم‪ .‬وإن وجد مدين لكم في حالة‬ ‫إعسار فالواجب انتظاره إلى ميسرته ‪ ،4‬وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدقوا بالتنازل عن‬ ‫ديونكم كلها تطهيرا لموالكم التي لمسها الربا وتزكية لنفسكم من آثاره السيئة‪ .‬ثم ذكر تعالى‬ ‫سائر عباده يوم القيامة وافيه من أهوال ومواقف‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬من كان مقيما على الربى ل ينزع فحق على إمام المسلمين‬ ‫أن يستتيبه فإن نزع وإل ضرب عنقه"‪.‬‬ ‫‪ 2‬حرمة الربا مجمع عليها‪ ،‬والحاديث الواردة في تحريمه كثيرة جدا‪ ،‬أذكر منها‪ ،‬حديث مسلم‪:‬‬ ‫"اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر منها أكل الربا‪ ،‬وحديث أبي داود‪" :‬لعن ال آكل الربا وموكله‬ ‫وكاتبه وشاهديه" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬استدل بعض الفقهاء بهذه الية على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم‬ ‫العقد أبطل العقد‪.‬‬ ‫‪ 4‬ورد في فضل إنذار المعسر أحاديث منها‪" :‬من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" ‪ .‬وقوله‪:‬‬ ‫"من سره أن ينجيه من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/271‬‬ ‫صعبة حيث يتم الحساب الدقيق وتجزي فيه كل نفس مؤمنة أو كافرة بارة أو فاجرة ما كسبته من‬ ‫جعُونَ‬ ‫خير وشر وهو ل يظلمون بنقص حسناتهم أو زيادة سيئاتهم فقال تعالى‪ { :‬وَاتّقُوا َيوْما تُ ْر َ‬ ‫ت وَ ُه ْم ل ُيظَْلمُونَ} وهذا التوجيه الذي حملته هذه الية ذات‬ ‫فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬ ‫الرقم (‪ )280‬آخر توجيه تلقته البشرية من ربها تعالى إذ هذه آخر ما نزل من السماء على رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب التوبة من الربا ومن كل المعاصي‪.‬‬ ‫‪ -2‬المصر على المعاملت الربوية يحب على الحاكم أن يحاربه ‪ 1‬بالضرب على يديه حتى يترك‬ ‫الربا‪.‬‬ ‫‪ -3‬من تاب من الربا ل يظلم بالخذ من رأس ماله بل يعطاه وافيا كاملً إل أن يتصدق بالتنازل‬ ‫ل ومآلً‪.‬‬ ‫عن ديونه الربوية فذلك خير له حا ً‬

‫‪ -4‬وجوب ذكر الدار الخرة والستعداد لها باليمان والعمل الصالح وترك الربا والعاصي‪.‬‬ ‫س ّمىً فَاكْتُبُو ُه وَلْ َيكْ ُتبْ بَيْ َن ُكمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْدلِ وَل يَ ْأبَ‬ ‫جلٍ مُ َ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‪ 2‬آمَنُوا إِذَا َتدَايَنْتُمْ ِبدَيْنٍ‪ِ 3‬إلَى َأ َ‬ ‫ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَل يَ ْبخَسْ مِنْهُ شَيْئا‬ ‫حّ‬ ‫ب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ‬ ‫كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ‬ ‫ضعِيفا َأوْ ل يَسْ َتطِيعُ‬ ‫سفِيها َأ ْو َ‬ ‫فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن خويز منداد‪" :‬ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحللً له كانوا مرتدين‪ ،‬والحكم‬ ‫فيهم كالحكم في أهل الردة‪ ،‬وإن لم يكن ذلك منهم استحللً‪ ،‬للمام محاربتهم‪ ،‬أل ترى أن ال‬ ‫تعالى قد أذن في ذلك فقال‪{ :‬فَ ْأذَنُوا بِحَ ْربٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬نزلت هذه الية في السلم خاصة‪ ،‬يعني‪ :‬إن سلم أهل المدينة‬ ‫كان سبب نزولها وهي عامة في كل الديون بل خلف‪.‬‬ ‫‪ 3‬رفع بلفظ‪" :‬يدين"‪ ،‬الشتراك‪ ،‬إذ التداين معناه‪ :‬دان بعضهم بعضا‪ ،‬إذا جازاه بعمله ومنه قولهم‪:‬‬ ‫"دناهم كما دنوا فلما قال بدين رفع المعنى العام وأصبح خاصا بالتداين المالي‪.‬‬

‫( ‪)1/272‬‬ ‫جلٌ‬ ‫شهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُمْ فَإِنْ َلمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَ َر ُ‬ ‫ش ِهدُوا َ‬ ‫ل وَاسْتَ ْ‬ ‫أَنْ ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْللْ وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْد ِ‬ ‫شهَدَاءُ إِذَا‬ ‫حدَا ُهمَا الُخْرَى وَل يَ ْأبَ ال ّ‬ ‫ش َهدَاءِ أَنْ َتضِلّ ِإحْدَا ُهمَا فَ ُت َذكّرَ إِ ْ‬ ‫ضوْنَ مِنَ ال ّ‬ ‫وَامْرَأَتَانِ ِممّنْ تَ ْر َ‬ ‫شهَا َد ِة وَأَدْنَى‬ ‫صغِيرا َأوْ كَبِيرا إِلَى َأجَلِهِ ذَِلكُمْ َأ ْقسَطُ عِ ْندَ اللّهِ وََأقْوَمُ لِل ّ‬ ‫مَا دُعُوا وَل َتسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ‬ ‫شهِدُوا ِإذَا‬ ‫أَل تَرْتَابُوا إِل أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةَ ُتدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَل َتكْتُبُوهَا وَأَ ْ‬ ‫شهِي ٌد وَإِنْ َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ‬ ‫ب وَل َ‬ ‫تَبَا َيعْتُ ْم وَل ُيضَارّ كَا ِت ٌ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪})282‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َتدَايَنْتُمْ‪ : }1‬داين بعضكم بعضا في شراء أو بيع أو سلم أو قرض‪.‬‬ ‫س ّمىً‪ : }2‬وقت محدد باليام أو الشهور أو العوام‪.‬‬ ‫جلٍ ُم َ‬ ‫{إِلَى َأ َ‬ ‫{بِا ْلعَ ْدلِ} ‪ :‬بل زيادة ول نقصان ول غش أو احتيال بالحق والنصاف‪.‬‬ ‫{وَل يَ ْأبَ} ‪ :‬ل يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب‪.‬‬ ‫حقّ} ‪ :‬لن إملءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق‪.‬‬ ‫{وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَ ْيهِ الْ َ‬ ‫{وَل يَبْخَسْ مِ ْنهُ شَيْئا} ‪ :‬ل ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل كفلس وليذكره كله‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تداين‪ :‬تفاعل من الدين‪ ،‬يقال‪ :‬داينت الرجل‪ ،‬عاملته بدين معطيعا أو آخذا كما بايعته إذا بعته‬ ‫أو باعك‪.‬‬

‫‪ 2‬ذكر الجل المسمى يجعل الية في بيع السلم لحديث الصحيح‪" :‬من أسلف في تمر فليسلف في‬ ‫كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ‪ .‬والسلم والسلف واحد‪ .‬ويقال له‪ :‬بيع المحاويج‪.‬‬

‫( ‪)1/273‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ضعِيفا} ‪ :‬السفيه‪ :‬الذي ل يحسن التصرفات المالية‪ ،‬والضعيف‪ :‬العاجز عن الملء؛‬ ‫سفِيها َأ ْو َ‬ ‫{َ‬ ‫كالخرس‪ ،‬أو الشيخ الهرم‪.‬‬ ‫{وَلِيّهُ} ‪ :‬من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره‪.‬‬ ‫{مِنْ ِرجَاِلكُمْ} ‪ :‬أي المسلمين الحرار دون العبيد والكفار‪.‬‬ ‫ضلّ ِإحْدَا ُهمَا} ‪ :‬تنسى أو تخطئ لقصر إدراكها‪.‬‬ ‫{أَنْ َت ِ‬ ‫{وَل تَسَْأمُوا} ‪ :‬ل تضجروا أو تملوا من الكتابة ولو كان الدين صغيرا مبلغه‪.‬‬ ‫سطُ عِ ْندَ اللّهِ} ‪ :‬أعدل في حكم ال وشرعه‪.‬‬ ‫{َأقْ َ‬ ‫شهَا َدةِ} ‪ :‬أثبت لها وأكثر تقريرا؛ لن الكتابة ل تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو‬ ‫{وََأ ْقوَمُ لِل ّ‬ ‫يغيب‪.‬‬ ‫{وَأَدْنَى أَل تَرْتَابُوا ‪ : }1‬أقرب أن ل تشكوا بخلف الشهادة بدون كتابة‪.‬‬ ‫{ ُتدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬تتعاطونها‪ ،‬البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود فل حاجة إلى‬ ‫كتابتها ول حرج أو إثم يترتب عليها‪.‬‬ ‫شهِدُوا ِإذَا تَبَا َيعْتُمْ} ‪ :‬إذا باع أحد أحدا دارا أو بستانا أو حيوانا يشهد على ذلك البيع‪.‬‬ ‫{وَأَ ْ‬ ‫شهِيدٌ} بأن يكلف مالً يقدر عليه بأن يدعي ليشهد في مكان بعيد يشق عليه‬ ‫ب وَل َ‬ ‫{وَل ُيضَارّ كَا ِت ٌ‬ ‫أو يطلب إليه أن يكتب زورا أو يشهد به‪.‬‬ ‫{فُسُوقٌ ِبكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬خروج عن طاعة ربكم لحق بكم إثمه وعليكم تبعته يوم القيامة‪.‬‬ ‫{وَا ّتقُوا اللّهَ} ‪ :‬في أوامره فافعلوها‪ ،‬وفي نواهيه فاتركوها‪ ،‬وكما علمكم هذا يعلمكم كل ما‬ ‫تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم‪ ،‬وسيجزيكم بها وهو بكل شيء عليم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أبو داود والترمذي أن أول من جحد آدم‪ ،‬إذ أراه ال تعالى ذريته فرأى رجلً أزهر‬ ‫ساطع النور فسأل ال تعالى فقال‪ :‬إنه داود ‪ .‬فقال‪ :‬رب كم عمره؟ قال‪ :‬ستون‪ .‬قال‪ :‬فزده من‬ ‫عمري أربعين ليكمل له مائة فزاده‪ ،‬وكان عمر آدم ألف سنة وكتب ال ذلك في كتاب ولما عاش‬ ‫آدم وحضرته الوفاة قال‪ :‬رب بقي من عمري أربعون سنة‪ .‬فقال ال تعالى‪ :‬ألم تكن قد وهبتها‬ ‫لولدك داود‪ .‬فجحد آدم فأخرج الكتاب قد شهد عليه الملئكة إلى أن ال تعالى وفى لدم ألف سنة‬ ‫ولداود مائة‪" .‬نقلناه بالمعنى"‪.‬‬

‫( ‪)1/274‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما حث تعالى على الصدقات وحرم الربا‪ ،‬ودعا إلى العفو على المعسر‪ ،‬والتصدق عليه بإسقاط‬ ‫الدين المر الذي قد يتبادر إلى الذهن أن المال ل شأن له ول قيمة في الحياة فجاءت هذه الية‪،‬‬ ‫آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقه وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة فقررت واجب الحفاظ عليه‬ ‫بكتابة الديون والشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم وكون الشهود رجلين مسلمين حرين‪ ،‬فإن انعدام‬ ‫رجل من الثنين قامت امرأتان ‪ 1‬مقامه‪ ،‬واستحث ‪ 2‬ال تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان‬ ‫في سعة من أمره‪ ،‬وحرم على الشهود إذا ما دعوا لداء الشهادة أن يتخلوا عنها‪ ،‬وحرم على‬ ‫صغِيرا‬ ‫المتداينين أن ل يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وَل تَسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ‬ ‫َأوْ كَبِيرا إِلَى أَجَِلهِ} ‪ ،‬ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها‬ ‫السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه فقال‪{ :‬إِل أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةَ ُتدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ‬ ‫شهِدُوا ِإذَا تَبَا َيعْتُمْ‪ ، }...‬ونهى عن‬ ‫عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَل َتكْتُبُوهَا‪ ، }...‬وأمر بالشهاد على البيع فقال‪{ :‬وَأَ ْ‬ ‫الضرار بالكاتب أو الشهيدين‪ ،‬بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله‪ ،‬أو الشاهد بأن يطلب‬ ‫منه أن يشهد وهو كذلك في شغله‪ ،‬أو أن يدعي إلى مسافات بعيدة تشق عليه إذ أمره تطوع وفعل‬ ‫خير ل غير فليطلب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لنشغالهما‪ .‬وحذر من كتمان‬ ‫الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والضرار بالكاتب والشهيد فقال‪{ :‬وَإِنْ َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ‬ ‫ِبكُمْ‪ }...‬وأكد ذلك بأمره بتقواه فقال‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ‪ }...‬بامتثال أمره ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما‬ ‫علمكم هذا العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم‪ .‬هذا معنى الية الكريمة‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬ ‫س ّمىً فَاكْتُبُوهُ‪. }...‬‬ ‫جلٍ مُ َ‬ ‫آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعا‪ ،‬أو شراءً‪ ،‬أو سلفا‪ ،‬أو قرضا هذا ما قرره ابن جرير‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجمهور على أن اليمين تقوم مقام شاهد‪ ،‬أي‪ :‬أن إن عدم الشاهد الثاني قضى القاضي بالشاهد‬ ‫واليمين التي يحلفها المطالب بالبينة ومن هنا إن وجد من الشهود امرأتان فقط اعتبرنا شاهدا‬ ‫وزيدت اليمين وقضى القاضي بذلك‪ ،‬وهذا في الموال خاصة‪.‬‬ ‫‪ 2‬نعم إذا كان في سعة من أمره فليكتب على سبيل الندب‪ ،‬وإن لم يوجد غيره وجب عليه أن‬ ‫يكتب وفي قوله‪َ { .‬كمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُتبْ} أمر له أن يكتب الوثائق على طريقتها فل يبدل ول‬

‫يغير‪ ،‬وفيه تذكير له بالنعمة إذ كان ل يعرف الكتابة فعلمه ال إذا فليشكر ال هذه النعمة بالكتابة‬ ‫لمن طلبها منه‪.‬‬

‫( ‪)1/275‬‬ ‫ورد القول بالرشاد والندب ‪.1‬‬ ‫‪ -2‬رعاية النعمة بشكرها لقوله تعالى للكاتب‪ :‬كما علمه ال فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره‬ ‫منها‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز النيابة في الملء لعجز عنه وعدم قدرة عليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب العدل والنصاف في كل شيء ل سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب الشهاد على الكتابة لتأكدها به‪ ،‬وعدم نسيان قدر الدين وأجله‪.‬‬ ‫‪ -6‬شهود ‪ 2‬المال ل يقلّون عن رجلين عدلين من الحرار ‪ 3‬المسلمين ل غير‪ ،‬والمرأتان‬ ‫المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد‪.‬‬ ‫‪ -7‬الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيرا تافها‪.‬‬ ‫‪ -8‬الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري‪.‬‬ ‫‪ -9‬وجوب الشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال‪.‬‬ ‫‪ -10‬حرمة الضرار بالكاتب ‪ 4‬والشهيد‪.‬‬ ‫‪ -11‬تقوى ال تعالى بسبب العلم‪ ،‬وتُكسب المعرفة ‪ 5‬بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫ضكُمْ َبعْضا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ‬ ‫جدُوا كَاتِبا فَ ِرهَانٌ َمقْبُوضَةٌ فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬ ‫سفَرٍ وَلَمْ تَ ِ‬ ‫علَى َ‬ ‫{وَإِنْ كُنْتُمْ َ‬ ‫شهَا َدةَ َومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْ ُب ُه وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ(‪ )283‬لِلّهِ‬ ‫َأمَانَتَ ُه وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّ ُه وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫مَا فِي ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القرب إلى الصواب أن بعض المور تجب فيها الكتابة كبيع الدور والمزارع وغيرها وبعضها‬ ‫ل تجب وإنما تندب الكتابة ل غير‪.‬‬ ‫‪ 2‬كون الشهود ل يقلون عن اثنين هذا عام في كل شهادة إل شهادة الزنى فإنهم ل يقلون عن‬ ‫أربعة أبدا‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في شهادة العبيد والصبيان والجمهور على عدم جواز شهادتهم إل في المور التافهة فل‬ ‫بأس بذلك‪.‬‬ ‫‪ 4‬قوله تعالى‪{ :‬إذا ما دُعوا} دل على أن الشهود يأتون الحاكم ليشهدوا‪ ،‬ودل على أن من لم يدع‬ ‫ليس عليه أن يشهد‪ ،‬ولكن ورد في السنة الترغيب في أداء الشهادة ولو لم يدع إليها المسلم ل‬ ‫سيما إذا توقف على شهادته إثبات حق من الحقوق فقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬خير‬

‫الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الئمة‪.‬‬ ‫‪ 5‬قوله تعالى‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّهُ} هو وعد منه تعالى بأن يجعل للمتقي نورا في قلبه يفهم‬ ‫ج َعلْ َلكُمْ فُ ْرقَانا}‬ ‫به ما يلقى إليه ويفرق بين الحق والباطل يشهد لهذا قوله تعالى‪{ :‬إِنْ تَ ّتقُوا اللّهَ يَ ْ‬ ‫النفال‪.‬‬

‫( ‪)1/276‬‬ ‫خفُوهُ يُحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّهُ فَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ‬ ‫سكُمْ أَو تُ ْ‬ ‫َومَا فِي الَ ْرضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪})284‬‬ ‫يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫السفر ‪ :‬الخروج من الدار والبلد ظاهرا أو بعيدا بمسافة أربعة برد فأكثر‪.‬‬ ‫{وَلَمْ َتجِدُوا كَاتِبا} ‪ :‬من يكتب لكم‪ ،‬أو لم تجدوا أدوات الكتابة من دواة وقلم‪.‬‬ ‫{فَرِهَانٌ َمقْبُوضَةٌ} ‪ :‬فاعتاضوا عن الكتابة الرهن فليضع المدين رهنا لدى الدائن‪.‬‬ ‫ضكُمْ َبعْضا} ‪ :‬فل حاجة إلى الرهن‪.‬‬ ‫{فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬ ‫فليؤد المؤتمن أمانته ‪ :‬أي‪ :‬فليعط الدين الذي أؤتمن عليه حيث تعذرت الكتابة ولم يأخذ دائنه منه‬ ‫رهنا على دينه‪.‬‬ ‫{آثِمٌ قَلْبُهُ} ‪ :‬لن الكتمان من عمل القلب فنسب الثم إلى القلب‪.‬‬ ‫{وَإِنْ تُبْدُوا} ‪ :‬تظهروا‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما أمر تعالى بالشهاد والكتابة في البيوع والسلم والفروض في اليات السابقة أمر هنا –عند‬ ‫تعذر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات الكتابة وذلك في السفر‪ -‬أمر بالستعاضة عن الكتابة‬ ‫بالرهن وذلك بأن يضع المدين رهنا لدى دائنه عوضا عن الكتابة يستوثق به دينه هذا في حال‬ ‫عدم ائتمانه والخوف منه‪ ،‬وأما إن أمن بعضهم بعضا فل باس بعدم الرتهان فقال تعال‪{ :‬وَإِنْ‬ ‫سفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبا فَ ِرهَانٌ َمقْبُوضَةٌ‪ }...2‬والرهان جمع رهن ‪ .3‬وقال‪{ :‬فَإِنْ َأمِنَ‬ ‫كُنْتُمْ‪ 1‬عَلَى َ‬ ‫ضكُمْ َبعْضا} فلم تأخذوا رهانا‪{ ،‬فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَ ُه وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ} في ذلك‪ .‬ثم‬ ‫َب ْع ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرهن جائز بالكتاب وهذه الية نص في الرهن في السفر‪ ،‬وأما في الحضر فهو جائز بالسنة‬ ‫وإجماع المة‪ ،‬فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى ال عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما‪،‬‬ ‫فطلب اليهودي رهنا فرهنه درعه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فمات ودرعه مرهونة في ثلثين صاعا‬ ‫من شعير‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله‪َ { :‬مقْبُوضة} دل على اشتراط القبض ولو بالوكالة ولو أن عدلً من الناس وضع الرهن‬

‫تحت يده جاز‪ ،‬إذ هو معنى القبض‪ ،‬ويجوز رهن ما في الذمة كأن يرهن المدين دينا له ثابتا في‬ ‫ذمة مالي معترف غير منكر‪ ،‬لن الستيثاق يحصل بذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل الرهن الدوام‪ ،‬وشرعا‪ :‬حبس عين في دين لستيفاء الدين من العين أو من منافعها إذا‬ ‫عجز المدين عن التسديد‪ ،‬ويجمع الرهن على رهان‪ ،‬ورهن‪.‬‬

‫( ‪)1/277‬‬ ‫شهَا َدةَ‪ }...‬وبين تعالى عظم هذا‬ ‫نهى تعالى نهيا جازما عن كتمان شهادتهم فقال‪{ :‬وَل َتكْ ُتمُوا ال ّ‬ ‫الذنب فقال‪َ { :‬ومَنْ َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْ ُبهُ‪ }...1‬وأعلم أنه عليم بما يعملونه فيجازيهم بعلمه‪ ،‬وهو‬ ‫تهديد ووعيد منه سبحانه وتعالى لكاتمي الشهادة والقائلين بالزور فيها‪ .‬هذا معنى الية الولى(‬ ‫‪ ،)282‬أما الية الثانية(‪ )283‬فإنه تعالى قد أخبر بأن له جميع ما في السموات وجميع ما في‬ ‫الرض خلفا وملكا وتصرفا‪ ،‬وبناء على ذلك فإن من يبدي ما في نفسه من خير أو شر أو يخفه‬ ‫يحاسب به‪ ،‬ثم هو تعالى بعد الحساب يغفر لمن يشاء من أهل اليمان والتقوى‪ ،‬ويعذب من يشاء‬ ‫من أهل الشرك والمعاصي‪ ،‬له كامل التصرف؛ لن الجميع خلقه وملكه وعبيده‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز أخذ الرهن في السفر والحضر توثيقا من الدائن لدينه‪.‬‬ ‫‪ -2‬جواز ترك أخذ الرهن ‪ 2‬إن حصل المن من سداد الدين وعدم الخوف منه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة كتمان الشهادة والقول بالزور فيها وأن ذلك من أكبر الكبائر كما في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ -4‬محاسبة العبد بما يخفي في نفسه من الشك والشرك والنفاق وغير ذلك من بغض أولياء ال‬ ‫وحب لعدائه‪ ،‬ومؤاخذته بذلك‪ ،‬والعفو عن الهم بالخطيئة والذنب دون الشك والشرك والحب‬ ‫والبغض من المؤمن الصادق اليمان للحديث الصحيح الذي أخرجه الستة‪" :‬إن ال تجاوز لي عن‬ ‫أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" ‪.‬‬ ‫{آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِل ِه ل ُنفَرّقُ‪3‬‬ ‫س ِمعْنَا‬ ‫حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ‬ ‫بَيْنَ أَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القول محذوف‪ ،‬أي‪ :‬يقولون‪ :‬ل تفرق‪ ،‬وهذا الحذف للقول شائع نحو‪{ :‬وَا ْلمَل ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْي ِهمْ‬ ‫مِنْ ُكلّ بَابٍ‪ ،‬سَلمٌ عَلَ ْيكُمْ} أي‪ :‬يقولون‪ :‬سلم عليكم‪{ ،‬رَبّنَا مَا خََل ْقتَ هَذَا بَاطِلً} أي‪ :‬يقولون‪:‬‬ ‫ربنا‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذا كان الرهن دابة تركب أو شاة تحلب أو دارا تسكن أو نخلً بتمر‪ ،‬فعلى المرتهن نفقة علف‬ ‫الدابة والشاة‪ ،‬مقابل الركوب واللبن‪ ،‬وإن سكن الدار دفع أجرتها‪ ،‬وإن جز التمر أخذه بثمنه‬

‫لحديث‪" :‬ل تغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال العلماء‪" :‬إثم القلب‪ :‬سبب مسخه"‪.‬‬

‫( ‪)1/278‬‬ ‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا‬ ‫س َعهَا َلهَا مَا كَسَ َب ْ‬ ‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ(‪ )285‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا إِل وُ ْ‬ ‫طعْنَا ُ‬ ‫وَأَ َ‬ ‫حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ‬ ‫ح ِملْ عَلَيْنَا ِإصْرا َكمَا َ‬ ‫اكْتَسَ َبتْ رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا رَبّنَا وَل َت ْ‬ ‫حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى‬ ‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬ ‫عفُ عَنّا وَا ْ‬ ‫حمّلْنَا مَا ل طَا َقةَ لَنَا بِ ِه وَا ْ‬ ‫قَبْلِنَا رَبّنَا وَل ُت َ‬ ‫ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ(‪})286‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آمَنَ} ‪ :‬صدق جازما بصحة الخبر ولم يتردد أو يشك فيه قط‪.‬‬ ‫{الرّسُولُ} ‪ :‬نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{ ُكلّ} ‪ :‬كل من الرسول والمؤمنين‪.‬‬ ‫{ل ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِنْ ُرسُلِهِ‪ : }1‬نؤمن بهم جميعا ول نكون؛ كاليهود والنصارى نؤمن ببعض‬ ‫ونكفر ببعض‪.‬‬ ‫س ِمعْنَا} ‪ :‬سماع فهم واستجابة طاعة‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{ا ْل َمصِيرُ} ‪ :‬المرجع‪ :‬أي رجوعنا إليك يا ربنا فاغفر لنا‪.‬‬ ‫{ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا‪ : }2‬التكليف‪ :‬اللزام مما فيه كلفة ومشقة تحتمل‪.‬‬ ‫س َعهَا ‪ : }3‬إل ما تتسع لها طاقتها ويكون في قدرتها‪.‬‬ ‫{إِل وُ ْ‬ ‫{َلهَا مَا كَسَ َبتْ} ‪ :‬من الخير‪.‬‬ ‫{وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ} ‪ :‬من الشر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ‪{ :‬ورسله} بإسكان السين تخفيفا‪ ،‬وهو شائع في تخفيف المتحرك للسكون نحو‪ :‬عنق‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى القرطبي عن أبي هريرة أنه قال‪ :‬ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إل جعفر أبي طالب‪،‬‬ ‫فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله فلم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثاره فشق بين‬ ‫أيدينا فجعلنا نلعق ما فيه من السمن ونربه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ما كلف ال نفسا فوق طاقتها‪ :‬ول تجود يد‬ ‫إل بما تجد‪ .‬الرب بضم الراء‪ :‬ما يطبخ من التمر‪.‬‬ ‫‪ 3‬وسواس الصدر مما ل طاقة للعبد بدفعه بحال وقد سأل عنه النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ ،‬ما‬ ‫رواه مسلم عن علقمة بن عبد ال قال‪ :‬سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوسوسة‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫"تلك صريح اليمان" ‪.‬‬

‫( ‪)1/279‬‬ ‫خذْنَا} ‪ :‬ل تعاقبنا‪.‬‬ ‫{ل ُتؤَا ِ‬ ‫{إِنْ َنسِينَا} ‪ :‬فتركنا ما أمرتنا به أو فعلنا ما نهيتنا عنه نسيانا منا غير عمد‪.‬‬ ‫{َأوْ َأخْطَأْنَا} ‪ :‬فعلنا غير ما أمرتنا خطأ منا بدون إرادة فعل منا له ول عزيمة‪.‬‬ ‫{ِإصْرا}‪ : 1‬تكليفا شاقا يثقل علينا وياسرنا فيحبسنا عن العمل‪.‬‬ ‫{ َموْلنَا} ‪ :‬مالكنا وسيدنا ومتولي أمرنا ل مولى لنا سواك‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫سكُمْ أَو‬ ‫سمَاوَاتِ‪ }...‬وفيها {‪...‬وَإِنْ تُ ْبدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫ورد أنه لما نزلت الية(‪{ )284‬لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّهُ‪ }...‬اضطربت لها نفوس المؤمنين‪ ،‬وقالوا من ينجو منا إذا كنا نؤاخذ بما‬ ‫تُ ْ‬ ‫يخفى في أنفسنا من الهم والوسواس وحديث النفس فأمرهم الرسول صلى ال عليه وسلم بالرضا‬ ‫س ِمعْنَا‬ ‫بحكم ال تعالى والتسليم به فقال لهم‪" :‬قولوا سمعنا وأطعنا ول تكونوا كاليهود ‪{ :‬قَالُوا َ‬ ‫عصَيْنَا‪ }...‬فلما قالوها صادقين أنزل ال تعالى هاتين اليتين‪{ :‬آمَنَ الرّسُولُ‪ }...‬فأخبر عن‬ ‫وَ َ‬ ‫إيمانهم مقرونا بإيمان نبيهم تكريما لهم وتطمينا فقال‪{ :‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّهِ‬ ‫حدٍ مِنْ رُسُلِهِ‪ }...‬وأخبر عنهم‬ ‫وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ ل ُنفَرّقُ‪ 2‬بَيْنَ أَ َ‬ ‫غفْرَا َنكَ رَبّنَا‬ ‫طعْنَا ُ‬ ‫س ِمعْنَا وََأ َ‬ ‫بقولهم الذي كان سبب استجابة ال تعالى لهم فقال عنهم‪َ ...{ :‬وقَالُوا َ‬ ‫وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ} وأخبرهم تعالى أنه لرحمته بهم وحكمته في تصرفه في خلقه ل يكلف نفسا إل ما‬ ‫تتسع له طاقتها وتقدر على فعله‪ ،‬وإن لها ما كسبت من الخير فتجزى به خيرا وعليها ما اكتسبت‬ ‫س َعهَا َلهَا مَا‬ ‫من الشر فتجزى به شرا إل أن يعفو عنها ويعفر لها فقال‪{ :‬ل ُيكَّلفُ‪ 3‬اللّهُ َنفْسا إِل وُ ْ‬ ‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَ َبتْ‪ }...‬وعلمهم كيف يدعونه ليقول لهم قد فعلت‪ ،‬كما صح به الخبر فقال‬ ‫كَسَ َب ْ‬ ‫حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ‬ ‫ح ِملْ عَلَيْنَا ِإصْرا َكمَا َ‬ ‫قولوا‪{ :‬رَبّنَا ل ُتؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا َأوْ َأخْطَأْنَا رَبّنَا وَل تَ ْ‬ ‫حمْنَا أَ ْنتَ َموْلنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى‬ ‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬ ‫عفُ عَنّا وَا ْ‬ ‫حمّلْنَا مَا ل طَا َقةَ لَنَا بِ ِه وَا ْ‬ ‫قَبْلِنَا رَبّنَا وَل ُت َ‬ ‫ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ‪ }4‬وفعلً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصر‪ :‬المر الغليظ الصعب أو هو الذنب الذي ليس فيه توبة ول كفارة ويطلق الصر على‬ ‫العهد ومنه‪{ :‬وََأخَذْ ُتمْ عَلَى ذَِلكُمْ ِإصْرِي} أي‪ :‬عهدي وميثاقي‪ ،‬لن الصر يطلق على الحبل الذي‬ ‫تربط الحمال ونحوها‪.‬‬ ‫سكُمْ‪ }...‬الية‪ ،‬قال‪ :‬دخل قلوبهم منها‬ ‫‪ 2‬روى مسلم عن ابن عباس لما نزلت‪{ :‬وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫شيء فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا"‪ .‬قال‪ :‬فألقى ال في قلوبهم‬ ‫س َعهَا} الية‪.‬‬ ‫اليمان فلما فعلوا ذلك نسخها ال تعالى فأنزل قوله‪{ :‬ل ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا إِل وُ ْ‬

‫‪ 3‬ورد في فضل خاتمة البقرة أحاديث كثيرة منها‪ :‬قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أوتيت هذه اليات‬ ‫من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي" ‪.‬‬

‫( ‪)1/280‬‬ ‫قد عفا عنهم في النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج‪،‬‬ ‫وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف‬ ‫والسنان فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير أركان اليمان وهي اليمان وملئكته وكتبه ورسله‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب اليمان بكافة الرسل وحرمه اليمان ببعض وترك البعض وهو كفر والعياذ بال‬ ‫تعالى‪,‬‬ ‫‪ -3‬وجوب طاعة ال ورسوله والتسليم والرضا بما شرع ال ورسوله وحرمة رد شيء من ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬رفع الحرج ‪ 1‬عن هذه المة رحمة بها‪.‬‬ ‫‪ -5‬عدم المؤاخذة بالنسيان ‪ 2‬أو الخطأ فمن نسي وأكل أو شرب وهو صائم فل إثم عليه أو أخطأ‬ ‫فقتل فل إثم عليه‪.‬‬ ‫‪ -6‬العفو عن حديث النفس ‪ 3‬لنزول الية فيه ما لم يتكلم المؤمن أو يعمل‪.‬‬ ‫‪ -7‬تعليم هذا الدعاء واستحباب الدعاء به إئتساء بالرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه وقد‬ ‫ورد من قرأ هاتين اليتين ‪ 4‬عند النوم كفتاه {آمَنَ الرّسُولُ‪ }...‬السورة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫ج َعلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} ‪.‬‬ ‫‪ 1‬شاهده قوله تعالى من سورة الحج‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫‪ 2‬حديث‪" :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ‪ .‬أي‪ :‬رفع إثمه‪ .‬أما أحكامه‪ ،‬ففيها‬ ‫تفصيل‪ :‬فالغرامات ل تسقط‪ ،‬فمن كسر آنية خطأ أو نسيانا يغرمها لصاحبها‪ ،‬ومن نسى صلة‬ ‫مفروضة قضاها‪ ،‬ومن قتل خطأ دفع الدية ويسقط القصاص بالخطأ‪ ،‬كما يسقط الكفر بالنطق خطأ‬ ‫وسهوا‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده حديث‪" :‬إن ال تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" ‪ .‬رواه‬ ‫الجماعة‪.‬‬ ‫‪ 4‬لحديث مسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬من قرأ هاتين‬ ‫اليتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" ‪ .‬أي‪ :‬من قام الليل لحديث‪" :‬من قرأ بعد العشاء‬ ‫مرتين أجزأتاه من قيام الليل‪ ،‬وكفتاه من شر الشيطان‪ ،‬فل يكون له عليه سلطان" ‪.‬‬

‫( ‪)1/281‬‬ ‫سورة آل عمران‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة آل عمران ‪1‬‬ ‫مدنية‬ ‫وآياتها مائتا آية بل خلف‬ ‫حمَنِ الرّحِيمِ‬ ‫بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬ ‫حيّ ا ْلقَيّومُ(‪ )2‬نَ ّزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‬ ‫{الم(‪ )1‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ الْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صدر هذه السورة إلى ثلث وثمانين آية نزلت في وفد نجران سنة تسع من الهجرة‪.‬‬

‫( ‪)1/281‬‬ ‫س وَأَنْ َزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ إِنّ‬ ‫حقّ ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْ ِه وَأَنْ َزلَ ال ّتوْرَاةَ والنجيل(‪ )3‬مِنْ قَ ْبلُ هُدىً لِلنّا ِ‬ ‫بِالْ َ‬ ‫شيْءٌ فِي‬ ‫خفَى عَلَ ْيهِ َ‬ ‫شدِي ٌد وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ(‪ )4‬إِنّ اللّهَ ل يَ ْ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُوا بآيَاتِ اللّهِ َل ُهمْ عَذَابٌ َ‬ ‫حكِيمُ(‬ ‫صوّ ُركُمْ فِي الَ ْرحَامِ كَ ْيفَ يَشَاءُ ل ِإلَهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫سمَاءِ(‪ُ )5‬هوَ الّذِي ُي َ‬ ‫الَ ْرضِ وَل فِي ال ّ‬ ‫‪})6‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الم} ‪ :‬تقدم الكلم على مثله من سورة البقرة فليرجع إليه هناك‪.‬‬ ‫{اللّهُ} ‪ :‬المعبود بحق ‪.1‬‬ ‫{ل إِلَهَ إِل ُهوَ} ‪ :‬ل معبود بحق سواه‪.‬‬ ‫حيّ}‪ :‬ذو الحياة المستلزمة للرادة والعلم والسمع والبصر والقدرة‪.‬‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫{ا ْلقَيّومُ} ‪ :‬القيم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ‪.‬‬ ‫{ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬القرآن‪.‬‬ ‫{بِا ْلحَقّ} ‪ :‬متلبسا به إذ كل ما فيه حق وصدق ل باطل فيه بأي وجه من الوجوه‪.‬‬ ‫{ ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ‪ : }2‬من الكتب السابقة ل يخالفها ول يبطلها؛ لن مصدر الجميع واحد هو‬ ‫ال تعالى‪.‬‬ ‫{ال ّتوْرَاةَ}‪ : 3‬كتاب موسى عليه السلم ومعناه بالعبرية الشريعة ‪.4‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬ال‪ :‬اسم علم على ذات الرب تبارك وتعالى ومعناه‪ :‬الله الحق الذي ل يستحق العبادة سواه‪،‬‬ ‫ولذا فسرناه في التفسير بأنه المعبود الحق لكونه الله الحق الذي ل يعبد بحق غيره‪.‬‬ ‫‪ 2‬معنى بين يديه‪ :‬أنها تقدمته في النزول فكانت كأنها أمامه وهو وراءها‪ ،‬وهو معنى‪ :‬بين يديه‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في لفظ التوراة هل هو مشتق من ورى الزند إذا أوقد به النار فهي لنور الهداية فيما‬ ‫سميت التوراة‪ ،‬أو هي معربة عن كلمة‪" :‬طورا" العبرية‪ ،‬ومعنى طورا‪ :‬الهدي‪ ،‬وعلى كل حال‬ ‫فهذا علم ل ينفع وجهالة ل تضر‪.‬‬ ‫‪ 4‬وهي عند اليهود‪ :‬خمسة أسفار‪ :‬سفر التكوين‪ ،‬سفر الخروج‪ ،‬وسفر اللويين‪ ،‬وسفر العدد‪،‬‬ ‫وسفر تثنية الشتراع‪.‬‬

‫( ‪)1/282‬‬ ‫{وَالِنْجِيلَ}‪ : 1‬كتاب عيسى عليه السلم ومعناه باليونانية‪ :‬التعليم الجديد ‪.2‬‬ ‫{ا ْلفُ ْرقَانَ}‪ : 3‬ما فرق ال به بين الحق والباطل من الحجج القرآنية والمعجزات اللهية والعقول‬ ‫النيرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود والهوى‪.‬‬ ‫صوّ ُركُمْ فِي الَرْحَامِ} ‪ :‬التصوير إيجاد الصورة للشيء لم تكن له من قبل‪ ،‬والرحام‪ :‬جمع‬ ‫{ ُي َ‬ ‫رحم‪ :‬مستودع الجنين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫أخرج ابن جرير الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد ‪ 4‬نجران والمكون من ستين راكبا فيهم أشرافهم‬ ‫وأهل الحل والعقد منهم‪ ،‬وفدوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم يحاجونه في أمر المسيح عليه‬ ‫السلم‪ ،‬ويريدون أن يثبتوا إلهيته بالدعاء الباطل فأنزل ال تعالى نيفا وثمانين آية من فاتحة‬ ‫السورة {ألم} إلى ما يقرب الثمانين‪ .‬وذلك ردا لباطلهم‪ ،‬وإقامة للحجة عليهم‪ ،‬وسيلحظ هذا‬ ‫المتدبر لليات ويراه واضحا جليا في السياق القرآني في هذه اليات‪.‬‬ ‫فقد قال تعالى‪{ :‬الم‪ ،‬اللّهُ ل إِلَهَ‪ 5‬إِل ُهوَ} فأخبر أنه تعالى ل معبود بحق إل هو‪ ،‬فأبطل عبادة‬ ‫حيّ ا ْلقَيّومُ}‬ ‫المسيح عليه السلم وعبادة كل معبود سوى ال تعالى من سائر المعبودات‪ ،‬وقال‪{ :‬ا ْل َ‬ ‫فذكر برهان استحقاقه للعبادة دون غيره‪ ،‬وهو كونه تعالى حيا أزلً وأبدا وكل حي غيره مسبوق‬ ‫بالعدم ويلحقه الفناء‪ .‬فلذا ل يستحق اللوهية إل هو عز وجل‪ .‬والمسيح عليه السلم مسبوق بالعدم‬ ‫ويلحقه الفناء فكيف يكون إلها؟ وقال تعالى القيوم أي القائم على كل الخلق بالتربية والرعاية‬ ‫والحفظ والتدبير والرزق‪ ،‬وما عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق فكيف يكون إلها مع ال؟‬ ‫ودليل ذلك أنه نزل عليك الكتاب‪ :‬القرآن بالحق مصحوبا به ليس فيه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النجيل‪ ،‬قيل‪ :‬معناه الصل‪ ،‬إذ هو أصل العلوم والحكم‪ ،‬وجمعه‪ :‬أناجيل‪ ،‬وجمع التوراة‪ :‬توارٍ‪.‬‬

‫‪ 2‬ويطلق النجيل على أربعة كتب‪ :‬إنجيل يوحنا‪ ،‬ومرقص‪ ،‬ولوقا‪ ،‬وبرنابا‪.‬‬ ‫‪ 3‬وفسر الفرقان بالقرآن‪ ،‬وهو حق لقوله تعالى‪{ :‬تَبَا َركَ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ عَلَى عَبْ ِدهِ لِ َيكُونَ‬ ‫لِ ْلعَاَلمِينَ نَذِيرا} ‪ ،‬وسمي فرقانا لنه فرق بين الحق والباطل‪.‬‬ ‫‪ 4‬كان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة من الهجرة التي هي عام الوفود‪ ،‬ولذا كان آخر السورة‬ ‫متقدما في النزول عن أولها‪ ،‬إذ آخرها كان في غزوة أحد‪ ،‬وكانت في السنة الثالثة‪.‬‬ ‫حيّ ا ْلقَيّومُ} هذه الجملة مع جملة‪{ :‬وَإَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ ل ِإلَهَ إِل ُهوَ‬ ‫‪ 5‬قوله‪{ :‬اللّهُ ل ِإلَهَ إِل ُهوَ ا ْل َ‬ ‫حمَنُ الرّحِيمُ} قيل‪ :‬أن فيهما اسم ال العظم‪.‬‬ ‫الرّ ْ‬

‫( ‪)1/283‬‬ ‫من الباطل شيء فآياته كلها مثبتة لللوهية ل نافية لها عما سواه‪ ،‬فكيف يكون المسيح إلها مع ال‬ ‫أو يكون هو ال‪ ،‬أو ابن ال كما يزعم نصارى نجران وغيرهم من نصارى اليونان والرومان‬ ‫وغيرهم نزله مصدقا لما بين يديه من الكتب التي سبقته ل يخالفها ول يتناقض معها‪ ،‬فدل ذلك أنه‬ ‫وحي ال‪ ،‬وأنزل من قبله التوراة والنجيل هدى للناس وأنزل الفرقان ‪ 1‬ففرق به بين الحق‬ ‫والباطل في كل ما يلبس أمره على الناس فتبين أن الرب الخالق الرازق المدبر للحياة المحيي‬ ‫المميت الحي الذي ل يموت هو الله الحق وما عداه مربوب مخلوق ل حق له في اللوهية‬ ‫والعبادة وإن شفى مريضا أو أنطق أبكم أو أحيا ميتا بإذن ال تعالى فإن ذلك ل يؤهله لن يكون‬ ‫إلها مع ال؛ كعيسى بن مرين عليه السلم فإن ما فعله من إبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى‬ ‫كان بقدرة ال وإذنه بذلك لعيسى وإل لما قدر على شيء من ذلك شأنه شأن عباد ال تعالى‪ ،‬ولما‬ ‫رد الوفد ما حاجهم به الرسول وأقام به الحجة عليهم تأكد بذلك كفرهم فتوعدهم الرب تعالى‬ ‫شدِي ٌد وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ} وهذا وعيد شديد لكل‬ ‫عذَابٌ‪َ 2‬‬ ‫بقوله‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بآيَاتِ اللّهِ َلهُمْ َ‬ ‫من كذب بآيات ال وجحد بالحق الذي تحمله من توحيد ال تعالى ووجوب طاعته وطاعة رسوله‬ ‫سمَاءِ } فلو‬ ‫ض وَل فِي ال ّ‬ ‫شيْءٌ فِي الَ ْر ِ‬ ‫علَيْهِ َ‬ ‫خفَى َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ل يَ ْ‬ ‫كان هناك من يستحق اللوهية معه لعلمه وأخبر عنه‪ ،‬كما قرر بهذه الجملة أن عزته تعالى ل‬ ‫ترام وأنه على النتقام من أهل الكفر به لقدير‪ .‬وذكر دليلً آخر على بطلن ألوهية المسيح فقال‪:‬‬ ‫صوّ ُركُمْ فِي الَرْحَامِ كَ ْيفَ يَشَاءُ‪ }3‬وعيسى عليه السلم قد صور في رحم مريم فهو‬ ‫{ ُهوَ الّذِي ُي َ‬ ‫قطعا ممن صور ال تعالى‪ ،‬فكيف يكون إذا إلها أو إبنا ل كما زعم النصارى؟ وهنا قرر الحقيقة‬ ‫حكِيمُ} فالعزة التي ل ترام والحكمة التي ل تخطئ هما مقتضيات‬ ‫فقال‪{ :‬ل إَِلهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬ ‫ألوهيته الحقة التي ل يجادل فيها إل مكابر ول يجاحد فيها إل معاند؛ كوفد نصارى نجران ومن‬ ‫على شاكلتهم من أهل الكفر والعناد‪.‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬الفرقان‪ :‬وإن أطلق على القرآن لكونه فرق بين الحق والباطل والهدى والضلل والغي‬ ‫والرشاد‪ ،‬فإنه يطلق على كل ما يفرق بين الهدى والضلل؛ كالمعجزات‪ ،‬وما يحصل للمؤمن‬ ‫المتقي من نور يفرق بين الضار والنافع‪ ،‬والخطأ والصواب‪.‬‬ ‫‪ 2‬التنوين في عذاب‪ :‬للتفخيم‪ ،‬والشديد هو الذي ل يقادر قدره‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر‪ ،‬وعاهة وسلمة وسعادة وشقاء‪.‬‬

‫( ‪)1/284‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير ألوهية ال تعالى بالبراهين ونفي اللوهية ‪ 1‬عن غيره من سائر خلقه‪.‬‬ ‫‪ -2‬ثبوت رسالة النبي محمد صلى ال عليه وسلم بإنزال ال تعالى الكتاب عليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬إقامة ال تعالى الحجة على عباده بإنزال كتبه والفرقان فيها الحق والباطل في كل شؤون‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بطلن ألوهية المسيح؛ لنه مخلوق مصور في الرحام كغيره صوره ال تعالى على ما شاء‬ ‫فكيف يكون بعد ذلك إلها مع ال ‪ 2‬أو ابنا له تعالى عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬ ‫ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي‬ ‫{ ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ‪ 3‬عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُ ْ‬ ‫سخُونَ‬ ‫قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِ ِه َومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّ ُه وَالرّا ِ‬ ‫فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا َومَا َي ّذكّرُ إِل أُولُو الَلْبَابِ(‪ )7‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َب ْعدَ إِذْ‬ ‫حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ(‪ )8‬رَبّنَا إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ ل رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ‬ ‫هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ‬ ‫اللّهَ ل ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ(‪})9‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬بالبراهين كذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬ضلل النصارى أعظم ضلل وأسوأه‪ ،‬إذ كيف يعقل أن يكون عيسى إلها وقد قتل وصلب في‬ ‫اعتقادهم‪ ،‬وكيف يكون إلها وهو ابن امرأة اسمها مريم‪ ،‬وهم يعترفون بذلك‪ ،‬فسبحان ال أين‬ ‫تذهب عقول العقلء؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخرج مسلم عن عائشة رضي ال عنها أن رسول ال صلى ال عليه وسلم تلى ‪ُ { :‬هوَ الّذِي‬ ‫ي الَلْبَابْ} ثم قال‪" :‬إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم‬ ‫أَنْ َزلَ عَلَ ْيكَ} إلى‪{ :‬أول ِ‬ ‫ال‪ :‬فاحذروهم" ‪.‬‬

‫( ‪)1/285‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ح َكمَاتٌ‪ : }1‬الظاهرة الدللة البينة المعنى التي ل تحتمل إل معنى واحدا‪ ،‬وذلك كآيات الحكام‬ ‫{مُ ْ‬ ‫من حلل وحرام وحدود‪ ،‬وعبادات‪ ،‬وعبر وعظات‪.‬‬ ‫{مُتَشَا ِبهَاتٌ} ‪ :‬غير ظاهرة الدللة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخون في العلم القول فيها‬ ‫وهي كفواتح السور‪ ،‬وكأمور الغيب ‪ .2‬ومثل قول ال تعالى في عيسى عليه السلم‪َ ...{ :‬وكَِلمَتُهُ‬ ‫ح ْكمُ إِل لِلّهِ ‪. }..4‬‬ ‫أَ ْلقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‪ 3‬وَرُوحٌ مِنْهُ‪ }...‬وكقوله تعالى‪...{ :‬إِنِ الْ ُ‬ ‫{فِي قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ} ‪ :‬الزيغ‪ :‬الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة‪.‬‬ ‫{ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ} ‪:‬أي‪ :‬طلبا لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم‪.‬‬ ‫{وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ} ‪ :‬طلبا لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة‪.‬‬ ‫{ َومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّهُ} ‪ :‬وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إل ال منزله‪.‬‬ ‫سخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ‪ : }5‬هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق‬ ‫{وَالرّا ِ‬ ‫فل يزلون ول يشتطون في شبهة أو باطل‪.‬‬ ‫{ ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا} ‪ :‬أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعا‪.‬‬ ‫{إِل أُولُو الَلْبَابِ} ‪ :‬أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة‪.‬‬ ‫{رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا ‪ : }6‬أي‪ :‬ل تمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرفتنا به فعرفناه‪.‬‬ ‫حمَةً} ‪ :‬أعطنا من عندك رحمة‪.‬‬ ‫{وَ َهبْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ رَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال جابر بن عبد ال رضي ال عنهما‪ :‬المحكمات‪ ،‬أي‪ :‬في القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه‬ ‫وتفسيره‪ ،‬والمتشابه ما لم يكن لحد إلى علمه سبيل مما استأثر ال تعالى بعلمه دون خلقه‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال بعضهم‪ :‬وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى‪،‬‬ ‫ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور‪.‬‬ ‫‪ 3‬سورة النساء‪.171 :‬‬ ‫‪ 4‬سورة النعام‪.57 :‬‬ ‫‪ 5‬روى أن النبي صلى ال عليه وسلم سأل عن الراسخين في العلم‪" :‬هو من برت يمينه وصدق‬ ‫لسانه واستقام قلبه" ‪.‬‬ ‫‪ 6‬سئلت أم سلمة رضي ال عنها في حديث حسن رواه الترمذي عن ما كان أكثر دعاء رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم عندها فقالت‪" :‬كان أكثر دعاؤه‪ :‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ‪.‬‬

‫( ‪)1/286‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوة رسوله ويبطل دعوى نصاري نجران في ألوهية‬ ‫المسيح عليه السلم‪ ،‬فيقول‪ :‬هو أي‪ :‬ال الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب‪ ،‬أي‪ :‬القرآن منه‬ ‫آيات محكمات‪ ،‬ل نسخ فيها ول خفاء في معناها ول غموض في دللتها على ما نزلت فيه وهذه‬ ‫معظم آي الكتاب وهي أمة واصلة‪ ،‬ومنه آيات أخر متشابهات و هي قليلة والحكمة من إنزالها‬ ‫كذلك المتحان والختبار بالحلل والحرام‪ ،‬وبأمور الغيب ليثبت على الهداية واليمان من شاء ال‬ ‫هدايته‪ ،‬ويزيغ في إيمانه وضل عن سبيله من شاء ال تعالى ضلله وعدم هدايته‪ .‬فقال تعالى‪:‬‬ ‫{فََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ‪ }...‬أي‪ :‬ميل عن الحق {فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة وَابْ ِتغَاءَ‬ ‫تَ ْأوِيلِهِ} للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن ال ثالث‬ ‫ثلثة؛ لنه يقول نخلق ونحيي‪ ،‬ونميت‪ ،‬وهذا كلم جماعة فأكثر‪ ،‬وكما قالوا في قوله تعالى في‬ ‫شأن عيسى‪ ...{ :‬وَرُوحٌ مِنْهُ‪ }...1‬أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى‪:‬‬ ‫حكْمُ إِل لِلّهِ‪ }...2‬فل يجوز لحد أن يحكم في شيء وكفروا عليا وخرجوا ‪ 3‬عنه لتحكيمه‬ ‫{‪...‬إِنِ ا ْل ُ‬ ‫أبا موسى الشعري في حقيقة الخلف بين على ومعاوية‪ ،‬وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلل حيث‬ ‫يتبعون المتشابه ول يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد ال تعالى منه‪ .‬وأخبر‬ ‫تعالى أنه ل يعلم تأويله إل هو سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن الراسخين ‪ 4‬في العلم يفوضون أمره إلى ال‬ ‫منزله فيقولون {‪...‬آمَنّا بِهِ‪ُ 5‬كلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا َومَا يَ ّذكّرُ إِل أُولُو الَلْبَاب ‪ ، }6‬ويسألون ربهم الثبات‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سورة النساء‪.171 :‬‬ ‫‪ 2‬سورة النعام‪.57 :‬‬ ‫‪ 3‬روى أن أبا أمامة رضي ال عنه مر برؤوس منصوبة عند باب مسجد دمشق فسأل عنها‪،‬‬ ‫فقيل‪ :‬إنها رؤوس خوارج جيء بها من العراق فقال‪" :‬أولئك كلب النار ثلثا شر قتلة تحت ظل‬ ‫السماء طوبى لمن قتلهم ثلثا ثم بكى‪ ،‬فقيل ما يبكيك‪ .‬فقال‪ :‬رحمة بهم إنهم كانوا من أهل السلم‬ ‫علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ} إلى قوله‪{ :‬أولو اللباب} ‪.‬‬ ‫فخرجوا منه‪ ،‬ثم قرأ‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنْ َزلَ َ‬ ‫‪ 4‬روى أن ابن عباس رضي ال عنه قال‪" :‬التفسير على أربعة أنحاء‪ :‬تفسير ل يعذر أحد في‬ ‫فهمه‪ ،‬وتفسير تعرفه العرب من لغتها‪ ،‬وتفسير يعلمه الراسخون في العلم‪ ،‬وتفسير ل يعلمه إل‬ ‫ال"‪ .‬كما يروى هذا عن عائشة وغيرها‪.‬‬ ‫‪ 5‬الجمهور على أن الوقف على قوله‪َ { :‬ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّهُ} ومن هنا قالوا‪ :‬ل يعلم المتشابهة‬ ‫إل ال‪ ،‬وهو مما استأثر به دون عباده ومن قال‪" :‬أن قوله تعالى‪{ :‬وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ} معطوف‬ ‫على قوله‪َ { :‬ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّهُ} ‪ ،‬قالوا‪ :‬إن الراسخين في العلم قد يعلمون المتشابه دون‬ ‫البعض ويدل عليه قولهم‪ُ { :‬كلّ مِنْ عِ ْندِ رَبّنَا} أي‪ :‬ما علمناه وما لم نعلمه‪ ،‬وروى أن ابن عباس‬ ‫قال‪" :‬أنا ممن يعلم تأويله"‪.‬‬

‫‪ 6‬هذه الجملة ليست من كلم الراسخين ولكنها من كلم ال تعالى فهي تذييل للكلم السابق سيقت‬ ‫للثناء عليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/287‬‬ ‫حمَةً‪ }..‬ترحمنا بها في‬ ‫على الحق فيقولون‪{ :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َر ْ‬ ‫دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب‪ ،‬ل إله غيرك ول رب سواك‪ ،‬ويقررون مبدأ المعاد والدار‬ ‫الخرة فيقولون سائلين ضارعين {رَبّنَا إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َي ْو ٍم ل رَ ْيبَ فِيهِ} لمحاسبتهم ومجازاتهم‬ ‫على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يومئذ حيث آمنا بك وبرسولك و بكتابك محكم آيه ومتشابهه‪ ،‬إنك‬ ‫ل تخلف الميعاد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬في كتاب ال المحكم والمتشابه‪ ،‬فالمحكم يجب اليمان به‪ ،‬والعمل بمقتضاه‪ ،‬والمتشابه يجب‬ ‫اليمان به ويفوض أمر تأويله إلى ال منزله ويقال‪{ :‬آمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِ ْندِ رَبّنَا} ‪.‬‬ ‫‪ -2‬أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه ‪ 1‬يجب هجرانهم والعراض عنهم؛ لنهم مبتدعة وأهل‬ ‫أهواء‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن ‪ 2‬والضلل‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير مبدأ المعاد والدار الخرة‪.‬‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْلدُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا وَأُولَ ِئكَ هُ ْم َوقُودُ النّارِ(‪)10‬‬ ‫خذَ ُهمُ اللّهُ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪ُ )11‬قلْ‬ ‫ن وَالّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَ َ‬ ‫عوْ َ‬ ‫كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬ ‫لِلّذِينَ َكفَرُوا سَ ُتغْلَبُونَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال أهل العلم‪ :‬التشابه يكون حقيقيا وإضافيا‪ .‬فالحقيقي ل سبيل إلى فهم معناه‪ ،‬وهو المراد من‬ ‫الية‪َ { :‬ومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِل اللّهُ} ‪ ،‬والضافي‪ :‬ما اشتبه معناه لحتياجه إلى طلب دليل آخر‪ ،‬فإذا‬ ‫جمِيعا} فهذا يبين معناه‪{ :‬وَإِنّي‬ ‫طلبه العالم وجده وهو كثير‪ .‬منه قوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ‬ ‫َل َغفّارٌ ِلمَنْ تَابَ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن أبا بكر الصديق رضي ال عنه أيام حروب الردة كان يصلي المغرب فيقرأ بالفاتحة‬ ‫وسورة من قصار المفصل‪ ،‬وفي الركعة الثالثة بأم القرآن ويقرأ قوله تعالى سرا‪{ :‬رَبّنَا ل تُ ِزغْ‬ ‫ح َمةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ} يقنت بها‪ .‬كما روي عن عائشة‬ ‫قُلُوبَنَا َبعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ رَ ْ‬ ‫أنها قالت‪" :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال‪" :‬ل إله إل أنت‬

‫سبحانك أستغفرك لذنبي‪ ،‬وأسألك رحمتك‪ ،‬اللهم زدني علما‪ ،‬ول تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب‬ ‫لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" ‪.‬‬

‫( ‪)1/288‬‬ ‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ(‪َ )12‬قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬ ‫وَتُحْشَرُونَ إِلَى َ‬ ‫ن وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ يَشَاءُ إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َر ًة لُولِي‬ ‫وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ‪ 1‬رَ ْأيَ ا ْلعَيْ ِ‬ ‫الَ ْبصَارِ(‪})13‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{{إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا} ‪ :‬هم وفد نجران ويهود المدينة والمشركون والمنافقون‪.‬‬ ‫{لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ} ‪ :‬لن تجزي عنهم ولن تقيهم عذاب ال إذا حل بهم‪.‬‬ ‫{ َوقُودُ النّارِ} ‪ :‬الوقود ما توقد به النار من حطب أو فحم حجري أو غاز‪.‬‬ ‫عوْنَ} ‪ :‬كعادتهم وسننهم في كفرهم وتكذيبهم وما حل بهم من عذاب في الدنيا‬ ‫{كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬ ‫والخرة‪.‬‬ ‫{ ُقلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا ‪ : }2‬هم يهود المدينة بنو قينقاع‪.‬‬ ‫{آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ‪ : }3‬علمة واضحة‪ ،‬والفئتان‪ :‬المسلمون وقريش إلتقتا في بدر‪.‬‬ ‫{ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ} ‪ :‬يقوي‪.‬‬ ‫{َلعِبْ َر ًة لُولِي الَ ْبصَارِ} العبرة‪ :‬العظة‪ ،‬وما يعبر به ذو البصيرة مواضع الخطر فينجو‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أصر وفد نجران على الكفر والتكذيب واتباع المتشابه من آي الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء‬ ‫التأويل من الحق والخروج عنه‪ .‬توعد الرب تعالى جنس الكافرين من نصارى ويهود وعرب‬ ‫وعجم فقال‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا‪ }..‬بالحق لما جاءهم وعرفوه معرفة ل لبس فيها ول‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الضمير عائد على المسلمين على أسلوب اللتفات والصل‪ :‬ترونهم مثليكم‪ ،‬ويحتمل أن يكون‬ ‫الضمير عائدا على المشركين‪ ،‬ولكن الصواب أنه عائد على المؤمنين‪ ،‬لن ال تعالى قلل‬ ‫المشركين في أعين المؤمنين ليقدموا على قتالهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬استئناف ابتدائي للنتقال من النذارة إلى التهديد حيث تطلب المقام ذلك إذا تبجح اليهود‬ ‫وتطاولوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم مخوفين له بكلمهم السخيف‪.‬‬ ‫‪ 3‬الفئة‪ :‬الجماعة من الناس‪ ،‬وسميت فئة لنه يفاء إليها‪ ،‬أي‪ :‬يرجع إليها في وقت اشتداد الحرب‪.‬‬

‫( ‪)1/289‬‬

‫غموض‪ ،‬ولكن منعهم من قبوله الحفاظ على المناصب والمنافع هؤلء جميعهم سيعذبهم ال تعالى‬ ‫في نار جهنم ولن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم من عذاب ال شيئا‪ ،‬واعلم أنهم وقود النار‪ ،‬التي‬ ‫مهدوا لها بكفرهم وبئس المهاد مهدوه لنفسهم‪ .‬ثم أخبر تعالى أنهم في كفرهم وعنادهم حتى‬ ‫يأتيهم العذاب كدأب آل فرعون والذين من قبلهم من المم التي كذبت رسلها؛ كقوم نوح وقوم هود‬ ‫وقوم صالح حتى أخذهم ال بالعذاب في الدنيا بالهلك والدمار‪ ،‬وفي الخرة بعذاب النار وبئس‬ ‫المهاد‪ ،‬وكان ذلك بذنوبهم ل بظلم ال تعالى ثم أمر ال تعالى رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫أن يقول ليهود المدينة الذين قالوا للرسول ل يغرنك أنك قاتلت من ل يحسن الحرب فانتصرت‬ ‫عليهم يريدون قريشا في موقعة بدر‪ ،‬إنك إن قاتلتنا ستعلم أنا نحن الناس‪ ،‬لما قالوا قولتهم هذه‬ ‫يهددون بها رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين أمره أن يقول لهم ‪{ 1‬سَ ُتغْلَبُونَ} يريد في‬ ‫المعركة وتنهزمون وتموتون‪ ،‬وبعد موتكم تحشرون إلى جهنم وبئس المهاد جهنم مهدتموها‬ ‫لنفسكم بكفركم وعنادكم وجحودكم للحق بعد معرفته‪ .‬وفتح أعينهم على حقيقة لو تأملوها لما‬ ‫تورطوا في حرب الرسول حتى هزمهم وقتل من قتل منهم وأجلى من أجلهم‪ .‬وهي أن المسلمين‬ ‫الذين قاتلوا المشركين في بدر وانتصروا عليهم كانوا أقل عدد وأنقص عدة‪ ،‬ومع ذلك انتصروا؛‬ ‫لنهم يقاتلون في سبيل ال‪ ،‬والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت والشرك والظلم والطغيان‪،‬‬ ‫ونصر ال الفئة القليلة المسلمة ‪ 2‬وهزم الفئة الكافرة الكثيرة‪ ،‬فلو اعتبر اليهود بهذه الحقيقة لما‬ ‫تورطوا في حرب مع الرسول صلى ال عليه وسلم أبدا‪ .‬ولكنها ل تعمى البصار ولكن تعمى‬ ‫القلوب التي في الصدور وهي البصائر‪ .‬فقال تعالى لهم‪{ :‬قَدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا} –في‬ ‫بدر‪ -‬جماعة‪ -‬تقاتل في سبيل ال‪ -‬إعلء لكلمته‪ -‬وأخرى فئة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت‬ ‫{يَ َروْ َنهُمْ‪3‬مِثْلَ ْيهِمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فعلً فقد جمعهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال لهم‪" :‬يا معشر يهود احذروا من ال مثل‬ ‫ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم‪ ،‬وقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في‬ ‫كتابكم وعهد ال إليكم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ كان عدد المسلمين ثلثمائة وثلثة عشر رجلً‪ ،‬وكان عدد المشركين رابيا على التسعمائة‬ ‫مقاتل‪.‬‬ ‫‪ 3‬رأى المسلمون الكافرين مثليهم‪ ،‬أي‪ :‬مثلي عدد المسلمين‪ ،‬وهذا معنى التقليل إذ الكافرون‬ ‫تسعمائة فرأوهم ستمائة وهو التقليل المذكور‪.‬‬

‫( ‪)1/290‬‬

‫رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ} لقربهم منهم‪ .‬ومع هذا نصر ال القلية وهم الكثرية الكافرة‪ ،‬وذلك لن ال تعالى‬ ‫يؤيد بنصره من يشاء‪ ،‬فأيد أولياءه وهزم أعداءه‪ ،‬وإن في هذه الحادثة لعبرة وعظة ومتفكر ولكن‬ ‫لمن كان ذا بصيرة‪ .‬أما من ل بصيرة له فإنه ل يرى شيئا حتى يقع في الهاوية‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ‬ ‫فِي ذَِلكَ} المذكور لهم‪َ{ :‬لعِبْ َر ًة لُولِي الَ ْبصَارِ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الكفر مورث لعذاب يوم القيامة والكافر معذب قطعا‪.‬‬ ‫‪ -2‬الموال والولد والرجال والعتاد مهما كثروا لن يغنوا من بأس ال شيئا إذا أراده بالكافرين‬ ‫في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬الذنوب بريد العذاب ‪ 1‬العاجل والجل‪.‬‬ ‫‪ -4‬ذم الفخر والتعالي وسوء عاقبتهما‪.‬‬ ‫‪ -5‬العاقل من اعتبر بغيره‪ ،‬ول عبرة لغير أولي البصار أي البصائر‪.‬‬ ‫‪ -6‬صدق خبر القرآن في ما أخبر به اليهود من هزيمتهم‪ ،‬فكان هذا دليل صدق على أن القرآن‬ ‫وحي ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال‪ ،‬وأن السلم دين ال الحق‪.‬‬ ‫ب وَا ْلفِضّ ِة وَا ْلخَ ْيلِ‬ ‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َه ِ‬ ‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬ ‫حبّ ال ّ‬ ‫{زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬ ‫س ّومَ ِة وَالَ ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ ذَِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ(‪})14‬‬ ‫ا ْلمُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ش َهوَاتِ} ‪ :‬جعل حبها مستحسنا في نفوسهم ل يرون فيه قبحا ول دمامة‪.‬‬ ‫حبّ ال ّ‬ ‫{زُيّنَ لِلنّاسِ‪ُ 2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده في كتاب ال‪{ :‬مَنْ َي ْع َملْ سُوءا ُيجْزَ بِهِ}‪َ { ،‬ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِيكُمْ}‪.‬‬ ‫حبّ‪ }...‬إلخ‪ .‬قال‪:‬‬ ‫‪ 2‬روى البخاري أن عمر رضي ال عنه لما نزلت هذه الية‪{ :‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬ ‫الن يارب حين زينتها لنا‪ .‬فأنزل ال تعالى‪ُ { :‬قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَِلكُمْ} الية‪.‬‬

‫( ‪)1/291‬‬ ‫ش َهوَاتِ‪ : }1‬جمع شهوة بمعنى المشتهى طبعا وغريزة؛ كالطعام والشراب اللذيذين‪.‬‬ ‫{ال ّ‬ ‫َا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ ‪ :‬القنطار‪ :‬ألف ومائة أوقية فضة‪ ،‬والمقنطرة‪ :‬الكثيرة بعضها فوق بعض‪.‬‬ ‫س ّومَةِ‪ : 2‬ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد‪.‬‬ ‫َالْخَ ْيلِ ا ْل ُم َ‬ ‫َالَ ْنعَامِ ‪ :‬البل والبقر والغنم وهي الماشية‪.‬‬ ‫َالْحَ ْرثِ‪ 3‬الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة‪.‬‬ ‫{ذَِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا} أي‪ :‬ذلك المذكور من النساء والبنين إلخ‪ .‬متاع الحياة الدنيا يريد يستمتع‬

‫به فيها ويموت صاحبها ويتركها‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى عناد من كفر من النصارى‪ ،‬واليهود‪ ،‬والمشركين‪ ،‬وجحودهم‪ ،‬وكفرهم‪ ،‬ذكر علة‬ ‫الكفر وبين سببه أل وهو ما زينه تعالى لبني البشر عامة ليفتنهم فيه ويمتحنهم به وهو حب‬ ‫الشهوات‪ ،‬أي‪ :‬المشتهيات بالطبع البشري من النساء ‪ ،4‬والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب‬ ‫والفضة والخيل المسمومة والنعام والحرث وهو كل ما يحرث من سائر الحبوب والنباتات‬ ‫الغذائية والعطرية وغيرها‪ .‬هذا الذي جعل تلك الجماعات ترفض الحق وتدفعه؛ لنه يحول بينهم‬ ‫وبين هذه المشتهيات غالبا فل يحصلون عليها‪،‬ولم يعلموا أنها مجرد متاع زائل فل يبيعوا بها‬ ‫الجنة دار الخلد والسلم‪ ،‬ولذا قال تعالى ذلك أي ما ذكر من أصناف المحبوبات متاع الحياة الدنيا‬ ‫ل غير إما الخرة فل ينفع فيها شيء من ذلك بل ل ينفع فيها إل الزهد فيه والعراض عنه إل‬ ‫ما لبد منه للبلغة به إلى عمل الدار الخرة وهو اليمان وصالح العمال‪ ،‬والتخلي عن الكفر‬ ‫والشرك وسائر الذنوب والمعاصي‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في صحيح مسلم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬حفت الجنة بالمكاره وحفت النار‬ ‫بالشهوات" ‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن الجنة ل تنال إل بقطع مغاور المكاره والصبر عليها‪ ،‬وأن النار ل ينجي‬ ‫منها إل ترك الشهوات وفطام النفس عنها‪.‬‬ ‫‪ 2‬ما ذكرناه مأخوذ من السومة وهي‪ :‬السمة‪ ،‬أي‪ :‬العلمة‪ ،‬وقد تكون المسومة مأخوذ من السوم‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬الرعي في المرعى‪ ،‬يقال‪ :‬أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى‪ .‬والخيل مؤنثة‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحرف‪ :‬مصدر أطلق على المحروثات نفسها من المزارع الحدائق‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى الشيخان عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من‬ ‫النساء" ‪ .‬وفي حديث آخر‪" :‬اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"‬ ‫رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/292‬‬ ‫وختم تعالى الية بقوله مرغبا في العمل للدار الخرة داعيا عباده إلى الزهد في المتاع الفاني‬ ‫للتعلق قلوبهم بالنعيم الباقي فقال‪{ :‬وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ} ‪ ،‬أي‪ :‬المرجع الحسن‪ ،‬والنزول الكريم‬ ‫والجوار الطيب السعيد‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬يزين ال تعالى بمعنى يجعل الشيء زينا محبوبا للناس للبتلء والختبار قال تعالى‪{ :‬إِنّا‬

‫عمَلً‪ }1‬ويزين الشيطان للضلل والغواء‪،‬‬ ‫جعَلْنَا مَا عَلَى الَ ْرضِ زِينَةً َلهَا لِنَبُْلوَ ُهمْ أَ ّيهُمْ أَحْسَنُ َ‬ ‫َ‬ ‫فال يزين الزين ويقبح القبيح‪ ،‬والشيطان يزين القبيح‪ ،‬ويقبح الزين‪ .‬فانظر الفرق وتأمل‪.‬‬ ‫‪ -2‬المزينات في هذه الية من تزيين ال تعالى للبتلء‪ ،‬وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح إل‬ ‫إذا طلبت من غير حلها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلق آخذها أو طغت عليه محبتها فأنسته‬ ‫لقاء ال وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين‪.‬‬ ‫‪ -3‬كل ما في الدنيا مجرد متاع‪ ،‬والمتاع دائما قليل وزائل فعلى العاقل أن ينظر إليه كما هو فل‬ ‫يطلبه بما يحرمه حسن ‪ 2‬المآب عند ال‪ .‬اللهم ل تحرمنا حسن مآبك يا ال يا رحمن يا رحيم‪.‬‬ ‫{ ُقلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ ِبخَيْرٍ مِنْ ذَِلكُمْ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِنْدَ رَ ّب ِهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا‬ ‫غفِرْ لَنَا‬ ‫طهّ َرةٌ وَ ِرضْوَانٌ مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ(‪ )15‬الّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا إِنّنَا آمَنّا فَا ْ‬ ‫وَأَ ْزوَاجٌ ُم َ‬ ‫سحَارِ(‬ ‫ن وَا ْلمُسْ َت ْغفِرِينَ بِالَ ْ‬ ‫ن وَا ْلمُ ْنفِقِي َ‬ ‫ن وَا ْلقَانِتِي َ‬ ‫ن وَالصّا ِدقِي َ‬ ‫ذُنُوبَنَا َوقِنَا عَذَابَ النّارِ(‪ )16‬الصّابِرِي َ‬ ‫‪})17‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سورة الكهف‪.7 :‬‬ ‫‪ 2‬المآب‪ :‬المرجع‪ ،‬يقال‪ :‬آب يؤب أوبا‪ ،‬ومآبا إذا رجع‪ ،‬ومنه قول امرؤ القيس‪:‬‬ ‫وقد طفت في الفاق حتى ‪ ...‬رضيت من الغنيمة بالياب‬ ‫والمراد بالمآب‪ :‬ما أعده ال تعالى لولياءه من النعيم المقيم في دار السلم‪.‬‬

‫( ‪)1/293‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َأؤُنَبّ ُئكُمْ‪ : }1‬أخبركم بنبأ عظيم لن النبأ ل يكون إل بالمر العظيم‪.‬‬ ‫{ ِبخَيْرٍ مِنْ ذَِل ُكمْ} ‪ :‬أي‪ :‬المذكور في الية السابقة من النساء والبنين‪ .‬إلخ‪.‬‬ ‫{ا ّت َقوْا} ‪ :‬خافوا ربهم فتركوا الشرك به ومعصيته ومعصية رسوله‪.‬‬ ‫{مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ} ‪ :‬من خلل قصورها وأشجارها أنهار ‪ 2‬الماء‪ ،‬وأنهار اللبن وأنهار العسل‬ ‫وأنهار الخمر‪.‬‬ ‫{خَالِدِينَ فِيهَا} ‪ :‬مقيمين فيها إقامة ل يرحلون بعدها أبدا‪.‬‬ ‫طهّ َرةٌ ‪ :‬زوجات‪ :‬هي الحور العين نقيات من دم الحيض والبوم وكل أذى وقذر‪.‬‬ ‫َأَ ْزوَاجٌ مُ َ‬ ‫الصّابِرِينَ ‪ :‬على الطاعات ل يفارقونها وعلى المكروه ل يتسخطون‪ ،‬وعن المعاصي ل‬ ‫يقارفونها‪.‬‬ ‫َالصّا ِدقِينَ ‪ :‬في إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم‪.‬‬ ‫َا ْلقَانِتِينَ ‪ :‬العابدين المحسنين الداعين الضارعين‪.‬‬

‫َا ْلمُ ْنفِقِينَ‪ :‬المؤدين للزكاة المتصدقين بفضول أموالهم‪.‬‬ ‫َا ْلمُسْ َت ْغفِرِينَ‪ 3‬بِالَسْحَارِ ‪ :‬السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما بين ال تعالى ما زينه للناس من حب الشهوات من النساء والبنين اوالقناطير المنقطرة من‬ ‫الذهب والفضة إلى آخر ما ذكر تعالى‪ ،‬وبين أن حسن المآب عنده سبحانه وتعالى فليطلب منه‬ ‫باليمان والصالحات أمر رسوله أن يقول للناس كافة أؤنبئكم بخير من ذلك المذكور لكم‪ .‬وبينه‬ ‫بقوله‪ { :‬لِلّذِينَ ا ّتقَوْا عِ ْندَ رَ ّبهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يصح أن يكون منتهى الستفهام قوله تعالى‪{ :‬مِنْ ذَِلكُمْ} و {لِلّذِينَ ا ّت َقوْا} خبر مقدم‪ ،‬وجنات‪:‬‬ ‫المبتدأ‪ ،‬ويصح أن يكون منتهى الستفهام‪{ :‬عِ ْندَ رَ ّبهِمْ} و{جَنّاتٌ} ‪ :‬خبر‪ ،‬والمبتدأ محذوف‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهد هذا في قوله تعالى من سورة محمد صلى ال عليه وسلم‪{ :‬مَ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ‬ ‫ن وَأَ ْنهَارٌ‬ ‫خمْرٍ لَ ّذةٍ لِلشّارِبِي َ‬ ‫ط ْعمُ ُه وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ‬ ‫ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ َلمْ يَ َتغَيّرْ َ‬ ‫فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِ ٍ‬ ‫سلٍ ُمصَ ّفىً} ‪.‬‬ ‫مِنْ عَ َ‬ ‫‪ 3‬المختار من ألفاظ الستغفار ما رواه الطبراني‪" :‬اللهم أنت ربي ل إله إل أنت خلقتني وأنا‬ ‫عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبو لك بنعمتك عليّ‪،‬‬ ‫وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت" ‪ .‬وقول العبد‪" :‬اللهم ل إله إل أنت سبحانك‬ ‫عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت"‪.‬‬

‫( ‪)1/294‬‬ ‫طهّ َرةٌ وَ ِرضْوَانٌ مِنَ اللّهِ‪ }...‬وهو رضاه عز ‪ 1‬وجل عنهم وهو أكبر من النعيم‬ ‫وَأَ ْزوَاجٌ ُم َ‬ ‫ضوَانٌ مِنَ اللّهِ َأكْبَرُ‪. }...‬‬ ‫المذكورقبله‪ ،‬قال تعالى في آية أخرى ‪{ :2‬وَ ِر ْ‬ ‫ثم أخبر تعالى أنه بصير بعباده يعلم المؤمن الصادق والمنافق الكاذب‪ ،‬والعامل المحسن والعامل‬ ‫المسيء وسيجزي كل بعدله وفضله‪ ،‬ثم ذكر صفات المتقين التي ورثوا بها ما وصف من النعيم‬ ‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا َوقِنَا عَذَابَ النّارِ} فذكر صفة اليمان والخشية‬ ‫فقال‪{ :‬الّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا إِنّنَا آمَنّا فَا ْ‬ ‫ن وَا ْلقَانِتِينَ‬ ‫ن وَالصّا ِدقِي َ‬ ‫والضراعة والدعاء لهم ثم كر باقي الصفات الكمالية فقال‪{ :‬الصّابِرِي َ‬ ‫وَا ْلمُنْ ِفقِينَ وَا ْلمُسْ َتغْفِرِينَ بِالَسْحَارِ} ‪ ،‬يتهجدون آخر الليل وقبيل طلوع الفجر يكثرون من الستغفار‬ ‫وهو طلب المغفرة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬نعيم الخرة خير من نعيم الدنيا مهما كان‪.‬‬

‫‪ -2‬نعيم الخرة خاص بالمتقين البرار‪ ،‬ونعيم الدنيا غالبا ما يكون للفجار‪.‬‬ ‫‪ -3‬التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي هي العامل الوراثي لدار السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬استحباب الضراعة والدعاء والستغفار ‪ 3‬في آخر الليل‪.‬‬ ‫‪ -5‬الصفات المذكورة لهل التقوى هنا كلها واجبة ل يحل أن ل يتصف بها مؤمن ول مؤمنة في‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫ش ِهدَ‪ 4‬اللّهُ أَنّ ُه ل إِلَهَ إِل ُه َو وَا ْلمَل ِئكَ ُة وَأُولُو ‪ 5‬ا ْلعِلْمِ قَائِما بِا ْلقِسْطِ‬ ‫{َ‬ ‫__________‬ ‫عدَ اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‬ ‫‪ 1‬في قوله تعالى من سورة التوبة‪{ :‬وَ َ‬ ‫ضوَانٌ مِنَ اللّهِ َأكْبَرُ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ}‪.‬‬ ‫ن وَ ِر ْ‬ ‫خَاِلدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْ ٍ‬ ‫‪ 2‬أخرج مسلم عنه صلى ال عليه وسلم‪" :‬أن أهل الجنة إذ أدخلوها يقول ال تعالى لهم‪ :‬تريدون‬ ‫شيئا أزيدكم؟ فيقولون‪ :‬يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول‪ :‬رضاي فل أسخط عليكم بعده‬ ‫أبدا"‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده ما رواه الئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬ينزل ال عز‬ ‫وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الول فيقول‪" :‬أنا الملك من ذا الذي يدعوني‬ ‫فأستجيب له‪ ،‬من ذا الذي يسألني فأعطيه‪ ،‬من ذا الذي يستغفرني فأغفر له‪ .‬فل يزال كذلك حتى‬ ‫يطلع الفجر" ‪ .‬رواه مسلم‬ ‫‪ 4‬روى الكلبي‪ ،‬ونقل ذلك القرطبي فقال‪" :‬لما ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قدم عليه‬ ‫حبران من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة‪ ،‬قال أحدهما لصاحبه‪ :‬ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة‬ ‫النبي الذي يخرج في آخر الزمان‪ ،‬فلما دخل على النبي صلى ال عليه وسلم عرفاه بالصفة‬ ‫والنعت‪ ،‬فقال له‪ :‬أنت محمد؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬وأنت أحمد؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬نسألك عن شهادة فإن‬ ‫أنت أخبرتنا بها آمنا بك‪ .‬وصدقناك‪ .‬فقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬اسألني‪ :‬فقال‪:‬‬ ‫ش ِهدَ اللّهُ أَنّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ}‬ ‫أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب ال؟ فأنزل ال تعالى على نبيه‪َ { :‬‬ ‫الية‪.‬‬ ‫‪ 5‬في عطف شهادة أولي العلم على شهادة ال تعالى شرف كبير لولي العلم‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬أن‬ ‫العلماء ورثة النبياء" ‪" ،‬العلماء أمناء ال على خلقه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/295‬‬ ‫حكِيمُ(‪ )18‬إِنّ الدّينَ‪ 1‬عِنْدَ اللّ ِه الِسْل ُم َومَا اخْتََلفَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ إِل‬ ‫ل إِلَهَ إِل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ َبغْيا بَيْ َن ُه ْم َومَنْ َيكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ(‪ )19‬فَإِنْ حَاجّوكَ‬ ‫لمّيّينَ أََأسَْلمْتُمْ فَإِنْ َأسَْلمُوا َفقَدِ اهْتَ َدوْا‬ ‫ب وَا ُ‬ ‫ن َو ُقلْ لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَا َ‬ ‫ج ِهيَ لِلّهِ َومَنِ اتّ َبعَ ِ‬ ‫ت وَ ْ‬ ‫َفقُلْ أَسَْل ْم ُ‬

‫غ وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ(‪})20‬‬ ‫وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَل ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ش ِهدَ} ‪ :‬أخبر عن علم بحضوره المر المشهود به‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{ل إِلَهَ إِل ُهوَ} ‪ :‬ل معبود بحق في الرض ول في السماء إل ال تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫{وَأُولُو ا ْلعِلْمِ} ‪ :‬أصحاب العلم الصحيح المطابق للواقع وهم النبياء والعلماء‪.‬‬ ‫القسط ‪ :‬العدل في الحكم والقول والعمل‪.‬‬ ‫حكِيمُ} ‪ :‬الغالب ذو العزة التي ل تغلب‪ ،‬الحكيم في خلقه وفعله وسائر تصرفاته‪.‬‬ ‫{ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫{الدّينَ} ‪ :‬ما يدان ال تعالى به أي‪ :‬يطاع فيه ويخضع له به من الشرائع والعبادات‪.‬‬ ‫{الِسْلمُ‪ : }2‬النقياد ل بالطاعة والخلوص من الشرك‪ ،‬والمراد به هنا ملة السلم‪.‬‬ ‫{ َبغْيا} ‪ :‬ظلما وحسدا‪.‬‬ ‫{حَاجّوكَ} ‪ :‬جادلوك وخاصموك بحجج باطلة واهية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬إِنّ الدّينَ عِنْدَ اللّ ِه الِسْلمُ} صيغة حصر‪ ،‬أي‪ :‬حصر المسند إليه الذي هو الدين في المسند‬ ‫الذي هو السلم‪ ،‬أي‪ :‬ل دين إل السلم‪ ،‬وقد أكد هذا الحصر بحرف التوكيد‪ :‬إن‪ ،‬والمعنى‪ :‬إن‬ ‫الدين الصحيح هو السلم ل غيره‪.‬‬ ‫‪ 2‬حقيقة السلم الشرعية‪ :‬إنه اعتقاد الحق والنطق به‪ ،‬والعمل بموجبه‪ ،‬عبادة وخلقا وحكما حتى‬ ‫تكون حياة المسلم كلها وفق مراد ال تعالى منه وما دعاه إليه وخلقه من أجله‪.‬‬

‫( ‪)1/296‬‬ ‫ج ِهيَ لِلّهِ} ‪ :‬أخلصت كل أعمالي القلبية والبدنية ل وحده ل شريك له‪.‬‬ ‫{َأسَْل ْمتُ وَ ْ‬ ‫{ َومَنِ اتّ َبعَنِ} ‪ :‬كذلك أخلصوا ل كل أعماله له وحده ل شريك له‪.‬‬ ‫{أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫الميين ‪ :‬العرب المشركين سموا بالميين لقلة من يقرأ ويكتب فيهم‪.‬‬ ‫{أََأسَْلمْتُمْ} ‪ :‬الهمزة الولى للستفهام والمراد به المر أي‪ :‬أسلموا خيرا لكم لظهور الحق وانبلج‬ ‫نوره بينكم بواسطة كتاب ال ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{فَإِنْ َأسَْلمُوا} ‪ :‬فإن أجابوك وأسلموا فقد اهتدوا إلى سبيل النجاة‪.‬‬ ‫{وَإِنْ َتوَّلوْا} ‪ :‬أدبروا عن الحق بعد رؤيته وأعرضوا عه بعد معرفته فل يضرك أمرهم إذ ما‬ ‫عليك إل البلغ وقد بلغت‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر الجبار عز وجل أنه ‪ 1‬شهد أنه ل إله إل هو وأن الملئكة وأولي العلم يشهدون كذلك شهادة‬

‫علم وحق قامت على مبدأ الحضور الذاتي‪ ،‬والفعلي وأنه تعالى قائم في الملكوت كله‪ ،‬علويه‬ ‫وسفليه‪ ،‬بالعدل‪ ،‬فل رب غيره ول إله سواه‪ ،‬العزيز في ملكه وخلقه الحكيم في تدبيره وتصريفه‬ ‫فل يضع شيئا في غير موضعه اللئق به‪ .‬فرد بهذه الشهادة على باطل نصارى نجران‪ ،‬ومكر‬ ‫اليهود‪ ،‬وشرك العرب‪ ،‬وأبطل كل باطلهم سبحانه وتعالى‪ ،‬ثم أخبر أيضا أن الدين الحق الذي ل‬ ‫يقبل تعالى دينا سواه‪ ،‬هو السلم‪ ،‬القائم على مبدأ النقياد الكامل ل تعالى بالطاعة‪ ،‬والخلوص‬ ‫التام من سائر أنواع الشرك فقال‪{ :‬إِنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ} في حكمه وقضائه السلم‪ ،‬وما عداه فل‬ ‫يقبله ‪ 2‬ول يرضاه‪ .‬ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران‪ ،‬المجادلين لرسوله‪ ،‬في شأن تأليه‬ ‫عيسى بالباطل فقال‪َ { :‬ومَا اخْتََلفَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ إِل مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيا بَيْ َنهُمْ} يريد‬ ‫أن خلف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته ‪ 3‬و لكن كان عن علم حقيقي وإنما‬ ‫حملهم على الخلف المسبب للفتن‬ ‫__________‬ ‫ش ِهدَ اللّهُ} إلخ‪ .‬وأنا أشهد بما شهد ال به وأستودع ال‬ ‫‪ 1‬ورد أن من قال عند تلوة هذه الية‪َ { :‬‬ ‫هذه الشهادة وهي لي عند ال وديعة –يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول عز وجل‪" :‬عبدي عهد إليّ‬ ‫وأنا أحق من وفى بالعهد‪ ،‬أدخلوا عبدي الجنة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬والذي نفسي بيده ل يسمع بي أحد من هذه‬ ‫المة يهودي ول نصراني ومات ولم يؤمن بما أرسلت به إل كان من أهل النار" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬يشهد لهذه الحقيقة ما رواه البخاري‪ " :‬أن غلما يهوديا كان يضع للنبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫وضوءه ويناوله لعنه فمرض فآتاه النبي صلى ال عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قائم عند رأسه‪،‬‬ ‫فقال له النبي صلى ال عليه وسلم يا فلن قل ل إله إل ال فنظر إلى أبيه فسكت أبوه‪ ،‬فأعاد عليه‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه‪ :‬أطع أبا القاسم‪ .‬فقال الغلم‪ :‬أشهد أن ل إله‬ ‫إل ال وأنك رسول ال‪ .‬فخرج النبي صلى ال عليه وسلم وهو يقول‪ :‬الحمد ل الذي أخرجه بي‬ ‫من النار"‪.‬‬

‫( ‪)1/297‬‬ ‫والحروب وضياع الدين‪ ،‬البغي والحسد إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية والدنيوية لها‬ ‫دون غيرها‪ ،‬وبذلك يفسد أمر الدين والدنيا‪ ،‬وهذه سنة بشرية تورط فيها المسلمون ‪ 1‬بعد القرون‬ ‫المفضلة أيضا‪ ،‬والتاريخ شاهد‪ .‬ثم قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ}‬ ‫يتوعد تعالى ويهدد كل من يكفر بآياته الحاملة لشرائعه فيجحدها ويعرض عنها فإنه تعالى يحصي‬ ‫عليه ذنوب كفره وسيئات عصيانه ويحاسبه بها ويجزيه وإنه سريع الحساب؛ لنه ل يشغله شيء‬ ‫عن آخر ول يعيبه إحصاء ول عدد‪ ،‬ثم يلتفت بالخطاب إلى رسوله قائلً له‪{ :‬فَإِنْ حَاجّوكَ} يريد‬

‫وفد نجران النصراني فاختصر الحجاج معهم بإظهار موقفك المؤيس لهم داعيا إياهم إلى السلم‬ ‫ج ِهيَ لِلّ ِه َومَنِ اتّ َبعَنِ}‬ ‫الذي عرفوه وأنكروه حفاظا على الرئاسة والمنافع بينهم فقل لهم‪َ{ :‬أسَْل ْمتُ َو ْ‬ ‫أيضا أسلم وجهه ل فليس فينا شيء لغير ال وقلوبنا وأعمالنا وحياتنا كلها فأسلموا ‪ 2‬أنتم يا أهل‬ ‫الكتاب ويا أميون {فَإِنْ أَسَْلمُوا َفقَدِ اهْ َت َدوْا} وإن تولوا وأعرضوا فل يضرك إعراضهم‪ ،‬إذ ما كلفت‬ ‫إل البلغ وقد بلغت‪ ،‬أما الحساب والجزاء فهو إلى ال تعالى البصير بأعمال عباده العليم بنياتهم‬ ‫وسوف يجزيهم بعلمه ويقضي بينهم بحكمه وهو العزيز الحكيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬اعتبار الشهادة والخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلً لذلك بأن كان مسلما‬ ‫عدل ً‪.‬‬ ‫‪ -2‬شهادة ال أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والحكام وتليها شهادة الملئكة وأولي العلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بطلن كل دين بعد السلم و كل ملة غير ملته لشهادة ال تعالى بذلك وقوله‪َ { :‬ومَنْ يَبْ َتغِ غَيْرَ‬ ‫الِسْلمِ دِينا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْهُ وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ} الية(‪ )85‬من هذه السورة والتي‬ ‫تفسيرها إن شاء ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬الخلف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الخرة فيتورطون في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وما زال المسلمون متفرقين إلى اليوم‪ ،‬بل تفرقهم اليوم أسوأ من الول‪ ،‬ودولهم دويلت‪،‬‬ ‫وشريعتهم التي يسوسون بها المة المسلمة شرائع‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى محمد بن إسحاق أن وفد نجران لما دخل مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم تكلم منهم‬ ‫السيد والعاقب‪ ،‬فقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أسلما" ‪ .‬قال‪ :‬قد أسلمنا قبلك‪ .‬فرد‬ ‫عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً‪" :‬كذبتما يمنعكما من السلم دعاؤكما ل ولدا‬ ‫وعبادتكما الصليب" ‪.‬‬

‫( ‪)1/298‬‬ ‫المطاعم والمشارب‪ ،‬ويتشوقون إلى الكراسي والمناصب‪ ،‬ويرغبون في الشرف يومئذ يختلفون‬ ‫بغيا بينهم وحسدا لبعضهم بعضا‪.‬‬ ‫‪ -5‬من أسلم قلبه ل وجوارحه وأصبح وقفا في حياته على ال فقد اهتدى إلى سبيل النجاة‬ ‫والسلم‪.‬‬ ‫‪ -6‬من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه‬ ‫وحسابه على ال وسيلقى جزاءه‪.‬‬

‫ق وَ َيقْتُلُونَ الّذِينَ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلقِسْطِ مِنَ النّاسِ‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ حَ ّ‬ ‫عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫فَبَشّرْ ُهمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ(‪ )21‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ حَ ِب َ‬ ‫‪})22‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َي ْكفُرُونَ} ‪ :‬يجحدون ويكذبون‪.‬‬ ‫{النّبِيّينَ} ‪ :‬جمع نبي وهو ذكر من بنى آدم أوحى إليه ال تعالى‪.‬‬ ‫القسط ‪ :‬العدل والحق والخير والمعروف‪.‬‬ ‫{فَبَشّ ْرهُمْ ِبعَذَابٍ َألِيمٍ} ‪ :‬أخبرهم إخبارا يظهر أثره على بشرة وجوههم ألما وحسرة‪.‬‬ ‫عمَاُلهُمْ} ‪ :‬بطلت وذهبت لم يجنوا منها شيئا ينفعهم‪ ،‬ويهلكون بذلك ويعدمون الناصر‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫{حَبِ َ‬ ‫لهم؛ لن ال خذلهم وأراد إهلكهم وعذابهم في جهنم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في هتك أستار الكفرة من أهل الكتابيين اليهود والنصارى‪ ،‬فذكر تعالى هنا أن‬ ‫الذين يكفرون ‪ 1‬بآيات ال وهي حججه وأعلم دينه‪ ،‬وما بعث بها رسله‪ ،‬ويقتلون مع‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جيء بالفعال المضارعة في صلة الذين يكفرون يقتلون النبيين ويقتلون إلخ‪ .‬لجل استحضار‬ ‫الحالة الفظيعة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى عن نيات اليهود فإنهم ما زالوا مصرين على قتل‬ ‫النبياء‪ ،‬وكيف وقد حاولوا قتل النبي صلى ال عليه وسلم غير مرة‪.‬‬

‫( ‪)1/299‬‬ ‫ذلك النبيين بغير حق ‪ 1‬ول موجب للقتل‪ ،‬ويقتلون الذين يأمرونهم ‪ 2‬من أتباع النبياء المؤمنين‬ ‫الصالحين‪ ،‬هذه جرائم بعض أهل الكتاب فبشرهم بعذاب أليم‪ ،‬ثم أخبر أن أولئك البعداء في‬ ‫مهاوي الشر والفساد والظلم والعناد حبطت أعمالهم في الدنيا فل يجنون منها عاقبة حسنة ول‬ ‫مدحا ول ثناء بل سُجلت لهم بها عليهم لعنات في الحياة والممات‪ ،‬والخرة كذلك وليس لهم فيها‬ ‫من ناصرين ينصرونهم فيخلصونهم من عذاب ال وهيهات هيهات أن يوجد من دون ال ولي أو‬ ‫نصير‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬الكفر والظلم من موجبات هلك الدنيا ولزوم عذاب الخرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬قتل المرين بالمعروف ‪ 3‬والناهين عن المنكر كقتل النبياء في عظم الحرم‪.‬‬ ‫‪ -3‬الشرك محبط للعمال مفسد لها في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫‪ -4‬من خذله ال تعالى ل ينصره أحد‪ ،‬ومن ينصره ال ل يغلبه أحد‪.‬‬ ‫ح ُكمَ بَيْ َنهُمْ ُثمّ يَ َتوَلّى فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ‬ ‫عوْنَ ِإلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَ ْ‬ ‫{أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا َنصِيبا مِنَ ا ْلكِتَابِ ُيدْ َ‬ ‫ت وَغَرّهُمْ فِي دِي ِنهِمْ مَا كَانُوا‬ ‫وَهُمْ ُمعْ ِرضُونَ(‪ )23‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لَنْ َت َمسّنَا النّارُ إِل أَيّاما َمعْدُودَا ٍ‬ ‫ج َمعْنَاهُمْ‬ ‫َيفْتَرُونَ(‪َ )24‬فكَ ْيفَ ِإذَا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بغير حق‪ :‬حال مؤكدة إذ ل يقع قتل نبي إل بغير حق‪ ،‬فقتلهم النبياء متأكد وهو قبيح‪ ،‬وكونه‬ ‫بغير حق هو أشد قبحا‪ ،‬والية تشنيع لفعالهم القبيحة‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي ال عنه قال‪" :‬قلت يا رسول ال أي‬ ‫ل أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ‬ ‫الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال‪" :‬رجل قتل نبيا أو رج ً‬ ‫الية ‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ} إلخ‪ .‬ثم قال‪ :‬يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلثة وأربعون نبيا أول‬ ‫النهار في ساعة واحدة‪ ،‬فقام مائة وسبعون رجلً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم‬ ‫بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر ال‬ ‫تعالى" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية‪ :‬كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلء‪:‬‬ ‫إمام عادل ل يظلم‪ ،‬وعالم على سبيل الهدى‪ ،‬ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‬ ‫ويحرسون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات ل يتبرجن تبرج الجاهلية الولى‪ .‬وأخرج‬ ‫ابن ماجة عن أنس بن مالك قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول ال متى يترك المر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر؟ قال‪" :‬إذا ظهر فيكم ما ظهر في المم من قبلكم" قلنا‪ :‬يا رسول ال وما ظهر في المم‬ ‫قبلنا؟ قال‪" :‬الملك في صغاركم‪ ،‬والفاحشة في كباركم‪ ،‬والعلم في رذالتكم" ‪ .‬الرذالة‪ :‬كالحسالة‪.‬‬ ‫ومعناه‪ :‬فيمن ل خير فيهم‪.‬‬

‫( ‪)1/300‬‬ ‫لِ َيوْمٍ ل رَ ْيبَ فِي ِه َو ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َبتْ وَهُمْ ل يُظَْلمُونَ(‪}25‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أُوتُوا َنصِيبا مِنَ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬اعطوا حظا وقسطا من التوراة‪.‬‬ ‫عوْنَ} ‪ :‬يُطلب ‪ 1‬إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو‬ ‫{ ُيدْ َ‬ ‫التوراة فيأبون ويعرضون‪.‬‬ ‫{يَ َتوَلّى} ‪ :‬يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق‪.‬‬ ‫{أَيّاما َمعْدُودَاتٍ} ‪ :‬هذا قول اليهود ويعنون باليام الربعين يوما تلك التي عبدوا فيها العجل بع‬ ‫غياب موسى عليه السلم عنهم‪.‬‬

‫{ َيفْتَرُونَ} ‪ :‬يكذبون‪.‬‬ ‫{لِ َيوْمٍ ل رَ ْيبَ فِيهِ} ‪ :‬هو يوم القيامة‪.‬‬ ‫{مَا كَسَ َبتْ} ‪ :‬ما عملت من خير أو شر‪.‬‬ ‫{ل يُظَْلمُونَ} ‪ :‬بأن يعذبوا بدون المقتضي لعذابهم من الشرك والكفر والمعاصي‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في فضح أهل الكتاب بذكر ذنوبهم وجرائمهم‪ ،‬فيقول تعالى لرسوله حاملً له على‬ ‫التعجب من حال اليهود ألم تر يا رسولنا إلى الذين أوتوا نصيبا‪ 2‬من الكتاب‪ ،‬أي ألم ينته إلى‬ ‫علمك أمرهم حيث يدعون إلى التحاكم ‪ 3‬إلى كتاب ال تعالى فيما انكروه ‪ 4‬واختلفوا فيه من‬ ‫صفاتك وشأن نبوتك ورسالتك‪ ،‬ثم يتولى عدد منهم وهم مصممون على عدم العودة وطلب الحق‬ ‫والقرار به إنها حال تدعو إلى التعجب حقا‪ ،‬وصارفهم عن قبول الحق‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس‪" :‬هذه الية نزلت بسبب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم دخل على يهود في‬ ‫بيت المدراس فدعاهم إلى السلم فقالوا له‪ :‬على أي دين أنت؟ فقال‪ " :‬على ملة إبراهيم" ‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫إن إبراهيم كان يهوديا‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬هلموا إلى التوراة‪ ،‬فهي بيننا وبينكم"‪.‬‬ ‫فأبوا عليه‪ .‬فنزلت هذه الية"‪.‬‬ ‫‪ 2‬التنكير للتقليل وليس للتعظيم بأن السياق في ذمهم وتقبيح سلوكهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬الية دليل على وجوب من دعا إلى التحاكم إلى شرع ال أن يجيب إلى ذلك ول يمتنع وإل‬ ‫يقدح في إيمانه‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي من كون إبراهيم عليه السلم لم يكن يهوديا‪ ،‬حيث زعموا إنه كان يهوديا كما تقدم في سبب‬ ‫نزول الية‪{ :‬ألم ترى الذين‪.}...‬‬

‫( ‪)1/301‬‬ ‫ومراجعته هو اعتقادهم الفاسد بأن النار ل تمسهم إذا ألقوا فيها إل مدة أربعين يوما‪ ،‬وهي المدة‬ ‫التي عبد فيها أسلفهم العجل يوم غاب موسى عنهم لمناجاته ربه تعالى في جبل الطور‪ .‬وهذه‬ ‫الدعوى باطلة ل أساس لها من الصحة بل يُخلدون في النار ل بعبادة أسلفهم العجل أربعين يوما‬ ‫بل بكفرهم وظلمهم وجحودهم وعنادهم‪ ،‬ويبين تعالى الحقيقة لرسوله والمؤمنين وهي أن هذه‬ ‫الدعوى اليهودية ما هي إل فرية ‪ 1‬افتراها علماؤهم ليهونوا عليهم ارتكاب الجرائم وغثيان عظائم‬ ‫الذنوب‪ .‬كما حصل للمسلمين في القرون المظلمة من تاريخ السلم حيث أصبح مشايخ التصوف‬ ‫يدجلون على المريدين بأنه يستغفرون لهم ويغفر لهم‪ .‬ثم قال تعالى معظما حالهم مهولً موقفهم‪:‬‬ ‫فكيف ‪ 2‬أي‪ :‬حالهم‪ .‬إذا جمعناهم ليوم ل ريب فيه‪ ،‬وهو يوم القيامة كيف تكون حالهم أنها حال‬

‫يعجز الوصف عنها‪َ { ،‬و ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا َكسَ َبتْ} من خير أو شر وهم ل يظلمون بنقص حسناتهم‬ ‫إن كانت لهم حسنات‪ ،‬ول بالزيادة في سيئاتهم وما لهم إل السيئات‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬من العراض عن الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال قال تعالى‪{ :‬فَل وَرَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ‬ ‫ت وَيُسَّلمُوا تَسْلِيما} [سورة‬ ‫سهِمْ حَرَجا ِممّا َقضَ ْي َ‬ ‫شجَرَ بَيْ َنهُمْ ُث ّم ل َيجِدُوا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬ ‫حَتّى يُ َ‬ ‫النساء‪.]65 :‬‬ ‫‪ -2‬أفسد شيء للديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الفتراء فيها والبتداع عليها والقول فيها بغير‬ ‫علم‪.‬‬ ‫‪ -3‬مضرة الغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات‬ ‫والباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلقي فيها أهل الظلم والفساد وفي القرآن‪{ :‬إِنّا َأخَْلصْنَاهُمْ‬ ‫بِخَاِلصَةٍ ِذكْرَى الدّارِ} [سورة ص‪]46 :‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من جملة افتراءاتهم قولهم‪ :‬أن ال وعد يعقوب أن ل يعذب أبناءه‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا خطاب للنبي صلى ال عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجيب‪.‬‬

‫( ‪)1/302‬‬ ‫{ ُقلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَنْ تَشَا ُء وَتَنْ ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَا ُء وَ ُتعِزّ مَنْ تَشَاءُ وَتُ ِذلّ مَنْ َتشَاءُ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪ )26‬تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ وَتُخْرِجُ‬ ‫بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫حسَابٍ(‪})27‬‬ ‫ي وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ‬ ‫حّ‬ ‫ت وَتُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬ ‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ‬ ‫الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الّل ُهمّ} ‪ :‬يا ال حذف حرف النداء "يا" وعوض عنه الميم المشددة وهو خاص بنداء ال تعالى‪.‬‬ ‫{مَاِلكَ} ‪ :‬المالك‪ :‬الحاكم المتصرف يفعل في الملك ما يشاء ويحكم ما يريد لعظم سلطانه وقوة‬ ‫إرادته‪.‬‬ ‫{ا ْلمُ ْلكَ} ‪ :‬المملوك‪ :‬والمقصود به ما سوى المالك عز وجل‪ ،‬من سائر الكائنات‪.‬‬ ‫{ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ} ‪ :‬السلطان والتصرف في بعض الملكوت‪.‬‬ ‫{تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ} ‪ :‬تدخل الليل في النهار فل يبقى ليل‪ ،‬و تولج النهار في الليل فل يبقى‬ ‫نهار‪.‬‬ ‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ} ‪ :‬أي تخرج جسما حيا من جسم ميت في المحسوسات؛ كالدجاجة من‬ ‫{وَتُخْرِجُ الْ َ‬

‫البيضة‪ ،‬والبيضة من الدجاجة‪ ،‬ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن‪.‬‬ ‫{ ِبغَيْرِ حِسَابٍ‪ : }1‬بغير عدد ول حد لواسع فضله وغناه عما سواه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرزق هو كل ما ينتفع به النسان فيطلق على الطعام على اختلفه من حب وتمر ولحم وعلى‬ ‫كل ما يحتاج إليه النسان في حفظ دنيته صالحة للعبادة‪.‬‬

‫( ‪)1/303‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫من المناسبات التي قيلت في نزول هاتين اليتين‪ :‬أن الرسول صلى ال عليه وسلم لما أخبر‬ ‫أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحاديث صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار‬ ‫الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم وكفرهم فأنزل ال تعالى هاتين اليتين ضمن الرد‬ ‫على نصارى نجران فأمره أن يقول‪{ :‬الّلهُمّ‪ 1‬مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَنْ تَشَاءُ‪ }...‬إلخ‪ ..‬أمره أن‬ ‫يقول ذلك ليعطيه ما وعده بن من اتساع ملك أمته حتى تشمل ملك فارس والروم‪ ،‬وليرد على‬ ‫ضلل النصارى في تأليه عيسى عليه السلم‪ ،‬إذ المعبود بحق المستحق للعبادة والتأليه دون سواه‬ ‫من هو مالك الملك كله‪ ،‬ويتصرف فيه وحده يؤتي منه ما يشاء لمن يشاء‪ ،‬وينزع عمن أعطاهم‬ ‫ما شاء ومتى شاء ل يحول دون تصرفه حائل‪ ،‬ول يقف دون إعطائه أو نزعه واقف‪ .‬يعز الذليل‬ ‫متى شاء ويذل العزيز متى شاء‪ ،‬بيده الخير ‪ 2‬ل بيد غيره يُفيضه على من يشاء‪ ،‬ويمنعه عمن‬ ‫يشاء وهو على كل شيء قدير‪ .‬يولج النهار في الليل فل يبقى نهار‪ ،‬ويولج الليل في النهار فل‬ ‫يبقى ليل‪ ،‬مظهر من مظاهر القدرة الموجبة للوهيته وطاعته ومحبته‪ ،‬ويدخل ساعات من الليل‬ ‫في النهار فيقصر الليل ويطول النهار‪ ،‬ويدخل ساعت من النهار في الليل فيطول‪ ،‬مظهر من‬ ‫مظاهر الحكمة والقدرة والرحمة‪ ،‬يخرج الحي من الميت؛ النسان من النطفة‪ ،‬والنبتة من الحبة‪.‬‬ ‫ويخرج الميت من الحي؛ النطفة من النسان الحي‪ ،‬والبيضة من الدجاجة‪ ،‬والكافر من المؤمن‬ ‫الحي‪ ،‬والعكس كذلك‪ ،‬هذه مظاهر ربوبيته المستلزمة للوهيته تفرر أنه الله الحق‪ ،‬ل رب غيره‬ ‫ول إله سواه‪ ،‬وبذلك تأكد أمران‪ :‬الول‪ :‬أن ال قادر على إعطاء رسوله ما وعده لمته‪ ،‬وقد‬ ‫فعل‪ .‬والثاني‪ :‬أن عيسى لم يكن إل عبدا مربوبا ل بالعبودية وشرفه بالرسالة وأيده‪ ،‬بالمعجزات‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل الدعاء ‪ 3‬بهاتين اليتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول‪" :‬رحمن الدنيا والخرة ورحيمهما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي‪ :‬أن النضر بن شميل‪ ،‬قال‪ :‬من قال اللهم فقد دعا ال تعالى بجميع أسماؤه كلها‪،‬‬

‫وقال الحسن البصري‪" :‬اللهم‪ :‬تجمع الدعاء"‪.‬‬ ‫‪ 2‬والشر بيده أيضا‪ ،‬وحذف للتطلب المقام ذلك نحو‪{ :‬سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ الْحَرّ} أي‪ :‬والبرد‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخرج أبو نعيم في الحلية أن معاذا حبس يوما عن صلة الجمعة مع رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم فسأله عما حبسه فقال‪ :‬كان على دين=‬

‫( ‪)1/304‬‬ ‫تعطي منهما من تشاء‪ ،‬وتمنع من تشاء اقض عني الدين‪ ،‬فإنه يقضى بإذن ال تعالى ويعطى إن‬ ‫سأل حاجة له من حوائج الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬استجابة ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم وإنجازه ‪ 1‬ما وعده في أمته‪.‬‬ ‫‪ -3‬بطلن ألوهية عيسى عليه السلم وثبوت عبوديته ورسالته وكرامته‪.‬‬ ‫شيْءٍ إِل‬ ‫خذِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي َ‬ ‫{ل يَتّ ِ‬ ‫خفُوا مَا فِي صُدُو ِركُمْ َأوْ‬ ‫حذّ ُركُمُ اللّهُ َنفْسَ ُه وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ(‪ُ )28‬قلْ إِنْ ُت ْ‬ ‫أَنْ تَ ّتقُوا مِ ْنهُمْ ُتقَاةً وَيُ َ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪َ )29‬يوْمَ تَجِدُ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫تُبْدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّ ُه وَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬ ‫عمَِلتْ مِنْ سُوءٍ َتوَدّ َلوْ أَنّ بَيْ َنهَا وَبَيْنَهُ َأمَدا َبعِيدا‬ ‫حضَرا َومَا َ‬ ‫عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مُ ْ‬ ‫ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬ ‫س ُه وَاللّهُ َرؤُوفٌ بِا ْلعِبَادِ(‪})30‬‬ ‫وَيُحَذّ ُر ُكمُ اللّهُ َنفْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫خذِ} ‪ :‬ل يجعل‪.‬‬ ‫{ل يَتّ ِ‬ ‫{َأوْلِيَاءَ} ‪ :‬جمع ولي يتولونهم بالنصر والمحبة والتأييد‪.‬‬ ‫شيْءٍ‪ : }2‬أي‪ :‬بريء ال تعالى منه‪ ،‬ومن برئ ال منه هلك‪.‬‬ ‫{فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي َ‬ ‫__________‬ ‫= ليحنا اليهودي‪ ،‬فوقف عند بابي يرصدني‪ ،‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬أتحب أن يقضي‬ ‫حسَابٍ} ثم‬ ‫عنك ربك؟" قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬اقرأ كل يوم { ُقلِ الّل ُهمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ} إلى قوله‪ِ { :‬بغَيْرِ ِ‬ ‫قل‪ :‬رحمن الدنيا والخرة ورحيمهما تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء‪ ،‬اقضي عني ديني‪ .‬فلو‬ ‫كان عليك ملء الرض ذهبا لداها عنك" ‪.‬‬ ‫‪ 1‬إذ لم يقبض الرسول صلى ال عليه وسلم حتى دانت الجزيرة كلها بالسلم ولم يمضي ربع‬ ‫قرن حتى بلغ ملك أمته من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق‪ ،‬ومن جملة ذلك دولة فارس والروم‪.‬‬ ‫شيْءٍ}‬ ‫‪ 2‬هذا نحو‪{ :‬واسئل القرية} أي‪ :‬أهل القرية على حذف مضاف كذلك‪{ :‬فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي َ‬ ‫أي‪ :‬ليس في ولية ال وحزبه في شيء‪.‬‬

‫( ‪)1/305‬‬

‫{ ُتقَاةً‪ : }1‬وقاية باللسان وهما الكلمة الملينة للجانب‪ ،‬المبعدة للبغضاء‪.‬‬ ‫حضَرا} ‪ :‬حاضرا يوم القيامة‪.‬‬ ‫{مُ ْ‬ ‫{َأمَدا َبعِيدا} ‪ :‬مدى وغاية بعيدة‪.‬‬ ‫حذّ ُركُمُ اللّهُ َنفْسَهُ} ‪ :‬أي‪ :‬يخوفكم عقابه إن عصيتموه‪.‬‬ ‫{وَيُ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين‪ ،‬أي‪ :‬أعوانا وأنصارا‬ ‫يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين‪ ،‬وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برئ ال‬ ‫تعالى منه‪ ،‬وذلك لكفره وردته‪ ،‬حيث والى أعداء ال وعادى أولياءه‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬ل يَتّخِذِ‬ ‫شيْءٍ} أي‪ :‬برئ‬ ‫ن َومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ فَلَ ْيسَ مِنَ اللّهِ فِي َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ‪ 2‬ا ْل ُمؤْمِنِي َ‬ ‫ال تعالى منه وانقطعت صلته وانبت حبل الولية بينه وبين ال تعالى‪ ،‬ويا هلكه‪ ،‬ثم رخص‬ ‫تعالى للمؤمنين المستضعفين الذين يعيشون تحت سلطان الكافرين في أن يعطوهم حلوة لسانهم‬ ‫دون قلوبهم وأعمالهم ‪ 3‬فيتقون بذلك شرهم وأذاهم‪ ،‬وذلك بكلمة المصانعة والمجاملة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫{إِل أَنْ تَ ّتقُوا مِ ْنهُمْ ُتقَاة‪ }...‬ولما كان أمر البراء والولء ذا خطر عظيم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَ ُيحَذّ ُركُمُ اللّهُ‬ ‫َنفْسَهُ} أي‪ :‬في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد أوليائه وأخبرهم أن المصير إليه ل إلى غيره فليحذر‬ ‫العصاة من وقوفهم بين يدي ال‪ ،‬فقال‪{ :‬وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ}‪.‬‬ ‫هذا ما تمضنته الية الولى(‪ ،)28‬وأما الية الثانية(‪ )29‬فقد أمر تعالى رسوله صلى ال عليه‬ ‫خفُوا مَا فِي صُدُو ِركُمْ‪ }...‬من حب أو بغض‪ ،‬من‬ ‫وسلم أن يقول للناس مؤمنهم وكافرهم {‪ ...‬إِنْ تُ ْ‬ ‫رضى أو سخط فل تنطقوا به ول تظهروه بحال من الحوال‪ ،‬أو أن تظهروه بقول أو عمل أو‬ ‫حال فإنه تعالى يعلمه ويعلم ما في السموات والرض‪ ،‬ويحاسب به ويجزي عليه وهو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس‪" :‬التقاة هي‪ :‬أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬ول يقتل ول يأتي مأثما‪،‬‬ ‫وقرئ‪{ :‬إل أن تتقوا منهم تقية} ‪ ،‬وقالوا في التقية‪ :‬أن يكون المؤمن في دار الكفار قائما بينهم فله‬ ‫أن يداريهم بلسانه إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن باليمان‪ .‬وأصل تقاة‪ :‬وقي على وزن‬ ‫فعلة‪ ،‬كتؤدة‪ ،‬فقلبت الواو تاء وقلبت الياء ألفا فصارت تقاة‪.‬‬ ‫‪{ 2‬مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ ،‬حرف الجر‪{ :‬من} لتأكيد الظرفية‪ ،‬وهو تقييد للنهي في الظاهر فيكون‬ ‫المنهى عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين‪ ،‬وهو المراد من الية‪ ،‬ولذلك صور منها‪ :‬أن‬ ‫يتخذ المسلم أو المسلمون جماعة الكفر أولياء لهم ميلً إلى كفرهم ومناوئة للمسلمين وهذه كفر بل‬ ‫خلف‪ ،‬ومنها أن يوالي الكفار لجل الضرار بالمسلمين‪ ،‬وهذه كالولى‪ ،‬ومنها‪ :‬ما أذن فيها‪،‬‬ ‫وهي التقية‪.‬‬

‫‪ 3‬روى البخاري أن النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنا لنكشر في أقوام وقلوبنا تلعنهم" يريد‬ ‫المنافقين‪ .‬والتكشير‪ :‬كالبتسام إل أنه متكلف فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/306‬‬ ‫على كل شيء قدير‪ .‬أل فليراقب ال العاقل وليتقه‪ ،‬فل يقدم على معاصيه‪ ،‬وخاصة موالة أعدائه‬ ‫جدُ ُكلّ َنفْسٍ ‪ }...‬ففيها يذكر تعالى عباده بيوم القيامة‬ ‫على أوليائه‪ .‬وأما الية الثالثة(‪َ { )30‬يوْمَ تَ ِ‬ ‫ليقصروا عن الشر ويرعووا من الظلم والفساد فيقول أذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير‬ ‫محضرا‪ ،‬أي‪ :‬حاضرا تجزى به‪ ،‬وما عملت من سوء وشر حاضرا أيضا ويسوءها مرآة فتود‬ ‫بكل قلبها لو أن بينها وبينه غاية من المسافة ل تدرك وينهي تعالى تذكيره وإرشاده سبحانه‬ ‫حذّ ُركُمُ اللّهُ َنفْسَهُ} مؤكدا التحذير الول به‪ ،‬ويختم الية بقوله‪{ :‬وَاللّهُ َرؤُوفٌ‬ ‫وتعالى بقوله‪{ :‬وَيُ َ‬ ‫بِا ْلعِبَادِ} ‪ ،‬ونعم ما ختم به إذ لوله لطارت قلوب العالمين فزعا وخوفا فذو الرأفة بعباده ول يوأس‬ ‫من رحمته‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة موالة الكافرين ‪ 1‬مطلقا‪.‬‬ ‫‪ -2‬موالة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز التقية في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين ‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الحذر من عذاب ال تعالى وذلك بطاعته تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬خطورة الموقف يوم القيامة ووجوب الستعداد له باليمان والتقوى‪.‬‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‪ُ )31‬قلْ َأطِيعُوا‬ ‫{ ُقلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي يُحْبِ ْب ُكمُ اللّ ُه وَ َي ْغفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُمْ وَاللّهُ َ‬ ‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ(‪})32‬‬ ‫اللّ َه وَالرّسُولَ فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّ اللّ َه ل ُي ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ُتحِبّونَ اللّهَ} ‪ :‬لكمال ذاته وإنعامه عليكم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬وإن لم يكن فيها ضرر للمسلمين‪ ،‬وما أذن فيه للتقية فإنه مؤقت ول يجوز الستمرار فيه‬ ‫إل حال العجز عن الهجرة خشية أن يولد للمسلم أولد فيوالون الكافرين‪ ،‬وهم ل يعلمون أن ما‬ ‫كان عليه آباؤهم كان تقية لغير‪.‬‬

‫( ‪)1/307‬‬

‫{ ُيحْبِ ْبكُمُ اللّهُ} ‪ :‬لطاعتكم إياه وطهارة أرواحكم بتقواه‪.‬‬ ‫{وَ َي ْغفِرْ َل ُكمْ ذُنُو َبكُمْ} ‪ :‬يسترها عليكم ول يؤاخذكم بها‪.‬‬ ‫{فَإِنْ َتوَّلوْا} ‪ :‬أعرضوا عن اليمان والطاعة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما ادعى وفد نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولمه إنما هو من باب طلب حب‬ ‫‪ 1‬ال تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم‪ ،‬أمر ال تعالى رسوله محمد صلى ال عليه وسلم في‬ ‫هذه الية أن يقول لهم‪ :‬إن كنتم تحبون ال تعالى ليحبكم فاتبعوني على ما جئت به من التوحيد‬ ‫والعبادة يحببكم ال تعالى‪ ،‬ويغفر لكم ذنوبكم أيضا وهو الغفور الرحيم‪ .‬وبهذا أبطل دعواهم في‬ ‫أنهم ما ألهوا المسيح عليه السلم إل طلبا لحب ال تعالى والحصول عليه‪ .‬وأرشدهم إلى أمثل‬ ‫طريق على حب ‪ 2‬ال تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من اليمان والتوحيد والعبادة‬ ‫المزكية بالروح المورثة لحب ال تعالى وهذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)31‬وأما الية الثانية(‪)32‬‬ ‫فقد أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته‬ ‫وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال والسعاد في الدنيا والخرة‪ .‬فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد‬ ‫باءوا بغضب ال وسخطه عليهم؛ لنهم كافرون وال ل يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ‬ ‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ} ‪.‬‬ ‫أَطِيعُوا اللّ َه وَالرّسُولَ فَإِنْ َتوَلّوْا فَإِنّ اللّهَ ل يُ ِ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬محبة العبد للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬أحبوا ال تعالى‬ ‫لما يغذوكم به من النعم وأحبوني بحب ‪ 3‬ال تعالى" ‪ ،‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل يؤمن‬ ‫أحدكم حتى يكون ال ورسوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحب‪ :‬المحبة‪ ،‬والحب بالكسر‪ :‬كالحب‪ ،‬والحب أيضا‪ :‬المحبوب‪ ،‬ومنه الثر‪ :‬أسامة حب‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وابن حبه‪ :‬أي‪ :‬زيد مولى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وورد‬ ‫حبه يحب ولم يأت اسم الفاعل منه‪ :‬حاب كما لم يأت اسم المفعول من أحب محب وإنما أتى‬ ‫محبوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬أن ال إذا أحب عبدا دعا‬ ‫جبريل فقال‪ :‬إني أحب فلنا فأحبه‪ .‬قال‪ :‬فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول‪ :‬إن ال يحب‬ ‫فلنا فأحبوه‪ .‬فيحبه أهل السماء ‪ ،‬قال‪ :‬ثم يوضع له القبول في الرض‪ ،‬وإذا أبغض عبدا دعا‬ ‫جبريل فيقول‪ :‬إني أبغض فلنا فأبغضه‪ .‬قال‪ :‬فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن ال‬ ‫يبغض فلنا فأبغضوه‪ .‬قال‪ :‬فيبغضونه‪ ،‬ثم توضع له البغضاء في الرض" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحب‪ :‬الميل إلى ما في إدراكه لذة روحية؛ كحب ال ورسوله وحب ما يحب ال ورسوله‪،‬‬

‫ويستلزم الحب طاعة المحبوب‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫تعصي الله وأنت تظهر حبه ‪ ...‬هذا لعمري في القياس بديع‬ ‫لو كان حبك صادقا لعطته ‪...‬‬ ‫إن المحب لمن يحب مطيع‬

‫( ‪)1/308‬‬ ‫أحب إليه مما سواهما"‪.‬‬ ‫‪ -2‬محبة ال تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة‪.‬‬ ‫‪ -3‬طريق الحصول على محبة ال تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى ال عليه وسلم باليمان‬ ‫بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره‪ ،‬للية‪ُ { :‬قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي‬ ‫يُحْبِ ْبكُمُ اللّهُ} إذ ليس الشأن أن يحُب العبد‪ ،‬وإنما الشأن أن يُحبّ!‪.‬‬ ‫‪ -4‬دعوى محبة ال ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر ل محالة‪.‬‬ ‫ضهَا مِنْ‬ ‫عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )33‬ذُرّيّةً َب ْع ُ‬ ‫طفَى آدَمَ‪ 1‬وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِي َم وَآلَ ِ‬ ‫صَ‬ ‫{ إِنّ اللّهَ ا ْ‬ ‫عمْرَانَ َربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَ َتقَبّلْ‬ ‫علِيمٌ(‪ )34‬إِذْ قَاَلتِ امْرََأتُ ِ‬ ‫سمِيعٌ َ‬ ‫َب ْعضٍ وَاللّهُ َ‬ ‫ض َعتْ‬ ‫ضعْ ُتهَا أُنْثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا َو َ‬ ‫ضعَ ْتهَا قَاَلتْ َربّ إِنّي َو َ‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ(‪ )35‬فََلمّا َو َ‬ ‫مِنّي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬ ‫ك وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ(‪ )36‬فَ َتقَبَّلهَا‬ ‫سمّيْ ُتهَا مَرْيَمَ وَإِنّي أُعِيذُهَا ِب َ‬ ‫وَلَيْسَ ال ّذكَرُ كَالُنْثَى وَإِنّي َ‬ ‫ب وَجَدَ عِنْدَهَا‬ ‫خلَ عَلَ ْيهَا َزكَرِيّا ا ْلمِحْرَا َ‬ ‫ن وَأَنْبَ َتهَا نَبَاتا حَسَنا َوكَفَّلهَا َزكَرِيّا كُّلمَا َد َ‬ ‫حسَ ٍ‬ ‫رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ َ‬ ‫حسَابٍ(‪})37‬‬ ‫رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى َلكِ َهذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫طفَى آدَمَ} ‪ :‬اختار وآدم هو أبو البشر عليه السلم‪.‬‬ ‫{اصْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اصطفاء آدم كان بالوحي إليه وبإكرام له بأن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملئكته‬ ‫واصطفاء نوح بإرساله وجعله أبا للبشر بعد الطوفان‪ ،‬وبإطالة عمره وأهلك الظالمين بدعوته‪،‬‬ ‫وآل إبراهيم بأن جعل النبوة بعد إبراهيم فيهم وختمهم بمحمد صلى ال عليه وسلم فخرهم وسيد‬ ‫أولهم وآخرهم‪ .‬واصطفى آل عمران ومنهم‪ :‬حنا ومريم‪ ،‬وعيسى اصطفاهم بكلمات لم تكن لحد‬ ‫في أيامهم سواهم‪.‬‬

‫( ‪)1/309‬‬

‫{َآلَ إِبْرَاهِيمَ} ‪ :‬آل الرجل‪ :‬أهله واتباعه على دينه الحق‪.‬‬ ‫عمْرَانَ} ‪ :‬رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل في عهدهم الخير‪ :‬هو زوج حنة وأبو مريم‬ ‫{ِ‬ ‫عليهم السلم‪.‬‬ ‫{ا ْلعَاَلمِينَ} ‪ :‬هم الناس المعاصرون لهم‪.‬‬ ‫عمْرَانَ} ‪ :‬حنة ‪.1‬‬ ‫امْرََأتُ ِ‬ ‫{ َنذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي َبطْنِي} ‪ :‬ألزمت نفسها أن تجعله ل يعبده ويخدم بيته الذي هو بيت المقدس‪.‬‬ ‫{مُحَرّرا‪ : }2‬خالصا ل شركة فيه لحد غير ال بحيث ل تنتفع به أبدا‪.‬‬ ‫{مَرْيَمَ} ‪ :‬خادمة الرب تعالى‪.‬‬ ‫{إِنّي أُعِي ُذهَا} ‪ :‬أحصنها وأحفظها بجنابك من الشيطان‪.‬‬ ‫{ َو َكفَّلهَا َزكَرِيّا} ‪ :‬زكريا أبو يحي عليهما السلم وكانت امرأته أختا لحنة‪.‬‬ ‫{ا ْل ِمحْرَابَ} ‪ :‬مقصورة ملصقة للمسجد‪.‬‬ ‫{أَنّى َلكِ َهذَا}؟ ‪ :‬من أين لك هذا‪ ،‬أي من أين جاءك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ادعى نصارى وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليه السلم من تأليهه وتأليه أمه أنزل ال‬ ‫تعالى هذه اليات يبين فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم‬ ‫ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر‬ ‫أنهم ذرية ‪ 3‬بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم‪ ،‬ولم تتباين فضائلهم وكمالتهم الروحية‪ ،‬وذلك‬ ‫لحفظ ال تعالى لهم وعنايته بهم‪ .‬وأخبر تعالى أنه سميع عليم‪ ،‬أي سميع لقول امرأة عمران عليم‬ ‫بحالها لما قالت‪َ ...{ :‬ربّ إِنّي َنذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي َبطْنِي ُمحَرّرا‪ }..‬وذلك أنها كانت ل تلد‪ ،‬فرأت‬ ‫في حديقة منزلها طائرا يطعم أفراخه فحنت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولدا وتجعله له‬ ‫يعبده ويخدم بيته‪ ،‬فاستجاب ال تعالى لها فحملت ومات زوجها وهي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هي حنة بنت ماقودة‪ ،‬مات زوجها وهي حبلى‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي خالصا لعبادة ال ل تبقي بها أنسا لها ول خدمة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذرية‪ :‬منصوب على الحال في الية الكريمة‪ ،‬ولفظ ذرية يطلق على الواحد‪ ،‬وعلى الجمع‪،‬‬ ‫ويطلق على الولد والوالد‪ ،‬وهو مشتق من الذرء الذي هو الخلق‪ ،‬فذرأ بمعنى خلق‪.‬‬

‫( ‪)1/310‬‬ ‫عمْرَانَ َربّ إِنّي َنذَ ْرتُ‪َ 1‬لكَ مَا‬ ‫حبلى‪ ،‬وقالت ما قص ال تعالى عنها في قوله‪ِ{ :‬إذْ قَاَلتِ امْرََأتُ ِ‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ} ‪ ،‬وحان وقت الولدة فولدت ولكن أنثى ل‬ ‫فِي َبطْنِي مُحَرّرا فَ َتقَ ّبلْ مِنّي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ‬

‫ضعَتْ} وكيف ل يعلم وهو‬ ‫ضعْتُهَا أُنْثَى وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا َو َ‬ ‫ذكرا فتحسرت لذلك‪ ،‬وقالت‪َ { :‬ربّ إِنّي َو َ‬ ‫الخلق العليم‪ .‬وقالت‪ ..{ :‬وَلَيْسَ ال ّذكَرُ كَالُنْثَى‪ }..‬في باب الخدمة في بيت المقدس‪ ،‬فلذا هي آسفة‬ ‫جدا‪ ،‬وأسمت مولودتها‪ :‬مريم‪ ،‬أي خادمة ال‪ ،‬وسألت ربها أن يحفظها وذريتها من الشيطان‬ ‫الرجيم‪ ،‬واستجاب ال تعالى لها‪ ،‬فحفظها وحفظ ‪ 2‬ولدها عيسى عليه السلم‪ ،‬فلم يقربه شيطان‬ ‫قط‪ .‬وتقبل ‪ 3‬ال تعالى ما نذرته له وهو مريم‪ ،‬فأنبتها نباتا حسنا فكانت تنمو نماء عجيبا على‬ ‫خلف ا لمواليد‪ ،‬وكفلها زكريا فتربت في بيت خالتها وذلك أن حنة لما وضعتها أرضعتها ولفتها‬ ‫في قماطها وبعثت بها إلى صلحاء بني إسرائيل يسندونها إلى من يرون تربيتها في بيته‪ ،‬لن أمها‬ ‫نذرتها ل تعالى‪ ،‬فل يصح منها أن تبقيها في بيتها ووالدها مات أيضا‪ ،‬فأحب كل واحد أن يكفلها‬ ‫فكفلها زكريا وأصبحت في بيت خالتها ‪ 4‬بتدبير ال تعالى لها‪ ،‬ولما كبرت أدخلها المحراب لتتعبد‬ ‫فيه‪ ،‬وكان يأتيها بطعامها‪ ،‬فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء‪ ،‬وفاكهة الشتاء في الصيف‪،‬‬ ‫فيعجب لذلك ويسألها قائلً‪{ :‬يَا مَرْيَمُ أَنّى َلكِ هَذَا} ؟ فتجيبه قائلة‪ُ { :‬هوَ مِنْ عِنْدِ‪ 5‬اللّهِ} وتعلل لذلك‬ ‫فتقول‪{ :‬إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان إفضال ال تعالى وإنعامه على من يشاء‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن عيسى عليه السلم ليس بابن ال ول هو ال‪ ،‬ول ثالث ثلثة‪ ،‬بل هو عبد ال ورسوله‬ ‫أمه مريم‪ ،‬وجدته حنة‪ ،‬وجده عمران‪ ،‬من بيت شرف وصلح في بني إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ -3‬استجابة ال تعالى لدعاء أولياؤه كما استجاب لحنة ورزقها الولد وأعاذ بنتها وولدها من‬ ‫الشيطان الرجيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جريا على سنتهم في نذر أولدهم الذكور لخدمة بيت المقدس‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ما من مولود يولد إل‬ ‫نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إل ابن مريم وأمه‪ ،‬ثم قال أبو هريرة‪ :‬اقرأوا‬ ‫إن شئتم‪{ :‬وَإِنّي أُعِيذُهَا ِبكَ وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ}" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬رضيعها منها وقبلها كالشيء يهدى للكريم فيقبله ويثيب عليه‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى عن ابن عباس أن زكريا استأجر لها بئرا فأرضعتها حولين كاملين‪.‬‬ ‫‪ 5‬تريد أنه يحصل لها بغير طريقة السباب المعروفة وإنما يوضع بين يديها كرامة لها وال هو‬ ‫الرازق لها سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/311‬‬

‫‪ -4‬مشروعية ‪ 1‬النذر ل تعالى وهو التزام المؤمن الطاعة تقربا إلى ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان فضل الذكر على النثى في باب النهوض بالعمال والواجبات‪.‬‬ ‫‪ -6‬جواز التحسر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذي كان يأمله‪.‬‬ ‫‪ -7‬ثبوت كرامات الولياء كما تم لمريم في محرابها‪.‬‬ ‫‪ -8‬تقرير نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذ مثل هذه القصص ل يتأتى لمي أن يقصه إل أن‬ ‫يكون رسولً يوحى إليه‪ .‬ولهذا ختمه بقوله‪{ :‬ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ} ‪.‬‬ ‫سمِيعُ الدّعَاءِ(‪ )38‬فَنَادَتْهُ‬ ‫{هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ قَالَ َربّ َهبْ لِي مِنْ َلدُ ْنكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِ ّنكَ َ‬ ‫ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّ ُركَ بِ َيحْيَى ُمصَدّقا ِبكَِلمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّدا‬ ‫حصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ(‪ )39‬قَالَ َربّ أَنّى َيكُونُ لِي غُل ٌم َوقَدْ بََلغَ ِنيَ ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ‬ ‫وَ َ‬ ‫ج َعلْ لِي آ َيةً قَالَ آيَ ُتكَ أَل ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلثَةَ أَيّامٍ إِل‬ ‫قَالَ َكذَِلكَ اللّهُ َيفْ َعلُ مَا يَشَاءُ(‪ )40‬قَالَ َربّ ا ْ‬ ‫ي وَالِ ْبكَارِ}‬ ‫شّ‬ ‫َرمْزا وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ كَثِيرا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{هُنَاِلكَ} ‪ :‬ثم عندما ‪ 2‬رأى كرامة ال لمريم عليها السلم‪.‬‬ ‫{ َزكَرِيّا} ‪ :‬أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم‪.‬‬ ‫{ َهبْ لِي} ‪ :‬أعطني‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي‪ :‬أن ولدا قال لمه‪ :‬يا أمة ذريني ل أتعبد له وأتعلم العلم له‪ .‬فقالت‪ :‬نعم‪ .‬فسار‬ ‫يتعبد ويطلب العلم فلما كمل في علمه وحاله آتاها فطرق الباب‪ .‬فقالت‪ :‬من؟ فقال‪ :‬ابنك فلن‪،‬‬ ‫فقالت‪ :‬قد تركتك ل فل نعود فيك‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬في ذلك المكان‪ ،‬وهو المحراب‪ .‬تنبه إلى الدعاء لما شاهد من خوارق العادات فدعا طالبا‬ ‫الولد فاستجاب ال تعالى له‪ ،‬ول يقال‪ :‬كيف يأخذ الرسول على من دونه ومن امرأة بالذات؟ فإن‬ ‫الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها‪ ،‬وأهل الكمال من الناس يعتبرون دائما بما يرون‬ ‫ويسمعون‪.‬‬

‫( ‪)1/312‬‬ ‫{مِنْ َلدُ ْنكَ} ‪ :‬من عندك‪.‬‬ ‫{ذُرّيّةً طَيّبَةً} ‪ :‬أولدا أطهارا صالحين‪.‬‬ ‫{ ِبكَِلمَةٍ مِنَ اللّهِ} ‪ :‬هي‪ :‬عيسى عليه السلم؛ لنها كان بكلمة ال تعالى‪" :‬كن"‪.‬‬ ‫حصُورا‪ : }2‬شريفا ذا علم وحلم‪ ،‬ول رغبة له في النساء لقلة مائه‪.‬‬ ‫{وَسَيّدا‪َ 1‬و َ‬ ‫{غُلمٌ} ‪ :‬ولد ذكر‪.‬‬

‫{عَاقِرٌ‪ : }3‬عقيم ل تلد لعقهما وعقرها‪.‬‬ ‫{آيَةً} ‪ :‬علمة أستدل بها على بداية الحمل لشكر نعمتك‪.‬‬ ‫{إِل َرمْزا} ‪ :‬إلى إشارة بالرأس أو باليد يفهم منها ما يفهم من الكلم‪.‬‬ ‫{َالِ ْبكَارِ} ‪ :‬أول النهار‪ ،‬والعشي‪ :‬آخره‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما شاهد زكريا من كرامات ال لمريم أنها تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في‬ ‫الصيف‪ ،‬ذكر أن ال تعالى قد يعطي ما شاء لمن يشاء على غير نظام السنن الكونية‪ ،‬فكبر سنه‬ ‫وعقم امرأته ل يمنعان أن يعطيه ال تعالى ولدا‪ ،‬فسأل ربه الولد فاستجاب ‪ 4‬له ربه فبشرته‬ ‫الملئكة بالولد وهو قائم يصلي في محرابه قائلة‪ :‬أن ال يبشرك بولد اسمه يحي ‪ 5‬مصدقا بكلمة‬ ‫من ال يريد أنه يصدق بعيسى بن مريم ويكون على نهجه‪ ،‬لن عيسى هو الكلمة إذا قال بقول‬ ‫تعالى له‪" :‬كن" فكان‪ ،‬ووصفه بأنه سيد ذو علم وحلم وتقى وحصور ل يأتي ‪ 6‬النساء‪ ،‬ونبي من‬ ‫الصالحين‪ ،‬فلما سمع البشارة من الملئكة جاءه الشيطان وقال له‪ :‬إن الذي سمعته من البشرى هو‬ ‫من الشيطان ولو كان من الرحمن لوحاه إليك وحيا‪ ،‬وهنا أراد زكريا أن يتثبت من الخبر فقال‪{ :‬‬ ‫َربّ أَنّى َيكُونُ لِي غُل ٌم َوقَدْ بََلغَ ِنيَ ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السيد في عرف الشرع‪ :‬من يقوم بإصلح حال الناس في دنياهم وآخراهم معا‪ ،‬وشاهده قوله‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬أنا سيد ولد آدم ول فخر" وقوله في الحسن‪" :‬إن ابني هذا سيد" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال المفسرون في الحصور أقوالً كثيرة‪ :‬أمثلها أنه كان معصوما من الفواحش والقاذورات‪،‬‬ ‫وغير مانعة ذلك من تزويج النساء الحلل وغشيانهم وإيلدهن‪ ،‬إذ يفهم من دعاء زكريا المتقدم‬ ‫أنه يكون له أولد طيبون صالحون‪.‬‬ ‫‪ 3‬مأخود من عقرت المرأة رحمها‪ ،‬أي‪ :‬قطعتها فلم تحبل ولم تلد‪ ،‬وهو وصف خاص بالنساء‪،‬‬ ‫فلذا يقال‪ :‬عاقر ول يلبس‪ ،‬إذ ل يوجد في الرجال عاقر حتى يفرق بينهما بالتاء‪.‬‬ ‫‪ 4‬الفاء في قوله تعالى‪{ :‬فَنَادَتْهُ ا ْلمَل ِئكَةُ} هي للترتيب‪ ،‬أي‪ :‬فور دعاؤه استجاب ال تعالى له‪،‬‬ ‫وفيها معنى السببية أيضا‪ :‬أي‪ :‬بسبب دعاؤه أعطاه وال على ما يشاء قدير‪.‬‬ ‫‪ 5‬يحي‪ :‬معرب يوحنا بالعبرانية نطق بها العرب على صيغة المضارع‪.‬‬ ‫‪ 6‬هذا قول الجمهور وقد تقدم في النهر ما هو أمثل ما قيل في الحصور مراعاة لكمال النبياء‬ ‫وعلو مقاماتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/313‬‬

‫عَاقِرٌ} فأوحى إليه‪ :‬أن هذا فعل ال وال يفعل ما يشاء‪ .‬وهنا قال زكريا‪ :‬رب اجعل لي آية يريد‬ ‫علمة يستدل بها على وجود الحمل ليستقبل النعمة بالشكر فأجابه ربه قائلً‪{ :‬آيَ ُتكَ أَل ُتكَلّمَ النّاسَ‬ ‫ثَلثَةَ أَيّامٍ} يريد أنك تصبح وأنت عاجز عن الكلم لمدة ثلثة أيام‪ ،‬فل تقدر أن تخاطب أحدا إل‬ ‫بالشارة وهي الرمز فيفهم عنك‪ ،‬وأمره تعالى أن يقابل هذا النعام بالشكر التام فقال له‪{ :‬وَا ْذكُرْ‪1‬‬ ‫رَ ّبكَ كَثِيرا وَسَبّحْ} يريد صل بالعشي آخر النهار والبكار أوله‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬العتبار بالغير‪ ،‬إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة ال تعالى لمريم‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية الدعاء وكونه سرا أقرب إلى الجابة‪ ،‬وكونه في الصلة كذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز تلبيس إبليس على المؤمن‪ ،‬ولكن ال تعالى يذهب كيده ووسوسته‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز سؤال الولد الصالح‪.‬‬ ‫‪ -5‬كرامات ال تعالى لولياؤه –استجابة دعاؤهم‪.‬‬ ‫‪ -6‬فضل الكثار من الذكر‪ ،‬وفضيلة صلتي الصبح والعصر وفي الحديث‪" :‬من صلى البردين‬ ‫دخل الجنة" ‪.‬‬ ‫علَى ِنسَاءِ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )42‬يَا مَرْيَمُ‬ ‫طفَاكِ َ‬ ‫ك وَاصْ َ‬ ‫طهّ َر ِ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫طفَا ِ‬ ‫{وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَل ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬ ‫جدِي وَا ْركَعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ(‪ )43‬ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ ِإلَ ْيكَ َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ‬ ‫اقْنُتِي لِرَ ّبكِ وَاسْ ُ‬ ‫صمُونَ(‪})44‬‬ ‫إِذْ يُ ْلقُونَ َأقْل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يَخْ َت ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى عن كعب القرظي قوله‪ :‬لو رخص لحد في ترك الذكر لرخص لزكريا إذ جعل له آية‬ ‫الولد له أل يكلم الناس ثلثة أيام إلرمزا‪ ،‬ولم يعفه من الذكر بل أمره بقوله‪{ :‬وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ كَثِيرا‬ ‫ي وَالِ ْبكَارِ} ولرخص للرجل في الحرب‪ ،‬إ ذ قال تعالى‪{ :‬إِذَا َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَا ْذكُرُوا‬ ‫شّ‬ ‫وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ‬ ‫اللّهَ كَثِيرا}‪.‬‬

‫( ‪)1/314‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَل ِئكَةُ} ‪ :‬اذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملئكة فإن ذلك دليل على صحة‬ ‫نبوتك‪ ،‬وصدقك في أمر التوحيد‪ ،‬وعدم ألوهية عيسى‪.‬‬ ‫طفَاكِ} ‪ :‬اختارك لعبادته وحسن طاعته‪.‬‬ ‫{اصْ َ‬ ‫طهّ َركِ} ‪ :‬من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولية ل تعالى‪.‬‬ ‫{وَ َ‬ ‫طفَاكِ عَلَى ِنسَاءِ ا ْلعَاَلمِينَ‪ : }1‬أي فضلك على نساء العالمين بما أهلك له من كرامة ولدة‬ ‫{وَاصْ َ‬

‫عيسى من غير أب‪.‬‬ ‫{اقْنُتِي ‪ : }2‬أطيعي ربك وأقنتي له واخشعي‪.‬‬ ‫{وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ} ‪ :‬اشهدي صلة الجماعة في بيت المقدس‪.‬‬ ‫{ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ} ‪ :‬أي ما ذكرت من قصة مريم وزكريا من أخبار الغيب‪.‬‬ ‫{َلدَ ْيهِمْ} ‪ :‬عندهم وبينهم‪.‬‬ ‫{ِإذْ يُ ْلقُونَ َأقْل َمهُمْ‪ : }3‬جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاءها لجل القتراع بها على كفالة مريم‪.‬‬ ‫صمُونَ} ‪ :‬في شأن كفالة مريم عليها و عليهم السلم‪.‬‬ ‫{ َيخْ َت ِ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقول تعالى لنبيه اذكر لوفد نجران الذين يحاجونك في ألوهية المسيح‪ ،‬إذ قالت الملئكة مخاطبة‬ ‫مريم أم المسيح بما أهلها ال تعالى له وأكرمها به من اصطفاء ‪ 4‬ال تعالى لها لتكون من صالحي‬ ‫عباده‪ ،‬وتطهيره إياها من سائر الذنوب والنقائص والعيوب مفضلً على نساء عالمها حيث برأها‬ ‫وأكرمها وأظهر آية قدرته فيها فولدت عيسى بكلمة ال وليس على سنته‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل في سبب لقبها بالصدّيقة‪ ،‬أنها لم تسأل الية عندما بشرت بالولد كما سألها زكريا عليه‬ ‫السلم‪ ،‬وأثنى عليها تعالى بقوله‪َ { :‬وصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى عن الوزاعي أنه قال‪ :‬لما أمر تعالى مريم بالقنوت قامت في الصلة حتى ورمت‬ ‫قدماها‪ ،‬وسألت دما وقبحا‪.‬‬ ‫‪ 3‬ألقوها في نهر الردن‪ ،‬وهو نهر جار وأفادت هذه الية مشروعية القرعة وأنها وإن كانت في‬ ‫شرع من قبلنا إل أنها شرعت لنا على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ كان صلى ال‬ ‫عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وكذا حديث‪" :‬لو يعلم‬ ‫الناس ما في النداء والصف الول ثم لم يجدوا إل أن يستهموا عليه لستهموا" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬اختلف في نبوة النساء‪ ،‬ورجح كثيرون نبوة مريم لخطاب الملئكة لها وإخبارهم باصطفاء ال‬ ‫تعالى لها وهذا يرجح نبوتها‪ .‬أما الرسالة فل لن الرسالة تتطلب التصال بالرجال‪ ،‬وهذا بتنافى‬ ‫مع كمال النساء وما خلقن له من الستر والحجاب‪.‬‬

‫( ‪)1/315‬‬ ‫تعالى في تناسل البشر من ذكر وأنثى‪ ،‬وأمرها بمواصلة الطاعة والخبات والخشوع ل تعالى‬ ‫طفَاكِ عَلَى نِسَاءِ ا ْلعَاَلمِينَ‪ ،‬يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَ ّبكِ‬ ‫ك وَاصْ َ‬ ‫طهّ َر ِ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫طفَا ِ‬ ‫فقال‪{ :‬يَا مَرْ َيمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬ ‫جدِي ‪ 1‬وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ‪ ، }2‬وخص الصلة بالذكر لهميتها وذكرها بأعظم أركانها وهو‬ ‫وَاسْ ُ‬ ‫السجود والركوع وفي بيت المقدس مع الراكعين‪.‬‬

‫هذا معنى اليتين الولى(‪ )42‬والثانية(‪ ،)42‬أما الية الثالثة(‪ )44‬فقد خاطب الرب تبارك وتعالى‬ ‫رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم مشيرا إلى ما سبق في هذا القصص المتعلق بآل عمران حنة‬ ‫ومريم وزكريا ويحي‪ ،‬ومريم أخيرا بأنه كله من أنباء الغيب‪ ،‬وإخباره يوحيه تعالى إليه فهو بذلك‬ ‫نبيه ورسوله‪ ،‬وما جاء به من الدين هو الحق‪ ،‬وما عداه فهو باطل‪ ،‬وبذلك تقرر مبدأ التوحيد‪،‬‬ ‫وأنه ل إله إل ال‪ ،‬وبطل باطل أهل الكتاب فل عزير ابن ال‪ ،‬ول المسيح ابن ال‪ ،‬ول هو إله مع‬ ‫ال‪ ،‬وإنما هو عبد ال ورسول ال‪ .‬ثم تقريرا لمبدأ الوحي وتأكيدا له قال تعالى لرسوله أيضا‪ ،‬وما‬ ‫كنت لديهم أي عند علماء بني إسرائيل وصلحائهم وفي حضرتهم‪ ،‬وهم يقترعون على النذيرة‪:‬‬ ‫"مريم" من يكفلها فرموا بأقلمهم في النهر فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن ال‪ ،‬فالقوا‬ ‫أقلمهم تلك القلم التي كانت تكتب الحق والهدى ل الباطل والضلل كما هي أغلب أقلم أرباب‬ ‫الصحف والمجلت اليوم‪ ،‬فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها ‪ 3‬بإذن ال تعالى وقد تقدم قول ال‬ ‫تعالى‪ :‬فكفلها زكريا‪ ،‬بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا‬ ‫رسول ال‪ ،‬وأن الدين الحق هو السلم وما عداه فباطل وضلل!‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل مريم عليها السلم وأنها ولية صديقة‪ ،‬وقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أنه من كمل‬ ‫النساء ففي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قدم السجود على الركوع في الذكر وإن كان مؤخرا في الفعل؛ لنه ألصق بالشكر والمقام مقام‬ ‫شكر‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه دليل على صلة المرأة في الجماعة‪ ،‬وقد سن ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم في مثل‬ ‫قوله‪" :‬ل تمنعوا إماء ال مساجد ال" وإن كان قوله {وَا ْر َكعُوا َمعَ الرّا ِكعِينَ} ل يستلزم الصلة في‬ ‫جماعة إذ هو أمر بالركوع فقد تركع وحدها أو مع غيرها‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال القرطبي دلت هذه الية‪َ { :‬و َكفَّلهَا َزكَرِيّا} على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات‬ ‫ما عدا الجدة‪ .‬وقد قضى رسول ال صلى ال عليه وسلم في ابنة حمزة "أمة ال" لجعفر لن‬ ‫خالتها كانت تحته‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنما الخالة بمنزلة الم" ‪.‬‬

‫( ‪)1/316‬‬ ‫الصحيح‪" :‬كمل من الرجال كثير‪ ،‬ولم يكمل النساء ‪ 1‬إل آسيا امرأة فرعون‪ ،‬ومريم بنت عمران‪،‬‬ ‫وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" ‪.‬‬ ‫‪ -2‬أهل القرب من ال هم أهل طاعته القانتون له‪.‬‬

‫‪ -3‬الصلة سلم العروج إلى الملكوت العلى‪.‬‬ ‫‪ -4‬ثبوت الوحي المحمدي وتقريره‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعة القتراع عند الختلف وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إل أنها مقررة في‬ ‫شرعنا والحمد ال‪.‬‬ ‫سمُهُ ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَ َم َوجِيها فِي الدّنْيَا‬ ‫{ِإذْ قَاَلتِ ا ْلمَل ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُ َبشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مِنْهُ ا ْ‬ ‫ل َومِنَ الصّالِحِينَ(‪ )46‬قَاَلتْ‪َ 2‬ربّ أَنّى‬ ‫وَالخِ َرةِ َومِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ(‪ )45‬وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْدِ َوكَهْ ً‬ ‫َيكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ َكذَِلكِ اللّهُ َيخُْلقُ مَا يَشَاءُ إِذَا َقضَى َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ‬ ‫فَ َيكُونُ(‪})47‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يُبَشّ ُركِ} ‪ :‬يخبرك بخبر سار مفرح لك‪.‬‬ ‫{ ِبكَِلمَةٍ مِ ْنهُ‪ : }3‬هو المسيح عليه السلم وسمي كلمة لنه كان بكلمة ال تعالى‪{ :‬كن}‬ ‫{ا ْلمَسِيحُ‪ : }4‬لقب عيسى عليه السلم ومن معانيه الصديق‪.‬‬ ‫الوجيه ‪ :‬ذو الجاه والقدر والشرف بين الناس‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وفي رواية أخرى‪" :‬خير نساء العالمين أربع‪ :‬مريم بنت عمران‪ ،‬وآسيا امرأة فرعون‪ ،‬وخديجة‬ ‫بنت خويلد‪ ،‬وفاطمة بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذهب القرطبي إلى أن كلمة‪ :‬رب‪ ،‬تعني سيدي‪ ،‬أي‪ :‬جبريل‪ ،‬وهو خطأ واضح بل المراد به‬ ‫الرب تبارك وتعالى‪ ،‬فهي تخاطب ربها طالبة معرفة سبب الولد‪ ،‬إذ السباب المعتادة لم تكن‪،‬‬ ‫فكيف يكون الولد؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬المراد بكلمة‪ :‬هو‪ ،‬كلمة التكوين‪ ،‬ووصف عيسى بكلمة‪ ،‬مراد به‪ :‬كلمة خاصة‪ ،‬وهي كلمة‪:‬‬ ‫{كن}‪.‬‬ ‫‪ 4‬اختلف في سبب تلقيب عيسى بالمسيح‪ ،‬والمشهور أنه لقب تشريف؛ كالفاروق مثلً‪ ،‬أو الملك‪،‬‬ ‫أو الصديق‪ ،‬وأما عيسى فهو‪ :‬معرب‪ ،‬أيشوع‪ ،‬ومعناه السيد‪ ،‬وهل المسيح مشتق من المسح؟ وهل‬ ‫هو بمعنى الماسح‪ ،‬أو الممسوح خلف‪.‬‬

‫( ‪)1/317‬‬ ‫{فِي ا ْل َمهْدِ} ‪ :‬المهد‪ :‬مضجع الصبي وهو رضيع‪.‬‬ ‫{ َو َكهْلً} ‪ :‬الكهولة‪ :‬سن ما بين الشباب والشيخوخة‪.‬‬ ‫{وَلَمْ َي ْمسَسْنِي بَشَرٌ} ‪ :‬تريد لم يقربها ذكر ل للوقاع ول لغيره‪ ،‬وذلك لعقمها وبعدها عن الرجال‬ ‫الجانب‪.‬‬

‫{ َقضَى َأمْرا} ‪ :‬أراده وحكم بوجوده‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في حِجَاج وفد نصارى نجران إذ قال ال تعالى لرسوله واذكر ‪ 1‬لهم‪ِ{ :‬إذْ‬ ‫قَاَلتِ ا ْلمَل ِئكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُ َبشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مِنْهُ} الية‪ ،‬حيث أخبرتها الملئكة‪ ،‬أي‪ :‬جبريل عليه‬ ‫السلم بأن ال تعالى يبشرها بولد يكون بكلمة ال تعالى اسمه المسيح عيسى بن مريم‪ ،‬وأنه ذو‬ ‫جاه وشرف في الدنيا وفي الخرة ومن المقربين‪ ،‬وأنه يكلم الناس وهو في مهده وقت رضاعه‪،‬‬ ‫كما يكلمهم في شبابه وكهولته ‪ ،2‬وأنه من الصالحين الذين يؤدون حقوق ال تعالى وحقوق عباده‬ ‫وافية غير منقوصة‪ ،‬فردت مريم قائلة‪َ { :‬ربّ أَنّى َيكُونُ لِي وَلَدٌ} أي‪ :‬كيف يكون لي ولد ولم‬ ‫يغشني بشر بجماع وسنة ال في خلق الولد الغشيان‪ .‬فأجابها جبريل قائلً‪ :‬المر هكذا سيخلق ال‬ ‫تعالى منك ولدا من غير أب‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء‪ ،‬وإذا حكم بوجود شيء من غير‬ ‫ذوات السباب فإنما يقول له‪{ :‬كن} فهو يكون‪ ،‬كما قضى ال تعالى وأراد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان شرف مريم وكرامتها على ربها إذا كلمها جبريل وبشرها بعد أن تمثل لها بشرا‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان شرف عيسى عليه السلم ووجاهته في الدنيا والخرة وأنه من المقربين والصالحين‪.‬‬ ‫‪ -3‬تكلم عيسى في المهد ‪ 3‬آي من آيات ال تعالى حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان‬ ‫رضاعه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ الظرفية هنا بدل من نظيراتها السابقة‪ ،‬وهي معمولة لفعل محذوف‪ ،‬أي‪ :‬أذكر‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر الكهولة هنا تطمين لمه أنه ل يموت صغيرا وتكليمه في الكهولة يكون بعد نزوله من‬ ‫السماء؛ لنه عليه السلم رفع مع نهاية سن الشباب‪ ،‬وهو ثلث وثلثون سنة ل غير‪.‬‬ ‫‪ 3‬لقد تكلم في المهد غير واحد‪ ،‬منهم شاهد يوسف‪ ،‬وصاحب جريج‪ ،‬وكلم عيسى في المهد هو‬ ‫قوله‪{ :‬إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ} الية في سورة مريم‪.‬‬

‫( ‪)1/318‬‬ ‫‪ -4‬جواز طلب الستفسار ‪ 1‬عما يكون مخالفا للعادة لمعرفة سر ذلك أو علته أو حكمته‪.‬‬ ‫ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَا َة وَالِنْجِيلَ(‪ )48‬وَرَسُولً إِلَى بَنِي ِإسْرائيلَ أَنّي قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مِنْ‬ ‫ب وَالْ ِ‬ ‫{وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَا َ‬ ‫ل ْكمَهَ‬ ‫ئاَ‬ ‫رَ ّبكُمْ أَنّي َأخْلُقُ َل ُكمْ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَ ْنفُخُ فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللّ ِه وَأُبْ ِر ُ‬ ‫ك ليَةً َل ُكمْ‬ ‫ص وَأُحْيِي ا ْل َموْتَى بِِإذْنِ اللّ ِه وَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا تَ ْأكُلُونَ َومَا َتدّخِرُونَ فِي بُيُو ِتكُمْ إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫وَالَبْرَ َ‬ ‫حلّ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُ ْم وَجِئْ ُت ُكمْ‬ ‫إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪َ )49‬و ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ ال ّتوْرَا ِة َولُ ِ‬

‫بِآيَةٍ مِنْ رَ ّبكُمْ فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ(‪ )50‬إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ َهذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ(‪})51‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬الخط والكتابة‪.‬‬ ‫ح ْكمَةَ} ‪ :‬العلم الصحيح والصابة في المور وفهم أسرار التشريع اللهي‪.‬‬ ‫{وَالْ ِ‬ ‫{وَرَسُولً} ‪ :‬أي وابعثه رسولً‪.‬‬ ‫آية ‪ :‬علمة دالة على رسالته وصدق نبوته‪.‬‬ ‫{َأخْلُقُ َلكُمْ} ‪ :‬أي أصور لكم‪ ،‬ل الخلق الذي هو النشاء والختراع إذ ذاك ل تعالى‪.‬‬ ‫{ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ‪ : }2‬كصورة الطير‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا من قولها‪َ { :‬ربّ أَنّى َيكُونُ لِي وََلدٌ} الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬اليهود هم الذين طلبوا أن يخلق لهم خفاشا؛ لنه أعجب من سائر الخلق‪ ،‬ومن عجائبه أنه‬ ‫لحم ودم يطير بغير ريش‪ ،‬ويلد كما يلد الحيوان ول يبيض كما يبيض سائر الطيور وله لبن‬ ‫يرضع به أولده ويضحك كما يضحك النسان ويحيض كما تحيض المرأة‪ ،‬ول يبصر في ضوء‬ ‫النهار‪ ،‬ول في ظلمة الليل وإنما يبصر في ساعين؛ بعد غروب الشمس ساعة‪ ،‬وبعد طلوع الفجر‬ ‫ساعة‪.‬‬

‫( ‪)1/319‬‬ ‫ل ْكمَهَ} ‪ :‬الذي ولد أعمى‪.‬‬ ‫{ا َ‬ ‫البرص ‪ :‬ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث‪ ،‬والبرص‪ :‬بياض‬ ‫يصيب الجلد البشري‪.‬‬ ‫{ َتدّخِرُونَ} ‪ :‬تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره‪.‬‬ ‫{ِلمَا بَيْنَ َي َديّ} ‪ :‬من قبلي‪.‬‬ ‫{إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ} ‪ :‬إلهي وإلهكم فاعبدوه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان حقيقة عيسى عليه السلم‪ ،‬وأنه عبد ال ورسوله وليس بابن ال ول بإله‬ ‫مع ال فأخبر تعالى أنه يخلقه بكلمة كن ويعلمه الكتاب والنجيل والتوراة والنجيل‪ ،‬وقد فعل‪،‬‬ ‫وأ‪،‬ه يبعثه رسولً إلى بني إسرائيل وقد فعل فأخبرهم عيسى أنه قد جاءهم بآية من ربهم تدل على‬ ‫صدق رسالته وهذه الية ‪ 1‬هي أنه يخلق لهم من الطين على صور الطير وينفخ فيها فتكون طيرا‬ ‫بإذن ال‪ ،‬و أنه يبرئ الكمه والبرص ويحي الموتى بإذن ال‪ ،‬وفعلً كان يمسح على ذي العاهة‬ ‫المستعصاة كالبرص فيبرأ صاحبها فورا‪ ،‬وطلبوا منه أن يحي لهم سام بن نوح ‪ 2‬فأحياه بإذن ال‪،‬‬

‫وأنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون‪ ،‬فما يخطئ أبدا‪ ،‬ثم قال لهم‪ :‬إن في ذلك المذكور‬ ‫لية لكم دالة على صدقي إن كنتم مؤمنين فآمنوا بي ول تكذبوني وقد جئتكم مصدقا لما بين يدي‬ ‫من التوراة‪ ،‬ولحل لكم بعض الذي حرم ‪ 3‬عليكم‪ ،‬وفي ذلكم خير لكم ورحمة فآمنوا بي‪ ،‬فكذبوه‬ ‫فقال لهم‪ :‬اتقوا ال وأطيعوني تنجوا وتسعدوا وأعلمهم أخيرا أن ال تعالى هو ربه وربهم وأن‬ ‫عليهم أن يعبدوه ليكلموا ويسعدوا وأن عبادة ال تعالى وحده وبما شرع هي الصراط المستقيم‬ ‫المفضي بالسالكين إلى الكمال والسعاد في الحياتين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله تعالى‪َ { :‬وجِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَ ّبكُمْ} وحد آية وهي آيات لنها جنس كنعمة بمعنى جنس النعم‪،‬‬ ‫خلُقُ َل ُكمْ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ‬ ‫والمراد من الية ما تقدم في قوله‪{ :‬أَنّي قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَ ّبكُمْ أَنّي أَ ْ‬ ‫الطّيْر} إلخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى أنه أحيا لهم أربعة وهم‪ :‬سام بن نوح‪ ،‬والعاذر‪ ،‬وكان صديقا له‪ .‬وابن العجوز‪ ،‬وابنة‬ ‫العاشر‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو ما حرمه ال عليهم على عهد موسى من أكل الشحوم ونحوها‪ ،‬أما ما كان محرما أصلً‬ ‫لضرورة فل يحله لهم ذلك؛ كالسرقة والقتل والزنا والربا‪ ،‬فإنه ل يحله لهم أبدا‪.‬‬

‫( ‪)1/320‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬شرف الكتابة وفضلها‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الحكمة ‪ 1‬وهي الفقه في أسرار الشرع والصابة في المور‪.‬‬ ‫‪ -3‬الغيب ل‪ ،‬ويعلم أنبياءه منه ما يشاء‪.‬‬ ‫‪ -4‬ثبوت معجزات عيسى عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬ل إله إل ال‪ ،‬ومحمد رسول ال‪ ،‬وعيسى كلمة ال وروح منه ورسول إلى بني إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ -6‬المر بالتقوى وطاعة الرسول لتوقف السعادة والكمال عليهما‪.‬‬ ‫حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ‬ ‫{فََلمّا َأحَسّ عِيسَى مِ ْنهُمُ ا ْلكُفْرَ قَالَ مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ‬ ‫ت وَاتّ َبعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ(‪َ )53‬و َمكَرُوا‬ ‫شهَدْ بِأَنّا ُمسِْلمُونَ(‪ )52‬رَبّنَا آمَنّا ِبمَا أَنْزَ ْل َ‬ ‫وَا ْ‬ ‫طهّ ُركَ مِنَ‬ ‫ي َومُ َ‬ ‫َو َمكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ(‪ )54‬إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنّي مُ َت َوفّيكَ وَرَا ِف ُعكَ إَِل ّ‬ ‫حكُمُ بَيْ َن ُكمْ‬ ‫ج ُعكُمْ فَأَ ْ‬ ‫علُ الّذِينَ اتّ َبعُوكَ َفوْقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ُثمّ إَِليّ مَرْ ِ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُوا وَجَا ِ‬ ‫عذّ ُبهُمْ عَذَابا شَدِيدا فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َومَا َلهُمْ مِنْ‬ ‫فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ َتخْتَِلفُونَ(‪ )55‬فََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا فَأُ َ‬ ‫عمِلُوا‬ ‫نَاصِرِينَ(‪ )56‬وََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬

‫__________‬ ‫ح ْكمَةَ َفقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا} وقول‬ ‫ل قول ال تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُي ْؤتَ الْ ِ‬ ‫‪ 1‬يكفي الحكمة شرفا وفض ً‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬ورجل أتاه ال الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" ‪.‬‬

‫( ‪)1/321‬‬ ‫ت وَال ّذكْرِ‬ ‫حبّ الظّاِلمِينَ(‪ )57‬ذَِلكَ نَتْلُوهُ عَلَ ْيكَ مِنَ الْآيا ِ‬ ‫الصّالِحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُ ْم وَاللّهُ ل ُي ِ‬ ‫حكِيمِ(‪})58‬‬ ‫الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َأحَسّ‪ 1‬عِيسَى مِ ْن ُهمُ ا ْل ُكفْرَ} ‪ :‬علم منهم الكفر به وبما جاء به‪ ،‬وهمهم بأذيته‪.‬‬ ‫حوَارِيّونَ‪ : }2‬جمع حواري‪ ،‬والمراد بهم أصفياؤه وأصحابه‪.‬‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫{مُسِْلمُونَ} ‪ :‬منقادون لمر ال ورسوله مطيعون‪.‬‬ ‫{الشّاهِدِينَ} ‪ :‬الذين يشهدون أن ل إله إل ال‪ ،‬ويعبدونه بما يجب أن يعبد به‪.‬‬ ‫مكروا ‪ :‬دبروا القتل للمسيح عليه السلم‪.‬‬ ‫{ َو َمكَرَ اللّهُ} ‪ :‬دبر تعالى لنجائه وخيبهم فيما عزموا عليه‪.‬‬ ‫{خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ} ‪ :‬أحسن المدبرين لنقاذ أوليائه وإهلك أعدائه‪.‬‬ ‫{مُ َت َوفّيكَ} ‪ :‬متمم لك ما كتب لك من أيام بقاءك مع قومك‪.‬‬ ‫{وَرَا ِف ُعكَ إَِليّ} ‪ :‬إلي جواري في الملكوت العلى‪.‬‬ ‫طهّ ُركَ} ‪ :‬منزهك ومبعدك من رجسهم وكفرهم‪.‬‬ ‫{ َومُ َ‬ ‫علَ ْيكَ} ‪ :‬ذلك المذكور من أمر عيسى نقرؤه عليك من جملة آيات القرآن الحكيم‪.‬‬ ‫{ذَِلكَ نَتْلُوهُ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الحجاج مع وفد نصارى نجران فذكر تعالى من شأنه أنه لما علم عيسى‬ ‫بكفر قومه وهمهم بقتله غيلة استصرخ المؤمنين قائلً‪{ :‬مَنْ أَ ْنصَارِي ‪ِ 3‬إلَى اللّهِ} فأجابه‬ ‫الحواريون وهم أصفياؤه وأحباؤه قائلين‪َ { :‬نحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ} آمنا بال واشهد يا روح ال بأنا‬ ‫ت وَاتّ َبعْنَا الرّسُولَ‪ 4‬فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ} لك بالوحدانية‬ ‫مسلمون‪ { :‬رَبّنَا آمَنّا ِبمَا أَنْزَ ْل َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أحس بالشيء‪ :‬عرفه وعلمه بواسطة الحاسة والحواس‪ :‬السمع والبصر واللسان والبدن والشم‪،‬‬ ‫والحساس‪ :‬العلم بالشيء‪ ،‬والحس‪ :‬القتل يقال حسه إذا قتله‪.‬‬ ‫‪ 2‬كانوا اثني عشر رجلً‪ ،‬وسمى الناصر للنبي حواريا لبياض قلبه وصفاء روحه‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫"لكل نبي حواري وجواري الزبير "‪ ،‬والحور لغة‪ :‬البياض‪ ،‬والحواري‪ :‬الخبز البيض‪.‬‬ ‫‪ 3‬هل (إلى) هنا بمعنى مع‪ ،‬أي ‪ :‬من أنصاري مع ال نظيره‪{ :‬وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ}‬

‫أي‪ :‬مع أموالكم‪ ،‬أو هي على بابها‪ ،‬ويكون الكلم "من أنصاري" في الطريق إلى ال؟‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬عيسى عليه السلم‪.‬‬

‫( ‪)1/322‬‬ ‫ولرسلك بالرسالة‪ .‬قال تعالى‪ :‬ونفذ اليهود مكرهم في محاصرتهم لمنزل عيسى ليأخذوه ويصلبوه‪،‬‬ ‫ومكر ال تعالى وهو خير الماكرين إذ قال لعبده ورسوله عيسى‪{ :‬إِنّي مُ َت َوفّيكَ} أي‪ :‬قابضك‬ ‫ورافعك إلى جواري‪ ،‬فقبضه تعالى فأخرجه من روزنة ‪ 1‬المنزل ورفعه ‪ 2‬إليه وألقى الشبه على‬ ‫رئيس شرطة المهاجمين فظنوه هو المسيح فقتلوه وصلبوه فسبحان المدبر الحكيم‪ ،‬وهكذا‪:‬‬ ‫طهّ ُركَ مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا} يريد منزهه‬ ‫{ َو َمكَرُوا َو َمكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ‪ ، }3‬وقوله له‪َ { :‬و ُم َ‬ ‫من تهم اليهود الباطلة‪ ،‬إذ قالوا ساحر وابن زنا‪ ،‬ومبعده من ساحة مجتمعهم الذي تعفن بكفرهم‬ ‫والخبث والشر والفساد وواعده بأنه سيجعل الذين اتبعوه فيما جاء به من اليمان والسلم‬ ‫والحسان فوق الذين كفروا بذلك إلى يوم القيامة وقد أنجز ال تعالى وعده فأعز أهل السلم‬ ‫ونصرهم‪ ،‬وأزل اليهود والكفار وأخزاهم‪ .‬كما واعده أيضا أن يرد الجميع إليه يوم القيامة ويحكم‬ ‫بينهم فيما اختلفوا فيه في الدنيا من اليمان والكفر‪ ،‬والصلح والفساد ويجزي كل فريق بما كسب‬ ‫حكُمُ بَيْ َن ُكمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ‪ ،‬فََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا‬ ‫ج ُعكُمْ فَأَ ْ‬ ‫من خير أو شر فقال‪ { :‬ثُمّ إَِليّ مَرْ ِ‬ ‫شدِيدا} في الدنيا بالقتل والسباء والذلة والمسكنة‪ ،‬وفي الخرة بعذاب النار‪ ،‬وما لهم‬ ‫عذَابا َ‬ ‫فَأُعَذّ ُبهُمْ َ‬ ‫من ناصرين يخلصهم من عذابنا‪ ،‬وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجور إيمانهم‬ ‫وصالح أعمالهم في الدنيا نصرا وتمكينا وفي الخرة جنات ونعيما‪ ،‬وال عز وجل ل يحب‬ ‫الظالمين فكيف يظلم عباده إذ جزاهم بأعمالهم؟ إنه ل يظلم أحدا من عباده مؤمنهم وكافرهم مثقال‬ ‫ذرة بل يجزي بعدله ويرحم بفضله‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قيام الحجة على نصارى نجران‪ ،‬إذ أخبرهم الرسول صلى ال عليه وسلم بالوحي فقرر به‬ ‫بطلن ألوهية عيسى عليه السلم بذكر أوصافه وأحواله مع قومه‪ ،‬وكرامة ال تعالى له‪ ،‬ولتباعه‬ ‫معه ومن بعده في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الروزنة‪ :‬الكوة في السقف أو الجدار‪.‬‬ ‫‪ 2‬لم أر داعيا إلى استشكال الكثيرين رفع عيسى حيا إلى الملكوت العلى وإبقاءه هناك إلى أن‬ ‫ينزله في آخر أيام هذه الدنيا‪ ،‬حيث صرح رسول ال صلى ال عليه وسلم بنزول عيسى بما ل‬ ‫مجال للشك فيه‪ ،‬إن السنن الكونية خلقها ال تعالى فهو قدير على تبديل ما شاء منها أليس ال‬

‫على كل شيء قديرا؟ بلى‪ .‬فلم إذا يرتبك المؤمنون في شأن رفع عيسى حيا وإبقائه في دار السلم‬ ‫حيا حتى ينزل في آخر الدنيا؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬ورد أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول في دعائه‪" :‬اللهم امكر لي ول تمكر عليّ " ومما‬ ‫يجب أن يعلم أن أفعال ال ل تشبه أفعال العباد لن ذاته ل تشبه ذواتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/323‬‬ ‫‪ -2‬السلم دين النبياء وسائر المم البشرية ول دين ‪ 1‬حق غيره فكل دين غيره باطل‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير حديث الرسول صلى ال عليه وسلم في أن لكل نبي حواريين ‪ 2‬وأنصارا‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل أهل ل إله إل ال إذ هم شاهدون بالحق والناطقون به‪.‬‬ ‫‪ -5‬تقرير قبض ال تعالى لعيسى ورفعه إليه حيا‪ .‬ونزوله في آخر الدنيا ليحكم زمنا ثم ليموت‬ ‫الموتة التي كتب ال على كل إنسان‪ ،‬فلم يجمع ال تعالى له بين موتتين‪ .‬هذا دليل أنه رفع إلى‬ ‫السماء حيا ل ميتا‪.‬‬ ‫‪ -6‬صادق وعد ال تعالى بعزة أهل السلم‪ ،‬وذلة اليهود على مدى الحياة‪.‬‬ ‫{إِنّ مَ َثلَ عِيسَى عِ ْندَ اللّهِ َكمَ َثلِ آدَمَ خََلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ َلهُ كُنْ فَ َيكُونُ(‪ )59‬ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ فَل‬ ‫جكَ فِيهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ فَ ُقلْ َتعَاَلوْا نَ ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَا َء ُكمْ‬ ‫َتكُنْ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ(‪َ )60‬فمَنْ حَا ّ‬ ‫ج َعلْ َلعْ َنتَ اللّهِ عَلَى ا ْلكَاذِبِينَ(‪ )61‬إِنّ َهذَا َل ُهوَ‬ ‫س ُكمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَنَ ْ‬ ‫وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وَأَنْفُ َ‬ ‫حكِيمُ(‪ )62‬فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ‬ ‫ق َومَا مِنْ إَِلهٍ إِل اللّ ُه وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫ا ْل َقصَصُ ا ْلحَ ّ‬ ‫بِا ْل ُمفْسِدِينَ(‪})63‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المثل ‪ : 3‬الصفة المستغربة البديعة‪.‬‬ ‫{ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ} ‪ :‬أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى ‪ 4‬هو الحق الثابت من ربك‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدم شاهده في قوله تعالى‪{ :‬إِنّ الدّينَ عِنْدَ اللّ ِه الِسْلمُ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬تقدم الحديث أنفا‪ ،‬وهو حديث صحيح‪.‬‬ ‫‪ 3‬المماثلة الحاصلة بين آدم وعيسى عليهما السلم في شيء واحد وهو‪ :‬أن كل منهما خلق من‬ ‫غير أب وخلق بكلمة التكوين وهي‪{ :‬كن}‪.‬‬ ‫‪ 4‬وهو أن ال تعالى أرسل جبريل عليه السلم فنفخ في كم درع مريم فسرت النفخة فيها فحملت‬ ‫بعيسى وولدته في ساعة من نهار‪ ،‬وتكلم بعد وضعها له‪ ،‬وطمأن والدته وأرشدها إلى ما تقوله‬ ‫لمن يتصدى لها يعيبها‪ .‬وحاصله أنه كان بكلمة التكوين وهي‪{ :‬كن} كما كان آدم بها فل أب له‬ ‫ول أم‪.‬‬

‫( ‪)1/324‬‬ ‫{ا ْل ُممْتَرِينَ} ‪ :‬الشاكين‪ ،‬إذ المتراء‪ :‬الشك‪.‬‬ ‫جكَ} ‪ :‬جادلك بالحجج‪.‬‬ ‫{حَا ّ‬ ‫{نَبْ َت ِهلْ} ‪ :‬نلتعن أي‪ :‬نلعن الكاذب منا‪.‬‬ ‫حقّ} ‪ :‬ما قصه ال تعالى هو القصص الحق الثابت الذي ل شك فيه‪.‬‬ ‫صصُ الْ َ‬ ‫{ا ْل َق َ‬ ‫المفسدون ‪ :‬الذين يعملون بمعاصي ال تعالى في الرض من الشرك وكبائر الذنوب‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في تقرير عبودية عيسى ورسالته دون ربوبيته وألوهيته‪ ،‬فقد روي أن وفد‬ ‫نجران قالوا للرسول صلى ال عليه وسلم فيما قالوا‪ :‬كل آدمي له أب فما شأن عيسى ل أب له؟‬ ‫فأنزل ال تعالى على رسوله‪{ :‬إِنّ مَ َثلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ َكمَ َثلِ آدَمَ خََلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ}‬ ‫فإذا هو كائن‪ ،‬فأي داع لتخاذ عيسى إلها‪ ،‬ألكونه خلقه ال من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب‬ ‫ول أم‪ ،‬وإنما كان بكلمة ال‪ ،‬فكذلك عيسى خلق بكلمة ال التي هي‪{ :‬كُنْ} فكان‪ ،‬هذا هو الحق‬ ‫الثابت من ال تعالى في شأن عيسى عليه السلم فل تكونن من الشاكين فيه‪ ،‬وحاشاه صلى ال‬ ‫عليه وسلم أن يشك ‪ 1‬ولما أكثروا عليه صلى ال عليه وسلم من التردد والمجادلة أرشده ربه‬ ‫تعالى إلى طريق التخلص منهم وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق‪ :‬اللهم العن الكاذب‬ ‫منا‪ ،‬ومن كان كاذبا منهم يهلك على الفور‪ ،‬فقال له ربه تعالى‪ :‬فإن حاجوك { َف ُقلْ‪َ :‬تعَاَلوْا} "هلموا"‬ ‫ج َعلْ َلعْ َنتَ اللّهِ عَلَى ا ْلكَاذِبِينَ}‬ ‫سكُمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَ َن ْ‬ ‫{ َن ْدعُ أَبْنَاءَنَا ‪ 2‬وَأَبْنَا َء ُك ْم وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وَأَ ْنفُ َ‬ ‫وخرج في الغد رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي ال عنهم ‪3‬‬ ‫أجمعين إل أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لعنوا هلكوا فهربوا ‪ 4‬من الملعنة‪ ،‬ودعاهم‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم إلى السلم فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم‬ ‫ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل‪ .‬ثم قال تعالى‪{ :‬إِنّ‬ ‫حقّ} فالذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلم‪ ،‬وأنه عبد ال‬ ‫صصُ‪ 5‬الْ َ‬ ‫هَذَا َل ُهوَ ا ْلقَ َ‬ ‫ورسوله وكلمته‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أن الخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى ال عليه وسلم فإن المراد غيره من سائر الناس‬ ‫الذين يتأتى لهم الشك‪ ،‬أما هو فإنه المعصوم مما هو أقل من الشك الذي هو كفر‪.‬‬ ‫‪ 2‬في هذا دليل على أن أبناء البنات يطلق عليهم أبناء فيسمون بذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬أنه قال لهم‪ ،‬أي‪ :‬لعلي وفاطمة والحسن والحسين‪" :‬إن أنا دعوت فأمنوا" ‪ ،‬أي‪ :‬قولوا بعدي‬ ‫آمين‪.‬‬

‫‪ 4‬في هروب نصارى نجران "وهم علماء" من الملعنة دليل قاطع على أن محمدا صلى ال عليه‬ ‫وسلم رسول ال وأن دينه هو الدين الحق وما عداه باطل‪.‬‬ ‫‪ 5‬القصص‪ :‬اسم لما يقص‪ ،‬وهو الخبار بما فيه طول وتفصيل‪ ،‬مشتق من قص الثر‪ ،‬إذا تتبعه‪.‬‬

‫( ‪)1/325‬‬ ‫ألقاها إلى مريم وروح منه‪ ،‬وأنه ل إله إل ال‪ ،‬أي‪ :‬ل معبود بحق إل هو تعالى‪ ،‬وأن ال لهو‬ ‫العزيز الغالب الذي ل يمانع في شيء أراده‪ ،‬الحكيم في خلقه وتدبيره ثم توعد نصارى نجران‬ ‫وغيرهم من أهل الفساد في الرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم‪ ،‬وينزل لعنته عليهم وهو‬ ‫على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ولية ال تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريقة التي أنهى بها جدال النصارى الذي ألمه وأتعبه‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير ألوهية ال تعالى دون سواه وبطلن دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬تهديد ال تعالى لهل الفساد في الرض وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫سوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ أَل َنعْبُدَ إِل اللّ َه وَل ُنشْ ِركَ بِهِ شَيْئا وَل يَتّخِذَ‬ ‫{ ُقلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْا إِلَى كَِلمَةٍ َ‬ ‫شهَدُوا بِأَنّا مُسِْلمُونَ(‪ )64‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ‬ ‫َب ْعضُنَا َبعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ َتوَلّوْا َفقُولُوا ا ْ‬ ‫تُحَاجّونَ فِي إِبْرَاهِي َم َومَا أُنْزَِلتِ ال ّتوْرَا ُة وَالِنْجِيلُ إِل مِنْ َب ْع ِدهِ َأفَل َت ْعقِلُونَ(‪ )65‬هَا أَنْ ُتمْ َهؤُلءِ‬ ‫حَاجَجْ ُتمْ فِيمَا َلكُمْ ِبهِ عِلْمٌ فَِلمَ تُحَاجّونَ فِيمَا لَيْسَ َلكُمْ بِهِ عِ ْل ٌم وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ ل َتعَْلمُونَ(‪ )66‬مَا كَانَ‬ ‫إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفا مُسْلِما َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪ )67‬إِنّ َأوْلَى النّاسِ‬ ‫ي وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪})68‬‬ ‫بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُو ُه وَهَذَا النّ ِب ّ‬

‫( ‪)1/326‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬اليهود والنصارى لن اليهود عندهم التوراة‪ ،‬والنصارى عندهم النجيل‪.‬‬ ‫سوَاءٍ‪ : }1‬الكلمة السواء‪ :‬هي العادلة وهي أن نعبد ال وحده ل شريك له ول يتخذ‬ ‫{إِلَى كَِلمَةٍ َ‬ ‫بعضنا بعضا أربابا من دون ال‪.‬‬ ‫{أَرْبَابا‪ : }2‬الرباب‪ :‬جمع رب‪ ،‬وهو المألوه المطاع بغير طاعة ال تعالى‪.‬‬ ‫{فَإِنْ َتوَّلوْا} ‪ :‬أعرضوا عن التوحيد‪.‬‬

‫شهَدُوا} ‪ :‬اعلموا علم رؤيا ومشاهدة بأنا مسلمون‪.‬‬ ‫{ا ْ‬ ‫{ ُتحَاجّونَ} ‪ :‬تجادلون بحجج ‪ 3‬باطلة‪.‬‬ ‫{ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا} ‪ :‬لم يكن إبراهيم على ملة اليهود‪ ،‬ول على ملة النصارى‪.‬‬ ‫سلِما} ‪ :‬مائلً عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي السلم‪.‬‬ ‫{كَانَ حَنِيفا مُ ْ‬ ‫{َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} ‪ :‬أحق بالنسبة إلى إبراهيم وموالته الذين اتبعوه على التوحيد‪.‬‬ ‫{وَاللّهُ وَلِيّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ :‬متولي أمرهم وناصرهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في إبطال باطل أهل الكتابين إذا قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود‬ ‫ونصارى تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها إلى كلمة سواء كلمة عدل نصف‬ ‫بيننا وهي أن نعبد ال وحده ل نشرك به سواه وأن ل يتخذ بعضنا ‪ 4‬بعضا أربابا من دون ال‬ ‫فيفرض طاعته على غيره ‪ 5‬ويلزمه بالسجود له تعظيما وتقديسا فإن أبوا عليك ذلك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كلمة‪ :‬سوىً‪ ،‬وسوى‪ ،‬وسواء‪ :‬بمعنى واحد إلى أن السين إذا فتحت مدت‪.‬‬ ‫‪ 2‬نظيرها قوله تعالى‪{ :‬اتّخَذُوا َأحْبَارَ ُه ْم وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّهِ} معناه‪ :‬أنهم أنزلوهم منزلة‬ ‫ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه ال ولم يحلله‪ ،‬وسجدوا لهم أيضا‪.‬‬ ‫‪ 3‬المجادلة بالتي هي أحسن والقائمة على أساس العلم الصحيح ممدوحة غير مذمومة‪ ،‬وهذه‬ ‫صورة لها‪ :‬أتى رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول ال‪ :‬إن امرأتي ولدت‬ ‫غلما أسود‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬هل لك من إبل؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ما لونها؟‬ ‫قال‪ :‬حمر‪ .‬قال‪ :‬هل فيها من أورق؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فمن أين ذلك؟ قال‪ :‬لعل عرقا نزعه‪ .‬فقال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬لعل عرقا نزعه"‪.‬‬ ‫‪ 4‬وقد راسل النبي صلى ال عليه وسلم ملوك الروم بمضمون هذه الية‪ ،‬إذ كتب إلى هرقل قائلً‪:‬‬ ‫"بسم ال الرحمن الرحيم من محمد رسول ال إلى هرقل عظيم الروم‪ ،‬سلم على من اتبع الهدى‪،‬‬ ‫أما بعد‪ :‬فإني أدعوك بدعاية السلم‪ .‬أسلم تسلم يؤتك ال أجرك مرتين‪ ،‬وإن توليت فإن عليك اثم‬ ‫سوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ} ‪ ..‬إلى‬ ‫الريسيين (الكارين) (وهم الفلحون) {يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْا إِلَى كَِلمَةٍ َ‬ ‫قوله {مسلمون} "‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 5‬وذلك بأن يحرم عليه ما أحل ال ويحل له ما حرم ال ويلزمه بقبول ذلك والذعان له‪.‬‬

‫( ‪)1/327‬‬ ‫وتولوا عنه فقولوا أيها المؤمنون‪ :‬اشهدوا أيها المتولون عن الحق بأنا مسلمون‪ .‬وفي هذا تعريض‬ ‫بل تصريح بأن غيرهم ليسوا مسلمين‪.‬‬

‫هذا معنى الية الولى(‪ )64‬أما الية الثانية(‪ )65‬فيأمر تعالى رسوله أيضا أن يقول للمتولين عن‬ ‫الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان على‬ ‫دينها مع أن اليهودية ما كانت إل بعد نزول التوراة‪ ،‬والنصرانية ما كانت إل بعد نزول النجيل‪،‬‬ ‫وإبراهيم كان قبل نزول الكنابين بمائات السنين‪ ،‬مالكم تقولون بما ل يقبل ول يعقل أفل تعقلون؟‬ ‫ثم وبخهم بما هم أهله قائلً لهم‪ :‬اسمعوا يا هؤلء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم‬ ‫وكتابكم فلم تجادلون فيما ليس لكم به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مبدأ‬ ‫التوحيد وإخلص العبادة ل وحده‪ ،‬وال يعلم من شأن إبراهيم ودينه ما ل تعلمون أننتم فليس من‬ ‫حقكم القول فيما ل تعلمونه‪ .‬ثم أكذبهم بعد أن وبخهم فقال‪ { :‬مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَل َنصْرَانِيّا}‬ ‫وإنما كان حنيفا موحدا مطيعا لربه مسلما له ولم يكن من المشركين‪ .‬وبعد أن وبخ تعالى‬ ‫المجادلين لرسوله وكذبهم في دعواهم أن إبراهيم على دينهم قرر حقيقة كبرى ينبغي أن يعلموها‬ ‫ويقروا بها وهي أن أحق ‪ 1‬الناس بالنسبة لبراهيم والنتماء إليه هم الذين اتبعوه على ملة التوحيد‬ ‫وعبادة ال تعالى بما شرع وهذا النبي الكريم العظيم محمد صلى ال عليه وسلم والذين آمنوا معه‬ ‫واتبعوا الهدى الذي جاء به‪ ،‬وال تعالى ولي المؤمنين‪ ،‬وعدو الكافرين والمشركين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يصلح حال البشرية ول يستقيم أمرها إل إذا أخذت بمبدأ‪ :‬الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها‬ ‫وحده ل تشرك به سواه‪ ،‬وأل يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار‪.‬‬ ‫‪ -2‬حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه‪ ،‬إذ رد ال تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم‬ ‫كان على دينهم بأن التوراة والنجيل لم ينزل إل بعد وفاته فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أن ابن عباس قال‪" :‬قال رؤساء اليهود‪ :‬وال يا محمد لقد علمت إنا أولى الناس بدين‬ ‫إبراهيم منك ومن غيرك فإنه كان يهوديا وما بك إل الحسد فأنزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬ما كان‬ ‫إبراهيم يهوديا‪- ...‬إلى قوله ‪ -:‬وال ولي المؤمنين}‪.‬‬

‫( ‪)1/328‬‬ ‫‪ -3‬ذم من يجادل ‪ 1‬فيما ل علم له به‪ ،‬ول شأن له فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬اليهودية كالنصرانية لم تكن دين ال تعالى‪ ،‬وإنما هما بدعتان ل غير‪.‬‬ ‫‪ -5‬المؤمنون بعضهم أولياء بعض وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم وال ولي المؤمنين‪.‬‬ ‫شعُرُونَ(‪ )69‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‬ ‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬ ‫{وَ ّدتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ ُيضِلّو َنكُ ْم َومَا ُيضِلّونَ إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫حقّ‬ ‫طلِ وَ َتكْتُمُونَ الْ َ‬ ‫شهَدُونَ(‪ )70‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ‬ ‫لِمَ َت ْكفُرُونَ بآيَاتِ اللّ ِه وَأَنْتُمْ َت ْ‬

‫وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ(‪})71‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَ ّدتْ طَا ِئفَةٌ‪ : }2‬أحبت فرقة وهم الحبار والرؤساء فيهم‪.‬‬ ‫{َلوْ ُيضِلّو َنكُمْ‪ : }3‬أي‪ :‬تمنوا إيقاعكم في الضلل لتشقوا وتهلكوا مثلهم‪.‬‬ ‫شعُرُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬وما يدرون ول يعلمون بأنهم بمحاولة إضلل المؤمنين إنما هم يضلون‬ ‫{ َومَا يَ ْ‬ ‫أنفسهم حيث يتوغلون في الشر فيضاعف لهم العذاب‪.‬‬ ‫لبس الحق بالباطل ‪ :‬خلطه به كأنما كسا الباطل ثوب الحق وكسا الحق ثوب الباطل حتى ل‬ ‫يُعرف فيؤخذ به‪ ،‬ويهتدي عليه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى عباده المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنوا لو توقعكم في الضلل لتهلكوا والغالب‬ ‫أن هذه الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪" :‬نزلت هذه الية في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم‬ ‫يهود من بني النضير وقريضة وبني قينقاع إلى دينهم والعبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪.‬‬ ‫‪ 2‬الضلل‪ :‬يكون بمعنى الهلك كما هو هنا وعليه قول الشاعر‪:‬‬ ‫كنت القذى في موج أكدر مزبد ‪ ...‬قذف الوتي به فضل ضللً‬ ‫أي‪ :‬هلك هلكا‪ ،‬والوتي‪ :‬السيل يأتي من حيث ل يعلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬تقدم أنهم من يهود المدينة وأن العبرة بعموم اللفظ‪ ،‬لذا فإن هذا النوع ما زال إلى اليوم يود‬ ‫إضلل المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)1/329‬‬ ‫والنصارى يودون إضلل المسلمين حسدا لهم على الحق الذي هم عليه‪ ،‬وأخبر تعالى أنهم بتمنيهم‬ ‫هلك المسلمين إنما يهلكون أنفسهم وما يدرون ذلك ول يعلمون به وقال عز وجل‪َ { :‬ومَا ُيضِلّونَ‬ ‫شعُرُونَ} ‪.‬‬ ‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬ ‫إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫هذا معنى الية(‪ )69‬أما الية(‪ )70‬فقد نادى الرب تعالى أهل الكتاب ليوبخهم وينعي عليهم‬ ‫ضللهم فقال‪{ :‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ َت ْكفُرُونَ‪ 1‬بآيَاتِ اللّهِ} أي‪ :‬لم تجحدون اليات التي بها نعت‬ ‫الرسول وصفته ل في التوراة والنجيل والحال أنكم تشهدون أنها صفات الرسول ونعوته وإنها‬ ‫منطبقة عليه؟ أليس هذا قبحا منكم وشرا تعود عاقبته عليكم؟‪.‬‬ ‫وفي الية(‪ )71‬وبخهم أيضا على خلطهم الحق بالباطل حتى ل يعرف ويؤخذ به ويهتدي عليه‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪ِ 2‬لمَ تَلْبِسُونَ ا ْلحَقّ بِالْبَاطِل}ِ وشنع عليهم بكتمانهم الحق الذي هو نبوة‬

‫الرسول محمد صلى ال عليه وسلم المبينة في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فقال‪{ :‬وَ َتكْ ُتمُونَ ا ْلحَقّ‬ ‫وَأَنْتُمْ َتعَْلمُونَ} أنه الحق من ال‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلل المسلمين وإهلكهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية المر‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبح من يكتم الحق وهو يعرفه‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء ل سيما في دين ال تعالى لبعاد الناس عنه‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها‪.‬‬ ‫{ َوقَاَلتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا َوجْهَ ال ّنهَا ِر وَا ْكفُرُوا آخِ َرهُ َلعَّل ُهمْ‬ ‫جعُونَ(‪ )72‬وَل ُت ْؤمِنُوا إِل ِلمَنْ تَبِعَ دِي َن ُكمْ ُقلْ إِنّ‬ ‫يَرْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام إنكاري‪ ،‬واليات هي المشتملة على صفات الرسول محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫ونعوته‪ ،‬ومن اليات المعجزات التي تجلت على يد النبي محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬إعادة النداء مرة ثانية‪{ :‬يا أهل الكتاب} لجل توبيخهم وتسجيل باطلهم عليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/330‬‬ ‫ضلَ بِيَدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ‬ ‫ا ْلهُدَى ُهدَى اللّهِ أَنْ ُيؤْتَى َأحَدٌ مِ ْثلَ مَا أُوتِيتُمْ َأوْ ُيحَاجّوكُمْ عِ ْندَ رَ ّبكُمْ ُقلْ إِنّ ا ْلفَ ْ‬ ‫علِيمٌ(‪})73‬‬ ‫يَشَاءُ وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وجه النهار ‪ 1‬وآخره ‪ :‬أوله‪ :‬وهو الصباح‪ ،‬وأخره‪ :‬وهو المساء‪.‬‬ ‫{وَل ُت ْؤمِنُوا ‪ 2‬إِل ِلمَنْ تَ ِبعَ دِي َنكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تصدقوا إل ما كان على ملتكم‪.‬‬ ‫{ا ْل ُهدَى هُدَى اللّهِ} ‪ :‬البيان الحق والتوفيق الكامل بيان ال وهداه ل ما يخلط اليهود ويلبسون‬ ‫تضليلً للناس‪.‬‬ ‫حدٌ مِ ْثلَ مَا أُوتِيتُمْ} ‪ :‬أن يعطى أحد نبوة ودينا وفضلً‪.‬‬ ‫{أَنْ ُيؤْتَى أَ َ‬ ‫{َأوْ ُيحَاجّوكُمْ عِ ْندَ رَ ّبكُمْ} ‪ :‬يخاصموكم يوم القيامة عند ربكم‪.‬‬ ‫ضلَ بِ َيدِ اللّه} ‪ :‬قل إن التوفيق لليمان والهداية للسلم بيد ال ل بيد غيره‪.‬‬ ‫{ ُقلْ إِنّ ا ْل َف ْ‬ ‫{وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ‪ :‬ذو سعة بفضله‪ ،‬عليم بمن يستحق فضله فيمن عليه‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى عن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول‪َ { :‬وقَاَلتْ‪ 3‬طَا ِئفَةٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي‬ ‫جعُونَ} وذلك أن كعب بن الشرف‬ ‫أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا َوجْهَ ال ّنهَا ِر وَا ْكفُرُوا آخِ َرهُ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬

‫ومالك بن الصيف عليهما لعائن ال قال لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلة الصبح إلى‬ ‫الكعبة‪ ،‬وصلوا العصر إلى الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم‪ :‬لم عدلتم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سمي أول النهار‪ :‬وجها‪ :‬لنه أحسنه‪ ،‬وأول ما يواجه‪ ،‬ومنه قال الشاعر‪:‬‬ ‫وتضيء في وجه النهار منيرة ‪ ...‬كجمانة البحرية سل نظامها‬ ‫‪ 2‬هذا نهي من يهود خيبر إلى إخوانهم من يهود المدينة‪.‬‬ ‫‪ 3‬عطف على‪{ :‬ودت طائفة} ‪ ،‬فالطائفة الولى ودت إضلل المسلمين جهرا وعلنا‪ ،‬وهذه حاولته‬ ‫بالخداع والتضليل بأساليب المكر والحتيال‪.‬‬

‫( ‪)1/331‬‬ ‫عن الكعبة بعد ما صليتم إليها؟ قولوا لهم قد تبين لنا أن الحق هو استقبال الصخرة ل الكعبة‪.‬‬ ‫هذا معنى قوله تعالى فيهم‪َ { :‬وقَاَلتْ طَا ِئفَةٌ‪ 1‬مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُوا ‪ 2‬بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا}‬ ‫جهَ ال ّنهَارِ} أي‪ :‬صباحا {وَا ْكفُرُوا آخِ َرهُ} أي‪ :‬واجحدوا به مساءا‪َ{ ،‬لعَّلهُمْ‬ ‫يعني في شأن القبلة‪{ ،‬وَ ْ‬ ‫جعُونَ} أي‪ :‬إلى استقبال الصخرة بدلً عن الكعبة‪ ،‬والغرض هو بلبلة أفكار المسلمين وإدخال‬ ‫يَرْ ِ‬ ‫الشك عليهم ‪ 3‬وقوله تعالى عنهم‪{ :‬وَل ُت ْؤمِنُوا إِل ِلمَنْ تَ ِبعَ دِي َنكُمْ} يريد أنهم قالوا لبعضهم بعضا ل‬ ‫تصدقوا أحدا إل لمن تبع دينكم من أهل ملتكم وهذا صرف من رؤسائهم لليهود عن السلم‬ ‫وقبوله‪ ،‬أي ل تصدقوا المسلمين فيما يقولون لكم‪ ،‬وهنا رد تعالى عليهم بقوله قل يا رسولنا‪{ :‬إِنّ‬ ‫ا ْلهُدَى ُهدَى اللّهِ}‪ ،‬ل ما يحتكره اليهود من الضلل ويزعمون أنه الحق والهدى وهو البدعة‬ ‫حدٌ مِ ْثلَ مَا أُوتِيتُمْ َأوْ يُحَاجّوكُمْ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ} هو قول اليهود‬ ‫اليهودية‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬أَنْ ُيؤْتَى أَ َ‬ ‫معطوف على قولهم‪{ :‬وَل ُت ْؤمِنُوا إِل ِلمَنْ تَ ِبعَ دِي َنكُمْ} ‪ ،‬أما قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ إِنّ ا ْل ُهدَى‪ }...‬فهو‬ ‫حدٌ‪ }...‬إلخ‪.‬‬ ‫كلم معترض بين كلم اليهود الذي قُدم تعجيلً للرد عليهم‪ ،‬ومعنى قولهم‪{ :‬أَنْ ُيؤْتَى أَ َ‬ ‫أي‪ :‬كراهة أن يعترف من قبلكم بأن محمدا نبي حق وأن دينه حق فيتابعه اليهود والمشركون عليه‬ ‫فيسلمون‪ ،‬أو على القل يثبت المسلمون عليه‪ ،‬ونحن نريد زلزلتهم وتشكيكهم حتى يعودوا إلى‬ ‫دين آبائهم‪ ،‬أو يحاجوكم عند ربكم يوم القيامة وتكون لهم الحجة عليكم إن أنتم اعترفتم لهم اليوم‬ ‫بأن نبيهم حق ودينهم حق‪ ،‬فلذا واصلوا الصرار أنه ل دين حق إل اليهودية وأن ما عداها باطل‬ ‫وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم مبكتا لهم‪{ :‬إِنّ ا ْل َفضْلَ بِيَدِ اللّهِ} ‪ ،‬ل بيد اليهود { ُيؤْتِيهِ} أي‪:‬‬ ‫الفضل الذي هو النبوة والهدى والتوفيق وما يتبع ذلك من خير الدنيا والخرة‪{ ،‬مَنْ يَشَاءُ} من‬ ‫حمَتِهِ مَنْ‬ ‫عباده ويحرمه من يشاء‪ ،‬وهو الواسع الفضل العليم بمن يستأهله ويحق له {يَخْ َتصّ بِ َر ْ‬ ‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ} ‪.‬‬ ‫يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬الطائفة‪ :‬الجماعة‪ ،‬وسميت بها؛ لنها يسوى بها حلقة يطاف حولها‪.‬‬ ‫‪ 2‬ول مانع أن يكون مرادا من الية أنهم قالوا لسفلتهم أظهروا اليمان بمحمد ودينه في أول‬ ‫النهار ثم أكفروا به آخره فإنكم إن فعلتم ذلك ارتاب من يتبعه في دينه فيرجع عن دينه إلى دينكم‬ ‫إل أن ما فسرنا به الية أظهر‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهذا ل يمنع أن يكون قولهم‪{ :‬آمِنُوا بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ ال ّنهَارِ} إظهارا منهم‬ ‫للدخول في السلم والعتراف به في أول النهار‪ ،‬مكرا وخديعة‪ ،‬فإذا ولى النهار أظهروا‬ ‫رجوعهم عنه لظن من رآهم أنهم يريدون الحق‪ ،‬ولذلك أسلموا‪ ،‬فلما تبين لهم بطلن السلم‬ ‫وعدم صحته رجعوا عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/332‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تسجيل المكر والخداع على اليهود وأنه صفة من صفاتهم اللزمة لهم إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -2‬الكشف عن التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل‪ ،‬والعلم العالمي اليوم مظهر من‬ ‫مظاهر التضليل اليهودي‪.‬‬ ‫‪ -3‬سذاجة اليهود المتناهية في فهم مسائل الدين والعتقاد توارثوها إلى اليوم‪ ،‬وإل فأي مؤمن‬ ‫بال واليوم الخر يقول‪ :‬ل تعترفوا للمسملين بأنهم على حق حتى ل يحتجوا عليكم بإعترافكم يوم‬ ‫القيامة؟‪.‬‬ ‫إن ال تعالى يعلم أن اليهود يجحدون السلم وهو الحق ويكفرون به وهو الحق من ربهم‬ ‫وسيعذبهم في نار جهنم يخلدون فيها‪ ،‬وكونهم ل يصرحون للمسلمين بأنهم على حق وهم يعلمون‬ ‫أنهم على الحق في دينهم ينجيهم هذا من عذاب ال على كفرهم بالسلم؟‪.‬‬ ‫اللهم ل‪ .‬فما معنى قولهم ل تعترفوا بالسلم حتى ل يحتج عليكم المسلمون باعترافكم يوم‬ ‫القيامة؟؟ إنه الجهل والسذاجة في الفهم‪ .‬وسبحان ال ماذا في الخلق من عجائب!!‪.‬‬ ‫ك َومِ ْنهُمْ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبدِينَارٍ ل ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ إِل مَا‬ ‫{ َومِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْي َ‬ ‫ب وَهُمْ‬ ‫ل وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬ ‫لمّيّينَ سَبِي ٌ‬ ‫ُد ْمتَ عَلَيْهِ قَائِما ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ا ُ‬ ‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ(‪ )76‬إِنّ الّذِينَ َيشْتَرُونَ ِب َع ْهدِ اللّهِ‬ ‫َيعَْلمُونَ(‪ )75‬بَلَى مَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِد ِه وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُ ِ‬ ‫وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا قَلِيلً أُولَ ِئكَ ل خَلقَ َلهُمْ فِي الخِ َر ِة وَل ُيكَّل ُمهُمُ اللّ ُه وَل يَنْظُرُ إِلَ ْي ِهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَل‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪})77‬‬ ‫يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ َ‬

‫( ‪)1/333‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{إِنْ تَ ْأمَ ْنهُ} ‪ :‬ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه‪.‬‬ ‫{ ِبقِنْطَارٍ} ‪ :‬وزن معروف‪ ،‬والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار‪.‬‬ ‫{إِل مَا ُد ْمتَ عَلَيْهِ قَائِما} ‪ :‬أي ملزما له تطالبه ‪ 1‬به ليل نهار‪.‬‬ ‫لمّيّينَ} ‪ :‬العرب والمشركين‪.‬‬ ‫{ا ُ‬ ‫{سَبِيلٌ} ‪ :‬أي‪ :‬ل يؤاخذنا ال إن نحن أكلنا أموالهم؛ لنهم مشركون‪.‬‬ ‫{بَلَى} ‪ :‬أي‪ :‬ليس المر كما يقول اليهود من أنه ليس عليهم حرج ول إثم في أكل أموال العرب‬ ‫المشركين بل عليهم الثم والمؤاخذة ‪.2‬‬ ‫{ل خَلقَ َلهُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل حظ ول نصيب لهم في خيرات الخرة ونعيم الجنان‪.‬‬ ‫{وَل يُ َزكّيهِمْ}‪ :‬ل يطهرهم من ذنوبهم ول يكفرها عنهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في هتك أستار أهل الكتاب وبيان نفسياتهم المريضة وصفاتهم الذميمة ففي‬ ‫هذه الية(‪ )75‬يخبر تعالى أن في اليهود من إن أمنته على أكبر مال أداه إليك وافيا كاملً‪ ،‬ومنهم‬ ‫من إذا أمنته على دينار فأقل خانك فيه وأنكره عليك فل يؤديه إليك إل بمقاضاتك له وملزمتك‬ ‫ك َومِ ْنهُمْ مَنْ‬ ‫إياه‪ ...‬فقال تعالى في خطاب رسوله‪َ { :‬ومِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْي َ‬ ‫علَيْهِ قَائِما} ‪ ،‬ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم‬ ‫إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبدِينَارٍ ل ُيؤَ ّدهِ‪ِ 3‬إلَ ْيكَ إِل مَا ُد ْمتَ َ‬ ‫لمّيّينَ سَبِيلٌ} أي‪ :‬ل حرج علينا ول إثم في أكل أموال العرب لنهم‬ ‫يقولون‪{ :‬لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ا ُ‬ ‫مشركون فل نؤاخذ بأكل أموالهم وكذبهم ال تعالى في هذه الدعوة الباطلة فقال تعالى‪{ :‬وَ َيقُولُونَ‬ ‫عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ وَهُمْ َيعَْلمُونَ} أي‪ :‬أنه كذب على ال ولكن يكذبون ليسوغوا كذبهم وخيانتهم‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية(‪ )76‬يقول تعالى‪{ :‬بَلَى} أي‪ :‬ليس المر كما يدعون بل عليهم الثم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬استدل أبو حنيفة بقوله تعالى‪{ :‬إِل مَا ُد ْمتَ عَلَ ْيهِ قَائِما} ‪ ،‬على جواز ملزمة الغريم‪ ،‬ولم يرضه‬ ‫العلماء واستدل بعض العلماء على حبس المدين بهذه الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال رجل لبن عباس رضي ال عنهما‪" :‬إنا نصيف في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة‬ ‫والشاة ونقول ليس علينا في ذلك بأس‪ .‬فقال له‪ :‬هذا كما قال أهل الكتاب‪ :‬ليس علينا في الميين‬ ‫سبيل‪ ،‬إنهم إذا أدوا الجزية ل تحل لكم أموالهم إل عن طيب أنفسهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ما دام في أهل الكتاب المين والخائن والتمييز بينهم متعذر‪ ،‬إذا تعين اجتنابهم جميعا‪.‬‬

‫( ‪)1/334‬‬

‫والحرج والمؤاخذة‪ ،‬وإنما ل إثم ول حرج ول مؤاخذة على من أوفى بعهد ال تعالى فآمن برسوله‬ ‫وبما جاء به‪ ،‬واتقى الشرك والمعاصي فهذا الذي يحبه ال فل يعذبه؛ لنه عز وجل يحب المتقين‪.‬‬ ‫وأما الية الخيرة(‪ )77‬فيتوعد الرب تعالى بأشد أنواع العقوبات أولئك الذين يعاهدون ويخونون‬ ‫ويحلفون ويكذبون من أجل حطام الدنيا ومتاعها القليل فيقول‪{ :‬إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ‬ ‫وَأَ ْيمَا ِنهِمْ‪َ 1‬ثمَنا قَلِيلً أُولَ ِئكَ ل خَلقَ َلهُمْ فِي الخِ َرةِ} أي‪ :‬ل حظ ول نصيب لهم في نعيم الدار‬ ‫الخرة ول يكلمهم تشريفا لهم وإكراما‪ ،‬ول يزكيهم بالثناء عليهم ول بتطهيرهم من ذنوبهم‪ ،‬ولهم‬ ‫عذاب مؤلم في دار الشقاء وهو عذاب دائم مقيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬يجب أن ل يغتر باليهود ول يوثق فيهم لما عرفوا به من الخيانة‪.‬‬ ‫‪ -2‬من كذب على ال أحرى به أن يكذب على الناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود‬ ‫حلل لهم‪ ،‬لنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار‪.‬‬ ‫‪ -4‬عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال‪ ،‬وكذا من يحلف كاذبا لجل المال‪ ،‬قال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬من حلف على يمين يستحق بها مالً وهو فيها فاجر لقي ‪ 2‬ال وهو عليه‬ ‫غضبان"‪.‬‬ ‫ب وَ َيقُولُونَ ُهوَ مِنْ‬ ‫حسَبُوهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ َومَا ُهوَ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫{وَإِنّ مِ ْنهُمْ َلفَرِيقا يَ ْلوُونَ أَ ْلسِنَ َتهُمْ بِا ْلكِتَابِ لِتَ ْ‬ ‫ب وَهُمْ َيعَْلمُونَ(‪})78‬‬ ‫عِنْدِ اللّ ِه َومَا ُهوَ مِنْ عِنْدِ اللّ ِه وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَإِنّ مِ ْنهُمْ َلفَرِيقا} ‪ :‬طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى ال عليه وسلم بالمدينة النبوية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج أهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود رضي ال عنه أنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع حق امرء مسلم لقي ال وهو عليه غضبان"‬ ‫‪.‬‬ ‫‪ 2‬رواه أحمد وله شواهد في الصحاح‪ ،‬وروى الئمة عنه صلى ال عليه وسلم قوله‪ :‬من اقتطع‬ ‫حق امرء مسلم بيمينه فقد أوجب له النار وحرم عليه النار" فقال له رجل‪ :‬وإن كان شيئا يسيرا يا‬ ‫رسول ال؟ قال‪" :‬وإن كان قضيبا من آراك" ‪.‬‬

‫( ‪)1/335‬‬

‫{يَ ْلوُونَ‪َ 1‬ألْسِنَ َتهُمْ} ‪ :‬يحرفون السنتهم بالكلم كأنهم يقرأون الكتاب‪.‬‬ ‫{ َومَا ُهوَ مِنَ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬وليس هو من الكتاب‪.‬‬ ‫{وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ} ‪ :‬أي‪ :‬يكذبون على ال لغراض مادية‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫ما زال السياق في اليهود وبيان فضائحهم فأخبر تعالى أن طائفة منهم يلوون ألسنتهم بمعنى‬ ‫يحرفون نطقهم بالكلم تمويها على السامعين كأنهم يقرأون التوراة وما أنزل ال فيها‪ ،‬ولي هو من‬ ‫الكتاب المنزل في شيء بل هو الكذب البحت‪ ،‬ويقولون لكم إنه من عند ال وما هو من عند ال‪،‬‬ ‫ويقولون على ال الكذب لجل الحفاظ على الحطام الخسيس والرئاسة الكاذبة‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان مكر اليهود وتضليلهم وخداعهم لهم باسم الدين والعلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬جرأة اليهود على الكذب على الناس وعلى ال مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشد وظلم‬ ‫أعظم‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على ال والرسول لجل الغراض‬ ‫الدنيوية الفاسدة‪.‬‬ ‫حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ ثُمّ َيقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ‬ ‫ب وَالْ ُ‬ ‫{مَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَنْ ُيؤْتِيَهُ اللّهُ ا ْلكِتَا َ‬ ‫ب وَ ِبمَا كُنْتُمْ تَدْ ُرسُونَ(‪ )79‬وَل يَ ْأمُ َركُمْ أَنْ تَتّخِذُوا‬ ‫وََلكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ ِبمَا كُنْتُمْ ُتعَّلمُونَ ا ْلكِتَا َ‬ ‫ا ْلمَل ِئكَ َة وَالنّبِيّينَ أَرْبَابا أَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلكُفْرِ َبعْدَ إِذْ أَنْ ُتمْ مُسِْلمُونَ(‪})80‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ‪{ :‬يلوون} على التكثير‪ ،‬والمعنى يحرفون الكلم عن القصد‪ ،‬وأصل اللي‪ ،‬الميل‪ .‬يقال‪ :‬لوى‬ ‫رأسه‪ ،‬إذا أماله‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪{ :‬ليا بألسنتهم} أي‪ :‬ميلً عن الحق‪ ،‬واللي‪ :‬المطل أيضا لحديث‪:‬‬ ‫"لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" في الصحيح‪.‬‬

‫( ‪)1/336‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مَا كَانَ لِ َبشَرٍ‪ : }1‬لم يكن من شأن النسان ‪ 2‬الذي يؤتيه ال الكتاب والحكمة والنبوة‪.‬‬ ‫ح ْك َم وَالنّ ُب ّوةَ} ‪ :‬الكتاب‪ :‬وحي ال المكتوب والحكم‪ :‬بمعنى الحكمة وهي الفقه في أسرار‬ ‫ب وَالْ ُ‬ ‫{ا ْلكِتَا َ‬ ‫الشرع‪ ،‬والنبوة‪ :‬ما يشرف ال تعالى به عبده من إنباءه بالغيب وتكليمه بالوحي‪.‬‬ ‫{رَبّانِيّينَ‪ : }3‬جمع رباني‪ :‬من ينسب إلى الرب لكثرة عبادته وغزارة علمه‪ ،‬أو إلى الربان وهو‬ ‫الذي يرب الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها‪.‬‬

‫{أَرْبَابا} ‪ :‬جمع رب بمعنى السيد المعبود‪.‬‬ ‫{أَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْلكُفْرِ} ‪ :‬الستفهام للنكار‪ ،‬والكفر هنا‪ :‬الردة عن السلم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الرد على أهل الكتاب وفي هذه الية(‪ )79‬الرد على وفد نصارى نجران‬ ‫خاصة وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلم‪ .‬قال تعالى‪ :‬ليس من شأن أي إنسان يعطيه ال‬ ‫الكتاب أن ينزل عليه كتابا ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره فيشرفه بالنبوة فيوحي‬ ‫إليه‪ ،‬ويجعله في ذمة أنبيائه‪ ،‬ثم هو ‪ 4‬يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس‪{ :‬كُونُوا عِبَادا لِي‬ ‫مِنْ دُونِ اللّهِ} ‪ .‬إن هذا ما كان ولن يكون أبدا‪ .‬ل مما هو متصور الوقوع أيضا فما لكم أنتم يا‬ ‫معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليه السلم؟ إن من أوتى مثل هذا الكمال ل يقول للناس‬ ‫كونوا عبادا لي ولكن يقول لهم كونوا ربانيين تصلحون الناس وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته‬ ‫ويسعدوا عليها‪ ،‬وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته‪.‬‬ ‫هذا معنى الية(‪ )79‬أما الية(‪ )80‬فإن ال تعالى يخبر عن رسوله محمد صلى ال عليه وسلم أنه‬ ‫ل يؤمر الناس بعبادة غير ربه تعالى سواء كان ذلك الغير ملكا مكرما أو نبيا مرسلً‪ ،‬وينكر على‬ ‫من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ‪ :‬البشر‪ :‬يطلق على الواحد‪ ،‬والجمع؛ لنه كالمصدر‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬عيسى عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ل يجتمع لنبي إتيان النبوة مع قوله‪{ :‬كُونُوا عِبَادا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ} ‪ ،‬وإنما الذي يجتمع له‬ ‫مع إتيان النبوة هو قوله‪{ :‬كونُوا رَبّانيِين} ‪.‬‬ ‫‪ 3‬الرباني‪ :‬والجمع‪ :‬ربانيين‪ ،‬مشتق من‪ :‬ربه يربه‪ ،‬فهو ربان له إذا دبره وأصلحه‪.‬‬ ‫‪ 4‬قالت اليهود يوما لرسول ال صلى ال عليه وسلم يوما‪ :‬أتريد أن نتخذك يا محمد ربا؟ فأنزل‬ ‫حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ ثُمّ َيقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادا لِي‬ ‫ال تعالى قوله‪{ :‬مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ ُيؤْتِيَهُ اللّهُ ا ْلكِتَابَ وَالْ ُ‬ ‫مِنْ دُونِ اللّهِ} الية‪.‬‬

‫( ‪)1/337‬‬ ‫نسبوا ذلك إليه صلى ال عليه وسلم فيقول‪{ :‬أَيَ ْأمُ ُركُمْ‪ 1‬بِا ْل ُكفْرِ َب ْعدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ} فهذا ل يصح‬ ‫منه ول يصدر بحال‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬لم يكن من الممكن لمن آتاه ال الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه‬ ‫فضلً عن عبادة غيره‪.‬‬

‫‪ -2‬سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬عظماء الناس ‪ 2‬من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬السجود لغير ال تعالى كفر لما ورد أن الية نزلت ردا على من أرادوا أن يسجدوا لرسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم فقال تعالى‪{ :‬أَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْل ُكفْرِ َبعْدَ ِإذْ أَنْتُمْ مُسِْلمُون} ؟!‪.‬‬ ‫ح ْكمَةٍ ُثمّ جَا َءكُمْ رَسُولٌ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ‬ ‫ب وَ ِ‬ ‫{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ َلمَا آتَيْ ُتكُمْ مِنْ كِتَا ٍ‬ ‫شهَدُوا وَأَنَا َم َعكُمْ مِنَ‬ ‫بِ ِه وَلَتَ ْنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُمْ وَأَخَذْ ُتمْ عَلَى ذَِلكُمْ ِإصْرِي قَالُوا َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ‬ ‫سلَمَ مَنْ فِي‬ ‫ن وَلَهُ أَ ْ‬ ‫سقُونَ(‪َ )82‬أ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُو َ‬ ‫الشّا ِهدِينَ(‪َ )81‬فمَنْ َتوَلّى َبعْدَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬ ‫جعُونَ(‪})83‬‬ ‫طوْعا َوكَرْها وَإِلَيْهِ يُ ْر َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ‬ ‫ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الميثاق ‪ :‬العهد المؤكد باليمين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام إنكاري‪ ،‬وفيه معنى التعجب‪ ،‬إذ ليس من شأن النبي صلى ال عليه وسلم أن يتخذ‬ ‫الناس عبادا يتأله لهم‪ ،‬ومن هنا قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل يقولون أحدكم عبدي وأمتي‪ ،‬وليقل‪:‬‬ ‫فتاي وفتاتي‪ .‬وليقل أحدكم ربي وليقل سيدي" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى ابن عبد البر عن على رضي ال عنه قوله‪" :‬من علم وعمل وعلّم دعي في ملكوت‬ ‫السموات عظيما" وهو مروي عن عيسى عليه السلم‪.‬‬

‫( ‪)1/338‬‬ ‫{َلمَا ‪ 1‬آتَيْ ُت ُكمْ‪ : }2‬مهما آتيتكم‪.‬‬ ‫{لَ ُت ْؤمِنُنّ‪ : }3‬لتصدقن برسالته‬ ‫{أََأقْرَرْ ُتمْ} ‪ :‬الهمزة الولى للستفهام التقرير‪ ،‬وأقررتم‪ :‬بمعنى اعترفتم‪.‬‬ ‫{ِإصْرِي} ‪ :‬عهدي وميثاقي‪.‬‬ ‫{ َفمَنْ َتوَلّى} ‪ :‬رجع عما اعترف به وأقر‪.‬‬ ‫سقُونَ} ‪ :‬الخارجون عن طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫{ا ْلفَا ِ‬ ‫{َأ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُونَ} ‪ :‬الستفهام للنكار‪ ،‬ويبغون‪ :‬بمعنى يطلبون‪.‬‬ ‫{وَلَهُ َأسْلَمَ} ‪ :‬انقاد وخضع لمجاري أقدار ال وأحكامه عليه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الرد على نصارى نجران فيقول تعالى لرسوله اذكر لهم ما أخذ ال على‬ ‫النبيين وأممهم من ميثاق أنه مهما آتاهم من كناب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من‬ ‫النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعداءه ومناؤيه من أهل الكفر وأنه تعالى قررهم فأقروا‬

‫واعترفوا ثم استشدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى فقال‪{ :‬وَأَنَا َم َعكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} ثم أكد تعالى‬ ‫ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقا ويلقى جزاء الفاسقين فقال‬ ‫سقُونَ} ‪.‬‬ ‫تعالى‪َ { :‬فمَنْ َتوَلّى ‪َ 4‬ب ْعدَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬ ‫وقد نقض هذا الميثاق كل من اليهود والنصارى‪ ،‬إذ لم يؤمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم وبما‬ ‫جاء به وقد أخذ عليهم الميثاق باليمان به‪ ،‬وبنصره‪ ،‬فكفروا به‪ ،‬وخذلوه‪ ،‬فكانوا بذلك الفاسقين‬ ‫المستوجبين لعذاب ال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ نافع‪{ :‬لما آتيناكم} بنون العظمة‪ ،‬وقرأ حفص‪{ :‬لما أتيتكم} بتاء المتلكم وصيغة الميثاق هي‪:‬‬ ‫{َلمَا آتَيْ ُتكُمْ} إلى قوله‪{ :‬ولتنصرنه} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ أهل الكوفة‪ِ{ :‬لمَا آتَيْ ُتكُمْ} بكسر لم لما‪ ،‬أي‪ :‬لجل ما آتيتكم من كتاب‪ ...‬إلخ‪ .‬وتكون‪{ :‬ما}‬ ‫موصولة بمعنى الذي‪ ،‬أي‪ :‬للذي آتيتكم‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى ابن كثير عن علي وابن عباس رضي ال عنهم‪ ،‬أنهما قال‪" :‬ما بعث ال نبيا من النبياء‬ ‫إل أخذ عليه الميثاق لن بعث ال محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق‬ ‫على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرننه‪ ،‬وهذا غير مناف لما قال قتادة وغيره‪:‬‬ ‫أن ال أخذ من النبيين ميثاقهم أن يصدق بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫‪ 4‬التولي والفسق مستحيل في حق أنبياء ال ورسله‪ ،‬ولذا فالمأخوذ عليهم‪ :‬العهد والميثاق‪ ،‬هم‬ ‫أتباع النبياء والرسل‪ ،‬وإنما قال‪ :‬ميثاق النبيين؛ لنهم هم المبلغون أممهم لما أخذ عليهم‪ ،‬ويوضح‬ ‫هذا قوله‪{ :‬فاشهدوا} أي‪ :‬على أممكم‪.‬‬

‫( ‪)1/339‬‬ ‫ثم وبخ تعالى أهل الكتاب قائلً‪َ { :‬أ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ‪– 1‬يريد السلم‪ -‬يَ ْبغُونَ} أي يطلبون‪ ،‬ول أسلم‪،‬‬ ‫أي‪ :‬انقاد وخضع من في السموات من الملئكة والرض من سائر المخلوقات الرضية طوعا أو‬ ‫كرها‪ :2‬طائعين أو مكرهين وفوق هذا أنكم ترجعون إليه فيحاسبكم‪ ،‬ويجزيكم بأعمالكم‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫هذا ما تضمنته الية الخيرة(‪ )83‬إذ قال تعالى ‪َ{:‬أ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي ال ّ‬ ‫جعُونَ} ‪.‬‬ ‫طوْعا َوكَرْها وَإِلَيْهِ يُرْ َ‬ ‫وَالَرْضِ َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في النبياء السابقين وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق وتوليهم عن السلم وإعراضهم عنه بعد كفرهم‬ ‫بالنبي محمد صلى ال عليه وسلم وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه‪.‬‬

‫‪ -3‬بيان عظم شأن العهود والمواثيق عند ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬النكار على من يعرض عن دين ال السلم‪ .‬مع أن الكون كله خاضع منقاد لمر ال‬ ‫ومجاري أقداره مسلم له‪.‬‬ ‫ط َومَا‬ ‫ب وَالَسْبَا ِ‬ ‫ق وَ َي ْعقُو َ‬ ‫سحَا َ‬ ‫ل وَإِ ْ‬ ‫سمَاعِي َ‬ ‫{ ُقلْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ عَلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬ ‫حدٍ مِ ْنهُ ْم وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ(‪َ )84‬ومَنْ يَبْتَغِ‬ ‫أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ ل ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬ ‫غَيْ َر الِسْلمِ دِينا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِ ْن ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(‪})85‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام للتقريع والتوبيخ‪ ،‬وروى عن الكلبي أن كعب بن الشرف اليهودي وأصحابه‬ ‫اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪" :‬كل الفريقين بريء من دينه" فقالوا‪ :‬ما نرضى ول نأخذ بدينك‪ .‬فنزل قوله تعالى‪:‬‬ ‫{َأ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُونَ} الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬طوعا وكرها‪ :‬مصدران في موضع الحال‪ ،‬أي‪ :‬طائعين ومكرهين‪ ،‬إذ كل مخلوق منقاد مستسلم‬ ‫لما جبله ال عليه وقضاه وقدره له ل يخرج عنه بحال‪.‬‬

‫( ‪)1/340‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الَسْبَاطِ} ‪ :‬جمع سبط والسبط الحفيد‪ ،‬والمراد بالسباط هنا أولد يعقوب الثنا عشر والسباط في‬ ‫اليهود كالقبائل في العرب‪.‬‬ ‫{يَبْتَغِ} ‪ :‬يطلب ويريد دينا غير الدين السلمي‪.‬‬ ‫{ا ْلخَاسِرِينَ} ‪ :‬الهالكين بالخلد في نار جهنم والذين خسروا كل شيء حتى أنفسهم‪.‬معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب فبعد أن وبخهم تعالى بقوله في اليات السابقة‪ :‬أفغير دين‬ ‫ال تبتغون يا معشر اليهود والنصارى؟ فإن قالوا‪ :‬نعم‪ .‬فقل أنت ‪ 1‬يا رسولنا‪{ :‬آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ‬ ‫عَلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ} علينا من وحي وشرع وآمنا بما أنزل على إبراهيم خليل الرحمن وما أنزل على‬ ‫ولديه إسماعيل وإسحق وما أنزل على يعقوب وأولده السباط‪ ،‬وآمنا بما أوتي موسى من التوراة‬ ‫وعيسى من النجيل‪ ،‬وما أوتي النبيون من ربهم ل نفرق بين أحد من أنبياءه بل نؤمن بهم وبما‬ ‫جاؤا به فل نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما هي حالكم يا معشر اليهود والنصارى‪ .‬ونحن ل‬ ‫تعالى مسلمون‪ ،‬أي‪ :‬منقادون مطيعون ل نعبده بغير ما شرع ول نعبد معه سواه‪ .‬هذا معنى الية‬ ‫الولى(‪ )84‬أما الية الثانية(‪ )85‬فإن ال تعالى يقرر أن كل دين غير السلم باطل‪ ،‬وأن من‬ ‫يطلب دينا غير السلم لن يقبل منه بحال ويخسر في الخرة خسرانا كبيرا فقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ‪2‬‬ ‫يَبْتَغِ غَيْ َر الِسْلمِ دِينا فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْ ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ} الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم‬

‫يوم القيامة‪ ،‬وذلك هو الخسران المبين‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض‪ ،‬كما ل يصح إيمان عبد يؤمن ببعض‬ ‫ما أنزل ال تعالى على رسله ويكفر ببعض‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية تعليم لرسول ال صلى ال عليه وسلم وللمؤمنين عقيدة اليمان الصحيحة التي أحبها‬ ‫ال لهم ليكملوا بها ويسعدوا عليها بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى المام أحمد عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬تجيء‬ ‫العمال يوم القيامة فتجيء الصلة فتقول يا رب أنا الصلة فيقول‪ :‬إنك على خير‪ ،‬وتجيء‬ ‫الصدقة فتقول‪ :‬يا رب أنا الصدقة‪ .‬فيقول‪ :‬إنك على خير‪ ،‬ثم يجيء الصيام فيقول‪ :‬يا رب أن‬ ‫الصيام‪ .‬فيقول‪ :‬إنك على خير‪ ،‬ثم تجيء العمال كل ذلك ويقول ال تعالى إنك على خير‪ ،‬ثم‬ ‫يجيء السلم فيقول‪ :‬يا رب أنت السلم‪ ،‬وأنا السلم‪ .‬فيقول ال تعالى‪ :‬إنك على خير اليوم بك‬ ‫آخذ وبك أعطي‪ ،‬قال ال تعالى في كتابه ‪َ { :‬ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ السْلمِ دِينا فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْ ُه وَ ُهوَ فِي‬ ‫الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ} "‪ .‬تفرد به أحمد‪.‬‬

‫( ‪)1/341‬‬ ‫‪ -2‬السلم‪ :‬هو النقياد والخضوع ل تعالى‪ ،‬وهو يتنافى مع التخيير بين رسل ال ووحيه إليهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بطلن سائر الديان والملل سوى الدين السلمي وملة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ت وَاللّهُ ل َي ْهدِي‬ ‫ق وَجَا َءهُمُ الْبَيّنَا ُ‬ ‫حّ‬ ‫ش ِهدُوا أَنّ الرّسُولَ َ‬ ‫{كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َقوْما َكفَرُوا َبعْدَ إِيمَا ِنهِ ْم وَ َ‬ ‫ج َمعِينَ(‪ )87‬خَالِدِينَ فِيهَا‬ ‫علَ ْيهِمْ َلعْنَةَ اللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَالنّاسِ َأ ْ‬ ‫ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ(‪ )86‬أُولَ ِئكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ َ‬ ‫غفُورٌ‬ ‫ك وََأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫ب وَل هُمْ يُ ْنظَرُونَ(‪ )88‬إِل الّذِينَ تَابُوا مِنْ َبعْدِ ذَِل َ‬ ‫خ ّففُ عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَا ُ‬ ‫ل ُي َ‬ ‫رَحِيمٌ(‪})89‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َقوْما} ‪ :‬الستفهام هنا للستبعاد ‪ ،1‬والهداية‪ :‬الخروج من الضلل‪.‬‬ ‫{الْبَيّنَاتُ} ‪ :‬الحجج من معجزات الرسل وآيات القرآن المبينة للحق في المعتقد والعمل‪.‬‬ ‫{الظّاِلمِينَ} ‪ :‬المتجاوزين الحد في الظلم المسرفين فيه حتى أصبح الظلم وصفا لزما لهم‪.‬‬ ‫{َلعْنَةَ اللّهِ} ‪ :‬طرد ال لهم من كل خير‪ ،‬ولعنة الملئكة والناس‪ :‬دعائهم عليهم بذلك‪.‬‬ ‫{وَل هُمْ يُ ْنظَرُونَ} ‪ :‬ول هم يمهلون من أنظره إذا أمهله ولم يعجل بعذابه‪.‬‬ ‫ََأصْلَحُوا ‪ :‬أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم ومن غيرهم‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام للنفي والستبعاد‪ ،‬إذ هو بمعنى‪ :‬ل يهدي ال قوما‪ ..‬إلخ‪ .‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫كيف نومي على الفراش ولما ‪...‬‬ ‫يشمل القوم غارة شعواء‬

‫( ‪)1/342‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أهل الكتاب ‪ 1‬وإن تناولت غيرهم ممن ارتد عن السلم من بعض النصار ثم‬ ‫عاد إلى السلم فأسلم وحسن إسلمه ففي كل هؤلء يقول تعالى‪{ :‬كَ ْيفَ َي ْهدِي اللّهُ َقوْما َكفَرُوا‬ ‫َبعْدَ إِيمَا ِنهِمْ} فقد كفر اليهود بعيسى عليه السلم‪ ،‬وشهدوا أن الرسول محمدا حق وجاءتهم الحجج‬ ‫والبراهين على صدق نبوته وصحة ما جاء به من الدين الحق‪ ،‬وال حسب سنته في خلقه ل يهدي‬ ‫من أسرف في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعا من طباعه‪ ،‬فلهذا كانت هداية من هذه‬ ‫حاله مستبعدة للغاية‪ ،‬وإن لم تكن مستحيلة ثم أخبر تعالى عنهم متوعدا لهم فقال‪{ :‬أُولَ ِئكَ جَزَاؤُهُمْ‬ ‫ج َمعِينَ} {خَالِدِينَ فِيهَا} أي‪ :‬في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب‬ ‫أَنّ عَلَ ْيهِمْ َلعْنَةَ اللّهِ وَا ْلمَل ِئكَةِ وَالنّاسِ أَ ْ‬ ‫ب وَل ُهمْ يُنْظَرُونَ} أي‪ :‬ول يمهلون ليعتذروا‪ ،‬أو ل يخفف عنهم‬ ‫خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَا ُ‬ ‫النار {ل ُي َ‬ ‫العذاب‪ .‬ثم لما لم تكن توبتهم مستحيلة ولن ال تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى‬ ‫فاتحا باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم {إِل الّذِينَ تَابُوا ‪ 2‬مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ} الكفر والظلم‪،‬‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ} فكان هذا كالوعد منه‬ ‫{وََأصْلَحُوا} نفوسهم باليمان وصالح العمال { فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم بدخول الجنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التوغل في الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع ‪ 3‬العبد من التوبة‪ .‬ولذا وجب على العبد إذا‬ ‫أذنب ذنبا أن يتوب منه فورا‪ ،‬ول يواصله مصرا عليه خشية أن يحال بنيه وبين التوبة‪.‬‬ ‫‪ -2‬التوبة مقبولة متى قامت على أسسها واستوفت شروطها ومن ذلك القلع عن الذنب فورا‪،‬‬ ‫والندم على ارتكابه‪ ،‬والستغفار والعزم على عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه وإصلح ما‬ ‫أفسده مما يمكن إصلحه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى عن ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬أن الية نزلت في رجل من النصار أسلم ثم ارتد‬ ‫ولحق بالشرك ثم راسل قومه ليسألوا له رسول ال صلى ال عليه وسلم هل له توبة فجاء قومه‬ ‫وسألوا له فأنزل ال هذه الية‪{ :‬كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َقوْما} إلى {غفور رحيم} ‪ ،‬و الية تتناول اليهود‬

‫من باب أولى وتنطبق عليهم تماما فتشمل من تاب منهم ومن لم يتب على حد سواء"‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى ابن كثير والقرطبي أن الحارث بن سويد آخا الجلس بن سويد النصاري قد ارتد بعد‬ ‫إسلمه مع اثنى عشر رجلً والتحقوا بمكة ثم تاب الحارث فأسلم وحسن إسلمه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أورد هنا القرطبي سؤالً‪ ،‬وهو‪ :‬أن ظاهر الية‪{ :‬وَاللّهُ ل َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ} دال على أن‬ ‫من كفر بعد إسلمه ل يهديه ال وكثيرا من الظالمين تابوا من الظلم؟‪ .‬وأجاب بقوله إن معنى ل‬ ‫يهديهم ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ول يقبلون على السلم فأما إن أسلموا وتابوا فقد‬ ‫وفقهم ال لذلك‪ .‬وال أعلم‪ .‬أ‪.‬هـ كلمه‪.‬‬

‫( ‪)1/343‬‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َب ْعدَ إِيمَا ِنهِمْ ُثمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ ُتقْ َبلَ َتوْبَ ُتهُ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ الضّالّونَ(‪ )90‬إِنّ الّذِينَ‬ ‫حدِ ِهمْ مِل ُء الَ ْرضِ ذَهَبا وََلوِ افْتَدَى بِهِ أُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‬ ‫َكفَرُوا َومَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْ أَ َ‬ ‫َومَا َل ُهمْ مِنْ نَاصِرِينَ(‪})91‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الكفر ‪ :‬الجحود ل تعالى والتكذيب لرسوله وما جاء به من الدين والشرع‪.‬‬ ‫{ َبعْدَ إِيمَا ِنهِمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ارتدوا عن السلم إلى الكفر‪.‬‬ ‫{الضّالّونَ} ‪ :‬المخطئون طريق الهدى‪.‬‬ ‫{مِل ُء الَ ْرضِ} ‪ :‬ما يملها من الذهب‪.‬‬ ‫{وََلوِ افْتَدَى بِهِ} ‪ :‬ولو قدموا فداء لنفسه من النار ما قبل منه‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ أخبر تعالى عنهم أنهم كفروا بعد‬ ‫إيمانهم كفروا بعيسى والنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة‪ .‬ثم ازدادوا ‪ 1‬كفرا بمحمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم والقرآن‪ ،‬فلن تقبل توبتهم إل إذا تابوا باليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم والقرآن‬ ‫لكنهم مصرون على الكفر بهما فكيف تقبل توبتهم‪ ،‬إذا مع إصرارهم على الكفر‪ ،‬ولذا أخبر تعالى‬ ‫أنهم هم الضالون البالغون أبعد الحدود في الضلل ومن كانت هذه حاله فل يتوب ول تقبل توبته‪،‬‬ ‫ثم قرر مصيرهم بقوله عز وجل‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَهُمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْ َأحَدِ ِهمْ مِلءُ‬ ‫الَ ْرضِ ذَهَبا} يريد يوم القيامة مع أنه ل مال يومئذ ولكن من باب الفرض والتقدير ل غير‪ .‬فلو‬ ‫أن لحدهم ملء الرض ذهبا وقبل منه فداء لنفسه من عذاب ال لفتدى‪ ،‬ولكن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أورد القرطبي إشكالً عن قوله تعالى‪{ :‬لَنْ ُتقْ َبلَ َتوْبَ ُتهُمْ} مع العلم أن ال تعالى يقبل توبة العبد‬ ‫ما لم يغرر‪ ،‬كما صح في الخبر‪ ،‬وكيف وهو القائل‪{ :‬وَ ُهوَ الّذِي َيقْبَلُ التّوبَةَ عَنْ عِبَا ِد ِه وَ َيعْفُو عَنِ‬

‫السّيّئَات} ‪ ،‬وذكر ثلثة أجوبة‪ :‬الول‪ :‬أنه ل يقبل توبتهم عند الموت‪ ،‬كما هو نص الية‪{ :‬حَتّى‬ ‫حدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ النَ‪ . }...‬الثاني‪ :‬أنها ل تقبل توبتهم التي كانت قبل كفرهم‬ ‫حضَرَ أَ َ‬ ‫إِذَا َ‬ ‫إن الكفر محبط للعمل‪ .‬والثالث‪ :‬أنها ل تقبل وهم مصرون على الكفر‪ .‬قلت‪ :‬وهذا أمثلها وهو ما‬ ‫ذكرته في تفسير الية‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/344‬‬ ‫هيهات هيهات ‪ 1‬إنه يوم ل ينفع فيه مال ول بنون‪ ،‬ولكن من جاء ربه بقلب سليم من الشرك‬ ‫والشك وسائر أمراض القلوب نجا من النار ودخل الجنة بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬سنة ال فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حدا ًبعيدا أنه ل يتوب‪.‬‬ ‫‪ -2‬اليأس من نجاة من مات كافرا يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل فدية تقبل يوم القيامة من أحد ول فداء لحد فيه‪.‬‬ ‫شيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(‪})92‬‬ ‫ن َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ َ‬ ‫{لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْنفِقُوا ِممّا تُحِبّو َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{لَنْ تَنَالُوا} ‪ :‬لن تحصلوا عليه وتظفروا به‪.‬‬ ‫{الْبِرّ} ‪ :‬كلمة جامعة لكل خير‪ ،‬والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة‪.‬‬ ‫{تُ ْن ِفقُوا} ‪ :‬تتصدقوا‪.‬‬ ‫{ ِممّا تُحِبّونَ} ‪ :‬من المال الذي تحبونه لنفسكم وهو أفضل أموالكم عندكم‪.‬‬ ‫شيْءٍ} ‪ :‬يريد قلّ أو كثر‪.‬‬ ‫{مِنْ َ‬ ‫علِيمٌ} ‪ :‬لزمه أنه يجزيكم به بحسب كثرته أو قلته‪.‬‬ ‫{فَإِنّ اللّهَ بِهِ َ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يخبر تعالى عباده المؤمنين الراغبين في بره ‪ 2‬تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة‬ ‫بأنهم لن يظفروا بمطلوبهم من بر ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبها‬ ‫إليهم‪ .‬ثم أخبرهم مطمئنا لهم على إنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة عن أنس أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬يجاء بالكافر‬ ‫يوم القيامة فيقال له‪ :‬أرأيت لو كان لك ملء الرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول‪ :‬نعم‪ .‬فيقال له‪:‬‬ ‫كذبت‪ ،‬قد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬يطلق لفظ البر على العمل الصالح أو هو جماعه وثوابه‪ ،‬وفي الصحيح‪ ،‬يقول الرسول صلى‬

‫ال عليه وسلم‪" :‬عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ول يزال‬ ‫الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى‬ ‫الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ول يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند ال‬ ‫كذابا" ‪.‬‬

‫( ‪)1/345‬‬ ‫أو كثير نفيس أو خسيس هو به عليم وسيجزيهم به‪ ،‬وبهذا حبب إليهم النفاق ورغبهم فيه فجاء‬ ‫أبو طلحة رضي ال عنه يقول يا رسول ال‪ :‬أن ال تعالى‪{ :‬لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا‬ ‫تُحِبّونَ} ‪ ،‬وإن من أحب أموالي إليّ بيرحا "حديقة" فأجعلها حيث أراك ال يا رسول ال‪ ،‬فقال له‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬مال رابح أو رائج اجعلها في أقربائك" فجعلها في أقربائه حسان بن ثابت‬ ‫وأبي بن كعب رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬لن يبلغ العبد بر ال وما عنده من نعيم الخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل يضيع المعروف عند ال تعالى قل أو كثر طالما أريد وجهه تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لما نزلت هذه الية‪{ :‬لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّى تُ ْن ِفقُوا ِممّا ُتحِبّونَ} بادر الصحاب رضي ال عنهم‬ ‫بالتصدق بأحب أموالهم إليها فأعتق عمر جارية له من أحب الجواري إليه‪ ،‬وأعتق ولده موله‬ ‫نافعا‪ ،‬وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كانت أحب ما يملك‪ ،‬وتصدق أبو طلحة ببستانه "بيرحا"‬ ‫فدل هذا على فقه الصحابة ومدى استجابتهم لما هو خير عند ال وأعظم أجرا‪ .‬فرضى ال عنهم‬ ‫وأرضاهم ول حرمنا حبهم وجوارهم‪.‬‬

‫( ‪)1/346‬‬ ‫الجزء الرابع‬ ‫طعَامِ كَانَ حِلّ لِبَنِي ِإسْرائيلَ إِل مَا حَرّمَ إِسْرائيلُ عَلَى َنفْسِهِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تُنَ ّزلَ ال ّتوْرَاةُ ُقلْ‬ ‫{ ُكلّ ال ّ‬ ‫فَأْتُوا بِال ّتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪َ )93‬فمَنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ‬ ‫الظّاِلمُونَ(‪ُ )94‬قلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪ )95‬إِنّ َأوّلَ بَ ْيتٍ‬ ‫ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَهُدىً لِ ْلعَاَلمِينَ(‪ )96‬فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ َمقَامُ إِبْرَاهِي َم َومَنْ َدخَلَهُ كَانَ‬

‫ل َومَنْ َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ(‪)97‬‬ ‫علَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِي ً‬ ‫آمِنا وَلِلّهِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫طعَامِ‪ : }1‬اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولت‪.‬‬ ‫{ال ّ‬ ‫حل ‪ :‬الحل‪ :‬الحلل‪ ،‬وسمى حللً لنحلل عقدة الحظ عنه‪.‬‬ ‫بني إسرائيل ‪ :‬أولد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الثنى عشر إلى يومنا هذا‪.‬‬ ‫{حَرّمَ} ‪ :‬حظر ومنع‪.‬‬ ‫{ال ّتوْرَاةُ} ‪ :‬كتاب أنزل على موسى عليه السلم وهو من ذرية إسرائيل‪.‬‬ ‫{فَاتْلُوهَا} ‪ :‬اقرأوها على رؤوس المل لنتبين صحة دعواكم من بطلنها‪.‬‬ ‫افترى ‪ 2‬الكذب ‪ :‬اختلقه وزوره وقاله‪.‬‬ ‫{مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ} ‪ :‬دينه وهي عبادة ال تعالى بما شرع‪ ،‬ونبذ الشرك والبدع‪.‬‬ ‫{حَنِيفا‪ : }3‬مائلً عن الشرك إلى التوحيد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الطعام‪" :‬أل" للجنس‪ ،‬ولفظ‪ :‬كل‪ ،‬للتنصيص على العموم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الفتراء‪ :‬كالختلق سواء‪ ،‬والفتراء مأخوذ من الفري‪ ،‬وهو قطع الجلد قطعا ليصلح بها قربة‬ ‫وحذاء ونحوهما‪.‬‬ ‫‪ 3‬حنيفا منصوب على الحال وصاحبها إبراهيم المجرور بالضافة‪.‬‬

‫( ‪)1/347‬‬ ‫بِ َبكّةَ ‪ :‬مكة‪.‬‬ ‫لِ ْلعَاَلمِينَ ‪ :‬للناس أجمعين‪.‬‬ ‫َمقَامُ إِبْرَاهِيمَ‪ : 1‬آية من اليات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو‬ ‫صخر فكان هذا آية‪.‬‬ ‫َمَنْ َدخَلَهُ ‪ :‬الحرم الذي حول البيت يحددوه المعروفة‪.‬‬ ‫آمِنا ‪ :‬ل يخاف على نفس ول مال ول عرض‪.‬‬ ‫الحج ‪ :‬قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك‪.‬‬ ‫سَبِيلً ‪ :‬طريقا والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬كيف تدعي‬ ‫أنك على دين إبراهيم‪ ،‬وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم البل وألبانها‪ ،‬فرد ال تعالى على‬ ‫طعَامِ كَانَ حِلّ} أي حللً لبني إسرائيل‪ ،‬وهم ذرية يعقوب الملقب‬ ‫هذا الزعم الكاذب بقوله‪ُ { :‬كلّ ال ّ‬

‫بإسرائيل‪ ،‬ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إل ما حرم إسرائيل "يعقوب"‬ ‫على نفسه خاصة وهو لحوم البل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض ‪ 2‬مرضا آلمه فنذر ‪ 3‬ل‬ ‫تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه‪ ،‬وكانت لحوم البل وألبانها من أحب الطعمة‬ ‫طعَامِ كَانَ حِلّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِل مَا‬ ‫والشربة إليه فتركها ل تعالى‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى‪ُ { :‬كلّ ال ّ‬ ‫حَرّمَ إِسْرائيلُ عَلَى َنفْسِهِ} من قبل أن تنزل التوراة‪ ،‬إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم‬ ‫ويعقوب بقرون عدة‪ ،‬فكيف تدعون أن إبراهيم كان ل يأكل لحوم البل ول يشرب ألبانها فأتوا‬ ‫بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم ال تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم‬ ‫فحرم عليهم أنواعا من الطعمة‪ ،‬وذلك بعد إبراهيم ويعقوب‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مقام إبراهيم من جملة اليات‪ ،‬إذ أثر قدمي إبراهيم باقية على المقام الذي هو صخرة‪ ،‬وفيه قال‬ ‫أبو طالب‪:‬‬ ‫وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ‪ ...‬على قدميه حافيا غير ناعل‬ ‫وأمر تعالى بالصلة خلفه في قوله‪{ :‬وَاتّخِذُوا مِنْ َمقَامِ إِبْرَاهِيمَ ُمصَّلىً} فمن طاف بالبيت يختم‬ ‫طوافه بصلة ركعتين خلفه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أكثر الروايات على أن مرض يعقوب كان بعرق النساء‪ ,‬وأن ما نذره من ترك أحب الطعام‬ ‫والشراب إليه كان باجتهاد منه وليس شرعا عنده‪ ،‬إذ هو من المباح‪ ،‬وللعبد أن يترك مباحا متى‬ ‫شاء لسيما إن تركه ل تقربا إليه وتوسلً لقضاء حاجته؛ كشفاء من مرض مثلً‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى ابن ماجة في سننه عن أنس ابن مالك قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫"شفاء عرق النساء إلية شاه (عربية)"‪ ،‬تذاب ثم تجزأ ثلثة أجزاء‪ ،‬ثم يشرب على الريق كل يوم‬ ‫جزء"‪ .‬قال أنس فوصفته لكثر من مائة فبرأ بإذن ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/348‬‬ ‫بقرون طويلة‪ .‬قال تعالى في سورة النساء‪{ :‬فَ ِبظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا "اليهود" حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ‬ ‫ظفُرٍ‪َ 1‬ومِنَ الْ َبقَ ِر وَا ْلغَنَمِ‬ ‫أُحِّلتْ َل ُهمْ} وقال في سورة النعام‪{ :‬وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ‬ ‫شحُومَ ُهمَا} الية‪.‬‬ ‫حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُ‬ ‫ولما طولبوا بالتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم عليهم‪.‬‬ ‫علَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ} بعد قيام الحجة بأن ال تعالى لم يحرم على إبراهيم‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬فمَنِ افْتَرَى َ‬ ‫ول على بني إسرائيل شيئا من الطعام والشراب إل بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل‬ ‫على نفسه من لحمان البل وألبانها فاؤلئك هم الظالمون بكذبهم على ال تعالى وعلى الناس‪ .‬ومن‬

‫هنا أمر ال تعالى رسوله أن يقول‪ :‬صدق ال فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من ال‪،‬‬ ‫إذا فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبدا من المشركين‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته اليات الثلث‪ ،95-94-93 :‬وأما قوله تعالى‪ { :‬إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ‪ُ 2‬وضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي‬ ‫بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَهُدىً لِ ْلعَاَلمِينَ} فإنه متضمن الرد ‪ 3‬على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هو أول‬ ‫قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود‬ ‫فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة ل بيت المقدس وأنه جعله مباركا يدوم بدوام‬ ‫الدنيا والبركة ل تفارقه‪ ،‬فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها‪ ،‬كما‬ ‫جعله هدى للعالمين‪ ،‬فالمؤمنون يأتون حجاجا وعمارا فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية‪،‬‬ ‫والمصلون في مشارق الرض ومغاربها يستقبلونه في صلتهم‪ ،‬وفي ذلك من الهداية للحصول‬ ‫على الثواب وذكر ال والتقرب إليه أكبر هداية‪ ،‬وقوله تعالى في آيات بينات يريد‪ :‬في المسجد‬ ‫الحرام دلئل واضحات منها‪ :‬مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث‬ ‫بقى أثر قدميه عليه مع إنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر‬ ‫المشاعر كلها آيات ومنها‪ :‬المن التام لمن دخله فل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬راجع تفسير هذه الية في موضعها من سورة النعام‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي ال عنه قال‪" :‬سألت رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الرض قال‪ :‬المسجد الحرام‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬المسجد‬ ‫القصى‪ .‬قلت‪ :‬كم بينهما؟ قال‪ :‬أربعون عاما‪ ،‬ثم جعلت الرض لك مسجدا فحيثما أدركتك‬ ‫الصلة فصلِ"‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر القرطبي عن مجاهد قوله‪ :‬تفاخر المسلمون واليهود‪ .‬فقالت اليهود‪ :‬بيت المقدس أفضل‬ ‫وأعظم من الكعبة لنه مهاجر النبياء في الرض المقدسة‪ .‬وقال المسلمون‪ :‬بل الكعبة أفضل‪.‬‬ ‫ت ُوضِعَ لِلنّاسِ‪ }..‬الية‪.‬‬ ‫فأنزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ‬

‫( ‪)1/349‬‬ ‫يخاف غير ال تعالى‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ دَخََلهُ‪ 1‬كَانَ آمِنا} ثم هذا المن له والعرب يعيشون في‬ ‫جاهلية جهلء وفوضى ل حد لها‪ ،‬ولكن ال جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن‬ ‫كل من يدخله ليحجه أو يعتمره‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ‪2‬‬ ‫سَبِيلً} ‪ ،‬لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به‬ ‫وبرسوله بحجه ليحصل لهم الخير والبركة والهداية‪ ،‬ففرضه بصيغة‪َ { :‬ولِلّهِ عَلَى النّاسِ} وهي أبلغ‬ ‫صيغ اليجاب‪ ،‬واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره بسبب مرض أو خوف قلة نفقة للركوب‬

‫والنفاق على النفس والهل أيام السفر‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في آخر الية‪َ { :‬ومَنْ َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ} فإنه خبر منه تعالى بأن من‬ ‫كفر بال ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من اليات والدلئل الواضحات فإنه ل يضر إل نفسه‪،‬‬ ‫أما ال تعالى فل يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغني عنهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ثبوت النسخ في الشرائع اللهية‪ ،‬إذ حرم ال تعالى على اليهود بعض ما كان حلً لهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬إبطال دعوى دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرما عليه البل وألبانها‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير النبوة المحمدية لتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية طلب البركة لزيارة ا لبيت وحجه والطواف به والتعبد حوله‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب الحج على الفور ‪ 3‬لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك‪.‬‬ ‫‪ -7‬الشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه‪ ،‬ول مانع يمنعه منه غير ‪ 4‬عدم المبالة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سورة اللفظ خبر‪ ،‬ومعناه النشاء‪ ،‬أي‪ :‬المر بمعنى‪ :‬فمن دخله فأمنوه‪ ،‬هكذا قال بعضهم ول‬ ‫منافاة بين القولين‪ ،‬فإن الحرم كان آمنا في عهد الجاهلية قرونا بما ألقى ال في قلوب العرب من‬ ‫حرمة الحرم إن بيت المقدس تسلط عليه الجبابرة‪ ،‬فخربوه غير مرة‪ ،‬ومكة رد ال الطغاة عنها‪.‬‬ ‫‪ 2‬تواردت طرق حديث‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل عن السبيل في قوله تعالى‪ { :‬مَنِ‬ ‫اسْ َتطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلً} فقال‪" :‬الزاد والرحلة" ‪ .‬وهو كذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬مما يدل على فورية الحج إذا توفرت النفقة وآمن الطريق وزالت الموانع‪ ،‬قوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ " :‬تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم ل يدري ما يعرض له" ‪ .‬رواه أحمد‪ .‬فما دمنا مأمورين‬ ‫بالتعجل كان الفور ألزم والتراخي أبعد‪ .‬وال أعلم وأعز وأحكم‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل‪ ،‬ولو قلت نعم‬ ‫لوجبت" إذ سأل سأئل قائلً‪ :‬أفي كل عام يا رسول ال‪ ،‬وذلك لما نزلت‪{ :‬ول على الناس حج‬ ‫البيت‪ .}...‬ومما يؤكد فرضيته وهي مؤكدة بخطاب ال تعالى أن عمر رضي ال عنه قال‪" :‬من‬ ‫أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا" قال ابن كثير اسناده صحيح‪.‬‬

‫( ‪)1/350‬‬

‫شهِيدٌ عَلَى مَا َت ْعمَلُونَ(‪ُ )98‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ‬ ‫{ ُقلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ َت ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬ ‫عمّا َت ْعمَلُونَ(‪})99‬‬ ‫شهَدَاءُ َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫عوَجا وَأَنْتُمْ ُ‬ ‫َتصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَ ْبغُو َنهَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الكفر ‪ :‬الجحود‪.‬‬ ‫آيات ال ‪ :‬ما أنزل تعالى من الحجج والبينات في القرآن المقررة لنبوة محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫وما أنزله تعالى في التوراة والنجيل من صفات النبي صلى ال عليه وسلم ونعوته الموجبة‬ ‫لليمان به واتباعه على دين الحق الذي جاء به وهو السلم‪.‬‬ ‫شهِيدٌ عَلَى مَا َت ْعمَلُونَ‪ : }1‬عليم به مطلع عليه‪ ،‬وما يعملونه هو الكفر والشر والفساد‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{ َتصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ‪ : }2‬تصرفون الناس ممن آمن منكم ومن العرب عن السلم الذي هو‬ ‫سبيل ال تعالى المفضي بأهله إلى سعادة الدارين‪.‬‬ ‫عوَجا‪ : }3‬تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل سالكها وذلك‬ ‫{تَ ْبغُو َنهَا ِ‬ ‫بالتحريف والتضليل‪.‬‬ ‫شهَدَاءُ} ‪ :‬بعلمكم بأن السلم حق‪ ،‬وأن ما تبغونه له من من الضلل لهله والتضليل هو‬ ‫{وَأَنْتُمْ ُ‬ ‫كفر وباطل‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫بعد دحض ال تعالى شبه أهل الكتاب وأبطلها في اليات السابقة أمر تعالى رسوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا دال على أن أهل الكتاب يؤمنون بعموم علم ال وأنه ل يخفى عليه شيء في الرض ول‬ ‫في السماء‪ ،‬فلهذا كان توبيخهم أشد‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرئ‪{ :‬يصدون} من صد‪ ،‬إذ يقال‪ :‬صده وأصده عن كذا‪ ،‬صرفه عنه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصلها تبغون لها فحذفت اللم‪ ،‬نحو‪{ :‬كالوهم} أي‪ :‬كالوا لهم‪.‬‬

‫( ‪)1/351‬‬ ‫أن يقول لهم موبخا مسجلً عليهم الكفر يا أهل الكتاب لم تكفرون بحجج ال تعالى وبراهينه‬ ‫المثبتة لنبوة نبيه محمد صلى ال عليه وسلم ودينه السلم تلك الحجج والبراهين التي جاء بها‬ ‫القرآن والتوراة والنجيل معا؟ وال جل جلله مطلع على كفركم عليم به‪ ،‬أما تخافون عقابه أما‬ ‫تخشون عذابه؟‪.‬‬ ‫كما أمر تعالى رسوله أيضا أن يقول لهم مؤنبا موبخا لهم على صرفهم المؤمنين عن السلم‬ ‫بأنواع الحيل والتضليل‪{ :‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪ }1‬أي‪ :‬يا أهل العلم الول لم تصرفون المؤمنون عن‬ ‫السلم الذي هو سبيل ال بما تثيرونه بينهم من الشكوك والوهام تطلبون للسلم العوج‬

‫لينصرف المؤمنون عنه‪ ،‬مع علمكم التام بصحة السلم وصدق نبيه محمد عليه الصلة والسلم‬ ‫أما تخافون ال‪ ،‬أما تخشونه تعالى وهو مطلع على سوء تدبيركم غير غافل عن مكركم وغشكم‬ ‫وخداعكم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬شدة قبح كفر وظلم من كان عالما من أهل الكتاب بالحق ثم كفره وجحده بغيا وحسدا‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة صرف الناس عن الحق والمعروف بأنواع الحيل وضروب الكذب والخداع‪.‬‬ ‫‪ -3‬علم ال تعالى بكل أعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم بها فضلً منه وعدلً‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ يَرُدّوكُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ(‪)100‬‬ ‫ن وَأَنْتُمْ تُ ْتلَى عَلَ ْي ُكمْ آيَاتُ اللّ ِه َوفِيكُمْ رَسُولُ ُه َومَنْ َيعْ َتصِمْ بِاللّهِ َفقَدْ ُه ِديَ إِلَى صِرَاطٍ‬ ‫َوكَيْفَ َت ْكفُرُو َ‬ ‫مُسْ َتقِيمٍ(‪)101‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج ابن إسحاق في سبب نزول هذه الية‪{ :‬يا أهل الكِتَابْ‪ }...‬إن شماس بن قيس اليهودي‬ ‫رأى جماعة من المسلمين من الوس والخزرج باديا عليهم الوثام "المحبة" فغاظه ذلك‪ ،‬فأمر أحد‬ ‫اليهود أن يجلس بينهم ويذكرهم بحرب بعاث‪ ،‬وفعل فحدث نزاع بينهم أدى إلى الخروج إلى‬ ‫الحرة للتقاتل وفعلً خرجوا وسمع بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فخرج إليهم وهدأهم‬ ‫بقوله‪" :‬أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" ‪ ،‬وما زال يعظهم حتى ألقوا السلح وتعانقوا وهم‬ ‫يبكون وعرفوا أنها مكرة يهود وخدعتهم عليهم لعائن ال وأنزل تعالى هذه الية والتي قبلها‪.‬‬

‫( ‪)1/352‬‬ ‫صمُوا ِبحَ ْبلِ اللّهِ‬ ‫ل وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ(‪ )102‬وَاعْ َت ِ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ حَقّ ُتقَاتِ ِه وَل َتمُوتُنّ ِإ ّ‬ ‫خوَانا‬ ‫جمِيعا وَل َتفَ ّرقُوا وَا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْتُمْ بِ ِن ْعمَتِهِ إِ ْ‬ ‫َ‬ ‫حفْ َرةٍ مِنَ النّارِ فَأَ ْنقَ َذكُمْ مِ ْنهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ آيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ(‪})103‬‬ ‫شفَا ُ‬ ‫َوكُنْتُمْ عَلَى َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{فَرِيقا} ‪ :‬طائفة ‪ 1‬من الحاقدين على الٍسلم العاملين على الكيد له والمكر به وبأهله‪.‬‬ ‫{يَ ُردّوكُمْ} ‪ :‬يرجعوكم إلى الكفر بعد إيمانكم‪.‬‬ ‫{ َوكَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ} ‪ :‬الستفهام للنكار والتعجب من كفرهم بعد إيمانهم‪.‬‬ ‫{آيَاتُ اللّهِ} ‪ :‬آيات القرآن الكريم‪.‬‬ ‫{ َيعْ َتصِمْ} ‪ :‬يتمسك بشدة‪.‬‬ ‫{حَقّ ُتقَاتِهِ} ‪ :‬باستفراغ الوسع في إمتثال أمره‪ ،‬واجتناب نهيه‪ ،‬وتقاته ‪ 2‬هي تقواه‪.‬‬

‫{ ِبحَ ْبلِ اللّهِ} ‪ :‬كتابه القرآن ودينه السلم‪ ،‬لن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه‪،‬‬ ‫وكل ما يربط ويشد شيئا بآخر هو سبب وحبل‪.‬‬ ‫{فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ} ‪ :‬جمعها على أخوة اليمان ووحد ببنها بعد الختلف والنفرة‪.‬‬ ‫حفْ َرةٍ} ‪ :‬شفا الحفرة‪ :‬حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها‪.‬‬ ‫شفَا ُ‬ ‫{َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قالوا هم‪ :‬شاس اليهودي وأصحابه الذين أثاروا الفتنة بين الوس والخزرج ولكن العبرة بعموم‬ ‫اللفظ ل بخصوص السبب فطاعة أعداء السلم من اليهود والنصارى كانت وما زالت سبب دمار‬ ‫أمة السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬التقاء اسم مصدر اتقى يتقي إتقاءا‪ ،‬وأصلها‪ :‬وقي فتحرك حرف العلة فانفتح ما قبله فقلبه واوا‪،‬‬ ‫فصارت وقاه‪ ،‬وأبدلت الواو تاء فصارت تقاة‪.‬‬

‫( ‪)1/353‬‬ ‫أنقذكم منها ‪ :‬بهدايتكم إلى السلم وبذلك أنجاكم من النار‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد أن وبخ تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين وتوعدهم على ذلك‪ ،‬نادى‬ ‫المؤمنين محذرا إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود فقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ‬ ‫تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ يَرُدّوكُمْ َب ْعدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ} ‪ ،‬وذلك أن نفرا من الوس‬ ‫والخزرج كانوا جالسين في مجلس يسودهم الود والتصافي ببركة السلم الذي هداهم ال تعالى‬ ‫إليه فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود‬ ‫يعيشون في منجاة من الخوف من جيرانهم الوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب‪،‬‬ ‫فأمر شاس شابا أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحمية القبلية بينهم فتسابوا‬ ‫وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صلى ال عليه وسلم وذكرهم بال تعالى وبمقامه‬ ‫فهدأوا‪ ،‬وذهب الشر ونزلت هذه الية‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ‬ ‫يَرُدّوكُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ} فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى‪ ،‬وأنكر عليهم ما‬ ‫حدث منهم حاملً لهم على التعجب من حالهم أو كفروا بعد إيمانهم فقال عز وجل‪َ { :‬وكَ ْيفَ‬ ‫ن وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ آيَاتُ اللّهِ} صباح مساء في الصلوات وغيرها‪َ { ،‬وفِيكُمْ َرسُولُهُ‪ }1‬هاديا‬ ‫َت ْكفُرُو َ‬ ‫ومبشرا ونذيرا وأرشدهم إلى العتصام بدين ال وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة‬ ‫والكمال فقال‪َ { :‬ومَنْ َيعْ َتصِمْ بِاللّهِ} أي‪ :‬بكتابه وسنة نبيه { َفقَدْ هُ ِديَ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ} ثم كرر‬ ‫تعالى نداءه ‪ 2‬لهم بعنوان اليمان تأكيدا لهم به وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى ال عز وجل‬ ‫وذلك بطاعته كامل الطاعة بامتثال أمره واجتناب نهيه حاضا لهم على الثبات على دين ال حتى‬ ‫يموتوا عليه فل يبدلوا ول يغيروا فقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ حَقّ ُتقَاتِهِ‪ 3‬وَل َتمُوتُنّ إِل‬

‫وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ} وأمرهم بالتمسك بالسلم عقيدة وشريعة‪ ،‬ونهاهم عن التفرق والختلف وأرشدهم‬ ‫إلى ذكر نعمته تعالى عليهم باللفة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عصمة هذه المة من الذنوب والسقوط في هذين المرين الكتاب والسنة‪ ،‬فمهما تمسكت أمة‬ ‫السلم بهما فإنها ل تضل ول تسقط ولو كادها أهل الرض أجمعون‪ ،‬ومهما أعرضت عنهما‬ ‫سقطت وهانت ولو دعمها أهل الرض أجمعون‪.‬‬ ‫‪ 2‬من مظاهر إكرا م ال تعالى للمؤمنين أن ناداهم مباشرة بيا أيها الذين آمنوا بخلف أهل الكتاب‬ ‫فإنه أمر رسوله أن يناديهم إشعارا لهم بعدم رضاه عنهم وغضبه عليهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى أن تقوى ال حق تقاته تتمثل في أن يطاع تعالى ول يعصى ويشكر ول يكفر‪ ،‬ويذكر ول‬ ‫ينسى‪ ،‬وخصصتها آية التغابن‪{ :‬فاتقوا ال ما استطعتم} ‪ ،‬إذ ل تكليف مع العجز عن القيام به‪.‬‬

‫( ‪)1/354‬‬ ‫والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم لليمان والسلم‪ ،‬بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين فألف‬ ‫بين قلوبهم فأصبحوا بها إخوانا متحابين متعاونين‪ ،‬كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى اليمان على‬ ‫شفا جهنم لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالدا أبدا‪ ،‬وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار ما زال‬ ‫يبين لهم اليات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها فقال تعالى‪:‬‬ ‫جمِيعا وَل َتفَ ّرقُوا ‪ 1‬وَا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَّلفَ بَيْنَ‬ ‫صمُوا ِبحَ ْبلِ اللّهِ َ‬ ‫{وَاعْ َت ِ‬ ‫حفْ َرةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَ َذ ُكمْ مِ ْنهَا كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ‬ ‫شفَا ُ‬ ‫خوَانا َوكُنْتُمْ عَلَى َ‬ ‫قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْتُمْ بِ ِن ْعمَتِهِ إِ ْ‬ ‫‪َ 2‬لعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على‬ ‫المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر‪ ،‬فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬العصمة في التمسك بكتاب ال ورسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فمن تمسك بهما لم يضل‪.‬‬ ‫‪ -3‬الخذ بالسلم جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلل‪ ،‬وأخيرا من الهلك‬ ‫والخسران‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التمسك بشدة بالدين السلمي وحرمة ‪ 3‬الفرقة والختلف فيه‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب ذكر النعم لجل شكر ال تعالى عليها بطاعته وطاعة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -6‬القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتما‬ ‫بقضاء ال وحكمه‪.‬‬

‫ف وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ(‬ ‫{وَلْ َتكُنْ مِ ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬ ‫‪ )104‬وَل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية حرمة التفرق في الدين‪ ،‬ومنه التفرق في الحكم‪ ،‬فكلهما محرم‪ ،‬لما يفضي بالمتفرقين‬ ‫إلى الهلك والخسران‪ ،‬عرف هذا أعداء السلم فعملوا على تفرقة أمة السلم‪ ،‬وفرقوها مذاهب‬ ‫وطوائف ثم دويلت وحكومات‪ ،‬ثم أذلوها وأهانوها‪.‬‬ ‫‪ 2‬وهذه نعمة أخرى مواصلة إنزال القرآن بالحكام والشرائع والداب والمواعظ والعبر‪ ،‬ليتم لهم‬ ‫كمالهم وسعادتهم في الدنيا والخرة‪ ،‬فلله الحمد والمنة‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم‪" :‬أن ال يرضى لكم ثلثا ويكره لكم ثلثا‪ .‬يرضى لكم أن‬ ‫تعبدوه ول تشركوا به شيئا‪ ،‬وأن تعتصموا بحبل ال جميعا ول تفرقوا‪ ،‬وأن تناصحوا من وله ال‬ ‫أمركم‪ .‬ويكره لكم‪ :‬قيل وقال‪ ،‬وكثرة السؤال‪ ،‬وإضاعة المال" ‪.‬‬

‫( ‪)1/355‬‬ ‫عظِيمٌ(‪َ )105‬يوْمَ‬ ‫ت وَأُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ َ‬ ‫َتكُونُوا كَالّذِينَ َتفَ ّرقُوا وَاخْتََلفُوا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ الْبَيّنَا ُ‬ ‫ت وُجُو ُههُمْ َأ َكفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ‬ ‫سوَ ّد ْ‬ ‫سوَ ّد وُجُوهٌ فََأمّا الّذِينَ ا ْ‬ ‫ض وُجُوهٌ وَتَ ْ‬ ‫تَبْ َي ّ‬ ‫حمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‪ )107‬تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ‬ ‫ضتْ ُوجُو ُههُمْ َففِي َر ْ‬ ‫َت ْكفُرُونَ(‪ )106‬وََأمّا الّذِينَ ابْ َي ّ‬ ‫ض وَإِلَى‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَرْ ِ‬ ‫ق َومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما لِ ْلعَاَلمِينَ(‪ )108‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ‬ ‫لمُورُ(‪})109‬‬ ‫اللّهِ تُ ْرجَ ُع ا ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المة ‪ :‬أفراد من البشر أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحدا‪،‬‬ ‫والمراد بالمة هنا المجاهدون وهيئات المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫{ا ْلخَيْرِ} ‪ :‬السلم وكل ما ينفع النسان في حياته الولى والخرة من اليمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫المعروف ‪ :‬المعروف كل ما عرفه الشرع فأمر به لنفعه وصلحه للفرد أو الجماعة‪.‬‬ ‫{ا ْلمُ ْنكَرِ} ‪ :‬ضد المعروف‪ ،‬وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد‪ ،‬للفرد أو الجماعة‪.‬‬ ‫الذين تفرقوا ‪ :‬هم أهل الكتاب من اليهود ‪ 1‬والنصارى‪.‬‬ ‫ض وُجُوهٌ‪ : }2‬هذا يوم القيامة‪.‬‬ ‫{ َيوْمَ تَبْ َي ّ‬ ‫حمَةِ اللّهِ} ‪ :‬رحمة ال هنا‪ :‬الجنة جعلنا ال تعالى من أهلها‪ ،‬آمين‪.‬‬ ‫{ َففِي َر ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقيل هم‪ :‬الحرورية‪ ،‬وقيل‪ :‬المبتدعة من هذه المة‪ ،‬وكونهم اليهود والنصارى‪ ،‬هذا الراجح‬

‫والحق وعليه جمهور المفسرين‪.‬‬ ‫‪ 2‬تبيض وجوه المؤمنين المتقين وتسود وجوه الكافرين والمبتدعين من أصحاب الهواء‪.‬‬

‫( ‪)1/356‬‬ ‫تلك آيات ال نتلوها عليك بالحق‪ :‬هذه آياتنا نقرأها عليك متلبسة بالحق‪ ،‬ل باطل فيها أبدا‪ .‬وإلى‬ ‫ال ترجع المور‪ :‬إلى ال تصير المور فيقضي فيها بما يشاء ويحكم ما يريد فضلً وعدلً‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه والتمسك بدينه ونهاهم عن الفرقة والختلف‬ ‫وحضهم على ذكر نعمه ليشكروها بطاعته أمرهم في هذه الية(‪ )104‬بأن يوجدوا من أنفسهم‬ ‫جماعة تدعو إلى السلم وذلك بعرضه على المم والشعوب ودعوتهم إلى الدخول فيه‪ ،‬كما تأمر‬ ‫بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار السلم وبين أهله فقال تعالى مخاطبا إياهم‪ :‬ولتكن منكم ‪1‬‬ ‫أي‪ :‬يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير‪ ،‬أي‪ :‬السلم‪ ،‬ويأمرون بالمعروف وينهون عن‬ ‫المنكر‪ ،‬وبشرهم بأن المة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والخرة فقال‪:‬‬ ‫فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من العار والنار‪ ،‬وبدخول الجنة مع البرار‪.‬‬ ‫وفي اليات(‪ )107()105‬نهاهم أن يسلكوا أهل الكتاب في التفرق في السياسة والختلف في‬ ‫الدين فيهلكوا هلكهم فقال تعالى‪ :‬مخاطبا إياهم‪{ :‬وَل َتكُونُوا كَالّذِينَ َتفَ ّرقُوا وَاخْ َتَلفُوا مِنْ َبعْدِ مَا‬ ‫جَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ} فل ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع ال سببا في الفرقة والخلف ‪ ،2‬وهما‬ ‫أداة الوحدة والئتلف‪ ،‬وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب ليعتبروا ول يتفرقوا فقال تعالى‪:‬‬ ‫عظِيمٌ} ل يغادر قدره ول يعرف مداه‪ ،‬وأخبرهم عن موعد حاول هذا العذاب‬ ‫عذَابٌ َ‬ ‫{وَأُولَ ِئكَ َلهُمْ َ‬ ‫العظيم بهم‪ ،‬وأنه يوم القيامة حينما تبيض وجوه المؤمنين القائمين على الكتاب والسنة‪ ،‬وتسود‬ ‫ض وُجُوهٌ‪3‬‬ ‫وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والهواء‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬يوْمَ تَبْ َي ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من‪ :‬للتبعيض‪ ،‬وعليه فسرنا الية‪ ،‬وقلنا بوجود طائفة ل كل المة‪ ،‬إذ لبد من العلم لمن يأمر‬ ‫بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬والعلم ل يتوفر لكل فرد أبدا‪ ،‬ولذا فالمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر فرض على الكفاية‪.‬‬ ‫‪ 2‬نهاهم تعالى عن التفرق والختلف‪ ،‬وقد وقع ما نهاهم عنه‪ ،‬وثبت ما أخبر به رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ ،‬فقد قال‪" :‬تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة‪،‬‬ ‫النصارى مثل ذلك‪ ،‬وتفرقت أمتي على ثلث وسبعين فرقة" ‪ .‬رواه الترمذي وقال هذا حديث‬ ‫صحيح‪ ،‬وفعلً وقد وجدت ست فرق‪ ،‬وهي‪ :‬الحرورية –والقدرية –والجهمية –والمرجئة –‬ ‫والرافضة –والجبرية‪ .‬انقسمت كل فرقة من هذه إلى اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين‬

‫فرقة كلها في النار إلى أهل السنة والجماعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى ابن القاسم عن مالك في العتبية أنه قال ما آية في كتاب ال أشد على أهل الختلف من‬ ‫سوَدّ وُجُوهٌ} ‪ ،‬قال مالك‪ :‬إنما هذه الية لهل‬ ‫أهل الهواء من هذه الية‪َ { :‬يوْمَ تَبْ َيضّ ُوجُوهٌ وَتَ ْ‬ ‫القبلة بدليل قوله تعالى‪َ{ :‬أكَفَرْتُمْ َب ْعدَ إِيمَا ِنكُمْ‪. }...‬‬

‫( ‪)1/357‬‬ ‫سوَ ّد وُجُوهٌ} وبين جزاء الفريقين فقال‪ :‬فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهل‬ ‫وَتَ ْ‬ ‫الموقف وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار فيقال لهم تفريعا وتوبيخا‪َ{ :‬أ َكفَرْتُمْ َبعْدَ‬ ‫إِيمَا ِنكُمْ} إذ هذه وجوه من تلك حالهم‪ ،‬فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون بال وشرائعه‪.‬‬ ‫وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم قال تعالى‪َ { :‬ففِي‬ ‫حمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}‪.‬‬ ‫رَ ْ‬ ‫وفي الية(‪ )108‬شرف ال تعالى نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم بخطابه والوحي إليه فقال‪{ :‬تِ ْلكَ‬ ‫حقّ} أي‪ :‬هذه اليات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق‬ ‫آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا ‪ 1‬عَلَ ْيكَ بِالْ َ‬ ‫الثابت الذي ل مرية فيه‪ ،‬ول شك يعتريه فبلغها عنا وادع بها إلينا فمن استجاب لك نجا ومن‬ ‫أعرض هلك‪ ،‬وما ال يريد ظلما للعالمين‪ .‬فل يعذب إل بعد العلم والنذار‪.‬‬ ‫وفي الية الخيرة(‪ )109‬يخبر تعالى أنه له ملك السموات والرض خلقا وتصرفا وتدبيرا‪ ،‬وأن‬ ‫مصير المور إليه وسيجزي المحسن بالحسنى و المسيء بالسوأى‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب وجود طائفة من أمة السلم تدعو المم والشعوب إلى السلم و تعرضه عليهم‬ ‫وتقاتلهم إن قاتلوها عليه‪ ،‬ووجوب وجود هيئات المر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن‬ ‫وقرى المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة الفرقة بين المسلمين والختلف في دين ال‪.‬‬ ‫‪ -3‬أهل البدع والهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم‪.‬‬ ‫‪ -4‬أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول ال ‪ 2‬صلى‬ ‫ال عليه وسلم وأصحابه يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬التلوة‪ :‬كالقراءة‪ ،‬إل أن القراءة عادة تكون لكلم مكتوب‪ ،‬وأما التلوة فهي مجرد حكاية كلم‬ ‫لرادة تبليغه بلفظه‪.‬‬ ‫‪ " 2‬افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة‪ ،‬وستفترق‬

‫هذه الملة إلى ثلث وسبعين فرقة كلها في النار إل واحدة في الجنة‪ ،‬وقيل من هم يا رسول ال‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬هم الذين يكونون على ما أنا عليه وأصحابي"‪.‬‬

‫( ‪)1/358‬‬ ‫‪ -5‬كرامة الرسول على ربه وتقرير نبوته‪ .‬وشرف من آمن به واتبع ما جاء به‪.‬‬ ‫‪ -6‬مرد المور إلى ال تعالى في الدنيا والخرة فيجب على عقلء العباد أن يتخذوا لهم عند ال‬ ‫عهدا باليمان به وتوحيده في عبادته بتحقيق ل إله إل ال محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وََلوْ آمَنَ أَ ْهلُ‬ ‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬ ‫{كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬ ‫ى وَإِنْ ُيقَاتِلُوكُمْ‬ ‫سقُونَ(‪ )110‬لَنْ َيضُرّوكُمْ إِل أَذ ً‬ ‫ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرا َل ُهمْ مِ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬ ‫ُيوَلّوكُمُ الَدْبَارَ ثُمّ ل يُ ْنصَرُونَ(‪ )111‬ضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ُث ِقفُوا إِل ِبحَ ْبلٍ مِنَ اللّ ِه وَحَ ْبلٍ مِنَ‬ ‫سكَ َنةُ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَانُوا َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ‬ ‫ضبٍ مِنَ اللّ ِه َوضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَ ْ‬ ‫س وَبَاءُوا ِب َغ َ‬ ‫النّا ِ‬ ‫عصَوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ(‪})112‬‬ ‫حقّ َذِلكَ ِبمَا َ‬ ‫الَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ} ‪ :‬وجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الرض‪.‬‬ ‫جتْ لِلنّاسِ} ‪ :‬أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم‪.‬‬ ‫{ُأخْرِ َ‬ ‫{أَذىً} ‪ :‬الذى‪ :‬الضرر اليسير‪.‬‬ ‫{ ُيوَلّوكُ ُم الَدْبَارَ} ‪ :‬ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم‪ ،‬أي‪ :‬ظهورهم‪.‬‬ ‫{ضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ} ‪ :‬أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى ل تفارقهم‪.‬‬ ‫ضبٍ} ‪ :‬رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب ال‪.‬‬ ‫{وَبَاءُوا ِب َغ َ‬ ‫{ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ ‪ }...‬إلخ‪ :.‬ذلك إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة وما عادوا به من غضب‬ ‫ال تعالى وما تبعه من عذاب "فالباء" في بأنهم‬

‫( ‪)1/359‬‬ ‫سببه‪ ،‬أي‪ :‬بسبب فعلهم كذا وكذا والمسكنة هي ذلة الفاقة والفقر‪.‬‬ ‫{ َيعْتَدُونَ} ‪ :‬العتداء مجاوزة الحد في الظلم والفساد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أمر ال تعالى المؤمنين بتقواه والعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون‬ ‫إلى السلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم‪{ :‬كُنْتُمْ‬ ‫جتْ لِلنّاسِ} كما قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬كنتم خير الناس للناس‪"..‬‬ ‫خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬

‫ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال تأمرون بالمعروف وهو السلم وشرائع الهدى التي جاء بها‬ ‫نبيه صلى ال عليه وسلم وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الثم والفواحش‪،‬‬ ‫وتؤمنون بال‪ .‬وبما يتضمنه اليمان بال من اليمان بكل ما أمر تعالى باليمان به من الملئكة‬ ‫والكتب والرسل والبعث الخر والقدر‪ .‬ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى اليمان الصحيح المنجي من‬ ‫عذاب ال‪ ،‬فقال عز وجل‪ ،‬ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من السلم لكان خيرا‬ ‫لهم من دعوى اليمان الكاذبة التي يدعونها‪ .‬وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في‬ ‫إيمانهم؛ كعبد ال بن سلم وأخيه‪ ،‬وثعلبة بن سعيد وأخيه‪ ،‬وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما‬ ‫جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك أمر ال تعالى باليمان بالنبي المي واتباعه على‬ ‫مايجيء به من السلم ثم أخبر المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إل أذى يسيرا‬ ‫كإسماعهم الباطل وقولهم الكذب‪ .‬وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارين من‬ ‫القتال ثم ل ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين‪.‬‬ ‫كما أخبر تعالى في الية(‪ )112‬أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي يا البلد‬ ‫وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الحوال إل في حال دخولهم في السلم وهو حبل‬ ‫‪ 1‬ال‪ ،‬أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل ‪ 2‬الناس‪ .‬كما أخبر تعالى عنهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية مخصصة لعموم آية العراف‪{ :‬وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْي ِهمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ‬ ‫يَسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ} إل في حال إسلمهم أو ارتباطهم بمعاداة دولة قوية كما هي الحال اليوم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحبل مستعار هنا للعهد‪ ،‬أي‪ :‬المعاهدة التي تربطهم بدولة قوية كبريطانيا وأمريكا الن‪.‬‬

‫( ‪)1/360‬‬ ‫أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب ال‪ ،‬وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر‬ ‫المعبر عنها بالمسكنة‪ ،‬وفي الخرة بعذاب جهنم كما ذكر تعالى علة عقوبتهم‪ ،‬وأنها الكفر بآيات‬ ‫ال وقتل النبياء بغير حق وعصيانهم المستمر واعتداؤهم الذي ل ينقطع فقال تعالى {ذَِلكَ ِبمَا‬ ‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ} ‪.‬‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إثبات خيرية أمة السلم وفي الحديث‪" :‬أنتم تتمون ‪ 1‬سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على‬ ‫ال" ‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان علة خيرية أمة ‪ 2‬السلم‪ ،‬وهي اليمان بال والجهاد والمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر‪.‬‬

‫‪ -3‬وعد ال تعالى لمة السلم –ما تمسكت به‪ -‬بالنصر على اليهود في أي قتال بينهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان جرائم اليهود التي كانت سببا في ذلتهم ومسكنتهم وهي الكفر المستمر‪ ،‬وقتل النبياء‬ ‫بغير حق والعصيان والعتداء على حدود الشرع‪.‬‬ ‫سجُدُونَ(‪ُ )113‬ي ْؤمِنُونَ‬ ‫سوَاءً مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَا ِئ َمةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّ ْيلِ وَهُمْ يَ ْ‬ ‫{لَ ْيسُوا َ‬ ‫بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُسَارِعُونَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ومن هنا فعصر الصحابة أفضل ممن بعدهم‪ ،‬وذلك لتحقق الصفات التي كانت بها الخيرية‪،‬‬ ‫ويشهد لهذا الحديث الصحيح‪" :‬خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ‪ .‬فالخيرية‬ ‫العامة لهذه المة ل جدال فيها‪ ،‬والخيرية الخاصة فهي‪ :‬تتوفر لهل الصفات الثلث‪ :‬المر‬ ‫بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬واليمان التام في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫‪ 2‬يوضح هذا قول عمر في حجه‪ ،‬وقد رأى في الناس دعة فقال‪ ،‬بعد أن قرأ هذه الية‪{ :‬كُنْتُمْ‬ ‫جتْ لِلنّاسِ} ‪ .‬من سره أن يكون في هذه المة فليؤد شرط ال فيها‪.‬‬ ‫خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬

‫( ‪)1/361‬‬ ‫ت وَأُولَ ِئكَ مِنَ الصّالِحِينَ(‪َ )114‬ومَا َي ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ ُي ْكفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ(‬ ‫فِي الْخَيْرَا ِ‬ ‫‪})115‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سوَاءً} ‪ :‬غير متساوين‪.‬‬ ‫{لَ ْيسُوا َ‬ ‫{ُأمّةٌ قَا ِئمَةٌ} ‪ :‬جماعة قائمة ثابتة على اليمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫{يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ} ‪ :‬يقرأون القرآن‪.‬‬ ‫{آنَاءَ اللّ ْيلِ} ‪ :‬ساعات الليل جمع إني وإني‪.‬‬ ‫جدُونَ} ‪ :‬يصلون‪.‬‬ ‫{وَهُمْ يَسْ ُ‬ ‫{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ‪ :‬يستدرونها خشية الفوات‪.‬‬ ‫{فَلَنْ ُي ْكفَرُوهُ} ‪ :‬فلن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون به وافيا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب وأنهم فريقان مؤمن صالح‪ ،‬وكافر فاسد‪ .‬ذكر هنا في هذا‬ ‫اليات الثلث‪ )115-114-113( :‬أن أهل الكتاب ليسوا سواء ‪ ،1‬أي‪ :‬غير متساوين في الحال‪،‬‬ ‫سوَاءً مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَا ِئمَةٌ‪ ، }2‬أي‪:‬‬ ‫وأثنى على أهل الصلح منهم فقال جل ذكره {لَيْسُوا َ‬ ‫على اليمان الحق والدين الصحيح وهم الذين أسلموا‪ .‬يتلون آيات ال يقرأونها في صلتهم آناء‬

‫الليل‪ ،‬أي‪ :‬ساعات الليل في صلة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون‪ ،‬وهذا ثناء عليهم بالسجود‪ ،‬إذ‬ ‫هو أعظم مظاهر الخشوع ل تعالى كما أثنى تعالى عليهم باليمان الصادق والمر بالمعروف‬ ‫وهو الدعوة إلى عبادة ال تعالى بعد اليمان به والسلم الظاهر والباطن له‪ .‬وينهون عن المنكر‬ ‫وهو الشرك بعبادة ال تعالى والكفر به وبرسوله فقال عز وجل‪{ :‬وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْن َهوْنَ‬ ‫عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي‪ :‬يبادرون إليها قبل فواتها‪ ،‬والخيرات هي كل قول وعمل‬ ‫صالح من سائر القربات‪ .‬وشهد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يرى بعضهم أن الكلم تم عند قوله‪{ :‬ليسوا سواء} أي‪ :‬ليس المسلمون و أهل الكتاب سواء‪ ،‬ثم‬ ‫استأنف فقال‪{ :‬من أهل الكتاب} إلخ‪ .‬وما ذكرته في التفسير أصح وأوضح‪.‬‬ ‫‪ 2‬المراد بهم‪ :‬عبد ال بن سلم‪ ،‬وأخوه‪ ،‬وعمته‪ ،‬وسعيه أو سنعة بن غريض‪ ،‬وثعلبة بن سعية‪،‬‬ ‫وأسد القرظي‪ ،‬وغيرهم ممن أسلموا وحسن إسلمهم في دنيا السلم والمسلمين إلى اليوم‪.‬‬

‫( ‪)1/362‬‬ ‫تعالى لهم بالصلح فقال‪{ :‬وَأُولَ ِئكَ مِنَ الصّالِحِينَ} ‪.‬‬ ‫وأخيرا في الية الخيرة(‪ )115‬أن ما يفعلونه من الصالحات وما يأتونه من الخيرات لن يجحدوه‬ ‫بل يعترف لهم به ويجزون عليه أتم الجزاء‪ ،‬لنهم متقون وال عليهم بالمتقين فلن يضيع أجرهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل تلوة القرآن الكريم في صلة الليل‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل اليمان والدعوة إلى السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلمه‪ ،‬وفي الصحيحين يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫"ثلثة يؤتون أجرهم مرتين‪ :‬رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران" الحديث‪.‬‬ ‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا‬ ‫{ إِنّ الّذِينَ‪َ 1‬كفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُمْ وَل َأوْلدُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا وَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬ ‫خَاِلدُونَ(‪ )116‬مَ َثلُ مَا يُ ْن ِفقُونَ فِي َه ِذهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ َأصَا َبتْ حَ ْرثَ َقوْمٍ ظََلمُوا‬ ‫ظِلمُونَ(‪})117‬‬ ‫سهُمْ يَ ْ‬ ‫سهُمْ فَأَهَْلكَتْهُ َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وََلكِنْ أَ ْنفُ َ‬ ‫أَ ْنفُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َكفَرُوا} ‪ :‬كذبوا بال ورسوله وشرعه ودينه‪.‬‬

‫{لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ} ‪ :‬لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ول أولدهم من عذاب ال شيئا‪ ،‬إذ ل مال‬ ‫يومئذ ينفع‪ ،‬ول بنون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا} اسم إن‪ ،‬والخبر {لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْن ُهمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَل َأوْلدُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا} ‪.‬‬

‫( ‪)1/363‬‬ ‫{مَ َثلُ} ‪ :‬أي‪ :‬صفة وحال ما ينفقونه لبطال دعوة السلم‪ ،‬أو للتصدق به‪.‬‬ ‫الصر ‪ : 1‬الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده‪.‬‬ ‫الحرث ‪ :‬ما تحرث له الرض وهو الزرع‪.‬‬ ‫سهُمْ} ‪ :‬حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلك والخسار‪.‬‬ ‫{ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال ذكر هنا في‬ ‫هاتين اليتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في‬ ‫الترغيب والترهيب ليهتدي من هيأه ال تعالى للهداية فقال‪ :‬إن الذين كفروا أي كذبوا ال ورسوله‬ ‫فلم يؤمنوا ولم يوحدوا لن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم ‪ 2‬أي‪ :‬في الدنيا والخرة مما أراد ال‬ ‫تعالى بهم شيئا من الغناء؛ لن ال تعالى غالب على أمره وعزيز ذو انتقام‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫{وَأُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ} ‪ .‬فيه بيان حكم ال تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في‬ ‫الكفر والضلل المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها ل يفارقونها أبدا‬ ‫ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرن بها‪ ،‬ول أولدهم الذين كانوا يعتزون بهم‬ ‫ويستنصرون‪ ،‬إذ يوم القيامة ل ينفع فيه مال ول بنون إل من أتى ال بقلب سليم‪ :‬سليم من الشك‬ ‫والشرك والكبر والعجب والنفاق‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية‪ )116( :‬أما الية(‪ )117‬فقد ضرب تعالى فيها مثلً لبطلن نفقات الكفار‬ ‫والمشركين وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والخرة ضرب لها مثلً‪ :‬ريحا باردة‬ ‫شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد وهم به فرحون وفيه مؤملون فأفسدته تلك الريح‬ ‫وقضت عليه نهائيا فلم ينتفعوا بشيء منه‪ ،‬قال تعالى في هذا المثل‪ :‬مثل ما ينفقون‪ ،‬أي‪ :‬أولئك‬ ‫الكفار في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬أي‪ :‬مما يرونه نافعا لهم من بعض أنواع البر‪َ { .‬كمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ‪3‬‬ ‫َأصَابَت} أي تلك الريح الباردة حرث قوم‪ ،‬أي‪ :‬زرعهم النابت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصر‪ :‬مأخوذ من الصرير الذي هو الصوت‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬نهى رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم عن أكل الجراد الذي الذي قتله الصر" أي‪ :‬البرد الشديد‪.‬‬

‫‪ 2‬كرر حرف النفي‪{ :‬ول أولدهم} لتأكيد عدم إغناء الولد عنهم شيئا مع أن العرف‪ :‬أن الولد‬ ‫يذبون عن آبائهم ويدفعون عنهم‪.‬‬ ‫‪{ 3‬فيها صر} هذا التعبير أفاد شدة برد هذا الريح‪ ،‬إذ جعل الصر مظروفا فيها‪.‬‬

‫( ‪)1/364‬‬ ‫فأهلكته‪ ،‬أي‪ :‬أفسدته‪ .‬فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون‪ ،‬وما ظلمهم ‪ 1‬حيث أرسل عليهم الريح‬ ‫فأهلكت زرعهم‪ ،‬إذ لم يفعل ال تعالى هذا بهم إل لنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد فجزاهم ال‬ ‫سهُمْ يَظِْلمُونَ} ‪.‬‬ ‫ظَل َمهُمُ اللّهُ وََلكِنْ أَ ْنفُ َ‬ ‫بالحرمان وبذلك كانوا هم الظالمين لنفسهم‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬لن يغني عن المرء مال ول ولد متى ظلم وتعرض لنقمة ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬الكفر هم أهل النار وخلودهم فيها محكوم به مقدر عليهم ل نجاة منه‪.‬‬ ‫‪ -3‬ان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر‪.‬‬ ‫‪ -4‬حسان ضرب المثال في الكلم لتقريب المعاني إلى الذهان‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا بِطَا َنةً مِنْ دُو ِنكُمْ ل يَأْلُو َنكُمْ خَبَالً وَدّوا مَا عَنِتّمْ قَدْ بَ َدتِ الْ َب ْغضَاءُ مِنْ‬ ‫خفِي صُدُورُهُمْ َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا َلكُ ُم الياتِ إِنْ كُنْتُمْ َتعْقِلُونَ(‪ )118‬هَا أَنْتُمْ أُولءِ ُتحِبّو َنهُمْ‬ ‫َأ ْفوَا ِههِ ْم َومَا تُ ْ‬ ‫عضّوا عَلَ ْيكُ ُم الَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ‬ ‫وَل ُيحِبّو َنكُ ْم وَ ُتؤْمِنُونَ بِا ْلكِتَابِ كُلّ ِه وَإِذَا َلقُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خََلوْا َ‬ ‫سؤْهُمْ وَإِنْ ُتصِ ْبكُمْ سَيّئَةٌ‬ ‫سكُمْ حَسَ َنةٌ تَ ُ‬ ‫ظكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ(‪ )119‬إِنْ َتمْسَ ْ‬ ‫ُقلْ مُوتُوا ِبغَيْ ِ‬ ‫َيفْرَحُوا ِبهَا وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَ ّتقُوا ل َيضُ ّركُمْ كَيْ ُدهُمْ شَيْئا إِنّ اللّهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطٌ(‪})120‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نفى تعالى عن نفسه ظلم هؤلء المنفقين في الباطل والشر والفساد فلم يجنوا خيرا من إنفاقهم‬ ‫وأثبت الظلم منهم لنفسهم لسوء إنفاقهم وفساده‪.‬‬

‫( ‪)1/365‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ِبطَانَةً} ‪ :‬بطانة الرجل ‪ 1‬الذين يطلعهم على باطن ‪ 2‬أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة‪.‬‬ ‫{مِنْ دُو ِنكُمْ} ‪ :‬من غيركم‪ ،‬أي‪ :‬من غير المسلمين؛ كالكفار وأهل الكتاب‪.‬‬ ‫{ل يَأْلُو َنكُمْ} ‪ :‬ل يقصرون في إفساد المور عليكم‪.‬‬ ‫{خَبَالً‪ : }3‬فسادا في أمور دينكم ودنياكم‪.‬‬

‫{وَدّوا مَا عَنِتّمْ} ‪ :‬أحبوا عنتكم‪ ،‬أي‪ :‬مشقتكم‪.‬‬ ‫{ َب َدتِ الْ َب ْغضَاءُ} ‪ :‬ظهرت شدة بغضهم لكم‪.‬‬ ‫{أُولءِ} ‪ :‬هؤلء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها‪.‬‬ ‫{بِا ْلكِتَابِ كُلّهِ} ‪ :‬أي‪ :‬بالكتب اللهية كلها‪.‬‬ ‫عضّوا عَلَ ْيكُ ُم الَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ} ‪ :‬من شدة الغيظ عليكم؛ لن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ بعض‬ ‫{َ‬ ‫أصبعه على عادة البشر‪ ،‬والغيظ‪ :‬شدة الغضب‪.‬‬ ‫{حَسَنَةٌ} ‪ :‬ما يحسن من أنواع الخير؛ كالنصر والتأييد والقوة والخير‪.‬‬ ‫{سَيّ َئةٌ} ‪ :‬ما يسوءكم؛ كالهزيمة أو الموت أو المجاعة‪.‬‬ ‫{كَيْ ُدهُمْ} ‪ :‬مكرهم بكم وتبييت الشر لكم‪.‬‬ ‫{ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطٌ} ‪ :‬علما به وقدرة عليه‪ ،‬إذ هم واقعون تحت قهره وعظيم سلطانه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أخبر تعالى عن مصير الكافرين في الخرة‪ ،‬وأن ذلك المصير المظلم كان نتيجة كفرهم‬ ‫وظلمهم حذر المؤمنين من موالتهم دون المؤمنين وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم‬ ‫الغيظ والبغضاء للمسلمين الذين ل يقصرون في العمل على إفساد أحوال المسلمين والذين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل البطانة‪ :‬بطانة الثوب شبه بها بطانة الرجل ووليجته‪ ،‬وهم من يطلعهم على أسراره ثقة‬ ‫فيهم‪ ،‬ومثل البطانة الشعار وهو الثوب الذي يلي الجسد‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬النصار شعار والناس‬ ‫دثار" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى البخاري تعليقا‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ما بعث ال من نبي ول استخلف من‬ ‫خليفة إل كانت له بطانتان‪ :‬بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه‪ ،‬وبطانة تأمره بالسوء وتحضه‬ ‫عليه‪ .‬والمعصوم من عصمه ال "‪.‬‬ ‫‪ 3‬الخبال‪ :‬الخبل‪ ،‬وهو الفساد‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬من أصيب بدم أو خبل" أي‪ :‬جرح يفسد العضو‪،‬‬ ‫ويقال‪ :‬رجل خبل‪ ،‬وخبله الحب‪ :‬أفسده‪.‬‬

‫( ‪)1/366‬‬ ‫يسوءهم أن يروا المسلمين متآلفين متحابين أقوياء ظاهرين متصورين على أهل الشرك والكفر‪،‬‬ ‫ويسرهم أيضا أن يروا المسلمين مختلفين أو ضعفاء منكسرين مغلوبين‪ .‬فقال تعالى –وقوله‬ ‫الحق‪{ -‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا} أي‪ :‬بال ربا وبالسلم دينا وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبيا‬ ‫ورسولً‪{ .‬ل تَتّخِذُوا ِبطَانَةً} أي‪ :‬أفرادا من دونكم ‪ 1‬أي‪ :‬من غير أهل دينكم؛ كاليهود والنصارى‬ ‫والمنافقين والمشركين تستشيرونهم وتطلعونهم على أسراركم وبواطن أموركم‪ ،‬ووصفهم تعالى‬

‫تعريفا بهم فقال‪{ :‬ل يَأْلُو َنكُمْ‪ 2‬خَبَالً} ‪ ،‬يعني‪ :‬ل يقصرون في إفساد أموركم الدينية والدنيوية‪.‬‬ ‫{وَدّوا مَا عَنِتّمْ} أي‪ :‬أحبوا عنتكم ومشقتكم‪ ،‬فلذا هم ل يشيرون عليكم إل بما يفسد عليكم أموركم‬ ‫خفِي‬ ‫ويسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم وقوله تعالى‪َ { :‬قدْ بَ َدتِ الْ َب ْغضَاءُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِه ْم َومَا ُت ْ‬ ‫صُدُورُهُمْ َأكْبَرُ} وصف آخر مشخص لهؤلء العداء المحرم اتخاذهم بطانة‪ ،‬أل وهو ظهور‬ ‫البغضاء من أفواههم ‪ 3‬بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للسلم وأهله‪ ،‬وما يخفونه‬ ‫من ذلك في صدورهم ‪ 4‬هو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم‪ .‬ويؤكد عز وجل تحذيره للمؤمنين فيقول‪:‬‬ ‫{ َقدْ بَيّنّا َلكُ ُم الياتِ} المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا {إِنْ كُنْتُمْ َت ْعقِلُونَ} أي‪:‬‬ ‫الخطاب وما يتلى عليم ويقال لكم‪ .‬ثم يقول تعالى معلما محذرا ها أنتم أيها المسلمون تحبونهم ول‬ ‫يحبونكم‪ .‬قد علم ال أن من بين المؤمنين من يحب بعض الكافرين لعلقة الحسان الظاهرة بينهم‬ ‫فأخبر تعالى عن هؤلء كما أن رحمة المؤمن وشفقته قد تتعدى حتى لعدائه فلذا ذكر تعالى هذا‬ ‫وأخبر به وهو الحق‪ ،‬وقال‪{ :‬وَ ُت ْؤمِنُونَ} أي‪ :‬وهم ل يؤمنون بكتابكم فانظروا إلى الفرق بينكم‬ ‫وبينهم فكيف إذا تتخذونهم بطانة تفضون إليهم بأسراركم‪ .‬وأخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا لقوا‬ ‫المؤمنين قالوا إنا مؤمنون وإذا تفرقوا عنهم وخلوا بأنفسهم ذكروهم وتغيظوا عليهم حتى يعضوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل لعمر رضي ال عنه‪ :‬إن ها هنا رجل من نصارى الحيرة ل أحد أكتب منه ول أخط بقلم‬ ‫أفل يكتب عنك؟ فقال‪" :‬ل آخذ بطانة من دون المؤمنين" وجاء أبو موسى الشعري بحساب‬ ‫نصارى لعمر فانتهره وقال‪" :‬ل تدنهم‪ ،‬وقد أقصاهم ال‪ ،‬ول تكرمهم وقد أهانهم‪ ،‬ول تأمنهم وقد‬ ‫خونهم ال"‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الجملة وإن كانت صفة لكلمة بطانة‪ ،‬فهي معنى العلة للنهي السابق‪.‬‬ ‫‪ 3‬خصت الفواه بالذكر دون اللسن إشارة إلى أنهم يتشدقون بالكلم إيهاما وتضليلً‪.‬‬ ‫‪ 4‬استدل أهل العلم بهذه الية على أن شهادة العدو ل تصح على عدوه‪ ،‬وكيف به إذا كان كافرا؟‪.‬‬

‫( ‪)1/367‬‬ ‫عضّوا عَلَ ْيكُمُ‬ ‫أطراف أصابعهم ‪ 1‬من شدة الغيظ‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬وَِإذَا َلقُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خََلوْا َ‬ ‫الَنَامِلَ‪ 2‬مِنَ ا ْلغَيْظِ} وهنا أمر رسوله أن يدعو عليهم بالهلك فقال له‪ :‬قل يا رسولنا لهم {مُوتُوا‬ ‫علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ} فلذا أخبر عنهم كاشفا الغطاء عما تكنه نفوسهم ويخفونه في‬ ‫ظكُمْ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫ِبغَيْ ِ‬ ‫صدورهم‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته اليتان الولى(‪ )118‬والثانية(‪ )119‬وأما الية الثالثة(‪ )120‬فقد تضمنت أيضا بيان‬ ‫صفة نفسية للكافرين المنهي عن اتخاذهم بطانة وهو استياؤهم وتألمهم لما يرونه من حسن حال‬ ‫المسلمين كائتلفهم واجتماع كلمتهم ونصرهم وعزتهم وقوتهم وسعة رزقهم‪ ،‬كما هو أيضا فرحهم‬

‫وسرورهم بما قد يشاهدونه من خلف بين المسملين أو وقوع هزيمة لجيش من جيوشهم‪ ،‬أو تغير‬ ‫حال عليهم بما يضر ول يسر وهذه نهاية العداوة وشدة البغضاء‪ ،‬فهل مثل هؤلء يتخذون‬ ‫سؤْ ُه ْم وَإِنْ ُتصِ ْبكُمْ سَيّئَةٌ َيفْرَحُوا ِبهَا} ‪ .‬ولما وصف‬ ‫سكُمْ حَسَنَةٌ‪ 3‬تَ ُ‬ ‫أولياء؟‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬إِنْ َت ْمسَ ْ‬ ‫تعالى هؤلء الكفرة بصفات مهيلة مخيفة‪ ،‬قال لعباده المؤمنين مبعدا الخوف عنهم‪{ :‬وَإِنْ َتصْبِرُوا}‬ ‫على ما يصيبكم وتتقوا ال تعالى في أمره ونهيه وفي سننه في خلقه ل يضركم ‪ 4‬كيدهم شيئا‪ ،‬لن‬ ‫ال تعالى وليكم مطلع على تحركاتهم وسائر تصرفاتهم وسيحبطها كلها‪ ،‬دل على هذا المعنى قوله‬ ‫في الجملة التذيلية {إِنّ اللّهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطٌ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة وحرمة إطلعهم على أسرار الدولة‬ ‫السلمية‪ ،‬والمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين‪.‬‬ ‫‪ -4‬الوقاية من كيد الكفار ومكرهم تكمن في الصبر والتجلد وعدم إظهار الخوف للكافرين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬العض‪ :‬مصدر عض‪ ،‬عض يعض عضا وعضيضا‪ ،‬إذا أخذ الشيء بأسنانه‪ ،‬والعض بضم‬ ‫العين‪ :‬علف الدواب‪.‬‬ ‫‪ 2‬النامل‪ :‬جمع أنملة‪ ،‬وهي طرف الصبع العلى‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا من شدة حسدهم للمسلمين‪ ،‬ولقد أحسن من قال‪:‬‬ ‫كل العداوة قد ترجى إفاقتها ‪ ...‬إل عداوة من عداك من حسد‬ ‫‪ 4‬قرئ‪{ :‬ل يضركم} من ضاره يضيره ضيرا‪ ،‬ومن قوله تعالى‪{ :‬ل ضَيْرَ} ‪ ،‬والضير‪،‬‬ ‫والضرر‪ :‬بمعنى واحد‪.‬‬

‫( ‪)1/368‬‬ ‫ثم تقوى ال تعالى بإقامة دينه ولزوم شرعه والتوكل عليه‪ ,‬والخذ بسننه في القوة والصبر‪.‬‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪ِ )121‬إذْ َه ّمتْ طَا ِئفَتَانِ مِ ْنكُمْ‬ ‫غ َد ْوتَ مِنْ َأهِْلكَ تُ َب ّوئُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ َمقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ وَاللّهُ َ‬ ‫{وَإِذْ َ‬ ‫أَنْ َتفْشَل وَاللّ ُه وَلِ ّي ُهمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ(‪ )122‬وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَ ِذلّةٌ فَا ّتقُوا‬ ‫شكُرُونَ(‪})123‬‬ ‫اللّهَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫غ َد ْوتَ} ‪ :‬أي‪ :‬واذكر إذ غدوت‪ ،‬والغدو‪ :‬الذهاب أول النهار‪.‬‬ ‫{وَإِذْ َ‬

‫{مِنْ أَ ْهِلكَ} ‪ :‬أهل الرجل زوجه وأولده‪ .‬ومن لبتداء الغاية إذ خرج صلى ال عليه وسلم صباح‬ ‫السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به ‪ 1‬يوم الربعاء‪.‬‬ ‫{تُ َب ّوئُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ :‬تنزل المجاهدين الماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة‪.‬‬ ‫{ َه ّمتْ} ‪ :‬حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجهت إرادتها إلى ذلك‪.‬‬ ‫{طَا ِئفَتَانِ} ‪ :‬هما بنو سلمة‪ ،‬وبنو حارثة من النصار‪.‬‬ ‫{ َتفْشَل} ‪ :‬تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم‪.‬‬ ‫{وَاللّهُ وَلِ ّيهُمَا} ‪ :‬متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة‪.‬‬ ‫{بِ َبدْرٍ} ‪ :‬بدر اسم رجل وسمي المكان به؛ لنه كان له فيه ماء وهو الن قرية تبعد عن المدينة‬ ‫ل "كيلو متر"‪.‬‬ ‫النبوية بنحو من مائة وخمسين مي ً‬ ‫{وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ} ‪ :‬لقلة عددكم وعُد ِدكُم وتفوق العدو عليكم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الموافق للثاني عشر من شوال سنة ثلث من الهجرة‪" :‬وقد رأى النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫رؤيا فرأى أن في سيفه ثلمة‪ ،‬وأن بقرا له تذبح‪ ،‬وأنه أدخل يده في درع حصينه‪ ،‬فتأولها أن نفرا‬ ‫من أصحابه يقتلون وأن رجلً من أهل بيته يصاب وأن الدرع الحصينة‪ :‬المدينة"‪ .‬أخرجه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/369‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما حذر ال تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق‪ ،‬وأخبرهم أنهم متى صبروا‬ ‫واتقوا ل يضرهم كيد أعدائهم شيئا ذكرهم بموقفين‪ :‬أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم‬ ‫الهزيمة وهو غزوة أحد‪ ،‬والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم وهو غزوة بدر‪،‬‬ ‫غ َد ْوتَ مِنْ َأهِْلكَ تُ َب ّوئُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َمقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ} أي‪ :‬اذكر يا رسولنا لهم غدوك‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬وَإِذْ َ‬ ‫صباحا من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد‪ ،‬تبوء المؤمنين مقاعد للقتال‪ ،‬أي‪ :‬تنزلهم الماكن‬ ‫الصالحة للقتال الملئمة لخوض المعركة‪ ،‬وال سميع لكل القوال التي دارت بينكم في شأن‬ ‫الخروج إلى العدو‪ ،‬أو عدمه و قتاله داخل ‪ 1‬المدينة عليم بنياتكم وأعمالكم‬ ‫ومن ذلك هم بنى سلمه وبنى حارثة بالرجوع من الطريق لول أن ال سلم فعصمهما من الرجوع‬ ‫لنه وليهما ‪.‬هذا معنى قوله تعالى ‪ {:‬إِذْ َه ّمتْ طَا ِئفَتَانِ مِ ْنكُمْ أَنْ َتفْشَل} أي تجبنا وتحجما عن‬ ‫ملقاة العدو ‪،‬وال وليهما فعصمهما من ذنب ‪ 2‬الرجوع وترك الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫يخوض المعركة بدون جناحيها وهما بنو حارثة وبنو سلمة { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ}‬ ‫فتوكلت الطائفتان على ال وواصلتا سيرهما مع رسول ال صلى ال عليه وسلم فسلمهما ال من‬ ‫شر ذنب وأقبحه‪.‬‬

‫والحمد ل‪.‬‬ ‫هذا موقف والمقصود منه التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه حيث أصاب المؤمنين فيه شر‬ ‫هزيمة واستشهد من النصار سبعون ومن المهاجرين أربعه وشج ‪3‬رأس صلى ال علية وسلم‬ ‫وكسرت رباعيتة واستشهد عمه حمزة ‪ 4‬رضى ال عنة‪.‬‬ ‫والموقف الثاني هو غزوة بدر حيث صير فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة فنصرهم ال‬ ‫وأنجز لهم ما وعدهم لنهم صبروا واتقوا‪ ،‬فقتلوا سبعين رجلً وأسروا سبعين وغنموا غنائم طائلة‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِ َبدْ ٍر وَأَنْتُمْ‪َ 5‬أذِلّةٌ} فاتقوا ال بالعمل بطاعته‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬خرج الرسول صلى ال عليه وسلم بألف رجل من المدينة وفي أثناء مسيره‪ ،‬رجع ابن أبي‬ ‫بثلثمائة رجع غاضبا‪ ،‬إذ كان يرى عدم قتال العدو خارج المدينة‪ ،‬فلم يطع في ذلك فغضب‪،‬‬ ‫ورجوعه هو الذي سبب الهم بالرجوع لني حارثة وبني سلمة‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى البخاري عن جابر بن عبد ال رضي ال عنهما أنه قال فينا نزلت‪{ :‬إِذْ َه ّمتْ طَا ِئفَتَانِ‬ ‫مِ ْنكُمْ أَنْ َتفْشَل وَاللّهُ وَلِ ّيهُمَا} قال‪ :‬نحن الطائفتان‪ :‬بنو حارثة‪ ،‬وبنو سلمة‪ .‬وما أحب أنها لم تنزل‬ ‫لقول ال عز وجل‪{ :‬وَاللّ ُه وَلِ ّي ُهمَا}‪.‬‬ ‫‪ 3‬الذي رمى رسول ال صلى ال عليه وسلم فشج وجهه‪ :‬هو ابن قميئة‪ ،‬أقماه ال ولعنه‪ .‬والذي‬ ‫أدمى شفة رسول ال صلى ال عليه وسلم وكسر رباعيته‪ :‬هو عتبة ابن أبي وقاص‪ ،‬أخو سعد بن‬ ‫أبي وقاص‪.‬‬ ‫‪ 4‬وقتل حمزة‪ :‬وحشي‪ ،‬كانت تحرضه على قتل حمزة‪ :‬هند بنت عتبة‪ ،‬وتقول له‪ :‬إيها أبا دسمة‬ ‫أشف واستشف (والدسمة‪ :‬غبرة في سواد)‪.‬‬ ‫‪ 5‬كانت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان يوم جمعة‪ ،‬وكان جيش العدو بها ما بين‬ ‫التسعمائة إلى اللف‪ ،‬وجيش المسلمين ثلثمائة وأربعة عشر رجلً‪ ،‬وغزوة بدر أول غزوة غزاها‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/370‬‬ ‫ترك اتخاذ بطانة من أعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نعم ال عليكم فيزيدكم‪ ،‬فذكر تعالى في هذا‬ ‫الموقف النصر؛ لنه خير‪ ،‬فقال {وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِ َبدْ ٍر وَأَنْتُمْ َأذِلّةٌ} ‪ ،‬ولم يقل في الموقف الول‪،‬‬ ‫ولقد هزمكم ال بأحد وأنتم أعزة؛ لنه تعالى حيي كريم فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط وهم‬ ‫يذكرون هزيمتهم فيها ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫‪ -1‬فضيلة الصبر والتقوى وأنهما عدة الجهاد في الحياة‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والتعاظ‪.‬‬ ‫‪ -3‬ولية ال تعالى للعبد تقيه مصارع السوء‪ ،‬وتجنبه الخطار‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقوى ال تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد‪.‬‬ ‫{ِإذْ َتقُولُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ أَلَنْ َي ْكفِيَكُمْ أَنْ ُيمِ ّدكُمْ رَ ّب ُكمْ بِثَلثَةِ آلفٍ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ مُنْزَلِينَ(‪ )124‬بَلَى إِنْ‬ ‫س ّومِينَ(‪)125‬‬ ‫خمْسَةِ آلفٍ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةُ مُ َ‬ ‫َتصْبِرُوا وَتَ ّتقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ َفوْرِهِمْ هَذَا ُيمْدِ ْدكُمْ رَ ّبكُمْ ِب َ‬ ‫حكِيمِ(‪)126‬‬ ‫طمَئِنّ قُلُو ُبكُمْ بِهِ َومَا ال ّنصْرُ إِل مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬ ‫جعَلَهُ اللّهُ إِل بُشْرَى َل ُك ْم وَلِتَ ْ‬ ‫َومَا َ‬ ‫لِ َيقْطَعَ طَرَفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا َأوْ َيكْبِ َتهُمْ فَيَ ْنقَلِبُوا خَائِبِينَ(‪})127‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أَلَنْ َي ْكفِ َيكُمْ} ‪ :‬الستفهام انكاري ‪ ،1‬أي‪ :‬ينكر عدم الكفاية‪ .‬ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذهب بعض إلى أن الستفهام هنا‪ :‬تقريري؛ لنه مجاب ببلى‪ ،‬وجائر أن يكون للستفهام معنيان‬ ‫في آن واحد لدللة اللفظ عليهما معا‪ .‬فتأمل!!‪.‬‬

‫( ‪)1/371‬‬ ‫{أَنْ ُي ِم ّدكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬بالملئكة عونا على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد‪.‬‬ ‫{ا ْلمَل ِئكَةِ} ‪ :‬واحدهم ملك وهم عباد ال مكرمون مخلقون من نور ل يعصون ال ما أمرهم‪،‬‬ ‫ويفعلون ما يؤمرون‪.‬‬ ‫{بَلَى} ‪ :‬حرف إجابة‪ ،‬أي‪ :‬يكفيكم‪.‬‬ ‫{مِنْ َفوْرِهِمْ‪َ 1‬هذَا} ‪ :‬أي‪ :‬من وجههم في وقتهم هذا‪.‬‬ ‫س ّومِينَ} ‪ :‬معلمين بعلمات تعرفونهم بها‪.‬‬ ‫{مُ َ‬ ‫{إِل بُشْرَى َل ُكمْ} ‪ :‬البشرى‪ :‬الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلقة‪.‬‬ ‫طمَئِنّ قُلُو ُبكُمْ ِبهِ} ‪ :‬اطمئنان القلوب سكونها وذهاب الحروف والقلق عنها‪.‬‬ ‫{وَلِتَ ْ‬ ‫{لِ َيقْطَعَ طَرَفا} ‪ :‬الطرف الطائفة‪ ،‬يريد ليهلك من جيش العدو طائفة‪.‬‬ ‫{َأوْ َيكْبِ َتهُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬يخزيهم ويذلهم‪.‬‬ ‫{فَيَ ْنقَلِبُوا خَائِبِينَ} ‪ :‬يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تذكير الرسول صلى ال عليه وسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف‬ ‫الصبر والتقوى في بدر فقال‪{ :‬إِذْ َتقُولُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ‪ }2‬عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن‬ ‫جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم فشق ذلك على أصحابه فقلت‪{ :‬أَلَنْ‬

‫َي ْكفِيَكُمْ أَنْ ُيمِ ّدكُمْ رَ ّب ُكمْ بِثَلثَةِ آلفٍ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ مُنْزَلِينَ} أي‪ :‬يكفيكم‪{ .‬إِنْ َتصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيَأْتُوكُمْ‪3‬‬ ‫س ّومِينَ}‬ ‫خمْسَةِ آلفٍ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةُ مُ َ‬ ‫مِنْ َفوْرِهِمْ َهذَا} أي‪ :‬من وجههم ووقتهم هذا { ُيمْ ِد ْدكُمْ رَ ّبكُمْ ِب َ‬ ‫بعلمات وإشارات خاصة بهم‪ ،‬ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين لم‬ ‫يمد ال تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملئكة فلم يزدهم على اللف التي أمدهم بها لما‬ ‫استغاثوه في أول المعركة جاء ذلك في سورة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفور‪ :‬مصدر فارت القدر فورا واستعير للولية مع السرعة في الحال بدون بطء أو تأخر أو‬ ‫تراخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذهب بعض المفسرين؛ كمجاهد‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وغيرهما أن قوله تعالى‪{ :‬إِذْ َتقُول للمؤمنين} إلخ‪،‬‬ ‫كان يوم أحد فهو وعد لهم بالمدد المذكور من الملئكة على شرط الصبر والتقوى‪ ،‬فلما لم‬ ‫يصبروا ولم يتقوا كما هو معلوم لم يمدهم بالعدد المذكور من الملئكة‪ ،‬وما ذهبنا إليه في التفسير‬ ‫أقرب إلى الواقع‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬المشركون من أصحاب كرز‪.‬‬

‫( ‪)1/372‬‬ ‫النفال في قوله تعالى‪{ :‬إِذْ َتسْ َتغِيثُونَ رَ ّبكُمْ فَاسْتَجَابَ َل ُكمْ أَنّي ُممِ ّدكُمْ بِأَ ْلفٍ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ} فهذه‬ ‫اللف هي التي نزلت فعلً وقاتلت مع المؤمنين وشوهد ذلك وعلم به يقينا‪ ،‬أما الوعد بالمداد‬ ‫الخير فلم يتم؛ لنه كان مشروطا بإمداد كرز لقريش فلما لم يمدهم‪ ،‬لم يمد ال تعالى المؤمنين‪،‬‬ ‫جعَلَهُ اللّهُ} أي‪ :‬المداد المذكور {إِل بُشْرَى} للمؤمنين تطمئن له قلوبهم وتسكن‬ ‫فقال تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫له نفوسهم فيزول القلق والضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين‪ ،‬ولذا‬ ‫حكِيمِ‪ }1‬العزيز أي‪ :‬الغالب‪ ،‬الحكيم الذي يضع‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ومَا ال ّنصْرُ إِل مِنْ عِنْدِ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬ ‫النصر في موضعه فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى {لِ َيقْطَعَ طَرَفا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا} وقد‬ ‫فعل فأهلك من المشركين سبعين‪ ،‬أو يكبتهم أي‪ :‬يخزيهم ويذلهم إذ أسر منهم سبعون‪ ،‬وانقبلوا‬ ‫خائبين لم يحققوا النصر الذي أرادوه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد وهو عدم صبرهم وإخللهم بمبدأ التقوى إذ عصى الرماة‬ ‫أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة هذا على تفسير أن‬ ‫الوعد بالثلثة آلف وبالخمسة كان بأحد ‪ ،2‬وكان الوعد مشروطا بالصبر والتقوى فلما لم يصبروا‬ ‫ولم يتقوا لم يمدهم بالملئكة الذين ذكر لهم‪.‬‬

‫‪ -2‬النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة فإنه بيد ال تعالى فقد ينصر الضعيف‬ ‫ويخذل القوى‪ ،‬فلذا وجب تحقيق ولية ال تعالى أولً قبل إعداد العدد‪ .‬وتحقيق الولية يكون‬ ‫باليمان والصبر والطاعة التامة ل ولرسوله ثم التوكل على ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثبوت قتال الملئكة مع أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم في بدر قتالً حقيقيا؛ لنهم‬ ‫نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول‪ ،‬وعليهم شاراتهم وعلماتهم‪ .‬ول يقولن قائل ‪ :3‬الملك‬ ‫الواحد يقدر على أن يهزم مليين البشر‪ ،‬فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم ل‬ ‫يزيدون عن اللف رجل‪ ،‬وذلك أن ال تعالى أنزلهم في صورة بشر ‪ 4‬فأصبحت صورتهم وقوتهم‬ ‫قوة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحكيم‪ :‬الذي يضع الشياء في مواضعها ويفعل دائما على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله‪.‬‬ ‫‪ 2‬وهو الراجح من قولي المفسرين‪ :‬كابن جرير‪ ،‬وغيره‪.‬‬ ‫‪ 3‬قاله الصم‪ ،‬كأنه فعلً أصم فلم يسمع كلم ال تعالى‪ ،‬واسم هذا الصم أبو بكر‪ ،‬وهو من أهل‬ ‫العتزال‪ ،‬وإذا فل غرابة في إنكاره‪.‬‬ ‫‪ 4‬بدل لذلك قوله تعالى‪{ :‬مسومين} ‪ ،‬فالمسوّم‪ :‬ذو السمة‪ ،‬أي‪ :‬العلمة‪ ،‬و ذلك أن البطل المقاتل‬ ‫يجعل على رأسه أو على رأس فرسه ريشا ملونا يرمز به إلى أنه ل يخاف أن يعرفه عدوه حتى‬ ‫ل يسدد إليه سهامه‪.‬‬

‫( ‪)1/373‬‬ ‫البشر‪ ،‬ويدل على ذلك ويشهد له أن ملك الموت لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض‬ ‫روحه ضربه موسى عليه السلم ففقأ عينه‪ ،‬وعاد إلى ربه تعالى ولم يقبض روح موسى عليهما‬ ‫معا السلم‪ .‬من رواية البخاري‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫شيْءٌ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ َأوْ ُيعَذّ َبهُمْ فَإِ ّنهُمْ ظَاِلمُونَ(‪ )128‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫لمْرِ َ‬ ‫{لَيْسَ َلكَ مِنَ ا َ‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‪ )129‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل‬ ‫َومَا فِي الَ ْرضِ َيغْفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ َ‬ ‫ع ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ(‬ ‫ضعَافا ُمضَاعَفَ ًة وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ(‪ )130‬وَا ّتقُوا النّارَ الّتِي أُ ِ‬ ‫تَ ْأكُلُوا الرّبا َأ ْ‬ ‫حمُونَ(‪})132‬‬ ‫‪ )131‬وََأطِيعُوا اللّ َه وَالرّسُولَ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫لمْرِ} ‪ :‬الشأن والمراد هنا توبة ال على الكافرين أو تعذيبهم‪.‬‬ ‫{ا َ‬ ‫شيْءٌ} ‪ :‬شيء نكرة متوغلة في اليهام‪ .‬وأصل الشيء‪ :‬ما يعلم ويخبر به‪.‬‬ ‫رَ‬ ‫{َأوْ} ‪ :‬هنا بمعنى حتى‪ ،‬أي‪ :‬فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ} ‪ :‬أي‪ :‬مالكا وخلقا وعبيدا يتصرف كيف يشاء ويحكم كما يريد‪.‬‬ ‫{وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬

‫{ل تَ ْأكُلُوا الرّبا} ‪ :‬ل مفهوم للكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلً أو شربا أو لباسا‪.‬‬ ‫{الرّبا ‪ : }1‬لغة‪ :‬الزيادة‪ ،‬وفي الشرع نوعان‪ :‬ربا فضل وربا نسيئة‪ ،‬ربا الفضل‪ :‬يكون في الذهب‬ ‫والفضة والبر والشعير والتمر والملح فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل أي الزيادة ويحرم‬ ‫التأخير‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ربا البنوك اليوم شر من ربا الجاهلية هو‪ :‬أن يبيع الرجل أخاه شيئا إلى أجل فإذا حلّ الجل‬ ‫ولم يد سدادا قال له أخر وزد‪ ،‬أما ربا البنوك فإنه يبيعه نقدا بنقد إلى أجل بزيادة فورية يسجلها‬ ‫عليه‪.‬‬

‫( ‪)1/374‬‬ ‫وربا النسيئة‪ :‬هو أن يكون على المرء دين إلى أجل فيحل الجل ولم يجد سدادا لدينه فيقول له‬ ‫أخرني وزد في الدين‪.‬‬ ‫ضعَافا ُمضَاعَفَةً} ‪ :‬ل مفهوم لهذا؛ لنه خرج مخرج الغالب‪ ،‬إذ الدرهم الواحد حرام كاللف‪،‬‬ ‫{َأ ْ‬ ‫وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين فيصبح‬ ‫أضعافا كثيرة‪.‬‬ ‫{ ُتفْلِحُونَ} ‪ :‬تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة‪.‬‬ ‫ع ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ} ‪ :‬هيئت وأحضرت للمكذبين ل ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{أُ ِ‬ ‫حمُونَ} ‪ :‬لترحموا فل تُعذبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫{َلعَّلكُمْ تُرْ َ‬ ‫صح ‪ 1‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب‪ ،‬وقال يوم‬ ‫أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته‪" :‬كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيه م؟ " فأنزل ال تعالى عليه‬ ‫شيْءٌ} أي‪ :‬فاصبر حتى يتوب ‪ 2‬ال تعالى عليهم أو يعذبهم بظلمهم‬ ‫لمْرِ َ‬ ‫ناَ‬ ‫قوله‪{ :‬لَيْسَ َلكَ مِ َ‬ ‫فإنهم ظالمون ول ما في السموات وما في الرض ملكا وخلقا يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد‬ ‫فإن عذب فبعدله‪ ،‬وإن رحم فبفضله‪ ،‬وهو الغفور لمن تاب الرحيم بمن أناب‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته اليتان الولى(‪ )128‬والثانية(‪ )129‬وأما الية الثالثة(‪ )130‬فإن ال تعالى نادى‬ ‫عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في السلم بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل‬ ‫ضعَافا}‬ ‫به فقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا} أي‪ :‬بال ربا وبالسلم دينا وبمحمد رسولً {ل تَ ْأكُلُوا الرّبا َأ ْ‬ ‫إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله ولم يجد ما يسدد به فيأتي إلى دائنه ويقول أخر ديني ‪3‬‬ ‫وزد عليّ وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعد ما كان عشرا عشرين وثلثين‪ .‬وهذا‬ ‫عفَةً} ‪ ،‬ثم أمرهم بتقواه عز وجل‬ ‫ضعَافا ُمضَا َ‬ ‫معنى قوله‪َ{ :‬أ ْ‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬رواه مسلم‪ ،‬وهذا نص الحديث‪" :‬لما كسرت رباعية الرسول صلى اله عليه وسلم وشج في‬ ‫رأسه فجعل يسلت الدم عنه‪ ،‬ويقول كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته "سنة‬ ‫شيْءٌ} الية‪.‬‬ ‫المامية" وهو يدعوهم إلى ال تعالى فأنزل ال تعالى‪{ :‬لَيْسَ َلكَ مِنَ الَْأمْرِ َ‬ ‫‪ 2‬لما نزلت الية وفيها‪{ :‬أو يتوب عليهم} وهي تحمل إطماعه صلى ال عليه وسلم في إسلمهم‬ ‫قال‪ " :‬اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون" ‪ ،‬روى مسلم عن ابن مسعود قوله‪" :‬كأني أنظر إلى‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يحكى نبيا من النبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه‬ ‫ويقول‪ :‬رب اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون"‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا إن كان الطالب التاجر المدين أما إن كان المطالب هو الدائن فإنه يقول له‪ :‬أتقضي أم‬ ‫تُربي؟‪.‬‬

‫( ‪)1/375‬‬ ‫وواعدهم بالفلح فقال عز وجل‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ} أي‪ :‬كي تفلحوا بالنجاة من العذاب‬ ‫والحصول على الثواب وهو الجنة‪.‬‬ ‫وفي الية الرابعة(‪ )131‬أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين فهي مهيئة محضرة لهم‪،‬‬ ‫واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى ال عليه وسلم فقال عز وجل‪{ :‬وَا ّتقُوا النّارَ‬ ‫الّتِي أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ‪ ، }1‬أي‪ :‬المكذبين بال ورسوله فلذا لم يعلموا بطاعتهما لن التكذيب مانع من‬ ‫الطاعة‪ ،‬وفي الية الخيرة(‪ )132‬أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله وودعهم على ذلك بالرحمة‬ ‫في الدنيا والخرة وكأنه يشير ‪ 2‬إلى الذين عصوا رسول ال في أحد وهم الرماة الذين تخلوا عن‬ ‫مراكزهم الدفاعية فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة فقال تعالى‪{ :‬وََأطِيعُوا اللّهَ‬ ‫حمُونَ} أي‪ :‬كي يرحمكم فيتوب عليكم ويغفر لكم ويدخلكم دار السلم والنعيم‬ ‫وَالرّسُولَ َلعَّل ُكمْ تُرْ َ‬ ‫المقيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬استقلل الرب تعالى بالمر كله فليس لحد من خلقه تصرف في شيء إل ما أذن فيه للعبد‪.‬‬ ‫‪ -2‬الظلم مستوجب للعذاب ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة أكل الربا مطلقا مضاعفا كان أو غير مضاعف‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان الجاهلية إذ هو هذا الذي نهى ال تعالى عنه بقوله‪{ :‬ل تَ ْأكُلُوا الرّبا} ‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب التقوى لمن أراد الفلح في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة ‪.3‬‬ ‫‪ -7‬وجوب طاعة ال ورسوله للحصول على الرحمة اللهية وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية إشارة واضحة إلى أن مستحل الربا يكفر به ويستحق عذاب النار‪.‬‬ ‫‪ 2‬وعليه فآية تحريم الربا هي‪ :‬معترضة في سياق الحديث عن غزوة بدر وأحد وفي هذا‬ ‫العتراض جماله وحسن وقعه في النفوس‪ ،‬ومن فوائده دفع السآمة عن السامع‪ ،‬إذا استمر الكلم‬ ‫في موضوع واحد‪.‬‬ ‫‪ 3‬حديث‪" :‬اتقوا النار ولو بشق تمرة" رواه البخاري في صحيحه ورواه غيره‪.‬‬

‫( ‪)1/376‬‬ ‫ع ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ(‪ )133‬الّذِينَ‬ ‫ت وَالَ ْرضُ أُ ِ‬ ‫سمَاوَا ُ‬ ‫ضهَا ال ّ‬ ‫{وَسَارِعُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُمْ وَجَنّةٍ عَ ْر ُ‬ ‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ(‪)134‬‬ ‫س وَاللّهُ ُي ِ‬ ‫ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ‬ ‫ظمِينَ ا ْلغَيْ َ‬ ‫يُ ْنفِقُونَ فِي السّرّا ِء وَالضّرّا ِء وَا ْلكَا ِ‬ ‫سهُمْ َذكَرُوا اللّهَ فَاسْ َتغْفَرُوا لِذُنُو ِبهِ ْم َومَنْ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ إِل اللّهُ‬ ‫شةً َأوْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُوا فَاحِ َ‬ ‫وَلَمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ(‪ )135‬أُولَ ِئكَ جَزَاؤُ ُهمْ َمغْفِ َرةٌ مِنْ رَ ّبهِ ْم َوجَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ‬ ‫تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَ ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ(‪})136‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَسَارِعُوا ‪ : }1‬المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه بدون توانٍ ول تراخ‪.‬‬ ‫{إِلَى َم ْغفِ َرةٍ} ‪ :‬المغفرة‪ :‬ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها‪ .‬والمراد هنا‪ :‬المسارعة إلى التوبة بترك‬ ‫الذنوب‪ ،‬وكثرة الستغفار وفي الحديث‪" :‬ما من رجل يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر ال‬ ‫إل غفر له" ‪.2‬‬ ‫{وَجَنّةٍ} ‪ :‬الجنة دار النعيم فوق السموات‪ ،‬والمسارعة إليها تكون بالكثار من الصالحات‪.‬‬ ‫ع ّدتْ} ‪ :‬هيئت وأحضرت فهي موجودة الن مهيأة‪.‬‬ ‫{أُ ِ‬ ‫{لِ ْلمُ ّتقِينَ} ‪ :‬المتقون هم الذين اتقوا ال تعالى فلم يعصوه بترك واجب ول‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ في السبع‪{ :‬سارعوا} بدون واو‪ ،‬وهي قراءة ورش عن نافع‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرجه الطبراني عن علي عن أبي بكر الصديق رضي ال عنهما‪.‬‬

‫( ‪)1/377‬‬ ‫بفعل محرم‪ ،‬وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فورا‪.‬‬ ‫{فِي السّرّاءِ‪ 1‬وَالضّرّاءِ} ‪ :‬السراء‪ :‬الحال المسرة وهي اليسر والغنى‪ ،‬والضراء‪ :‬الحال المضرة‬ ‫وهي الفقر‪.‬‬

‫ظمِينَ‪ 2‬ا ْلغَيْظَ} ‪ :‬كظم الغيظ‪ :‬حبسه‪ ،‬والغيظ‪ :‬ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو‬ ‫{وَا ْلكَا ِ‬ ‫عرضه أو ماله‪ ،‬وحبس الغيظ‪ :‬عدم إظهاره على الجوارح بسبب أو ضرب ونحوهما للتشفي‬ ‫والنتقام‪.‬‬ ‫{وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ} ‪ :‬العفو عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك‪.‬‬ ‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ} ‪ :‬المحسنون هم الذين يبرون ول يسيئون في قول أو عمل‪.‬‬ ‫{ ُي ِ‬ ‫{فَاحِشَةً} ‪ :‬الفاحشة‪ :‬الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنى وكبائر الذنوب‪.‬‬ ‫س ُهمْ} ‪ :‬بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك فكان هذا ظلما لها‪.‬‬ ‫{َأوْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫{وَلَمْ ُيصِرّوا ‪ : }3‬أي‪ :‬يسارعون إلى التوبة‪ ،‬لن الصرار هو الشد على الشيء والربط عليه‬ ‫مأخوذ من الصر‪ ،‬والصرة معروفة‪.‬‬ ‫{وَهُمْ َيعَْلمُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب‪ ،‬أو بفعلهم ما حرم‪.‬‬ ‫{وَ ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ} ‪ :‬الذي هو الجنة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما نادى ال تعالى المؤمنين ناهيا لهم عن أكل الربا آمرا لهم بتقواه عز وجل‪ ،‬وباتقاء النار وذلك‬ ‫بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب ال تعالى‪ ،‬ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله‬ ‫كي يرحموا في دنياهم وأخراهم‪ .‬أمرهم في الية الولى(‪ )133‬بالمسارعة إلى شيئين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل في السراء والضراء‪ :‬الرخاء والشدة‪ ،‬وقيل‪ ،‬في السراء‪ :‬العرس والولئم‪ ،‬والضراء‪:‬‬ ‫النوائب والمآتم‪ .‬وما فسرنا به الية أعم وأحسن‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقول كضمت السقاء‪ ،‬أي‪ :‬ملته وسدت عليه‪ ،‬والكضامة‪ :‬ما يسد به السقاء‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر القرطبي هنا مسألة‪ ،‬وهي‪ :‬من وطن نفسه على فعل ذنب فإنه يؤاخذ به‪ ،‬ولو لم يفعله‬ ‫علَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني‪:‬‬ ‫غ َدوْا َ‬ ‫لعجز قام به وهو مصر على فعله‪ ،‬واستشهد بقوله تعالى‪{ :‬وَ َ‬ ‫أصحاب الجنة الذين عزموا على قطع ثمارها‪ ،‬دون إعطاء المساكين منها‪ ،‬كما استشهد بحديث‪:‬‬ ‫"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" ‪ .‬وكلمه في الجملة صحيح ولكن من‬ ‫ترك ما أصر عليه خوفا من ال تعالى سيكتب له حسنة لحديث‪" :‬من هم بسيئة فلم يعملها كتب له‬ ‫عند ال حسنة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/378‬‬ ‫الول مغفرة ذنوبهم وذلك بالتوبة النصوح‪ ،‬والثاني دخول الجنة التي وصفها لهم‪ ،‬وقال تعالى ‪{ :‬‬ ‫ع ّدتْ ِل ْلمُتّقِينَ} أي‪ :‬أحضرت‬ ‫ت وَالَرْضُ أُ ِ‬ ‫سمَاوَا ُ‬ ‫ضهَا ‪ 1‬ال ّ‬ ‫وَسَارِعُوا إِلَى َمغْفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ‬ ‫وهيئت للمتقين والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها‪ ،‬وهي اليمان والعمل‬

‫الصالح إذ بهما تزكوا الروح وتطيب فتكون أهلً لدخول الجنة‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى‪ ،‬وأما اليتان الثانية والثالثة(‪ )135‬فقد تضمنتا صفات المتقين الذين‬ ‫أعدت لهم الجنة دار السلم فقوله تعالى‪{ :‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ فِي السّرّا ِء وَالضّرّاءِ} هذا وصف لهم‬ ‫ظمِينَ‪2‬‬ ‫بكثرة النفاق في سبيل ال‪ ،‬وفي كل أحايينهم من غنى وفقر وعسر ويسر‪ ،‬وقوله‪{ :‬وَا ْلكَا ِ‬ ‫ا ْلغَيْظَ} وصف لهم بالحلم والكرم النفسي‪ ،‬وقوله‪{ :‬وَا ْلعَافِينَ عَنِ‪ 3‬النّاسِ} وصف لهم بالصفح‬ ‫والتجاوز عن زلت الخرين تكرما‪ ،‬وفعلهم هذا إحسان ظاهر ومن هنا بشروا بحب ال تعالى‬ ‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ} كما هو تشجيع على الحسان وملزمته في القول والعمل‬ ‫لهم فقال تعالى‪{ :‬وَاللّهُ يُ ِ‬ ‫سهُمْ َذكَرُوا اللّهَ فَاسْ َت ْغفَرُوا ِلذُنُو ِبهِمْ} وصف لهم‬ ‫ظَلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫حشَةً َأوْ َ‬ ‫وقوله‪{ :‬وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُوا فَا ِ‬ ‫بملزمة ذكر ال وعدم الغفلة‪ ،‬ولذا إذا فعلوا فاحشة ذنبا كبيرا أو ظلموا أنفسهم بذنب ‪ 4‬دون‬ ‫الفاحش ذكروا وعيد ال تعالى ونهيه علما فعلوا‪ ،‬فبادروا إلى التوبة وهي القلع عن الذنب‬ ‫والندم عن الفعل والعزم على عدم العودة إليه‪ ،‬واستغفار ال تعالى منه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَلَمْ ُيصِرّوا‬ ‫عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ‪ }5‬وصف لهم بعدم الصرار‪ ،‬أي‪ :‬المواظبة على الذنب وعدم تركه‬ ‫وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو فعلهم محرم‪ ،‬وأما الية الرابعة(‪ )136‬فقد‬ ‫تضمنت بأن جزائهم على إيمانهم وتقواهم وما اتصفوا به من كمالت نفسية‪ ،‬وطهارة روحية أل‬ ‫وهو مغفرة ذنوبهم‪ ،‬كل ذنوبهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر العرض ولم يذكر الطول لن الطول ل يدل على العرض‪ ،‬أما العرض فإنه يدل على‬ ‫الطول‪ :‬فطول كل شيء بحسب عرضه‪ ،‬وعرض السموات معناه بعرض السموات‪ ،‬فلو أخذت‬ ‫السموات سماء بعد سماء‪ ،‬والرضون وألصقت ببعضها كان عرض الجنة كذلك‪ ،‬هذا الذي عليه‬ ‫أهل التفسير من السلف‪ .‬قال الزهري‪" :‬أما طولها فل يعلمه إل ال"‪.‬‬ ‫‪ 2‬ورد في كظم الغيظ أحاديث منها‪" :‬ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند‬ ‫الغضب" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬ورد في فضل العفو أحاديث كثيرة منها‪" :‬من سر أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات‬ ‫فليعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه" ‪ .‬رواه الحاكم وصححه‪ .‬ومنها قوله صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ " :‬ثلث أقسم عليهن‪ :‬ما نقص مال من صدقة‪ ،‬وما زاد ال عبدا بعفو إل عزا‪،‬‬ ‫ومن تواضع ل رفعه ال" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬في الصحيحين‪ ،‬قال عثمان‪ :‬أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى ال عليه وسلم ثم قال‪" :‬سمعت‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ل صلى ركعتين ل يحدث فيهما‬ ‫نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" ‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬أن من تاب تاب ال عليه‪ .‬هكذا روي عن مجاهد ول يتنافى مع ما فسرنا به الية‪ ،‬وورد‬ ‫"ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/379‬‬ ‫وجنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها‪ ،‬ومدح المنان عز وجل ما جازاهم به من المغفرة‬ ‫والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم‪ ،‬فقال‪{ :‬وَ ِن ْعمَ أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى‪{ :‬وَسَارِعُوا} ‪.‬‬ ‫ع ّدتْ} ‪.‬‬ ‫‪ -2‬سعة ‪ 1‬الجنة‪ ،‬وأنها مخلوقة الن لقوله تعالى‪{ :‬أُ ِ‬ ‫‪ -3‬المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل استمرار النفاق في سبيل ال‪ ،‬ولو بالقليل‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة خلة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والنتقام‪.‬‬ ‫‪ -6‬فضل العفو عن الناس مطلقا مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬بارهم وفاجرهم‪.‬‬ ‫‪ -7‬فضيلة الستغفار وترك الصرار على المعصية للية والحديث‪ " :‬ما أصر من استغفر ولو‬ ‫عاد في اليوم سبعين مرة" ‪ .‬رواه الترمذي وأبو داود وحسنه ابن كثير‪.‬‬ ‫{قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ(‪ )137‬هَذَا بَيَانٌ‬ ‫ظةٌ لِ ْلمُ ّتقِينَ(‪ )138‬وَل َتهِنُوا وَل َتحْزَنُوا وَأَنْتُ ُم الَعَْلوْنَ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪)139‬‬ ‫س وَهُدىً َومَوْعِ َ‬ ‫لِلنّا ِ‬ ‫س وَلِ َيعَْلمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا‬ ‫س ُكمْ قَرْحٌ َفقَدْ مَسّ ا ْل َقوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِ ْلكَ الَيّامُ نُدَاوُِلهَا بَيْنَ النّا ِ‬ ‫إِنْ َيمْسَ ْ‬ ‫حصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َيمْحَقَ ا ْلكَافِرِينَ(‬ ‫حبّ الظّاِلمِينَ(‪ )140‬وَلِ ُيمَ ّ‬ ‫شهَدَا َء وَاللّهُ ل ُي ِ‬ ‫وَيَتّخِذَ مِ ْن ُكمْ ُ‬ ‫‪})141‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل ما دامت الجنة عرضها السموات والرض فأين النار؟‬ ‫فأجاب قائلً‪" :‬سبحان ال فأين الليل إذا جاء النهار" ‪ .‬قال حيث شاء ال تعالى‪ .‬قال‪" :‬وكذلك النار‬ ‫تكون حيث شاء ال تعالى" ‪ .‬رواه البزار مرفوعا‪ ،‬وما دل عليه الكتاب والسنة‪ :‬أن الجنة فوق‬ ‫السماء السابعة وسقفها عرش الرحمن‪ ،‬وأن النار في أسفل سافلين ول منافاة بينهما أبدا‪.‬‬

‫( ‪)1/380‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َقدْ خََلتْ} ‪ :‬خلت‪ :‬مضت‪.‬‬ ‫{سُنَنٌ‪ : }1‬جمع سنة‪ ،‬وهي السيرة والطريقة التي يكون عليها الفرد أو الجماعة‪ ،‬وسنن ال تعالى‬

‫في خلقه قانونه الماضي في الخلق‪.‬‬ ‫{فَسِيرُوا فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬المر للرشاد‪ ،‬للوقوف على ديار الهالكين الغابرين لتعتبروا‪.‬‬ ‫{عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ} ‪ :‬عاقبة أمرهم‪ ،‬وهي ما حل بهم من الدمار والخسار كعاد وثمود‪.‬‬ ‫{ َهذَا بَيَانٌ لِلنّاسِ} ‪ :‬أي‪ :‬ما ذكر في اليات بيان للناس به يتبينون الهدى من الضلل وما لزمهما‬ ‫من الفلح‪ ،‬والخسران‪.‬‬ ‫{ َو َموْعِظَةٌ} ‪ :‬الموعظة‪ :‬الحال التي يتعظ بها المؤمن فيسلك سبيل النجاة‪.‬‬ ‫{وَل َتهِنُوا} ‪ :‬ل تضعفوا‪.‬‬ ‫{قَرْحٌ} ‪ :‬القرح‪ :‬أثر السلح في الجسم؛ كالجرح‪ ،‬وتضم القاف فيكون بمعنى اللم‪.‬‬ ‫{الَيّامُ‪ : }2‬جمع يوم والليالي معها‪ ،‬والمراد بها ما يجريه ال من تصاريف الحياة من خير‬ ‫وغيره‪ ،‬وإعزاز وإذلل‪.‬‬ ‫ش َهدَاءَ‪ : }3‬جمع شهيد وهو المقتول في سبيل ال‪ ،‬وشاهد‪ :‬وهو من يشهد على غيره‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫حصَ} ‪ :‬ليخلص المؤمنين من أدران المخالفات وأوضار الذنوب‪.‬‬ ‫{وَلِ ُيمَ ّ‬ ‫حقَ} ‪ :‬يمحو ‪ 4‬ويذهب آثار الكفر والكافرين‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫{وَ َيمْ َ‬ ‫لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسب عدم الصبر‪ ،‬والطاعة اللزمة للقيادة ذكر تعالى تلك‬ ‫الحداث مقرونة بفقهها لتبقى هدى موعظة للمتقين من المؤمنين وبدأها بقوله‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السنة‪ :‬الطريق المستقيم‪ ،‬يقال‪ :‬فلن على السنة‪ ،‬أي‪ :‬على طريق الستواء ل يميل إلى شيء‬ ‫من الهواء‪ ،‬وكل من يعمل بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم فهو على الطريق المستقيم الذي‬ ‫ل يميل بصاحبه إل الهواء والمبتدعات‪.‬‬ ‫‪ 2‬تداولها بين الناس فرح وغم وصحة وسقم وفقر وانتصار وانكسار والدولة الكرة ومنه قول‬ ‫الشاعر‪:‬‬ ‫فيوم لنا ويوم علينا ‪ ...‬ويوما نساء ويوما نسر‬ ‫‪ 3‬سمي القتيل في سبيل ال‪ :‬شهيدا؛ لنه الحاضر للجنة ومشهود له بها‪ ،‬ومن فضل الشهيد أن ل‬ ‫يجد من ألم القتل إل كما يجده النسان في القرحة ل غير‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن كثير في‪{ :‬ويمحق الكافرين} أي‪ :‬فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا ويكون ذلك سبب‬ ‫دمارهم وهلكهم ومحقهم وفنائهم‪.‬‬

‫( ‪)1/381‬‬ ‫{قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا ‪ 1‬فِي الَ ْرضِ فَانْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ} فأخبر تعالى‬ ‫المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من المم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم‪ ،‬فقد أرسل ال‬

‫تعالى إليهم رسله فكذبوهم فأمضى تعالى سننه فيهم فأهلك المكذبين وأنجى المؤمنين بعد ما نالهم‬ ‫من أذى المكذبين ‪ ،‬وستمضي سننه اليوم كذلك‪ ،‬فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم‪ .‬وإن‬ ‫ارتبتم فسيروا في الرض وقفوا على آثار الهالكين‪ ،‬وانظروا كيف كانت عاقبتهم‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬ ‫هذا الذي ذكرت في هذه اليات بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل والهدى من الضلل‪،‬‬ ‫وهدى يهتدون به إلى سبيل السلم وموعظة يتعظ بها المتقون لستعدادهم بإيمانهم وتقواهم‬ ‫للتعاظ فيطيعون ال ورسوله فينجون ويفلحون هذا ما تضمنته اليتان الولى(‪ )137‬والثانية(‬ ‫‪ )138‬وأما اليتان الثالثة(‪ )139‬والرابعة(‪ )140‬فقد تضمنتا تعزيه الرب تعالى للمؤمنين فيما‬ ‫أصابهم يوم أحد‪ ،‬إذ قال تعالى مخاطبا لهم {وَل َتهِنُوا} أي‪ :‬ل تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد‬ ‫والعمل‪ ،‬ول تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم‪{ ،‬وَأَنْتُمُ الَعَْلوْنَ} أي‪ :‬الغالبون لعدائكم‬ ‫المنتصرون عليهم‪ ،‬وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبل بشرط إيمانكم وتقواكم واعلموا أنه إن‬ ‫يمسسكم قرح بموت أو جراحات ل ينبغي أن يكون ذلك موهنا لكم قاعدا بكم عن مواصلة الجهاد‬ ‫فإن عدوكم قد مسه قرح مثله‪ ،‬وذلك في معركة بدر‪ ،‬والحرب سجال يوم لكم ويوم عليكم وهي‬ ‫ك الَيّامُ ُندَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ} ‪ ،‬ثم بعد هذا‬ ‫سنة من سنن ربكم في الحياة‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَتِ ْل َ‬ ‫العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل‪ ،‬والسر فيه وقال‪{ :‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ‬ ‫شهَدَاءَ} أي‪ :‬ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين وفعلً فالمنافقون رجعوا‬ ‫آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِ ْنكُمْ ُ‬ ‫من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الكبر عبد ال بن أبي بن سلول‪ ،‬والمؤمنون واصلوا سيرهم‬ ‫وخاضوا معركتهم فظهر إيمانكم واتخذ ال منهم شهداء‪ ،‬وكانوا نحوا من سبعين شهيدا منهم أربعة‬ ‫من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ومصعب‬ ‫حصَ‪ 3‬اللّهُ الّذِينَ‬ ‫بن عمير ‪ 2‬والباقون من النصار رضي ال عنهم أجمعين‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَلِ ُي َم ّ‬ ‫آمَنُوا} أي‪ :‬أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬بإقدامكم أو بأفهامكم‪ ،‬وعقولكم‪.‬‬ ‫‪ 2‬وعبد ال بن جحش ابن عمة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعثمان بن شماس‪.‬‬ ‫‪ 3‬اصل التمحيص‪ :‬تخليص الشيء من كل عيب‪ ،‬يقال‪ :‬محصت الذهب؛ إذا أزلت خبثه‪.‬‬

‫( ‪)1/382‬‬ ‫للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيرا لهم ليصفوا الصفاء الكامل‪ ،‬ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء‬ ‫وجودهم‪.‬‬ ‫إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد فلم يخرجوا من طاعة نبيهم‪ ،‬وبذلك توالت انتصاراتهم حتى‬ ‫أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض ‪ 1‬الجزيرة‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال‪.‬‬ ‫‪ -2‬في آي القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل اليمان والتقوى‪.‬‬ ‫‪ -3‬أهل اليمان هم العلون في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬الحياة دول وتارات فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر‪.‬‬ ‫‪ -5‬الفتن تمحص الرجال‪ ،‬وتودي بحياة العاجزين الجزعين‪.‬‬ ‫حسِبْتُمْ أَنْ َتدْخُلُوا الْجَنّةَ وََلمّا َيعَْلمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِ ْنكُمْ وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ(‪ )142‬وََلقَدْ كُنْتُمْ‬ ‫{َأمْ َ‬ ‫حمّدٌ إِل رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِنْ‬ ‫َتمَ ّنوْنَ ا ْل َموْتَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تَ ْل َق ْوهُ َفقَدْ رَأَيْ ُتمُو ُه وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ(‪َ )143‬ومَا ُم َ‬ ‫عقِبَيْهِ فَلَنْ َيضُرّ اللّهَ شَيْئا‬ ‫عقَا ِبكُ ْم َومَنْ يَ ْنقَِلبْ عَلَى َ‬ ‫سلُ َأفَإِنْ مَاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَى أَ ْ‬ ‫قَبْلِهِ الرّ ُ‬ ‫ل َومَنْ يُرِدْ‬ ‫وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ(‪َ )144‬ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ إِل بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابا ُمؤَجّ ً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وخارج الجزيرة‪ ،‬فالفتوحات التي فتحها أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم في الغرب‬ ‫والشرق لم يفتحها غيرهم ممن جاء بعدهم من التابعين ول من غيرهم‪ ،‬وهو إنجاز وعد ال تعالى‬ ‫في قوله‪{ :‬وأنت ْم الَعْلَونْ} أي‪ :‬الغالبون القاهرون‪.‬‬

‫( ‪)1/383‬‬ ‫َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَنْ يُرِدْ َثوَابَ الْآخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ(‪})145‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حسِبْتُمْ} ‪ :‬بل أظننتم فل ينبغي أن تظنوا هذا الظن فالستفهام إنكاري‪.‬‬ ‫{َأمْ َ‬ ‫{وََلمّا َيعْلَمِ} ‪ :‬ولم يبتلكم بالجهاد حتى يعلم علم ظهور ‪ 1‬من يجاهد منكم ممن ل يجاهد كما هو‬ ‫عالم به في باطن المر وخفيه‪.‬‬ ‫{خََلتْ مِنْ قَبْلِهِ} ‪ :‬أي مضت من قبله الرسل بلغوا رسالتهم وماتوا‪.‬‬ ‫{َأفَإِنْ مَاتَ‪َ 2‬أوْ قُ ِتلَ} ‪ :‬ينكر تعالى على من قال عندما أشيع أن النبي قتل‪":‬هيا بنا نرجع إلى دين‬ ‫عقَا ِبكُمْ} ل على فإن مات أو قتل‪ ،‬وإن دخل‬ ‫قومنا"‪ ،‬فالستفهام منصب على قوله‪ { :‬ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَى أَ ْ‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫عقَا ِبكُمْ} ‪ :‬رجعتم عن السلم إلى الكفر‪.‬‬ ‫{ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَى أَ ْ‬ ‫{كِتَابا ُمؤَجّلً‪ : }3‬كتب تعالى آجل الناس مؤقتة يمواقيتها فل تتقدم ول تتأخر‪.‬‬ ‫{ َثوَابَ الدّنْيَا} ‪ :‬الثواب‪ :‬الجزاء على النية والعمل معا‪ ،‬وثواب الدنيا الرزق وثواب الخرة الجنة‪.‬‬ ‫{الشّاكِرِينَ} ‪ :‬الذين ثبتوا على إسلمهم فاعتبر ثباتهم شكرا ل‪ ،‬وما يجزيهم به هو الجنة ذات‬

‫النعيم المقيم‪ ،‬وذلك بعد موتهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء بحسب الظاهر المشاهد للناس‪.‬‬ ‫‪ 2‬مات رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم الثنين في وقت دخوله المدينة مهاجرا وذلك ضحى‬ ‫حين اشتد الضحاء‪ ،‬ودفن يوم الثلثاء أول ليلة الربعاء‪ ،‬قال أنس‪ :‬لما كان اليوم الذي دخل فيه‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء‪ ،‬ولما كان اليوم الذي مات فيه أظلم‬ ‫منها كل شيء‪ ،‬وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى ال عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا‪.‬‬ ‫‪{ 3‬كتابا} ‪ :‬منصوب على المصدر‪ ،‬أي‪ :‬كتب ذلك كتابا‪ ،‬ومؤجلً‪ :‬نعت‪.‬‬

‫( ‪)1/384‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق متعلقا بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون‬ ‫الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصا لهم وإظهارا للصادقين منهم في دعوى اليمان‬ ‫والكاذبين فيها‪ ،‬كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال تعالى‪{ :‬أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ َتدْخُلُوا‬ ‫الْجَنّ َة وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُوا مِ ْنكُ ْم وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ} ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم‬ ‫وانهزامهم في المعركة مذكرا إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر‪ ،‬وفاتهم فيها ما حازه من‬ ‫حضرها من الجر والغنيمة بأنهم إذا قُدر لهم قتال في يوم ما من اليام يبلون فيه البلء الحسن‬ ‫فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى‪َ { :‬وَلقَدْ كُنْتُمْ‬ ‫َتمَ ّنوْنَ ا ْل َموْتَ‪ 1‬مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تَ ْل َق ْوهُ َفقَدْ رَأَيْ ُتمُوهُ وَأَنْ ُتمْ تَنْظُرُونَ} أي‪ :‬فلما انهزمتم وما وفيتم ما‬ ‫واعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته اليتان الولى(‪ )142‬والثانية(‪ ،)143‬وأما الية الثالثة(‪)144‬‬ ‫فقد تضمنت عتابا شديدا لصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم عندما اشتدت المعركة وحمي‬ ‫وطيسها واستحر القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من‬ ‫ورائهم وضرب ابن قميئة –أقمأه ال‪ -‬رسول ال صلى ال عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه‬ ‫وكسر رباعيته‪ ،‬وأعلن أنه قتل محمدا فانكشف المسلمون وانهزموا‪ ،‬وقال من قال منهم لم نقاتل‬ ‫وقد مات رسول ال‪ ،‬وقال بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا المان‬ ‫حمّدٌ‪ 2‬إِل َرسُولٌ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبْلِهِ‬ ‫من أبي سفيان‪ ،‬ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى‪َ { :‬ومَا مُ َ‬ ‫سلُ} وما دام رسولً كغيره من الرسل‪ ،‬وقد مات الرسل قبله فلم ينكر موته‪ ،‬أو يندهش له إذا؟‬ ‫الرّ ُ‬ ‫بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في‬ ‫المعركة "قتل محمد" ففروا هاربين إلى المدينة‪ ،‬ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون‪،‬‬ ‫عقِبَيْهِ فَلَنْ َيضُرّ اللّهَ شَيْئا‬ ‫عقَابِكُمْ َومَنْ يَ ْنقَِلبْ عَلَى َ‬ ‫فقال تعالى‪َ{ :‬أفَإِنْ مَاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَى أَ ْ‬

‫وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ} فعاتبهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وكان منهم من وفى بما وعد وقاتل حتى استشهد‪ ،‬وهو‪ :‬أنس بن النضر‪ ،‬عم أنس بن مالك‪،‬‬ ‫فإنه لما رأى المسلمين قد انكشوا قال‪" :‬اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلء" وباشر القتال وهو‬ ‫يقول‪ :‬إني لجد ريح الجنة‪ ،‬ولما قتل وجد به أكثر من ثمانين ضربة وفيه نزل قول ال تعالى‪:‬‬ ‫ص َدقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ} ‪.‬‬ ‫{ ِرجَالٌ َ‬ ‫‪ 2‬لما قبض صلى ال عليه وسلم قام عمر في الناس وقال‪" :‬أن الرسول لم يمت ولن يموت حتى‬ ‫يقطع أيدي وأرجل أقوام" وكان في دهشة عظيمة حتى جاء أبو بكر من العوالي فدخل على رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم وهو مسجي فكشف الغطاء عن وجهه وقبله بين عينيه ثم خرج فسمع ما‬ ‫قال عمر فرقي المبنر وقال‪" :‬من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد ال فإن ال‬ ‫سلُ} الية‪ .‬فرجع عمر إلى رشده‬ ‫حمّدٌ إِل رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّ ُ‬ ‫حي ل يموت" وقرئ‪َ { :‬ومَا ُم َ‬ ‫واعترف بموت نبيه وبكاه‪.‬‬

‫( ‪)1/385‬‬ ‫منكرا على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم‪ ،‬وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن‬ ‫يضر ال تعالى شيئا‪ ،‬فال غني عن إيمانهم ونصرهم‪ ،‬وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم‬ ‫وطاعة ربهم ورسوله صلى ال عليه وسلم وسيجزيهم دنيا وآخرة بأعظم الجور وأحسن‬ ‫المثوبات‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الثالثة أما الرابعة (‪ )145‬فقد تضمنت حقيقتين علميتين‪:‬‬ ‫الولى‪ :‬أن موت النسان متوقف حصوله على إذن ال خالقه ومالكه فل يموت أحد بدون علم ال‬ ‫تعالى بذلك فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن ال تعالى له بذلك‪ ،‬وشي آخر‬ ‫وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلً عن اليوم والساعة‪ ،‬وذلك في كتاب‬ ‫‪ 1‬خاص‪ ،‬فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من الحوال‪ ،‬هذه حقيقة يجب أن‬ ‫تعلم‪ ،‬من قول ال تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ إِل بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابا ُمؤَجّلً}‪.‬‬ ‫والثانية‪ :‬أن من دخل المعركة يقاتل باسم ال فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فال عز وجل يؤتيه‬ ‫من الدنيا ما قدره له‪ ،‬وليس له من ثواب الخرة شيء‪ ،‬وإن كان يريد ثواب الخرة ل غير‪ ،‬فال‬ ‫عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له ويعطيه ثواب الخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم وأن‬ ‫ال تعالى سيجزي الشاكرين بما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ .‬هذه‬ ‫الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ يُ ِردْ َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَنْ يُرِدْ َثوَابَ الْآخِ َرةِ ُنؤْتِهِ‬ ‫مِ ْنهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ} ‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬البتلء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات اليمان‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير رسالة النبي محمد صلى ال عليه وسلم وبشريته المفضلة‪ ،‬وموتته المؤلمة ‪ 2‬لكل‬ ‫مؤمن ‪.3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هو كتاب المقادير‪ :‬اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫‪ 2‬رثت صفية عمة رسول ال صلى ال عليه وسلم نبي ال بآيات دلت على مدى ما أصاب‬ ‫المؤمنين من حزن وألم بفراق نبيهم نذكر منها ثلث أبيات‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫أفاطم صلى ال رب محمد ‪ ...‬على حدث أمسى بيثرب ثاويا‬ ‫فدى لرسول ال أمي وخالتي ‪ ...‬وعمي وآبائي ونفسي وماليا‬ ‫فلو أن رب الناس أبقى نبيا ‪ ...‬سعدنا ولكن أمره كان ماضيا‬ ‫‪ 3‬إن قيل لم تأخر دفن النبي صلى ال عليه وسلم يومين‪ ،‬وهو القائل‪" :‬عجلوا دفن جيفتكم ول‬ ‫تؤخرهوها" ‪ .‬والجواب كان ذلك لمور‪ :‬أولً‪ :‬اختلفهم في المكان الذي يدفنوه فيه‪ ،‬حتى أخبرهم‬ ‫الصديق بأنه صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ما دفن نبي إل حيث يموت" ‪ .‬ثانيا‪ :‬اختلفهم في تعيين‬ ‫الخليفة للهمية‬

‫( ‪)1/386‬‬ ‫‪ -3‬الجهاد وخوض المعارك ل يقدم أجل العبد‪ ،‬والفرار من الجهاد ل يؤخره أيضا‪.‬‬ ‫‪ -4‬ثواب العمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة الشكر بالثبات على اليمان والطاعة ل ورسوله في المر والنهي‪.‬‬ ‫ضعُفُوا َومَا‬ ‫{ َوكَأَيّنْ مِنْ نَ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُوا ِلمَا َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َومَا َ‬ ‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي‬ ‫حبّ الصّابِرِينَ(‪َ )146‬ومَا كَانَ َقوَْلهُمْ إِل أَنْ قَالُوا رَبّنَا ا ْ‬ ‫اسْ َتكَانُوا وَاللّهُ ُي ِ‬ ‫علَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ(‪ )147‬فَآتَاهُمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ َثوَابِ‬ ‫َأمْرِنَا وَثَ ّبتْ َأ ْقدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا َ‬ ‫حسِنِينَ(‪})148‬‬ ‫حبّ ا ْلمُ ْ‬ ‫الخِ َر ِة وَاللّهُ ُي ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َوكَأَيّنْ‪ 1‬مِنْ نَ ِبيّ} ‪ :‬كثير من النبياء‪ .‬وتفسر‪ :‬كأين بكم وتكون حينئذ للتكثير‪.‬‬ ‫{رِبّيّونَ‪ : }2‬ربانيون علماء وصلحاء وأتقياء عابدون‪.‬‬ ‫{ َفمَا وَهَنُوا ِلمَا َأصَا َبهُمْ} ‪ :‬ما ضعفوا عن القتال ول انهزموا لجل ما أصابهم من قتل وجراحات‪.‬‬ ‫{ َومَا اسْ َتكَانُوا} ‪ :‬ما خضعوا ول ذلوا لعدوهم‪.‬‬

‫السراف ‪ :‬مجاوزة الحد في المور ذات الحدود التي أن يوقف عندها‪.‬‬ ‫{فَآتَا ُهمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا} ‪ :‬أعطاهم ال تعالى ثواب الدنيا النصر والغنيمة‪.‬‬ ‫{ا ْل ُمحْسِنِينَ} ‪ :‬الذين يحسنون نياتهم فيخلصون أعمالهم ل‪ ،‬ويحسنون أعمالهم فيأتون بها موافقة لما‬ ‫شرعت عليه في كيفياتها وأعدادها وأوقاتها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال الخليل‪" :‬وكأين أصلها‪ ،‬أي‪ :‬دخلت عليها كاف التشبيه‪ ،‬وبنيت معها فصارت مثل‪ :‬كم‬ ‫للدللة على التكثير‪ ،‬وفيها لغات منها‪ :‬كائن‪ ،‬وقرأ بها ابن كثير‪ ،‬وكئن‪ ،‬وقرأ بها ابن محيصن‪،‬‬ ‫وكأين‪ ،‬وبها قرأ الجمهور‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الربيين ثلث لغات‪ :‬كسر الراء وضمها وفتحها‪ ،‬وهم الجماعة الكثيرة‪ .‬والواحد‪ :‬ربي‪،‬‬ ‫بكسر الراء وضمها أيضا‪ ،‬وما ذكرناه في التفسير هو الحق‪.‬‬

‫( ‪)1/387‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد فذكر تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين‬ ‫في اليات السابقة عن عدم صبرهم وانهزامهم وتخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى‬ ‫ناداهم‪ :‬إليّ عباد ال إليّ عباد ال فثاب إليه رجال‪ .‬فقال تعالى مخبرا بما يكون عظة للمؤمنين‬ ‫وعبرة لهم‪َ { :‬وكَأَيّنْ مِنْ نَ ِبيّ} أي‪ :‬وكم من نبي من النبياء السابقين قاتل معه جموع كثيرة من‬ ‫العلماء والتقياء والصالحين فما وهنوا‪ ،‬أي‪ :‬ما ضعفوا‪ ،‬ول ذلوا لعدوهم ول خضعوا له كما هم‬ ‫بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون‪ ،‬فصبروا على القنال مع أنبيائهم متحملين آلم القتل والجرح‬ ‫فأحبهم ربهم تعالى لذلك لنه يحب الصابرين‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ )146‬ونصها‪َ { :‬وكَأَيّنْ مِنْ نَ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُوا ِلمَا‬ ‫حبّ الصّابِرِينَ} و أما الية الثانية فأخبر‬ ‫ض ُعفُوا َومَا اسْ َتكَانُوا ‪ 1‬وَاللّهُ يُ ِ‬ ‫َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َومَا َ‬ ‫تعالى فيها عن موقف أولئك الربيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى فقال‪َ { :‬ومَا كَانَ َقوَْلهُمْ إِل‬ ‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا ‪ 2‬فِي َأمْرِنَا وَثَبّتْ َأ ْقدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ} ‪.‬‬ ‫أَنْ قَالُوا رَبّنَا ا ْ‬ ‫ولزم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين لم ل تكونوا أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة وهي‬ ‫الضراعة ل تعالى بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة والتي كثيرا ما تكون سببا للهزائم‬ ‫والنتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون فلم يكن لولئك الربانيين من قول سوى قولهم‪ :‬ربنا‬ ‫اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‪ ،‬فسألوا ال مغفرة‬ ‫ذنوبهم وتثبيتهم أقدامهم في أرض المعركة حتى ل يتزلزلوا فينهزموا‪ ،‬والنصرة على القوم‬ ‫الكافرين أعداء ال وأعدائهم فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوا وهو ثواب الدنيا بالنصر‬

‫والتمكين وحسن ثواب الخرة وهو رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين‬ ‫حسْنَ‪َ 3‬ثوَابِ الخِ َرةِ‬ ‫والبرار‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الخيرة(‪{ )148‬فَآتَا ُهمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا وَ ُ‬ ‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ}‬ ‫وَاللّهُ ُي ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬استكان‪ :‬مشتق من السكون لن الذليل العاجز يسكن لمن خضع له‪ ،‬ول يتحرك ليدفع عنه‬ ‫الذى وما ناله من عدوه الغالب له‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج مسلم في صحيحه عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم كان يدعو بهذا الدعاء‪" :‬اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به‬ ‫مني" وهو دعاء تواضع منه عظيم‪.‬‬ ‫‪ 3‬في حسن الثواب والمحسنين جناس تام‪ ،‬والجملة تذييلية تحمل البشرى للقوم المحسنين في‬ ‫قتالهم ولقاء أعدائهم مع إحسانهم في عبادة ربهم وسواء منها القلبية والبدينة‪.‬‬

‫( ‪)1/388‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الترغيب في التساء ‪ 1‬بالصالحين في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضيلة الصبر والحسان‪ ،‬يحب ال تعالى الصابرين والمحسنين‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة الشتغال بالذكر ‪ 2‬والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات‬ ‫والتمنيات‪ ،‬وشر من ذلك التصخت والتضجر والبكاء والعويل‪.‬‬ ‫‪ -4‬كرم ال تعالى المتجلي في استجابة دعاء عباده الصابرين المحسنين‪.‬‬ ‫عقَا ِبكُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ(‪َ )149‬بلِ اللّهُ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ عَلَى أَ ْ‬ ‫عبَ ِبمَا أَشْ َركُوا بِاللّهِ مَا لَمْ‬ ‫َموْلكُ ْم وَ ُهوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ(‪ )150‬سَنُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُوا الرّ ْ‬ ‫يُنَ ّزلْ بِهِ سُ ْلطَانا َومَ ْأوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَ ْثوَى الظّاِلمِينَ(‪})151‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{إِنْ ُتطِيعُوا الّذِينَ َكفَرُوا} ‪ :‬المراد من طاعة الكافرين قبول قولهم والخذ باراشادتهم‪.‬‬ ‫عقَابِكُمْ} ‪ :‬يرجعوكم إلى الكفر بعد اليمان‪.‬‬ ‫{يَ ُردّوكُمْ عَلَى أَ ْ‬ ‫{خَاسِرِينَ} ‪ :‬فاقدين لكل خير في الدنيا‪ ،‬ولنفسكم وأهليكم يوم القيامة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده أن ال تعالى جعل لنا رسوله بعد أن كمله وعصمه‪ ،‬جعله لنا أسوة يأتسي بفعاله وأخلقه‬ ‫وأحواله المؤمنون المتقون والعالمون الصابرون‪.‬‬

‫‪ 2‬شاهده ما صح عنه صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلة‪ ،‬الصلة أكبر‬ ‫مظهر لذكر ال تعالى‪ ،‬ومن الذكر المشروع عند المصائب قول‪ :‬إنا ل وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫( ‪)1/389‬‬ ‫{ َبلِ اللّهُ َموْلكُمْ} ‪ :‬بل أطيعوا ال ربكم ووليكم ومولكم فإنه خير من يطاع وأحق من يطاع‪.‬‬ ‫عبَ} ‪ :‬شدة الخوف من توقع الهزيمة والمكروه‪.‬‬ ‫{الرّ ْ‬ ‫{ َومَ ْأوَاهُمُ} ‪ :‬مقر إيوائهم ونزولهم‪.‬‬ ‫{مَ ْثوَى} ‪ :‬المثوى مكان الثوى‪ ،‬وهو القامة والستقرار‪.‬‬ ‫{الظّاِلمِينَ} ‪ :‬المشركين الذين أطاعوا غير ال تعالى وعبدوا سواه‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث ‪ 1‬غزوة أحد‪ ،‬فقد روى أن بعض المنافقين لما رأى هزيمة المؤمنين في‬ ‫أحد‪ ،‬قال في المؤمنين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم‪ ،‬ولو كان محمد نبيا لما قتل إلى آخر ما من‬ ‫شأنه أن يقال في تلك الساعة الصعبة من القتراحات التي قد كشف عنها هذا النداء اللهي‬ ‫للمؤمنين‪ ،‬وهو يحذرهم من طاعة الكافرين بقوله عز وجل‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الّذِينَ‬ ‫عقَا ِبكُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فل شك أن الكافرين قد طالبوا المؤمنين بطاعته‬ ‫َكفَرُوا يَرُدّوكُمْ‪ 2‬عَلَى أَ ْ‬ ‫بتنفيذ بعض القتراحات التي ظاهرها النصح وباطنها الغش والخديعة‪ ،‬فنهاهم ال تعالى عن‬ ‫طاعتهم في ذلك وهذا النهي وإن نزل في حالة خاصة‪ ،‬فإنه عام في المسلمين على مدى الحياة‪،‬‬ ‫فل يحل طاعة الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم وفي كل ما يأمرون به أو يقترحونه‪ ،‬ومن‬ ‫أطاعهم ردوه عن دينه إلى دينهم فينقلب‪ :‬يرجع خاسرا في دنياه وآخرته‪ ،‬والعياذ بال‪ .‬هذا ما‬ ‫تضمنته الولى(‪ )149‬وأما الية الثانية(‪ )150‬فقد تضمنت المر بطاعته تعالى‪ ،‬إذ هو أولى بذلك‬ ‫لنه ربهم ووليهم ومولهم‪ ،‬فهو أحق بطاعتهم من الكافرين‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬بلِ اللّهُ َموْلكُمْ‪}3‬‬ ‫فأطيعوه‪ ،‬ول تطيعوا أعداءه وإن أردتم أن تطلبوا النصر بطاعة الكافرين فإن ال تعالى خير‬ ‫الناصرين فاطلبوا النصر منه بطاعته فإنه ينصركم‪ ،‬وفي الية الثالثة (‪ )151‬لما امتثل المؤمنون‬ ‫أمر ربهم فلم يطيعوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الكافرين شامل لكل ما أولت الية به من المشركين والمنافقين واليهود‪ ،‬وهذا أمر ل ينكر‬ ‫فإن طاعة الكافرين ل تقضي بمن أطاعهم إل إلى الخيبة والخسران في الدارين‪.‬‬ ‫‪ 2‬وجه المناسبة هو أنه لما أمر تعالى المؤمنين بالقتداء بالصالحين من أتباع النبياء‪ ،‬وذلك‬ ‫بالصبر والحتساب حذرهم في هذه اليات من اتباع الكافرين وقبول ما يطلبون ويقترحونه عليه‬ ‫فإنه مفضي بهم إلى الكفر أولً ثم إلى الثم والخسران ثانيا‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرئ بنصب اسم الجللة‪ ،‬ويكون معمولً لفعل مقدر وتقديره‪ :‬بل أطيعوا ال مولكم فهو أحق‬

‫بطاعته من الكافرين والمنافقين‪ ،‬وفي هذا رد على من قال ساعة الهزيمة‪ :‬لو كلمنا ابن أبي يأخذ‬ ‫لنا أمنا من أبي سفيان‪.‬‬

‫( ‪)1/390‬‬ ‫الكافرين وعدهم ربهم سبحانه وتعالى بأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرعب ‪ 1‬وهو الخوف‬ ‫والفزع والهلع حتى تتمكنوا من قتالهم والتغلب عليهم وذلك هو النصر المنشود منكم‪ ،‬وعلل تعالى‬ ‫فعله ذلك بالكافرين بأنهم أشركوا به تعالى آلهة عبدوها معه لم ينزل بعبادتها حجة ول سلطانا‪،‬‬ ‫عبَ ِبمَا أَشْ َركُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ ِبهِ سُ ْلطَانا} وأخيرا‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬سَُن ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُوا الرّ ْ‬ ‫مأواهم النار‪ ،‬أي‪ :‬محل إقامتهم النار‪ ،‬وذم تعالى القامة في النار فقال‪َ { :‬ومَ ْأوَاهُمُ النّا ُر وَبِئْسَ‬ ‫مَ ْثوَى الظّاِلمِينَ} ‪ ،‬يريد النار بئس المقام للظالمين وهم المشركون ‪.2‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تحرم طاعة الكافرين في حال الختيار ‪.3‬‬ ‫‪ -2‬بيان السر في تحريم طاعة الكافرين‪ ،‬وهو أنه يترتب عليها الردة‪ .‬والعياذ بال‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان قاعدة من طلب النصر من غير ال أذله ال‪.‬‬ ‫‪ -4‬وعد ال المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم‪ ،‬إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى‬ ‫المدينة بعد انصرافه من أحد ليقضي عمن بقى في المدينة من الرجال‪ ،‬كذا سولت له نفسه‪ ،‬ثم‬ ‫ألقى ال تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬بطلن كل دعوى ما لم يكن لصحابها حجة وهي المعبر عنها بالسلطان ‪ 4‬في الية إذ الحجة‬ ‫يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها‪.‬‬ ‫عصَيْتُمْ مِنْ َب ْعدِ مَا‬ ‫لمْرِ وَ َ‬ ‫{وََلقَ ْد صَ َد َقكُمُ اللّ ُه وَعْ َدهُ ِإذْ َتحُسّو َنهُمْ بِإِذْ ِنهِ حَتّى ِإذَا فَشِلْ ُت ْم وَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ‬ ‫أَرَاكُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرعب بإسكان العين وطمسها الخوف الذي يمل النفس خوفا‪ ،‬لن مادة الرعب مأخوذة من‬ ‫الماء‪ ،‬يقال‪ :‬سيل راعب يمل الوادي‪ ،‬وكانت هذه الية ردا على أبي سفيان لما فكر في العودة‬ ‫إلى المدينة بعد انصرافه من أحد‪ ،‬إل أن ال تعالى هزمه لما ألقى في نفسه من الرعب‪ ،‬فعاد إلى‬ ‫مكة‪ ،‬كما هي بشرى للمؤمنين متى أطاعوا ربهم وثبتهم فإنه يلقى الرعب في قلوب أعدائهم‪ ،‬قال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬نصرت بالرعب مسيرة شهر‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقوله تعالى‪{ :‬وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ} ‪ ،‬والكافرون مشركون بل شك‪.‬‬ ‫‪ 3‬أما في حال الكراه فإن من لم يطق العذاب يرخص له في إعطائهم ما طلبوا منه على شرط‬

‫أن يكون كارها بقلبه ساخطا في نفسه غير راضٍ عنهم ول عن صنيعهم وذلك للية‪{ :‬إِل مَنْ‬ ‫طمَئِنّ بِالِيمَانِ} ‪.‬‬ ‫ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ مُ ْ‬ ‫‪ 4‬السلطان‪ :‬الحجة لن الحق يؤخذ بالحجة ويؤخذ بالسلطان‪ ،‬وهل السلطان مأخوذ من السليط‪،‬‬ ‫وهو ما يضاء السراج‪ ،‬وهو دهن السمسم‪ ،‬وسمي الحاكم سلطانا للستضاءة به في إظهار الحق‬ ‫وقمع الباطل؟ نعم‪ ،‬وجائز‪.‬‬

‫( ‪)1/391‬‬ ‫عفَا عَ ْنكُمْ‬ ‫مَا تُحِبّونَ مِ ْنكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيَا َومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الخِ َرةَ ُث ّم صَ َر َفكُمْ عَ ْنهُمْ لِيَبْتَلِ َيكُ ْم وََلقَدْ َ‬ ‫ن وَل تَ ْلوُونَ عَلَى َأحَ ٍد وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي‬ ‫صعِدُو َ‬ ‫ضلٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ )152‬إِذْ ُت ْ‬ ‫وَاللّهُ ذُو َف ْ‬ ‫غمّا ِبغَمّ ِلكَيْل تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَا َتكُ ْم وَل مَا َأصَا َبكُ ْم وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ(‪})153‬‬ ‫أُخْرَا ُكمْ فَأَثَا َبكُمْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{صَ َد َقكُمُ اللّ ُه وَعْ َدهُ‪ : }1‬أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا أماكنكم فإنا ل‬ ‫نزال غالبين ما ثبتم مكانكم‪.‬‬ ‫{ َتحُسّو َنهُمْ} ‪ :‬تقتلونهم إذ‪ ،‬الحس‪ :‬القتل‪ .‬يقال‪ :‬حسه‪ ،‬إذا قتله فأبطل حسه‪.‬‬ ‫{بِِإذْنِهِ} ‪ :‬بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك‪.‬‬ ‫{فَشِلْ ُتمْ} ‪ :‬ضعفتم وجبنتم عن القتال‪.‬‬ ‫صعِدُونَ‪ : }2‬تذهبون في الرض فارين من المعركة‪ ،‬يقال‪ :‬أصعد إذا ذهب في صعيد الرض‪.‬‬ ‫{ ُت ْ‬ ‫{وَل تَ ْلوُونَ عَلَى َأحَدٍ} ‪ :‬ل تلوون رؤوسكم على أحد تلتفتون إليه‪.‬‬ ‫{وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي ُأخْرَاكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬يناديكم من خلفكم إليّ عباد ال ارجعوا إليّ عباد ال‬ ‫ارجعوا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صدق الوعد‪ :‬تحقيقه والوفاء به‪ ،‬لن الصدق هو مطابقة الخبر للواقع‪ ،‬وهذا الوعد كان لهم‬ ‫على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذ أخبرهم به وهو يهيئ صفوفهم للقتال‪.‬‬ ‫‪ 2‬صعد يصعد‪ ،‬إذا طلع المنبر أو سطحا‪ ،‬وأصعد يصعد إصعادا‪ ،‬إذا سار في بطن الرض أو‬ ‫الوادي جريا على صعيد الرض فكان الصعاد إبعادا في الرض‪.‬‬

‫( ‪)1/392‬‬ ‫غمّا ِب َغمّ‪ : }1‬جزاكم على معصيتكم وفراركم غما على غم‪ .‬والغم‪ :‬ألم النفس وضيق‬ ‫{فَأَثَا َبكُمْ َ‬ ‫الصدر‪.‬‬

‫{مَا فَا َتكُمْ} ‪ :‬من الغنائم‪.‬‬ ‫{وَل مَا َأصَا َبكُمْ} ‪ :‬من الموت والجراحات واللم والتعاب‪.‬معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث أحد‪ ،‬فقد تقدم في السياق قريبا نهى ال تعالى المؤمنين عن طاعة‬ ‫الكافرين في كل ما يقترحون‪ ،‬ويشيرون به عليهم‪ .‬ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب‬ ‫الكافرين‪ ،‬وقد فعل فله الحمد حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها‬ ‫ويستأصل شأفتهم‪ ،‬فأنزل ال تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة‬ ‫ثانية‪ ،‬وذهبوا إلى مكة‪ .‬ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء السد‪ ،‬ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه‪.‬‬ ‫وفي هاتين اليتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬ ‫{وََلقَ ْد صَ َد َقكُمُ‪ 2‬اللّهُ وَعْ َدهُ إِذْ َتحُسّو َنهُمْ بِِإذْنِهِ} ‪ ،‬وذلك أن الرسول صلى ال عليه وسلم لما بوأ‬ ‫الرماة مقاعدهم‪ .‬وكانوا ثلثين راميا وجعل عليهم عبد ال بن جبير أمرهم بأن ل يبرحوا أماكنهم‬ ‫كيفما كانت الحال‪ ،‬وقال لهم‪ :‬إنا ل نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون‬ ‫ظهورنا بذلك‪ ،‬وفعلً دارت المعركة وأنجز ال تعالى لهم وعده ففر المشركون أمامهم تاركين كل‬ ‫شيء هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حسا‪ ،‬أي‪ :‬يقتلونهم قتلً بإذن ال وتأييده لهم‪ ،‬ولما رأى‬ ‫الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم‪ ،‬قالوا‪ :‬ما قيمة بقاءنا هنا‪ ،‬والناس يغنمون‬ ‫فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم‪ ،‬فذكرهم عبد ال بن جبير قائدهم بأمر رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم‪ ،‬وكان على خيل المشركين خالد بن‬ ‫الوليد‪ ،‬فما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إل قليلً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي‬ ‫فيها‪ ،‬ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك‪ ،‬فعاد المشركون إليهم ووقعوا بين الرماة‬ ‫الناقمين والمقاتلين الهاجئين‪ ،‬قوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الباء قد تكون هنا للمصاحبة‪ ،‬أي أصابكم غما مصحوبا بغم‪ .‬والغم الول‪ :‬القتل والجراح‪،‬‬ ‫والثاني‪ :‬الرجاف بقتل الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول بأس أن يكون الغم الول هو الذي‬ ‫أغموا به الرسول بمخالتفهم إياه وأصابهم غم الهزيمة‪.‬‬ ‫‪ 2‬في هذه الية عود إلى التسلية على ما أصابهم وإظهار لستمرار عناية ال تعالى بهم‪.‬‬

‫( ‪)1/393‬‬ ‫بينهم حمزة عم الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجرح رسول ال في وجه‪ ،‬وكسرت رباعيته‪،‬‬ ‫ل منهم‪ ،‬وفي‬ ‫وصاح الشيطان قائلً‪ :‬إن محمدا قد مات‪ ،‬وفر المؤمنون من ميدان المعركة إل قلي ً‬ ‫لمْرِ‪ }1‬يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد ال بن‬ ‫هذا يقول تعالى‪{ :‬حَتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ‬ ‫جبير‪ ،‬حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم فنازعوه في‬

‫فهمه وخالفوا المر ونزلوا‪ ،‬وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا ‪،2‬‬ ‫عصَيْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا ُتحِبّونَ} أي‪ :‬من النصر {مِ ْنكُمْ مَنْ يُرِيدُ‪3‬‬ ‫وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬وَ َ‬ ‫الدّنْيَا} وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم‪َ { ،‬ومِ ْنكُمْ مَنْ يُرِيدُ الخِ َرةَ} وهم‪ :‬عبد ال بن‬ ‫جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ثُ ّم صَ َر َفكُمْ عَ ْن ُهمْ‬ ‫لِيَبْتَلِ َيكُمْ} وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين‬ ‫رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم‪ ،‬وحصل هذا بعلم ال تعالى‬ ‫وتدبيره‪ ،‬والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله‪{ :‬لِيَبْتَلِ َي ُكمْ} أي‪ :‬يختبركم فيرى المؤمن الصادق من‬ ‫عفَا عَ ْنكُمْ} يريد أنه لو شاء يؤاخذهم‬ ‫المنافق الكاذب‪ ،‬والصابر من الجزع‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وََلقَدْ َ‬ ‫بمعصيتهم أمر رسوله‪ ،‬فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين‪ ،‬ولم يبقوا منهم أحدا إذ تمكنوا‬ ‫ضلٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} هذا ما‬ ‫عفَا عَ ْنكُ ْم وَاللّهُ ذُو َف ْ‬ ‫منهم تماما ولكن ال سلم‪ .‬هذا معنى‪{ :‬وََلقَدْ َ‬ ‫تضمنته الية الولى(‪ ،)152‬أما الية الثانية(‪ )153‬فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون‬ ‫صعِدُونَ} أي‪ :‬عفا عنكم في الوقت الذي‬ ‫بعد حصول النكسار والهزيمة ‪ 4‬فيقول تعالى‪ِ{ :‬إذْ ُت ْ‬ ‫فررتم في المصعدين في الودية هاربين من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم إليّ عباد ال‬ ‫غمّا ِب َغمّ}‬ ‫ارجعوا‪ ،‬وأنتم فارون ل تلوون على أحد‪ ،‬أي‪ :‬ل تلتفتوا إليه‪ .‬وقوله تعالى ‪{ :‬فَأَثَا َبكُمْ َ‬ ‫يريد جزاكم على معصيتكم غما‪ ،‬والغم‪ :‬ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬آل في المر‪ :‬نائبة عن المضاف‪ ،‬إذ التقدير في أمركم وشأنكم‪.‬‬ ‫‪ 2‬نعم انهزم المشركون في أول المعركة حتى شوهدت نسائهم عن سوقهن هاربات في أعلى‬ ‫الجبل خوفا من السر‪ ،‬ومن بينهم هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان‪.‬‬ ‫‪ 3‬إرادة الدنيا وحدها غير معصية ولكن ما ترتبت عنها من ترك طاعة رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم فطالب الدنيا إذا طلبها من حلها ولم يخل طلبه بواجب ولم يحمله على فعل حرام ل يأثم ول‬ ‫يلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬لما تمت الهزيمة جلس رسول ال صلى ال عليه وسلم مع بعض أصحابه على صخرة من‬ ‫سفح أحد فجاء أبو سفيان فارتفع على نشز من الرض‪ ،‬وقال‪ :‬أفي القوم محمد؟ فقال لهم رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تجيبوه" ثم قال‪ :‬أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬ل تجيبوه" ‪ .‬ثم قال‪ :‬أفي القوم عمر؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تجيبوه"‪ .‬ثم‬ ‫التفت إلى أصحابه وقال‪ :‬أما هؤلء فقد قتلوا‪ .‬فقال له عمر‪ :‬كذبت يا عدوا ال‪ ،‬فقد أبقى لك ال‬ ‫من يخزيك به‪ .‬فقال‪ :‬أعل هبل‪ .‬مرتين‪ .‬فأجابوه بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلين‪ .‬ال‬ ‫أعلى وأجل‪ .‬فقال‪ :‬لنا العزة ول عزة لكم‪ .‬فقالوا بأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ال مولنا‬ ‫ول مولى لكم‪.‬‬

‫( ‪)1/394‬‬ ‫الحال‪ ،‬وقوله‪ِ { :‬ب َغمّ} أي‪ :‬على غم‪ ،‬وسبب الغم الول فوات النصر والغنيمة‪ ،‬والثاني‪ :‬القتل‬ ‫والجراحات‪ ،‬وخاصة جراحات نبيهم وإذاعة قتله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪ِ{ :‬لكَيْل تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَا َتكُ ْم وَل مَا َأصَا َبكُمْ} أي‪ :‬ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو‬ ‫خبر قتل الرسول صلى ال عليه وسلم لكي ل تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة‪ ،‬ول على‬ ‫ما أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الول الذي هو فوات النصر‬ ‫والغنيمة‪ .‬وقوله‪{ :‬وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ} يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية‬ ‫وتنازع وفرار‪ ،‬وترك للنبي صلى ال عليه وسلم في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير‬ ‫مطلع عليه عليم به وسيجزي به المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يعفو عنه‪ ،‬وال عفو كريم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة ‪ 1‬المنكرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬معصية ال ورسوله والختلفات بين أفراد المة تعقب أثارا سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم‬ ‫وذهاب الدولة والسلطان ‪.2‬‬ ‫‪ -3‬ما من مصيبة تصيب العبد إل وعند ال ما هو أعظم منها‪ ،‬فلذا يجب حمد ال تعالى على أنها‬ ‫لم تكن أعظم‪.‬‬ ‫‪ -4‬ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة‪ ،‬وبيان ذلك أن علم المؤمنون أن النصر والهزيمة‬ ‫يتمان حسب سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان حقيقة كبرى وهي أن معصية الرسول صلى ال عليه وسلم مرة واحدة وفي شيء واحد‬ ‫ترتب عليها ألم وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير‪ ،‬فكيف بالذين يعصون رسول ال‬ ‫طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه‪ ،‬وهم يضحكون ول يبكون‪ ،‬وآمنون غير خائفين ‪.3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخلف كله شر ولكنه في ساحة الحرب أشد‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ِ{ :‬إذَا َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} إلى أن‬ ‫حكُم} ‪ .‬الية من سورة النفال‪.‬‬ ‫قال‪{ :‬وَل تَنَازَعُوا فَ َتفْشَلُوا وَتَذْ َهبَ رِي ُ‬ ‫‪ 2‬شاهد هذا حال المسلمين اليوم‪ ،‬وقبل اليوم أنهم بعد أن عصوا ال ورسوله بالعراض عن‬ ‫شرع ال وإهمال أحكامه والتعصب للمذاهب والرضا بالنقسام والخلف حل بهم ما حل من الذل‬ ‫والهون والدون‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه حال أكثر المسلمين اليوم ومنذ قرون عدة‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال‪ ،‬وكذا لم يبرحوا أذلء‬ ‫تابعين للكافرين ل يستقلون في عمل أو تدبير‪.‬‬

‫( ‪)1/395‬‬ ‫سهُمْ َيظُنّونَ بِاللّهِ‬ ‫{ ُثمّ أَنْ َزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ َبعْدِ ا ْلغَمّ َأمَنَةً ُنعَاسا َيغْشَى طَا ِئفَةً مِ ْنكُمْ وَطَا ِئفَةٌ قَدْ َأ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ‬ ‫سهِمْ‬ ‫خفُونَ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫لمْرَ كُلّهُ لِلّهِ يُ ْ‬ ‫ناَ‬ ‫شيْءٍ ُقلْ إِ ّ‬ ‫لمْرِ مِنْ َ‬ ‫ناَ‬ ‫غَيْرَ ا ْلحَقّ ظَنّ ا ْلجَاهِلِيّةِ َيقُولُونَ َهلْ لَنَا مِ َ‬ ‫شيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ُقلْ َلوْ كُنْتُمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ‬ ‫لمْرِ َ‬ ‫ناَ‬ ‫مَا ل يُ ْبدُونَ َلكَ َيقُولُونَ َلوْ كَانَ لَنَا مِ َ‬ ‫حصَ مَا فِي قُلُو ِبكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ‬ ‫ج ِعهِمْ وَلِيَبْتَِليَ اللّهُ مَا فِي صُدُو ِركُ ْم وَلِ ُيمَ ّ‬ ‫كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقَ ْتلُ ِإلَى َمضَا ِ‬ ‫ج ْمعَانِ إِ ّنمَا اسْتَزَّلهُمُ الشّيْطَانُ بِ َب ْعضِ مَا‬ ‫بِذَاتِ الصّدُورِ(‪ )154‬إِنّ الّذِينَ َتوَّلوْا مِ ْنكُمْ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ‬ ‫غفُورٌ حَلِيمٌ(‪})155‬‬ ‫عفَا اللّهُ عَ ْنهُمْ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫كَسَبُوا وََلقَدْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َأمَنَةً ُنعَاسا‪ : }1‬المنة‪ :‬المن‪ ،‬والنعاس‪ :‬استرخاء يصيب الجسم قبل النوم‪.‬‬ ‫{ َيغْشَى ‪ 2‬طَا ِئفَةً مِ ْنكُمْ} ‪ :‬يصيب المؤمنين ليستريحوا ول يصيب المنافقين‪.‬‬ ‫س ُهمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل يفكرون إل في نجاة أنفسهم غير مكترثين بما أصاب رسول ال صلى‬ ‫{أَ َهمّ ْت ُهمْ‪ 3‬أَ ْنفُ ُ‬ ‫ال عليه وسلم وأصحابه‪.‬‬ ‫{ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ} ‪ :‬هو اعتقادهم ‪ :4‬أن النبي قُتل أو أنه ل ينصر‪.‬‬ ‫لمْرِ} ‪ :‬أي‪ :‬ما لنا من المر من شيء‪.‬‬ ‫ناَ‬ ‫{ َهلْ لَنَا مِ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المنة‪ :‬وقيل‪ :‬إن المنة تكون عند الخوف والمن يكون مع الخوف وعدمه‪ ،‬وقرئ المنة‬ ‫بإسكان الميم‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرئ‪ :‬يغشى بالياء‪ ،‬وهو عائد إلى النعاس‪ ،‬وقرئ‪ :‬تغشى بالتاء ويعود على المنة‪.‬‬ ‫‪ 3‬من أفراد هذه الطائفة‪ :‬معتب بن قشير وأصحابه خرجوا طمعا للغنيمة ل غير‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن عباس‪ :‬وهو تكذيبهم بالقدر‪.‬‬

‫( ‪)1/396‬‬ ‫{مَا ل يُبْدُونَ َلكَ} ‪ :‬أي‪ :‬ما ل يظهرون لك‪.‬‬ ‫{لَبَرَزَ الّذِينَ} ‪ :‬لخرجوا من المدينة ظاهرين ليلقوا مصارعهم هناك‪.‬‬ ‫{كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْتلُ} ‪ :‬يريد كتب في كتاب المقادير‪ ،‬أي‪ :‬اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫ج ِعهِمْ} ‪ :‬جمع مضجع‪ ،‬وهو مكان النوم‪ ،‬والضطجاع والمراد المكان الذي صرعوا في‬ ‫{ َمضَا ِ‬ ‫قتلى‪.‬‬ ‫{وَلِيَبْتَِليَ‪ : }1‬ليختبر‪.‬‬

‫حصَ} ‪ :‬التمحيص‪ :‬التمييز وهو إظهار شيء من شيء كإظهار اليمان من النفاق‪ ،‬والحب‬ ‫{وَلِ ُيمَ ّ‬ ‫من الكره‪.‬‬ ‫{اسْتَزَّلهُمُ الشّيْطَانُ} ‪ :‬أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة والتي كانت الفرار من الجهاد‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال الساق في الحديث عن غزوة أحد فأخبر تعالى في الية الولى (‪ )153‬عن أمور عظام‪:‬‬ ‫الول‪ :‬أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين أنزل على أهل اليقين خاصة أمنا كاملً فذهب‬ ‫الخوف عنهم حتى أن أحدهم ‪ 2‬لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ثُمّ‬ ‫أَنْ َزلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ َبعْدِ ا ْلغَمّ َأمَنَةً ُنعَاسا َيغْشَى طَا ِئفَةً مِ ْنكُمْ} ‪ ،‬والثاني‪ :‬أن أهل الشرك والنفاق حرمهم‬ ‫ال تعالى من تلك المنة فما زال الخوف يقطع قلوبهم‪ ،‬والغم يسيطر على أنفسهم وهم ل يفكرون‬ ‫إل في أنفسهم كيف ينجون من الموت‪ ،‬وهم المعنيون بقوله تعالى ‪{ :‬وَطَا ِئفَةٌ قَدْ أَ َهمّ ْتهُمْ‪3‬‬ ‫حقّ ظَنّ‬ ‫سهُمْ} ‪ ،‬والثالث‪ :‬أن ال تعالى قد كشف عن سرائرهم‪ ،‬فقال‪{ :‬يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْ َ‬ ‫أَ ْنفُ ُ‬ ‫الْجَاهِلِيّةِ} ‪ ،‬والمراد من ظنهم بال غير الحق ظن المشركين أنهم يعتقدون أن السلم باطل وأن‬ ‫محمدا ليس رسولً‪ ،‬وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون وينتهي السلم ومن يدعو إليه‪ .‬والرابع‪:‬‬ ‫شيْءٍ} هذا القول قالوه‬ ‫لمْرِ مِنْ‪َ 4‬‬ ‫ناَ‬ ‫أن ال تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم‪َ { :‬يقُولُونَ َهلْ لَنَا مِ َ‬ ‫سرا فيما بينهم‪ ،‬ومعناه ليس لنا من المر من شيء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬ل يعاملهم معاملة المختبر لهم وليصبح ما كان غيبا ل مشاهدة لهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال أبو طلحة والزبير وأنس‪ :‬غشينا النعاس حتى إن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من‬ ‫الرض‪.‬‬ ‫‪ 3‬حدثتهم أنفسهم بما يدخل الهم عليهم‪ ،‬وهو تكذيبهم بالقدر والحرص على نجاتهم وحزنهم على‬ ‫ما فاتهم من الغنيمة‪ ،‬وهذه كلها موجبات الهم والغم‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذه الجملة بدل اشتمال من جملة‪{ :‬يظنون بال غير الحق} ‪ .‬لن ظنهم مشتمل على قولهم‪:‬‬ ‫{ َهلْ لَنا من الَمر مِنْ شَيئْ} أي‪ :‬ليس لنا من المر من شيء‪ .‬وهذا القول قاله‪ :‬ابن أبي بما سمع‬ ‫باستشهاد من استشهد من الخزرج‪.‬‬

‫( ‪)1/397‬‬ ‫ولو كان لنا ما خرجنا ول قاتلنا ول أصابنا الذي أصابنا فأطلعه ال تعالى على سرهم‪ ،‬وقال له‪:‬‬ ‫خفُونَ‬ ‫رد عليهم بقولك‪ :‬إن المر كله ل‪ .‬ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال‪{ :‬يُ ْ‬ ‫س ِهمْ مَا ل يُ ْبدُونَ َلكَ} أي‪ :‬يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولصحابك ما‬ ‫فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫شيْءٌ مَا‬ ‫لمْرِ َ‬ ‫ناَ‬ ‫ل يظهرونه لك‪ .‬والرابع‪ :‬لما تحدث المنافقون ‪ 1‬في سرهم‪ ،‬وقالوا‪َ{ :‬لوْ كَانَ لَنَا مِ َ‬

‫قُتِلْنَا هَاهُنَا} ‪ :‬يريدون لو كان المر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين لنهم إخوانهم في الشرك‬ ‫والكفر‪ ،‬ولو قتلوا مع من قتل في أحد فأمر ال تعالى رسوله أن يرد عليهم‪ُ { :‬قلْ َلوْ كُنْتُمْ فِي‬ ‫ج ِعهِمْ} وصرعوا فيها وماتوا‪،‬‬ ‫بُيُو ِتكُمْ} بالمدينة لبرز‪ ،‬أي‪ :‬ظهر {الّذِينَ كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْتلُ إِلَى َمضَا ِ‬ ‫لن ما قدره ال نافذ على كل حال‪ ،‬ول حذر مع ‪ 2‬القدر‪ ،‬ول بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير‬ ‫ال تعالى ليبتلي ال‪ ،‬أي‪ :‬يمتحن ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم فيظهر ما كان غيبا ل‬ ‫يعلمه إل هو إلى عالم المشاهدة ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون‪ ،‬وهذا لعلم ال تعالى‬ ‫بذات الصدور‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ َلوْ كُنْ ُتمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَتْلُ إِلَى‬ ‫علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ}‪.‬‬ ‫حصَ مَا فِي قُلُو ِبكُ ْم وَاللّهُ َ‬ ‫ج ِعهِ ْم وَلِيَبْتَِليَ اللّهُ مَا فِي صُدُو ِركُ ْم وَلِ ُيمَ ّ‬ ‫َمضَا ِ‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى‪ ،‬أما الية الثانية(‪ )154‬فقد تضمنت إخبار ال تعالى عن حقيقة واحدة‬ ‫ينبغي أن تعلم وهي أن الذين فروا من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب‪ ،‬الشيطان هو الذي‬ ‫أوقعهم في هذه الزلة‪ ،‬وهي توليهم عن القتال بسبب ‪ 3‬بعض الذنوب كانت لهم‪ ،‬ولذا عفا ال عنهم‬ ‫ولم يؤاخذهم بهذه الزلة‪ ،‬وذلك لن ال غفور حليم‪ ،‬فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر‬ ‫له‪ ،‬ولو لم يكن حليما لكان يؤاخذ لول الذنب والزلة فل يمكن أحدا من التوبة والنجاة‪ .‬هذا معنى‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َتوَّلوْا مِ ْنكُمْ} أي‪ :‬عن القتال‪ ،‬يوم التقى الجمعان‪ ،‬أي‪ :‬جمع المؤمنين وجمع‬ ‫الكافرين بأحد‪{ .‬إِ ّنمَا اسْتَزَّلهُمُ‪ 4‬الشّ ْيطَانُ بِ َب ْعضِ مَا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدم آنفا أن هذا قاله‪ :‬رئيس المنافقين‪ :‬ابن أبي‪ ،‬وقد عاد من الطريق مع ثلثمائة رجل ممن‬ ‫استجاب لدعوته المثبطة عن القتال‪ ،‬ول مانع أن يقوله غير واحد من المنافقين‪ ،‬وهو كذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬بنافع‪ ،‬ولكن طلب الحذر من جملة السباب المطلوب اتخاذها طاعة ل‪ ،‬وال يقول‪{ :‬خُذواْ‬ ‫حذْرَكم} ‪ ،‬وإنما لما يقع ما قدره ال تعالى ولم ينفع في رده حذر وجب الرضا به والتسليم ل في‬ ‫ِ‬ ‫إجراءه على مقتضى مراده‪ ،‬وعليه فل أسف ول حزن ول سخط‪ ،‬إذ ما قضاه ال هو الخير‬ ‫والخير كله‪.‬‬ ‫‪ 3‬في هذه الية بيان بسبب الهزيمة الخفي‪ ،‬وهو مخالفة أمر الرسول صلى ال عليه وسلم حيث‬ ‫تركوا مواقعهم ونزلوا لطلب الغنيمة‪ ،‬والمراد إلقاء تبعة الهزيمة عليهم‪ ،‬إذ هم السبب فيها‪.‬‬ ‫‪ 4‬استزلهم‪ :‬أي‪ :‬أزلهم بمعنى جعلهم زالين‪ ،‬والزلل‪ :‬إن كان معناه‪ :‬انزلق القدم وسقوط صاحبها‪،‬‬ ‫فإن معناها هنا‪ :‬الوقوع في الذلة التي هي الخطيئة‪ ،‬والسين والتاء في استزلهم للتأكيد‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫استفاد كذا واستنشق الماء أو الهواء‪{ :‬واسْ َتغْنَى اللّه} ‪.‬‬

‫( ‪)1/398‬‬

‫غفُورٌ حَلِيمٌ} ‪.‬‬ ‫عفَا اللّهُ عَ ْنهُمْ} فلم يؤاخذهم {إِنّ اللّهَ َ‬ ‫كَسَبُوا} ‪{ ،‬وََلقَدْ َ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬إكرام ال تعالى لولياءه بالمان الذي أنزله في قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬إهانة ال تعالى لعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ القضاء والقدر‪ ،‬وأن من كتب موته في مكان ل بد وأن يموت فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬أفعال ال تعالى ل تخلو أبدا من حكم عالية فيجب التسليم ل تعالى والرضا بأفعاله في خلقه‪.‬‬ ‫‪ -5‬الذنب يولد الذنب‪ ،‬والسيئة تتولد عنها سيئة أخرى‪ ،‬فلذا وجبت التوبة من الذنب فورا‪.‬‬ ‫خوَا ِنهِمْ ِإذَا ضَرَبُوا فِي الَ ْرضِ َأوْ كَانُوا غُ ّزىً‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتكُونُوا كَالّذِينَ َكفَرُوا َوقَالُوا لِ ْ‬ ‫حسْ َرةً فِي قُلُو ِبهِ ْم وَاللّهُ يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَاللّهُ ِبمَا‬ ‫ج َعلَ اللّهُ ذَِلكَ َ‬ ‫َلوْ كَانُوا عِ ْندَنَا مَا مَاتُوا َومَا قُتِلُوا لِ َي ْ‬ ‫ج َمعُونَ(‬ ‫حمَةٌ خَيْرٌ ِممّا يَ ْ‬ ‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‪ )156‬وَلَئِنْ قُتِلْ ُتمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأوْ مُتّمْ َل َمغْفِ َرةٌ مِنَ اللّ ِه وَرَ ْ‬ ‫‪ )157‬وَلَئِنْ مُتّمْ َأوْ قُتِلْتُ ْم لِلَى اللّهِ ُتحْشَرُونَ(‪})158‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آمَنُوا} ‪ :‬صدقوا ال ورسوله فيما أخبرا به من وعد ووعيد‪.‬‬ ‫خوَا ِنهِمْ} ‪ :‬هذه أخوة العقيدة ل أخوة النسب‪ ،‬وهي هنا أخوة النفاق‪.‬‬ ‫{لِ ْ‬ ‫{ضَرَبُوا فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬ضربوا في الرض بأقدامهم مسافرين ‪ 1‬للتجارة غالبا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقد يكون السفر لمصالح المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)1/399‬‬ ‫{غُ ّزىً‪ : }1‬جمع غاز وهو من يخرج لقتال ونحوه من شؤون الحرب‪.‬‬ ‫الحسرة ‪ : 2‬ألم يأخذ بخناق النفس بسبب فوت مرغوب أو فقد محبوب‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة‪ ،‬ففي هذه الية(‪ )156‬ينادي ال المؤمنين‬ ‫الصادقين في إيمانهم بال ورسوله ووعد ال تعالى ووعيده يناديهم ‪ 3‬لينهاهم عن التصاف‬ ‫بصفات الكافرين النفسية وهو من ذلك قول الكافرين لخوانهم في الكفر‪ :‬إذ هم ضربوا في‬ ‫الرض لتجارة أو لغزو فمات من مات منهم أو قتل من قتل بقضاء ال وقدره‪ ،‬لو كانوا عندنا‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر‪،‬‬ ‫وحسب سنة ال تعالى فإن هذا القول منهم يتولد‪ ،‬لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية‬ ‫تمزقهم‪ ،‬وقد تودي بحياتهم‪ ،‬وما درى أولئك الكفرة الجهال أن ال يحيي ويميت‪ ،‬فل السفر ول‬ ‫القتال يميتان‪ ،‬ول القعود في البيت جبنا وخورا يحيي‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى في هذه الية‪{ :‬يَا‬

‫خوَا ِنهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الَرْضِ َأوْ كَانُوا غُ ّزىً َلوْ‬ ‫أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتكُونُوا كَالّذِينَ َكفَرُوا َوقَالُوا لِ ْ‬ ‫حسْ َرةً فِي قُلُو ِبهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَ ُيمِيتُ} وقوله تعالى‬ ‫ج َعلَ اللّهُ ذَِلكَ َ‬ ‫كَانُوا عِ ْندَنَا مَا مَاتُوا َومَا قُتِلُوا لِ َي ْ‬ ‫في ختام هذه الية‪{ :‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ} في وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الية‬ ‫ووعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيرا‪ ،‬وبالشر إن لم يعفوا شرا‪ .‬أما الية الثانية (‪ )157‬فإن‬ ‫ال تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبرا إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل ال أو ماتوا فيه يغفر لهم‬ ‫ويرحمهم وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على‬ ‫القتال والخروج في سبيل ال فقال تعالى‪{ :‬وَلَئِنْ قُتِلْ ُتمْ‪ 4‬فِي سَبِيلِ اللّهِ َأوْ مُتّمْ‪َ 5‬ل َم ْغفِ َرةٌ مِنَ اللّهِ‬ ‫ج َمعُونَ‪ ، }6‬وفي الية الثالثة (‪ )158‬يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الية‬ ‫حمَةٌ خَيْرٌ ِممّا يَ ْ‬ ‫وَرَ ْ‬ ‫السابقة فيقول‪ { :‬وَلَئِنْ مُتّمْ َأوْ قُتِلْتُمْ}‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الغزو‪ :‬قصد الشيء‪ ،‬والمغزى‪ :‬المقصد‪ ،‬والمغزية‪ :‬المرأة التي غزا زوجها‪ ،‬والنسبة إلى‬ ‫الغزو‪ ،‬غزي‪.‬‬ ‫‪ 2‬والحسرة‪ :‬شدة السف على الحزن‪.‬‬ ‫‪ 3‬في نداء ال المؤمنين بعنوان اليمان‪ ،‬وهي صفة جامعة لهم فيه تلطف بعد تقريع فريق منهم‪،‬‬ ‫وهم الذين تولوا عن القتال يوم التقى الجمعان‪.‬‬ ‫‪ 4‬اللم موطئة للقسم‪ :‬أي‪ :‬مؤذنة بأن قبلها قسما مقدرا‪ ،‬واللم‪{ :‬ال َمغْفِرة} هي في جواب القسم‬ ‫الذي هو المغفرة‪.‬‬ ‫‪ 5‬أهل الحجاز يقولون‪ :‬متم بكسر الميم‪ ،‬نحو‪ :‬نمتم من نام ومات وغيرهم يقولون‪ :‬مُتم بضم الميم‬ ‫في متم‪ ،‬ونمتم‪ ،‬نحو‪ :‬كنتم وقلتم‪.‬‬ ‫جمَعون} بالتاء‪ ،‬أي‪ :‬أنتم أيها المؤمنون‪{ :‬ويَجمَعوُن} بالياء‪ ،‬أي‪ :‬الكافرون والمنافقون‪.‬‬ ‫‪ 6‬قرئ‪{ :‬تَ ْ‬

‫( ‪)1/400‬‬ ‫في سبيلنا {لِلَى اللّهِ تُحْشَرُونَ‪ }1‬حتما‪ ،‬وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا‪،‬‬ ‫ولنعم ما تجزون به في جوارنا الكريم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة التشبه بالكفار ظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫‪ -2‬الندم يولد الحسران والحسرة غم وكرب عظيمان‪ ،‬والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر‬ ‫فل يأسى على ما فاته ول يفرح بما آتاه من حطام الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -3‬موتة في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها‪.‬‬ ‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَاسْ َت ْغفِرْ‬ ‫حوِْلكَ فَا ْ‬ ‫حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َلهُ ْم وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا غَلِيظَ ا ْلقَ ْلبِ ل ْن َفضّوا مِنْ َ‬ ‫{فَ ِبمَا َر ْ‬

‫حبّ ا ْلمُ َتوَكّلِينَ(‪ )159‬إِنْ يَ ْنصُ ْركُمُ‬ ‫لمْرِ فَإِذَا عَ َز ْمتَ فَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬ ‫َلهُ ْم وَشَاوِرْ ُهمْ فِي ا َ‬ ‫خذُ ْلكُمْ َفمَنْ ذَا الّذِي يَ ْنصُ ُركُمْ مِنْ َبعْ ِد ِه وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ(‪})160‬‬ ‫اللّهُ فَل غَاِلبَ َل ُك ْم وَإِنْ يَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{لِ ْنتَ َلهُمْ} ‪ :‬كنت رفيقا بهم‪ ،‬تعاملهم بالرفق واللطف‪.‬‬ ‫{ َفظّا} ‪ :‬خشنا في معاملتك شرسا في اختلفك وحاشاه ‪ 2‬صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{ل ْنفَضّوا} ‪ :‬تفرقوا وذهبوا تاركينك وشأنك‪.‬‬ ‫عفُ عَ ْنهُمْ} ‪ :‬يريد إن زلوا أو أساءوا‪.‬‬ ‫{فَا ْ‬ ‫لمْرِ} ‪ :‬اطلب مشورتهم في المر ذي الهمية؛ كمسائل الحرب والسلم‪.‬‬ ‫{وَشَاوِرْهُمْ فِي ا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فيه وعظ وعظهم ال به حيث أعلمهم أنهم سواء ماتوا حتف أنوفهم‪ ،‬أو قتلوا فإن رجوعهم إلى‬ ‫ال وسيجزيهم على قتالهم وموتهم في سبيل ال‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومن صفاته صلى ال عليه وسلم في التوراة كما في رواية البخاري أنه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫ليس بفظ ول غليظ ول صخاب في السواق‪ .‬والغليظ القلب‪ :‬من قلت شفقته وعزت رحمته‪ ،‬كما‬ ‫قال الشاعر‪:‬‬ ‫يبكى علينا ول نبكي على أحد ‪...‬‬ ‫لنحن أغلظ أكبادا من البل‬

‫( ‪)1/401‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الداب و النتائج المترتبة على غزوة أحد‪ ،‬ففي هذه الية(‪ )119‬يخبر تعالى‬ ‫ح َمةٍ مِنَ اللّهِ} أي‪:‬‬ ‫عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام المر فيقول‪{ :‬فَ ِبمَا ‪ 1‬رَ ْ‬ ‫فبرحمة من عندنا رحمناهم بها لنت ‪ 2‬لهم‪{ ،‬وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا} أي‪ :‬قاسيا جافا جافيا قاسي القلب‬ ‫حوِْلكَ} أي‪ :‬تفرقوا عنك‪ ،‬وحرموا بذلك سعادة الدارين‪ .‬وبناء على هذا‬ ‫غليظة {ل ْن َفضّوا مِنْ‪َ 3‬‬ ‫فاعف ‪ 4‬عن مسيئهم‪ ،‬واستغفر لمذنبهم‪ ،‬و شاور ذي الرأي منهم‪ ،‬وإذا بدا لك رأي راجح‬ ‫المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلً على ربك فإنه يحب المتوكلين‪ ،‬والتوكل‪ :‬القدام على فعل ما‬ ‫أمر ال تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار السباب الضرورية له‪ .‬وعدم التفكير فيما يترتب عليه‬ ‫بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى‪ ،‬أما الية الثانية(‪ )160‬فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها‬ ‫والعمل دائما بمقتضاها‪ ،‬وهي أن النصر بيد ال‪ ،‬والخذلن كذلك فل يطلب نصر إل منه تعالى‪،‬‬ ‫ول يرهب خذلن إل منه عز وجل‪ ،‬وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد السباب اللزمة له‪،‬‬

‫وتحاشي خذلنه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الية‪{ :‬إِنْ‬ ‫خذُ ْلكُمْ َفمَنْ ذَا الّذِي يَ ْنصُ ُركُمْ مِنْ َبعْ ِد ِه وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ‬ ‫يَ ْنصُ ْركُمُ اللّهُ فَل غَاِلبَ َلكُ ْم وَإِنْ يَ ْ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنُونَ}‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬كمال رسول ال صلى ال عليه وسلم الخلقي‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الصحابة رضوان ال عليهم وكرامتهم على ربهم سحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ المشورة بين ‪ 5‬الحاكم وأهل الحل والعقد في المة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الميم‪ :‬صلة‪ ،‬أي مزيدة لتوكيد الكلم وتقويته‪ ،‬نحو‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬فَبِما َن ْقضِهمْ ميِثَاقهمْ} ‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫عمّا قَلِيلٍ لَ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ} وجند ما هنالك‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫‪ 2‬وذلك لنه صلى ال عليه وسلم لم يعنف الذين تولوا يوم أحد بل رفق بهم‪ .‬فأخبر تعالى أن ذلك‬ ‫كان بتوفيق منه عز وجل لرسوله‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬يمنعهم الحياء والحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم‪ ،‬وهذا شأن‬ ‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا الترتيب مقصود فأولً‪ :‬يعفو عنهم لما كان بينه وبينهم‪ .‬وثانيا‪ :‬يتستغفر ال لهم لم كان بينهم‬ ‫وبين ربهم من تبعات‪ .‬وبعد هذا العداد يصبحون أهلً للمشورة فيشاورهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬الستشارة مأخوذة من شرت الدابة‪ ،‬إذا علمت خبرها كجري ونحوه‪ ،‬ويقال للموضع الذي‬ ‫تركض فيه المشوار‪ ،‬قال ابن عطية‪ :‬والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الحكام‪ .‬من ل‬ ‫يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب‪ .‬وقد قيل‪ :‬ما ندم من استشار ومن أعجب برأيه ضل‪.‬‬ ‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ما ندم من استشار ول خاب من استخار ول عال من‬ ‫اقتصد" ‪.‬‬

‫( ‪)1/402‬‬ ‫‪ -4‬فضل العزيمة ‪ 1‬الصادقة مقرونة بالتوكل على ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬طلب النصر من غير ال خذلن‪ ،‬والمنصور من نصره ال‪ ،‬والمخذول من خذله ال عز‬ ‫وجل‪.‬‬ ‫ت وَ ُه ْم ل‬ ‫غلّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ‬ ‫ل َومَنْ َيغُْللْ يَ ْأتِ ِبمَا َ‬ ‫{ َومَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َي ُغ ّ‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ(‪)162‬‬ ‫خطٍ مِنَ اللّ ِه َومَأْوَاهُ َ‬ ‫ضوَانَ اللّهِ َكمَنْ بَاءَ بِسَ َ‬ ‫يُظَْلمُونَ(‪َ )161‬أ َفمَنِ اتّ َبعَ ِر ْ‬ ‫هُمْ دَرَجَاتٌ عِ ْندَ اللّهِ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ(‪َ )163‬لقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِإذْ َب َعثَ فِيهِمْ رَسُولً‬

‫ح ْكمَ َة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َلفِي ضَللٍ مُبِينٍ(‬ ‫ب وَالْ ِ‬ ‫سهِمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِ ِه وَيُ َزكّيهِ ْم وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ‬ ‫مِنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫‪})164‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أَنْ َي ُغلّ} ‪ :‬أي‪ :‬يأخذ من الغنيمة خفية‪ ،‬إذ الغل والغلول بمعنى السرقة من الغنائم قبل قسمتها‪.‬‬ ‫{ ُت َوفّى} ‪ :‬تجزى ما كسبته في الدنيا وافيا تاما يوم القيامة‪.‬‬ ‫ضوَانَ اللّهِ} ‪ :‬المراد به ما يوجب رضوانه من اليمان والصدق والجهاد‪.‬‬ ‫{ ِر ْ‬ ‫وسخط ال ‪ :‬غضبه الشديد على الفاسقين عن أمره المؤذين لرسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من الحزم المشورة‪ ،‬والحزم‪ :‬جودة النظر في المر وتنقيحه‪ ،‬والحذر من الخطأ فيه والعزم‬ ‫قصد المضاء فيما حزم فيه ومن مظاهر الحزم والعزم للرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه استشار‬ ‫أصحابه في الخروج إلى قتال المشركين خارج المدينة أو البقاء فيها‪ .‬والقتال داخلها‪ .‬ورأى عدم‬ ‫الخروج أصلح‪ ،‬ورأى أكثر الصحاب الخروج فوافقهم فدخل بيته فلبس آلت حربه وخرج فلما‬ ‫رأوا كذلك تراجعوا واعتذروا ولكنه أبى أن يتراجع‪ ،‬فتلجى حزمه وعزمه‪ ،‬وقال‪" :‬ل ينبغي لنبي‬ ‫لبس لمته أن يضعها حتى يحكم ال بينه وبين أعدائه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/403‬‬ ‫{مَنّ} ‪ :‬أنعم وتفضل‪.‬‬ ‫سهِمْ} ‪ :‬هو محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{رَسُولً مِنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫{وَيُ َزكّيهِمْ} ‪ :‬بما يرشدهم إليه من العمال الصالحة والخلق الفاضلة والداب العالية‪.‬‬ ‫ح ْكمَةَ} ‪ :‬كل قول صالح نافع أبدا ومنه السنة النبوية‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫{وَالْ ِ‬ ‫الغل والغلول ‪ 1‬والغلل بمعنى واحد‪ ،‬وهو أخذ المرء شيئا من الغنائم قبل قسمتها وما دام‬ ‫السياق في غزوة أحد‪ ،‬فالمناسبة قائمة بين اليات وهذه‪ ،‬ففي الية الولى (‪ )161‬ينفي تعالي أن‬ ‫يكون من شأن النبياء أو مما يتأتى صدوره عنهم الغلل وضمن تلك أن أتباع النبياء يحرم‬ ‫عليهم أن يغلوا‪ ،‬ولذا قرئ في السبع أن يُغل بضم ‪ 2‬الياء وفتح الغين‪ ،‬أي‪ :‬يفعله أتباعه بأخذهم‬ ‫من الغنائم بدون إذنه‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَنْ َي ُغلّ} ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة‬ ‫غلّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا َكسَ َبتْ وَ ُهمْ ل يُظَْلمُونَ}‬ ‫من يفعل وقال‪َ { :‬ومَنْ َيغُْللْ يَ ْأتِ ِبمَا َ‬ ‫فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئا يأت به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما يبين ذلك في‬ ‫الحديث ‪ ،3‬ثم يحاسب عليه كغيره ويجزي به‪ ،‬كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ول‬ ‫تظلم نفس شيئا لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله‪ .‬هذا مضمون الية الولى‪ ،‬أما الثانية (‪)162‬‬ ‫ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان ال تعالى باليمان به ورسوله وطاعتهما بفعل المر‬

‫واجتناب النهي‪ ،‬كحال المتبع لسخط ال تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك‬ ‫الواجبات وفعل المحرمات فكانت جهنم مأواه‪ ،‬وبئس المصير جهنم‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪َ{ :‬أ َفمَنِ‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ} ثم ذكر تعالى أن كلً من‬ ‫سخَطٍ مِنَ اللّ ِه َومَ ْأوَاهُ َ‬ ‫ضوَانَ اللّهِ َكمَنْ بَاءَ بِ َ‬ ‫اتّبَعَ ِر ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سمي الغلول‪ :‬غلولً‪ ،‬لن اليدي فيها مغلولة‪ ،‬أي‪ :‬ممنوعة‪ ،‬كأن فيها غلً‪ ،‬وهو الحديدة التي‬ ‫تجمع يد السير إلى عنقه‪.‬‬ ‫‪ 2‬فتح الياء قراءة حفص‪ ،‬وهي رد على من تصور أن النبي في إمكانه أن يأخذ شيئا من الغنيمة‬ ‫قبل قسمتها فأخبر تعالى أنه من غير الممكن أن يغل النبي لعصمة ال تعالى لنبياءه‪ ،‬وقراءة‬ ‫الضم قراءة نافع‪ ،‬وهي‪ :‬تحرم على اتباع النبي الغلول بصيغة بليغة‪ ،‬إذ تجعل غلولهم من قبيل‬ ‫المعتذر الذي ل يحدث‪.‬‬ ‫‪ 3‬في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال‪ :‬قام فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم فذكر‬ ‫الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال‪" :‬ل ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء‬ ‫يقول يا رسول ال أعنى‪ ،‬فأقول ل أملك لك شيئا قد أبغلتك‪ ،‬ثم ذكر الفرس والشاة والنفس‬ ‫والرقاع" ‪ .‬والرقاع‪ :‬جمع رقعة وهي ما يكتب عليها‪.‬‬

‫( ‪)1/404‬‬ ‫أهل الرضوان‪ ،‬وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم ‪ 1‬عند ال‪ ,‬بحسب أثر أعمالهم في‬ ‫نفوسهم قوة وضعفا فقال‪{ :‬هُمْ دَ َرجَاتٌ عِ ْندَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ} ‪ ،‬فدل ذلك على عدالة‬ ‫العليم الحكيم‪ .‬هذا ما دلت الية(‪ ،)163‬أما الية الخيرة(‪ )164‬فقد تضمنت امتنان ال تعالى على‬ ‫المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم‪ ،‬يتلو عليهم آيات ال ويدعوهم إليه فيؤمنون ويكملون في‬ ‫إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به‪ ،‬ويدعوهم إليه من اليمان وصالح‬ ‫العمال وفاضل الخلق وسامي الداب‪ ،‬ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة‬ ‫التي هي فهم أسرار الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬وتتجلي هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم‬ ‫قبل هذه النعمة العظيمة عليهم‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى في الية الخيرة‪َ{ :‬لقَدْ مَنّ‪ 2‬اللّهُ عَلَى‬ ‫ح ْكمَ َة وَإِنْ‬ ‫سهِمْ‪ 3‬يَتْلُو عَلَ ْي ِهمْ آيَا ِت ِه وَيُ َزكّيهِمْ وَ ُيعَّلمُهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِإذْ َب َعثَ فِيهِمْ رَسُولً مِنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫كَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َلفِي ضَللٍ مُبِينٍ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تحريم ‪ 4‬الغلول‪ ،‬وأنه من كبائر الذنوب ‪.5‬‬ ‫‪ -2‬طلب رضوان ال واجب‪ ،‬وتجنب سخطه واجب كذلك‪ ،‬والول يكون باليمان وصالح‬

‫العمال والثاني يكون بترك الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -3‬السلم أكبر نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل العلم بالكتاب والسنة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المشهور‪ :‬أن أهل النار في دركات متوافتة كما أن أهل الجنة في درجات متوافتة‪ ،‬فالدرجة‪ :‬ما‬ ‫أريد بها الرتفاع‪ ،‬والدركة‪ :‬ما أريد بها السفول والهبوط‪.‬‬ ‫‪ 2‬من هنا‪ :‬بمعنى أسدى النعمة للمؤمنين‪ ،‬ببعثة الرسول فيهم‪ ،‬وليس هو من المن المذموم الذي‬ ‫هو تعداد النعمة إلى أن ال تعالى له أن يمن وهو أمن من كل من‪ ،‬من وأعطى‪.‬‬ ‫‪ 3‬قالت أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها‪ :‬هذه للعرب خاصة‪ :‬إذ فهمت من كلمة‪{ :‬مِنْ أَنْفسهم}‬ ‫إنها تعنى من جنسهم العربي‪ ،‬وبعضهم يرى العموم فيها لكل مؤمن ومؤمنة وهو كذلك‪ ،‬إذ هو‬ ‫بشر مثلهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬شاهده قوله صلى ال عليه وسلم في الذي غل الشملة يوم خييبر‪" :‬والذي نفسي بيده إن الشملة‬ ‫التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليها نارا" ‪ .‬ولما سمع هذا الوعيد أحد‬ ‫الصحاب جاء بشراك أو شراكين إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬شراك أو شراكين من نار" رواه مالك في الموطأ‪.‬‬ ‫‪ 5‬الجماع على أن الغال ل تقطع يده ولكن يعذر‪ ،‬والغلول ل يكون إل في الغنائم وسمى الرسول‬ ‫ل ويفضحون بها يوم القيامة‪ ،‬لحديث مسلم في قصة ابن‬ ‫صلى ال عليه وسلم هدايا العمال غلو ً‬ ‫اللتبية‪.‬‬

‫( ‪)1/405‬‬ ‫شيْءٍ‬ ‫سكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫{َأوََلمّا َأصَابَ ْتكُمْ ُمصِيبَةٌ َقدْ َأصَبْتُمْ مِثْلَ ْيهَا قُلْ ُتمْ أَنّى هَذَا ُقلْ ُهوَ مِنْ عِ ْندِ أَ ْنفُ ِ‬ ‫ج ْمعَانِ فَبِِإذْنِ اللّهِ وَلِ َيعْلَمَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ )166‬وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ نَا َفقُوا‬ ‫قَدِيرٌ(‪َ )165‬ومَا َأصَا َبكُمْ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ‬ ‫َوقِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ َأوِ ا ْد َفعُوا قَالُوا َلوْ َنعْلَمُ قِتَالً لَاتّ َبعْنَاكُمْ هُمْ لِ ْل ُكفْرِ َي ْومَئِذٍ َأقْ َربُ‬ ‫مِ ْنهُمْ لِلِيمَانِ َيقُولُونَ بَِأ ْفوَا ِههِمْ مَا لَ ْيسَ فِي قُلُو ِبهِمْ وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا َيكْ ُتمُونَ(‪ )167‬الّذِينَ قَالُوا‬ ‫سكُمُ ا ْل َموْتَ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ(‪})168‬‬ ‫خوَا ِنهِ ْم َو َقعَدُوا َلوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ُقلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَ ْنفُ ِ‬ ‫لِ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المصيبة ‪ :‬إحدى المصائب‪ :‬ما يصيب النسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت‪.‬‬ ‫{مِثْلَ ْيهَا} ‪ :‬ضعفيها إذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا ‪ 1‬سبعين‪.‬‬ ‫{أَنّى َهذَا} ‪ :‬أي‪ :‬من أين أتانا الذي أتانا من القتل والهزيمة‪.‬‬ ‫{فَبِإِذْنِ اللّهِ} ‪ :‬أي‪ :‬بإرادته تعالى وتقديره يربط المسببات بأسبابها‪.‬‬

‫{نَا َفقُوا} ‪ :‬أظهروا من اليمان مال يبطنون من الكفر‪.‬‬ ‫{َأوِ ا ْد َفعُوا} ‪ :‬أي‪ :‬ادفعوا العدو عن دياركم وأهليكم وأولدكم‪ ،‬إن لم تريدوا ثواب الخرة‪.‬‬ ‫{فَادْ َرأُوا} ‪ :‬أي‪ :‬ادفعوا‬ ‫{إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ} ‪ :‬في دفع المكروه بالحذر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اعتبر السير قتيلً؛ لن السر له يملك قتله متى شاء‪ ،‬فلذا قال تعالى‪َ { :‬قدْ َأصَبْتُمْ مِثْلَ ْيهَا} ‪.‬‬

‫( ‪)1/406‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في أحدث غزوة أحد ففي الية الولى‪ :‬ينكر ال تعالى على المؤمنين قولهم‬ ‫بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة‪{ :‬أَنّى ‪ 1‬هَذَا} أي‪ :‬من أي وجه جاءت هذه‬ ‫المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل ال ومع رسوله؟ فقال تعالى‪َ{ :‬أوََلمّا ‪َ 2‬أصَابَ ْتكُمْ ُمصِيبَةٌ}‬ ‫بأحد قد أصبتم مثليها ببدر‪ ،‬لن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين‪ ،‬وما قتل المشركين ببدر‬ ‫كان سبعين قتيلً وسبعين أسيرا‪ ،‬وأمر رسوله صلى ال عليه و سلم أن يحييهم‪ :‬قل هو من عند‬ ‫أنفسكم‪ ،‬وذلك بمعصيتكم لرسول ال خالف الرماة أمره‪ ،‬وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ} إشعار بأن ال تعالى أصابهم بما أصابهم به‬ ‫تاركين القتال‪ .‬وقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى(‬ ‫ج ْمعَانِ فَبِإِذْنِ اللّ ِه وَلِ َيعْلَمَ‬ ‫‪ ،)165‬أما اليات الثلث بعدها فقوله تعالى‪َ { :‬ومَا َأصَا َبكُمْ َيوْمَ الْ َتقَى الْ َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين‬ ‫في ساحة المعركة كان بقضاء ال وتدبيره‪ ،‬وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة‬ ‫وأنهم صادقون في إيمانهم‪ ،‬ولذا قال تعالى‪ :‬وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم‬ ‫له في الغيب وباطن المور هذا أولً‪ ،‬وثانيا‪ :‬ليعلم الذين نافقوا فأظهروا اليمان والولء ل‬ ‫ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء ل ورسوله والمؤمنين‪ ،‬فقال عنهم في اليتين الثالثة(‬ ‫‪ )167‬والرابعة(‪{ )168‬وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ نَا َفقُوا} وهم عبد ال إبي بن سلول رئيس المنافقين وعصابته‬ ‫الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة‪ ،‬وقد قال عبد ال بن حرام والد جابر‬ ‫تعالوا قاتلوا في سبيل ال رجاء ثواب الخرة‪ ،‬وإن لم تريدوا ثواب الخرة فادفعوا عن أنفسكم‬ ‫وأهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم‪.‬‬ ‫فأجابوا قائلين‪ :‬لو نعلم قتالً سيتم لتبعناكم‪ ،‬فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال‪ُ { :‬همْ لِ ْل ُكفْرِ‬ ‫َي ْومَئِذٍ َأقْ َربُ مِ ْنهُمْ لِلِيمَانِ} إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‪{ ،‬وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا َيكْ ُتمُونَ} حتى‬ ‫من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة ال ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين‪ ،‬وأن قلوبهم‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬أنى‪ :‬هذه جملة اسمية‪ ،‬فإني بمعنى أي وهو الخبر مقدم‪ ،‬وهذا مبتدأ مؤخر‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام هنا للنكار والتعجب لن قولهم‪{ :‬أَنْى هَذا} مما ينكر ويتعجب منه‪ ،‬وذلك أن سبب‬ ‫المصيبة غير خاف ول غامض فهو ظاهر مكشوف وهو عصيانهم للقيادة بمخالفة أمرهم‪ ،‬ولما‪:‬‬ ‫اسم زمان مضمن معنى الشرط‪ ،‬و قلتم‪ :‬هو الجزاء‪.‬‬

‫( ‪)1/407‬‬ ‫مع الكافرين الغازين‪ .‬ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد وقالوا لخوانهم في‬ ‫النفاق –وهم في مجالسهم الخاصة‪ :-‬لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا‪ .‬فأمر‬ ‫ال تعالى رسوله أن يرد عليهم قائلً‪{ :‬فَادْرَأُوا} أي‪ :‬ادفعوا ‪ 1‬عن أنفسكم الموت إذا حضر أجلكم‬ ‫إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬المصائب ‪ 2‬ثمرة الذنوب‪.‬‬ ‫‪ -2‬كل الحداث التي تتم في العالم سبق بها علم ال‪ ،‬ول تحدث إل بإذنه‪.‬‬ ‫‪ -3‬قد يقول المرء قولً أو يظن ظنا يصبح به على حافة هاوية الكفر‪.‬‬ ‫‪ -4‬الحذر ل يدفع ‪ 3‬القدر‪.‬‬ ‫{وَل تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتا َبلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَ ّبهِمْ يُرْ َزقُونَ(‪ )169‬فَرِحِينَ ِبمَا آتَاهُمُ‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ (‬ ‫حقُوا ِبهِمْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ أَل َ‬ ‫اللّهُ مِنْ َفضِْل ِه وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَ ْل َ‬ ‫ل وَأَنّ اللّهَ ل ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪})171‬‬ ‫‪َ )170‬يسْتَبْشِرُونَ بِ ِن ْعمَةٍ مِنَ اللّ ِه َو َفضْ ٍ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَل تَحْسَبَنّ} ‪ :‬ول تظنن‪.‬‬ ‫{قُتِلُوا} ‪ :‬استشهدوا‪.‬‬ ‫{َأحْيَاءٌ} ‪ :‬يحسون ويتنعمون في نعيم الجنة بالطعام والشراب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا رد على ابن أبي كبير المنافقين‪ ،‬وسيدهم الذي قال‪ :‬لو أطاعونا ما قتلوا‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال تعالى من سورة الشورى‪َ { :‬ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِيكُمْ} أي‪ :‬من الذنوب‬ ‫والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ 3‬ومع أنه ل يدفع القدر فإن استعماله واجب لقوله تعالى‪{ :‬خُذوا حِذْرَكم} ‪.‬‬

‫( ‪)1/408‬‬

‫{فَ ِرحِينَ} ‪ :‬مسرورين‪.‬‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ} ‪ :‬لما وجدوا من المن التام عند ربهم‪.‬‬ ‫{أَل َ‬ ‫{وَل هُمْ َيحْزَنُونَ} ‪ :‬على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لما نالهم من كرامة في الجنة‪.‬‬ ‫{يَسْتَ ْبشِرُونَ} ‪ :‬يفرحون‪.‬‬ ‫ضلٍ} ‪ :‬وزيادة ‪.‬‬ ‫{ َو َف ْ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫حسَبَنّ‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد فقال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪{ :‬وَل تَ ْ‬ ‫‪ }1‬أي‪ :‬ل تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتا ل يحسون ول يتنعمون‬ ‫بطيب الرزق ولذيذ العيش بل هم أحياء عند ربهم يرزقون أرواحهم في حواصل طير خضر‬ ‫يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش‪ .‬إنهم فرحون بما أكرمهم ‪ 2‬ال تعالى به‪،‬‬ ‫ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على اليمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم‬ ‫يخافوا ولم يحزنوا لجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة ال تعالى لهم فيها‪ .‬إن الشهداء‬ ‫جميعا مستبشرون فرحون بما ينعم ‪ 3‬ال عليهم ويزيدهم وبأنه تعالى ل يضيع أجر المؤمنين‬ ‫شهداء وغير شهداء بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الشهداء أحياء والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل‪.‬‬ ‫‪ -2‬الشهداء ‪ 4‬يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على اليمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم نالهم‬ ‫من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أبي داود بسند صحيح عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬لما‬ ‫أصيب إخوانكم بأحد جعل ال أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها‬ ‫وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش‪ ،‬فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم‬ ‫قالوا‪ :‬من يبلغ إخواننا عنا‪ ،‬إنا أحياء في الجنة نرزق لئل يزهدوا في الجهاد ول ينقلوا عند‬ ‫الحرب‪ ،‬فقال ال سبحانه‪ :‬أنا أبلغهم عنكم‪ ،‬فأنزل ال ‪{ :‬ول تحسبن} "‪ .‬الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬مما ورد في فضل الشهيد‪ :‬أن ال تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إل الدين‪ ،‬لقوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬القتيل في سبيل ال يكفر كل شيء إل الدين‪ ،‬كذلك قال لي جبريل عليه السلم آنفا" ‪ .‬قال‬ ‫العلماء‪ :‬الدين يشمل كل الحقوق المتعلقة بالذمة‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى الترمذي وصححه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬للشهيد عند ال ست خصال‪ .‬يغفر‬ ‫له في دفعه‪ ،‬ويرى مقعده من الجنة‪ ،‬ويجار من عذاب القبر‪ ،‬ويأمن من الفرع الكبر‪ ،‬ويوضع‬

‫على رأسه تاج الوقار‪ ،‬الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها‪ ،‬ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من‬ ‫الحور العين‪ ،‬ويشفع في سبعين من أقاربه" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين‪ :‬أنه ل يغسل ول يصلى عليه لحديث‬ ‫البخاري‪" :‬وادفنوهم بدمائهم" يعنى شهداء أحد ول يغسلهم‪ ,‬والعلة في عدم غسلهم‪ :‬أن دمائهم يوم‬ ‫القيامة كريح المسك‪.‬‬

‫( ‪)1/409‬‬ ‫‪ -3‬ل خوف ينال المؤمن الصالح إذا مات ول حزن يصيبه‪.‬‬ ‫عظِيمٌ(‬ ‫{الّذِينَ اسْ َتجَابُوا لِلّ ِه وَالرّسُولِ مِنْ َبعْدِ مَا َأصَا َبهُمُ ا ْلقَرْحُ لِلّذِينَ َأحْسَنُوا مِ ْنهُ ْم وَا ّت َقوْا أَجْرٌ َ‬ ‫حسْبُنَا اللّهُ وَ ِنعْمَ‬ ‫شوْ ُهمْ فَزَا َدهُمْ إِيمَانا َوقَالُوا َ‬ ‫ج َمعُوا َلكُمْ فَاخْ َ‬ ‫‪ )172‬الّذِينَ قَالَ َلهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ‬ ‫ضلٍ‬ ‫ضوَانَ اللّ ِه وَاللّهُ ذُو َف ْ‬ ‫سهُمْ سُو ٌء وَاتّ َبعُوا ِر ْ‬ ‫ضلٍ لَمْ َي ْمسَ ْ‬ ‫ا ْل َوكِيلُ(‪ )173‬فَا ْنقَلَبُوا بِ ِن ْعمَةٍ مِنَ اللّهِ َوفَ ْ‬ ‫خ ّوفُ َأوْلِيَا َءهُ فَل تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪})175‬‬ ‫عَظِيمٍ(‪ )174‬إِ ّنمَا ذَِلكُمُ الشّيْطَانُ ُي َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{اسْتَجَابُوا ‪ : }1‬اجابوا الدعوة وقبلوا المر‪.‬‬ ‫{ا ْلقَرْحُ‪ : }2‬ألم الجراحات‪.‬‬ ‫{َأحْسَنُوا} ‪ :‬أعمالهم وأقوالهم أتوا بها وفق الشرع وأحسنوا إلى غيرهم‪.‬‬ ‫{وَا ّت َقوْا} ‪ :‬ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه فيما أمرهم به أو نهاهم عنه‪.‬‬ ‫ج َمعُوا َل ُكمْ} ‪ :‬جمعوا الجيوش لقتالكم‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{حَسْبُنَا اللّهُ} ‪ :‬يكفينا ال ما أرادونا به من الذى‪.‬‬ ‫{وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ} ‪ :‬نعم الوكيل ال نوكل إليه أمورنا ونفوضها إليه‪.‬‬ ‫انقلبوا ‪ :‬رجعوا من حمراء السد إلى المدينة‪.‬‬ ‫أولياء الشيطان ‪ :‬أهل طاعته والستجابة إليه فيما يدعوهم إليه من الشر والفساد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬أن هذه الية‪{ :‬الذينَ اسْتَجابوُا} إلخ‪ .‬نزلت في رجلين من بني الشهل كانا مثخنين‬ ‫بالجراح وخرجا إلى حمراء السد مع رسول ال صلى ال عليه وسلم يتوكأ أحدهما على صاحبه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج أصحاب الصحاح عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي ال عنها قال له‪:‬‬ ‫كان أبواك من الذين استجابوا ل وللرسول من بعد ما أصابهم القرح‪ .‬وتعني بأبويه‪ :‬الزبير وأبا‬ ‫بكر الصديق رضي ال عنهما‪.‬‬

‫( ‪)1/410‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث غزوة أحد وما لبسها من أمور وأحوال واليات الربع كلها في‬ ‫المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الحد وعلى‬ ‫رأسهم نبيهم محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم رأى أن يرفع‬ ‫معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت بأحد‪ ،‬وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذنا يؤذن‬ ‫بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه‪ ،‬فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم والمجروح‪،‬‬ ‫وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره فإذا تعب و ضعه فمشى قليلً‪ ،‬ثم حمله‬ ‫حتى انتهى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه إلى حمراء السد‪ ،‬وألقى ال تعالى الرعب‬ ‫في قلب أبي سفيان فارتحل هاربا إلى مكة‪ ،‬وقد حدث هنا أن معبدا الخزاعي ‪ 1‬مر بمعسكر أبي‬ ‫سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم‪،‬‬ ‫أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفا من رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬فأقام‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم بحمراء السد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت‬ ‫هذه اليات الربع وهذا نصها‪:‬‬ ‫الية(‪{ )172‬الّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّ ِه وَالرّسُولِ مِنْ َبعْدِ مَا َأصَا َبهُمُ ا ْلقَرْحُ} يريد في أحد واستجابوا‪ :‬لبوا‬ ‫نداء الرسول صلى ال عليه وسلم وخرجوا معه في ملحقة أبي سفيان‪{ ،‬لِلّذِينَ َأحْسَنُوا مِ ْنهُ ْم وَا ّت َقوْا‬ ‫عظِيمٌ} ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم‪ ،‬إل وهو الجنة الية الثانية(‪{ )173‬الّذِينَ قَالَ َل ُهمُ‬ ‫أَجْرٌ َ‬ ‫شوْ ُهمْ} ‪ .‬المراد من الناس القائلين هم‪ :‬نفر من عبد القيس‬ ‫ج َمعُوا َلكُمْ فَاخْ َ‬ ‫النّاسُ إِنّ النّاسَ‪َ 2‬قدْ َ‬ ‫مروا بأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو‬ ‫سفيان أخبر محمدا وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم وإني جامع‬ ‫جيوشي وقادم عليهم‪ ،‬والمراد من الناس الذين جمعوا هم‪ :‬أبو سفيان‪ ،‬فلما بلغ هذا الخبر الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم وأصحابه زادهم ‪ 3‬إيمانا فوق إيمانهم بنصر ال تعالى ووليته لهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫حسبنا ال‪ ،‬أي‪ :‬يكفينا ال شرهم‪ ،‬ونعم الوكيل الذي يكفينا ما أهمنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لن خزاعة كانت حلفاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعيبت نصحه‪ ،‬أي‪ :‬موضع سره‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى البخاري عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى‪{ :‬الذيِنَ قَاَل َلهْم النَاس} إلى‪{ :‬وَ ِن ْعمَ‬ ‫الوَكيِل} قالها إبراهيم الخليل عليه السلم حين ألقي في النار‪ ،‬وقالها محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫ج َمعُوا َلكُمْ} ‪.‬‬ ‫حين قال لهم الناس‪{ :‬إِنّ النّاسَ َقدْ َ‬ ‫ج َمعُوا َلكُمْ} وهل اليمان يزيد وينقص‪:‬‬ ‫‪ 3‬الذي زادهم إيمانا‪ :‬هو قول الناس‪{ :‬إِنّ النّاسَ َقدْ َ‬ ‫الخلف قديم في هذه القضية‪ ،‬والقول الذي تشهد له نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬هو‪ :‬أن اليمان‬ ‫يقوى ويضعف‪ ،‬فإذا قوي زاد عمل المؤمن في الطاعات بفعل الحسنات وترك السيئات‪ ،‬وإذا‬

‫ضعف قل عمله الصالح وزاد عمله الطالح‪ ،‬فيستدل على اليمان قوة وضعفا بمتعلقه وهو الطاعة‬ ‫والمعصية‪.‬‬

‫( ‪)1/411‬‬ ‫ونفوض أمرنا إلى ال‪ .‬الية الثالثة(‪{ )174‬فَا ْنقَلَبُوا} أي‪ :‬رجعوا من حمراء السد؛ لن أبا سفيان‬ ‫ألقى ال الرعب في قلبه فانهزم وهرب‪ ،‬رجعوا مع نبيهم سالمين في نعمة اليمان والسلم‬ ‫سهُمْ سُوءٌ} أي‪ :‬أذى‪{ ،‬وَاتّ َبعُوا‬ ‫ضلٍ} حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم {لَمْ َي ْمسَ ْ‬ ‫والنصر‪َ { ،‬و َف ْ‬ ‫ضوَانَ اللّهِ} بالستجابة لما دعاهم ال ورسوله وهو الخروج في سبيل ال لملحقة أبي سفيان‬ ‫ِر ْ‬ ‫ضلٍ عَظِيمٍ} وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل عليه الية‬ ‫وجيشه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَاللّهُ ذُو َف ْ‬ ‫خ ّوفُ َأوْلِيَا َءهُ‪ 1‬فَل تَخَافُو ُه ْم وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ} ‪ ،‬وذلك‬ ‫الرابعة(‪{ )175‬إِ ّنمَا ذَِلكُمُ الشّيْطَانُ ُي َ‬ ‫أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من زبيب إن هو خوف المؤمنين منه فبعثه كأنه‬ ‫"طابور" يخذل له المؤمنين إل أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة‪َ { ،‬وقَالُوا حَسْبُنَا اللّ ُه وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ} ‪،‬‬ ‫فنزلت الية‪{ :‬إِ ّنمَا ذَِلكُمُ الشّيْطَانُ} الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من‬ ‫أوليائه أبي سفيان وجمعه‪ ،‬فل تخافوهم فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه ‪ 2‬تعالى‪ ،‬فل‬ ‫يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا لنهم المؤمنون بحق رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل الحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل أصحاب رسول ال على غيرهم‪ ،‬وكرامتهم على ربهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل كلمة‪{ :‬حَسْبُنَا اللّ ُه وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ‪ ، }3‬قالها رسول ال وقالها إبراهيم من قبل فصلى ال‬ ‫عليهما وسلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أن الشيطان يخوف ‪ 4‬المؤمنين من أوليائه‪ ،‬فعلى المؤمنين أن ل يخافوا غير ربهم تعالى‬ ‫في الحياة‪ ،‬فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه‪ ،‬وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬معنى يخوف أولياءه‪ :‬أنه يخوف المؤمنين بأولياءه‪ ،‬وهم المشركون‪ ،‬وذلك على لسان نعيم ابن‬ ‫مسعود الذي أجره أبو سفيان ليخوف المؤمنين بعزم أبي سفيان على الكر عليهم لستئصالهم‬ ‫وإبادتهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخوف من ال تعالى أمر ال به‪ ،‬وهو واجب على كل مؤمن‪ ،‬وحقيقته‪ :‬أن يترك العبد ما‬ ‫يخاف أن يعذب عليه‪ ،‬وقيل‪ :‬الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه‪ ،‬وإنما من يترك ما يخاف أن يعذب‬ ‫به‪.‬‬

‫‪ 3‬الوكيل‪ :‬فعيل‪ ،‬بمعنى‪ :‬مفعول‪ ،‬أي‪ :‬الموكول إليه المر‪.‬‬ ‫‪ 4‬الشيطان‪ :‬يكون من الجن ومن النس‪ ،‬فإن كان من الجن فتخويفه يكون بواسطة الواسوس‪،‬‬ ‫وإن كان من شياطين النس فتخويفه يكون بالكلم الشفوي الذي ظاهره النصح‪ ،‬وباطنه الخداع‬ ‫والغش‪.‬‬

‫( ‪)1/412‬‬ ‫حظّا فِي‬ ‫ج َعلَ َل ُهمْ َ‬ ‫{وَل يَحْزُ ْنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ إِ ّن ُهمْ لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئا يُرِيدُ اللّهُ أَل َي ْ‬ ‫عظِيمٌ(‪ )176‬إِنّ الّذِينَ اشْتَ َروُا ا ْل ُكفْرَ بِالِيمَانِ لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئا وََلهُمْ عَذَابٌ‬ ‫عذَابٌ َ‬ ‫الخِ َر ِة وََلهُمْ َ‬ ‫سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ لِيَ ْزدَادُوا إِثْما وََلهُمْ‬ ‫أَلِيمٌ(‪ )177‬وَل َيحْسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ خَيْ ٌر لَ ْنفُ ِ‬ ‫عَذَابٌ ُمهِينٌ(‪})178‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الحزن ‪ :‬غم يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه‪.‬‬ ‫{ا ْل ُكفْرِ} ‪ :‬الكفر‪ :‬تكذيب ال تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر به‪.‬‬ ‫{يُسَارِعُونَ} ‪ :‬يبادرون‪.‬‬ ‫{حَظّا} ‪ :‬نصيبا‪.‬‬ ‫{اشْتَ َروُا ا ْلكُفْرَ} ‪ :‬اعتاضوا الكفر عن اليمان‪.‬‬ ‫{ ُنمْلِي َلهُمْ} ‪ :‬الملء‪ :‬المهال والرخاء بعدم البطش وترك الضرب على أيديهم بكفرهم‪.‬‬ ‫{إِ ّثمَا} ‪ :‬الثم‪ :‬كل ضار قبيح ورأسه‪ :‬الكفر والشرك‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث غزوة أحد‪ ،‬ففي هذه اليات الثلث –وقد كشفت الحداث عن أمور‬ ‫خطيرة‪ ،‬حيث ظهر النفاق مكشوفا ل ستار عليه‪ ،‬وحصل من ذلك ألم شديد لرسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم والمؤمنين‪ -‬يخاطب ال تعالى رسوله قائلً له‪ :‬ل يحزنك ‪ 1‬مسارعة هؤلء المنافقين ‪2‬‬ ‫في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ نافع‪ :‬يحزنك‪ ،‬بضم الياء وكسر الزاي‪ ،‬من أحزن يحزن في كل القرآن إل قوله تعالى‪{ :‬ل‬ ‫لكْبَرُ} ‪ ،‬وقرأ الجمهور {يحزنك} بفتح الياء وضم الزاي‪.‬‬ ‫عاَ‬ ‫يَحْزُ ُنهُمُ ا ْلفَزَ ُ‬ ‫‪ 2‬قيل في هؤلء المسارعين في الكفر‪ :‬إنهم المنافقون‪ ،‬وقيل‪ :‬هم كفار قريش‪ ،‬وقيل‪ :‬هم اليهود‪،‬‬ ‫واللفظ يشمل على ذلك‪ ،‬إذ الفئات الثلث كلها كانت تسارع في الكفر بنصرته والعمل فيه وبه‪.‬‬

‫( ‪)1/413‬‬

‫الكفر‪ ،‬وقال في الكفر ولم يقل إلى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه؛ لن إسلمهم كان نفاقا‬ ‫فقط‪{ ،‬إِ ّنهُمْ لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئا} ‪ ،‬وال يريد أن ل يجعل لهم نصيبا من نعيم الخرة‪ .‬فلذا تركهم‬ ‫عظِيمٌ} ‪.‬‬ ‫في كفرهم كلما خرجوا منه عادوا إليه‪ ،‬وحكم عليهم بالعذاب العظيم فقال‪{ :‬وََل ُهمْ عَذَابٌ َ‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ .)176‬أما الية الثانية (‪ )177‬فقد تضمنت حكم ال تعالى على الذين‬ ‫يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون اليمان بالكفر‪ ،‬ويشترون الضللة بالهدى حكم عليهم بأنهم لن‬ ‫يضروا ‪ 1‬ال شيئا من الضرر‪ ،‬ولهم عذاب أليم فقال تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ اشْتَ َروُا ا ْل ُكفْرَ بِالِيمَانِ لَنْ‬ ‫َيضُرّوا اللّهَ شَيْئا‪ 2‬وََلهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ} والعذاب الليم هو عذاب النار إذ ل آلم ول أشد إيجاعا منه‪.‬‬ ‫وأما الية الثالثة(‪ )178‬فقد تضمنت بطلن حسبان الكافرين أن ال تعالى عندما يمهلهم ويمد في‬ ‫أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خيرٌ لهم‪ ،‬ل‪ ،‬بل هو شر لهم‪ ،‬إذ كلما تأخروا يوما اكتسبوا‬ ‫فيه إثما فيقدر ما تطول حياتهم بعظم ذنبهم وتكثر آثامهم‪ ،‬وحيئنذ يوبقون ويهلكون هلكا ل نظير‬ ‫سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َل ُهمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما‬ ‫له قال تعالى‪{ :‬وَل َيحْسَبَنّ‪ 3‬الّذِينَ كَفَرُوا أَ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ خَيْ ٌر لَنْفُ ِ‬ ‫وََلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ} أي‪ :‬ذو إهانة‪ ،‬لنهم كانوا ذوي كبر وعلو في الرض وفساد‪ ،‬فلذا ناسب أن‬ ‫يكون عذابهم اهانات لهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ول فسق فاسق‪ ،‬لن ذلك ل يضر ال تعالى شيئا‪،‬‬ ‫وسيجزي ال الكافر والفاسق بعدله‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل ينبغي للعبد أن يغره إمهال ال له‪ ،‬وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك إهمال‬ ‫وإنما هو إمهال‪.‬‬ ‫‪ -3‬الموت للعبد ‪ 4‬خير من الحياة؛ لنه إذا كان صالحا فالخرة خير له من الدنيا وإن كان غير‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئا} من الضرر ل في ذاته‪ ،‬ول في دينه في ملكه‪ ،‬وسلطانه‪ ،‬ول رسوله‪،‬‬ ‫وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم‪" :‬ل يعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني‪ ،‬ولن تبلغوا‬ ‫نفعي فتنفعوني" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬كرر لفظ‪{ :‬لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئا} لجل التأكيد والتقرير حتى ييأس المنافقون والكافرون من‬ ‫إلحاق أي ضرر برسول ال صلى ال عليه وسلم وبدعوته‪ ،‬وشيئا‪ :‬منصوب على المصدرية‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ل ول كثيرا‪.‬‬ ‫لن يضروا ال ضررا قلي ً‬ ‫‪ 3‬فسر الملء بطول العمر ورغد العيش وهو كذلك مع إضافة عدم معاجلتهم بالعقوبة إنظارا‬ ‫لهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬شاهده قول ابن مسعود رضي ال عنه‪" :‬ما من أحد بر ول فاجر إل والموت خير له لنه إن‬

‫كان برا فقد قال ال تعالى‪َ { :‬ومَا عِ ْندَ اللّهِ خَيْرٌ لِلَبْرَارِ} ‪ ،‬وإن كان فاجرا فقد قال تعالى‪{ :‬إِ ّنمَا‬ ‫ُنمْلِي َل ُهمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما} "‪ .‬وروي مثله عن ابن عباس‪ ،‬أخرجه رزين‪.‬‬

‫( ‪)1/414‬‬ ‫ذلك حتى ل يزداد إثما فيوبق بكثرة ذنوبه‪.‬‬ ‫{مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ حَتّى َيمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّ ّيبِ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيطِْل َعكُمْ‬ ‫سلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّ ِه وَرُسُِل ِه وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَ ّتقُوا فََلكُمْ أَجْرٌ‬ ‫عَلَى ا ْلغَ ْيبِ وََلكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُ ُ‬ ‫حسَبَنّ الّذِينَ يَ ْبخَلُونَ ِبمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ ُهوَ خَيْرا َلهُمْ َبلْ ُهوَ شَرّ َلهُمْ‬ ‫عَظِيمٌ(‪ )179‬وَل يَ ْ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ(‪})180‬‬ ‫خلُوا ِبهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ‬ ‫ط ّوقُونَ مَا بَ ِ‬ ‫سَ ُي َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{لِ َيذَرَ} ‪ :‬ليترك‪.‬‬ ‫{ َيمِيزَ} ‪ :‬يميز ويبين‪.‬‬ ‫{ا ْلخَبِيثَ} ‪ :‬من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫{الطّ ّيبِ} ‪ :‬من طهرت نفسه باليمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫{ا ْلغَ ْيبِ} ‪ :‬ما غاب فلم يدرك بالحواس‪.‬‬ ‫{ َيجْتَبِي} ‪ :‬يختار ويصطفي‪.‬‬ ‫{يَ ْبخَلُونَ‪ : }1‬يمنعون ويضنون‪.‬‬ ‫يطوقون به ‪ :‬يجعل طوقا في عنق أحدهم‪.‬معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث وقعة أحد‪ ،‬وما لزمها من ظروف وأحوال‪ ،‬فأخبر تعالى في هذه الية‬ ‫(‪ )179‬أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البخل بضم الباء وإسكان الخاء‪ ،‬والبخل بفتح الباء والخاء معا هو أن يمنع النسان الحق‬ ‫الواجب عليه من زكاة أو ضيافة أو إطعام جائع وستر عارٍ‪ ،‬ولم يوجد من يقوم به سواه‪ ،‬وما ل‬ ‫فل يقال فيه بخيل شرعا‪.‬‬

‫( ‪)1/415‬‬ ‫في إيمانه‪ ،‬والكاذب فيه وهو المنافق‪ .‬بل ل بد من البتلء بالتكاليف الشاقة منها؛ كالجهاد‬ ‫والهجرة والصلة والزكاة‪ ،‬وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميز المؤمن الصادق وهو‬ ‫الطيب الروح‪ ،‬من المؤمن الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬مَا كَانَ‪ 1‬اللّهُ لِيَذَرَ‬

‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ حَتّى َيمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّ ّيبِ} وذلك أن ال لم يكن من سننه في خلقه‬ ‫أن يطلعهم على الغيب فيميز المؤمن من المنافق‪ ،‬و البار من الفاجر‪ ،‬وإنما يبتلي بالتكاليف‬ ‫ويظهر بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد‪ .‬إل أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء‬ ‫فيطلعه على الغيب‪ ،‬ويظهره على مواطن المور وبناء على هذا ‪ 2‬فآمنوا بال ورسله حق‬ ‫اليمان‪ ،‬فإنكم إن آمنتم صادق اليمان واتقيتم معاصي الرحمان كان لكم بذلك أعظم الجور وهو‬ ‫الجنة دار الحبور والسرور هذا ما دلت عليه الية(‪ ،)179‬أما الية الثانية(‪ )180‬فإن ال تعالى‬ ‫يخبر عن خط البخلء الذين يملكون المال ويبخلون به فيقول‪ :‬ول يحسن أي ول يظن الذين‬ ‫يبخلون بما آتاهم ال من المال الذي تفضل ال به عليهم أن بخلهم به خير لنفسهم كما يظنون بل‬ ‫هو أي البخل شر لهم‪ ،‬وذلك لسببين الول‪ :‬ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل وآثاره السيئة‬ ‫على النفس‪ ،‬والثاني‪ :‬أن ال تعالى سيعذبهم به بحيث يجعله طوقا من نار في أعناقهم‪ ،‬أو بصورة‬ ‫ثعبان فيطوقهم ‪ ،3‬ويقول لصاحبه‪" :‬أنا مالك أنا كنزك" كما جاء في الحديث‪ .‬فعلى من يظن هذا‬ ‫الظن الباطل أن يعدل عنه‪ ،‬ويعلم أن الخير في النفاق ل في البخل‪ .‬وأن ما يبخل به هو مال‬ ‫ال ‪ ،‬وسيرثه‪ ،‬ولم يجن البخلء إل المعرة في الدنيا والعذاب في الخرة‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَلِلّهِ مِيرَاثُ‬ ‫ض وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ} ‪ ،‬فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل فإن‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬ ‫ال ّ‬ ‫ذلك خير لكم‪ .‬وال يعلم وأنتم ل تعلمون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن الية نزلت إجابة لمن طالبوا بعلمة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فأجابهم ال‬ ‫تعالى بأنه ليس من شأنه أن يترك المؤمنين على ما هم عليه في اختلطهم مع المنافقين حتى‬ ‫ينزل من الشرائع والتكاليف وما يميز بفعله وتركه المؤمن من المنافق‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ العبرة ليست بمعرفة الغيب‪ ،‬وإنما العبرة بالنجاة من النار والفوز بالجنة‪ ،‬وعليه فأعرضوا‬ ‫عن المطالبة بمعرفة الغيب وأقبلوا على ما يحقق لكم نجاتكم وسعادتكم‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬من أتاه ال‬ ‫مالً فلم يؤد زكاته مُثْل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة‪ ،‬يؤخذ بلهزمتيه –يعني‬ ‫حسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ‪ }...‬الية‪.‬‬ ‫شدقيه‪ -‬ثم يقول‪ :‬أنا مالك‪ ،‬أنا كنزك‪ ،‬ثم تل هذه الية‪{ :‬وَل يَ ْ‬

‫( ‪)1/416‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب‪.‬‬ ‫‪ -2‬استئثار الرب تعالى بعلم الغيب دون خلقه إل ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك‪.‬‬

‫‪ -3‬ثمن الجنة اليمان والتقوى‪.‬‬ ‫‪ -4‬البخل بالمال شر لصاحبه‪ ،‬وليس بخير له كما يظن البخلء‪.‬‬ ‫‪ -5‬من أوتي مالً ومنع حق ال فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الية وآية ‪ 1‬التوبة‬ ‫وحديث البخاري‪" :‬من آتاه ال مالً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم‬ ‫القيامة فيأخذ بلهزمتيه –أي شدقيه‪ -‬يقول أنا مالك أنا كنزك‪ ،‬ثم تل الية {وَل َيحْسَبَنّ الّذِينَ‪}...‬‬ ‫الية"‪.‬‬ ‫سمِعَ اللّهُ َقوْلَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ َفقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَ َنكْ ُتبُ مَا قَالُوا َوقَتَْلهُ ُم الَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ حَقّ‬ ‫{َلقَدْ َ‬ ‫عذَابَ الْحَرِيقِ(‪ )181‬ذَِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِي ُك ْم وَأَنّ اللّهَ لَ ْيسَ بِظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ(‪ )182‬الّذِينَ‬ ‫وَنَقُولُ ذُوقُوا َ‬ ‫سلٌ مِنْ قَبْلِي‬ ‫عهِدَ إِلَيْنَا أَل ُن ْؤمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنَا ِبقُرْبَانٍ تَ ْأكُلُهُ النّارُ ُقلْ َقدْ جَا َءكُمْ رُ ُ‬ ‫قَالُوا إِنّ اللّهَ َ‬ ‫سلٌ مِنْ قَبِْلكَ‬ ‫بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَِلمَ قَتَلْ ُتمُوهُمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪ )183‬فَإِنْ َكذّبُوكَ َفقَدْ ُك ّذبَ ُر ُ‬ ‫جَاءُوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُ ِر وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُنِيرِ(‪})184‬‬ ‫__________‬ ‫ب وَا ْل ِفضّ َة وَل يُ ْن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ ِبعَذَابٍ‬ ‫‪ 1‬هي قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ‬ ‫سكُمْ‬ ‫ظهُورُهُمْ َهذَا مَا كَنَزْتُ ْم ل ْنفُ ِ‬ ‫جهَنّمَ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم وَجُنُو ُبهُ ْم َو ُ‬ ‫حمَى عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ‬ ‫أَلِيمٍ* َي ْومَ يُ ْ‬ ‫فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْنِزُونَ}‪.‬‬

‫( ‪)1/417‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عذَابَ الْحَرِيقِ‪ : }1‬هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{ذَِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم‪.‬‬ ‫عهِدَ إِلَيْنَا} ‪ :‬أمرنا ووصانا في كتابنا "التوراة"‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{أَل ُن ْؤمِنَ لِرَسُولٍ} ‪ :‬أي‪ :‬ل نتابعه‪ ،‬على ما جاء به ول نصدقه في نبوته‪.‬‬ ‫{ ِبقُرْبَانٍ تَ ْأكُلُهُ النّارُ} ‪ :‬القربان‪ :‬ما يتقرب به إلى ال تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان‬ ‫فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه‪.‬‬ ‫{بِالْبَيّنَاتِ} ‪ :‬اليات والمعجزات‪.‬‬ ‫{وَبِالّذِي قُلْ ُتمْ} ‪ :‬أي‪ :‬من القربان‪.‬‬ ‫{فَِلمَ قَتَلْ ُتمُوهُمْ} ‪ :‬الستفهام للتوبيخ‪ ،‬ومن قتلوا من النبياء‪ :‬زكريا ويحي عليهما السلم‪.‬‬ ‫{وَالزّبُرِ} ‪ :‬جمع زبور وهو الكتاب؛ كصحف إبراهيم‪.‬‬ ‫{وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُنِيرِ} ‪ :‬الواضح البين؛ كالتوراة والزبور والنجيل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫عفَهُ} ودخل أبو بكر الصديق‬ ‫لما نزل قول ال تعالى‪{ :‬مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ‬ ‫رضي ال عنه بيت "المدراس ‪ "2‬واليهود به وهم يستمعون لكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص‬ ‫فدعاه أبو بكر إلى السلم‪ ،‬فقال فنحاص‪ :‬إن ربا يستقرض‪ ،‬نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن‬ ‫الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي ال عنه وضرب اليهودي‪ ،‬فجاء إلى رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلً‪" :‬ما حملك على ما صنعت" ؟ فقال إنه قال‪ :‬إن ال‬ ‫سمِعَ اللّهُ َق ْولَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ‬ ‫فقير ونحن أغنياء‪ .‬فأنكر اليهودي فأنزل ‪ 3‬ال تعالى الية {َلقَدْ َ‬ ‫َفقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَ َنكْ ُتبُ مَا قَالُوا َوقَتَْلهُ ُم الَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ حَقّ} ‪ ،‬أي‪ :‬نكتبه أيضا‪ ،‬ونقول لهم‪:‬‬ ‫{ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} ‪ ،‬وقولنا ذلك بسبب ما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحريق‪ :‬اسم للملتهبة من النار‪ ،‬إذ النار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة‪.‬‬ ‫‪ 2‬بيت المعلم من بني إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ 3‬إن من نزلت فيهم الية لم يقتلوا النبياء وإنما قتلهم سلفهم ولكن برضاهم عن أسلفهم‪ ،‬وما‬ ‫صنعوا كان حكمهم حكم من قتل‪ ،‬لن الرضا بالمعصية معصية‪ .‬روى أن رجلً حسن قتل عثمان‬ ‫عند الشعبي‪ ،‬فقال له الشعبي‪" :‬شاركت في دمه فجعل الرضا بالقتل قتلً"‪.‬‬

‫( ‪)1/418‬‬ ‫قدمته أيديكم من الشر والفساد وأن ال ليس بظلم للعبيد‪ ،‬فلم يكن جزاؤهكم مجافيا للعدل ول‬ ‫سمِعَ‬ ‫مباعدا له أبدا لننزه الرب تعالى عن الظلم لعباده‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى(‪َ{ )181‬لقَدْ َ‬ ‫ق وَ َنقُولُ‬ ‫اللّهُ َق ْولَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ فَقِي ٌر وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَ َنكْ ُتبُ مَا قَالُوا َوقَتَْلهُ ُم الَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ حَ ّ‬ ‫ذُوقُوا عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ} ‪ ،‬والية الثانية(‪{ )182‬ذَِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنّ اللّهَ لَ ْيسَ بِظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ} ‪،‬‬ ‫ع ِهدَ إِلَيْنَا أَل ُن ْؤمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى‬ ‫وأما الية الثالثة(‪ )183‬وهي قوله تعالى‪{ :‬الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ َ‬ ‫سلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَِلمَ قَتَلْ ُتمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ‬ ‫يَأْتِيَنَا ِبقُرْبَانٍ تَ ْأكُلُهُ النّارُ ُقلْ قَدْ جَا َء ُكمْ رُ ُ‬ ‫صَا ِدقِينَ} فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة بطالة ل صحة لها البتة‪ ،‬والرد عليها‪ ،‬فالدعوى هي‬ ‫قولهم إن ال ‪ 1‬قد أمرنا موصيا لنا أن ل نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به‪،‬حتى يأتينا‬ ‫بقربان تأكله النار‪ ،‬يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء‬ ‫فتحرقها‪ ،‬فذلك آية نبوته‪ ،‬وأنت يا محمد ما أتيتنا بذلك فل نؤمن بك ول نتابعك على دينك‪ ،‬وأما‬ ‫سلٌ مِنْ قَبْلِي‬ ‫الرد فهو قول ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم قل يا رسولنا‪َ { :‬قدْ جَا َءكُمْ رُ ُ‬ ‫بِالْبَيّنَاتِ} وهي المعجزات‪{ ،‬وَبِالّذِي قُلْ ُتمْ} وهو قربان تأكله النار فلم قتلتموهم‪ ،‬إذ قتلوا زكريا‬ ‫ويحي وحاولوا قتل عيسى‪ ،‬إن كنتم صادقين في دعواكم؟‪ ،‬وأما الية الرابعة (‪ )184‬فإنها تحمل‬ ‫العزاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم إذ يقول له ربه تعالى‪{ :‬فَإِنْ كَذّبُوكَ} فلم يؤمنوا بك‪ ،‬فل‬

‫تحزن ول تأسى لنك لست وحدك الذي كُذبت‪ ،‬فقد كذبت رسل كثر كرام‪ ،‬جاءوا أقوامهم‬ ‫بالبينات‪ ،‬أي‪ :‬المعجزات‪ ،‬وبالزبر‪ ،‬والكتاب المنير؛ كالتوراة والنجيل وصحف إبراهيم وكذبتهم‬ ‫أممهم كما كذبك هؤلء اليهود والمشركين معهم فاصبر ول تحزن‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كفر اليهود وسوء أدبهم مع ال تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير جريمة قتل اليهود للنبياء وهي من أبشع الجرائم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى القرطبي عن الكلبي‪ :‬أن هذه الية نزلت ردا على كعب بن الشرف ومالك بن الصيف‬ ‫ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عزريا أتوا النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا له‪ :‬أتزعم إن ال‬ ‫أرسلك إلينا وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه أل نؤمن لرسول يزعم أنه من عند ال حتى يأتينا‬ ‫بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك‪ ،‬فأنزل ال تعالى هذه الية‪.‬‬

‫( ‪)1/419‬‬ ‫‪ -3‬بيان كذب اليهود في دعواهم أن ال عهد إليهم أن ل يؤمنوا بالرسول حتى ‪ 1‬يأتيهم بقربان‬ ‫تأكله النار‪.‬‬ ‫‪ -4‬تعزية الرسول صلى ال عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم‪.‬‬ ‫خلَ ا ْلجَنّةَ َفقَدْ‬ ‫{ ُكلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ وَإِ ّنمَا ُت َو ّفوْنَ أُجُو َركُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ َفمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُدْ ِ‬ ‫س َمعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا‬ ‫سكُ ْم وَلَتَ ْ‬ ‫فَا َز َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِل مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ(‪ )185‬لَتُبَْلوُنّ فِي َأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬ ‫لمُورِ(‬ ‫ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُ ْم َومِنَ الّذِينَ َأشْ َركُوا أَذىً كَثِيرا وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬ ‫‪})186‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ذَا ِئقَةُ ا ْل َموْتِ‪ : }2‬أي‪ :‬ذائقة موت جسدها‪ ،‬أما هي فإنها ل تموت‪.‬‬ ‫{ ُت َو ّفوْنَ} ‪ :‬تعطون جزاء أعمالكم خيرا أو شرا وافية ل نقص فيها‪.‬‬ ‫{ ُزحْزِحَ} ‪ :‬نجي وأبعد‪.‬‬ ‫{فَازَ} ‪ :‬نجا من مرهوبه وهو النار‪ ،‬وظفر بمرغوبه وهو الجنة‪.‬‬ ‫{مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ‪ : }3‬المتاع‪ :‬كل ما يستمتع به‪ ،‬والغرور‪ :‬الخداع‪ ،‬فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار‬ ‫صاحبه‪ ،‬ل يلبث أن يضمحل ويذهب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وإن صحت دعواهم في التوراة فإن فيها استثناء عيسى ومحمد صلى ال عليه وسلم أو هي‬

‫منسوخة في النجيل ولكن ما رد ال تعالى به عليهم ل يتطلب مزيد حجج فإنه قاطع مفحم‬ ‫مسكت‪ ،‬ونص التوراة تمامه‪" :‬حتى يأتيكما المسيح ومحمد فإذا أتياكما فآمنوا بهما من غير‬ ‫قربان"‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرئ‪{ :‬ذائقة الموت} بالضافة‪ ،‬و {ذائقة الموت} بدونها‪ ،‬والولى قراءة العامة‪ ،‬وهذا مما ل‬ ‫محيص للنسان عنه‪ .‬قال أمية بن الصلت‪:‬‬ ‫من لم يمت عبطة يمت هرما ‪ ...‬للموت كأس والمرء ذائقها‬ ‫ومعنى‪ :‬عبطة‪ :‬شابا‪ ،‬وللموت علمات من أبرزها عرق الجبين‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬المؤمن يموت‬ ‫بعرق الجبين" ‪ .‬فإذا شوهدت لقن الميت لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬لقنوا موتاكم ل إله إل ال" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬يوضح معنى متاع الغرور‪ :‬قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬وال ما الدنيا في الخرة إل كما يغمس‬ ‫أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع إليه" ‪ ،‬والغرور مصدر أضيف إليه المتاع‪ ،‬فالمتاع‪ :‬ما‬ ‫يتمتع به ثم يضمحل‪ ،‬وكونه للغرور زاد في التحذير منه‪ ،‬فلذا قال فيها قتادة‪" :‬الدنيا متاع متروك‬ ‫يوشك أن تضمحل بأهلها"‪.‬‬

‫( ‪)1/420‬‬ ‫سكُمْ} ‪ :‬لتختبرن في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها‪ ،‬أو بذهابها وأنفسكم‬ ‫{لَتُبَْلوُنّ فِي َأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬ ‫بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج‪ ،‬أو المرض والموت‪.‬‬ ‫{أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫{الّذِينَ أَشْ َركُوا} ‪ :‬العرب‪.‬‬ ‫لمُورِ} ‪ :‬يريد أن الصبر والتقوى من المور الواجبة التي هي عزائم وليس‬ ‫{فَإِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْ ِم ا ُ‬ ‫فيها رخص ول ترخيص بحال من الحوال‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تعزية الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬لقد جاء في الية السابقة تسلية‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له‪ ،‬وفي هذه الية أعظم‬ ‫تسلية وعزاء‪ ،‬إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت ‪ 1‬ل محالة‪ ،‬وإن‬ ‫الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار كسب وعمل‪ ،‬ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون‪،‬‬ ‫ول ينالهم مكروه‪ ،‬وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ول ينالهم محبوب‪ ،‬وفي هذا‬ ‫تسلية عظيمة وأخرى‪ :‬العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها ل تعدو كونها متاع الغرور‪ ،‬أي‪ :‬متاع‬ ‫زائل غار ببهرجه وجمال منظره‪ ،‬ثم ل يلبث أن يذهب ويزول‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى(‬ ‫‪ ،)185‬أما الية الثانية(‪ )186‬ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم ل محالة مختبرون في‬ ‫أموالهم وفي أنفسهم‪ .‬في أموالهم بالحوائج‪ ،‬وبالواجبات‪ ،‬وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف‬

‫الشاقة؛ كالجهاد والحج والصيام‪ ،‬وإنهم ل بد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيرا‬ ‫كما قال فنحاص‪ :‬ال فقير ‪ 2‬ونحن أغنياء أو كما قال النصارى‪ :‬المسيح ابن ال‪ ،‬وكما قال‬ ‫المشركون‪ :‬اللت والعزى ومناة آلهة مع ال‪ .‬حثهم تعالى على الصبر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أحكام الحتضار‪ :‬تلقين ل إله ال ال وقراءة يس‪ ،‬لتخفيف سكرات الموت لقوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬ما من ميت يقرأ عنده يس إل هون ال عليه" ‪ ،‬وفي حديث أبي داود‪" :‬اقرأوا يس‬ ‫على موتاكم" ‪ ،‬ومن أحكام الموت‪ :‬تغميض العينين‪ ،‬وغسل‪ ،‬وكفنه‪ ،‬والصلة عليه‪ ،‬ودفنه في‬ ‫مقابر المسلمين‪ ،‬وتعجيل دفنه‪ ،‬والسراع في المشي به‪ ،‬لحديث‪" :‬اسرعوا بالجنازة‪ ،‬فإن تك‬ ‫صالحا فخير تقدمونها إليه‪ ،‬وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن أبي لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ارجع إلى رحلك ل تؤذنا في مجالسنا‪ .‬وكان‬ ‫كعب بن الشرف ينظم القصائد يسب فيها المسلمون ويؤلب فيها عليهم الكافرين‪ ،‬بل كان يتشبب‬ ‫بنساء المؤمنين‪ ،‬ولذا أذن الرسول في اغتياله فقتله غيلة‪ :‬محمد بن مسلمة‪ ،‬وأصحابه رضي ال‬ ‫عنهم أجمعين‬

‫( ‪)1/421‬‬ ‫والتقوى‪ ،‬فقال‪{ :‬وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَتّقُوا} فإن صبركم وتقواكم مما أوجب ال تعالى عليكم وليس هو‬ ‫من باب الندب والستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ليست الدار الدنيا بدار جزاء وإنما هي دار عمل‪.‬‬ ‫‪ -2‬تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان حقيقة هذه الحياة وأنها كمتاع خادع ل يلبث أن يتلشى ويضمحل‪.‬‬ ‫‪ -4‬البتلء ضروري فيجب الصبر والتقوى فإنهما من عزائم المور ل من رخصها‪.‬‬ ‫ظهُورِهِ ْم وَاشْتَ َروْا‬ ‫س وَل َتكْ ُتمُونَهُ فَنَبَذُو ُه وَرَاءَ ُ‬ ‫{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ‪ 1‬لِلنّا ِ‬ ‫حمَدُوا ِبمَا َلمْ‬ ‫بِهِ َثمَنا قَلِيلً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ(‪ )187‬ل تَحْسَبَنّ الّذِينَ َيفْرَحُونَ ِبمَا أَ َتوْا وَيُحِبّونَ أَنْ ُي ْ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ وَاللّهُ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )188‬وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫ب وََلهُمْ َ‬ ‫َي ْفعَلُوا فَل َتحْسَبَ ّنهُمْ ِب َمفَا َزةٍ مِنَ ا ْلعَذَا ِ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪})189‬‬ ‫عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الميثاق ‪ :‬العهد المؤكد باليمين‪.‬‬ ‫{أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬

‫الكتمان ‪ :‬إخفاء الشيء وجحوده حتى ل يرى ول يعلم‪.‬‬ ‫ظهُورِهِمْ} ‪ :‬ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه‪ ،‬وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه‬ ‫{فَنَبَذُو ُه وَرَاءَ ُ‬ ‫من اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم وبما جاء به من السلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الضمير عائد إلى الكتاب‪ ،‬أي‪ :‬أقسم عليكم بجللي وكمالي لتظهرن جميع ما في الكتاب من‬ ‫الحكام والخبار‪ ،‬ومنها‪ :‬نعوت النبي محمد صلى ال عليه وسلم وصفاته‪.‬‬

‫( ‪)1/422‬‬ ‫{وَاشْتَ َروْا بِهِ َثمَنا قَلِيلً} ‪ :‬اعتاضوا عنه حطام الدنيا ومتاعها الزائل إذ كتموه‪ .‬إبقاء على منافعهم‬ ‫الدنيوية‪.‬‬ ‫حمَدُوا ِبمَا َلمْ َي ْفعَلُوا} ‪ :‬أي‪ :‬يثني عليهم ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم ذلك‪.‬‬ ‫{أَنْ ُي ْ‬ ‫ب وََلهُمْ} ‪ :‬بمنجاة من العذاب في الدنيا‪ ،‬ولهم في الخرة عذاب أليم‪.‬‬ ‫{ ِب َمفَا َزةٍ مِنَ ا ْلعَذَا ِ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في اليهود فيقول تعالى لنبيه‪ ،‬واذكر لهم إذ أخذ ال ميثاق الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬وهم‬ ‫اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم في كتابهم‪ ،‬وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من الهدى ودين الحق وهو السلم‪،‬‬ ‫ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه واستبدلوا بذلك ثمنا قليلً وهو الجاه والمنصب‬ ‫والمال‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَاشْتَ َروْا بِهِ َثمَنا قَلِيلً} وذم ال تعالى ذلك الثمن القليل فقال‪{ :‬فَبِئْسَ مَا‬ ‫حسَبَنّ الّذِينَ َيفْرَحُونَ‬ ‫يَشْتَرُونَ} ‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)187‬وأما الية الثانية(‪{ )188‬ل تَ ْ‬ ‫ب وََلهُمْ عَذَابٌ َألِيمٌ} ‪ .‬فإن‬ ‫حسَبَ ّنهُمْ ِب َمفَا َزةٍ مِنَ ا ْلعَذَا ِ‬ ‫ح َمدُوا ‪ِ 1‬بمَا لَمْ َيفْعَلُوا فَل تَ ْ‬ ‫ِبمَا أَ َتوْا وَيُحِبّونَ أَنْ يُ ْ‬ ‫ال تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما أتوا من الشر‬ ‫والفساد بتحريف كلمنا وتبديل أوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي‬ ‫يشكروهم ويثنوا عليهم‪ ،‬ما لم يفعلوا من الخير والصلح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد‬ ‫من اليهود‪ ،‬ول تحسبنهم بمفازة‪ ،‬أي‪ :‬بمنجاة من العذاب‪ ،‬ولهم عذاب أليم يوم القيامة‪ .‬وأما الية‬ ‫الثالثة ‪ )189‬فقد أخبر تعالى أن له ملك السموات والرض‪ ،‬وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك‬ ‫على قدرته على البطش بالقوم والنتقام منهم‪ ،‬وأنه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا‪ ،‬وعذاب‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ} ‪.‬‬ ‫ض وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫ت وَالَرْ ِ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫الخرة فقال‪{ :‬وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري‪ :‬أن رجالً من المنافقين كانوا إذا خرج الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلف رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ ،‬فإذا قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم من الغزو اعتذروا وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما‬ ‫لم يفعلوا‪ ،‬فنزلت هذه الية‪ .‬وروي في سبب نزولها الخبر التي‪ :‬إن مروان بعث بأحد رجاله إلى‬ ‫ابن عباس يسأله قائلً‪ :‬لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا‬ ‫لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس‪" :‬ما لكم وهذه إنما نزلت هذه في أهل الكتاب‪ ،‬ثم تل هذه الية‪:‬‬ ‫{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ} إلى قوله‪{ :‬ولَهمْ عَذَابْ أليِم} ‪.‬‬

‫( ‪)1/423‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬أخذ ال الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء ‪ 1‬السلم فإن عليهم أن‬ ‫يبثوا الحق ويجهروا به‪ ،‬ويحرم عليهم كتمانه ‪ 2‬أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب‬ ‫دنيوي مالً أو جاها أو سلطانا‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف‪ ،‬بل من الكمال أن ل‬ ‫يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن‬ ‫يحمد‪ .‬بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق ‪ 3‬له وكلمة يحي فلن‪...‬‬ ‫‪ -3‬ملك ال تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس‬ ‫عن هذا غافلون‪ ،‬وبه جاهلون‪.‬‬ ‫ت لُولِي الَلْبَابِ(‪ )190‬الّذِينَ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّ ْيلِ وَال ّنهَا ِر ليا ٍ‬ ‫{إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ رَبّنَا مَا خََل ْقتَ هَذَا‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫يَ ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَاما َو ُقعُودا وَعَلَى جُنُو ِبهِ ْم وَيَ َت َفكّرُونَ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬ ‫خلِ النّارَ َفقَدْ َأخْزَيْتَ ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ‬ ‫بَاطِلً سُبْحَا َنكَ َفقِنَا عَذَابَ النّارِ( ‪ )191‬رَبّنَا إِ ّنكَ مَنْ تُ ْد ِ‬ ‫س ِمعْنَا مُنَادِيا يُنَادِي لِلِيمَانِ أَنْ‬ ‫أَ ْنصَارٍ(‪ )192‬رَبّنَا إِنّنَا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال محمد بن كعب ل يحل لعالم أن يسكت على علمه ول لجاهل أن يسكت على جهله‪ ،‬قال ال‬ ‫تعالى‪{ :‬وَِإذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} الية‪ ،‬وقال‪{ :‬فأسْأَلوُا َأهْل الذِكرْ إنْ كُنتمْ ل‬ ‫َتعْلَموُن} ‪ ،‬وقال على رضي ال عنه‪" :‬ما أخذ ال على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء‬ ‫أن يعلموا"‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده ما جاء من طرق متعددة عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬من سُئل عن عمل فكتمه‬ ‫ألجم يوم القيامة بلجام من نار" ‪ .‬وشاهده أيضا‪ :‬حديث البخاري‪" :‬من كتم علما ألجمه ال بلجام‬ ‫من نار يوم القيامة" ‪.‬‬

‫‪ 3‬هذا حال الكثير من زعماء أمة السلم في عصور انحطاطها وفساد عقائدها وأخلقها‬ ‫وانحراف سلوكها نتيجة كيد المجوس لها واليهود والنصارى كذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/424‬‬ ‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا َو َكفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَ َت َوفّنَا مَ َع الَبْرَارِ(‪ )193‬رَبّنَا وَآتِنَا مَا‬ ‫آمِنُوا بِرَ ّبكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَا ْ‬ ‫ك وَل تُخْزِنَا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِ ّنكَ ل ُتخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ(‪ )194‬فَاسْتَجَابَ َلهُمْ رَ ّب ُهمْ أَنّي ل‬ ‫وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُِل َ‬ ‫ضكُمْ مِنْ َب ْعضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ‬ ‫ع َملَ عَا ِملٍ مِ ْنكُمْ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى َب ْع ُ‬ ‫ُأضِيعُ َ‬ ‫ل َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِه ْم وَلُ ْدخِلَ ّنهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‬ ‫وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي َوقَاتَلُوا َوقُتِلُوا ُ‬ ‫حسْنُ ال ّثوَابِ(‪})195‬‬ ‫َثوَابا مِنْ عِنْدِ اللّ ِه وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ت وَالَ ْرضِ} ‪ :‬أي‪ :‬في وجودهما من العدم‪.‬‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫{فِي خَ ْلقِ ال ّ‬ ‫ل وَال ّنهَارِ} ‪ :‬تعاقبهما هذا يجيء وذاك يذهب‪ ،‬هذا مظلم وذاك مضيء‪.‬‬ ‫{وَاخْتِلفِ اللّ ْي ِ‬ ‫{لياتٍ} ‪ :‬دلئل واضحة على وجود ال تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته‪.‬‬ ‫{لُولِي الَلْبَابِ} ‪ :‬أصحاب العقول التي تُدرك بها الشياء وتفهم بها الدلة‪.‬‬ ‫{رَبّنَا} ‪ :‬يقولون‪ :‬ربنا إلخ‪...‬‬ ‫{بَاطِلً} ‪ :‬ل لشيء مقصود منه‪ ،‬وإنما هو من باب اللعب‪.‬‬ ‫{سُ ْبحَا َنكَ‪ : }1‬تنزيها لك عن العبث واللعب‪ ،‬وعن الشريك والولد‪.‬‬ ‫{ َفقِنَا عَذَابَ النّارِ} ‪ :‬أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للعمال الصالحة وتجنيبنا العمال‬ ‫الفاسدة الموجبة لعذاب النار‪.‬‬ ‫{َأخْزَيْتَهُ} ‪ :‬أذللته وأشقيته‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل عن معنى‪ :‬سبحان ال‪ ،‬فقال‪" :‬تنزيه ال عن السوء" ‪.‬‬

‫( ‪)1/425‬‬ ‫{ َو َكفّرْ عَنّا} ‪ :‬استر وامح‪.‬‬ ‫{الَبْرَارِ} ‪ :‬جمع بر أو بار‪ ،‬وهم المتمسكون بالشريعة‪.‬‬ ‫{عَلَى رُسُِلكَ} ‪ :‬على ألسنة رسلك من النصر والتأييد‪.‬‬ ‫{ا ْلمِيعَادَ} ‪ :‬الوعد‪.‬‬ ‫{هَاجَرُوا} ‪ :‬تركوا بلدهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فرارا بدينهم‪.‬‬

‫{وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} ‪ :‬آذاهم المشركون من أجل اليمان بي ورسولي وطاعتنا‪.‬‬ ‫{ َثوَابا مِنْ عِنْدِ اللّهِ} ‪ :‬أي‪ :‬أجرا جزاء كائنا من عند ال‪ ،‬وهو الجنات بعد تكفير السيئات‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما قال اليهود تلك المقالة السيئة‪ :‬إن ال تعالى فقير ونحن أغنياء‪ ،‬وحرفوا الكتاب وبدلوا وغيروا‬ ‫ويحبون أن يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم‪ ،‬وضلل في‬ ‫عقولهم‪ ،‬فذكر تعالى من اليات الكونية ما يدل على غناء‪ ،‬وافتقار عباده إليه‪ ،‬كما يدل على‬ ‫ربوبيته على خلقه‪ ،‬وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم‪ ،‬وأنه ربهم ل رب لهم غيره وإلههم‬ ‫الذي ل إله لهم سواه إل أن هذا ل يدركه إل أرباب العقول الحصيفة والبصائر النيرة‪ ،‬فقال‬ ‫ت لُولِي الَلْبَابِ} نعم إن في‬ ‫سمَاوَاتِ‪ 1‬وَالَ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ ليا ٍ‬ ‫تعالى‪{ :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬ ‫إيجاد السموات والرض من العدم وفي اختلف الليل والنهار بالطول والقصر والظلم والضياء‪،‬‬ ‫والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلئل واضحات على غنى ال وافتقار عباده وبراهين ساطعة‬ ‫على ربوبيته لخلقه‪ .‬وألوهيته لهم‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)190‬وأما اليات الربع بعدها‬ ‫فقد تضمنت وصفا لولي اللباب الذين يتفكرون في خلق السموات والرض فيهتدون إلى معرفة‬ ‫الرب تعالى فيذكرونه ويشكرونه‪ .‬فقال تعالى عنهم‪{ :‬الّذِينَ يَ ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَاما‪َ 2‬و ُقعُودا وَعَلَى‬ ‫جُنُو ِبهِمْ} وهذا شامل لحالهم في الصلة ‪3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا قام من الليل قرأ هذه اليات العشر‪ ،‬فلذا استحب‬ ‫لمن قام من ليله ليتجهد أن يقرأها ويتفكر فيها‪ ،‬وورد عن عثمان‪ :‬من قرأ آخر آل عمران في ليلة‬ ‫كتب له قيام ليلة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهد هذا قول عائشة في الصحيح‪" :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يذكر ال على كل‬ ‫أحيانه"‪ .‬ومن الدب أن يستثنى من هذا لعموم حالة التبول وقضاء الحاجة في الكنف‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث عمران بن حصين رضي ال عنهما إذ قال‪" :‬كان بي البواسير فسألت رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم فقال‪ :‬صلي قائما فإن لم تستطع فقاعدا‪ ،‬فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه الئمة‪،‬‬ ‫وفي مسلم‪" :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم صلى النافلة قاعدا وذلك قبل موته بعام"‪.‬‬

‫( ‪)1/426‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ} ‪ ،‬أي‪ :‬في إيجادهما‬ ‫وخارج الصلة‪ .‬وقال عنهم‪{ :‬وَيَ َت َفكّرُونَ‪ 1‬فِي خَلْقِ ال ّ‬ ‫وتكوينهما وإبداعهما‪ ،‬وعظيم خلقهما‪ ،‬وما أودع فيهما من مخلوقات‪ .‬فل يلبثون أن يقولوا‪{ :‬رَبّنَا‬ ‫مَا خََل ْقتَ هَذَا بَاطِلً} ‪ ،‬أي‪ :‬ل لحكمة مقصودة ول لهدف مطلوب‪ ،‬بل خلقته بالحق‪ ،‬وحاشاك أن‬ ‫تكون من اللعبين العابثين سبحانك تنزيها لك عن العبث واللعب بل خلقت ما خلقت لحكم عالية‬

‫لجل أن تذكر وتشكر‪ ،‬فتكرم الشاكرين الذاكرين‪ ،‬في دار كرامتك وتهين الكافرين في دار‬ ‫خلِ النّارَ َفقَدْ َأخْزَيْتَ ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ}‬ ‫عذابك‪ ،‬ولذا قالوا‪ :‬في الية(‪{ )192‬رَبّنَا إِ ّنكَ مَنْ تُ ْد ِ‬ ‫‪ .‬والظالمون هم الكافرون‪ ،‬ولذا يعدمون النصير ويخزون بالعذاب المهين‪ ،‬وقال عنهم في الية(‬ ‫س ِمعْنَا مُنَادِيا يُنَادِي لِلِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَ ّبكُمْ فَآمَنّا} ‪ ،‬والمنادي هو القرآن الكريم‬ ‫‪{ )193‬رَبّنَا إِنّنَا َ‬ ‫والرسول ‪ 2‬صلى ال عليه وسلم وتوسلوا بإيمانهم لربهم طالبين أشرف المطالب وأسماها مغفرة‬ ‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا َو َكفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَ َت َوفّنَا مَعَ الَبْرَارِ‪}3‬‬ ‫ذنوبهم ووفائهم مع البرار فقالوا {رَبّنَا فَا ْ‬ ‫وهو ما جاء في الية(‪ ،)193‬وأما الية الخامسة(‪ )194‬فقد سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على‬ ‫ألسنة رسله من النصر والتمكين في الرض‪ ،‬هذا في الدنيا‪ ،‬وأن ل يخزيهم يوم القيامة بتعذيبهم‬ ‫ك ل ُتخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ} ‪،‬‬ ‫ك وَل تُخْزِنَا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِ ّن َ‬ ‫في النار‪ ،‬فقالوا‪{ :‬رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُِل َ‬ ‫أي‪ :‬وعدك الحق‪ ،‬وفي الية السادسة(‪ )195‬ذكر تعالى استجابته لهم فقال لهم‪{ :‬أَنّي ل ُأضِيعُ‬ ‫ع َملَ عَا ِملٍ مِ ْنكُمْ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى} بل أجازي الكل بعمله ل أنقصه له ذكرا كان أو أنثى لن‬ ‫َ‬ ‫بعضكم من بعض الذكر من النثى والنثى من الذكر فل معنى للتفرقة بينكم‪ ،‬وذكر تعالى بعض‬ ‫أعمالهم الصالحة التي استوجبوا بها هذا النعام فقال‪{ :‬فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَُأخْرِجُوا مِنْ دِيَا ِرهِمْ‬ ‫لكَفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِ ْم َولُدْخِلَ ّن ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي‬ ‫وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي َوقَاتَلُوا َوقُتِلُوا} ‪ ،‬وواعدهم قائلً‪ُ { :‬‬ ‫مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ} ‪ ،‬وكان ذلك ثوابا منه تعالى على أعمالهم الصالحة‪ ،‬وال عنده حسن الثواب‪،‬‬ ‫فليرغب إليه‪ ،‬وليطمع فيه‪ ،‬فإنه البر الرحيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفكرة‪ :‬تردد القلب في الشيء‪ ،‬والتفكر ممدوح ما كان في خلق السموات والرض‪ ،‬وفي‬ ‫أحوال القيامة والمعاد والجزاء والدار الخرة‪ ،‬وورد النهي عن التفكر في ذات ال‪ ،‬إذ قال صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪" :‬تفكروا في الخلق ول تفكروا في الخالق فإنكم ل تقدرون قدره" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال ابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وأكثر المفسرين‪ ،‬وقال قتادة‬ ‫وغيره‪ :‬هو القرآن‪ .‬والكل صحيح‪ ،‬والرسول نادى‪ ،‬والقرآن نادى إلى اليوم‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم ما قالوا‪ :‬وتوفنا مع البرار؟ إنهم هضما لنفسهم وتواضعا لربهم وإعلنا عن رغبتهم في‬ ‫اللتحاق بربهم حبا في لقائه‪ ،‬والحياة إلى جواره في الملكوت العلى مع النبيين والصديقين‬ ‫والشهداء والصالحين‪.‬‬

‫( ‪)1/427‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب التفكر في خلق السموات والرض للحصول على المزيد من اليمان واليقان‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ‪ }...‬إلى آخر السورة‪ ،‬وذلك عند القيام‬ ‫‪ -2‬استحباب تلوة هذه اليات‪{ :‬إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ‬ ‫للتهجد آخر الليل لثبوت ذلك في الصحيح ‪ 1‬عنه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬استبحاب ذكر ال في كل حال ‪ 2‬من قيام أو قعود أو اضطجاع‪.‬‬ ‫‪ -4‬استحباب التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة في العمر‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية التوسل إلى ال تعالى باليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫‪ -6‬فضل الهجرة والجهاد في سبيل ال‪.‬‬ ‫‪ -7‬المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء‪.‬‬ ‫‪ -8‬استحباب الوفاة بين البرار وهم أهل الطاعة ل ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم‬ ‫والعيش بينهم لتكون الوفاة بإذن ال معهم‪.‬‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ(‪َ )197‬لكِنِ‬ ‫{ل َيغُرّ ّنكَ َتقَلّبُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِلدِ(‪ )196‬مَتَاعٌ قَلِيلٌ ُثمّ مَ ْأوَاهُمْ َ‬ ‫الّذِينَ ا ّتقَوْا رَ ّبهُمْ َل ُهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا نُ ُزلً مِنْ عِنْدِ اللّ ِه َومَا عِنْدَ اللّهِ‬ ‫شعِينَ‬ ‫خَيْرٌ لِلَبْرَارِ(‪ )198‬وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُ ْم َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِمْ خَا ِ‬ ‫لِلّهِ ل يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً أُولَ ِئكَ َلهُمْ َأجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِهمْ إِنّ اللّهَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى الشيخان عن ابن عباس‪ :‬أنه نام ليلة عند خالته ميمونة‪ ،‬قال‪ :‬فتحدث رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد‪ ،‬فلما كان ثلث الليل الخر قعد فنظر في السماء فقال‪{ :‬إنّ في‬ ‫خَلْق السَموَات} اليات‪ ،‬ثم قام فتوضأ‪ ،‬واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة‪ ،‬ثم أذن بلل‪ ،‬فصلى‬ ‫ركعتين‪ ،‬ثم خرج فصلى بالناس الصبح‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده حديث عائشة الصحيح‪" :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يذكر ال على كل أحيانه"‪.‬‬

‫( ‪)1/428‬‬ ‫سَرِيعُ الْحِسَابِ(‪ )199‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا َوصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ(‬ ‫‪})200‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل َيغُرّ ّنكَ} ‪ :‬ل يكن منك اغترار‪ ،‬المخاطب الرسول صلى ال عليه وسلم والمراد أصحابه‬ ‫وأتباعه‪.‬‬ ‫{ َتقَّلبُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِلدِ} ‪ :‬تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والموال والمآكل والمشارب‪.‬‬ ‫{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} ‪ :‬تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواما وينتهي‪.‬‬ ‫جهَنّمُ} ‪ :‬مآلهم بعد التمتع القليل إلى جهنم يأوون إليها فيخلدون فيها أبدا‪.‬‬ ‫{مَ ْأوَاهُمْ َ‬ ‫{نُ ُزلً مِنْ عِنْدِ اللّهِ} ‪ :‬النزل‪ :‬ما يعد للضيعف من قرى‪ :‬طعام وشراب وفراش‪.‬‬

‫البرار ‪ :‬جمع بار‪ ،‬وهو المطيع ل ولرسوله الصادق في طاعته‪.‬‬ ‫{ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُمْ} ‪ :‬القرآن والسنة‪ ،‬وما أنزل إليهم؛ التوراة والنجيل‪.‬‬ ‫شعِينَ لِلّهِ} ‪ :‬مطيعين مخبتين له عز وجل‪.‬‬ ‫{خَا ِ‬ ‫{ل يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً} ‪ :‬ل يجحدون أحكام ال وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع‬ ‫تحصل لهم‪.‬‬ ‫{اصْبِرُوا َوصَابِرُوا ‪ : }1‬الصبر‪ :‬حبس النفس على طاعة ال ورسولهن والمصابرة‪ :‬الثبات‬ ‫والصمود أمام العدو‪.‬‬ ‫{وَرَابِطُوا} ‪ :‬المرابطة‪ :‬لزوم الثغور منعا للعدو من التسرب إلى ديار المسلمين‪.‬‬ ‫{ ُتفْلِحُونَ} ‪ :‬تفوزون بالظفر المرغوب‪ ،‬والسلمة من المرهوب في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصبر المأمور به له مواطن ثلثة‪ :‬وهي صبر على الطاعات‪ ،‬وصبر دون المعاصي‪ ،‬وصبر‬ ‫على البلء‪ .‬فل جزع ول تسخط‪ ،‬ولكن رضا وتسليما‪.‬‬

‫( ‪)1/429‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينهى ال تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه المة في شخصية نبيهم صلى ال عليه وسلم أن‬ ‫يغرهم ‪ ،1‬أي‪ :‬يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرباح وما‬ ‫يتمتعون به من مطاعم ومشارب ومراكب‪ ،‬فيظنوا أنهم على هدى أو أن ال تعالى راضٍ عنهم‬ ‫وغير ساخط عليهم‪ ،‬ل‪ ،‬ل‪ ،‬إنما هو متاع في الدنيا قليل‪ ،‬ثم يردون إلى أسوأ مأوى وشر قرار إنه‬ ‫جهنم التي طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصي‪ ،‬وبئس المهاد مهدوه لنفسهم الخلود في‬ ‫جهنم‪ .‬هذا معنى اليتين الولى والثانية وهما قوله تعالى‪{ :‬ل َيغُرّ ّنكَ َتقَّلبُ‪ 2‬الّذِينَ كَفَرُوا فِي‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ} ‪ ،‬أما الية الثالثة (‪ ،)198‬وهي قوله تعالى‪َ{ :‬لكِنِ‬ ‫الْبِلدِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَ ْأوَا ُهمْ َ‬ ‫الّذِينَ ا ّتقَوْا رَ ّبهُمْ َل ُهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا نُ ُزلً مِنْ عِنْدِ اللّ ِه َومَا عِنْدَ اللّهِ‬ ‫خَيْرٌ‪ 3‬لِلَبْرَارِ} فإنها قد تضمنت استدراكا حسنا وهو لما ذكر في الية قبلها مآل الكافرين وهو‬ ‫شر مآل جهنم وبئس المهاد‪ ،‬ذكر في هذه الية مآل المؤمنين وهو خير مآل‪{ :‬جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ‬ ‫تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا نُ ُزلً مِنْ عِنْدِ اللّهِ} ‪ ،‬وما عند ال تعالى من النعيم المقيم في دار السلم‬ ‫خير لهل اليمان والتقوى من الدنيا وما فيها فل يضرهم أن يكونوا فقراء‪ ،‬وأهل الكفر أغنياء‬ ‫موسرين‪ ،‬أما الية الرابعة(‪ )199‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَاب ِ‪َ 4‬لمَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ} الية‬ ‫فإنها تضمنت الرد اللهي على بعض المنافقين الذين أنكروا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫والمؤمنين صلتهم على النجاشي بعد موته‪ ،‬إذ قال بعضهم انظروا إلى محمد وأصحابه يصلون‬

‫على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم‪ ،‬وهم يريدون بهذا الطعن على رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم والمؤمنين فرد ال تعالى عليهم بقوله‪ { :‬وَإِنّ مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ} أي‪ :‬اليهود‬ ‫والنصارى لمن يؤمن بال‪ ،‬وما أنزل إليكم أيها المؤمنون‪ ،‬وما أنزل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬خير مما يتقلب فيه الكفار من متاع في الدنيا في الدنيا‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى في سبب نزول هذه الية‪ :‬أن بعضا من المسلمين قالوا‪ :‬هؤلء الكفار لهم تجائر وأموال‪،‬‬ ‫واضطراب في البلد‪ ،‬وقد هلكنا نحن من الجوع‪ .‬فنزلت الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬الغر‪ ،‬والغرور‪ :‬هو الطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه لمن يطمع به‪ ،‬ويغرر‪ .‬وهو‬ ‫أيضا‪ :‬إظهار المر المضر في صورة النافع‪ ،‬وهو مشتق من الغرة‪ ،‬وهي الغفلة‪ .‬يقال‪ :‬رجل‬ ‫غر‪ ،‬إذا كان ينخدع لمن يخدعه‪ .‬وفي الحديث‪" :‬المؤمن غر كريم"‪.‬‬ ‫‪ 4‬ثبت في الصحيحين‪" :‬أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى ال عليه وسلم إلى أصحابه وقال‪:‬‬ ‫"إن أخا لكم بالحبشة قد مات‪ ،‬فصلوا عليه" ‪ ،‬فخرجوا إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه"‪ .‬وروى‬ ‫غير واحد عن أنس بن مالك أنه قال‪" :‬لما توفى النجاشي‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫استغفروا لخيكم‪ .‬فقال بعض الناس‪ :‬يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة‪{ :‬وإِنّ مِنْ أَهْل‬ ‫الكِتَاب‪ }...‬الية‪.‬‬

‫( ‪)1/430‬‬ ‫إليهم في التوراة والنجيل خاشعين ل‪ ،‬أي‪ :‬خاضعين له عابدين‪ ،‬ل يشترون بآيات ال ثمنا قليلً‬ ‫كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلم ال ويخفون منه ما يجب أن يظهروه ويبينوه حفاظا‬ ‫على منصب أو سمعة أو منفعة مادية‪ ،‬أما هؤلء وهم‪ :‬عبد ال بن سلم من اليهود وأصحمة‬ ‫النجاشي من النصارى‪ ،‬وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون حقا المستحقون للتكريم‬ ‫والنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم إياه يوم القيامة إن اله سريع الحساب‪،‬‬ ‫إذ يتم حساب الخلئق كلهم في مثل نصف يوم من أيام الدنيا‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الرابعة(‪ ،)199‬أما الية الخامسة والخيرة(‪ )200‬وهي قوله تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا‬ ‫الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا َوصَابِرُوا ‪ 1‬وَرَا ِبطُوا وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ} فإنها تضمنت دعوة كريمة‬ ‫ونصيحة غالية ثمينة للمة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر‬ ‫أعداءها حتى يُسلموا أو يسلموا القياد لها‪ .‬وترابط بخيولها وآلت حربها في حدودها وثغورها‬ ‫مرهبة عدوها حتى ل يطمع في غزوها ودخول ديارها‪ .‬ولتتق ال تقوى تكون سببا في فوزها‬ ‫وفلحها بهذه الرحمة الربانية ختمن سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والحكام وتليها سورة‬ ‫النساء‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تنبيه المؤمنين وتحذيره من الغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش‬ ‫فإن ذلك لم يكن عن رضى ال تعالى عنهم‪ ،‬وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة ال‬ ‫تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه‪.‬‬ ‫‪ -2‬ما أعد لهل اليمان والتقوى وهم البرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫‪ -3‬شرف مؤمني أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد ال بن سلم وأصحمة‬ ‫النجاشي‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المصابرة‪ :‬هي الصبر في وجه العدو الصابر‪ ،‬ومن هنا كانت المصابرة أشد من الصبر؛ لنها‬ ‫صبر في وجه عدو صابر‪ ،‬فأيهما لم يثبت على صبره هلك‪ ،‬وأصبح النجاح لطولهما صبرا‪ .‬قال‬ ‫زفر بن الحارث في اعتذاره عن النهزام‪:‬‬ ‫سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ‪...‬‬ ‫ولكنهم كانوا على الموت أصبرا‬

‫( ‪)1/431‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة ‪ 1‬للحصول على الفلح الذي هو الفوز‬ ‫المرغوب والسلمة من المرهوب في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المرابطة‪ :‬مصدر رابط رباطا إذا حبس نفسه في ثغر من ثغور المسلمين يحرسها من مداهمة‬ ‫العدو الكافر لها‪ ،‬وفضل الرباط عظيم‪ ،‬ووردت فيه أحاديث كثيرة‪ ،‬نكتفي منها بما يلي حديث‬ ‫البخاري‪" :‬رباط يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها" ‪ .‬وحديث مسلم‪" :‬رباط يوم وليلة خير‬ ‫من صيام شهر وقيامه" ‪ ،‬وإن مات مرابطا جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه‬ ‫وأمن الفتان‪.‬‬

‫( ‪)1/432‬‬ ‫سورة النساء‬ ‫‪...‬‬

‫سورة النساء‬ ‫مدنية ‪2‬‬ ‫وآياتها ‪ 176‬آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫جهَا وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا رِجَالً كَثِيرا‬ ‫س وَاحِ َد ٍة َوخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬ ‫وَنِسَا ًء وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ ِب ِه وَالَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْي ُكمْ َرقِيبا (‪})1‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{النّاسُ} ‪ :‬البشر‪ ،‬واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان‪.‬‬ ‫{ا ّتقُوا رَ ّبكُمُ} ‪ :‬خافوه إن يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه‪.‬‬ ‫ح َدةٍ‪ : }3‬هي آدم عليه السلم‪.‬‬ ‫س وَا ِ‬ ‫{مِنْ َنفْ ٍ‬ ‫جهَا} ‪ :‬خلق حواء من آدم من ضلعه ‪.4‬‬ ‫{وَخََلقَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬ ‫{وَ َبثّ} ‪ :‬نشر وفرق في الرض من آدم وزوجه رجالً ونساء كثيرا‪.‬‬ ‫{تَسَاءَلُونَ بِهِ} ‪ :‬كقول الرجل لخيه‪ :‬أسألك بال أن تفعل لي كذا‪.‬‬ ‫{وَالَرْحَامَ} ‪ :‬الرحام‪ :‬جمع رحم‪ ،‬والمراد من اتقاء الرحام صلتها وعدم قطعها‪.‬‬ ‫{ َرقِيبا} ‪ :‬الرقيب‪ :‬الحفيظ العليم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫لمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا} فإنها مكية‪ ،‬فإنها نزلت يوم الفتح في مكة‬ ‫‪ 2‬الية‪{ :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ ُتؤَدّوا ا َ‬ ‫في شأن عثمان بن طلحة الحجي‪.‬‬ ‫‪ 3‬لفظ النفس‪ :‬مؤنث قال تعالى‪{ :‬قَدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا} أي‪ :‬النفس‪ ،‬ولذا وصفت هنا بواحدة ل‬ ‫بواحد‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال قتادة‪" :‬خلقت حواء من قصيراء آدم‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬المرأة من ضلع‪. "...‬‬

‫( ‪)1/432‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ينادي الرب تبارك وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم‪{ :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ} ويأمرهم بتقواه‬ ‫عز وجل وهي اتقاء عذابه في الدنيا والخرة بالسلم التام إليه ظاهرا وباطنا‪ .‬واصفا نفسه تعالى‬ ‫بأنه ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة وهي آدم الذي خلقه من طين‪ ،‬وخلق من تلك النفس زوجها‬ ‫‪ 1‬وهي حواء‪ ،‬وأنه تعالى بث منهما أي‪ :‬نشر منهما في الرض رجالً كثيرا ونساء كذلك ثم‬ ‫كرر المر بالتقوى‪ ،‬إذ هي ملك المر‪ ،‬فل كمال ول سعادة بدون اللتزام بها قائلً‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ‬ ‫‪ 2‬الّذِي تَسَاءَلُونَ بِ ِه وَالَرْحَامَ‪ }3‬أي‪ :‬اتقوا ال ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد أحدكم من‬

‫أخيه شيئا قال له أسألك بال إل أعطيتني كذا‪ ...‬واتقوا الرحام ‪ 4‬أن تقطعوها فإن في قطعها‬ ‫فسادا كبيرا وخللً عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم‪ ،‬وتوعدهم تعالى إن لم يمتثلوا أمره بتقواه‬ ‫ولم يصلوا أرحامهم بقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْيكُمْ َرقِيبا} مراعيا لعمالكم محصيا لها حافظا يجزيكم‬ ‫بها أل أيها الناس فاتقوه‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل هذه الي إذ كان النبي صلى ال عليه وسلم خطب في حاجة تل آية آل عمران‪{ :‬يَا‬ ‫حقّ ُتقَاتِ ِه وَل َتمُوتُنّ إِل وَأَنْتُمْ ُمسِْلمُون} ‪ .‬وتل هذه الية‪ ،‬ثم آية‬ ‫أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َ‬ ‫عمَاَلكُمْ وَ َيغْفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُمْ‬ ‫الحزاب {يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َوقُولُوا َق ْولً سَدِيدا ُيصْلِحْ َلكُمْ أَ ْ‬ ‫عظِيما} ‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أما بعد ويذكر حاجته‪.‬‬ ‫َومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزا َ‬ ‫‪ -2‬أهمية المر بتقوى ال تعالى إذا كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب صلة الرحام وحرمة قطعها‪.‬‬ ‫‪ -4‬مراعاة الخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملت‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفصيح هو‪ :‬لفظ زوج‪ ،‬ولذا لم يرد في القرآن بالتاء قط‪ ،‬وتساهل فيه الفقهاء لجل التفرقة بين‬ ‫الرجل والمرأة‪ ،‬ولهذا يقولون للزوج كذا‪ ،‬وللزوجة كذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬التيان باسم الجللة هنا‪{ :‬واتقوا ال} بدل‪ :‬اتقوا ربكم من أجل تربية المهابة في نفس السامعين‬ ‫لن المقام مقام تشريع فل بد من إعداد النفوس لقبوله والنهوض به‪.‬‬ ‫‪ 3‬الرحام‪ :‬معطوف على اسم الجللة منصوب‪ ،‬أي‪ :‬اتقوا ال أن تعصوه‪ ،‬والرحام أن‬ ‫تعطعوها‪ .‬وقرئ‪ :‬الرحام بالجر عطفا على الضمير في به‪ ،‬وهو قبيح‪ .‬إذ ل يعطف على‬ ‫الضمير المجرور إل إذا أعيد حرف الجر إل ما كان ضرورة الشعر؛ كقول القائل‪:‬‬ ‫فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ‪ ...‬فاذهب فما بك واليام من عجب‬ ‫وعظم القبح؛ لن في ذلك حلف بالرحم‪ ،‬والحلف بغير ال حرام‪.‬‬ ‫‪ 4‬الرحام‪ :‬اسم لكل القارب من غير فرق بين المحرم وغيره‪ ،‬وصلة الرحم واجبة إجماعا‪ ،‬وفي‬ ‫الحديث‪" :‬صلي أمك" أمر لسماء‪ ،‬وأمها كانت يومئذ كافرة‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من ملك‬ ‫ذا رحم محرم فقد عتق عليه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/433‬‬ ‫ب وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوبا‬ ‫{وَآتُوا الْيَتَامَى َأ ْموَاَلهُ ْم وَل تَتَ َبدّلُوا ا ْلخَبِيثَ بِالطّ ّي ِ‬ ‫خفْتُمْ أَل ُتقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَا ْن ِكحُوا مَا طَابَ َلكُمْ مِنَ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلثَ وَرُبَاعَ‬ ‫كَبِيرا(‪ )2‬وَإِنْ ِ‬

‫خفْتُمْ أَل َتعْ ِدلُوا َفوَاحِ َدةً َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ ذَِلكَ أَدْنَى أَل َتعُولُوا(‪ )3‬وَآتُوا النّسَا َء صَ ُدقَا ِتهِنّ‬ ‫فَإِنْ ِ‬ ‫شيْءٍ مِنْهُ َنفْسا َفكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا(‪})4‬‬ ‫نِحَْلةً فَإِنْ طِبْنَ َلكُمْ عَنْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الْيَتَامَى} ‪ :‬جمع يتيم ذكرا كان أو أنثى‪ ،‬وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم‪.‬‬ ‫{وَل تَتَبَدّلُوا ا ْلخَبِيثَ بِالطّ ّيبِ} ‪ :‬الخبيث‪ :‬الحرام‪ ،‬والطيب‪ :‬الحلل‪ ،‬والمراد بها هنا الرديء‬ ‫والجيد‪.‬‬ ‫{حُوبا كَبِيرا} ‪ :‬الحوب‪ :‬الثم العظيم‪.‬‬ ‫{أَل ُتقْسِطُوا ‪ : }1‬أن ل تعدلوا‪.‬‬ ‫ث وَرُبَاعَ} ‪ :‬أي‪ :‬اثنتين أو ثلث‪ ،‬أو أربع إذ لتحل الزيادة على الربع ‪.2‬‬ ‫{مَثْنَى وَثُل َ‬ ‫{َأدْنَى أَل َتعُولُوا} ‪ :‬أقرب أن ل تجوروا بترك العدل بين الزوجات‪.‬‬ ‫{صَ ُدقَا ِتهِنّ ِنحْلَةً‪ : }3‬جمع صدقة‪ ،‬وهي الصداق والمهر‪ ،‬ونحلة بمعنى فريضة واجبة‪.‬‬ ‫{هَنِيئا} ‪ :‬الهنيء‪ :‬ما يستلذ به عند أكله‪.‬‬ ‫{مَرِيئا} ‪ :‬المريء‪ :‬ما تحسن عاقبته بأن ل يعقب آثارا سيئة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫خفْتُمْ أَل ُتقْسِطُوا} إلى قوله‪{ :‬وَرُبَاعَ} ‪ ،‬قالت‬ ‫‪ 1‬روى مسلم عن عائشة في قوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ ِ‬ ‫لعروة‪" :‬يا ابن أختي‪ :‬هى اليتيمة‪ ،‬تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها‬ ‫فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره‪ ،‬فنهوا أن‬ ‫ينكحوهن إل أن يقسطوا ويبلغوا بهن سنتهن من الصداق‪ ،‬وأمره أن ينكحوا ما طاب لهم" الحديث‪.‬‬ ‫‪ 2‬استبنط من إباحة أربع أن الزوج عليه أن يبيت مع زوجته ليلة من أربع‪ ،‬ول يجوز التقصير‬ ‫في ذلك إل برضاها‪.‬‬ ‫‪ 3‬وبنو تميم‪ ،‬يقولون‪ :‬صُدقة بضم الصاد‪ ،‬والجمع‪ :‬صدقات‪ .‬والنحلة‪ :‬بكسر النون وضمها‪،‬‬ ‫أصلها‪ :‬العطاء‪ ،‬يقال‪ :‬نحلة نحله كذا أعطاه‪ .‬فالصداق عطية من ال للمرأة‪ ،‬وما دام عطية ال‪،‬‬ ‫فهي إذا فريضة واجبة‪.‬‬

‫( ‪)1/434‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أمر تعالى بصلة الرحام وحرم قطعها في الية السابقة أمر في هذه الية أوصياء اليتامى أن‬ ‫يعطوا اليتامى ‪ 1‬أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وَآتُوا الْيَتَامَى‬ ‫َأ ْموَاَلهُمْ} ‪ .‬ونهاهم محرما عليهم أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى‪:‬‬ ‫{وَل تَتَبَدّلُوا ا ْلخَبِيثَ} ‪ ،‬أي‪ :‬الرديء من أموالكم بالطيب من أموالهم‪ ،‬مل في ذلك من أذية اليتيم‬

‫في ماله‪ ،‬ونهاهم أيضا أن يأكلوا أموال يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال التيم‬ ‫بغير حق فقال تعالى‪{ :‬وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ‪ 2‬إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ} ‪ ،‬وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عز‬ ‫وجل‪{ :‬إنه} أي‪ :‬الكل {كَانَ حُوبا كَبِيرا} والحوب الثم‪ .‬هذا معنى الية الولى(‪{ )2‬وَآتُوا الْيَتَامَى‬ ‫ب وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوبا‪ 4‬كَبِيرا} ‪ ،‬وأما‬ ‫‪َ 3‬أ ْموَاَلهُمْ وَل تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّ ّي ِ‬ ‫الية الثانية(‪ )3‬فقد أرشد ال تعالى أولياء اليتيمات أن هم خافوا أن ل يعدلوا معهن إذا تزوج‬ ‫أحدهم وليته أرشدهم أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى‪ ،‬وثلث ورباع ‪.5‬‬ ‫يريد اثنتين أو ثلث أو أربع كل بحسب قدرته‪ ،‬فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها‬ ‫خفْتُمْ أَل ُتقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَا ْنكِحُوا مَا طَابَ َلكُمْ مِنَ‬ ‫آكد لقرابتها‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ ِ‬ ‫خفْتُمْ أَل َت ْعدِلُوا َفوَاحِ َدةً َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ} يريد تعالى‬ ‫ث وَرُبَاعَ} ‪ .‬وقوله‪{ :‬فَإِنْ ِ‬ ‫النّسَاءِ مَثْنَى وَثُل َ‬ ‫وإن خاف المؤمن أل يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ول يزد عليها غيرها أو يتسرى‬ ‫بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب إلى أن ل يجور المؤمن ويظلم نساءه‪ .‬هذا معنى قوله‬ ‫خفْتُمْ أَل َت ْعدِلُوا َفوَاحِ َدةً َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ ذَِلكَ أَدْنَى أَل َتعُولُوا} ‪ .‬وفي الية الرابعة‬ ‫تعالى‪ { :‬فَإِنْ ِ‬ ‫والخيرة يأمر تعالى بأن يعطوا النساء مهورهن فريضة منه تعالى فرضها على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا باعتبار ما كانوا عليه‪ ،‬أما اليوم فليسوا يتامى‪ ،‬إذ ل يتم مع البلوغ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬إلى هنا بمعنى مع‪ ،‬وهو سائغ إلى أنها على بابها أولى والتقدير ول تأكلوا أمواله مضافة‬ ‫إلى أموالكم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬أعطوا‪ ،‬يقال‪ :‬أتاه كذا‪ ،‬أعطاه إياه واليتاء مصدر العطاء‪ ،‬ويقال لفلن‪ :‬أتوا‪ ،‬أي‪ :‬عطاء‪،‬‬ ‫ويقال‪ :‬أتوت الرجل أتوه إيتاوه وهي الرشوة‪ ،‬وليتاء اليتامى أموالهم صورتان‪ :‬الولى‪ :‬غذائهم‬ ‫وكساؤهم ما داموا تحت الولية‪ ،‬والثانية‪ :‬دفع أموالهم إليهم‪ ،‬وذلك عند البلوغ والرشد‪.‬‬ ‫‪ 4‬الحوب‪ :‬الثم‪ ،‬وفيه لغات‪ :‬الحوب بضم الحاء‪ ،‬والحوب بفتحها‪ ،‬والحيابة والحاب أيضا‪ ،‬وهو‬ ‫ل وقالً‪ ،‬ويكون الحوب بالضم بمعنى الوحشة‪ ،‬ومنه قوله صلى ال‬ ‫مصدر كالقال من قال‪ :‬قو ً‬ ‫عليه وسلم لبي أيوب‪" :‬إن طلق أم أيوب لحوب" ‪ ،‬والحوبة‪ :‬الثم ومنه‪ :‬اللهم اغفر حوبتي‪،‬‬ ‫والحوبة‪ :‬الحاجة‪ ،‬ومنه‪ :‬إليك أرفع حوبتي‪ ،‬أي‪ :‬حاجتي‪ .‬هذا في الدعاء‪.‬‬ ‫ث وَرُبَاعَ} أن ينكح الرجل اثنتين أو ثلثا‬ ‫‪ 5‬الجماع على أن المراد من قوله تعالى‪{ :‬مَثْنَى وَثُل َ‬ ‫أو أربعا على التخيير‪ ،‬وليس معناه الجمع بين تسع نساء‪ ،‬ومن فعل وهو عالم يحد بالرجم‪ ،‬وإن‬ ‫كان جاهلً يحد بالجلد‪.‬‬

‫( ‪)1/435‬‬

‫الرجل لمرأته‪ ،‬فل يحل له ول لغيره أن يأخذ منها شيئا إل يرضى الزوجة فإن هي رضيت فل‬ ‫شيْءٍ مِنْهُ َنفْسا َفكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا} ‪.‬‬ ‫حرج في الكل من الصداق لقوله تعالى‪{ :‬فَإِنْ طِبْنَ َلكُمْ عَنْ َ‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪-1‬كل مال حرام فهو خبيث‪ ،‬وكل حلل فهو طيب‪.‬‬ ‫‪-2‬ل يحل للرجل أن يستبدل جيدا من مال يتيمه بمال رديء من ماله؛ كأن يأخذ شاة سمينة‬ ‫ويعطيه هزيلة أو يأخذ تمرا جيدا ويعطيه رديئا خسيسا‪.‬‬ ‫‪-3‬ل يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلن جميعا لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما‪.‬‬ ‫‪-4‬جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع المن من الحيف والجور‪.‬‬ ‫‪-5‬وجوب مهور النساء وحرمة الكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج‪،‬‬ ‫وهو المقصود في الية أو الب والقارب‪.‬‬ ‫ج َعلَ اللّهُ َلكُمْ قِيَاما وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُ ْم َوقُولُوا َلهُمْ َق ْولً‬ ‫سفَهَاءَ َأ ْموَاَلكُمُ الّتِي َ‬ ‫{وَل ُتؤْتُوا ال ّ‬ ‫َمعْرُوفا(‪ )5‬وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى ِإذَا بََلغُوا ال ّنكَاحَ فَإِنْ آ َنسْتُمْ مِ ْنهُمْ ُرشْدا فَا ْد َفعُوا إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُ ْم وَل‬ ‫ف َومَنْ كَانَ َفقِيرا فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ فَإِذَا‬ ‫تَ ْأكُلُوهَا إِسْرَافا وَبِدَارا أَنْ َيكْبَرُوا َومَنْ كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْ َت ْعفِ ْ‬ ‫ش ِهدُوا عَلَ ْيهِ ْم َو َكفَى بِاللّهِ حَسِيبا(‪})6‬‬ ‫َد َفعْتُمْ إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ فَأَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَل ُتؤْتُوا ‪ : }1‬ل تعطوا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل على مشروعية الحجر على السفيه‪ ،‬وسواء كان السفه لصغر أو لخفة عقل أو‬ ‫عدم رشيد‪.‬‬

‫( ‪)1/436‬‬ ‫سفَهَاءَ} ‪ :‬جمع سفيه‪ ،‬وهو من ل يحسن التصرف في المال‪.‬‬ ‫{ال ّ‬ ‫{قِيَاما‪ : }1‬القيام‪ :‬ما يقوم به الشيء‪ ،‬فالموال جعلها ال تعالى قياما‪ ،‬أي‪ :‬تقوم عليها معايش‬ ‫الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضا‪.‬‬ ‫{ َق ْولً َمعْرُوفا} ‪ :‬أي‪ :‬قولً تطيب ‪ 2‬به نفسه فل يغضب ول يحزن‪.‬‬ ‫{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ‪ :‬أي‪ :‬اختبروهم كي تعرفوا هل أصبحوا يحسنون التصرف في المال‪.‬‬ ‫{بََلغُوا ال ّنكَاحَ} ‪ :‬أي‪ :‬سن الزواج‪ ،‬وهي البلوغ‪.‬‬ ‫{آنَسْتُمْ} ‪ :‬أبصرتم الرشد في تصرفاتهم ‪.3‬‬ ‫{ِإسْرَافا وَبِدَارا} ‪ :‬السراف‪ :‬النفاق في غير الحاجة الضرورية‪ ،‬والبدار‪ :‬المبادرة والمسارعة إلى‬

‫الكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده‪.‬‬ ‫{فَلْيَسْ َت ْع ِففْ} ‪ :‬أي‪ :‬يعف بمعنى يكف عن الكل من مال يتيمه‪.‬‬ ‫{فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ} ‪ :‬أي‪ :‬بقدر الحاجة الضرورية‪.‬‬ ‫{ َو َكفَى بِاللّهِ حَسِيبا} ‪ :‬شاهدا لقرينة فأشهدوا عليهم‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في إرشاد ال تعالى عباده المؤمنين إلى ما فيه خيرهم وصلحهم في الدنيا‪،‬‬ ‫س َفهَاءَ َأ ْموَاَلكُمُ الّتِي‬ ‫ونجاتهم وفلحهم في الخرة فقال تعالى في الية الولى (‪{ )5‬وَل ُتؤْتُوا ال ّ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ َلكُمْ قِيَاما وَارْ ُزقُوهُمْ‪ 4‬فِيهَا وَاكْسُوهُ ْم َوقُولُوا َلهُمْ َق ْولً َمعْرُوفا} ‪ ،‬فنهاهم تعالى أن يعطوا‬ ‫َ‬ ‫أموالهم التي هي قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه‪ ،‬وهو قلة‬ ‫البصيرة بالمور المالية‪ ،‬والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها‪ ،‬أو‬ ‫يفسدوها بأي نوع من الفساد‪ ،‬كالسراف ونحوه‪ ،‬وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم‪ ،‬وقال فيها‬ ‫ولم يقل منها إشارة إلى أن المال ينبغي في تجارة أو صناعة أو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قياما‪ :‬أصلها‪ :‬قواما‪ ،‬فكسر ما قبل الواو فقلبت ألفا قياما وقواما بمعنى واحد‪ ،‬والقيام والقوام ما‬ ‫يقيم غيره‪ ،‬فالموال بها يتقوم المعاش‪ ،‬ولذا قيل‪ :‬ا لموال قوام العمال‪.‬‬ ‫‪ 2‬كقوله لولد‪ :‬مالي إليك صائر‪ ،‬وكأن يدعو لهم‪ :‬بارك ال فيكم‪ ،‬أو يقول‪ :‬هذا مالكم احفظه لكم‬ ‫لتأخذوه يوم ترشدون‪.‬‬ ‫‪ 3‬دفع مال اليتيم إليه يتم بشرطين‪ :‬الرشد والبلوغ‪ .‬فإن وجد أحدهما دون الخر فل يتم تسليم‬ ‫المال‪.‬‬ ‫‪ 4‬في هذه الية دليل على مشروعية الوصاية والولية والكفالة على اليتام وبها دليل على وجوب‬ ‫النفقة على الزوجة والولد‪ ،‬وفي الصحيح‪" :‬إفضل الصدفة ما ترك غني‪ ،‬واليد العليا خير من‬ ‫اليد السفلى وابدأ بمن تعول" وهم الزوجة والولد والعبد‪.‬‬

‫( ‪)1/437‬‬ ‫زراعة فيبقى رأس المال والكل يكون من الربح فقط‪ ،‬كما أمرهم أن يقولوا لسفائهم الذين منعوهم‬ ‫ل معروفا؛ كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى‪ ،‬أما‬ ‫المال أن يقولوا لهم قو ً‬ ‫الثانية (‪ )6‬فقد أمرهم تعالى باختبار ‪ 1‬اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ ‪ 2‬بأن يعطوا‬ ‫شيئا من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو يشتروا فإذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا إليهم‬ ‫أموالهم وأشهدوا عليهم‪ ،‬حتى ل يقول أحدهم في يوم من اليام ما أعطيتني مالي‪َ { ،‬وكَفَى بِاللّهِ‬ ‫حسِيبا} أي‪ :‬شاهدا ورقيبا حفيظا‪ .‬ونهاهم عز وجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن‬ ‫َ‬

‫يكبروا ويريد ل تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولة والوصياء ‪ 3‬بطريق السراف‪ ،‬وهو النفاق‬ ‫الزائد على قدر الحاجة‪ ،‬والمبادرة هي المسارعة قبل أن يرشد السفيه وينقل إليه المال‪ .‬ثم‬ ‫أرشدهم إلى أقوم الطرق وأسدها في ذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَنْ كَانَ غَنِيّا} فليكف عن مال اليتيم ول يأكل‬ ‫منه شيئا‪َ { ،‬ومَنْ كَانَ فَقِيرا فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ} وذلك بأن يستقرض منه ثم يرده إليه بعد الميسرة‪،‬‬ ‫وإن كان الولي فقيرا جاز له أن يعمل بأجر كسائر العمال‪ ،‬وإن كان غنيا فليعمل مجانا احتسابا‬ ‫وأجره على ال‪ ،‬وال ل يضيع أجر من أحسن عمل‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحباب تنمية الموال في الوجه الحلل لقرينة {وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا} ‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه‪ ،‬إذ ل يدفع إليه المال إل بعد وجود الرشد‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه ورشده‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقا‪.‬‬ ‫‪ -6‬الوالي على اليتيم إن كان غنيا فل يأكل من مال اليتيم شيئا‪ ،‬وإن كان فقيرا استقرض ورد‬ ‫عند الوجد واليسار‪ ،‬وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للوفي أن يعمل بأجرة‬ ‫المثل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا الية نزلت في ثابت بن رفاعة‪ ،‬وفي عمه‪ ،‬وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه وهو صغير‪،‬‬ ‫فأتى عم ثابت إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬إن أبن أخي في حجري‪ ،‬فما يحل لي من‬ ‫ماله‪ ،‬ومتى أدفع إليه ماله؟‪ .‬فأنزل ال تعالى هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬يعرف البلوغ بالحتلم وإنبات شعر العانة‪ ،‬أو بلوغ ثمانية عشر سنة‪ ،‬هذا للغلم‪ .‬أما الجارية‬ ‫فتزيد بعلمة أخرى هي الحيض والحمل‪.‬‬ ‫‪ 3‬العاجز عن الوصاية لجهل أو عدم قدرته أو ضعف أرادته ينبغي له أن ل يلي مال يتيم أو‬ ‫قاصر لقول الرسول صلى ال عليه وسلم لبي ذر‪ " :‬يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما‬ ‫أحب لنفسي لتأمرن على اثنين ول تلينّ مال يتيم" رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/438‬‬ ‫لقْرَبُونَ ِممّا َقلّ‬ ‫ن وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَانِ وَا َ‬ ‫ن وَالَقْرَبُو َ‬ ‫{لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَالِدَا ِ‬ ‫سمَةَ أُولُو ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينُ فَارْ ُزقُوهُمْ مِنْهُ‬ ‫حضَرَ ا ْلقِ ْ‬ ‫مِنْهُ َأوْ كَثُرَ َنصِيبا َمفْرُوضا(‪ )7‬وَإِذَا َ‬ ‫ضعَافا خَافُوا عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُوا اللّهَ‬ ‫َوقُولُوا َلهُمْ َق ْولً َمعْرُوفا(‪ )8‬وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُوا مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ‬

‫سدِيدا(‪ )9‬إِنّ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ظُلْما إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ نَارا‬ ‫وَلْيَقُولُوا َقوْلً َ‬ ‫سعِيرا (‪})10‬‬ ‫وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َنصِيبٌ} ‪ :‬الحظ المقدر ‪ 1‬في كتاب ال‪.‬‬ ‫{ا ْلوَاِلدَانِ} ‪ :‬الب والم‪.‬‬ ‫لقْرَبُونَ} ‪ :‬جمع قريب‪ ،‬وهو هنا الوارث بنسب أو مصاهرة أو ولء‪.‬‬ ‫{وَا َ‬ ‫{ َنصِيبا َمفْرُوضا} ‪ :‬قدرا واجبا لزما‪.‬‬ ‫{أُولُو ا ْلقُرْبَى} ‪ :‬أصحاب القرابات الذين ل يرثون لبعدهم عن عمودي النسب‪.‬‬ ‫{فَارْ ُزقُوهُمْ مِ ْنهُ} ‪ :‬أعطوهم شيئا يرزقونه‪.‬‬ ‫{ َق ْولً َمعْرُوفا} ‪ :‬ل إهانة فيه ول عتاب‪،‬ول تأفيف‪.‬‬ ‫الخشية ‪ :‬الخوف في موضع المن‪.‬‬ ‫{ َق ْولً سَدِيدا} ‪ :‬عدلً‪ 2‬صائبا‪.‬‬ ‫{ظُلْما} ‪ :‬بغير حق يخول لهم أكل مال اليتيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا النصيب الذي أوجبه ال للورثة مجمل وسيأتي تفصيله في آية‪{ :‬يُوصِيكُم ال فيِ َأوْلدكم}‬ ‫الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬القول السديد هو قول النبي صلى ال عليه وسلم لسعد ابن أبي وقاص‪ ،‬وقد مرض مرضا شديدا‬ ‫فعاده رسول ال صلى ال عليه وسلم فيه‪ ،‬فقال سعد‪ :‬يا رسول ال إني ذو مال ول يرثني إل ابنة‬ ‫أفأتصدق بثلث مالي؟ قال‪" :‬ل" قال‪ :‬فشطره؟ قال‪" :‬ل" قال‪ :‬فالثلث؟ قال‪" :‬الثلث والثلث كثير"‪ .‬ثم‬ ‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون‬ ‫الناس "‪.‬‬

‫( ‪)1/439‬‬ ‫سعِيرا} ‪ :‬سيدخلون سعيرا نارا مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها‪.‬‬ ‫{وَسَ َيصَْلوْنَ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقد كان أهل الجاهلية ل يورثون النساء ول الطفال بحجة أن الطفل كالمرأة ل تركب فرسا ول‬ ‫ل ول تنكي عدوا‪ ،‬يكسب ‪ 1‬ول تكسب‪ ،‬وحدث وحدث أن امرأة يقال لها‪ :‬أم كحة‪ ،‬مات‬ ‫تحمل ك ً‬ ‫زوجها وترك لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الرث فشكت‪ :‬أم كحة إلى ‪ 2‬رسول ال صلى ال‬ ‫ن وَلِلنّسَاءِ‬ ‫لقْرَبُو َ‬ ‫ن وَا َ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فنزلت هذه الية الكريمة‪{ :‬لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَاِلدَا ِ‬ ‫لقْرَبُونَ} ‪ ،‬ومن ثم أصبحت المرأة؛ كالطفل الصغير يرثان كالرجال‪،‬‬ ‫ن وَا َ‬ ‫َنصِيبٌ ِممّا تَ َركَ ا ْلوَاِلدَا ِ‬

‫وقوله تعالى‪ِ { :‬ممّا َقلّ مِنْهُ} أي‪ :‬من المال المتروك {َأوْ كَثُرَ} حال كون ذلك نصيبا مفروضا لبد‬ ‫من إعطائه الوارث ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو كبيرا‪ .‬والمراد من الوالدين‪ :‬الب والم‪،‬‬ ‫القربون ‪3‬؛ كالبناء والخوان والبنات والخوات‪ ،‬والزوج والزوجات‪ ،‬هذا ما تضمنته ‪ 4‬الية‬ ‫الولى (‪ ،)7‬وأما الية الثانية(‪ )8‬فقد تضمنت فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون وهي أن من البر‬ ‫والصلة والمعروف إذا هلك هالك‪ ،‬وقدمت تركته للقسمة بين الورثة‪ ،‬وحضر قريب غير وارث‬ ‫لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف أن يعطوا شيئا من تلك التركة قبل قسمتها‬ ‫وإن تعذر العطاء؛ لن الورثة يتامى أو غير عقلء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم‬ ‫ومسكين بكلمة طيبة كاعتذار جميل تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الية الثانية وهي قوله‬ ‫سمَةَ أُولُو ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينُ فَارْ ُزقُوهُمْ مِنْهُ} أي‪ :‬من المال‬ ‫حضَرَ‪ 5‬ا ْلقِ ْ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَِإذَا َ‬ ‫المتروك { َوقُولُوا َلهُمْ َقوْلً َمعْرُوفا} إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل‪ .‬أما الية الثالثة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يكسب‪ ،‬أي‪ :‬الرجل‪ ،‬ول تكسب‪ ،‬أي‪ :‬المرأة‪.‬‬ ‫‪ 2‬فقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬انصرفا حتى أنظر ما يحدث ال لي فيهن" ‪ .‬فأنزل ال تعالى هذه‬ ‫ل لقولهم وتصرفهم الجاهلي‪ ،‬إذا المفروض أن الصغير والمرأة أولى‬ ‫الية ردا عليهم وإبطا ً‬ ‫بالرث لحاجتهما وخوفهما‪.‬‬ ‫‪ 3‬لفظ القربون مجمل‪ ،‬ومن هنا أرسل النبي صلى ال عليه وسلم إلى سويد وعرفجة‪" :‬أل يفرقا‬ ‫من مال أوس شيئا فإن ال جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا" ‪ .‬فنزلت‪:‬‬ ‫{يوصِيكم ال} الية‪ ،‬فأرسل إليهما أن أعطي أم محة الثمن مما ترك أوس‪ ،‬ولبناته الثلثين ولكما‬ ‫بقية المال‪.‬‬ ‫‪ 4‬قوله تعالى‪ِ { :‬ممّا َقلّ مِنْهُ َأوْ كَثُرَ َنصِيبا َمفْرُوضا} اختلف أهل العلم في الشيء يتركه الموروث‪،‬‬ ‫وهو ل يقبل كالدار الصغيرة‪ ،‬والجوهرة الواحدة‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬فذهب بعض إلى إنه لبد من‬ ‫القسمة‪ ،‬وذهب آخرون‪ ،‬وهو الحق إن شاء ال تعالى‪ :‬أن مالً يقبل القسمة لفساده يباع ويقسم ثمنه‬ ‫على الورثة ول شفعة فيه لنه ل تأتي فيه الحدود‪ ،‬والشفعة فيما يقسم وتوقع فيه الحدود‪ ،‬وهذا‬ ‫ليس كذلك لتعذر قسمته‪ ،‬ويشهد لهذا الرأي حديث الدارقطني‪ ،‬ونصه‪" :‬ل تعضيه" أي‪ :‬ل تفرقه‬ ‫على أهل الميراث إل ما حمل القسم‪ ،‬فقرر رسول ال صلى ال عليه وسلم أن مالً يقبل القسم ل‬ ‫يحوز تعضيته أي‪ :‬تفريقه على الورثة لنه يفسد بالقسمة فتعين أن يباع ويقسم ثمنه‪.‬‬ ‫‪ 5‬الجمهور على أن هذه الية منسوخة بأية‪{ :‬يُوصِيك ْم ال فيِ َأوْلدُكم} الية‪ ،‬وقال ابن عباس‪:‬‬ ‫"إنها محكمة" وعلى إنها غير منسوخة شرحناها في التفسير‪ ،‬فليتأمل‪.‬‬

‫( ‪)1/440‬‬

‫ضعَافا خَافُوا عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا‬ ‫وهي قوله تعالى‪{ :‬وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُوا مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ‬ ‫سدِيدا} ‪ ،‬فقد تضمنت إرشاد ال تعالى للمؤمن الذي يحضر مريضا على فراش الموت بأن ل‬ ‫َقوْلً َ‬ ‫يسمح له أن يحيف في الوصية بأن يوصي لوارث أو يوصي بأكثر من الثلث أو يذكر دينا ليس‬ ‫عليه‪ ،‬وإنما يريد حرمان الورثة‪ .‬فقال تعالى آمرا عباده المؤمنين {وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُوا مِنْ‬ ‫ضعَافا خَافُوا عَلَ ْي ِهمْ} ‪ ،‬أي‪ :‬فليخشوا هذه الحال على أولد‬ ‫خَ ْل ِفهِمْ} أي‪ :‬من بعد موتهم‪{ ،‬ذُرّيّ ًة ِ‬ ‫غيرهم ممن حضروا وفاته‪ .‬كما يخشونها على أولدهم‪ .‬إذا فعليهم أن يتقوا ال في أولد غيرهم‪.‬‬ ‫وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولً سديدا‪ :‬صائبا ل حيف فيه ول جور معه‪ .‬هذا ما‬ ‫تضمنته الية الثالثة (‪ ،)9‬أما الية الرابعة (‪ )10‬فقد تضمنت وعيدا شديدا لمن يأكل مال اليتيم‬ ‫ظلما‪ ،‬إذ قال تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَى ‪ 1‬ظُلْما إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ نَارا‬ ‫سعِيرا} ‪ .‬والمراد من الظلم أنهم أكلوها بغير حق أباح لهم ذلك كأجرة عمل ونحوه‪،‬‬ ‫وَسَ َيصَْلوْنَ‪َ 2‬‬ ‫ومعنى‪{ :‬يَ ْأكُلُونَ فِي بُطُو ِنهِمْ نَارا} إنهم يأكلون النار يوم القيامة‪ ،‬فقوله إنما يأكلون في بطونهم‬ ‫نارا هو باعتبار ما يؤول إليه أمر أكلهم اليوم‪ ،‬والعياذ بال من نار السعير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ التوارث في السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم ومسكين وإن تعذر إعطاؤهم‬ ‫صُرفوا بالكلمة الطيبة‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬الكلمة الطيبة صدقة" ‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب النصح والرشاد للمحتضر حتى ل يجور في وصيته عند موته‪.‬‬ ‫‪ -4‬على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره فإن ال تعالى يكفيه فيهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة أكل مال اليتامى ظلما‪ ،‬والوعيد الشديد فيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية دليل على أن أكل مال اليتيم بدون حق من كبائر الذنوب بل هو من الموبقات السبع‬ ‫لحديث الصيحح‪" :‬اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر الشرك‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬والربا‪ ،‬وأكل مال‬ ‫اليتيم‪ ،‬والتولي يوم الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ أبو حيوة‪{ :‬وسيُصلّون} بضم الياء وتشديد اللم من التصلية التي هي كثرة الفعل مرة بعد‬ ‫جحِيم صَلّوه} ‪ ،‬أي‪ :‬مرة بعد مرة‪ ،‬وعليه قول الشاعر‪:‬‬ ‫أخرى ومنه‪ { :‬ثُمّ الْ َ‬ ‫وقد تصليت حر حربهم ‪ ...‬كما تصلى المقرور من قرتين‬ ‫يريد أنه اكتوى بنار حربهم مرة بعد مرة كما يفعل من به البرد الشديد فإنه يستدفئ مرة بعد مرة‪.‬‬

‫( ‪)1/441‬‬

‫ك وَإِنْ‬ ‫ظ الُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنّ نِسَاءً َفوْقَ اثْنَتَيْنِ فََلهُنّ ثُلُثَا مَا تَ َر َ‬ ‫حّ‬ ‫{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬ ‫حدٍ مِ ْن ُهمَا السّ ُدسُ ِممّا تَ َركَ إِنْ كَانَ لَ ُه وََلدٌ فَإِنْ لَمْ َيكُنْ لَهُ‬ ‫ل وَا ِ‬ ‫ف َولَبَوَيْهِ ِل ُك ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫كَا َنتْ وَاحِ َدةً فََلهَا ال ّن ْ‬ ‫لمّهِ السّدُسُ مِنْ َب ْع ِد َوصِيّةٍ يُوصِي ِبهَا َأوْ دَيْنٍ‬ ‫خ َوةٌ فَ ُ‬ ‫لمّهِ الثُّلثُ فَإِنْ كَانَ َلهُ إِ ْ‬ ‫وَلَ ٌد َووَرِثَهُ أَ َبوَاهُ فَ ُ‬ ‫حكِيما(‪})11‬‬ ‫آبَا ُؤكُ ْم وَأَبْنَا ُؤكُمْ ل تَدْرُونَ أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ َل ُكمْ َنفْعا فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يُوصِيكُمُ} ‪ :‬يعهد إليكم‪.‬‬ ‫{فِي َأوْل ِدكُمْ} ‪ :‬في شأن أولدكم والولد يطلق على الذكر والنثى‪.‬‬ ‫{حَظّ} ‪ :‬الحظ‪ :‬الحصة أو النصيب‪.‬‬ ‫{نِسَاءً} ‪ :‬بنات كبيرات أو صغيرات‪.‬‬ ‫{ثُلُثَا مَا تَ َركَ} ‪ :‬الثلث‪ :‬واحد من ثلثة‪ ،‬والثلثان‪ :‬اثنان من ثلثة‪.‬‬ ‫{السّدُسُ} ‪ :‬واحد من ستة‪.‬‬ ‫{إِنْ كَانَ َل ُه وَلَدٌ} ‪ :‬ذكرا كان أو أنثى‪ ،‬أو كان له ولد ولدٍ أيضا ذكرا أو أنثى‪ ،‬فالحكم واحد‪.‬‬ ‫خ َوةٌ} ‪ :‬اثنان فأكثر‪.‬‬ ‫{فَإِنْ كَانَ َلهُ إِ ْ‬ ‫{مِنْ َبعْدِ وَصِيّةٍ} ‪ :‬أي يُخرجُ الدين ‪ 1‬ثم الوصية ويقسم الباقي على الورثة‪.‬‬ ‫{ل تَدْرُونَ} ‪ :‬ل تعلمون‪.‬‬ ‫{فَرِيضَةً‪ : }2‬فرض ال ذلك عليكم فريضة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يرى المام الشافعي أن من مات وعليه زكاة أو حج الفرض أن يخرج ذلك من ماله قبل قسمة‬ ‫التركة‪ ،‬وقال مالك‪ :‬إن أوصى به تنفذ تنفذ وصيته‪ ،‬وإن لم يوص فالمال للورثة‪ ،‬وهو أمره إلى‬ ‫ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬الفرائض ست‪ :‬وهي النصف‪ ،‬والربع‪ ،‬والثمن‪ ،‬والثلثان‪ ،‬والثلث‪ ،‬والسدس‪.‬‬

‫( ‪)1/442‬‬ ‫حكِيما} ‪ :‬عليما بخلقه وما يصلح لهم‪ ،‬حكيما في تصرفه في شؤون خلقه وتدبيره لهم‪.‬‬ ‫{عَلِيما َ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ظ الُنْثَيَيْنِ} إلخ‪ .‬والتي بعدها(‬ ‫حّ‬ ‫هذه الية الكريمة(‪{ )11‬يُوصِيكُمُ‪ 1‬اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ‪ 2‬لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬ ‫جكُمْ} إلخ‪ .‬نزلت لتفصيل حكم الية (‪ )7‬والتي‬ ‫صفُ مَا تَ َركَ أَ ْزوَا ُ‬ ‫‪ )12‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وََل ُكمْ ِن ْ‬ ‫تضمنت شرعية التوارث بين القارب المسلمين فالية الولى(‪ )11‬بين تعالى فيها توارث البناء‬ ‫ظ الُنْثَيَيْنِ}‬ ‫مع الباء‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ} أي‪ :‬في شأن أولدكم {لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ حَ ّ‬ ‫يريد إذا مات الرجل وترك أولدا ذكورا وإناثا فإن التركة تقسم على أساس للذكر مثل نصيب‬

‫النثيين‪ ،‬فلو ترك ولدا وبنتا وثلثة دنانير فإن الولد يأخذ دينارين‪ ،‬والبنت تأخذ دينارا‪ ،‬وإن ترك‬ ‫بنات اثنين أو أكثر ولم يترك معهن ذكرا فإن للبنتين فأكثر الثلثين‪ ،‬والباقي للعصبة‪ ،‬إذ قال تعالى‪:‬‬ ‫{فَإِنْ كُنّ ِنسَاءً َفوْقَ اثْنَتَيْنِ فََلهُنّ ثُلُثَا مَا تَ َركَ} ‪ .‬وإن ترك بنتا واحدة فإن لها النصف والباقي‬ ‫صفُ} ‪ ،‬وإن كان الميت قد ترك أبويه‪،‬‬ ‫ت وَاحِ َدةً فََلهَا ال ّن ْ‬ ‫للعصبة‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ كَا َن ْ‬ ‫أي‪ :‬أمه وأباه وترك أولدا ذكورا أو إناثا فإن لكل واحد من أبويه السدس والباقي للولد‪ ،‬وهو‬ ‫معنى قوله تعالى‪َ { :‬ولَ َبوَيْهِ ِل ُكلّ وَاحِدٍ مِ ْن ُهمَا السّدُسُ ِممّا تَ َركَ إِنْ كَانَ َل ُه وَلَدٌ} ‪ ،‬يريد ذكرا كان أو‬ ‫أنثى ‪ .3‬فإن لم يكن للهالك ولد ول وَل ْد ولَدٍ فلمه الثلث ‪ 4‬وإن كان له أخوة اثنان فأكثر فلمه‬ ‫لمّهِ السّدُسُ} ‪ .‬أي‪ :‬تسقط من الثلث ‪ 6‬إلى‬ ‫خ َوةٌ فَ ُ‬ ‫السدس ‪ ،5‬هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬فَإِنْ كَانَ لَهُ إِ ْ‬ ‫السدس وهذا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية مبينة لما أجمل في آية‪{ :‬للرجَال نَصيب‪ }..‬وتسمى آية المواريث وهي من أعظم‬ ‫اليات قدرا؛ لن علم الفرائض يعتبر ثلث العلم لقوله صلى ال عليه وسلم في رواية أبي داود‬ ‫وغيره‪" :‬العلم ثلثة وما سوى ذلك فهو فضل‪ :‬آية محكمة‪ ،‬أو سنة قائمة‪ ،‬أو فريضة عادلة" ‪.‬‬ ‫ومعنى محكمة غير منسوخة‪ ،‬ومعنى قائمة ثابتة صحيحة‪ ،‬ومعنى عادلة لم يخرج بها عن مراد‬ ‫ال تعالى منها‪ ،‬وذلك بإعطاء الوارث ما كتب ال له‪.‬‬ ‫‪ 2‬خرج من لفظ‪ :‬الولد الكافر لنه ل حق له في الرث؛ لن الكفر مانع‪ ،‬وذلك لقوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬ل يرث المسلم الكافر‪ ،‬ول الكافر المسلم" ‪ .‬كما خرج ميراث النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم لقوله‪" :‬إنا معاشر النبياء ل نورث ما تركناه صدقة" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذا كان الولد خنثى فإنه يورث من حيث يبول‪ ،‬إن بال من حيث يبول الرجال يورث إرث‬ ‫الذكر‪ ،‬وإن بال من حيث تبول النساء يورث إرث النساء‪ ،‬وإن أشكل ذلك يعطي نصف ميراث‬ ‫ذكر ونصف ميراث أنثى‪ .‬على هذا الجمهور‪.‬‬ ‫‪ 4‬هناك ما يعرف بالثلث الباقي‪ ،‬وهو أن تهلك هالكة وتترك زوجها وأبويها؛ فللزوج النصف‪،‬‬ ‫والباقي ثلثه للم‪ ،‬والثلثان للب‪ ،‬قرر هذا ابن عباس‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وقرره كافة الصحاب‪،‬‬ ‫وعليه الئمة‪ ،‬وحتى ل تأخذ المرأة أكثر من الرجل‪.‬‬ ‫‪ 5‬قيل في سر حجب الخوة لمهم من الثلث إلى السدس‪ :‬أن والدهم هو الذي يلي نكاحهم وهو‬ ‫الذي ينفق عليهم دون أمهم‪ .‬وهو رأي حسن‪.‬‬ ‫‪ 6‬الجدة ترث السدس ول ترث الثلث‪ ،‬كما ترثه الم إجماعا‪.‬‬

‫( ‪)1/443‬‬

‫يسمى بالحجب فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث إلى السدس‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬مِنْ َبعْ ِد َوصِيّةٍ‬ ‫يُوصِي ِبهَا َأوْ دَيْنٍ} يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى يكون بعد قضاء دين الميت‬ ‫وإخراج ما أوصى به إن كان الثلث فأقل وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬مِنْ َب ْع ِد َوصِيّةٍ يُوصِي ِبهَا َأوْ‬ ‫دَيْنٍ} ‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬آبَا ُؤكُ ْم وَأَبْنَا ُؤكُمْ ل تَدْرُونَ أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ َل ُكمْ َنفْعا} معناه‪ :‬نفذوا هذه الوصية‬ ‫المفروضة كما علمكم ال ول تحاولوا أن تفضلوا أحدا على أحد فإن هؤلء الوارثين آباؤكم‬ ‫وأبناؤكم ول تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا والخرة‪ ،‬ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بل‬ ‫محاباة فإن ال تعالى هو القاسم والمعطي عليم بخلقه وبما ينفعهم أو يضرهم حكيم في تدبيره‬ ‫لشؤونهم فليفوض المر إليه‪ ،‬وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن ال تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فل يحل لحد أن يغر منها شيئا‪.‬‬ ‫‪ -2‬الثنان يعتبران جمعا‪.‬‬ ‫‪ -3‬ولد الولد ‪ 1‬حكمه حكم الولد نفسه في الحجب‪.‬‬ ‫‪ -4‬الب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض وما بقي يرثه بالتعصيب لقوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فالولى رجل ذكر‪.‬‬ ‫ن وَلَدٌ فََل ُكمُ الرّبُعُ ِممّا تَ َركْنَ مِنْ َبعْدِ‬ ‫ن وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َلهُ ّ‬ ‫جكُمْ إِنْ لَمْ َيكُنْ َلهُ ّ‬ ‫صفُ مَا تَ َركَ أَ ْزوَا ُ‬ ‫{وََلكُمْ ِن ْ‬ ‫ن وََلهُنّ الرّبُعُ ِممّا تَ َركْتُمْ إِنْ لَمْ َيكُنْ َل ُك ْم وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َلكُمْ وَلَدٌ فََلهُنّ الّثمُنُ‬ ‫َوصِيّةٍ يُوصِينَ ِبهَا َأوْ دَيْ ٍ‬ ‫ِممّا تَ َركْتُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ‪ :‬الولد‪ ،‬يشمل المولود فعلً‪ ،‬والجنين في بطن أمه دنيا أو بعيدا من الذكور أو الناث على‬ ‫حد سواء‪.‬‬

‫( ‪)1/444‬‬ ‫ختٌ فَِل ُكلّ‬ ‫جلٌ يُو َرثُ كَللَةً َأوِ امْرََأ ٌة وَلَهُ أَخٌ َأوْ ُأ ْ‬ ‫ن وَإِنْ كَانَ رَ ُ‬ ‫مِنْ َبعْ ِد َوصِيّةٍ تُوصُونَ ِبهَا َأوْ دَيْ ٍ‬ ‫وَاحِدٍ مِ ْن ُهمَا السّدُسُ فَإِنْ كَانُوا َأكْثَرَ مِنْ ذَِلكَ َفهُمْ شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ مِنْ َبعْ ِد َوصِيّةٍ يُوصَى ِبهَا َأوْ‬ ‫حلِيمٌ(‪})12‬‬ ‫دَيْنٍ غَيْرَ ُمضَا ّر َوصِيّةً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ج ُكمْ} ‪ :‬الزواج هنا‪ :‬الزوجات‪.‬‬ ‫{أَ ْزوَا ُ‬ ‫{وَلَدٌ} ‪ :‬المراد هنا بالولد‪ :‬ابن الصلب ذكرا كان أو أنثى‪ ،‬وولد الولد مثله‪.‬‬ ‫{الرُّبعُ} ‪ :‬واحد من أربعة‪.‬‬

‫{كَللَةً‪ : }1‬الكللة أن يهلك هالك ول يترك ولدا ول والدا ويرثه إخوته لمه‪.‬‬ ‫ختٌ‪ : }2‬أي‪ :‬من الم‪.‬‬ ‫{وَلَهُ أَخٌ َأوْ أُ ْ‬ ‫{غَيْرَ ُمضَارّ} ‪ :‬بهما –أي‪ :‬الوصية والدين‪ -‬أحدا من الورثة‪.‬‬ ‫{حَلِيمٌ} ‪ :‬ل يعاجل بالعقوبة على المعصية‪.‬معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫كانت الية قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة‪ ،‬والوارثون‬ ‫جكُمْ} ‪ ،‬فمن ماتت وتركت‬ ‫صفُ مَا تَ َركَ أَ ْزوَا ُ‬ ‫بالمصاهرة‪ :‬الزوج والزوجات‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وََلكُمْ ِن ْ‬ ‫مالً ولم تترك ولدا ول ولد ولدٍ ذكرا كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف‪ ،‬وإن تركت‬ ‫ولدا أو ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع ل غير لقول ال تعالى‪{ :‬فَإِنْ كَانَ‬ ‫ن وَلَدٌ فََلكُمُ الرّبُعُ ِممّا تَ َركْنَ}‪ .‬وهذا من بعد سداد الدين إن كان على الهالكة دين‪ ،‬وبعد إخراج‬ ‫َلهُ ّ‬ ‫الوصية إن أوصت الهالكة بشيء‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬مِنْ َبعْ ِد َوصِيّةٍ يُوصِينَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من يكلله النسب إذا أحاط به وبه سمي الكليل؛ لحاطته بالرأس‪ ،‬وسمي القرابة‪ :‬كللة؛‬ ‫لحاطتهم بالميت من جوانبه‪ ،‬وليسوا منه‪ ،‬ول هو منهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخ‪ :‬أصله أخو بدليل تثنيته على أخوين نصبا وجرا وأخوان رفعا‪.‬‬

‫( ‪)1/445‬‬ ‫ِبهَا َأوْ دَيْنٍ}‪ .‬هذا ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن لم يترك الزوج ولدا ول ولد ولد ذكرا‬ ‫كان أو أنثى فإن ترك ولدا أو ولد ولد فللزوجة الثمن‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وََلهُنّ الرُّبعُ ِممّا‬ ‫تَ َركْتُمْ إِنْ َلمْ َيكُنْ َلكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ َلكُ ْم وََلدٌ فََلهُنّ الّثمُنُ ِممّا تَ َركْتُمْ مِنْ َبعْدِ َوصِيّةٍ تُوصُونَ ِبهَا َأوْ‬ ‫دَيْنٍ} ‪ .‬هذا وإن كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن‬ ‫جلٌ‬ ‫للهالك ولد‪ ،‬وإن كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوى وقوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ كَانَ رَ ُ‬ ‫يُو َرثُ كَللَةً َأوِ امْرََأةٌ} أي تورث كللة أيضا‪ ،‬والموروث كللة وهو من ليس له والد ول ولد‪،‬‬ ‫وإنما يرثه إخوته لمه كما في هذه الية أو إخوته لبيه وأمه كما في آي الكللة في آخر هذه‬ ‫السورة‪ ،‬فإن كان له أخ من أمه فله السدس‪ ،‬وكذا إن كانت له أخت فلها السدس‪ ،‬وإن كانوا اثنين‬ ‫ل وَاحِدٍ‬ ‫ختٌ فَِل ُك ّ‬ ‫جلٌ يُو َرثُ كَللَةً َأوِ امْرََأ ٌة وَلَهُ أَخٌ َأوْ أُ ْ‬ ‫فأكثر فلهم الثلث ‪ 1‬لقوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ كَانَ َر ُ‬ ‫مِ ْن ُهمَا السّدُسُ فَإِنْ كَانُوا َأكْثَرَ مِنْ ذَِلكَ َفهُمْ شُ َركَاءُ فِي الثُّلثِ مِنْ َبعْدِ‪َ 2‬وصِيّةٍ يُوصَى ِبهَا َأوْ دَيْنٍ‬ ‫غَيْرَ ُمضَارّ‪ }3‬بأن يوصى بأكثر من الثلث‪ ،‬أو يقر بدين وليس عليه دين وإنما حسد للورثة أو‬ ‫بغضا لهم ل غير‪ ،‬فإن تبين ذلك فل تنفذ الوصية ول يسدد الدين وتقسم التركة كلها على الورثة‪،‬‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬وصِيّةً مِنَ اللّهِ} أي‪ :‬وصاكم أيها المؤمنون بهذا وصية فهي جديرة بالحترام‬ ‫والمتثال‪ .‬وال عليم بنياتكم وأحوالكم وما يضركم وما ينفعكم فسلموا قسمته وأطيعوه فيها وهو‬

‫حليم ل يعاجل بالعقوبة فل يغركم حلمه أن بطشه شديد وعذابه أليم‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان ميراث الزوج من زوجته‪ ،‬والزوجة والزوجات من زوجهن‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ميراث الكللة وهو من ل يترك والدا ول ولدا فيرثه إخوته فقط ‪ 4‬يحوطون به إحاطة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وهو ما يعرف بالحجرية‪ ،‬أو الحمارية‪ ،‬أو المشتركة وهي‪ :‬أن تموت امرأة وتترك زوجها‬ ‫وأمها وأخوة لمها وأخا لبيها وأمها‪ ،‬فللزوج النصف‪ ،‬والم السدس‪ ،‬والباقي للخوة للم‪ ،‬ول‬ ‫شيء للخ للب‪ ،‬أو لهما معا‪ .‬وسميت بالحمارية‪ :‬لنهم لما منعوا قالوا للقاضي بينهم‪ :‬هب أبانا‬ ‫حمارا أليست أمنا واحدة‪ ،‬وقالوا هب أبانا حجرا أليست أمنا واحدة‪ ،‬وطالبوا بتشريكهم في الرث‬ ‫فسميت المشتركة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكرت الوصية قبل الدين‪ ،‬والجماع على تقديم الدين على الوصية لحكم رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم بذلك وقيل في السر في ذلك‪ :‬أن تقديم الوصية في اللفظ كان بسبب أنه ل يوجد من‬ ‫يطالب بها فقد تنسى‪ ،‬وأما الدين فأهله يطالبون به فل ينسى ول يترك‪.‬‬ ‫‪ 3‬مضار‪ :‬اسم فاعل‪ ،‬أي‪ :‬مضارر‪ ،‬فأدغمت الراء في الراء فصارت مضار‪ ،‬أي‪ :‬حال كون‬ ‫الموصي غير مريد الضرار بالورثة‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬لمه‪ ،‬ولهذا خالف أخوة الم الورثة في ثلث مسائل‪ :‬الولى‪ :‬أنهم يرثون مع من يدلون به‬ ‫وهو أمهم‪ .‬والثانية‪ :‬إن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء‪ .‬والثالثة‪ :‬أنهم ل يرثون إل إذا كان‬ ‫ميتهم يورث كللة‪.‬‬

‫( ‪)1/446‬‬ ‫الكليل بالرأس فلذا سُميت الكللة‪.‬‬ ‫‪ -3‬إهمال الوصية أو الدين إن علم إن الغرض منها الضرار بالورثة فقط‪.‬‬ ‫‪ -4‬عظم شأن المواريث فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى ال تعالى‪.‬‬ ‫طعِ اللّ َه وَرَسُوَلهُ يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَِلكَ‬ ‫{تِ ْلكَ حُدُودُ اللّ ِه َومَنْ يُ ِ‬ ‫حدُو َدهُ يُ ْدخِلْهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ ُمهِينٌ(‬ ‫ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ(‪َ )13‬ومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُوَل ُه وَيَ َتعَدّ ُ‬ ‫‪})14‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{تِ ْلكَ حُدُودُ‪ 1‬اللّهِ} ‪ :‬تلك اسم إشارة أشير به إلى سائر ما تقدم من أحكام النكاح وكفالة اليتامى‬ ‫وتحريم أكل مال اليتيم‪ ،‬وقسمة التركات‪ .‬وحدود ال هي ما حده لنا وبينه من طاعته وحرم علينا‬

‫الخروج عنه والتعدي له‪.‬‬ ‫{ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ} ‪ :‬هو النجاة من النار ودخول الجنة‪.‬‬ ‫العذاب المهين ‪ :‬ما كان فيه إهانة للمعذب بالتقريع والتوبيخ ونحو ذلك‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫حدُودُ اللّهِ} قد‬ ‫لما بين تعالى ما شاء من أحكام الشرع وحدود الدين أشار إلى ذلك بقوله‪{ :‬تِ ْلكَ‪ُ 2‬‬ ‫بينها لكم وأمرتكم بالتزامها‪َ { ،‬ومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ} فيها وفي غيرها من الشرائع والحكام‬ ‫فجزاؤه أنه يدخله جنات تجري من تحتها النهار‪ ،‬أنهار العسل واللبن والخمر والماء‪ ،‬وهذا هو‬ ‫الفوز العظيم‪ ،‬حيث نجاه من النار وأدخله الجنة يخلد فيها أبدا‪َ { .‬ومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ} بتعد‬ ‫تلك الحدود وغيرها من الشرائع والحكام ومات على ذلك فجزاؤه أن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحدود‪ :‬جمع حد‪ ،‬وهو ظرف مكان يميز عن مكان آخر يمنع تجاوزه‪ .‬هذا هو الحد لغة‬ ‫وشرعا‪ ،‬ما منع ال تجاوزه مما أحل إلى ما حرم فأحكام الشرع هي حدوده‪.‬‬ ‫‪ 2‬يرى بعضهم أن الشارة لقرب مذكور‪ ،‬وهو قسمة المواريث وما فسرنا به أولى لنه أعم‬ ‫يشمل كما تقدم من أحكام الشريعة‪.‬‬

‫( ‪)1/447‬‬ ‫يدخله نارا يخلد فيها ‪ 1‬وله عذاب مهين‪ .‬والعياذ بال من عذابه وشر عقابه‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان حرمة تعدي حدود ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ثواب طاعة ال ورسوله وهو الخلود في الجنة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان جزاء معصية ال ورسوله وهو الخلود في ‪ 2‬النار والعذاب المهين فيها‪.‬‬ ‫سكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ‬ ‫ش ِهدُوا فََأمْ ِ‬ ‫شهِدُوا عَلَ ْيهِنّ أَرْ َب َعةً مِ ْنكُمْ فَإِنْ َ‬ ‫شةَ مِنْ نِسَا ِئكُمْ فَاسْتَ ْ‬ ‫{وَاللتِي يَأْتِينَ ا ْلفَاحِ َ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ َلهُنّ سَبِيلً(‪ )15‬وَالّذَانِ يَأْتِيَا ِنهَا مِ ْنكُمْ فَآذُو ُهمَا فَإِنْ تَابَا وََأصْلَحَا‬ ‫حَتّى يَ َت َوفّاهُنّ ا ْل َم ْوتُ َأوْ َي ْ‬ ‫جهَالَةٍ ُثمّ‬ ‫فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمَا إِنّ اللّهَ كَانَ َتوّابا َرحِيما(‪ )16‬إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ‬ ‫ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ‬ ‫حكِيما(‪ )17‬وَلَيْ َ‬ ‫يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَ ِئكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْيهِ ْم َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬ ‫ن وَل الّذِينَ َيمُوتُونَ وَهُمْ ُكفّارٌ أُولَ ِئكَ أَعْ َتدْنَا‬ ‫حضَرَ أَحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ ال َ‬ ‫السّيّئَاتِ حَتّى ِإذَا َ‬ ‫عذَابا أَلِيما(‪})18‬‬ ‫َلهُمْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إن أريد بالعصيان هنا‪ :‬الكفر‪ ،‬فالخلود على بابه‪ .‬وإن أريد بها الكبائر‪ :‬فالخلود مستعار لمدة ما‬

‫كقولنا‪ :‬خلد ال ملكك‪ .‬وكقول زهير‪ :‬ول أرى خالدا إل الجبال الرواسيا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الخلود لمن كانت معصيته مكفرة له‪ ،‬أما من لم يكفر بمعصيته فإنه ل يخلد في النار‪ ،‬بل‬ ‫يخرج منها بإيمانه كما بينت ذلك السنة ا لصحيحة‪.‬‬

‫( ‪)1/448‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَاللتِي ‪ : }1‬جمع التي‪ ،‬اسم موصول للمؤنث المفرد‪ ،‬واللتي للجمع المؤنث‪.‬‬ ‫حشَةَ‪ : }2‬المراد بها هنا‪ :‬الزنا‪.‬‬ ‫{ا ْلفَا ِ‬ ‫{مِنْ نِسَا ِئ ُكمْ} ‪ :‬المحصنات ‪.3‬‬ ‫{سَبِيلً} ‪ :‬طريقا للخروج من سجن البيوت‪.‬‬ ‫{يَأْتِيَا ِنهَا} ‪ :‬الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها‪.‬‬ ‫{فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمَا} ‪ :‬اتركوا آذيتهما بعد أن ظهرت توبتهما‪.‬‬ ‫{ال ّتوْبَةُ} ‪ :‬أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح مع تركه‪ ،‬والعزم على عدم العودة‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫{السّوءَ} ‪ :‬كل ما أساء إلى النفس والمراد به هنا‪ :‬السيئات‪.‬‬ ‫جهَالَةٍ} ‪ :‬ل مع العمد والصرار وعدم المبالة‪.‬‬ ‫{ ِب َ‬ ‫{أَعْ َتدْنَا} ‪ :‬أعددنا وهيأنا‪.‬‬ ‫{أَلِيما} ‪ :‬موجعا شديد اليجاع‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى بحدوده وذكر جزاء متعديها‪ ،‬ذكر هنا معصية من معاصيه وهي فاحشة الزنا‪،‬‬ ‫ووضع لها حدا في البيوت حتى الموت أو إلى أن ينزل حكما آخر يخرجهن من الحبس وهذا‬ ‫شهِدُوا عَلَ ْيهِنّ أَرْ َبعَةً‬ ‫بالنسبة إلى المحصنات‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬وَاللتِي يَأْتِينَ ا ْلفَاحِشَةَ مِنْ ِنسَا ِئكُمْ فَاسْ َت ْ‬ ‫مِ ْنكُمْ‪ }4‬أي‪ :‬من المسلمين بشهدون بأن فلنة زنت بفلنة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ومثل اللتي‪ :‬اللئي‪ ،‬وجمع اللتي‪ ،‬اللواتي‪ ،‬وجمع اللئي‪ :‬اللوائي‪.‬‬ ‫‪ 2‬سمي الزنا‪ :‬فاحشة لنه تجاوز الحد في الفساد‪ ،‬إذ به يفسد الخلق والعرض والنسب والدين‬ ‫والمجتمع‪ ،‬وكفى بهذا فسادا عظيما‪.‬‬ ‫‪ 3‬النساء‪ :‬اسم جمع واحدة من غير لفظ‪" :‬امرأة" والمحصنات‪ :‬جمع محصنة وهي التي تزوجت‬ ‫زواجا شرعيا‪ ،‬وسواء بقيت عليه أو تأيمت بموت أو طلق‪.‬‬ ‫‪ 4‬منكم‪ :‬أي من المسلمين‪ ،‬إذ ل بد من أربعة شهود من المسلمين يشهدون بأنهم رأوا الفرج في‬

‫الفرج‪ .‬مثل‪ :‬الميل في المكحلة‪ ،‬لحديث أبي داود عن جابر قال‪" :‬جاءت اليهود برجل وامرأة منهم‬ ‫زنيا‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ي بأعلم رجل منكم‪ ،‬فأتوه بابن صوريا‪ ،‬فناشدهما‪:‬‬ ‫كيف تجدان أمر هذين في التوراة‪ .‬قال‪ :‬نجد في التوراة إذا شاهد أربعة أنهم رأوا ذكره في‬ ‫فرجها‪ ،‬مثل الميل في المكحلة رجما‪ .‬قال‪ :‬فما يمنعمكا أن ترجموهما؟ قال‪ :‬ذهب سلطاننا فكرهنا‬ ‫القتل‪ .‬فدعا الرسول صلى ال عليه وسلم الشهود فحضروا وشهدوا فأمر برجمهما فرجما"‪.‬‬

‫( ‪)1/449‬‬ ‫فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن ‪ 1‬أو يجعل ال لهن سبيل‪ .‬أما غير المحصنات وهن البكار‬ ‫فقد قال تعالى في شأنهن‪{ ،‬وَالّذَانِ يَأْتِيَا ِنهَا مِ ْنكُمْ} فآذوها‪ ،‬أي‪ :‬بالضرب الخفيف والتقريع والعتاب‪،‬‬ ‫مع الحبس للنساء‪ ،‬أما الرجال فل يحبسون وإنما يكتفى بآذاهم إلى أن يتوبوا ويصلحوا فحين إذ‬ ‫يعفو عنهم ويكفوا عن أذيتهم هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَالّذَانِ‪ 2‬يَأْتِيَا ِنهَا مِ ْنكُمْ فَآذُو ُهمَا فَإِنْ تَابَا‬ ‫وََأصْلَحَا فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمَا إِنّ اللّهَ كَانَ َتوّابا َرحِيما} ‪.‬‬ ‫ولم يمض على هذين الحدين إل القليل من الزمن حتى أنجز الرحمن ما وعد وجعل لهن سبيلً‪،‬‬ ‫فقد صح أنه صلى ال عليه وسلم كان جالسا بين أصحابه حتى أنزل ال تعالى عليه الحكم النهائي‬ ‫في جريمة الزنا فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬خذوا عني‪ ،‬خذوا عني قد جعل ال لهن سبيل الثيب‬ ‫بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة‪ ،‬والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" ‪ .‬والمراد من الثيب‬ ‫بالثيب‪ ،‬أي‪ :‬إذا ثيب بثيب‪ ،‬وكذا البكر بالبكر‪ .‬وبهذا أوقف الحد الول من النساء والرجال معا‬ ‫ومضى الثاني‪ ،‬أما جلد البكرين فقد نزل فيه آية النور‪{ :‬الزّانِيَ ُة وَالزّانِي فَاجِْلدُوا ُكلّ وَاحِدٍ مِ ْن ُهمَا‬ ‫مِائَةَ جَلْ َدةٍ} ‪ ،‬وأما رجم المحصنين فقد مضت فيه السنة‪ ،‬فقد رجم ماعز‪ ،‬والغامدية بأمر رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم وهو حد قائم إلى يوم القيامة‪ .‬هذا ما دلت عليه اليتان الولى(‪)15‬‬ ‫والثانية(‪ ،)16‬وأما اليتان بعدهما وهما(‪)17‬و(‪ )18‬فقد أخبر تعالى أن الذين يستحقون التوبة‬ ‫وثبتت لهم من ال تعالى هم المذنبون الذين يرتكبون المعصية بسب جهالة منهم‪ ،‬ثم يتوبون من‬ ‫قريب ل يسوفون التوبة ول يؤخرونها أما الذين يجترحون السيئات مع علم منهم وإصرار‪ ،‬ول‬ ‫يتوبون إثر غشيان الذنب فل توبة تضمن لهم فقد يموتون بل توبة شأنهم شأن الذين يعملون‬ ‫السيئات ول يتوبون حتى إذا مرض أحدهما وظهرت عليه علمات الموت وأيقن إنه ميت ل‬ ‫محالة قال إنه تائب كشأن الكافرين إذا تابوا عند ‪ 3‬معاينة الموت فل تقبل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يتوفاهن‪ :‬يتقاضاهن‪ .‬يقال‪ :‬توفى فلن حقه من فلن بمعنى استوفاه‪ ،‬أي‪ :‬أخذه كامل لم يبقى‬ ‫منه شيئا ولما كان العمر أياما تمر يوما بعد يوم حتى ينقضي العمر ويموت النسان‪ ،‬قيل في‬ ‫الموت‪ :‬الوفاة‪ ،‬ويقال‪ :‬توفى فلن؛ لن أيامه أخذت يوما فيوما حتى انقضت على طريقة تسديد‬

‫الدين جزءا فجزءا حتى كمل‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫إذ ما تقاضى المرء يوم وليلة ‪ ...‬تقاضاه شيء ل يمل التقضيا‬ ‫‪ 2‬المراد من هذان‪ :‬المساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ لن الرجل يعمل فل يحبس‪ ،‬فلذا غلب‬ ‫جانب النساء في قوله‪{ :‬واللتي يأتِيَا الفَاحِشَة}‪ ،‬وغلب الرجل على المرأة في قوله‪{ :‬واللَذان‬ ‫يَأْتْيانَها منكم} لن الذى صالح للمرأة والرجل معا‪ ،‬وهو عبارة عن السب والجفاء والتوبيخ‬ ‫باللسان لغير‪.‬‬ ‫ن وَهُمْ ُكفّارٌ} ليس على ظاهره‪ ،‬وإنما معناه يشرفون على‬ ‫‪ 3‬وعليه‪ ،‬فقوله تعالى‪{ :‬وَل الّذِينَ َيمُوتُو َ‬ ‫الموت‪ ،‬ومن أشرف على الموت‪ ،‬وحضره‪ ،‬فحكمه حكم من مات وهو سائغ في اللغة‪.‬‬

‫( ‪)1/450‬‬ ‫منهم توبة أبدا‪ .‬هذا معنى اليتين الكريمتين الولى {إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ‬ ‫جهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَ ِئكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْيهِم} أي‪ :‬يقبل توبتهم لنه عليم بضعف عباده‬ ‫بِ َ‬ ‫حكيم يضع كل شيء في موضعه اللئق به‪ ،‬ومن ذلك قبول توبة من عصوه بجهالة ل بعناد‬ ‫ستِ ال ّتوْبَةُ ِللّذِينَ‬ ‫ومكابرة وتحدٍ‪ ،‬ثم تابوا من قريب لم يطيلوا ‪ 1‬مدة المعاصي‪ ،‬والثانية‪{ :‬وَلَيْ َ‬ ‫حضَرَ َأحَدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ النَ} ‪ ،‬كما هي ليست للذين يعيشون‬ ‫َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا َ‬ ‫على الكفر فإذا جاء أحدهم الموت قال تبت كفرعون فإنه لما عاين الموت بالغرق {قَالَ آمَ ْنتُ أَنّهُ‬ ‫عصَ ْيتَ‬ ‫ل وَأَنَا مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ} ‪ .‬فرد ال تعالى عليه‪ { :‬آلنَ َوقَدْ َ‬ ‫ل إِلَهَ إِل الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنُو إِسْرائي َ‬ ‫قَ ْبلُ َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ} ‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬أُولَ ِئكَ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ عَذَابا أَلِيما} ‪ .‬إشارة إلى كل من مات‬ ‫على غير توبة بارتكابه كبائر الذنوب أو بكفر وشرك إلى أن المؤمن الموحد يخرج من النار‬ ‫بإيمانه والكافر يخلد فيها‪ .‬نعوذ بال من النار وحال أهلها‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم قبح فاحشة الزنى‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان حد الزنى قبل نسخه بآية سورة النور‪ ،‬وحكم الرسول صلى ال عليه وسلم في رجم‬ ‫المحصن والمحصنة‪.‬‬ ‫‪ -3‬التوبة التي تفضل ال بها هي ما كان صاحبها أتى ما أتى من الذنوب بجهالة ل بعلم وإصرار‬ ‫ثم تاب من قريب زمن‪.‬‬ ‫‪ -4‬الذين يسوفون التوبة ويؤخرونها يخشى عليهم أن ل يتوبوا حتى يدركهم الموت وهم على ذلك‬ ‫فيكونون من أهل النار‪ ،‬وقد يتوب أحدهما‪ ،‬لكن بندرة وقلة وتقبل توبته إذا لم يعاين أمارات‬ ‫الموت لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن ال يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" ‪ .‬رواه الترمذي‬

‫وأحمد وغيرهما وإسناده حسن‪.‬‬ ‫‪ -5‬ل تقبل توبة من حشرجت نفسه وظهرت عليه علمات الموت‪ ،‬وكذا الكافر من باب أولى ل‬ ‫تقبل له توبة باليمان إذا عاين علمات الموت كما لم تقبل توبة فرعون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لن سنة ال تعالى‪ :‬أن المرء إذا أدمن على معصية بطول فعلها يشربها قلبه فتحسن في نظره‬ ‫وتجمل في طبعه‪ ،‬فل يقوى على تركها‪ ،‬وليس أدل على ذلك من فاحشة اللواط‪ ،‬فهي من أقبح‬ ‫الفواحش‪ ،‬ومع هذا من زينت له ل يقدر على تركها‪.‬‬

‫( ‪)1/451‬‬ ‫حلّ َل ُكمْ أَنْ تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْها وَل َت ْعضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِ َب ْعضِ مَا آتَيْ ُتمُوهُنّ‬ ‫{يَا أ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َي ِ‬ ‫ج َعلَ‬ ‫شةٍ مُبَيّنَ ٍة وَعَاشِرُوهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ فَإِنْ كَ ِرهْ ُتمُوهُنّ َف َعسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئا وَيَ ْ‬ ‫إِل أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِ َ‬ ‫اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا(‪ )19‬وَإِنْ أَ َردْتُمُ اسْتِبْدَالَ َزوْجٍ َمكَانَ َزوْجٍ وَآتَيْتُمْ ِإحْدَاهُنّ قِنْطَارا فَل تَ ْأخُذُوا‬ ‫خذْنَ‬ ‫ض وَأَ َ‬ ‫ضكُمْ إِلَى َب ْع ٍ‬ ‫خذُونَهُ ُبهْتَانا وَإِثْما مُبِينا(‪َ )20‬وكَ ْيفَ تَأْخُذُونَهُ َوقَدْ َأ ْفضَى َب ْع ُ‬ ‫مِنْهُ شَيْئا أَتَأْ ُ‬ ‫مِ ْنكُمْ مِيثَاقا غَلِيظا(‪})21‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كَرْها} ‪ :‬بدون رضاهن‪.‬‬ ‫العضل ‪ :‬المنع بشدة كأنه إمساك بالعضلت أو من العضلت‪.‬‬ ‫{بِ َب ْعضِ مَا آتَيْ ُتمُوهُنّ} ‪ :‬أي‪ :‬من المهور‪.‬‬ ‫الفاحشة ‪ :‬الخصلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا‪.‬‬ ‫{مُبَيّنَةٍ‪ : }1‬ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء‪.‬‬ ‫{بِا ْل َمعْرُوفِ‪ : }2‬ما عرفه الشرع واجبا أو مندوبا أو مباحا‪.‬‬ ‫{قِ ْنطَارا} ‪ :‬أي‪ :‬من الذهب أو الفضة مهرا وصداقا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئت‪{ :‬مبينة} بفتح الياء‪ ،‬وقرئت بكسرها {مبينة} ‪ ،‬وقرأ ابن عباس {مبينة} بكسر الباء‪ ،‬اسم‬ ‫فاعل من أبان يبين‪ ،‬فهو مبين‪ ،‬وهي مبينة‪ .‬والمعنى واحد‪.‬‬ ‫‪ 2‬من المعاشرة بالمعروف‪ :‬أن ل يعبس في وجهها بغير ذنب‪ ،‬وأن يكون منطلقا في القول ل فظا‬ ‫ول غليظا‪ ،‬ول مظهرا ميلً إلى غيرها‪.‬‬

‫( ‪)1/452‬‬

‫{ ُبهْتَانا وَإِثْما} ‪ :‬أي‪ :‬كذبا وافتراء‪ ،‬وإثما حراما ل شك في حرمته؛ لنه ظلم‪.‬‬ ‫ضكُمْ إِلَى َب ْعضٍ} ‪ :‬أي‪ :‬خلص الزوج إلى عورة زوجته والزوجة كذلك‪.‬‬ ‫{َأ ْفضَى َب ْع ُ‬ ‫{مِيثَاقا غَلِيظا} ‪ :‬هو العقد وقول الزوج‪ :‬إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَرِثُوا ‪ 1‬النّسَاءَ كَرْها} إبطال ما كان شائعا‬ ‫تضمنت هذه الية‪{ :‬يَا أ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َي ِ‬ ‫بين الناس قبل السلم من الظلم اللحق بالنساء‪ ،‬فقد كان الرجل إ ذا مات والده على زوجته‬ ‫ورثها أكبر أولده من غيرها فإن شاء زوجها وأخذ مهرها وإن شاء استبقاها حتى تعطيه ما‬ ‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْها}‬ ‫يطلب منها من مال فأنزل ال تعالى قوله‪{ :‬يَا أ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل يَ ِ‬ ‫‪ .‬فبطل ذلك الحكم الجاهلي بهذه الية الكريمة وأصبحت المرأة إذا مات زوجها اعتدت في بيت‬ ‫زوجها فإذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها ما لها وما ورثته من زوجها أيضا وقوله‬ ‫حشَةٍ مُبَيّنَةٍ} ‪ .‬فهذا حكم آخر‬ ‫تعالى‪{ :‬وَل َت ْعضُلُوهُنّ‪ 2‬لِ َتذْهَبُوا بِ َب ْعضِ مَا آتَيْ ُتمُوهُنّ إِل أَنْ يَأْتِينَ ِبفَا ِ‬ ‫وهو أن يحرم على الزوج إذا كره ‪ 3‬زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدي منه ببعض‬ ‫مهرها‪ ،‬إذ من معاني العضل المضايقة والمضارة‪ ،‬هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا أو‬ ‫تترفع عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت بفاحشة‬ ‫مبينة ل شك فيها أو أنشزت نشوزا بينا فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه بمهرها أو‬ ‫حشَةٍ مُبَيّنَةٍ} ثم أمر تعالى عباده المؤمنين‬ ‫بأكثر حتى يطلقها‪ ،‬وذلك لقوله تعالى‪{ :‬إِل أَنْ يَأْتِينَ ِبفَا ِ‬ ‫بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل والحسان‪ ،‬فقال‪{ :‬وَعَاشِرُوهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ} ‪ ،‬وإن فرض‬ ‫أن أحدا منكم كره زوجته وهي لم تأتي بفاحشة مبينة فليصبر عليها ول يطلقها فلعل ال تعالى‬ ‫يجعل في بقائها في عصمته خيرا كثيرا له نتيجة الصبر عليها وتقوى ال تعالى فيها وفي غيرها‪،‬‬ ‫فقد يرزق منها ولدا ينفعه‪ ،‬وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة‪ .‬والمراد أن‬ ‫ال تعالى أرشد المؤمن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري في سند نزول هذه الية عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪" :‬كانوا إذا مات‬ ‫الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها‪ ،‬وإن شاءوا زوجوها‪ ،‬وإن لم يشاءوا لم‬ ‫حلّ َلكُمْ} ‪ ...‬إلخ‪.".‬‬ ‫يزوجها‪ ،‬فهم أحق بها من أهلها‪ ،‬فنزلت هذه الية‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل يَ ِ‬ ‫‪ 2‬جائز أن يكون فعل‪{ :‬و َتعْضلوهن} في محل نصب على تقدير ول تعضلون كما هي قراءة ابن‬ ‫مسعود‪ ،‬وجائز أن يكون في محل جزم على أن ل ناهية‪.‬‬ ‫‪ 3‬كرها‪ :‬لدمامة‪ ،‬أو سوء خلق أو سلطة لسان على ذلك‪ ،‬فإن الرسول صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫"ل يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" ‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/453‬‬

‫إن كره زوجته أن يصبر ول يطلق لما في ذلك من العاقبة الحسنة‪ ،‬لن الطلق بغير موجب غير‬ ‫صالح ول مرغوب للشارع وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل ال تعالى فيه الخير‬ ‫الكثير‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى (‪ ،)19‬أما اليتان بعدها فقد تضمنتا‪ :‬تحريم أخذ شيء من‬ ‫مهر المرأة إذا طلقها الزوج ل لتيانها بفاحشة ول لنشوزها‪ ،‬ولكن لرغبة منه في طلقها ليتزوج‬ ‫غيرها في هذه الحال ل يحل له أن يضارها لتفتدي منه بشيء ولو قل‪ ،‬ولو كان قد أمهرها‬ ‫قنطارا فل يحل أن يأخذ منه فلسا فضلً عن دينار أو درهم هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ أَرَدْ ُتمُ‬ ‫حدَاهُنّ قِ ْنطَارا‪ 1‬فَل تَ ْأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} أتأخذونه بهتانا‪ ،‬أي‪ :‬ظلما‬ ‫ج وَآتَيْتُمْ إِ ْ‬ ‫اسْتِ ْبدَالَ َزوْجٍ َمكَانَ َزوْ ٍ‬ ‫بغير حق وكذبا وافتراء وإثما‪ ،‬أي‪ :‬ذنبا ًعظيما‪ ،‬ثم قال تعالى منكرا على من يفعل ذلك‪ :‬وكيف‬ ‫تأخذونه أي‪ :‬بأي وجه يحل لكم ذلك‪ ،‬والحال أنه قد أفضى ‪ 2‬بعضهم إلى بعض أي‪ :‬بالجماع‪ ،‬إذ‬ ‫ما استحل الزوج فرجها إل بذلك المهر فكيف إذا يسترده أو شيئا منه بهتانا وإثما مبينا‪ ،‬فقال‬ ‫ضكُمْ إِلَى َب ْعضٍ} ؟ وقوله تعالى‪{ :‬وََأخَذْنَ مِ ْنكُمْ مِيثَاقا غَلِيظا}‬ ‫خذُونَ ُه َوقَدْ َأ ْفضَى َب ْع ُ‬ ‫تعالى‪َ { :‬وكَ ْيفَ تَأْ ُ‬ ‫يعني‪ :‬عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول‪ :‬الزوج نكحتها على مبدأ‪ :‬إمساك بمعروف أو تسريح‬ ‫بإحسان‪ ،‬فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل عن مهرها أو عن شيء منه‪ ،‬هذا ما‬ ‫خذُونَهُ} إذ هو استفهام إنكاري ‪.3‬‬ ‫أنكره تعالى بقوله‪َ { :‬وكَ ْيفَ تَأْ ُ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة العضل من أجل الفتداء بالمهر وغيره‪.‬‬ ‫‪ -3‬الترغيب في الصبر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أصحاب السنن‪ ،‬وصححه الترمذي‪ :‬أن عمر بن الخطاب كان يخطب فقال‪" :‬أل ل تغالوا‬ ‫في صدقات النساء‪ ،‬فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند ال لكان أولكم بها رسول ال ما‬ ‫أصدق قط امرأة من نساؤه ول بناته فوق اثنتي عشر أوقية‪ ،‬فقامت إليه امرأة فقالت له يا عمر‪:‬‬ ‫خذُوا مِنْهُ‬ ‫حدَاهُنّ قِ ْنطَارا فَل تَأْ ُ‬ ‫أيعطينا ال وتحرمنا؟ أليس ال سبحانه وتعالى يقول‪{ :‬وَآتَيْ ُتمْ إِ ْ‬ ‫شَيْئا} ؟ قال عمر‪ :‬أصابت امرأة وأخطأ عمر"‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في الفضاء الذي يجب به المهر‪ ،‬قال عمر‪" :‬إن أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة‬ ‫فقد وجب الصداق وعليها العدة‪ ،‬ولها الميراث وهو قول فصل‪ .‬أما الفضاء الذي تحل به المطلقة‬ ‫ثلثا من الوطء لحديث‪" :‬حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" والفضاء في هذه الية‪ :‬الجماع‬ ‫أيضا‪ .‬قاله ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬

‫‪ 3‬نعم إنكاري‪ ،‬وفيه معنى التعجب أيضا؛ لنه أمر مستنكر ومتعجب منه لفظاعته وخروجه عن‬ ‫اللياقة والدب‪.‬‬

‫( ‪)1/454‬‬ ‫‪ -4‬جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة ل شك فيها؛‬ ‫كالزنى أو النشوز‪.‬‬ ‫‪ -5‬جواز غلء المهر فقد يبلغ القنطار ‪ 1‬غير أن التيسير فيه أكثر بركة‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب مراعاة العهود والوفاء بها‪.‬‬ ‫{وَل تَ ْنكِحُوا مَا َنكَحَ آبَا ُؤكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِل مَا قَدْ سََلفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً َومَقْتا وَسَاءَ سَبِيلً(‪)22‬‬ ‫ت وَُأ ّمهَا ُتكُمُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ت الُ ْ‬ ‫عمّا ُتكُ ْم وَخَال ُتكُ ْم وَبَنَاتُ الَخِ وَبَنَا ُ‬ ‫خوَا ُتكُ ْم وَ َ‬ ‫حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمْ ُأ ّمهَا ُتكُمْ وَبَنَا ُتكُمْ وَأَ َ‬ ‫خوَا ُتكُمْ مِنَ ال ّرضَاعَ ِة وَُأ ّمهَاتُ نِسَا ِئكُ ْم وَرَبَائِ ُبكُمُ اللتِي فِي حُجُو ِركُمْ مِنْ نِسَا ِئ ُكمُ‬ ‫ضعْ َنكُمْ وَأَ َ‬ ‫اللتِي أَ ْر َ‬ ‫خلْتُمْ ِبهِنّ فَإِنْ َلمْ َتكُونُوا دَخَلْ ُتمْ ِبهِنّ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُ ْم وَحَل ِئلُ أَبْنَا ِئكُمُ الّذِينَ مِنْ َأصْل ِبكُ ْم وَأَنْ‬ ‫اللتِي دَ َ‬ ‫غفُورا َرحِيما(‪})23‬‬ ‫ن الُخْتَيْنِ إِل مَا قَدْ سََلفَ إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫ج َمعُوا بَيْ َ‬ ‫تَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَل تَ ْنكِحُوا مَا َنكَحَ آبَا ُؤكُمْ} ‪ :‬ل تتزوجوا امرأة الب أو الجد‪.‬‬ ‫{إِل مَا قَدْ سََلفَ} ‪ :‬إل ما قد مضى قبل هذا التحريم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل خلف في أن أكثر الصداق ل حد له‪ ،‬وإنما الخلف في أقله‪ ،‬والذي عليه أكثر أهل العلم‪:‬‬ ‫أنه ل يقل عن ربع دينار أو ما يعادله دارهم قياسا على ما تقطع فيه يد السارق لن الفرج محرم‬ ‫كاليد‪.‬‬

‫( ‪)1/455‬‬ ‫شةً} ‪ :‬أي‪ :‬زواج نساء الباء فاحشة شديدة القبح‪.‬‬ ‫{إِنّهُ كَانَ فَاحِ َ‬ ‫{ َو َمقْتا‪ : }1‬ممقوتا مبغوضا للشارع‪ ،‬ولكل ذي فطرة سليمة‪.‬‬ ‫{وَسَاءَ سَبِيلً} ‪ :‬أي‪ :‬قبح نكاح أزواج الباء طريقا يسلك‪.‬‬ ‫{ُأ ّمهَا ُتكُمْ} ‪ :‬جمع ‪ 2‬أم‪ ،‬فالم محرمة ومثلها الجدة وإن علت‪.‬‬ ‫{وَرَبَائِ ُبكُمُ} ‪ :‬الربائب‪ :‬جمع ربيبة هي بنت الزوجة‪.‬‬ ‫{وَحَل ِئلُ أَبْنَا ِئكُمُ} ‪ :‬الحلئل ‪ :3‬جمع حليلة وهي امرأة البن من الصلب‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬

‫ما زال السياق الكريم في بيان الحكام الشرعية المتعلقة بالرث والنكاح وعشرة النساء‪ .‬وفي‬ ‫هاتين اليتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب والرضاع والمصاهرة‪ ،‬فبدأ بتحريم امرأة‬ ‫الب وإن عل فقال‪{ :‬وَل تَ ْن ِكحُوا ‪ 4‬مَا َنكَحَ آبَا ُؤكُمْ} ‪ ،‬ولم يقل من ليشمل التحريم منكوحة الب‬ ‫والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية‪ .‬ولذا قال إل ما قد سلف في الجاهلية فإنه معفو‬ ‫عنه بالسلم بعد التخلي عنه وعدم المقام عليه‪ ،‬وبهذه اللفظ حرمت امرأة الب والجد على البن‬ ‫وابن البن و لو لم يدخل بها الب‪ ،‬ثم ذكر محرمات النسب فذكر المهات والبنات والخوات‬ ‫والعمات والخالت وبنات الخ‪ ،‬وبنات الخت فهؤلء سبع محرمات من النسب ‪ 5‬قال تعالى‪:‬‬ ‫لخْت} ‪ ،‬ثم ذكر‬ ‫خ وَبَنَاتُ ا ُ‬ ‫ت الَ ِ‬ ‫عمّا ُتكُ ْم َوخَالتُكُمْ وَبَنَا ُ‬ ‫خوَا ُتكُ ْم وَ َ‬ ‫{حُ ّر َمتْ عَلَ ْي ُكمْ ُأ ّمهَا ُتكُ ْم وَبَنَا ُتكُ ْم وَأَ َ‬ ‫خوَا ُتكُمْ مِنَ ال ّرضَاعَةِ} فمن رضع من‬ ‫ضعْ َنكُ ْم وَأَ َ‬ ‫المحرمات بالرضاع فقال‪{ :‬وَُأ ّمهَا ُتكُمُ اللتِي أَ ْر َ‬ ‫امرأة خمس ‪ 6‬رضعات وهو في سن الحولين‪ ،‬تحرم عليه ويحرم عليه أمهاتها وبناتها وأخواتها‬ ‫وكذا بنات زوجها وأمهاته حتى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سأل ابن العرابي عن نكاح المقت‪ ،‬فقال‪ :‬هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات‬ ‫عنها‪ ،‬ويقال لمن تزوج امرأة أبيه‪ :‬الضيزن‪.‬‬ ‫‪ 2‬الصواب‪ :‬جمع أمهه‪،‬الم تجمع على‪ :‬أمات وأقل ما يقول به‪ .‬والية نص في تحريم كل انثى‬ ‫لها على الرجل ولدة فتدخل الم فيه‪ ،‬وأمها‪ ،‬وجداتها‪.‬‬ ‫‪ 3‬سميت امرأة البن‪ :‬حليلة؛ لنها تحل معه حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة‪ ،‬وقيل‪ :‬سميت‬ ‫حليلة؛ لنها محللة له‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي أن أبا قيس توفى وكان من صالحي النصار فخطب ابنة قيس امرأة أبيه‪ ،‬فقالت له‪ :‬إني‬ ‫أعدك ولدا‪ ،‬ولكني آتي رسول ال صلى ال عليه وسلم فأستمره‪ ،‬فأتته فأخبرته‪ ،‬فأنزل ال تعالى‬ ‫هذه الية‪{ :‬وَل تَ ْن ِكحُوا مَا َنكَحَ آبَا ُؤكُمْ مِنَ النّسَاء} ‪.‬‬ ‫‪ 5‬وحرم بالسنة المتواترة‪ :‬الجمع بين المرأة وعمتها‪ ،‬والمرأة وخالتها‪.‬‬ ‫‪ 6‬خالف مالك رحمه ال تعالى ومن وافقه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل فرق بين قليل الرضاع وكثيره‪ ،‬إذا وصل‬ ‫اللبن إلى المعاء ولو مصة واحدة مع أن الرسول صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل تحرم المصة ول‬ ‫المصتان" رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/456‬‬ ‫قيل‪ :‬يحرم ‪ 1‬من الرضاعة ما يحرم من النسب‪ ،‬ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫{وَُأ ّمهَاتُ ِنسَا ِئكُمْ} ‪ ،‬فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد أن يعقد على بنتها تصبح أمها حراما‪.‬‬ ‫وقال‪{ :‬وَرَبَائِ ُبكُمُ اللتِي فِي حُجُو ِركُمْ} ‪ ،‬فالربيبة‪ :‬هي بنت الزوجة إذا نكح الرجل امرأة وبنى بها‬

‫ل يحل له الزواج من ابنتها‪ ،‬أما إذا عقد فقط ولم يبين فإن البنت تحل له لقوله‪ { :‬مِنْ ِنسَا ِئكُمُ‬ ‫خلْتُمْ ِبهِنّ فَإِنْ َلمْ َتكُونُوا دَخَلْ ُتمْ ِبهِنّ فَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ} ‪ ،‬أي‪ :‬ل إثم ول حرج ‪.2‬‬ ‫اللتِي دَ َ‬ ‫ومن المحرمات بالمصاهرة امرأة البن بنى بها أم ل يبن‪ ،‬لقوله تعالى‪َ { :‬وحَل ِئلُ أَبْنَا ِئكُمُ الّذِينَ مِنْ‬ ‫َأصْل ِبكُمْ} أي‪ :‬ليس ابنا بالتبني‪ ،‬أما البن من الرضاع فزوجته كزوجة البن من الصلب؛ لن‬ ‫اللبن الذي تغذ به هو السبب فكان إذا كالولد للصلبن‪ ،‬ومن المحرمات بالمصاهرة أيضا‪ :‬أخت‬ ‫الزوجة‪ ،‬فمن تزوج امرأة ل يحل له أن يتزوج أختها حتى تموت أو يفارقها وتنتهي عدتها لقوله‬ ‫ن الُخْتَيْنِ إِل مَا قَدْ سََلفَ} في الجاهلية فإنه عفو بشرط عدم القامة عليه‪.‬‬ ‫ج َمعُوا بَيْ َ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَأَنْ تَ ْ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تحريم مناكح الجاهلية إل ما وافق السلم منها‪ ،‬وخاصة أزواج الباء‪ ،‬فزوجة الب محرمة‬ ‫على البن ولو لم يدخل بها الب وطلقها أو مات عنها‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان المحرمات من النسب وهن سبع‪ :‬المهات‪ ،‬والبنات‪ ،‬والخوات‪ ،‬والعمات‪ ،‬والخالت‪،‬‬ ‫وبنات الخ‪ ،‬وبنات الخت‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان المحرمات من الرضاع وهن‪ :‬المحرمات من النسب؛ فالرضيع يحرم عليه ‪ 3‬أمه‬ ‫المرضع له وبناته‪ ،‬وأخواتها‪ ،‬وعماته وخالته‪ ،‬وبنات أخيه‪ ،‬وبنات أخته‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان المحرمات من المصاهرة‪ ،‬وهن سبع أيضا‪ :‬زوجة الب بنى بها أو لم يبن‪ ،‬أم امرأته‬ ‫بنى بابنتها أو لم يبن‪ ،‬و بنت امرأته وهي الربيبة إذا دخل بأمها‪ ،‬وامرأة الولد من الصلب‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القائل‪ :‬هو الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والحديث متفق عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬ولحديث الصحيحين‪" :‬إذا نكح الرجل المرأة فل يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم‬ ‫يدخل‪ ،‬وإذا تزوج الم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا إذا كان الرضاع في الحولين‪ ،‬أما بعدهما فل يحل إجماعا‪.‬‬

‫( ‪)1/457‬‬ ‫بنى بها الولد أو لم يبن ‪ ،1‬وكذا ابنه ‪ 2‬من الرضاع‪ ،‬وأخت امرأته ما دامت اختها تحته لم يفارقها‬ ‫بطلق أو وفاة‪ .‬والمحصنات ‪ 3‬من النساء‪ ،‬أي‪ :‬المتزوجات قبل طلقهن أو وفاة أزواجهن‬ ‫وانقضاء عدتهن‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حكى القرطبي‪ :‬الجماع على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وعلى‬ ‫ابنه وعلى أجداده وأحفاده‪.‬‬

‫‪ 2‬في عد المحصنات من المحرمات بالصهر تجوزا‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث‪" :‬حرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهو دليل الجمهور على أن امرأة البن من‬ ‫الرضاع تحرم كما تحرم امرأة البن من الصلب‪.‬‬

‫( ‪)1/458‬‬ ‫الجزء الخامس‬ ‫حلّ َلكُمْ مَا وَرَاءَ ذَِلكُمْ أَنْ تَبْ َتغُوا‬ ‫حصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِل مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ وَأُ ِ‬ ‫{وَا ْلمُ ْ‬ ‫حصِنِينَ غَيْرَ مُسَا ِفحِينَ َفمَا اسْ َتمْ َتعْتُمْ بِهِ مِ ْنهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَ ًة وَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ‬ ‫بَِأ ْموَاِلكُمْ مُ ْ‬ ‫طوْلً أَنْ‬ ‫طعْ مِ ْنكُمْ َ‬ ‫حكِيما(‪َ )24‬ومَنْ لَمْ يَسْتَ ِ‬ ‫فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ َبعْدِ ا ْلفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما َ‬ ‫ضكُمْ‬ ‫حصَنَاتِ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ َفمِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مِنْ فَتَيَا ِتكُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ وَاللّهُ أَعَْلمُ بِإِيمَا ِنكُمْ َب ْع ُ‬ ‫يَ ْنكِحَ ا ْلمُ ْ‬ ‫ت وَل‬ ‫حصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَا ٍ‬ ‫ن وَآتُوهُنّ ُأجُورَهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ مُ ْ‬ ‫مِنْ َب ْعضٍ فَا ْن ِكحُوهُنّ بِإِذْنِ َأهِْلهِ ّ‬ ‫حصَنَاتِ مِنَ ا ْل َعذَابِ ذَِلكَ‬ ‫صفُ مَا عَلَى ا ْل ُم ْ‬ ‫شةٍ َفعَلَ ْيهِنّ ِن ْ‬ ‫حصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ ِبفَاحِ َ‬ ‫مُتّخِذَاتِ َأخْدَانٍ فَإِذَا ُأ ْ‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ(‪})25‬‬ ‫شيَ ا ْلعَ َنتَ مِ ْنكُ ْم وَأَنْ َتصْبِرُوا خَيْرٌ َلكُ ْم وَاللّهُ َ‬ ‫خِ‬ ‫ِلمَنْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حصَنَاتُ} ‪ :‬جمع محصنة ‪ ،1‬والمراد بها هنا‪ :‬المتزوجة‪.‬‬ ‫{وَا ْلمُ ْ‬ ‫{إِل مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ} ‪ :‬المملوكة بالسبي والشراء‪ ،‬ونحوهما‪.‬‬ ‫{مَا وَرَاءَ ذَِلكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ما عداه‪ ،‬أي‪ :‬ما عدا ما حرم عليكم‪.‬‬ ‫{غَيْرَ مُسَا ِفحِينَ} ‪ :‬المسافح‪ :‬الزاني‪ ،‬لن السفاح هو الزني‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وسميت المتزوجة‪ :‬محصنة لن الرجل‪ ،‬أي‪ :‬الزوج قد أحصنها‪ ،‬أي‪ :‬حفظها باستقلله بها عن‬ ‫غيره‪.‬‬

‫( ‪)1/459‬‬ ‫{ُأجُورَهُنّ فَرِيضَةً} ‪ :‬مهورهن نحلة‪.‬‬ ‫طوْلً‪ : }1‬سعة وقدرة على المهر‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫حصَنَاتِ} ‪ :‬العفيفات‪.‬‬ ‫{ا ْل ُم ْ‬ ‫{ُأجُورَهُنّ} ‪ :‬مهورهن‪.‬‬ ‫{وَل مُتّخِذَاتِ َأخْدَانٍ} ‪ :‬الخدين‪ :‬الخليل الذي يفجر بالمرأة سرا تحت شعار الصداقة‪.‬‬ ‫حصِنّ} ‪ :‬بأن أسلمن أو تزوجن‪ ،‬إذ الحصان يكون بهما‪.‬‬ ‫{فَإِذَا أُ ْ‬

‫{ا ْلعَ َنتَ} ‪ :‬العنت‪ :‬الضرر في الدين والبدن‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان ما يحرم من النكاح وما يجوز‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )24‬عطف تعالى على‬ ‫حصَنَاتُ} أي‪ :‬ذوات الزواج‪ ،‬فل يحل‬ ‫المحرمات في المصاهرة المرأة المتزوجة فقال‪{ :‬وَا ْلمُ ْ‬ ‫نكاحهن إل بعد مفارقة الزوج بطلق أو وفاة‪ ،‬وبعد انقضاء العدة أيضا واستثنى تعالى من‬ ‫المتزوجات المملوكة باليمين‪ ،‬وهي‪ :‬المرأة تسبى في الحرب الشرعية‪ ،‬وهي الجهاد في سبيل ال‪،‬‬ ‫فهذه من الجائز أن يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب‬ ‫وبزوجها وأهلها وأصبحت مملوكة‪ ،‬أذن ال تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين‪.‬‬ ‫ولذا ورد أن الية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعة كانت بعد موقعة حنين فسبى فيها المسلمون‬ ‫النساء والذراري‪ ،‬فتحرج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة‪ ،‬ومنهم المتزوجات‪ ،‬فأذن لهم في‬ ‫غشيانهن بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة‪ ،‬أما قبل إسلمها فل تحل؛ لنها مشركة‪ ،‬هذا‬ ‫حصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِل مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ} ‪ ،‬وقوله‪{ :‬كِتَابَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ} ‪،‬‬ ‫معنى قوله تعالى‪ { :‬وَا ْل ُم ْ‬ ‫يريد ما حرمه تعالى من المناكح‪ ،‬قد كتبه على المسلمين كتابا وفرضه فرضا ل يجوز إهماله أو‬ ‫التهاون به‪ .‬فكتاب ال منصوب على المصدرية ‪.2‬‬ ‫حلّ‪َ 3‬لكُمْ مَا وَرَاءَ ذَِلكُمْ‪ ، }4‬أي‪ :‬ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وَُأ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الطول‪ :‬مصدر طال يطول طولً‪ ،‬بمعنى‪ :‬قدر على التناول من بعد‪ ،‬ولذا فسر‪ :‬بالقدرة على‬ ‫المهر‪.‬‬ ‫‪ 2‬ويجوز الرفع نحو‪ :‬هذا كتاب ال وفرضه‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرئ‪ :‬أحل‪ ،‬بالبناء للمعفول‪ ،‬وأحل‪ :‬للبناء للفاعل‪.‬‬ ‫‪ 4‬لبد من مراعاة ما حرم بالسنة‪ ،‬وهو الجمع بين المرأة وعمتها‪ ،‬والمرأة خالتها‪ ،‬ول اللتفات‬ ‫إلى مذهب الخوراج‪ :‬إذ يبيحون ذلك كما يبيحون الجمع بين الختين‪ ،‬وعلة المنع هي‪ :‬أن الجمع‬ ‫يسبب قطعية الرحم‪.‬‬

‫( ‪)1/460‬‬ ‫وبالرضاع‪ ،‬وبالمصاهرة على شرط أن ل يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في‬ ‫حصِنِينَ غَيْرَ مُسَا ِفحِينَ} ‪،‬‬ ‫ث وَرُبَاعَ} ‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬أَنْ تَبْ َتغُوا بَِأ ْموَاِلكُمْ مُ ْ‬ ‫أول السورة‪{ :‬مَثْنَى وَثُل َ‬ ‫أي‪ :‬ل حرج عليكم أن تطلبوا بأموالكم من النساء غير ما حرم عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال‬ ‫كونكم محصنين غير مسافحين‪ ،‬وذلك بأن يتم النكاح بشروطه من الولي والصداق والصيغة‬ ‫والشهود‪ ،‬إذ أن نكاحا بغير هذه الشروط فهو السفاح‪ ،‬أي‪ :‬الزنا‪ ،‬وقوله تعالى‪َ { :‬فمَا اسْ َتمْ َتعْتُمْ‪ 1‬بِهِ‬

‫مِ ْنهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً} يريد تعالى‪ :‬أيما رجل تزوج امرأة فأفضى إليها‪ ،‬أي‪ :‬وطئها إل‬ ‫وجب لها المهر كاملً‪ ،‬أما التي لم يتم الستمتاع بها بأن طلقها قبل البناء فليس لها إل نصف‬ ‫المهر المسمى‪ ،‬وإن لم يكن قد سمى لها إل المتعة‪ ،‬فالمراد من قوله‪َ { :‬فمَا اسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهِ مِ ْنهُنّ‪}2‬‬ ‫علَ ْيكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ ِبهِ مِنْ َبعْدِ ا ْلفَرِيضَةِ}‬ ‫أي‪ :‬بنيتم بهن ودخلتم عليهن‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَل جُنَاحَ َ‬ ‫يريد إذا أعطى الرجل زوجته ما استحل به فرجها‪ ،‬وهو المهر كاملً فليس عليهما بعد ذلك من‬ ‫حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها‪ ،‬أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي‬ ‫شيْءٍ مِنْهُ َنفْسا َفكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا} [النساء‪.]4/‬‬ ‫صاحبته كما تقدم {فَإِنْ طِبْنَ َلكُمْ عَنْ َ‬ ‫حكِيما} المراد مه إفهام المؤمنين بأن ال تعالى عليم بأحوالهم‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما َ‬ ‫حكيم في تشريعه فليأخذوا بشرعة ورخصه وعزائمه‪ ،‬فإنه مراعى فيه الرحمة والعدل‪ ،‬ولنعم‬ ‫تشريع يقوم على أساس الرحمة والعدل‪.‬‬ ‫طعْ مِ ْنكُمْ‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)24‬أما الية الثانية(‪ )25‬وهي قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ لَمْ َيسْتَ ِ‬ ‫ط ْولً‪ }3 ...‬فقد تضمنت بيان رحمة ال بعباده المؤمنين إذ رخص لمن لم يستطع نكاح الحرائر‬ ‫َ‬ ‫لقلة ذات يده‪ ،‬مع خوفه العنت الذي هو الضرر في دينه بالزنى‪ ،‬أو في بدنه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬استدل الروافض بهذه الية‪َ { :‬فمَا اسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهِ مِ ْنهُنّ} على جواز نكاح المتعة‪ ،‬وهو استدلل‬ ‫فاسد وباطل‪ ،‬ويكفي في بطلنه؛ إجماع أهل السنة والجماعة على بطلنه‪ ،‬وإنه زنا إلى أنه ل‬ ‫يقام على صاحبه حد الرجم بالشبهة‪ ،‬والرسول صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬ادرءوا الحدود‬ ‫بالشبهات" ‪ .‬ونكاح المتعة رخص فيه الرسول صلى ال عليه وسلم مرة ثم أعلن عن حرمته‪.‬‬ ‫أعلن ذلك في حجة الوداع ليعلم كل إنسان ذلك‪ ،‬ومن الدلة على حرمة المتعة‪ :‬أن المتمتع بها ل‬ ‫ترث‪ ،‬والزوجة الشرعية ترث الربع والثمن‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستمتاع‪ :‬التلذذ‪ ،‬والجور‪ :‬هي المهور‪ ،‬وسمي المهر‪ :‬أجرا؛ لنه أجر الستمتاع‪ ،‬وهذا دليل‬ ‫على أنه في مقابلة البضع‪ ،‬إذ كل ما يقابل المنفعة يسمى أجرا‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في تحديد معنى الطول وأرجح القوال أنه‪ :‬سعة المال‪ ،‬وعليه فل يباح نكاح المة إل‬ ‫بشرطين‪ :‬عدم السعة في المال‪ ،‬وخوف العنت‪ .‬فل يصح نكاح المة إل باجتماعهما‪ ،‬ومن كانت‬ ‫تحت حرة ل يجوز أن ينكح عليها أمة؛ لن الحرة تدفع الحرة تدفع العنت عنه‪ .‬وحكى الجماع‬ ‫على من كانت له أمة ل يحل له أن يتزوجها‪ ،‬بل يطئها بملك اليمين‪ ،‬وذلك لتعارض حق الملك‬ ‫مع حق الزوجية ‪ ،‬وإذا أعتقها فأصبحت حرة فله؛ حينئذ أن يتزوجها‪.‬‬

‫( ‪)1/461‬‬

‫بإقامة الحد عليه‪ ،‬رخص له أن يتزوج المملوكة بشرط أن تكون مؤمنة‪ ،‬وأن يتزوجها بإذن ‪1‬‬ ‫مالكها‪ ،‬وأن يؤتيها صداقها وأن يتم ذلك على مبدأ الحصان الذي هو الزواج بشروطه ل السفاح‪،‬‬ ‫الذي هو الزنى العلني المشار إليه بكلمة‪{ :‬غَيْرَ مُسَا ِفحَاتٍ} ‪ ،‬ول الخفي المشار إليه بكلمة‪{ :‬وَل‬ ‫ط ْولً} ‪ ،‬أي‪ :‬قدرة مالية‬ ‫مُتّخِذَاتِ َأخْدَانٍ} أي‪ :‬أخلء‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ َلمْ يَسْ َتطِعْ مِ ْنكُمْ َ‬ ‫أن ينكح المحصنات‪ ،‬أي‪ :‬العفائف من {فَتَيَا ِتكُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ} ‪ ،‬أي‪ :‬من إمائكم المؤمنات ل الكافرات‬ ‫ضكُمْ مِنْ‬ ‫بحسب الظاهر‪ ،‬أما الباطن فعلمه إلى ال‪ ،‬ولذا قال‪{ :‬وَاللّهُ أَعَْلمُ بِإِيمَا ِنكُمْ} ‪ ،‬وقوله‪َ { :‬ب ْع ُ‬ ‫َب ْعضٍ} فيه تطييب لنفس المؤمن إذ تزوج للضرورة المة فإن اليمان أذهب الفوارق بين‬ ‫حصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}‬ ‫ن وَآتُوهُنّ ُأجُورَهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ مُ ْ‬ ‫المؤمنين‪ ،‬وقوله‪{ :‬فَا ْن ِكحُوهُنّ بِإِذْنِ َأهِْلهِ ّ‬ ‫فيه ببيان الشروط التي ل بد منها وقد ذكرناها آنفا‪.‬‬ ‫حشَةٍ} أي‪ :‬زنين فعليهن‬ ‫حصِنّ} –أي‪ :‬الماء‪ -‬بالزواج وبالسلم {فَإِنْ أَتَيْنَ ِبفَا ِ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فَِإذَا ُأ ْ‬ ‫حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو جلد خمسين جلدة وتغريب ستة أشهر؛ لن‬ ‫الحرة إن زنت ‪ 2‬وهي بكر تجلد مائة جلدة وتغرب سنة‪ .‬أما الرجم والذي هو الموت فإنه ل‬ ‫ينصف‪ ،‬فلذا فهم المؤمنون في تنصيف العذاب أنه الجلد ل الرجم وهو إجماع ل خلف فيه‬ ‫شيَ ا ْلعَ َنتَ مِ ْنكُمْ} يريد أبحت لكم ذلك لم خاف على نفسه الزنى‪ ،‬إذا لم يقدر‬ ‫وقوله‪{ :‬ذَِلكَ ِلمَنْ خَ ِ‬ ‫على الزواج من الحرة لفقره واحتياجه وقوله تعالى‪{ :‬وَأَنْ َتصْبِرُوا‪ }...‬أي‪ :‬على العزوبة خير لك‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ} أي‪ :‬غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين‪ ،‬ولذا رخص لهم‬ ‫من نكاح الماء‪ .‬وقوله {وَاللّهُ َ‬ ‫في نكاح الماء عند خوف العنت‪ ،‬وأرشدهم إلى ما هو خير منه وهو الصبر ‪ .3‬فلله الحمد وله‬ ‫المنة‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تحريم المرأة المتزوجة حتى يفارقها زوجها بطلق أو موت وحتى تنقضي عدتها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وأجمعوا على أنه ل يجوز للملوك أن يتزوج بغير إذن سيده‪ ،‬وإن تزوج فسخ زواجه‪ ،‬وهل‬ ‫عليه الحد؟ خلف‪.‬‬ ‫‪ 2‬دليل حد المة إن زنت قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد" ‪ ،‬وقال‬ ‫علي في خطبته‪" :‬أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد‪ ،‬من أحصن منهن ومن لم يحصن" ‪.‬‬ ‫الحديث رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال أبو هريرة‪" :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬لحرائر صلح البيت‪ ،‬واليماء‬ ‫هلك البيت" أو قال‪ " :‬فساد البيت"‪.‬‬

‫( ‪)1/462‬‬

‫‪ -2‬جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حيا في دار الحرب إذا أسلمت؛ لن السلم‬ ‫فصل بينهما‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب المهور‪ ،‬وجواز إعطاء المرأة مهرها لزوجها شيئا‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز التزوج من المملوكات لمن خاف العنت وهو عادم للقدرة على الزواج من الحرائر‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب إقامة الحد على من زنت من الماء إن أحصن بالزواج والسلم‪.‬‬ ‫‪ -6‬الصبر على العزوبة خير من ‪ 1‬الزواج بالماء لرشاد ال تعالى إلى ذلك‪.‬‬ ‫حكِيمٌ(‪ )26‬وَاللّهُ يُرِيدُ‬ ‫{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ َلكُ ْم وَ َيهْدِ َيكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُ ْم وَيَتُوبَ عَلَ ْي ُك ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬ ‫خفّفَ عَ ْنكُمْ‬ ‫ش َهوَاتِ أَنْ َتمِيلُوا مَيْلً عَظِيما(‪ )27‬يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُي َ‬ ‫علَ ْيكُ ْم وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ ال ّ‬ ‫أَنْ يَتُوبَ َ‬ ‫ضعِيفا(‪})28‬‬ ‫ن َ‬ ‫وَخُلِقَ الِنْسَا ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ َلكُمْ‪ : }2‬يريد ال أن يبين لكم بما حرم عليكم وأحل لكم ما يكملكم ويسعدكم في‬ ‫دنياكم وأخراكم‪.‬‬ ‫{سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ُكمْ‪ : }3‬طرائق الذين من قبلكم من النبياء والصالحين لتنهجوا نهجهم فتطهروا‬ ‫وتكملوا وتفلحوا مثلهم‪.‬‬ ‫{وَيَتُوبَ عَلَ ْي ُكمْ} ‪ :‬يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلل الجاهلية إلى هداية السلم‪.‬‬ ‫ش َهوَاتِ‪ : }4‬من اليهود والنصارى والمجوس والزناة‪.‬‬ ‫{الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يشهد لذلك قول عمر رضي ال عنه‪" :‬أيما رجل تزوج أمة فقد أرق نصفه‪ ،‬يعني يصير ولده‬ ‫رقيقا‪ ،‬فالصبر على عدم التزوج بالماء أفضل‪ ،‬لكي ل يرق الولد‪.‬‬ ‫‪ 2‬الصل‪ :‬يريد أن يبين لكم فحذفت أن ودخلت اللم على الفعل والتقدير يريد ال البيان لكم‪،‬‬ ‫طفِئُوا نُورَ اللّهِ} في‬ ‫والهدى والتوبة‪ ،‬فاللم إذن لتوكيد معنى الفعل‪ ،‬ومثلها في قوله‪{ :‬يُرِيدُونَ لِيُ ْ‬ ‫طفِئُوا نُورَ اللّهِ} ‪ ،‬قال النحاس‪ :‬سمى بعضهم هذه اللم‪ :‬لم‬ ‫آية‪ ،‬وفي آية أخرى‪{ :‬يُرِيدُونَ أَنْ ُي ْ‬ ‫"أن"‪.‬‬ ‫‪ 3‬فيكون معنى هذه الية‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{ :‬شَ َرعَ لَكمْ مِنَ الدِين ما وصّى به نُوح} ‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬تغلبهم شهواتهم مع مخالفة شرع ال لعباده من أمور الدين التي عليها مدار سعادة النسان‬ ‫وكماله‪.‬‬

‫( ‪)1/463‬‬

‫عظِيما} ‪ :‬تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث والكدر بارتكاب‬ ‫{أَنْ َتمِيلُوا مَيْلً َ‬ ‫المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعدا عظيما‪.‬‬ ‫ضعِيفا} ‪ :‬ل يصبر عن النساء‪ ،‬فلذا رخص تعالى لهم في الزواج من الفتيات‬ ‫ن َ‬ ‫ق الِنْسَا ُ‬ ‫{وَخُِل َ‬ ‫المؤمنات‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما حرم تعالى ما حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله‪{ :‬يُرِيدُ اللّهُ‪ }1‬أي‪ :‬بما‬ ‫شرع ليبين ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم فتأخذوا النافع وتتركوا الضار‪ ،‬كما يريد أن يهديكم‬ ‫طرائق الصالحين من قبلكم من أنبياء ومؤمنين صالحين لتسلكوها فتكملوا وتسعدوا في الحياتين‪،‬‬ ‫كما يريد بما بين لكم أن {وَيَتُوبَ عَلَ ْيكُمْ} أي‪ :‬يرجع بكم من ضلل الجاهلية إلى هداية السلم‬ ‫فتعيشوا على الطهر والصلح‪ ،‬وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم حكيم في تدبيره لكم فاشكروه‬ ‫بلزوم طاعته‪ ،‬والبعد عن معصيته‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)26‬أما الية الثانية(‪ )27‬فقد تضمنت الخبار بأن ال تعالى يريد‬ ‫بما بينه من الحلل والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي‬ ‫كانوا يعيشونها قبل السلم إلى حياة الطهر والصلح في ظل تشريع عادل رحيم‪ .‬وأن الذين‬ ‫يتبعون الشهوات من الزناة والنصارى وسائر المنحرفين عن سنن الهدى فإنهم يريدون من‬ ‫المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملذ والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم ل فضل‬ ‫لهم عليهم‪ ،‬وحينئذ ل حق لهم في قيادتهم أو هدايتهم‪.‬‬ ‫هذا معنى الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة (‪ )28‬فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن‬ ‫نكاح الحرائر نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير ‪ 2‬عن المؤمنين رحمة بهم‬ ‫وشفقة عليهم لما يعلم تعالى من ضعف النسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيه من غريزة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سيقت هذه الية تذييلً لما سبقها لغرض استئناس المسلمين واستنزال نفوسهم إلى امتثال أوامر‬ ‫ال تعالى المتقدمة في أول السورة‪ ،‬وهي إحكام النكاح والرث والمعاشرة‪.‬‬ ‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} ‪ ،‬ومن السنة‪ :‬قوله صلى‬ ‫‪ 2‬شاهده الكتاب في قوله تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬ ‫ال عليه وسلم‪" :‬إن هذا الدين يسر ول يشاد هذا الدين أحد إل غلبه" ‪ ،‬وقوله لمعاذ وأبي موسى‪:‬‬ ‫"يسرا ول تعسرا" ‪ ،‬وبذا كان التيسير من أصول الشريعة السلمية ويشهد لهذا وجود الرخص‬ ‫في مسائل الدين‪.‬‬

‫( ‪)1/464‬‬

‫ق الِنْسَانُ‬ ‫خفّفَ‪ 1‬عَ ْن ُك ْم وَخُِل َ‬ ‫الميل إلى أنثاه لحفظ النوع ولحكم عالية‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُي َ‬ ‫ضعِيفا‪. }2‬‬ ‫َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬منة ال تعالى علينا في تعليله الحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بانشراح صدر وطيب‬ ‫خاطر‪.‬‬ ‫‪ -2‬منة ال على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬منته تعالى في تطهير المؤمنين من الخباث وضلل الجاهليات‪.‬‬ ‫‪ -4‬الكشف عن نفسية النسان‪ ،‬إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناة‪ ،‬والمنحرفون يودون‬ ‫أن ينحرف الناس مثلهم‪ ،‬وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس‬ ‫مثله‪ ،‬كما أن الطاهر يود أن يطهر ويصلح كل الناس‪.‬‬ ‫‪ -5‬ضعف النسان أمام غرائزه ل سيما غريزة الجنس‪.‬‬ ‫طلِ إِل أَنْ َتكُونَ تِجَا َرةً عَنْ تَرَاضٍ مِ ْنكُمْ وَل َتقْتُلُوا‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬ ‫س ْوفَ ُنصْلِيهِ نَارا َوكَانَ ذَِلكَ‬ ‫ع ْدوَانا َوظُلْما فَ َ‬ ‫سكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ ِبكُمْ َرحِيما(‪َ )29‬ومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ ُ‬ ‫أَ ْنفُ َ‬ ‫عَلَى اللّهِ َيسِيرا(‪})30‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬في جميع الحكام‪ ،‬وبخاصة في نكاح الماء‪ ،‬لما علم من ضعف النسان في أمر النساء‪.‬‬ ‫‪ 2‬معنى‪ :‬ضعيفا‪ ،‬أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه‪ ،‬وهذا أشد الضعف‪ ،‬ولذا احتاج إلى‬ ‫التخفيف‪ ،‬فخفف ال عنه والحمد ل‪.‬‬

‫( ‪)1/465‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آمَنُوا} ‪ :‬صدقوا ال والرسول‪.‬‬ ‫طلِ} ‪ :‬بغير حق يبيح أكلها‪.‬‬ ‫{بِالْبَا ِ‬ ‫{ ِتجَا َرةً‪ : }1‬بيعا وشراءً فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل لصاحب النقود أخذ‬ ‫البضاعة‪ ،‬إذا ل باطل‪.‬‬ ‫سكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬تزهقوا أرواح بعضكم بعضا‪.‬‬ ‫{ َتقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫ع ْدوَانا َوظُلْما} ‪ :‬اعتداء يكون فيه ظالما‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫{ ُنصْلِيهِ نَارا} ‪ :‬ندخله نار جهنم يحترق فيها‪.‬معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان ما يحل وما يحرم من الموال والعراض والنفس ففي هذه الية (‪)29‬‬

‫ينادي ال تعالى عباده المؤمنين بعنوان اليمان فيقول‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا} وينهاهم عن أكل‬ ‫أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو القمار أو الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم ‪2‬‬ ‫طلِ} ‪ ،‬أي‪ :‬بغير عوض مباح‪ ،‬أو طيب نفس‪ ،‬ثم‬ ‫العديدة فيقول‪{ :‬ل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلكُمْ بَيْ َنكُمْ بِالْبَا ِ‬ ‫يستثنى ما كان حاصلً عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث‪" :‬إنما البيع عن‬ ‫تراض" و " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فقال تعالى‪{ :‬إِل أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً عَنْ تَرَاضٍ‪ 3‬مِ ْنكُمْ} فل‬ ‫بأس بأكله فإنه حلل لكم‪ .‬هذا ما تضمنته الية كما قد تضمنت حرمة قتل المؤمنين لبعضهم‬ ‫سكُمْ} والنهي شامل لقتل النسان نفسه وقتله أخاه المسلم؛ لن‬ ‫بعضا‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وَل َتقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫المسلمين كجسم واحد‪ ،‬فالذي يتقل مسلما منهم كأنما قتل نفسه‪ .‬وعلل تعالى هذا التحريم لنا فقال‪:‬‬ ‫{إِنّ اللّهَ كَانَ ِبكُمْ رَحِيما} ‪ ،‬فلذا حرم عليكم قتل بعضكم بعضا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كل معاوضة في مباح فهي تجارة حتى إن ال تعالى سمى ثمن طاعته وطاعة رسوله تجارة‬ ‫في قوله تعالى‪َ { :‬هلْ أَدُّلكُمْ عَلَى ِتجَا َرةٍ‪ }...‬الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬كبيع العربون بأن يقول لخيه‪ :‬خذ هذه العشرة دنانير إن أخذت السلعة‪ ،‬وإل فهي لك‪ .‬هذا بيع‬ ‫باطل؛ لنه لحق له في أخذ العربون إن عجز أخوه عن أخذ السلعة له‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم يختلف في بيع الخيار‪ ،‬وذلك بأن يقول المسلم لخيه‪ :‬بعني كذا‪ ،‬أو بعت كذا‪ ،‬أو اعطني‬ ‫مهلة يوم أو يومين أفكر فيها‪ .‬فهذا البيع جائز إن تم وإن لم يتم واختلف في معنى قول الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"‪ .‬هل التفرق بالبدان‪ ،‬أو بالكلم؟‬ ‫والصحيح‪ :‬أنه بالبدان‪ ،‬فلكل منهما الفسخ والمضاء ماداما في المجلس فإن تفرقا مضى البيع‪.‬‬

‫( ‪)1/466‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)29‬أما الية الثانية(‪ )30‬فقد تضمنت وعيدا شديدا بالصلء بالنار‬ ‫والحراق فيها كل من يقتل مؤمنا عدوانا وظلما‪ ،‬أي‪ :‬بالعمد ‪ 1‬والصرار والظلم المحض‪ ،‬فقال‬ ‫س ْوفَ ُنصْلِيهِ نَارا َوكَانَ ذَِلكَ} أي‪ :‬الصلء‬ ‫ع ْدوَانا وَظُلْما فَ َ‬ ‫تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْف َعلْ ذَِلكَ} أي‪ :‬القتل { ُ‬ ‫والحراق في النار {عَلَى اللّهِ َيسِيرا} لكمال قدرته بهذا العذاب إذا ل يستطيع أن يدفع ذلك عن‬ ‫نفسه بحال من الحوال‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة مال المسلم‪ ،‬وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا‪.‬‬ ‫‪ -2‬إباحة التجارة والترغيب ‪ 2‬فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة‬ ‫التوكل‪.‬‬

‫‪ -3‬تقرير مبدأ " إنما البيع عن تراض" ‪ ،‬و "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين؛ لنهم أمة واحدة‪.‬‬ ‫‪ -5‬الوعيد الشديد لقاتل النفس ‪ 3‬عدوانا وظلما بالصلء بالنار‪.‬‬ ‫‪ -6‬إن كان القتل غير عدوان بأن كان خطأ‪ ،‬أو كان غير ظلم بأن كان عمدا ولكن بحق كقتل من‬ ‫قتل والده وابنه أو أخاه فل يستوجب هذا الوعيد الشديد‪.‬‬ ‫{إِنْ َتجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُ ْن َهوْنَ عَ ْنهُ ُن َكفّرْ عَ ْن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ وَنُدْخِ ْل ُكمْ مُدْخَلً كَرِيما(‪})31‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{إِنْ َتجْتَنِبُوا} ‪ :‬تبتعدوا لن الجتناب ترك الشيء عن جنب بعيدا عنه ل يقبل عليه ول يقربه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬لم يكن سهوا منه ول خطأ‪ ،‬وهو معنى‪{ :‬عدوانا} ‪ ،‬ول بحق؛ كقصاص وهو معنى‪:‬‬ ‫{ظلما}‪.‬‬ ‫‪ 2‬يكفي في الرد عليهم ثناء الرسول صلى ال عليه وسلم على التاجر المين في قوله‪" :‬التاجر‬ ‫الصدوق المين المسلم مع النبين والصديقين والشهداء يوم القيامة" ‪ .‬إلى أنه يحرم على التاجر أن‬ ‫يروج سلعته باليمان الكاذبة كما يكره أن يصلي على النبي عند عرض سلعته؛ كقوله‪ :‬صلي على‬ ‫محمد‪ ،‬ما أجود هذا‪ ،‬كما يكره له أن تشغله التجارة عن صلة الجماعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ورد الوعيد الشديد في قاتل نفسه من ذلك قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من قتل نفسه بشيء عذب‬ ‫به يوم القيامة" ‪ .‬رواه الجماعة‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده‬ ‫يجأ بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا‪ ،‬ومن قتل نفسه بسم‪ ،‬فسمه في يده يتحساه‬ ‫في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا‪ ،‬ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو متردٍ في نار جهنم خالدا مخلدا‬ ‫فيها أبدا"‪.‬‬

‫( ‪)1/467‬‬ ‫{كَبَائِرَ مَا تُ ْن َهوْنَ عَنْهُ} ‪ :‬الكبائر‪ :‬ضد الصغائر‪ ،‬والكبيرة تعرف بالحد ل بالعد‪ ،‬فالكبيرة ما توعد‬ ‫ال ورسوله عليهما‪ ،‬أو لعن ال ورسوله فاعلها أو شرع لها حد يقام على صاحبها‪ ،‬وقد جاء في‬ ‫الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر‪ ،‬وعلى المؤمن أن يعلم ذلك ليجتنبه‪.‬‬ ‫{ ُن َكفّرْ} ‪ :‬نغطي ونستر فل نطالب بها ول نؤاخذ عليها‪.‬‬ ‫{مُ ْدخَلً كَرِيما} ‪ :‬المدخل الكريم هنا‪ :‬الجنة دار المتقين‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يتفضل الجبار جل جلله وعظم إنعامه وسلطانه فيمن على المؤمنين من هذه المة المسلمة بأن‬ ‫وعدها وعد الصدق بأن من اجتنب منها كبائر الذنوب كفر عنه صغائرها وأدخله الجنة دار‬

‫السلم وخلع عليه حلل الرضوان فقال تعالى‪{ :‬إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُ ْن َهوْنَ‪ 1‬عَ ْنهُ} ‪ ،‬ما أنهاكم عنه‬ ‫أنا ورسولي { ُن َكفّرْ عَ ْن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ} التي هي دون الكبائر ‪ 2‬وهي الصغائر‪{ ،‬وَ ُندْخِ ْل ُكمْ مُ ْدخَلً كَرِيما}‬ ‫الذي هو الجنة‪ ،‬ول الحمد والمنة‪ .‬لهذا كانت هذه الية مبشرات القرآن لهذه المة‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب البتعاد عن سائر الكبائر‪ ،‬والصبر على ذلك حتى الموت‪.‬‬ ‫‪ -2‬الذنوب قسمان‪ :‬كبائر‪ ،‬وصغائر‪ .‬ولذا وجب العلم بها لجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن‬ ‫ذلك‪ ،‬ومن زل فليتب فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له ‪.3‬‬ ‫‪ -3‬الجنة ل يدخلها إل ذوو النفوس الزكية الطاهرة باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب‬ ‫والثام والفواحش ‪.4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اجتناب الكبائر إن كان المراد به‪ :‬كبائر الذنوب فلبد من ضميمة أداء الفرائض‪ ،‬فإن اجتناب‬ ‫الكبائر مع تضييع الفرائض غير مجد‪ ،‬وإن أريد باجتناب الكبائر تحاشي ترك الفرائض والحتماء‬ ‫من فعل الكبائر فذاك ويشهد لهذا حديث الصحيح‪" :‬الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة‬ ‫ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في تحديد الكبيرة وفي عددها‪ :‬أما العدد فقد قيل لبن عباس‪ :‬الكبائر سبع؟ قال‪" :‬هي‬ ‫إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع" وقد ورد النص في بعضها كحديث مسلم‪ " :‬اجتنبوا السبع‬ ‫الموبقات" فعد منها ستا‪ .‬وفي أحاديث صحاح أخرى ذكر عددا آخر‪ ،‬والذي عليه أهل العلم أنها ل‬ ‫تعد ولكن تحد كما في التفسير‪ ،‬وأما الصغيرة‪ :‬فهي نسبية فالنظرة إلى اللمسة صغيرة‪ ،‬واللمسة‬ ‫إلى القبلة صغيرة وهكذا‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده في حديث ابن عباس رضي ال عنهما غير أنه ل كبيرة مع استغفار ول صغيرة مع‬ ‫إصرار‪ ،‬بعد قوله‪" :‬هي إلى السبعمائة أقرب"‪.‬‬ ‫‪ 4‬أهل الكبائر الذين ماتوا يزاولونها ولم يغفر لهم ويشفع لهم فإنهم يطهرون وتزكوا نفوسهم‬ ‫بعذاب النار ثم يغسلون أيضا في نهر عند باب الجنة‪ ،‬يقال له‪ :‬نهر الحيوان‪ ،‬فيدخلون الجنة‬ ‫بنفوس زكية وأرواح طاهرة نقية‪.‬‬

‫( ‪)1/468‬‬ ‫ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا‬ ‫ضلَ اللّهُ بِهِ َب ْع َ‬ ‫{وَل تَ َتمَ ّنوْا مَا َف ّ‬ ‫جعَلْنَا َموَاِليَ ِممّا تَ َركَ‬ ‫شيْءٍ عَلِيما(‪ )32‬وَِل ُكلّ َ‬ ‫ن وَاسْأَلُوا اللّهَ مِنْ َفضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ ِب ُكلّ َ‬ ‫اكْتَسَبْ َ‬ ‫شهِيدا(‪})33‬‬ ‫شيْءٍ َ‬ ‫عقَ َدتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ فَآتُوهُمْ َنصِي َبهُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫لقْرَبُونَ وَالّذِينَ َ‬ ‫ن وَا َ‬ ‫ا ْلوَالِدَا ِ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَل تَ َتمَ ّنوْا} ‪ :‬التمني‪ :‬التشهي والرغبة في حصول الشيء‪ ،‬وأداته‪ :‬ليت‪ ،‬ولو‪ ،‬فإن كان مع زوال‬ ‫المرغوب فيه عن شخص ليحصل للمتمني فهو الحسد‪.‬‬ ‫ضكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ما فضل ال به أحدا منكم فأعطاه علما أو مالً أو جاها أو‬ ‫ضلَ اللّهُ ِبهِ َب ْع َ‬ ‫{مَا َف ّ‬ ‫سلطانا‪.‬‬ ‫{ َنصِيبٌ ِممّا اكْتَسَبُوا} ‪ :‬أي‪ :‬حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية‪.‬‬ ‫{ َموَاِليَ} ‪ :‬الموالي‪ :‬من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب‪.‬‬ ‫عقَ َدتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة واليمين‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{فَآتُوهُمْ َنصِي َبهُمْ} ‪ :‬من الرفادة والوصية والنصرة لنهم ليسوا ورثة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫صح أو لم يصح أن أم سلمة رضي ال عنها قالت‪ :‬ليتنا كنا رجالً فجاهدنا وكان لنا مثل أجر‬ ‫الرجال فإن ال سميع عليم‪ ،‬والذين يتمنون ‪ 1‬حسدا وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬التمني‪ :‬نوع إرادة يتعلق بالمستقبل‪ ،‬وعلى خلفه التلهف؛ لنه يتعلق بالماضي‪ ،‬وسر النهي‬ ‫عنه‪ :‬أن فيه تعلق البال بالمتمني ونسيان الجل‪ ،‬ولذا حرم التمني الذي هو الحسد‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬ ‫تمني زوال النعمة من غيره لتحصل له‪ ،‬وتمني زوال النعمة من غيره ولو لم تحصل له‪ ،‬وهو‬ ‫شر الحسد‪ .‬وهل الغبطة من الحسد؟ والجواب‪ :‬ل‪ .‬والغبطة هي‪ :‬أن يرى العبد نعمة علم أو مال‬ ‫لحد فيغتبط ويسأل ال تعالى أن يكون له ذلك العلم ليعلمه ويعمل به‪ ،‬أو يكون له ذلك المال‬ ‫ليتصدق به‪ .‬فهذه الغبطة محمودة لحديث البخاري‪" :‬ل حسد إل في اثنتين‪ ،‬رجل أتاه ال مالً‬ ‫فسلطه على هلكته في الحق‪ ،‬فيقول الرجل‪ :‬لو أن لي مثل مال فلن لعملت مثله فهم في الجر‬ ‫سواء "‪.‬‬

‫( ‪)1/469‬‬ ‫ال تعالى في هذه الية الكريمة(‪ )32‬عباده المؤمنين عن تمني ما فضل ال تعالى به بعضهم على‬ ‫بعض فأعطى هذا وحرم ذاك لحكم اقتضت ذلك‪ ،‬ومن أظهرها البتلء بالشكر والصبر‪ ،‬فقال‬ ‫ضكُمْ عَلَى‬ ‫ضلَ اللّهُ بِهِ} –من علم أو مال‪ .‬أو صحة أو جاه أو سلطان‪َ { -‬ب ْع َ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَل تَ َتمَ ّنوْا مَا َف ّ‬ ‫َب ْعضٍ} وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل‪ ،‬فليعمل من أراد الجر والمثوبة‬ ‫بموجبات ذلك من اليمان والعمل الصالح‪ ،‬ول يتمنى ذلك تمنيا‪ ،‬وليكف عن الشرك والمعاصي‬ ‫من خاف العذاب والحرمان ول يتمنى النجاة تمنيا كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسنته‬ ‫المنوطة به‪ ،‬ول يتمنى فقط فإن التمني كما قيل بضائع النوكى‪ ،‬أي‪ :‬الحمقى‪ ،‬فلذا قال تعالى‪:‬‬

‫{لِلرّجَالِ َنصِيبٌ ِممّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ َنصِيبٌ ِممّا اكْ َتسَبْنَ} ‪ ،‬فرد القضية إلى سنته فيها وهي كسب‬ ‫النسان‪ .‬كقوله تعالى ‪َ {:‬فمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َر ُه َومَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ} ثم بين‬ ‫تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب‪ :‬وهي دعاء ال تعالى فقال‪{ :‬وَاسْأَلُوا اللّهَ مِنْ‬ ‫شيْءٍ عَلِيما} فمن سأل ربه وألح ‪ 1‬عليه موقنا بالجابة أعطاه فيوفقه‬ ‫َفضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ ِب ُكلّ َ‬ ‫للتيان بالسباب‪ ،‬ويصرف عنه الموانع‪ ،‬ويعطيه بغير سب إن شاء‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪،‬‬ ‫بل ومن السباب المشروعة الدعاء والخلص فيه‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ )33‬فإن ال تعالى يخبر مقررا حكما ً شرعيا قد تقدم في السياق‪،‬‬ ‫جعَلْنَا ‪َ 2‬موَاِليَ} أي‪ :‬أقارب‬ ‫وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثون إذا مات فقال‪{ :‬وَِل ُكلّ َ‬ ‫يرثونه إذا مات‪ ،‬وذلك من النساء والرجال‪ ،‬أما الذين هم موالي بالحلف أو الخاء فقط‪ ،‬أي‪ :‬ليسوا‬ ‫من أولي الرحام‪ ،‬فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة‪ .‬والوصية لهم بشيء إذ لحظ‬ ‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ} ‪ ،‬ولما كان توزيع المال‬ ‫لهم في الرث‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وَأُولُوا الَرْحَامِ َب ْع ُ‬ ‫وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أنه على كل شيء شهيد فل يخفى‬ ‫عليه من أمر الناس شيء فليتق ول يُعص‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث الترمذي وغيره‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬سلوا ال من فضله‪ ،‬فإنه يحب أن يسأل‪،‬‬ ‫وأفضل العبادة انتظار الفرج" أي‪ :‬من ال تعالى‪ ،‬وهو تعلق القلب بالرب تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية ناسخة لكل من الرث بالتحالف والمؤاخاة‪ ،‬وهي كقوله تعالى‪{ :‬وَأُولُوا الَرْحَامِ‬ ‫عقَدت أيمَانكم} فقد كان‬ ‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} ‪ ،‬وهو المقصود بقوله تعالى‪{ :‬والّذين َ‬ ‫َب ْع ُ‬ ‫الرجل في الجاهلية يقوله لمن أراد محالفته‪ :‬دمي دمك‪ ،‬وهدمي هدمك‪ ،‬وثأري ثأرك‪ ،‬وحربي‬ ‫حربك‪ ،‬وسلمي سلمك‪ ،‬وترثي وأرثك‪ .‬وأما المؤاخاة‪ :‬فقد كانت بين المهاجرين والنصار بأمر‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فتوارثوا بها حتى نسخت بهذه الية‪ ،‬وآية النفال‪{ :‬وَأُولُوا الَرْحَامِ‬ ‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} ‪.‬‬ ‫َب ْع ُ‬

‫( ‪)1/470‬‬ ‫شهِيدا} ل يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه وأطيعوه ول‬ ‫شيْءٍ َ‬ ‫فقال‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫تعصوه‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬قبح التمني وترك العمل‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة الحسد‪.‬‬

‫‪ -3‬فضل الدعاء وأنه من السباب التي يحصل بها المراد‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير مبدأ التوارث في السلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬من عاقد أحدا على حلف أو آخى أحدا وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة وله أن‬ ‫يوصي له بما دون الثلث ‪ ،1‬أما الرث فل حق له لنسخ ذلك‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب مراقبة ال تعالى؛ لنه بكل شيء عليم‪ ،‬وعلى كل شيء شهيد‪.‬‬ ‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ وَ ِبمَا أَ ْن َفقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ فَالصّاِلحَاتُ‬ ‫ضلَ اللّهُ َب ْع َ‬ ‫{الرّجَالُ َقوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ ِبمَا َف ّ‬ ‫جعِ‬ ‫ن وَاهْجُرُوهُنّ فِي ا ْل َمضَا ِ‬ ‫حفِظَ اللّ ُه وَاللتِي تَخَافُونَ ُنشُوزَهُنّ َفعِظُوهُ ّ‬ ‫قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِ ْلغَ ْيبِ ِبمَا َ‬ ‫شقَاقَ بَيْ ِن ِهمَا‬ ‫خفْتُمْ ِ‬ ‫علِيّا كَبِيرا(‪ )34‬وَإِنْ ِ‬ ‫طعْ َنكُمْ فَل تَ ْبغُوا عَلَ ْيهِنّ سَبِيلً إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ َأ َ‬ ‫حكَما مِنْ أَهِْلهَا إِنْ يُرِيدَا ِإصْلحا ُي َوفّقِ اللّهُ بَيْ َن ُهمَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما‬ ‫حكَما مِنْ أَهْلِهِ وَ َ‬ ‫فَا ْبعَثُوا َ‬ ‫خَبِيرا(‪})35‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يدخل في هذا المتبني فإن لمن تبناه بمعنى‪ :‬رباه أن يوصي له بما دون الثلث‪ ،‬أما أن ينسبه إليه‬ ‫فل لنه محرم بالكتاب والسنة‪.‬‬

‫( ‪)1/471‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َقوّامُونَ} ‪ :‬جمع قوام ‪ :1‬وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلحا‪.‬‬ ‫ضهُمْ} ‪ :‬بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح للقوامة‪.‬‬ ‫ضلَ اللّهُ َب ْع َ‬ ‫{ ِبمَا َف ّ‬ ‫{وَ ِبمَا أَ ْنفَقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ‪ : }2‬وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على النساء فإن الرجل‬ ‫بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي هي الرئاسة‪.‬‬ ‫{فَالصّالِحَاتُ‪ : }3‬جمع صالحة‪ :‬وهي المؤدية لحقوق ال تعالى وحقوق زوجها‪.‬‬ ‫{قَانِتَاتٌ} ‪ :‬مطيعات ل ولزواجهن‪.‬‬ ‫{حَافِظَاتٌ لِ ْلغَ ْيبِ} ‪ :‬حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن‪.‬‬ ‫{نُشُوزَهُنّ} ‪ :‬النشوز‪ :‬الترفع عن الزوج وعدم طاعته‪.‬‬ ‫{ َفعِظُوهُنّ} ‪ :‬بالترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية‪.‬‬ ‫{فَل تَ ْبغُوا عَلَ ْيهِنّ سَبِيلً} ‪ :‬أي‪ :‬ل تطلبوا لهن طريقا تتوصلون به إلى ضربهن بعد أن أطعنكم‪.‬‬ ‫شقَاقَ بَيْ ِن ِهمَا} ‪ :‬الشقاق‪ :‬المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق مقابل‪.‬‬ ‫{ِ‬ ‫حكَما} ‪ :‬الحكم‪ :‬الحاكم‪ ،‬والمحكوم في القضايا للنظر والحكم فيها‪.‬معنى اليتين‪:‬‬ ‫{َ‬ ‫يروى في سبب نزول هذه الية أن‪ :‬سعد ‪ 4‬بن الربيع رضي ال عنه أغضبته امرأته فلطمها‪،‬‬ ‫فشكاه وليها إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كأنه يريد القصاص فأنزل ال تعالى هذه الية‪:‬‬

‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ وَ ِبمَا أَ ْن َفقُوا مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ} ‪ .‬فقال‬ ‫ضلَ اللّهُ َب ْع َ‬ ‫{الرّجَالُ َقوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ ِبمَا َف ّ‬ ‫ولي المرأة‪ :‬أردنا أمرا وأراد ال غيره‪ ،‬وما أراده ال خير‪ .‬ورضي بحكم ال تعالى وهو أن‬ ‫الرجل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوام‪ :‬ومثله‪ ،‬قيام‪ ،‬وقيوم‪ ،‬وقيم‪ .‬كلها بمعنى واحد مشتقة من القيام؛ لن من شأن من يهتم‬ ‫بالشيء وتدبيره أن يقف عليه ويقوم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخذ من هذه الجملة الفقهاء‪ :‬أن من عجز عن النفقة كان للزوجة فسخ النكاح لنعدام القوامة‬ ‫لها‪ ،‬التي بها استحق الرجل العصمة‪ ،‬وخالف أبو حنيفة‪ :‬فلم يرَ الطلق بالعسار‪.‬‬ ‫‪ 3‬أثنى رسول ال صلى ال عليه وسلم على هؤلء الصالحات بقوله‪" :‬خير النساء التي إذا نظرت‬ ‫إليها سرتك‪ ،‬وإذا أمرتك أطاعتك‪ ،‬وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" ‪ .‬وهو تفسير لقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬حَا ِفظَاتٌ لِ ْلغَ ْيبِ‪.}...‬‬ ‫‪ 4‬ذكر في سبب نزولها عدة أسباب‪ .‬وما ذكرناه أولى بالصحة والقبول‪.‬‬

‫( ‪)1/472‬‬ ‫ما دام قواما على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتى من عقل أكمل من عقلها‪ ،‬وعلمه‬ ‫أغرز من علمها غالبا‪ ،‬وبعد نظر في مبادئ المور ونهايتها أبعد من نظرها يضاف إلى ذلك أنه‬ ‫دفع مهرا لم تدفعه‪ ،‬والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها فلما وجبت له الرئاسة عليها‪ ،‬وهي‬ ‫رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربها بما ل يشين جارحة أو كيسر عضوا فيكون ضربه لها؛‬ ‫كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه‪ ،‬وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر ال تعالى‬ ‫بإكرام المرأة والحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها فقال‪{ :‬فَالصّالِحَاتُ} ‪ ،‬وهن‪ :‬اللئي‬ ‫يؤدين حقوق ال تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحقوق أزواجهن من الطاعة‬ ‫والتقدير والحترام {قَانِتَاتٌ} ‪ :‬أي‪ :‬مطيعات ل تعالى‪ ،‬وللزوج‪{ ،‬حَافِظَاتٌ لِ ْلغَ ْيبِ} أي‪ :‬حافظات‬ ‫حفِظَ اللّهُ} أي‪:‬‬ ‫مال الزوج وعرضه لحديث‪" :‬وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله ‪ِ { "1‬بمَا َ‬ ‫بحفظ ال تعالى لها وإعانته لها إذ لو وكلت إلى نفسها ل تستطيع حفظ شيء وإن قل‪ .‬وفي سياق‬ ‫الكلم ما يشير إلى محذوف يفهم ضمنا‪ ،‬وذلك أن الثناء عليهن من قبل ال تعالى يستوجب من‬ ‫الرجل إكرام المرأة الصالحة والحسان إليها والرفق بها لضعفها‪ ،‬وهذا ما ذكرته أولً نبته عليه‬ ‫هنا ليعلم أنه من دللة الية الكريمة‪ ،‬وقد ذكره غير واحد من السلف‪.‬‬ ‫ن وَا ْهجُرُوهُنّ فِي ا ْل َمضَاجِ ِع وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وَاللتِي َتخَافُونَ ُنشُوزَهُنّ َفعِظُوهُ ّ‬ ‫طعْ َنكُمْ فَل تَ ْبغُوا عَلَ ْيهِنّ سَبِيلً} ‪ .‬فإنه تعالى يرشد الزواج إلى كيفية علج الزوجة إذا نشزت‪،‬‬ ‫أَ َ‬ ‫أي‪ :‬ترفعت على زوجها ولم تؤدي إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما‪ ،‬فيقول‪{ :‬وَاللتِي‬

‫تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ} أي‪ :‬ترفعهن بما ظهر لكم من علمات ودلئل كأن يأمرها فل تطيع ويدعوها‬ ‫فل تجيب وينهاها فل تنتهي‪ ،‬فاسلكوا معهن السبيل التي‪َ { :‬ف ِعظُوهُنّ} أولً‪ ،‬والوعظ تذكيرها بما‬ ‫للزوج عليها من حق يجب أداؤه وما يترتب على إضاعته من سخط ال تعالى وعذابه‪ ،‬وبما قد‬ ‫ينجم من إهمالها في ضربها أو طلقها‪ ،‬فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات‪ ،‬وترهيب من‬ ‫عقوبة المفسدات العاصيات فإن نفع الوعظ فيها وإل فالثانية وهي‪ :‬أن يهجرها ‪ 2‬الزوج في‬ ‫الفراش فل يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد وقد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬رواه أبو داود الطيالسي‪ ،‬وقد تقدم في النهر آنفا‪ ،‬وهو حديث صحيح‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الهجر في الفراش شهر فل يزيد عليه كما فعل النبي صلى ال عليه وسلم حين أسر إلى‬ ‫حفصة فأفشته لعائشة‪ ،‬ول يكون كاليلء أربعة أشهر‪.‬‬

‫( ‪)1/473‬‬ ‫أعطاها ظهره فل يكلمها ول يجامعها وليصبر على ذلك حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة ال ربهما‬ ‫معا‪ ،‬وإن أصرت ولم يجد معها الهجران في الفراش‪ ،‬فالثالثة وهي‪ :‬أن يضربها ‪ 1‬ضربا غير‬ ‫مبرح ل يشين جارحة ول يكسر ‪ 2‬عضوا‪ .‬وأخيرا فإن هي أطاعت زوجها فل يحل بعد ذلك أن‬ ‫طعْ َنكُمْ} أي‪ :‬الزواج‬ ‫يطلب الزوج طريقا إلى أذيتها ل يضرب ول بهجران لقوله تعالى‪{ :‬فَإِنْ َأ َ‬ ‫{فَل تَ ْبغُوا} أي‪ :‬تطلبوا {عَلَ ْيهِنّ سَبِيلً} لذيتهن باختلف السباب وإيجاد العلل والمبررات‬ ‫علِيّا كَبِيرا} تذييل الكلم بما يشعر من أراد أن يعلو ‪ 3‬على‬ ‫لذيتهن‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫غيره بما أوتي من قدرة بأن ال أعلى منه وأكبر فليخش ال وليترك من علوه وكبريائه‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته هذه الية العظيمة(‪ ،)34‬أما الية الثانية(‪ )35‬فقد تضمنت حكما اجتماعيا آخر‬ ‫وهو إن حصل شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فل تلقي‬ ‫بينهما ول وفاق ول وئام ذلك لصعوبة الحال‪ ،‬فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد ال تعالى‬ ‫إليه‪ ،‬وهو أن يبعث ولي الزوجة حكما من قبله‪ ،‬ويبعث ولي الزوج حكما من قبله‪ ،‬أو يبعث‬ ‫الزوج نفسه حكما وتبعث الزوجة أيضا حكما من قبلها‪ ،‬أو يبعث القاضي كذلك‪ ،‬الكل جائز لقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬فَا ْبعَثُوا} وهو يخاطب المسلمين على شرط أن يكون الحكم عدلً عالما بصيرا حتى يمكنه‬ ‫الحكم والقضاء بالعدل‪ .‬فيدرس الحكمان القضية أولً مع طرفي النزاع ويتعرفان إلى أسباب‬ ‫الشقاق وبما في نفس الزوج من رضى وحب‪ ،‬وكراهية وسخط ثم يجتمعان على إصلح ذات‬ ‫البين‪ ،‬فإن أمكن ذلك فيها وإل فرقا بينهما برضى الزوجين‪ .‬مع العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم‬ ‫أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم‪ ،‬فإن كان الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤد ما و جب‬ ‫عليه‪ ،‬وإن كانت المرأة هي الظالمة فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها‪،‬‬

‫هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لم يصرح ال تعالى بالضرب في كتابه إل في الحدود‪ ،‬وهنا في ضرب الناشر‪ ،‬وهذا دليل على‬ ‫أن عصيان الزوجة لزوجها حرام‪ ،‬ويشهد لهذا حديث‪" :‬إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت‬ ‫عليه لعنتها الملئكة حتى تصبح" ‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬لحديث مسلم في خطبة الوداع‪ ،‬إذ فيه‪" :‬واتقوا ال في النساء فإنهن عندكم عوام ولكم عليهن أن‬ ‫ل يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه‪ ،‬فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح‪ ،‬ولهن رزقهن وكسوتهن‬ ‫بالمعروف"‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى أبو داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وابن ماجة‪ ،‬أنه لما قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تضربوا‬ ‫إماء ال" ‪ .‬فجاء عمر وقال‪ :‬يا رسول ال ذئرت النساء على أزواجهن فرخص صلى ال عليه‬ ‫وسلم في ضربهن‪ ،‬فأطاف بآل رسول ال نساء كثير يشتكين أزواجهن‪ .‬فقال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم" ومعنى‬ ‫ذئرت النساء‪ :‬أي‪ :‬نشزت وتغير خلقهن‪ ،‬أي‪ :‬نشزن وأجترأن‪ ،‬والجتراء هنا أولى بالمعنى‪.‬‬

‫( ‪)1/474‬‬ ‫شقَاقَ بَيْ ِن ِهمَا} ‪ ،‬و الخوف هنا بمعنى‪ :‬التوقع الكيد بما ظهر من علمات ولح من دلئل‬ ‫خفْتُمْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫حكَما مِنْ َأهِْلهَا} ‪ ،‬لنهما أعرف بحال‬ ‫حكَما مِنْ أَهْلِ ِه َو َ‬ ‫فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد {فَا ْبعَثُوا َ‬ ‫الزوجين من غيرهما وقوله تعالى‪{ :‬إِنْ يُرِيدَا ِإصْلحا} فإنه يعني الحكمين‪ُ { ،‬ي َوفّقِ اللّهُ بَيْ َن ُهمَا} ‪،‬‬ ‫أي‪ :‬إن كان قصدهما الصلح والجمع بين الزوجين وإزالة الشقاق والخلف بينهما فإن ال تعالى‬ ‫يعينهما على مهمتهما ويبارك في مسعاهما ويكلله بالنجاح‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما‬ ‫خَبِيرا} ‪ .‬ذكر تعليلً لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين‪ ،‬إذ لو لم يكن عليما خبيرا ما‬ ‫عرف نيات الحكمين وما يجري في صدورهما من إرادة الصلح أو الفساد‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب إكرام الصالحات والحسان إليهن‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان علج مشكلة نشوز ‪ 1‬الزوجة وذلك بوعظها أولً ثم هجرانها في الفراش ثانيا‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل يحل اختلف السباب وإيجاد مبررات لذية المرأة بضرب وبغيره‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك‪.‬‬ ‫حسَانا وَبِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي‬ ‫{وَاعْبُدُوا اللّ َه وَل ُتشْ ِركُوا ِبهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ‬

‫حبّ مَنْ كَانَ‬ ‫ل َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ إِنّ اللّهَ ل ُي ِ‬ ‫حبِ بِا ْلجَ ْنبِ وَابْنِ السّبِي ِ‬ ‫ب وَالصّا ِ‬ ‫ا ْلقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُ ُن ِ‬ ‫ن وَيَ ْأمُرُونَ‬ ‫مُخْتَالً فَخُورا(‪ )36‬الّذِينَ يَبْخَلُو َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النشوز‪ :‬العصيان‪ ،‬مأخوذ من النشز‪ ،‬وهو ما ارتفع من الرض‪ ،‬ويقال‪ :‬نشز الرجل ينشز إذا‬ ‫كان قاعدا فنهض قائما‪ .‬ومنه قوله تعالى‪{ :‬وَإِذَا قِيلَ ا ْنشُزُوا فَا ْنشُزُوا} ‪ ،‬أي‪ :‬ارتفعوا وقوموا‪.‬‬ ‫فنشوز المرأة‪ :‬ترفعها عن طاعة الزوج‪.‬‬

‫( ‪)1/475‬‬ ‫عذَابا ُمهِينا(‪ )37‬وَالّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ‬ ‫خلِ وَ َيكْتُمُونَ مَا آتَا ُهمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِ ِه وَأَعْتَدْنَا ِل ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫النّاسَ بِالْ ُب ْ‬ ‫س وَل ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَل بِالْ َيوْمِ الخِ ِر َومَنْ َيكُنِ الشّيْطَانُ َلهُ قَرِينا فَسَاءَ قَرِينا(‪)38‬‬ ‫َأ ْموَاَلهُمْ رِئَاءَ النّا ِ‬ ‫َومَاذَا عَلَ ْيهِمْ َلوْ آمَنُوا بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ وَأَنْ َفقُوا ِممّا رَ َز َقهُمُ اللّ ُه َوكَانَ اللّهُ ِبهِمْ عَلِيما(‪})39‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَاعْبُدُوا اللّهَ‪ : }1‬الخطاب للمؤمنين ومعنى‪ :‬اعبدوا‪ :‬أطيعوه في أمره ونهيه مع غاية الذل والحب‬ ‫والتعظيم له عز وجل‪.‬‬ ‫{وَل تُشْ ِركُوا بِهِ‪ 2‬شَيْئا} ‪ :‬أي‪ :‬ل تعبدوا معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات التي تعبد ال‬ ‫تعالى بها عباده من دعاء وخشية وذبح ونذر وركوع وسجود وغيرها‪.‬‬ ‫{وَبِذِي ا ْلقُرْبَى} ‪ :‬أصحاب القرابات‪.‬‬ ‫{وَابْنِ السّبِيلِ} ‪ :‬المسافر استضاف أو لم يستضف‪.‬‬ ‫{وَالْجَارِ ذِي ا ْلقُرْبَى ‪ : }3‬أي‪ :‬القريب لنسب أو مصاهرة‪.‬‬ ‫{وَالْجَارِ الْجُ ُنبِ} ‪ :‬أي‪ :‬الجنبي مؤمنا كان أو كافرا‪.‬‬ ‫حبِ بِا ْلجَ ْنبِ} ‪ :‬الزوجة‪ ،‬والصديق الملزم؛ كالتلميذ والرفيق في السفر‪.‬‬ ‫{وَالصّا ِ‬ ‫{ َومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُن ُكمْ} ‪ :‬من الرقاء العبيد فتيان وفتيات‪.‬‬ ‫{مُخْتَالً َفخُورا} ‪ :‬الختيال‪ :‬الزهو في المشي‪ ،‬والفخر والفتخار بالحسب والنسب والمال بتعداد‬ ‫ذلك وذكره‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية محكمة إجماعا ل نسخ فيها البتة‪ ،‬وتسمى آية الحقوق العشرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الشرك ثلثة أنواع‪ :‬شرك في ربوبية ال تعالى للعالمين‪ .‬شرك في أسماؤه تعالى وصفاته‪.‬‬ ‫وشرك في عبادته تعالى‪ .‬والشرك بأنواعه الثلثة من الذنب الذي ل يغفر لصاحبه إل بالتوبة‬ ‫الصادقة منه‪ .‬ومن شرك العبادة‪ :‬الرياء‪.‬‬ ‫‪ 3‬قالت عائشة رضي ال عنها‪ :‬يا رسول ال إن لي جارين فإلى أيهما أهدي‪ .‬فقال‪" :‬إلى أقربهما‬

‫منك بابا" والجيران الثلثة‪ :‬جار له ثلثة حقوق‪ .‬وجار له حقان‪ .‬وجار له حق واحد‪ .‬فالجار الذي‬ ‫له ثلثة حقوق‪ :‬فالجار المسلم القريب؛ حق الجوار‪ ،‬وحق القرابة‪ ،‬وحق السلم‪ .‬والجار الذي له‬ ‫حقان‪ :‬فالجار المسلم له حق الجوار‪ ،‬وحق السلم‪ .‬والجار الذي له حق واحد‪ :‬هو الكافر له حق‬ ‫الجواز‪.‬‬

‫( ‪)1/476‬‬ ‫{يَ ْبخَلُونَ} ‪ :‬يمنعون الواجب بذله من المعروف مطلقا‪.‬‬ ‫{وَ َيكْ ُتمُونَ} ‪ :‬يجحدون ما أعطاهم ال من علم ومال تفضلً منه عليهم‪.‬‬ ‫{قَرِينا} ‪ :‬القرين‪ :‬الملزم الذي ل يفارق صاحبه مشدود معه بقرن‪ ،‬أي بحبل‪.‬‬ ‫{ َومَاذَا عَلَ ْي ِهمْ‪ : }1‬أي‪ :‬أي شيء يضرهم أو ينالهم بمكروه إذا هم آمنوا؟‪.‬معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في هداية المؤمنين‪ ،‬وبيان الحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا‬ ‫ويسعدوا‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )36‬يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده ‪ 2‬فيها وبالحسان ‪ 3‬إلى‬ ‫الوالدين وذلك بطاعتهم في المعروف وإسداء الجميل لهم‪ ،‬ودفع الذى عنهم‪ ،‬وكذا القرباء‪،‬‬ ‫واليتامى‪ ،‬والمساكين‪ ،‬والجيران ‪ 4‬مطلقا أقرباء أو أجانب‪ ،‬والصاحب الملزم الذي ل يفارق؛‬ ‫كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب‪ ،‬ونحو ذلك من الملزمة التي ل تفارق إل‬ ‫نادرا‪ ،‬إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب بالجنب‪ .‬وكذا ابن السبيل وما ملكت اليمين من أمة أو‬ ‫عبد والمذكورون الحسان إليهم آكد وإل فالحسان معروف يبذل لكل الناس كما قال تعالى‪:‬‬ ‫حبّ مَنْ‬ ‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ} وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ل ُي ِ‬ ‫حسِنُوا إِنّ اللّهَ يُ ِ‬ ‫حسْنا} ‪ ،‬وقال {وَأَ ْ‬ ‫{ َوقُولُوا لِلنّاسِ ُ‬ ‫كَانَ مُخْتَالً فَخُورا} دال على أن منع الحسان الذي هو كف الذى وبذل المعروف ناتج عن خلق‬ ‫البخل والكبر وهما من شر الخلق هذا ما دلت عليه الية الولى(‪.)36‬‬ ‫وأما الية الثانية(‪ )37‬وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر والتنديد ببخل بعض أهل الكتاب‬ ‫خلِ‬ ‫ن وَيَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْ ُب ْ‬ ‫وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضا قال تعالى‪{ :‬الّذِينَ‪ 5‬يَبْخَلُو َ‬ ‫وَ َيكْ ُتمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِه} أي‪ :‬من مال وعلم وقد كتموا نُعوت النبي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تفهام هنا إنكاري توبيخي‪.‬‬ ‫‪ 2‬التوحيد ضد الشرك‪ ،‬وقد ورد في الشرك تحذيرا منه أحاديث صحاح منها حديث مسلم يقول‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬قال ال تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬فمن عمل‬ ‫عملً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرن تعالى في غير آية عبادته بالحسان إلى الوالدين نظرا إلى أن ال تعالى خلق ورزق فهو‬ ‫أحق بالطاعة‪ ،‬وأن الوالدين تكون الولد منهما وربياه في صغره‪ ،‬فكانت المنة لهما بعد ال تعالى‪.‬‬

‫‪ 4‬صح في الحسان إلى الجار العديد من الحاديث منها‪" :‬ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى‬ ‫ظننت أنه سيورثه" ‪ ،‬ومنها‪" :‬من كان يؤمن بال واليوم الخر فيكرم جاره" ‪ ,‬ومنها‪" :‬وال ل‬ ‫يؤمن‪ .‬فقيل من‪ :‬قال‪ :‬من ل يؤمن جاره بوائقه"‪.‬‬ ‫‪ 5‬البخل المذموم شرعا‪ :‬هو المتناع من أداء الحقوق الواجبة‪ .‬والشح‪ :‬بخل مع حرص‪ ،‬وهو شر‬ ‫من مجرد البخل‪.‬‬

‫( ‪)1/477‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم وصفاته الدالة عليه في التوراة والنجيل‪ ،‬وبخلوا بأموالهم وأمروا بالبخل‬ ‫بها‪ ،‬إذ كانوا يقولون للنصار ل تنفقوا أموالكم على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر‪ ،‬وخبر‬ ‫عذَابا ُمهِينا}‬ ‫الموصول الذين محذوف تقديره هم الكافرون حقا دل عليه قوله‪{ :‬وَأَعْ َتدْنَا ‪ِ 1‬ل ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫‪ .‬هذا ما جاء في هذه الية الثانية‪.‬‬ ‫أما اليتان الثالثة(‪ )38‬والرابعة(‪ )39‬فإن الولى منهما قد تضمنت بيان حال أناس آخرين غير‬ ‫اليهود وهم المنافقون فقال تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ رِئَاءَ النّاسِ} أي‪ :‬مراءاة لهم ليتقوا بذلك‬ ‫المذمة ويحصلوا على المحمدة‪{ .‬وَل ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَل بِالْ َيوْمِ الخِرِ} ‪ .‬لنهم كفار مشركون وإنما‬ ‫أظهروا السلم تقية فقط‪ ،‬ولذا كان إنفاقهم رياء ل غير‪ .‬وقوله‪َ { :‬ومَنْ َيكُنِ الشّيْطَانُ َلهُ قَرِينا‬ ‫فَسَاءَ قَرِينا} أي‪ :‬بئس القرين له الشيطان وهذه الجملة‪َ { :‬ومَنْ َيكُنِ الشّيْطَانُ‪ }...‬دالة على خبر‬ ‫الموصول المحذوف اكتفى بها عن ذكره كما في الموصول الول وقد يقدر بمثل‪ :‬الشيطان ‪2‬‬ ‫قرينهم‪ ،‬هو الذي زين لهم الكفر بال واليوم الخر‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الثانية(‪ )39‬وهي قوله تعالى { َومَاذَا عَلَ ْي ِهمْ ‪َ 3‬لوْ آمَنُوا بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ‬ ‫وَأَنْ َفقُوا ِممّا رَ َز َقهُمُ اللّهُ} فقد تضمنت النكار والتوبيخ لولئك المنافقين الذين ينفقون رياء الناس‬ ‫ول يؤمنون بال ول باليوم الخر بسب فتنة الشيطان لهم وملزمته إياهم‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬ومَاذَا‬ ‫عَلَ ْيهِمْ} أي‪ :‬أي شيء يضرهم أو أي أذى يلحقهم في العاجل أو الجل‪ ،‬لو صدقوا ال ورسوله‬ ‫وأنفقوا في سبيل ال مما رزقهم ال‪ ،‬وفي الخطاب دعوة ربانية لهم لتصحيح إيمانهم واستقامتهم‬ ‫بالخروج من دائرة النفاق التي أوقعهم فيها القرين عليه لعائن ال‪ ،‬فلذا لم يذكر تعالى وعيدا لهم‪،‬‬ ‫وإنما قال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ ِبهِمْ عَلِيما} وفي هذه تخويف لهم من سوء حالهم إذا استمروا على نفاقهم‬ ‫فإن علم ال بهم يستوجب الضرب على أيديهم إن لم يتوبوا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل‪{ :‬اعتدن} أعددن‪ ،‬أبدلت الدال الولى تاء لثقل الدالين عند فك الدغام‪ ،‬أما مع الدغام فل‬ ‫إبدال‪ ،‬نحو‪ :‬أعد‪ ،‬ومنه العتاد الحربي‪ ،‬وهو عدة السلح‪.‬‬

‫‪ 2‬أو فقرينهم الشيطان‪.‬‬ ‫‪ 3‬ماذا‪ :‬اسم استفهام بمعنى‪ :‬أي شيء‪ ،‬ويجوز أن تكون ما مبتدأ‪ ،‬وذا خبره‪ ،‬وهو بمعنى‪ :‬الذي‪.‬‬

‫( ‪)1/478‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عشرة حقوق والمر بأدائها فورا وهي عبادة ال وحده والحسان بالوالدين‪ ،‬وإلى كل‬ ‫المذكورين ‪ 1‬في الية الولى‪.‬‬ ‫‪ -2‬ذم الختيال ‪ 2‬الناجم عن الكبر وذم الفخر وبيان كره ال تعالى لهما‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة البخل ‪ 3‬والمر به وحرمة كتمان العلم وخاصة الشرعي منه‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة الرياء وذم صاحبها‪.‬‬ ‫‪ -5‬ذم قرناء السوء لما يأمرون به ويدعون إليه قرنائهم حتى قيل‪:‬‬ ‫عن المرء ل تسأل وسل عن قرينه ‪ ...‬فكل قرين بالمقارن يقتدى‬ ‫{إِنّ اللّهَ ل يَظِْلمُ مِ ْثقَالَ‪ 4‬ذَ ّر ٍة وَإِنْ َتكُ حَسَنَةً ُيضَاعِ ْفهَا وَ ُيؤْتِ مِنْ َلدُنْهُ َأجْرا عَظِيما(‪َ )40‬فكَ ْيفَ إِذَا‬ ‫صوُا الرّسُولَ‬ ‫ع َ‬ ‫شهِيدا(‪َ )41‬ي ْومَئِذٍ َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُوا وَ َ‬ ‫شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ عَلَى َهؤُلءِ َ‬ ‫جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ‬ ‫سوّى ِبهِ ُم الَ ْرضُ وَل َيكْ ُتمُونَ اللّهَ حَدِيثا(‪})42‬‬ ‫َلوْ تُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الظلم ‪ :‬وضع شيء في غير موضعه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخص المملوك بذكر ما ورد فيه‪ ،‬ففي مسلم يقول صلى ال عليه وسلم‪" :‬للمملوك طعامه‬ ‫وشرابه وكسوته‪ ،‬ول يكلف من العمل ما ل يطيق" ‪ ،‬وقال‪" :‬ل يقل أحدكم‪ :‬عبدي‪ ،‬وأمتي‪ .‬بل‬ ‫يقل‪ :‬فتاي‪ ،‬وفتاتي" ‪ ،‬وفي هذا مراعاة لجانب التوحيد‪ ،‬ومراعاة لشعور المملوك حتى ل يرى أنه‬ ‫مهان مستضعف‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم في فضل العبد الصالح‪ " :‬للعبد المملوك المصلح‬ ‫أجران"‬ ‫‪ 2‬الختيال من أكبر الذنوب‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬أن ال ل ينظر إلى من جر ثوبه خيلء "‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬وأي داء أدوأ من البخل "‪ ،‬وقال‪" :‬إ ياكم والشح فإنه أهلك‬ ‫من كان قبلكم‪ ،‬أمرهم بالقطيعة فقطعوا‪ ،‬وأمرهم بالفجور ففجروا" ‪ ،‬وفي رواية‪ " :‬حملهم على أن‬ ‫سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬نصب {مِ ْثقَال} على المفعولية المطلقة‪ ،‬إذ التقدير‪" :‬ل يظلمون ظلما مقدرا بمثقال ذرة‪،‬‬ ‫والمثقال‪ :‬ما يظهر به الثقل‪ ،‬فهو كاسم الله "مفعال" والمراد به المقدار‪ ،‬والذرة بيضة النملة"‪.‬‬

‫( ‪)1/479‬‬ ‫{مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ} ‪ :‬المثقال‪ :‬الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل‪ ،‬والذرة أصغر حجم في‬ ‫الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة‪.‬‬ ‫الحسنة ‪ :‬الفعلة الجميلة من المعروف‪.‬‬ ‫ع ْفهَا} ‪ :‬يريد فيها ضعفها‪.‬‬ ‫{ ُيضَا ِ‬ ‫{مِنْ َلدُنْهُ} ‪ :‬من عنده‪.‬‬ ‫{َأجْرا عَظِيما} ‪ :‬جزاء كبيرا وثوابا عظيما‪.‬‬ ‫الشهيد ‪ :‬الشاهد على الشيء لعلمه به‪.‬‬ ‫{ َيوَدّ} ‪ :‬يحب‪.‬‬ ‫سوّى ِبهِمُ الَرْضُ} ‪ :‬يكونون ترابا مثلها‪.‬‬ ‫{تُ َ‬ ‫حدِيثا} ‪ :‬أي‪ :‬ل يخفون كلما‪.‬‬ ‫{وَل َيكْ ُتمُونَ اللّهَ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أمر تعالى في اليات السابقة بعبادته والحسان إلى من ذكر من عباده‪ .‬وأمر بالنفاق في‬ ‫سبيله‪ ،‬وندد بالبخل والكبر والفخر‪ ،‬وكتمان العلم‪ ،‬وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيرا أو شرا‬ ‫عفْهَا وَ ُي ْؤتِ مِنْ َلدُنْهُ َأجْرا‬ ‫ذكر في هذه الية(‪{ )40‬إِنّ اللّ َه ل َيظْلِمُ‪ 1‬مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ وَإِنْ َتكُ حَسَ َنةً ُيضَا ِ‬ ‫عَظِيما} ‪ ،‬ذكر عدله في المجازاة ورحمته‪ ،‬فأخبر أنه عند الحساب ل يظلم عبده وزن ذرة وهي‬ ‫أصغر شيء وذلك بأن ل ينقص من حسناته حسنة‪ ،‬ول يزيد في سيئاته سيئة‪ ،‬وإن توجد لدى‬ ‫مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من عنده بدون مقابل أجرا عظيما ل‬ ‫يقادر قدره‪ ،‬فلله الحمد والمنة‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)40‬أما الية الثانية(‪ )41‬فإنه تعالى‬ ‫لما ذكر الجزاء والحساب الدال عليه السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة المر‬ ‫شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ‬ ‫فيه‪ ،‬فخاطب رسوله صلى ال عليه وسلم قائلً‪َ { :‬فكَيْف ‪ 2‬إِذَا جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ‬ ‫شهِيدا} ؟ ومعنى الية‪ :‬فكيف تكون حال أهل الكفر والشر والفساد إذا جاء ال تعالى‬ ‫عَلَى َهؤُلءِ َ‬ ‫بشهيد من كل أمة ليشهد ‪ 3‬عليهما فيما أطاعت وفيما عصت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى عن ابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪" :‬أن هذه الية إحدا آيات هي خير مما طلعت عليه الشمس"‬ ‫ووجه ذلك في حديث الشفاعة في صحيح مسلم‪ ،‬إذ فيه‪" :‬ثم يقول لهم ارجعوا فمن وجدتم في قلبه‬ ‫مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها‪- ،‬أي‪ :‬النار –‬ ‫خيرا" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬كيف فتحت فاؤها للتقاء الساكنين‪ ،‬إذ المفروض فيها أنها ساكنة وهي هنا في محل نصب‪ ،‬إذ‬

‫التقدير‪ :‬تكون حالهم كيف‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو رسولها الذي أرسل إليها‪.‬‬

‫( ‪)1/480‬‬ ‫ليتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر واليمان والمعاصي والطاعات‪ ،‬وجئنا‬ ‫بك أيها الرسول الخليل صلى ال عليه وسلم شهيدا على هؤلء‪ ،‬أي‪ :‬على أمته صلى ال عليه‬ ‫وسلم من آمن به ومن كفر‪ ،‬إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صلى ال عليه وسلم‪ .‬هذا ما‬ ‫تضمنته الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )42‬فإنه تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في‬ ‫الية(‪ )41‬ذكر مثلً لذلك الهول وهو أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لو يسوون‬ ‫بالرض فيكونون ترابا حتى ل يحاسبوا ول يجزوا بجهنم‪ .‬وأنهم في ذلك اليوم ل يكتمون ال‬ ‫كلما؛ إذ جوارحهم تنطق فتشهد عليهم‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ي ْومَئِذٍ} أي‪ :‬يوم يؤتى من كل أمة بشهيد { َيوَدّ‬ ‫سوّى ‪ِ 1‬ب ِه ُم الَ ْرضُ} فيكونون ترابا مثلها ‪ .2‬مرادهم أن يسووا‬ ‫عصَوُا الرّسُولَ َلوْ تُ َ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُوا وَ َ‬ ‫هم بالرض فيكونون ترابا وخرج الكلم على معنى‪ :‬أدخلت رأسي في القلنسوة‪ ،‬والصل‪ :‬أدخلت‬ ‫القلنسوة في رأسي‪ ،‬وقوله {وَل َيكْ ُتمُونَ اللّهَ حَدِيثا} إخبار عن عجزهم عن كتمان شيء عن ال‬ ‫تعالى؛ لن جوارحهم تشهد عليهم بعد أن يختم على أفواههم‪ ،‬كما قال تعالى من سورة يس {الْ َيوْمَ‬ ‫شهَدُ أَ ْرجُُلهُمْ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ} ‪.‬‬ ‫نَخْ ِتمُ عَلَى َأ ْفوَا ِههِ ْم وَ ُتكَّلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَ ْ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان عدالة ال تعالى ورحمته ومزيد فضله‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان هول يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الرض فكان ترابا‪.‬‬ ‫‪ -3‬معرفة رسول ال صلى ال عليه وسلم بآثار الشهادة على العبد بيوم القيامة إذ أخبر عبد ال‬ ‫بن مسعود رضي ال عنه‪ ،‬أنه قال له رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما‪" :‬اقرأ عليّ القرآن‪،‬‬ ‫فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال‪ :‬أحب أن أسمعه من غيري‪ .‬قال‪ :‬فقرأت‪{ :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا‬ ‫شهِيدٍ} الية‪ ،‬وإذا عينا رسول ال‬ ‫رَ ّبكُمُ} حتى وصلت هذه الية‪َ { :‬فكَ ْيفَ‪ِ 3‬إذَا جِئْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ بِ َ‬ ‫صلى ال عليه وسلم تذرفان الدموع ‪ 4‬وهو يقول‪ :‬حسبك‪ .‬أي‪ :‬كفاك ما قرأت عليّ"‪.‬‬ ‫__________‬ ‫سوّى} بتشديد كل من السين والواو مع فتح التاء في السبع‪ ،‬وقرئت أيضا‪{ :‬تَسوى}‬ ‫‪ 1‬قرئت‪{ :‬ت ّ‬ ‫بفتح التاء وتخفيف السين وتشديد الواو‪ ،‬وبضم التاء وتشديد الواو‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬تمنوا لو انفتحت لهم الرض فساخوا فيها فتكون الباء بمعنى‪ :‬على‪ ،‬أي‪ :‬لو تسوى عليهم‪،‬‬ ‫أي‪ :‬تنشق فتسوى عليهم‪.‬‬

‫‪ 3‬الستفهام للتعجب من حال الناس في عرصات القيامة‪ ،‬وقد جيء بالشهود‪{ :‬وَأُزِْل َفتِ الْجَنّةُ‬ ‫لِ ْلمُ ّتقِينَ* وَبُرّ َزتِ ا ْلجَحِيمُ لِ ْلغَاوِينَ} ‪.‬‬ ‫‪ 4‬إن بكاء الرسول صلى ال عليه وسلم هنا لسببين‪ :‬الول‪ :‬المسرة التي نالته بتشريف ال تعالى‬ ‫له في هذا المشهد العظيم‪ ،‬حيث يؤتى به شهيدا على أمته‪ ،‬ل يعرف عدد أفرادها إل ال خالقها‪،‬‬ ‫ويدخل الجنة بشهادته عدد ل يحصى‪ .‬والثاني‪ :‬السى والسف الذي يلحقه من رؤيته أعدادا هائلة‬ ‫من أمته يدخلون النار بشهادته عليهم‪ .‬واليكاء‪ :‬يكون للمسرة والحزن معا‪.‬‬

‫( ‪)1/481‬‬ ‫ن وَل جُنُبا إِل عَابِرِي‬ ‫سكَارَى حَتّى َتعَْلمُوا مَا َتقُولُو َ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل َتقْرَبُوا الصّلةَ وَأَنْ ُتمْ ُ‬ ‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ ا ْلغَا ِئطِ َأوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ‬ ‫سفَرٍ َأوْ جَاءَ أَ َ‬ ‫سَبِيلٍ حَتّى َتغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَ ْرضَى َأوْ عَلَى َ‬ ‫غفُورا(‪})43‬‬ ‫ع ُفوّا َ‬ ‫صعِيدا طَيّبا فَامْسَحُوا ِب ُوجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫فَلَمْ َتجِدُوا مَاءً فَتَ َي ّممُوا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل َتقْرَبُوا} ‪ :‬ل تدنوا كناية عن الدخول فيها‪ ،‬أو ل تدنوا من مساجدها‪.‬‬ ‫سكَارَى} ‪ :‬جمع سكران‪ ،‬وهو من شرب مسكرا فستر عقله وغطاه‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫{ َتعَْلمُوا مَا َتقُولُونَ} ‪ :‬لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن قوت الصلة‪ ،‬وهذا كان قبل تحريم‬ ‫الخمر وسائر المسكرات‪.‬‬ ‫{وَل جُنُبا‪ : }1‬الجنب‪ :‬من به جنابة وللجنابة سببان جماع‪ ،‬أو احتلم‪.‬‬ ‫{عَابِرِي ‪ 2‬سَبِيلٍ} ‪ :‬مارين بالمسجد مرورا بدون جلوس فيه‪.‬‬ ‫{ا ْلغَا ِئطِ} ‪ :‬المكان المنخفض للتغوط‪ :‬أي‪ :‬التبرز فيه‪.‬‬ ‫{لمَسْتُمُ النّسَاءَ} ‪ :‬جامعتموهن‪.‬‬ ‫صعِيدا طَيّبا} ‪ :‬اقصدوا ترابا طاهرا‪.‬‬ ‫{فَتَ َي ّممُوا َ‬ ‫غفُورا} ‪ :‬عفوا‪ :‬ل يؤاخذ على كل ذنب‪ ،‬غفورا‪ :‬كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه‪.‬‬ ‫ع ُفوّا َ‬ ‫{َ‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ل شك أن لهذه الية سببا نزلت بمقتضاه‪ ،‬وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي ال عنه‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ول جُنبا} هذا معطوف على محل جملة‪{ :‬حتى َتعْلَموُا} أي‪ :‬ل تصلوا‪ ،‬وقد أجنبتم‪ ،‬لفظ‪:‬‬ ‫الجنب‪ ،‬ل يؤنث ول يثنى ول يجمع؛ لنه على وزن المصدر؛ كالقرب والبعد‪ ،‬يقال‪ :‬هو جنب‪،‬‬ ‫وهي جنب‪ ،‬وهم جنب‪ ،‬وهن جنب‪ ،‬بل فرق‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬عبرت الطريق‪ .‬إذا قطعته من جانب إلى جانب آخر‪ ،‬وعبرت النهر كذلك‪ ،‬والمعبر‪ :‬ما‬

‫يعبر عليه من سفينة ونحوها‪ ،‬وناقة عبر أسفار‪ ،‬ل يزال يسافر عليها ويقطع بها الفلة‪ ،‬والهاجرة‪:‬‬ ‫لسرعة مشيها‪.‬‬

‫( ‪)1/482‬‬ ‫حسب رواية الترمذي أقام مأدبة لبعض الصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلة فقاموا لها‬ ‫وتقدم أحدهم يصلي بهم‪ ،‬فقرأ بسورة الكافرون‪ ،‬وكان ثملن فقرا‪ :‬قل يا أيها الكافرون أعبد ما‬ ‫تعبدون‪ ،‬وهذا باطل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‪ 1‬آمَنُوا‪ }....‬أي‪ :‬يا من‬ ‫صدقتكم بال ورسوله‪{ ،‬ل َتقْرَبُوا الصّلة} أي‪ :‬ل تدخلوا فيها‪ ،‬والحال أنكم سكارى من الخمر إذ‬ ‫كانت يومئذ حللً غير حرام‪ ،‬حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب فتعلموا ما‬ ‫تقولون في صلتكم‪ .‬ول تقربوا مساجد الصلة للجلوس فيها‪ ،‬وأنتم جنب حتى تغتسلوا اللهم إل‬ ‫من كان منكم عابر سبيل‪ ،‬إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي‪{ .‬وَإِنْ كُنْ ُتمْ‬ ‫مَ ْرضَى} بجراحات يضرها الماء أو مرضى مرضا ل تقدرون معه على استعمال الماء للوضوء‬ ‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ ا ْلغَا ِئطِ َأ ْو لمَسْتُمُ النّسَاءَ} بمضاجعهن أو‬ ‫سفَرٍ‪َ 2‬أوْ جَاءَ أَ َ‬ ‫علَى َ‬ ‫أو الغسل‪ ،‬أو كنتم { َ‬ ‫جدُوا مَاءً} تغتسلون به إن كنتم جنبا أو تتوضأون به إن كنتم‬ ‫مستموهن بقصد الشهوة {فََلمْ تَ ِ‬ ‫صعِيدا طَيّبا} أي‪ :‬اقصدوا ترابا طاهرا { فَامْسَحُوا ِبوُجُو ِه ُكمْ‬ ‫محدثين حدثا أصغر {فَتَ َي ّممُوا َ‬ ‫وَأَيْدِيكُمْ} مرة واحدة فإن ذلك مجزئ لكم عن الغسل والوضوء‪ ،‬فإن صح المريض أو وجد الماء‬ ‫فاغتسلوا أو توضأوا ول تيمموا لنتفاء الرخصة بزوال المرض أو وجود الماء‪ .‬وقوله تعالى في‬ ‫غفُورا} يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده‬ ‫ع ُفوّا َ‬ ‫ختام الية {إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫المؤمنين إذا خالفوا أمره‪ ،‬وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه‪ ،‬ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما‬ ‫صلوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون‪ ،‬وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليما لهم وهداية لهم‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ النسخ للحكام الشرعية في القرآن والسنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة مكث ‪ 3‬الجنب في المسجد‪ ،‬وجواز العبور والجتياز بدون مكث‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أبو داود في سننه‪" :‬أنه لما نزلت أية البقرة‪َ { :‬يسْألوُنَك عَنْ الخَمر والمَيِسْر} قال عمر‪:‬‬ ‫اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا‪ ،‬ولما نزلت هذه الية من النساء قال‪ :‬اللهم بين لنا في الخمر‬ ‫بيانا شافيا‪ ،‬ولما نزلت آية المائدة‪{ :‬فَهلْ أنْتم مُنتَهون} قال‪ :‬انتهينا يا ربنا"‪.‬‬ ‫‪ 2‬هل السفر مبيح للتيمم‪ ،‬وإن وجد الماء؟ الجواب‪ :‬ل‪ .‬وإنما ذكر السفر؛ لن الغالب فيه أنه ل‬ ‫يوجد ماء‪ .‬أما الحضر‪ :‬فالماء فيه قلما ينقطع ول يوجد‪.‬‬

‫‪ 3‬يحرم قراءة القرآن على الجنب لحديث ابن ماجة وغيره‪" :‬ل يقرأ الجنب والحائض شيئا من‬ ‫القرآن" ‪ ،‬وحديث الدارقطني‪" :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يحجبه عن قراءة القرآن‬ ‫شيء إل أن يكون جنبا"‪.‬‬

‫( ‪)1/483‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الغسل على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء‪ ،‬أ جامع أهله فأولج‬ ‫ذكره ‪ 1‬في فرج امرأته ولم لم ينزل ماء‪.‬‬ ‫وكيفية الغسل‪ :‬أن يغسل كفيه قائلً‪ :‬بسم ال ناويا رفع الحدث الكبر ثم يستنجي فيغسل فرجيه‬ ‫وما حولهما‪ ،‬ثم يتوضأ فيغسل كفيه ثلثا‪ ،‬ثم يتمضمض ويستنشق الماء‪ ،‬ويستثره ثلثا‪ ،‬ثم يغسل‬ ‫وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثم يغمس‬ ‫كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه‪ ،‬ثم يحثو الماء على رأسه بغسله بكل حثوة‪ ،‬ثم يفيض‬ ‫الماء على شقه اليمن يغسله‪ ،‬ثم على شقه اليسر يغسله‪ .‬من أعله إلى أسفله‪ ،‬ويتعهد بالماء‬ ‫إبطيه وكل مكان من جسمه ينبو عنه الماء كالسرة وتحت الركبتين ‪.2‬‬ ‫‪ -4‬إذا لم يجد المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الرض ‪ 3‬من رمل وسبخة وحجارة‬ ‫والتيمم هو أن يضرب بكفه الرض ثم يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي ال عنه في‬ ‫الصحيح‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان عفو ال وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى‪.‬‬ ‫{أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا َنصِيبا مِنَ ا ْلكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلَل َة وَيُرِيدُونَ أَنْ َتضِلّوا السّبِيلَ(‪ )44‬وَاللّهُ‬ ‫ضعِهِ‬ ‫عدَا ِئكُ ْم َو َكفَى بِاللّ ِه وَلِيّا َوكَفَى بِاللّهِ َنصِيرا(‪ )45‬مِنَ الّذِينَ هَادُوا ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَا ِ‬ ‫أَعْلَمُ بِأَ ْ‬ ‫سمَ ٍع وَرَاعِنَا لَيّا بِأَ ْلسِنَ ِتهِمْ‬ ‫سمَعْ غَيْرَ مُ ْ‬ ‫عصَيْنَا وَا ْ‬ ‫س ِمعْنَا وَ َ‬ ‫وَيَقُولُونَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث مسلم‪ " :‬إذا جلس شعبها الربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" ‪ ،‬أما حديث‬ ‫مسلم‪ " :‬إنما الماء من الماء" فمنسوخ بالحديث المذكور أعله‪ ،‬وعلى هذا جماهير الصحابة‬ ‫والتابعين والئمة الربعة‪.‬‬ ‫‪ 2‬لحديث‪" :‬تحت كل شعرة جنابة اغلسوا الشعر وأنفقوا البشرة" ‪ .‬قال ابن عيينة‪" :‬المراد وأنفقوا‬ ‫البشرة‪ :‬غسل الفرجين وتنظيفهما"‪.‬‬ ‫‪ 3‬الجماع على جوا ز التيمم بالتراب المنبت الطاهر غير المنقول ول المغصوب‪ .‬والجماع على‬ ‫عدم الجواز على الذهب والفضة والياقوت والزمرد والطعمة؛ كالخبز واللحم وغيرهما‪ .‬وكذا‬ ‫النجاسات واختلف فيه غير ما ذكر؛ كالحجارة والسبخة والرمل وما إلى ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/484‬‬ ‫سمَ ْع وَانْظُرْنَا َلكَانَ خَيْرا َل ُه ْم وََأ ْقوَ َم وََلكِنْ َلعَ َنهُمُ‬ ‫طعْنَا وَا ْ‬ ‫س ِمعْنَا وََأ َ‬ ‫ن وََلوْ أَ ّنهُمْ قَالُوا َ‬ ‫طعْنا فِي الدّي ِ‬ ‫وَ َ‬ ‫اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيلً(‪})46‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أََلمْ تَرَ} ‪ :‬ألم تبصر‪ ،‬أي‪ :‬بقلبك‪ ،‬أي‪ :‬تعلم‪.‬‬ ‫{ َنصِيبا} ‪ :‬حظا وقسطا‪.‬‬ ‫{يَشْتَرُونَ الضّلَلةَ} ‪ :‬أي‪ :‬الكفر باليمان‪.‬‬ ‫{العداء} ‪ :‬جمع عدو‪ ،‬وهو يقف بعيدا عنك يود ضرك ويكره نفعك‪.‬‬ ‫{هَادُوا} ‪ :‬أي‪ :‬اليهود‪ ،‬قيل لهم ذلك لقولهم‪{ :‬إِنّا هُدْنَا إِلَ ْيكَ} ‪ ،‬أي‪ :‬تبنا ورجعنا‪.‬‬ ‫{ ُيحَ ّرفُونَ} ‪ :‬التحريف‪ :‬الميل بالكلم عن معناه إلى معنى باطل للتضليل‪.‬‬ ‫{ا ْلكَِلمَ} ‪ :‬الكلم‪ ،‬وهو كلم ال تعالى في التوراة‪.‬‬ ‫سمَعٍ} ‪ :‬أي‪ :‬اسمع ما تقول ل أسمعك ال‪ .‬وهذا كفر منهم صريح‪.‬‬ ‫سمَعْ غَيْرَ مُ ْ‬ ‫{وَا ْ‬ ‫طعْنا فِي الدّينِ} ‪ :‬سبهم للرسول صلى ال عليه وسلم هو الطعن العظم في الدين‪.‬‬ ‫{وَ َ‬ ‫{وَانْظُرْنَا} ‪ :‬وأمهلنا حتى تسمع فتفهم‪.‬‬ ‫{وََأ ْقوَمَ} ‪ :‬أعدل وأصوب‪.‬‬ ‫{َلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ} ‪ :‬طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روي أن هذه اليات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة‪ ،‬كان إذا كلم‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لوى لسانه‪ ،‬وقال‪ :‬راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك‪ ،‬ثم طعن في‬ ‫السلم وعليه فأنزل ال تعالى هذه اليات الثلث إلى قوله {فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيلً} ‪ ،‬وهذا شرحها‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا َنصِيبا مِنَ ا ْلكِتَابِ يَشْتَرُونَ‪ 1‬الضّللَ َة وَيُرِيدُونَ أَنْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة‪{ :‬يَشْتَروُن} في محل نصب حالية‪ ،‬وهي بضميمة جملة‪{ :‬وأُوتوا َنصِيبا مِنَ الكِتاب}‬ ‫فيكون مثار العجب في نفس السامع لن اشتراء العالم الضللة أمر عجب بل شك‪.‬‬

‫( ‪)1/485‬‬

‫َتضِلّوا السّبِيلَ} أي‪ :‬ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على التعجب‪ :‬العلم بالذين‬ ‫أتوا نصيبا من الكتاب وهم‪ :‬رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود‪ ،‬أعطوا حظا من التوراة فعرفوا‬ ‫صحة الدين السلمي‪ ،‬وصدق نبيه صلى ال عليه وسلم {يَشْتَرُونَ الضّللَةَ} وهو الكفر يشترونها‬ ‫باليمان‪ ،‬حيث جحدوا نعوت النبي وصفاته في التوراة للبقاء على مركزهم بين قومهم يسودون‬ ‫ويتفضلون‪ ،‬ويريدون مع ذلك أن تضلوا أيها المؤمنون السبيل سبيل الحق والرشد‪ ،‬وهو اليمان‬ ‫عدَا ِئكُمْ} الذين يودون ضركم‬ ‫بال ورسوله والعمل بطاعتهما للسعاد والكمال‪ { .‬وَاللّهُ أَعَْلمُ‪ 1‬بِأَ ْ‬ ‫ول يودون نفعكم‪ ،‬ولذا أخبركم بهم لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم‪َ { .‬و َكفَى بِاللّهِ‬ ‫وَلِيّا} لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه { َو َكفَى بِاللّهِ َنصِيرا} ينصركم عليهم وعلى غيرهم‬ ‫فاعبدوه وتوكلوا عليه‪{ .‬مِنَ‪ 2‬الّذِينَ هَادُوا يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَاضِعِهِ} أي‪ :‬هم من اليهود الذين‬ ‫يحرفون الكلم عن مواضعه‪ ،‬والكلم هو كلم ال تعالى في التوراة‪ ،‬وتحريفه بالميل به عن‬ ‫القصد‪ ،‬أو بتبديله وتغييره تضليلً للناس وإبعادا لهم عن الحق المطلوب منهم اليمان به والنطق‬ ‫سمَعْ غَيْرَ‬ ‫عصَيْنَا ‪ 3‬وَا ْ‬ ‫س ِمعْنَا وَ َ‬ ‫والعمل به‪ .‬ويقولون للنبي صلى ال عليه وسلك كفرا وعنادا { َ‬ ‫سمَعٍ‪ ، }4‬أي‪ :‬ل أسمعك ال {وراعنا} وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في‬ ‫مُ ْ‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذ اليهود يعدونها من الرعونة يقولونها لرسول ال صلى ال‬ ‫طعْنا فِي‬ ‫عليه وسلم سبا وشتما له قبحهم ال ولعنهم وقطع دابرهم‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬لَيّا بِأَلْسِنَ ِتهِمْ وَ َ‬ ‫الدّينِ} أي‪ :‬يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بخا حتى ل تظهر عليهم‪ ،‬ويطعنون بها رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫سمَ ْع وَا ْنظُرْنَا} أي‪ :‬انتظرنا بدل راعنا لكان خيرا‬ ‫طعْنَا وَا ْ‬ ‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ قَالُوا َ‬ ‫لهم وأقوم‪ ،‬أي‪ :‬أعدل وأكثر لياقة وأدبا‪ ،‬ولكن ل يقولون هذا؛ لن ال تعالى لعنهم وحرمهم من‬ ‫كل توفيق بسبب كفرهم فهم ل يؤمنون إل قليلً‪ .‬أي‪ :‬إيمانا ل ينفعهم لقلته فهو ل يصلح أخلقهم‬ ‫ول يطهر نفوسهم ول يهيئهم للكمال في الدنيا ول في الخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة إعتراضية‪ ،‬وهي تحمل التعريض بأن إرادة اليهود تضليل المسلمين ناجمة عن عداوة‬ ‫وحسد للمسلمين‪.‬‬ ‫‪{ 2‬مِنَ الّذينَ هَادُوا} خبر لمبتدأ محذوف تقديره‪ :‬من الذين هادوا‪ ،‬جماعة يحرفون الكلم عن‬ ‫مواضعه‪ ،‬و"من" تبعيضية‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬إنهم كانوا يقولون‪ :‬سمعنا قولك وعصينا أمرك"‪.‬‬ ‫سمَع غَيرْ مُسْمع} اسمع ل‬ ‫‪ 4‬وعن ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬أن مرادهم من قولهم‪{ :‬وا ْ‬ ‫سمعت"‪.‬‬

‫( ‪)1/486‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان مكر اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضللهم في عهد النبوة وإلى اليوم‪.‬‬ ‫‪ -2‬في كفاية ال للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليمان ‪ 1‬القليل ل يجدي صاحبه ول ينفعه بحال‪.‬‬ ‫س وُجُوها فَنَ ُردّهَا عَلَى‬ ‫طمِ َ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ آمِنُوا ِبمَا نَزّلْنَا ُمصَدّقا ِلمَا َم َعكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َن ْ‬ ‫ت َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ َمفْعُولً(‪})47‬‬ ‫أَدْبَارِهَا َأوْ نَ ْلعَ َنهُمْ َكمَا َلعَنّا َأصْحَابَ السّ ْب ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪ ،‬والمراد بهم هنا اليهود ل غير‪.‬‬ ‫{ ِبمَا نَزّلْنَا ُمصَدّقا} ‪ :‬القرآن‪.‬‬ ‫س وُجُوها} ‪ :‬نذهب آثارها بطمس العين وإذهاب أحداقها‪.‬‬ ‫طمِ َ‬ ‫{ َن ْ‬ ‫{فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} ‪ :‬نجعل الوجه قفا‪ ،‬والقفا وجها‪.‬‬ ‫{ َكمَا َلعَنّا َأصْحَابَ السّ ْبتِ} ‪ :‬لعنهم‪ :‬مسخهم قردة خزيا لهم وعذابا مهينا‪.‬‬ ‫{ َوكَانَ َأمْرُ اللّهِ مَ ْفعُولً} ‪ :‬أمر ال‪ :‬مأموره كائن ل محالة لنه تعالى ل يعجزه شيء‪.‬معنى الية‬ ‫الكريمة‪:‬‬ ‫ما زال السياق في اليهود المجاورين للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ففي هذه الية ناداهم ال‬ ‫تبارك ‪2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده قوله تعالى‪{ :‬فَل يؤمنون إل قَليل} هذا يصح إن كانت الجملة دالة على شيء من‬ ‫اليمان‪ ،‬أما على رأي من يرى أن الكلم دال على نفي اليمان بالكلية فل دليل في الية على أن‬ ‫قليل اليمان ل ينفع‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال القرطبي‪ :‬قال ابن إسحاق‪ :‬كلم رسول ال صلى ال عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود‬ ‫منهم‪ :‬عبد ال بن صوريا‪ ،‬وكعب بن أسد‪ ،‬وقال لهم‪" :‬يا معشر يهود اتقوا ال وأسلموا فوال إنكم‬ ‫لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق" ‪ .‬قالوا‪ :‬ما نعرف ذاك يا محمد‪ .‬وجحدوا ما عرفوا وأصروا‬ ‫على الكفر‪ .‬فأنزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪.‬‬

‫( ‪)1/487‬‬ ‫وتعالى بعنوان العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمرا إياهم باليمان بكتابه‪،‬‬ ‫أي‪ :‬القرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذ اليمان بالمنزل إيمان بالمنزل‬

‫عليه ضمنا‪ .‬فقال‪{ :‬آمنوا} بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول والمر‬ ‫باليمان به ونصرته خفوا إلى اليمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما حل ببعض أسلفكم‬ ‫س ُوجُوها‪ }1‬فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها‬ ‫طمِ َ‬ ‫حيث مسخوا قردة وخنازير {مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَ ْ‬ ‫ونُغلق أفواهها فتصبح الوجوه أقفاء‪ ،‬والقفاء وجوها يمشون القهقراء وهو معنى قوله ‪ { :‬فَنَرُدّهَا‬ ‫عَلَى أَدْبَارِهَا َأوْ نَ ْلعَ َن ُهمْ َكمَا َلعَنّا َأصْحَابَ السّ ْبتِ} أي‪ :‬الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا‬ ‫فيه‪ ،‬وهو محرم عليهم فمسخهم قردة خاسئين‪َ { .‬وكَانَ َأمْرُ اللّهِ} أي‪ :‬مأموره { َمفْعُولً} ناجزا‪ ،‬ل‬ ‫يتخلف ول يتأخر لن ال تعالى ل يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية ‪ ،‬ولكن من سبقت شقوته لما يعلم ال تعالى من‬ ‫اختياره الشر والصرار عليه ل ينفعه العلم‪ ،‬ول يهتدي به هؤلء اليهود الذين دعاهم ال تعالى‬ ‫إلى اليمان فلم يؤمنوا‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما ل يحب النسان من عذاب ونكال‪.‬‬ ‫‪ -3‬قد يكون المسخ في الوجه بمسخ الفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء‪ ،‬وهذا الذي حصل‬ ‫ليهود المدينة‪ .‬فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصرارهم على الكفر‬ ‫وعداء الرسول صلى ال عليه وسلم والمؤمنين‪.‬‬ ‫{إِنّ اللّهَ ل َي ْغفِرُ أَنْ يُشْ َركَ‪ِ 2‬ب ِه وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ يَشَا ُء َومَنْ ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَدِ افْتَرَى إِثْما‬ ‫عَظِيما}‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال مالك رحمه ال تعالى‪" :‬كان أول إسلم كعب الحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه‬ ‫الية‪{ :‬يَا أهْل الكتاب‪ }...‬إلخ‪ .‬فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقري إلى بيته فأسلم مكانه‪،‬‬ ‫وقال‪ :‬وال لقد خفت أل أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي"‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى الترمذي عن علي ابن أبي طالب رضي ال عنه أنه قال‪" :‬ما في القرآن آية أحب إلي من‬ ‫هذه الية {إِنّ اللّهَ ل َي ْغفِرُ أَنْ يُشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ َيشَاءُ} "‪ ،‬قال هذا حديث حسن‬ ‫غريب‪.‬‬

‫( ‪)1/488‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل َي ْغفِرُ} ‪ :‬ل يمحو ول يترك للمؤاخذة‪.‬‬ ‫{أَنْ ُيشْ َركَ بِهِ} ‪ :‬أي‪ :‬يعبد معه غيره تأليها له بحبه وتعظمه وتقديم القرابين له‪ ،‬وصرف العبادات‬

‫له كدعائه والستعانة به والذبح والنذر له‪.‬‬ ‫{وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ} ‪ :‬أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركا‬ ‫ول كفرا‪.‬‬ ‫{ِلمَنْ َيشَاءُ} ‪ :‬أي‪ :‬لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر‪.‬‬ ‫عظِيما} ‪ :‬افترى‪ :‬اختلق وكذب كبا بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى‪ ،‬والثم‪ :‬الذنب‬ ‫{افْتَرَى إِثْما َ‬ ‫العظيم الكبير‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫سهِ ْم ل‬ ‫يروى أنه لما نزل قول ال تعالى من سورة الزمر‪ُ { :‬قلْ يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬ ‫جمِيعا} قام رجل فقال‪ :‬والشرك يا نبي ال؟ فكره ذلك‬ ‫حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ‬ ‫َتقْنَطُوا مِنْ رَ ْ‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنزل ال تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ل َي ْغفِرُ أَنْ يُشْ َركَ‪ِ 1‬ب ِه وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ‬ ‫ذَِلكَ ِلمَنْ َيشَاءُ} ‪ ،‬فأخبر تعالى عن نفسه بأنه ل يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر‪ ،‬وأما سائر‬ ‫الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها‪ ،‬وإن شاء آخذه بها‬ ‫وعذبه‪ ،‬وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من ل يستحق العبادة وأنه من ل‬ ‫حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل‪ ،‬ومن هنا كان ذنبه عظيما‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم ذنب ‪ 2‬الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما‪.‬‬ ‫‪ -2‬الشرك ذنب ‪ 3‬ل يغفر لمن مات بدون توبة منه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ومع ظهور سبب النزول فإن الية تحمل تهديدا ووعيدا للناس شديدين يفهم ذلك من حرف‬ ‫التعليل‪ ،‬وهو‪{ :‬إن ال} كأنه يقول‪ :‬يا أيها الناس ادخلوا في السلم إن ال ل يغفر أن يشرك به‪.‬‬ ‫‪ 2‬وجه عظم ذنب الشرك يدرك بما يلي‪ :‬أولً‪ :‬أنه ذنب ل يغفر إل لمن تاب منه‪ .‬ثانيا‪ :‬إنه محبط‬ ‫ك وَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ‪.‬‬ ‫عمَُل َ‬ ‫للعمل مهما كثر وعظم لقوله تعالى‪ { :‬لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَ َيحْبَطَنّ َ‬ ‫‪ 3‬يعرف الشرك‪ :‬بأنه عبادة غير ال مع ال‪ .‬ومن أنواع العبادة‪ :‬التعظيم‪ ،‬والرغبة‪ ،‬والرهبة‪،‬‬ ‫والدعاء‪ ،‬والذبح‪ ،‬والنذر‪ ،‬والركوع‪ ،‬والسجود‪ ،‬والصيام‪ ،‬والحلف‪ ،‬وهو من التعظيم‪.‬‬

‫( ‪)1/489‬‬ ‫‪ -3‬سائر الذنوب دون الشرك والكفر ل ييأس فاعلها من مغفرة ال تعالى له وإنما يخاف‪.‬‬ ‫‪ -4‬الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعلٌ به‪.‬‬ ‫س ُهمْ‪َ 1‬بلِ اللّهُ يُ َزكّي مَنْ يَشَا ُء وَل يُظَْلمُونَ فَتِيلً(‪ )49‬انْظُرْ كَيْفَ‬ ‫{أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُ َزكّونَ أَ ْنفُ َ‬

‫ب َوكَفَى بِهِ إِثْما مُبِينا(‪})50‬‬ ‫َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تزكية النفس ‪ :‬تبرئتها من الذنوب والثام‪.‬‬ ‫{يُ َزكّي مَنْ يَشَاءُ} ‪ :‬يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس‪ ،‬وإعانته‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫الفتيل ‪ :‬الخيط البيض يكون في وسط النواة‪ ،‬أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو‬ ‫جسمه وهو أقل الشياء وأتفهها‪.‬‬ ‫{ا ْل َك ِذبَ} ‪ :‬عدم مطابقة الخير للواقع‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين‪{ :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُ َزكّونَ‬ ‫سهُمْ} وهو أمر يحمل على العجب والستغراب إذ المفروض أن المرء ل يزكي نفسه حتى‬ ‫أَ ْنفُ َ‬ ‫خلَ ا ْلجَنّةَ‬ ‫يزكيه غيره‪ ،‬فاليهود والنصارى قالوا‪{ :‬نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ} ‪ .‬وقالوا‪َ { :‬وقَالُوا لَنْ َيدْ ُ‬ ‫إِل مَنْ كَانَ هُودا َأوْ َنصَارَى} ‪ .‬وقالت اليهود‪{ :‬لَنْ َتمَسّنَا النّارُ‪ 2‬إِل أَيّاما َمعْدُودَاتٍ} ‪ ،‬إلى غير‬ ‫ذلك من الدعاوي الباطلة‪ ،‬ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن‬ ‫اليمان والدخول في السلم وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده‪ ،‬وذلك‬ ‫بتوفيقه إلى اليمان وصالح العمال التي تزكو عليها النفس البشرية‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬بلِ اللّهُ يُ َزكّي‬ ‫ظَلمُونَ فَتِيلً} أي‪ :‬أقل قليل فل يزاد‬ ‫مَنْ يَشَاءُ وَل يُ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل خلف في أن المراد بالذين يزكون أنفسهم في هذه الية هم اليهود‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومن جملة أقوالهم في تزكية نفوسهم بأفواههم قولهم‪" :‬ل ذنب لنا وما فعلناه نهارا يغفر لنا‬ ‫ليلً"‪ ،‬وما فعلناه ليلً يغفر لنا نهارا" وقولههم‪" :‬نحن كالطفال في عدم الذنوب"‪ .‬وثناء بعضهم‬ ‫على بعض‪.‬‬

‫( ‪)1/490‬‬ ‫في ذنوب العبد ول ينقص من حسناته‪ .‬ثم أمر ال تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلء اليهود‬ ‫والنصارى وهم يكذبون على ال تعالى‪ ،‬ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفا‪ .‬وكفى‬ ‫بالكذب إثما مبينا‪ .‬يغمس صاحبه في النار‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة تزكية المرء ‪ 1‬نفسه بلسانه والتفاخر بذلك‪ ،‬إما طلبا للرئاسة‪ ،‬وإما تخليا عن العبادة‬

‫والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته‪ ،‬ورضى ال تعالى عنه‪.‬‬ ‫‪ -2‬ال يزكي عبده بالثناء عليه في المل العلى‪ ،‬ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من‬ ‫صلة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية النفس البشرية وتطهيرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى‪{ :‬وَل يُظَْلمُونَ فَتِيلً} ‪.‬‬ ‫ت وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ َكفَرُوا َهؤُلءِ‬ ‫ت وَالطّاغُو ِ‬ ‫{أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا َنصِيبا مِنَ ا ْلكِتَابِ ُي ْؤمِنُونَ بِالْجِ ْب ِ‬ ‫أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلً(‪ )51‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َلعَ َن ُهمُ اللّ ُه َومَنْ يَ ْلعَنِ اللّهُ فَلَنْ َتجِدَ َلهُ َنصِيرا(‪ )52‬أَمْ‬ ‫سدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ‬ ‫َلهُمْ َنصِيبٌ مِنَ ا ْلمُ ْلكِ فَإِذا ل ُيؤْتُونَ النّاسَ َنقِيرا(‪ )53‬أَمْ َيحْ ُ‬ ‫ح ْكمَ َة وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما(‪)54‬‬ ‫َفضْلِهِ َفقَدْ آتَيْنَا آلَ‪ 2‬إِبْرَاهِيمَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى مسلم عن عمر بن عطاء‪ ،‬قال‪ :‬سميت ابنتي‪ :‬برة‪ .‬فقالت لي زينب بنت أبي سلمة‪ :‬إن‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم نهى عن هذا السم‪ ،‬وسميت برة‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬أتزكون أنفسكم ال أعلم بأهل البر منكم"‪ .‬فقالوا‪ :‬بما نسميها؟‪ .‬فقال‪" :‬سموها زينب"‪ .‬قال‬ ‫الدارقطني‪ :‬فدل الكتاب والسنة على المنع من تزكية النسان نفسه‪ .‬ويجري هذا المجرى ما قد‬ ‫كثر في هذه الديار المصرية‪ .‬من نعت أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية‪ :‬كزكي الدين‪ ،‬ومحي‬ ‫الدين‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬لكن لما كثرت قبائح المسلمين بهذه السماء ظهر تخلف هذه النعوت عن‬ ‫أصلها فصارت ل تفيد شيئا‪.‬‬ ‫‪ 2‬آل إبراهيم هم‪ :‬ذريته من أولد وأحفاد وما تناسل منهم؛ كداود وسليمان ومن بعدهم‪.‬‬

‫( ‪)1/491‬‬ ‫سعِيرا (‪})55‬‬ ‫جهَنّمَ َ‬ ‫ن صَدّ عَنْهُ َوكَفَى ِب َ‬ ‫َفمِ ْنهُمْ مَنْ آمَنَ ِب ِه َومِ ْنهُمْ مَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بِا ْلجِ ْبتِ وَالطّاغُوتِ} ‪ :‬الجبت ‪ :1‬اسم لكل ما عبد من دون ال وكذا الطاغون سواء كانا صنمين‬ ‫أو رجلين‪.‬‬ ‫أهدى سبيل ‪ :‬أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما‪.‬‬ ‫{ َنقِيرا} ‪ :‬النقير‪ :‬نقرة في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها‪.‬‬ ‫الحسد ‪ :‬تمني زال النعمة عن الغير والحرص على ذلك‪.‬‬ ‫ح ْكمَةَ} ‪ :‬السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع اللهي‪.‬‬ ‫{وَالْ ِ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روي أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون‬ ‫الحزاب لحرب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما نزلوا مكة قالت قريش‪ :‬نسألهم فإنهم أهل‬

‫كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى‬ ‫عظِيما} ‪ .‬وهذا شرحها‪{ :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ‬ ‫منه وممن اتبعه‪ .‬فأنزل ال تعالى هذه اليات إلى قوله { َ‬ ‫أُوتُوا َنصِيبا مِنَ ا ْلكِتَابِ ُي ْؤمِنُونَ بِالْجِ ْبتِ‪ 2‬وَالطّاغُوتِ} ألم ينته إلى علمك أيها الرسول‪ :‬أن الذين‬ ‫أوتوا حظا من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون‬ ‫بأفضلية عبادتها على عبادة ال تعالى {وَ َيقُولُونَ لِلّذِينَ َكفَرُوا} وهم مشركوا قريش‪ :‬دينكم خير من‬ ‫دين محمد وأنتم أهدى طريقا في حياتكم الدينية والجتماعية ألم يك موقف هؤلء اليهود مثار‬ ‫الدهشة والستغراب والتعجب لهل العلم والمعرفة بالدين الحق‪ ،‬إذ يقرون الباطل ويصدقون به؟‬ ‫{أُولَ ِئكَ الّذِينَ َلعَ َنهُمُ اللّهُ} أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة‪ ،‬البعيدون في أغوار الكفر والشر‬ ‫والفساد لعنهم ال فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى‪َ { ،‬ومَنْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقيل‪ :‬الجبت‪ :‬الساحر بلغة الحبشة‪ ،‬والطاغوت‪ :‬الكاهن‪ .‬عن ابن عباس وأبي جبير وأبي‬ ‫العالية‪ ،‬وقال عمر رضي ال عنه‪ :‬الجبت‪ :‬السحر‪ ،‬والطاغوت‪ :‬الشيطان‪ .‬وقال مالك‪ :‬الطاغوت‬ ‫ما عبد من دون ال‪ .‬وقيل‪ :‬هما كل ما عبد من دون ال أو مطاع في معصية ال‪ .‬وهذا حسن‬ ‫وهو ما ذكرناه في التفسير‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج أبو داود عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬الطرق والطيرة والعياثة من الجبت"‬ ‫والمراد من الطرق‪ :‬الخط بخط في الرض للبحث عن معرفة ما يحدث للنسان‪ .‬والعياثة‪ :‬زجر‬ ‫الطير للتشاؤم والتيمن‪ ،‬والطيرة‪ :‬التطير‪ .‬وأصل الجبت‪ :‬الجبس‪ ،‬وهو مال خير فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/492‬‬ ‫جدَ لَهُ} يا رسولنا { َنصِيرا} ينصره من الخذلن الذي وقع فيه والهزيمة الروحية‬ ‫يَ ْلعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَ ِ‬ ‫التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد‪.‬‬ ‫ثم قال تعالى في الية(‪{ )53‬أَمْ َل ُهمْ َنصِيبٌ مِنَ ا ْلمُ ْلكِ فَإِذا ل ‪ُ 1‬يؤْتُونَ النّاسَ َنقِيرا} ‪ .‬أي‪ :‬ليس لهم‬ ‫نصيب من الملك كما يدعون‪ ،‬فالستفهام للنكار عليهم دعوة أن الملك يؤول إليهم‪ ،‬وهم لشدة‬ ‫بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحدا أحقر الشياء وأتفهها ولو مقدار نواة‪ ،‬وهذا ذم لهم بالبخل‬ ‫بعد ذمهم بلزم الجهل‪ ،‬وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬أَمْ َيحْسُدُونَ‪ 2‬النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ َفقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ ا ْلكِتَابَ‬ ‫عظِيما} أم بمعنى بل كسابقتها للضراب –النتقال من حال سيئة إلى‬ ‫ح ْكمَ َة وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا َ‬ ‫وَالْ ِ‬ ‫أخرى‪ ،‬والهمزة للنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى ال عليه وسلم والمؤمنين على‬ ‫النبوة والدولة‪ ،‬وهو المراد من الناس وقوله تعالى‪َ { :‬فقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ ا ْلكِتَابَ} ؛ كصحف‬ ‫إبراهيم والتوراة والزبور والنجيل‪ ،‬والحكمة التي هي السنة التي كانت لولئك النبياء يتلقونها‬

‫وحيا من ال تعالى‪ ،‬وكلها علم نافع وحكم صائب سديد‪ ،‬والملك العظيم هو ما كان لداود وسليمان‬ ‫عليهما السلم كل هذا يعرفه اليهود فلم ل يحسدون محمدا والمسلمين‪ ،‬والمراد من السياق ذم‬ ‫اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم‪.‬‬ ‫ن صَدّ عَ ْنهُ} يريد أن من اليهود المعاهدين‬ ‫وقوله تعالى في الية(‪َ { :)55‬فمِ ْنهُمْ مَنْ آمَنَ بِ ِه َومِ ْنهُمْ مَ ْ‬ ‫ن صَدّ عَ ْنهُ}‬ ‫للنبي صلى ال عليه وسلم من آمن بالنبي ‪ 3‬محمد ورسالته‪ ،‬وهم القليل‪َ { ،‬ومِ ْنهُمْ مَ ْ‬ ‫سعِيرا} لمن كفر حسدا وصد عن‬ ‫جهَنّمَ َ‬ ‫أي‪ :‬انصرف وصرف الناس عنهم وهم الكثرون { َو َكفَى ِب َ‬ ‫سبيل ال بخلً ومكرا‪ ،‬أي‪ :‬حسبه جهنم ذات السعير جزاء له على الكفر والحسد والبخل‪ ،‬والعياذ‬ ‫بال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذا هنا‪ :‬ملغاة‪ ،‬فلم تنصب المضارع بعدها‪ ،‬وذلك لدخول فاء العطف عليها‪ ،‬لو نصب وكان في‬ ‫غير القرآن بها لجاز النصب‪ .‬قال سيبويه‪" :‬إذا في عوامل الفعال بمنزلة‪ :‬ظن في عوامل‬ ‫السماء‪ ،‬أي‪ :‬تلغى ول تعمل‪ .‬إذا لم يكن الكلم معتمدا عليها"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحسد‪ :‬كبيرة من كبائر الذنوب؛ لنه اعتراض على ال فيما قسمه بين عباده وورد فيه أنه‬ ‫يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‪ .‬قيل فيه‪ :‬إنه أول ذنب عصي ال به في السماء‪ ،‬وأول ذنب‬ ‫عصي ال به في الرض‪ .‬إذ حسد إبليس آدم في السماء‪ .‬وحسد قابيل هابيل في الرض‪.‬‬ ‫‪ 3‬وجائز أن يكون الضمير عائدا إلى إبراهيم عليه السلم أو إلى الكتاب‪ .‬وما ذكرناه في التفسير‬ ‫هو الحق‪.‬‬

‫( ‪)1/493‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الكفر بالجبت والطاغوت‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم ل يتورعون عن الغش والكذب والتضليل‪.‬‬ ‫‪ -3‬ذم الحسد والبخل‪.‬‬ ‫‪ -4‬إيمان بعض اليهود بالسلم‪ ،‬وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة السلم ووجوب اليمان به‬ ‫والدخول فيه‪.‬‬ ‫جتْ جُلُو ُدهُمْ َبدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا‬ ‫س ْوفَ ُنصْلِيهِمْ نَارا كُّلمَا َنضِ َ‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا َ‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ‬ ‫حكِيما(‪ )56‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫ا ْلعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزا َ‬ ‫طهّ َر ٌة وَنُ ْدخُِلهُمْ ظِلّ ظَلِيلً(‪})57‬‬ ‫تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدا َلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ مُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫{ ُنصْلِيهِمْ نَارا‪ : }1‬ندخلهم نارا يحترقون بها‪.‬‬ ‫جتْ جُلُودُ ُهمْ‪ : }2‬اشتوت فتهرت وتساقطت‪.‬‬ ‫{ َنضِ َ‬ ‫{لِ َيذُوقُوا ا ْل َعذَابَ} ‪ :‬ليستمر لهم العذاب مؤلما‪.‬‬ ‫حكِيما} ‪ :‬غالبا‪ ،‬يعذب من يستحق العذاب‪.‬‬ ‫{عَزِيزا َ‬ ‫{ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ} ‪ :‬تجري من خلل أشجارها وقصورها النهار‪.‬‬ ‫طهّ َرةٌ} ‪ :‬من الذى والقذى مطلقا‪.‬‬ ‫{مُ َ‬ ‫{ظِلّ ظَلِيلً‪ : }3‬الظل الظليل‪ :‬الوارف الدائم ل حر فيه ول برد به‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال‪ :‬صله يصليه صليا‪ ،‬وأصله إصلء‪ ،‬أي‪ :‬اللحم إذا شواه على النار‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن نضج‬ ‫الرأي‪ ،‬أي‪ :‬محقه‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬نضج الشواء‪ ،‬إذا بلغ حد الشي‪.‬‬ ‫‪ 3‬صفة مؤكدة؛ كيوم أيوم‪ ،‬وليل أليل‪ ،‬والظليل هو‪ :‬السجسج الذي ل حر فيه ول قر‪.‬‬

‫( ‪)1/494‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫على ذكر اليمان والكفر في الية السابقة ذكر تعالى في هاتين اليتين الوعيد والوعد الوعيد لهل‬ ‫س ْوفَ ُنصْلِيهِمْ نَارا} يريد يدخلهم‬ ‫الكفر والوعد لهل اليمان فقال تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا َ‬ ‫جتْ جُلُودُ ُهمْ} تهرت وسقطت بدلهم ‪ 1‬ال تعالى‬ ‫نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها {كُّلمَا َنضِ َ‬ ‫حكِيما}‬ ‫فورا جلودا غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزا َ‬ ‫تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم؛ لن العزيز الغالب ل يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه‪،‬‬ ‫كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى(‬ ‫‪ )56‬من وعيد لهل الكفر‪.‬‬ ‫وأما الية الثانية(‪ )57‬فقد تضمنت البشرى السارة لهل اليمان وصالح العمال‪ ،‬مع اجتناب‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ} أي‪ :‬بعد تركهم الشرك‬ ‫الشرك والمعاصي فقال تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫طهّ َرةٌ}‬ ‫والمعاصي {سَ ُندْخُِل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ‪ 2‬فِيهَا أَبَدا َلهُمْ فِيهَا أَ ْزوَاجٌ ُم َ‬ ‫يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول‬ ‫ظلِيلً} وارفا كنينا يقيهم الحر والبرد‪ .‬وحدث‬ ‫والغائض ودم الحيض‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَنُ ْدخُِلهُمْ ظِلّ َ‬ ‫يوما رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪" :‬في الجنة شجرة تسمى ‪ 3‬شجرة الخلد يسير الراكب‬ ‫في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها" ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الكفر والمعاصي موجبات ‪ 4‬للعذاب الخروي‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان الحكمة في تبديل الجلود لهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الخروي‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن جلودهم تبدل في الساعة مائة مرة‪ ،‬وروي أن هذه الية تليت عند عمر رضي ال‬ ‫عنه فقال عمر للقارئ‪ :‬أعدها فأعادها عليه‪ .‬وعنده كعب فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين أنا عندي تفسير‬ ‫لها‪ .‬فذكر أنه تبدل في الساعة الواحدة مائة وعشرين مرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر هذا الخلود إعظاما للمنة‪ ،‬و {خالدين} منصوب على الحال المقدرة‪ ،‬أي‪ :‬حال كون خلودهم‬ ‫مقدرا فيها قبل دخلوهم إياها‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكره ابن كثير في تفسير هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 4‬وذلك لن الكفر والشرك والمعاصي التي هي ترك الواجبات وفعل المحرمات تدنس النفس فل‬ ‫تصبح أهلً لدخول الجنة لقوله تعالى‪{ :‬قدْ َأفْلَح مَنْ َزكّاها وَقدْ خَابَ مَنْ َدسّاها} ‪.‬‬

‫( ‪)1/495‬‬ ‫‪ -4‬الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها‪.‬‬ ‫ح ُكمُوا بِا ْلعَ ْدلِ إِنّ اللّهَ ِن ِعمّا‬ ‫ح َكمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ َت ْ‬ ‫لمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا وَإِذَا َ‬ ‫{إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ أَنْ ُتؤَدّوا ا َ‬ ‫ل وَأُولِي‬ ‫سمِيعا َبصِيرا(‪ )58‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُو َ‬ ‫ظكُمْ ِبهِ إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫َيعِ ُ‬ ‫شيْءٍ فَ ُردّوهُ إِلَى اللّ ِه وَالرّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ ذَِلكَ‬ ‫لمْرِ مِ ْنكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي َ‬ ‫اَ‬ ‫خَيْ ٌر وََأحْسَنُ تَ ْأوِيلً(‪})59‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫لمَانَاتِ‪ : }1‬أداء المانة‪ :‬تسليمها إلى المؤتمن‪ ،‬والمانات جمع أمانة وهي ما يؤتمن‬ ‫{أَنْ ُتؤَدّوا ا َ‬ ‫عليه المرء من قول أو عمل أو متاع‪.‬‬ ‫{ا ْل َع ْدلِ‪ : }2‬ضد الجور والنحراف بنقص أو زيادة‪.‬‬ ‫ظ ُكمْ} ‪ :‬نعم شيء يعظكم‪ ،‬أي‪ :‬يأمركم به أداء المانات والحكم بالعدل‪.‬‬ ‫{ ِن ِعمّا َيعِ ُ‬ ‫لمْرِ مِ ْنكُمْ} ‪ :‬أولوا المر‪ :‬هم المراء والعلماء من المسلمين‪.‬‬ ‫{وَأُولِي ا َ‬ ‫شيْءٍ} ‪ :‬اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشيء من يد الفريق الخر‪.‬‬ ‫{تَنَازَعْ ُتمْ فِي َ‬ ‫{فَرُدّوهُ إِلَى اللّ ِه وَالرّسُولِ} ‪ :‬أي‪ :‬إلى كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫حسَنُ تَ ْأوِيلً} ‪ :‬أحسن عاقبة‪ ،‬لن تأويل الشيء ما يؤول إليه في آخر المر‪.‬‬ ‫{وَأَ ْ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬

‫لمَانَاتِ} نزلت في شأن عثمان بن‬ ‫روي أن الية الولى‪{ :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُ ُركُمْ‪ 3‬أَنْ ُتؤَدّوا ‪ 4‬ا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجماع على وجوب رد المانات لصحابها كفارا أو مؤمنين‪ ،‬فجارا أو أبرارا‪.‬‬ ‫‪ 2‬العدل وسط بين طرفي‪ ،‬فإن مال لحد الجانبين فقد جار وظلم ولم يعدل‪.‬‬ ‫‪ 3‬إن هنا لمجرد الهتمام بالخبر‪ ،‬إذ مثل هذا الخبر ل يتطرق إليه الشك حتى يؤكد لزالته؛ لنه‬ ‫إخبار عن إيجاد شيء ل عن وجوده فهو خبر كالنشاء‪.‬‬ ‫‪ 4‬الداء‪ :‬مصدر أدى المخفف المستغنى عنه بالمضعف‪ ،‬أدى يؤدي تأدية‪ .‬إذا أوصل الشيء إلى‬ ‫طلبه‪ ،‬ويتجوز فيه فيطلق على العتراف بالشيء والوفاء به‪ ،‬وذلك كقول الحق‪ ،‬وتبليغ العلم‬ ‫الشرعي‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬إيصال الشيء إلى صاحبه‪.‬‬

‫( ‪)1/496‬‬ ‫طلحة الحجبي ‪ ،1‬حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادنا‪ ،2‬فطلبه رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم منه صبيحة يوم الفتح‪ ،‬فصلى في البيت ركعتين وخرج‪ ،‬فقال العباس رضي ال عنه‬ ‫أعطينيه يا رسول ال‪ ،‬ليجمع بين السقاية والسدانة‪ ،‬فانزل ال تعالى هذه الية والتي بعدها فقرأ‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم الية على الناس‪ ،‬ودعا عثمان بن طلحة وأعطاه المفتاح‪ .‬غير أن‬ ‫العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬ولذا فالية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شيء أن‬ ‫ح َكمْتُمْ‬ ‫يحفظه ويرعاه حتى يؤديه ‪ 3‬إلى صاحبه‪ ،‬والية تتناول حكام المسلمين أولً بقرينة {وَإِذَا َ‬ ‫ح ُكمُوا بِا ْلعَ ْدلِ} الذي هو القسط‪ ،‬وضد الجور ومعناه‪ :‬إيصال الحقوق إلى مستحقيها‬ ‫بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَ ْ‬ ‫ظكُمْ‪ِ 4‬بهِ} يريد أن أمره تعالى أمة السلم حكاما‬ ‫من أفراد الرعايا‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ِن ِعمّا َي ِع ُ‬ ‫ومحكومين بأداء المانات والحكم بالعدل هو شيء حسن‪ ،‬وهو كذلك إذ قوام الحياة الكريمة هو‬ ‫سمِيعا َبصِيرا} فيه الحث على‬ ‫النهوض بأداء المانات والحكم بالعدل وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة ال تعالى في النفس‪ ،‬فإن من ذكر أن ال تعالى يسمع أقواله‬ ‫ويبصر أعماله استقام في قوله فلم يكذب وفي عمله فلم يفرط‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى(‪.)58‬‬ ‫أما الية الثانية(‪ ،)59‬فإن ال تعالى لما أمر ولة أمور المسلمين بأداء المانات التي هي حقوق‬ ‫الرعية‪ ،‬وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولً‪ ،‬ثم بطاعة‬ ‫لمْرِ مِ ْنكُمْ} ‪،‬‬ ‫ولة المور ثانيا‪ ،‬فقال‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َأطِيعُوا اللّ َه وََأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي ا َ‬ ‫والطاعة لولي المر مُقيد بما كان معروفا للشرع‪ ،‬أما في غير المعروف فل طاعة في الختيار‬ ‫لحديث‪" :‬إنما الطاعة في المعروف‪ ،‬ول طاعة لمخلوق في معصية الخالق" ‪.‬‬ ‫شيْءٍ فَ ُردّوهُ ِإلَى اللّ ِه وَالرّسُولِ} فهو خطاب عام للولة والرعية‪،‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي َ‬ ‫فمتى حصل خلف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد ذلك إلى كتاب ال ‪ 5‬وسنة رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم فيما حكما فيه وجب قبوله حلوا كان أو مرا‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إِنْ كُنْتُمْ ُت ْؤمِنُونَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المؤتمن إذا لم يفرط وضاعت المانة منه فل ضمان عليه إجماعا لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬ ‫ل ضمان على مؤتمن" رواه الدارقطني‪ .‬والعارية مؤداة أيضا‪ .‬لحديث خطبة الوداع‪" :‬العارية‬ ‫مؤداة‪ ،‬والمنحة مردودة‪ ،‬والدين مقضي‪ ،‬والزعيم غارم" أي‪ :‬ضامن‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل‪ :‬نعما‪ :‬نعم وكتبت معها ما بعد كسر عين نعم وتسكين ميمها وإدغامها في ما‪ :‬هي إما‬ ‫موصولة أو نكرة موصوفة أو نكرة تامة وأما الجملة بعد نعم فهي تجري حسب ما يناسب معنى‬ ‫"ما"‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحجبي‪ :‬نسبة إلى حجابة البيت على غير قياس‪.‬‬ ‫‪ 4‬السادن‪ :‬الخادم للبيت‪ ،‬وتسمى هذه المهنة‪ :‬السدانة‪.‬‬ ‫‪ 5‬وذلك يستلزم الرد إلى العلماء الفقهاء إذ هم الذين يعرفون الحكام ويحسنون استنباطها من‬ ‫الكتاب والسنة ‪.‬‬

‫( ‪)1/497‬‬ ‫بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ} فيه أن اليمان يستلزم الذعان لقضاء ال ورسوله‪ ،‬وهو يفيد أن رد المور‬ ‫حسَنُ تَ ْأوِيلً} ‪ ،‬يريد‬ ‫المتنازع فيها إلى غير الشرع قادح في إيمان المؤمن وقوله‪{ :‬ذَِلكَ خَيْ ٌر وَأَ ْ‬ ‫ل ومآلً‪ ،‬لما‬ ‫ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها إلى الكتاب والسنة هو خير حا ً‬ ‫فيه من قطع النزاع والسير بالمة متحدة متحابة متعاونة‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب رد المانات بعد المحافظة عليها‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب العدل في الحكم وحرمة الحيف والجور فيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب طاعة ال وطاعة الرسول وولة المسلمين من حكام وعلماء ‪ 1‬فقهاء‪ ،‬لن طاعة‬ ‫الرسول من طاعة ال‪ ،‬وطاعة الوالي من طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لحديث‪2" :‬من‬ ‫أطاعني فقد أطاع ال‪ ،‬ومن أطاع أميري فقط أطاعني‪ ،‬ومن عصاني فقد عصى ال ومن عصى‬ ‫أمري فقد عصاني" ‪.3‬‬ ‫‪ -4‬وجوب رد المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا‬ ‫بقضائهما‪.‬‬ ‫‪ -5‬العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة السلم ما تنازع فيه إلى كتاب ربها وسنة‬ ‫نبيها صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ك َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَ َتحَا َكمُوا إِلَى‬ ‫عمُونَ أَ ّن ُهمْ آمَنُوا ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ‬ ‫{أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْ ُ‬ ‫ت َوقَدْ ُأمِرُوا أَنْ َي ْكفُرُوا ِب ِه وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ ُيضِّلهُ ْم ضَللً َبعِيدا(‪ )60‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا‬ ‫الطّاغُو ِ‬ ‫إِلَى مَا أَنْ َزلَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال سهل بن عبد ال‪ :‬ل يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء فإن عظموا هذين‬ ‫أصلح ال دنياهم وأخراهم‪ ،‬وأن استخفوا بهذين فسدت دنياهم وأخراهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬رواه الشيخان وكذا حديث‪" :‬إنما الطاعة في المعروف" ‪ .‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي في الصحيح أن عبد ال بن حذافة النصاري البدري‪ ،‬وكان به دعابة‪ ،‬بعثه رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم على سرية فأمرهم يوما أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا ففعلوا ثم أمرهم أن‬ ‫يدخلوها محتجا عليهم بقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من أطاع أميري فقد أطاعني‪ ،‬ومن عصى‬ ‫أميري فقد عصاني" فلم يستجيبوا له‪ ،‬وقالوا له‪ :‬إنما أمنا وأسلمنا لننجو من النار فكيف نعذب‬ ‫أنفسنا بها؟ وذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪" :‬لو دخلوها ما خرجوا منها إنما‬ ‫الطاعة في المعروف" ‪.‬‬

‫( ‪)1/498‬‬ ‫اللّ ُه وَإِلَى الرّسُولِ رَأَ ْيتَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َيصُدّونَ عَ ْنكَ صُدُودا(‪َ )61‬فكَ ْيفَ‪ 1‬إِذَا َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا‬ ‫قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَاءُوكَ يَحِْلفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِل ِإحْسَانا وَ َت ْوفِيقا(‪ )62‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيعَْلمُ اللّهُ مَا فِي‬ ‫سهِمْ َقوْلً بَلِيغا(‪})63‬‬ ‫ظهُمْ َوقُلْ َلهُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫قُلُو ِبهِمْ فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُ ْم وَعِ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عمُونَ} ‪ :‬يقولون كاذبين‪.‬‬ ‫{يَزْ ُ‬ ‫{ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ} ‪ :‬القرآن‪ ،‬وما أنزل من قبلك‪ :‬التوراة‪.‬‬ ‫{الطّاغُوتِ} ‪ :‬كل ما عبد من دون ال ورضي بالعبادة‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬كعب بن الشرف‬ ‫اليهودي أو كاهن من كهان العرب‪.‬‬ ‫{ا ْلمُنَا ِفقِينَ} ‪ :‬جمع منافق‪ :‬وهو من يبطن الكفر‪ ،‬ويظهر اليمان خوفا من المسلمين‪.‬‬ ‫{ َيصُدّونَ} ‪ :‬يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك‪.‬‬ ‫{ ُمصِيبَةٌ} ‪ :‬عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم‪.‬‬ ‫إن يريدون ‪ :‬أي‪ :‬ما يريدون‪.‬‬ ‫{إِل ِإحْسَانا} ‪ :‬أي‪ :‬صلحا بين المتخاصمين‪.‬‬ ‫{وَ َت ْوفِيقا} ‪ :‬جمعا وتأليفا بين المختلفين‪.‬‬ ‫{فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ‪ : }2‬أي‪ :‬اصفح عنهم فل تؤاخذهم‪.‬‬

‫ظ ُهمْ} ‪ :‬مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم‪.‬‬ ‫{وَعِ ْ‬ ‫{ َق ْولً َبلِيغا} ‪ :‬كلما قويا يبلغ شغاف قلوبهم لبلغته وفصاحته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فكيف‪ :‬خبر مبتدأ محذوف تقديره حالهم‪ ،‬كيف تكون حين تصيبهم مصيبة‪ ،‬أي‪ :‬تكون عجبا‬ ‫لفرط حزنهم وبكاءهم وندمهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬العراض‪ :‬عدم اللتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه مشتق من العرض بضم العين‪ ،‬وهو‬ ‫الجانب ولعله مأخوذ من إعراض في الشيء إذ دخل فيه؛ كأصبح في الصباح فأعرض فلن عن‬ ‫فلن‪ ،‬أي‪ :‬تنحى عنه جانبا‪ ،‬أو أعطاه عرضه مدبرا عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/499‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روي أن منافقا ويهوديا‪ 1‬اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫لعلمه أنه يحكم بالعدل ول يأخذ رشوة‪ ،‬وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الشرف اليهودي‪،‬‬ ‫فتحاكما إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقضى لليهودي فنزلت ‪ 2‬فيهما هذه الية‪{ :‬أَلَمْ تَرَ‬ ‫عمُونَ أَ ّنهُمْ آمَنُوا ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ} والمراد بهذا المنافق‪َ { ،‬ومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ} ‪ ،‬والمراد‬ ‫إِلَى الّذِينَ يَزْ ُ‬ ‫به اليهودي‪ ،‬والستفهام للتعجب‪ .‬ألم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَا َكمُوا‬ ‫إِلَى الطّاغُوتِ} "كعب ‪ 3‬بن الشرف" أو الكاهن الجهني‪ ،‬وقد أمرهم ال أن يكفروا به {وَيُرِيدُ‬ ‫الشّ ْيطَانُ أَنْ ُيضِّلهُ ْم ضَللً َبعِيدا} ‪ ،‬حيث زين لهم لهم التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي‪{ .‬وَإِذَا‬ ‫قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا إِلَى مَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَإِلَى الرّسُولِ} ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون‬ ‫عنك اعراضا هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك { َفكَ ْيفَ ِإذَا‬ ‫َأصَابَ ْتهُمْ ُمصِيبَةٌ} وحلت بهم بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ {ثُمّ جَاءُوكَ َيحِْلفُونَ‬ ‫بِاللّهِ} قائلين ‪ ،4‬ما أردنا إل الحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين‪ .‬هذا ما دلت عليه‬ ‫اليات الثلث‪ ،‬وأما الرابعة وهو قوله تعالى‪{ :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ‬ ‫سهِمْ َق ْولً بَلِيغا} فإن ال تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة‬ ‫ظهُ ْم َو ُقلْ َلهُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫وَعِ ْ‬ ‫والنحطاط‪ ،‬فيقول‪{ :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيعَْلمُ اللّهُ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ} أي‪ :‬من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة‬ ‫ظهُمْ} آمرا إياهم بتقوى ال والسلم له‬ ‫ع ْ‬ ‫وسوء العذاب‪{ ،‬فَأَعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ} فل تؤاخذهم ‪{ ،5‬وَ ِ‬ ‫ظاهرا وباطنا‪ ،‬مخوفا إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت‪،‬‬ ‫وقل لهم في خاصة أنفسهم قولً بليغا ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صيغة جمع الواردة في الية مثل‪{ :‬يُريدون أن يَتَحاكموا} تشير إلى كثرة المنافقين‪ ،‬ومن أمثال‬

‫اليهودي والمنافق صاحبي القصة التي نزلت الية فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن المنافق لم يرض بحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذهب باليهودي إلى أبي بكر‬ ‫فحكم بحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فلم يرض المنافق فذهب بخصمه اليهودي إلى عمر‪،‬‬ ‫فذكر له اليهودي القصة‪ ،‬فقال عمر للمنافق وهو يشير‪ :‬أكذا هو؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬رويدكما حتى‬ ‫أخرج إليكما‪ .‬فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد‪ ،‬وقال هكذا أقضي على من لم‬ ‫يرض بقضاء ال وقضاء رسوله‪ .‬وهرب اليهودي ونزلت هذه الية وقال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم لعمر‪" :‬أنت الفاروق" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل فيه‪ :‬طاغوت لنه ذو طغيان زائد في الظلم والشر والفساد‪.‬‬ ‫‪ 4‬هؤلء هم‪ :‬قوم القتيل المنافق جاءوا يطالبون بدية أخيهم في النفاق‪ ،‬وقالوا‪ :‬الكثير أكثر مما‬ ‫ذكر في الية‪ ،‬وكل أقوالهم باطلة أملها النفاق‪ ،‬ولذا أمر الرسول بالعراض عنهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬ل تؤاخذهم فيما يبطنونه من الكفر ما داموا لم يظهروه علنا‪.‬‬

‫( ‪)1/500‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة التحاكم إلى غير كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم إذا وُجد عالم بهما‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الكفر بالطاغوت أيا كان نوعه‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الدعوة إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ووجوب قبولها‪.‬‬ ‫‪ -4‬استحباب العراض عن ذوي الجهالت‪ ،‬ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم‬ ‫فيهزها‪.‬‬ ‫سهُمْ جَاءُوكَ فَاسْ َت ْغفَرُوا اللّهَ‬ ‫{ َومَا أَرْسَلْنَا مِنْ َرسُولٍ إِل لِ ُيطَاعَ بِِإذْنِ اللّ ِه وََلوْ أَ ّن ُهمْ إِذْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫شجَرَ‬ ‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬ ‫وَاسْ َت ْغفَرَ َل ُهمُ الرّسُولُ َلوَجَدُوا اللّهَ َتوّابا َرحِيما(‪ )64‬فَل وَرَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ حَتّى ُي َ‬ ‫ت وَيُسَّلمُوا تَسْلِيما(‪})65‬‬ ‫سهِمْ حَرَجا ِممّا َقضَ ْي َ‬ ‫بَيْ َنهُمْ ُث ّم ل َيجِدُوا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بِِإذْنِ اللّهِ} ‪ :‬إذن ال‪ :‬إعلمه بالشيء وأمره به‪.‬‬ ‫سهُمْ} ‪ :‬بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫{فَاسْ َت ْغفَرُوا اللّهَ} ‪ :‬طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا‪ ،‬أو استغفروا ال‪.‬‬ ‫ح ّكمُوكَ} ‪ :‬يجعلونك حكما بينهم ويفوضون المر إليك‪.‬‬ ‫{ ُي َ‬ ‫شجَرَ بَيْ َنهُمْ‪ : }1‬أي‪ :‬اختلفوا لختلط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل‪.‬‬ ‫{فِيمَا َ‬ ‫{حَرَجا} ‪ :‬ضيفا وتحرجا‪.‬‬

‫{ ِممّا َقضَ ْيتَ} ‪ :‬حكمت فيه‪.‬‬ ‫{وَيُسَّلمُوا} ‪ :‬أي‪ :‬يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليما تاما‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شجر‪ :‬اختلط واختلف‪ ،‬ومنه سمي الشجر شجرا لختلط أغصانه‪ ،‬قال طرفة‪:‬‬ ‫وهم الحكام أرباب الهدى ‪...‬‬ ‫وسعاة الناس في المر الشجر‬

‫( ‪)1/501‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫بعد تقرير خطأ وضلل من أراد أن يتحاكما إلى الطاغوت‪ ،‬كعب بن الشرف اليهودي‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫اليهودي والمنافق في اليات السابقة أخبر تعالى في هذه الية الكريمة أنه ما أرسل رسولً‪ 1‬من‬ ‫رسله المئات إل وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون‬ ‫فيه‪ ،‬وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فيما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك‬ ‫الظالمين لنفسهم بتحاكمهم ‪ 2‬إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لو جاءوك‬ ‫متنصلين من خطيئتهم مستغفرين ال من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول‪ ،‬أي‪ :‬سألت ال‬ ‫تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب ال تعالى عليهم فوجدوه عز‬ ‫وجل { َتوّابا َرحِيما} ‪ .‬هذا معنى الية(‪َ { )64‬ومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِل لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّ ِه وََلوْ أَ ّنهُمْ إِذْ‬ ‫جدُوا اللّهَ َتوّابا َرحِيما} ‪.‬‬ ‫سهُمْ جَاءُوكَ فَاسْ َت ْغفَرُوا اللّ َه وَاسْ َت ْغفَرَ َلهُمُ الرّسُولُ َلوَ َ‬ ‫ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫جدُوا فِي‬ ‫شجَرَ بَيْ َنهُمْ ُثمّ ل يَ ِ‬ ‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬ ‫وأما الية الثانية(‪{ )65‬فَل وَرَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ‪ 3‬حَتّى ُي َ‬ ‫سهِمْ حَرَجا ِممّا َقضَ ْيتَ وَيُسَّلمُوا َتسْلِيما} فإن ال تعالى يقول {فَل} أي‪ :‬ليس المر كما يزعمون‪،‬‬ ‫أَ ْنفُ ِ‬ ‫ح ّكمُوكَ} أيها الرسول‪ ،‬أي‪ :‬يطلبون حكمك فيما‬ ‫ثم يقسم تعالى فيقول‪{ :‬وَرَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ حَتّى يُ َ‬ ‫اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك ل يجدون في صدورهم أدنى شك في صحة‬ ‫جدُوا فِي‬ ‫حكمك وعدالته‪ ،‬في التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج المتبقي في قوله‪{ ،‬ثُمّ ل يَ ِ‬ ‫سهِمْ حَرَجا ِممّا َقضَ ْيتَ وَيُسَّلمُوا َتسْلِيما} ‪.‬‬ ‫أَ ْنفُ ِ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه‪.‬‬ ‫‪ -2‬بطلن من يزعم أن في الية دليلً على جواز طلب الستغفار ‪ 4‬من الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم؛ لن‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬من هذه الية‪{ :‬وما أرسلنا من رسول} مزيدة لتقوية الكلم وإفادة العموم‪.‬‬ ‫‪ 2‬تقدم أن الخطاب بصيغة الجمع وإن كان المتحاكمان اثنين فقط‪ ،‬فإن الحكم فيهم وفي غيرهم‪،‬‬ ‫فكل من يصدر عنه هذا النوع من الذنب فتوبته هي‪ :‬ما ذكر تعالى في هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل أن هذه الية‪{ :‬فَل وَرَ ّبكَ ل ُي ْؤمِنُونَ} نزلت في الزبير والنصاري في قضية سقي البستان‪،‬‬ ‫إذا اختلفا وأتيا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم للزبير‪:‬‬ ‫"اسقي يا زبير أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" ‪ .‬أي‪ :‬الول‪ ،‬فقال النصاري‪ :‬أراك‬ ‫تحابي ابن عمتك‪ .‬فتلون وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال للزبير‪" :‬اسق ثم أحبس الماء‬ ‫حتى يبلغ الجدر" ‪ ،‬فنزلت الية‪ .‬والحديث في صحيح البخاري‪.‬‬ ‫‪ 4‬وذلك أنه لو كان كل مذنب ل يغفر له إل إذا أتى الرسول صلى ال عليه وسلم واستغفر له لما‬ ‫تاب أحد‪ ،‬وللذم أن يبقى الرسول حيا ليستغفر للمذنبين بمثل هذا الذنب‪ ،‬ول قائل بها ول يعقل ولم‬ ‫يشرع أبدا‪ ،‬وكل حكاية ذكرت في هذه المسألة فهي باطلة‪.‬‬

‫( ‪)1/502‬‬ ‫سهُمْ جَاءُوكَ} الية نزلت في الرجلين اللذين أرادا التحاكم إلى‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ إِذْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫كعب بن الشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فاشترط توبتهما‬ ‫إتيانهما لرسول ال صلى ال عليه وسلم واستغفارهما ال تعالى‪ ،‬واستغفار الرسول لهما‪ ،‬وبذلك‬ ‫تقبل توبتهما‪ ،‬وإل فل توبة لهما‪ ،‬أما من عداهما فتوبته ل تتوقف على إتيانه لرسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم ول لستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلما للنفس وتجب التوبة منه بالستغفار والندم والعزم على عدم‬ ‫مراجعته بحال من الحوال‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب الرضا ‪ 1‬بحكم ال ورسوله والتسليم به‪.‬‬ ‫سكُمْ َأوِ اخْ ُرجُوا مِنْ دِيَا ِر ُكمْ مَا َفعَلُوهُ إِل قَلِيلٌ مِ ْنهُ ْم وََلوْ أَ ّنهُمْ‬ ‫{وََلوْ‪ 2‬أَنّا كَتَبْنَا ‪ 3‬عَلَ ْيهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫عظِيما(‪)67‬‬ ‫شدّ تَثْبِيتا(‪ )66‬وَإِذا لتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنّا َأجْرا َ‬ ‫عظُونَ ِبهِ َلكَانَ خَيْرا َلهُ ْم وَأَ َ‬ ‫َفعَلُوا مَا يُو َ‬ ‫طعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مِنَ‬ ‫وََلهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطا مُسْ َتقِيما(‪َ )68‬ومَنْ يُ ِ‬ ‫ضلُ مِنَ اللّ ِه َو َكفَى بِاللّهِ‬ ‫حسُنَ‪ 4‬أُولَ ِئكَ َرفِيقا(‪ )69‬ذَِلكَ ا ْل َف ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫شهَدَا ِء وَالصّالِحِي َ‬ ‫ن وَال ّ‬ ‫ن وَالصّدّيقِي َ‬ ‫النّبِيّي َ‬ ‫عَلِيما(‪})70‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قضى أهل العلم أن السيل إذا كان بسبب مطر فإن العلى يقدم على السفل‪ ،‬فيسقي من وصل‬ ‫إليه السيل حتى يبلغ الماء الكعبين في أرضه‪ ،‬ثم يرسل السيل كله إلى من تحته فيسقي‪ ،‬ثم يرسل‬

‫إلى من تحته‪ ،‬وهكذا‪ .‬وهو قول المالكية مأخوذ من حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في قضية‬ ‫الزبير والنصاري وهو الحق‪.‬‬ ‫‪ 2‬لو حرف امتناع لمتناع أي امتناع شيء لمتناع غيره‪ ،‬إذ امتنع القتل لمتناع ا لكتب له‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي أنه لما نزلت هذه الية‪{ :‬وَلو أنا كَتبْنا} قال أبو بكر الصديق‪" :‬لو أمرنا لفعلنا"‪ ،‬فبلغ ذلك‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪" :‬إن من أمتي رجال اليمان أثبت في قلوبهم من الجبال‬ ‫الرواسي" ‪.‬‬ ‫‪" 4‬حسن" مضمن معنى التعجب‪ ،‬فهو كنعم المدح‪ ،‬أي‪ :‬مدح الحسن فيه‪ ،‬وأولئك فاعلة‪ ،‬ورفيقا‪:‬‬ ‫منصوب على التمييز‪.‬‬

‫( ‪)1/503‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{كَتَبْنَا عَلَ ْيهِمْ} ‪ :‬فرضنا عليهم وأوحينا‪.‬‬ ‫س ُكمْ} ‪ :‬أي‪ :‬قتل أنفسهم‪.‬‬ ‫{أَنِ اقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫{مَا َفعَلُوهُ إِل قَلِيلٌ مِ ْنهُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ما فعل القتل إل قليل ‪ 1‬منهم‪.‬‬ ‫{مَا يُوعَظُونَ بِهِ} ‪ :‬أي‪ :‬ما يؤمرون به وينهون عنه‪.‬‬ ‫شدّ تَثْبِيتا} ‪ :‬أي‪ :‬لليمان في قلوبهم‪.‬‬ ‫{وَأَ َ‬ ‫{وَالصّدّيقِينَ} ‪ :‬جمع صديق‪ :‬وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله لكثرة ما يصدق‬ ‫ويتحرى الصدق‪.‬‬ ‫ش َهدَاءِ} ‪ :‬جمع شهيد‪ :‬من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة السلم بالحجة والبرهان‪.‬‬ ‫{وَال ّ‬ ‫{وَالصّالِحِينَ} ‪ :‬جمع صالح‪ :‬من أدى حقوق ال تعالى وأدى حقوق العباد‪ ،‬وصلحت نفسه وصلح‬ ‫عمله وغلب صلحه على فساده‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن‬ ‫سكُمْ} أي‪ :‬يقتل بعضكم بعضا كما حصل‬ ‫يكفروا به فقال تعالى‪{ :‬وََلوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَ ْيهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬ ‫ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا كما أنا لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا {مَا‬ ‫َفعَلُوهُ إِل قَلِيلٌ} منهم‪ .‬ثم قال تعالى داعيا لهم مرغبا لهم في الهداية‪{ :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ َفعَلُوا مَا يُوعَظُونَ‬ ‫بِهِ} أي‪ :‬ما يذكرون به ترغيبا وترهيبا من أوامر ال تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيرا‬ ‫في الحال والمآل‪{ ،‬وََأشَدّ تَثْبِيتا} لليمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم‪ ،‬لن اليمان يزيد‬ ‫بالطاعة وينقص بالمعصية‪ ،‬والحسنة تنتج حسنة‪ ،‬والسيئة تتولد عنها سيئة‪ .‬ويقول تعالى‪َ { :‬وإِذا‬ ‫لتَيْنَاهُمْ مِنْ َلدُنّا أَجْرا عَظِيما} يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرنا به من الطاعات‪ ،‬وتركوا‬

‫ما نهيناهم عنه من المعاصي لعطيناهم من لدنا أجرا يوم يلقوننا ولهديناهم في الدنيا {صِرَاطا‬ ‫مُسْ َتقِيما} أل وهو السلم الذي هو طريق الكمال والسعاد في الحياتين وهدايتهم إليه هي توفيقهم‬ ‫للسير فيه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ‪{ :‬إل قليل} بالنصب‪ ،‬و {إن ل قليل} بالرفع‪ ،‬وقراءة الرفع مراعى فيها اللفظ وهو أولى‪،‬‬ ‫ولذا هي أكثر وأشهر‪.‬‬

‫( ‪)1/504‬‬ ‫وعدم الخروج عنه‪ .‬هذا ما دلت عليه اليات‪.)68-67-66(:‬‬ ‫أما الية(‪ )69‬وهي قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَ ِئكَ مَعَ الّذِينَ أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ‬ ‫ن وَحَسُنَ أُولَ ِئكَ َرفِيقا} فقد روى ابن جرير في تفسيره‪:‬‬ ‫شهَدَا ِء وَالصّاِلحِي َ‬ ‫ن وَالصّدّيقِينَ‪ 1‬وَال ّ‬ ‫النّبِيّي َ‬ ‫أنها نزلت حين قال بعض ‪ 2‬الصحابة يا رسول ال ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا‬ ‫فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل ال تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَالرّسُولَ فَأُولَئِك} الية‪ .‬وما أنعم‬ ‫ال تعالى عليه هو اليمان بال تعالى ومعرفته عز وجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق لفعل‬ ‫المحاب وترك المساخط هذا في الدنيا‪ ،‬وأما ما أنعم به عليهم في الخرة فهو الجوار الكريم في‬ ‫دار النعيم‪ .‬والصديقين هم الذين آمنوا بال ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وأخبر به والشهداء‪ :‬جمع شهيد‪ ،‬وهو من قتل في سبيل ال‪ .‬والصالحون‪ :‬جمع‬ ‫صالح‪ ،‬وهو من أدى حقوق ال تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَحَسُنَ‬ ‫أُولَ ِئكَ َرفِيقا‪ }3‬يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور في مجالسهم‪،‬‬ ‫لنهم ينزلون إليهم‪ ،‬ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم الرفيعة‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ذَِلكَ‪4‬‬ ‫ا ْل َفضْلُ مِنَ اللّهِ} يريد أن ذلك اللتقاء مع من ذكرتم لهم بفضل ال تعالى‪ ،‬ل بطاعتهم‪ .‬وقوله‪:‬‬ ‫{ َو َكفَى بِاللّهِ عَلِيما} أي‪ :‬بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين‪ ،‬ولذلك‬ ‫يتم الجزاء عادلً رحيما‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قد يكلف ال تعالى بالشاق للمتحان والبتلء؛ كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن ل يكلف‬ ‫بما ل يطاق‪.‬‬ ‫‪ -2‬اليمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصيات‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه الية إشارة أصرح من عبارة‪ :‬على خلفة أبي بكر لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬

‫إذ ذكر ال تعالى النبياء ثم ثنى بالصديقين‪ ،‬وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بالصديق‪،‬‬ ‫كما أجمعوا على تسمية محمد صلى ال عليه وسلم بالنبي‪ ،‬فدل على تعيين خلفة أبي بكر‪ ،‬إذ لم‬ ‫يقدم عليه أحد في الذكر سوى النببياء‪.‬‬ ‫‪ 2‬من بين القائلين‪ :‬ثوبان مولى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعبد ال بن زيد بن عبد ربه‬ ‫الذي أُري الذان في المنام‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى البخاري عن عائشة رضي ال عنها أنها قالت سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫يقول‪" :‬ما من نبي يمرض إل خُيّر بين الدنيا والخرة" ولما كان في مرضه الذي قبض فيه أخذته‬ ‫بحة شديدة فسمعته يقول‪{" :‬مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِم} "‪ .‬الية فعلمت أنه خير وكان يقول‪" :‬اللهم‬ ‫الرفيق العلى" ‪ ،‬وهو يعاني سكرات الموت‪ ،‬فصلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ك ال َفضْل مِنَ ال} ‪ ،‬رد على المعتزلة‪ ،‬إذ قالوا‪ :‬إنما ينال العبد ما يناله‬ ‫‪ 4‬في قوله تعالى‪{ :‬ذَِل َ‬ ‫بعمله‪ ،‬وال قدر رد ذلك الكرام والنعام لفضله‪ ،‬وهو كذلك عقلً وشرعا‪ ،‬ويلزم اعتقادا‪.‬‬

‫( ‪)1/505‬‬ ‫‪ -5‬الطاعات تثمر قوة اليمان وتؤهل لدخول الجنان‪.‬‬ ‫‪ -4‬مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة ال والرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫جمِيعا(‪ )71‬وَإِنّ مِ ْنكُمْ َلمَنْ لَيُبَطّئَنّ فَإِنْ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْ َركُمْ فَا ْنفِرُوا ثُبَاتٍ َأوِ ا ْنفِرُوا َ‬ ‫ضلٌ مِنَ اللّهِ‬ ‫شهِيدا(‪ )72‬وَلَئِنْ َأصَا َبكُمْ َف ْ‬ ‫َأصَابَ ْتكُمْ ُمصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَ ْن َعمَ اللّهُ عََليّ ِإذْ َلمْ َأكُنْ َم َعهُمْ َ‬ ‫لَ َيقُولَنّ كَأَنْ َلمْ َتكُنْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَهُ َموَ ّدةٌ يَا لَيْتَنِي كُ ْنتُ َم َعهُمْ فََأفُوزَ َفوْزا عَظِيما(‪})73‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حذْ َركُمْ} ‪ :‬الحذر والحذر‪ :‬الحتراس والستعداد لدفع المكروه بحسبه‪.‬‬ ‫{خُذُوا ِ‬ ‫{فَا ْنفِرُوا ثُبَاتٍ‪ : }1‬النفور‪ :‬الخروج في اندفاع وانزعاج‪ ،‬والثبات‪ :‬جمع ثبت‪ ،‬وهي‪ :‬الجماعة‪.‬‬ ‫{لَيُ َبطّئَنّ‪ : }2‬أي‪ :‬يتبطأ في الخروج فل يخرج‪.‬‬ ‫{ ُمصِيبَةٌ} ‪ :‬قتل أو جراحات وهزيمة‪.‬‬ ‫شهِيدا} ‪ :‬أي‪ :‬حاضرا الغزوة معهم‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫ضلٌ} ‪ :‬نصر وغنيمة‪.‬‬ ‫{ َف ْ‬ ‫{ َموَ ّدةٌ} ‪ :‬صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة ‪.3‬‬ ‫{ َفوْزا عَظِيما} ‪ :‬نجاة من معرة التخلف عن الجهاد‪ ،‬والظفر بالسلمة والغنيمة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل ثبة‪ ،‬ثبي أو ثبوة بالباء والواو‪ ،‬وقد تصغر على ثبية‪ ،‬وهل اشتقاقها من ثبة الحوض‪ ،‬أي‬

‫محل اجتماع الماء فيه؛ لن الثبة‪ :‬الجماعة‪ ،‬وثاب الماء يثوب إذا اجتمع‪.‬‬ ‫‪ 2‬حمل مجاهد وقتادة وابن جريج الية على المنافقين‪ ،‬وحملها بعضهم على ضعفة اليمان‪،‬‬ ‫وحملها على الجميع أقرب إلى الصحة والصواب‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذا كان الصاحب من ضعفة اليمان فهو كذلك‪ ،‬وإن كان منافقا فإن المودة هنا بمعنى‪ :‬مجرد‬ ‫الصحبة ل غير لن المنافق ل يحب المؤمن إل نادرا‪.‬‬

‫( ‪)1/506‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫جمِيعا‪ }2‬ينادي ال تعالى‬ ‫حذْ َركُمْ‪ 1‬فَا ْنفِرُوا ثُبَاتٍ َأوِ ا ْنفِرُوا َ‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا ِ‬ ‫عباده المؤمنين‪ ،‬وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة وإدخاله في حظيرة السلم‪ ،‬خذوا الهبة‬ ‫والستعداد حتى ل تلقوا عدوكم وأنتم ضعفاء‪ ،‬قوته أشد من قوتكم {فانفروا ثباتٍ} عصابة بعد‬ ‫جمِيعا} بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف‬ ‫عصابة وجماعة بعد أخرى {َأوِ ا ْنفِرُوا َ‬ ‫وتراه ‪ 3‬القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم‪ ،‬أي‪ :‬من عدادهم وأفراد مواطنيهم لمن وال ليبطئن‬ ‫عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معا؛ لنه ل يريد لكم نصرا لنه منافق كافر الباطن وإن‬ ‫كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من الرجال الرخيص فيقول‪{ :‬فَإِنْ َأصَابَ ْتكُمْ} أيها‬ ‫المؤمنون الصادقون { ُمصِيبَةٌ} قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجا منه‪ :‬لقد‬ ‫ضلٌ مِنَ اللّهِ} أي‪:‬‬ ‫أنعم ال عليّ إذ لم أكن معهم حاضرا فيصيبني ما أصابهم‪{ ،‬وَلَئِنْ َأصَا َبكُمْ َف ْ‬ ‫نصر وغنيمة {لَ َيقُولَنّ كَأَنْ لَمْ َتكُنْ بَيْ َنكُمْ وَبَيْنَهُ َموَ ّدةٌ} أي‪ :‬معرفة ول صلة يا ليتني متمنيا حاسدا –‬ ‫عظِيما} بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالما‪.‬‬ ‫كنت معهم في الغزاة {فََأفُوزَ َفوْزا َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب أخذ الهبة والستعداد التام على أمة السلم في السلم والحرب سواء‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجود منهزمين روحيا مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف اليمان فل يؤبه لهم ول‬ ‫يلتفت إليهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخذ الحذر هو توقي المكروه بالسباب الممكنة المشروعة‪ ،‬وجملة‪{ :‬فَانفروا ثُبات} إلخ‪ .‬تفريع‬ ‫بذكر بعض أسباب توفي المحذور‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخذ الحذر واجب لنه سبب شرعه ال تعالى لتوقي المكروه‪ ،‬ولكنه ل يمنع المقدور‪ ،‬وأخطأت‬ ‫القدرية إذا قالوا‪ :‬الحذر يرد القدر‪ ،‬ولول أنه كذلك ما أمروا به‪ ،‬وهو خطأ اعتقادي‪ ،‬فالسباب‬

‫تؤتى طاعة ل تعالى‪ ،‬وأما دفع المقدور‪ ،‬أي‪ :‬ما قدره ال على النسان فلبد من وقوعه‪ ،‬وفائدة‬ ‫الخذ بالسباب‪ :‬إبعاد الخوف عن النفس وحصول شعور بالفوز والنجاة‪.‬‬ ‫خفَافا وَ ِثقَالً} منسوخة بها؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬هل هذه الية وهي متقدمة في النزول على آية التوبة‪{ :‬ا ْنفِرُوا ِ‬ ‫والجواب‪ :‬أن فرض الجهاد على الكفاية‪ ،‬ولذا فل نسخ‪ ،‬وإنما هذه في حال وتلك في أخرى‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬أن يرى المام النفير العام ل غير‪.‬‬

‫( ‪)1/507‬‬ ‫{فَلْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ َومَنْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ ُيقْ َتلْ َأوْ َيغِْلبْ‬ ‫ضعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ‬ ‫عظِيما(‪َ )74‬ومَا َلكُمْ ل ُتقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫س ْوفَ ُنؤْتِيهِ أَجْرا َ‬ ‫فَ َ‬ ‫ج َعلْ لَنَا‬ ‫ج َعلْ لَنَا مِنْ َلدُ ْنكَ وَلِيّا وَا ْ‬ ‫وَا ْلوِلْدَانِ الّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا َأخْرِجْنَا مِنْ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهُْلهَا وَا ْ‬ ‫مِنْ لَدُ ْنكَ َنصِيرا(‪ )75‬الّذِينَ آمَنُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ َكفَرُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ‬ ‫ضعِيفا(‪})76‬‬ ‫ن َ‬ ‫َفقَاتِلُوا َأوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{سَبِيلِ اللّهِ} ‪ :‬الطريق الموصلة إلى إعلء كلمة ال تعالى بأن يعبد وحده‪ ،‬ول يضطهد مسلم في‬ ‫دينه‪ ،‬ول من أجل دينه‪.‬‬ ‫{يَشْرُونَ} ‪ :‬يبيعون‪ ،‬إذ يطلق الشراء على البيع أيضا‪.‬‬ ‫ض َعفِينَ} ‪ :‬المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه‪.‬‬ ‫{وَا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫{ا ْلقَرْيَةِ} ‪ :‬القرية في عرف القرآن‪ :‬المدينة الكبيرة والجامعة والمراد بها هنا مكة المكرمة‪.‬‬ ‫{فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ} ‪ :‬أي‪ :‬في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان ‪،‬ونشر الفساد‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫بعد ما أمر ال تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال‪:‬‬ ‫{ فَلْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِ َرةِ} أي‪ :‬يبيعون الدنيا ليفوزوا بالخرة وهم‬ ‫المؤمنون حقا فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلبا للفوز بالدار الخرة يقاتلون من ل يؤمن بال ول‬ ‫بلقائه بعد أن يدعوه إلى اليمان بربه والتوبة إليه‪ ،‬ثم أخبرهم‪.‬‬

‫( ‪)1/508‬‬ ‫أن من يقاتل استجابة لمره تعالى فيقتل‪ ،‬أي‪ :‬يستشهد أو يغلب وينتصر على كل الحالين فسوف‬ ‫يؤتيه ‪ 1‬ال تعالى أجرا عظيما‪ ،‬وهو النجاة من النار ودخول الجنة‪ .‬هذا ما دلت عليه الية‬ ‫الولى(‪.)74‬‬

‫أما الية الثانية(‪ )75‬فإن ال تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض‬ ‫ض َعفِينَ‪ 3‬مِنَ‬ ‫المعركة بقوله‪َ { :‬ومَا َلكُمْ ل ُتقَاتِلُونَ‪ 2‬فِي سَبِيلِ اللّهِ} ليعبد وحده ويعز أولياءه {وَا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫ل وَالنّسَا ِء وَا ْلوِلْدَانِ} الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى‬ ‫الرّجَا ِ‬ ‫ج َعلْ لَنَا مِنْ‬ ‫صرخوا وجاروا بالدعاء إلى ربهم قائلين‪{ :‬رَبّنَا َأخْرِجْنَا مِنْ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهُْلهَا وَا ْ‬ ‫ج َعلْ لَنَا مِنْ لَدُ ْنكَ َنصِيرا} ينصرنا على أعدائنا‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ك وَلِيّا} بلى أمرنا ويكفينا ما أهمنا‪{ ،‬وَا ْ‬ ‫لَدُ ْن َ‬ ‫شيء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل ال‪ ،‬لُيعبد وحده‪ ،‬وليتخلص ‪ 4‬المستضعفون من فتنة‬ ‫المشركين لهم من أجل دينهم؟‬ ‫ثم في الية الثالثة(‪ )75‬أخبر تعالى عباده المؤمنين حاضا لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله‪:‬‬ ‫{الّذِينَ آمَنُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} لنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده {وَالّذِينَ َكفَرُوا ُيقَاتِلُونَ فِي‬ ‫سَبِيلِ الطّاغُوتِ} وهو الكفر ‪ 5‬والظلم لنهم ل يؤمنون بال تعالى ول بما عنده من نعيم‪ ،‬ول بما‬ ‫لديه من عذاب ونكال { َفقَاتِلُوا َأوْلِيَاءَ الشّ ْيطَانِ} وهم الكفار‪ ،‬ول ترهبوهم {إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ}‬ ‫ضعِيفا} ‪ ،‬فل يثبت هو وأولياؤه من الكفرة‪ ،‬أمام جيش اليمان أولياء الرحمن‪.‬‬ ‫وما زال { َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ظاهر الية‪ :‬التسوية بين من قتل شهيدا‪ ،‬وبين من انتصر ورجع بنفسه وهناك حديثان‪ :‬أحداهما‬ ‫يقتضي التسوية وآخر ينفيها‪ .‬فالول‪ :‬حديث أبي هريرة "تضمن ال لمن خرج في سبيله ل‬ ‫يخرجه إل جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علىَ ضامن أن أدخله الجنة‪ ،‬أو‬ ‫أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلً ما نال من أجر وغنيمة" رواه مسلم‪ .‬والثاني‪" :‬ما من‬ ‫غازية تغزو في سبيل ال فيصيبون الغنيمة إل تعجلوا ثلثي أجرهم من الخرة ويبقى لهم الثلث‪،‬‬ ‫وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" والجمع بينهما أن من غزا ناويا الجر والغنيمة ثم غنم وسلم‬ ‫نقص أجره في الخرة‪ ،‬فلم تكن درجته كالذي استشهد ولم يغنم‪ ،‬ول كالذي نوى الجر دون‬ ‫الغنيمة أيضا‪ .‬والسبب الفارق‪ :‬هو اشتراك النية وعدم خلوصها‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام إنكاري؛ أي ينكر عليهم قعودهم على القتال في سبيل ال‪ ،‬أي‪ :‬لنقاذ المؤمنين من‬ ‫فتنة المشركين وإنقاذ أولدهم من أن يشبوا ويكبروا على أحوال الكفر جاهلين باليمان والسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬كنت أنا وأمي من المستضعفين"‪ .‬وفي رواية البخاري قال‪:‬‬ ‫"كنت أنا وأمي ممن عذر ال وأنا من الولدان وأمي من النساء"‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫يقنت لهم فيقول‪" :‬اللهم أنجي الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة المستضعفين‬ ‫من المؤمنين" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجماع على وجوب تخليص السرى من المسلمين بالقتال أو بالمال‪ ،‬ول يحل تركهم تحت‬ ‫الكفر يضطهدهم ويعذبهم من أجل دينهم‪ .‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬فكوا العاني" وهو السير‪،‬‬ ‫وسمي العاني لما يعانية من آلم وأتعاب‪ .‬والمسلمون اليوم أسرى تحت اليهود في فلسطين‪،‬‬ ‫والمسلمون تاركون لهم غير مهتمين بهم‪ ،‬وهو ذنب عظيم‪.‬‬

‫‪ 5‬يطلق الطاغوت على ما عبد من دون ال‪ ،‬ويطلق على من دعا إلى عبادة غير ال؛ كالشيطان‬ ‫وغيره من الجن والنس الذين يدعون إلى عبادة الصنام والشخاص وغيرها‪ ،‬وفي هذه الية‬ ‫يناسب أن يكون الطاغوت هو الشيطان‪ ،‬لقوله‪ :‬بعد أولياء الشيطان‪ ،‬وإطلقنا‪ :‬الطاغوت على‬ ‫الكفر والظلم مراعاة لحال الناس‪ ،‬فإن أكثرهم يقاتل نصرا للكفر الذي هو عليه أو لبقاء ظلمه‬ ‫واستعلؤه في الرض‪.‬‬

‫( ‪)1/509‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فرضية القتال في سبيل ال ولجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالً‬ ‫للباطل‪.‬‬ ‫‪ -2‬المقاتل في سبيل ال باع دنياه واعتاض عنها الخرة‪ ،‬ولنعم البيع‪.‬‬ ‫‪ -3‬المجاهد يؤوب بأعظم صفقة سواء قتل‪ ،‬أو انتصر وغلب وهي الجنة‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم‪ ،‬لن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان‬ ‫ضعيف‪.‬‬ ‫{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ َلهُمْ ُكفّوا أَ ْيدِ َيكُ ْم وََأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ ِإذَا‬ ‫شوْنَ النّاسَ كَخَشْ َيةِ اللّهِ َأوْ أَشَدّ خَشْ َي ًة َوقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَ ْبتَ عَلَيْنَا ا ْلقِتَالَ َلوْل َأخّرْتَنَا‬ ‫فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ يَخْ َ‬ ‫ل وَالخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى وَل ُتظَْلمُونَ فَتِيلً(‪ )77‬أَيْ َنمَا َتكُونُوا‬ ‫جلٍ قَرِيبٍ ُقلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِي ٌ‬ ‫إِلَى أَ َ‬ ‫ت وََلوْ كُنْ ُتمْ فِي بُرُوجٍ ُمشَيّ َد ٍة وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ حَسَنَةٌ َيقُولُوا هَ ِذهِ مِنْ عِ ْندِ اللّ ِه وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ‬ ‫يُدْ ِر ْككُمُ ا ْل َموْ ُ‬ ‫حدِيثا(‪ )78‬مَا‬ ‫سَيّئَةٌ َيقُولُوا هَ ِذهِ مِنْ عِ ْن ِدكَ قُل ُكلّ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ َفمَالِ َهؤُلءِ ا ْل َقوْمِ ل َيكَادُونَ َيفْ َقهُونَ َ‬ ‫ل َو َكفَى بِاللّهِ‬ ‫سكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ َرسُو ً‬ ‫َأصَا َبكَ مِنْ حَسَ َنةٍ َفمِنَ اللّهِ َومَا َأصَا َبكَ مِنْ سَيّ َئةٍ َفمِنْ َنفْ ِ‬ ‫شهِيدا(‪})79‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ُكفّوا أَ ْيدِ َيكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬عن القتال وذلك قبل أن يفرض‪.‬‬ ‫{كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ} ‪ :‬فرض عليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/510‬‬ ‫شوْنَ} ‪ :‬يخافون‪.‬‬ ‫{ َيخْ َ‬ ‫{َلوْل أَخّرْتَنَا} ‪ :‬هل أخرتنا ‪.1‬‬

‫{فَتِيلً} ‪ :‬الفتيل‪ :‬خيط يكو في وسط النواة‪.‬‬ ‫{بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ} ‪ :‬حصون مشيدة بالشيد‪ ،‬وهو الجص‪.‬‬ ‫{مِنْ حَسَنَةٍ} ‪ :‬الحسنة‪ :‬ما سر‪ ،‬والسيئة‪ :‬ما ضر‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روى أن بعضا من أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم طالبوا بالذن لهم بالقتال ولم يؤذن لهم‬ ‫لعدم توفر أسباب القتال‪ ،‬فكانوا يؤمرون بإقام الصلة وإيتاء الزكاة ريثما بأذن ال تعالى لرسوله‬ ‫جلٍ‬ ‫بقتال المشركين‪ ،‬ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا‪َ{ :‬لوْل َأخّرْتَنَا إِلَى أَ َ‬ ‫قَرِيبٍ} متعللين ‪ 2‬بعلل واهية‪ ،‬فأنزل ال تعالى فيهم هاتين اليتين(‪)77‬و(‪َ { )78‬ألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ‬ ‫قِيلَ َلهُمْ ُكفّوا أَ ْيدِ َيكُمْ} أي‪ :‬عن القتال {وََأقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ} ريثما يأذن ال بالقتال عندما‬ ‫تتوفر إمكانياته‪ ،‬فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى‪{ :‬أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّن ُهمْ ظُِلمُوا} جبنوا ولم‬ ‫جلٍ قَرِيبٍ} يريدون أن يدافعوا اليام حتى يموتوا ولم‬ ‫يخرجوا للقتال‪ ،‬وقالوا‪َ{ :‬لوْل أَخّرْتَنَا إِلَى َأ َ‬ ‫ل وَالخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى}‬ ‫يلقوا عدوا خورا‪ ،‬فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم‪ { :‬مَتَاعُ الدّنْيَا ‪ 3‬قَلِي ٌ‬ ‫فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل {وَالخِ َرةُ خَيْرٌ ِلمَنِ ا ّتقَى} ال بفعل أمره وترك‬ ‫ظَلمُونَ فَتِيلً} ل‬ ‫نهيه بعد اليمان به وبرسوله‪ ،‬وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها {وَل تُ ْ‬ ‫ينقص حسنة ول بزيادة سيئة‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى‪.‬‬ ‫أما الية الثانية فقد قال تعالى لهم ولغيرهم ممن يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد‪:‬‬ ‫{أَيْ َنمَا َتكُونُوا يُدْ ِر ْككُمُ ا ْل َم ْوتُ} ‪ ،‬إذ الموت طالبكم ولبد أن يدرككم‪ ،‬كما قال تعالى لمثالهم‪ُ { :‬قلْ‬ ‫إِنّ ا ْل َم ْوتَ الّذِي َتفِرّونَ مِ ْنهُ فَإِنّهُ مُلقِيكُمْ} ‪ ،‬ولو دخلتم حصونا‪ 4‬ما فيها كوة ول نافذة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد من التأخير إلى أجل قريب‪ :‬هو أن يتم استعدادهم للقتال لتوفر المال والرجال والعتاد ل‬ ‫إلى أجل الموت فإنه غير وارد في قولههم‪ :‬هذا ول معنى له‪ ،‬وهل قولهم كان في أنفسهم أو‬ ‫صرحوا به؟ كلهما وارد وجائز الوقوع‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف هل هذه الية نزلت في المؤمنين أو المنافقين؟ والصواب أنها نزلت في بعض المؤمنين‬ ‫ممن ضعف إيمانهم‪ ،‬أما كونها نزلت في اليهود فل معنى له‪ ،‬وكونها شملت المنافقين فهذا حق‬ ‫بدليل سياق اليات‪.‬‬ ‫‪ 3‬يبين قلة متاع الدنيا قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت‬ ‫شجرة ثم راح وتركها" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬تفسير لقوله تعالى‪{ :‬وََلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّ َدةٍ} إذ البرج‪ :‬البناء المرتفع والقصر العظيم‪ .‬قال‬ ‫طرفة‪ ،‬يصف ناقة‪:‬‬ ‫كأنها برج رمي يكففها ‪ ...‬بانٍ بشيد وآج ٍر وأحجار‬ ‫وفي الية رد على القدرية القائلين‪ :‬المقتول لو لم يقتله عاش‪.‬‬

‫( ‪)1/511‬‬ ‫فإن الموت يدخلها عليكم ويقبض أرواحكم‪ ،‬ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم‬ ‫وفساد ذوقهم فقال‪{ :‬وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ حَسَنَةٌ َيقُولُوا هَ ِذهِ مِنْ عِنْدِ اللّ ِه وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّ َئةٌ َيقُولُوا َه ِذهِ مِنْ‬ ‫عِنْ ِدكَ} يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أ خصب ورخاء‪ ،‬قالوا‪َ { :‬ه ِذهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} ل شكرا‬ ‫ل وإنما ل يريدون أن ينسبوا إلى رسول ال شيئا من خير كان ببركته وحسن قيادته‪ ،‬وإن تصبهم‬ ‫سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون‪{ :‬هَ ِذهِ مِنْ عِ ْن ِدكَ‪ ، }1‬أي‪ :‬أنت السبب فيها‪ .‬قال تعالى‬ ‫لرسوله‪ :‬قل لهم { ُكلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ} الحسنة والسيئة‪ ،‬هو الخالق والواضع السنن لوجودها‬ ‫حدِيثا} هذا‬ ‫وحصولها‪ .‬ثم عليهم في نفسياتهم الهابطة‪ ،‬فقال‪َ { :‬فمَالِ َهؤُلءِ ا ْلقَوْمِ ل َيكَادُونَ َي ْفقَهُونَ َ‬ ‫ما دلت عليه الية الثانية‪.‬‬ ‫أما الية الثالثة والخيرة في هذا السياق‪ ،‬وهي قوله تعالى‪ { :‬مَا َأصَا َبكَ مِنْ حَسَنَةٍ َفمِنَ اللّ ِه َومَا‬ ‫سكَ‪ }3‬الية‪ ،‬فإن ال تعالى يخاطب رسوله صلى ال عليه وسلم فيخبره‬ ‫َأصَا َبكَ‪ 2‬مِنْ سَيّ َئةٍ َفمِنْ َنفْ ِ‬ ‫بأن الحسنة من ال تعالى‪ ،‬إذ هو المر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها الموفق للحصول عليها‪ ،‬أما‬ ‫السيئة فمن النفس‪ ،‬إذ هي التي تأمر بها‪ ،‬وتباشرها مخالفة فيها أمر ال أو نهيه‪ ،‬فلذا ل يصح‬ ‫شهِيدا} يُسلي به رسوله‬ ‫ل َوكَفَى بِاللّهِ َ‬ ‫نسبتها إلى ال تعالى‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَأَ ْرسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُو ً‬ ‫عما يلقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء أخلق بعضهم؛ كالذين ينسبون إليه السيئة تطيرا‬ ‫به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة‪ ،‬وقد أداها وال شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أنت أهله‬ ‫وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك وكفى بال شهيدا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قبح الستعجال والجبن وسوء عاقبتهما‪.‬‬ ‫‪ -2‬الخرة خير لمن اتقى من الدنيا ‪.4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقد شارك يهود في هذا القول‪ ،‬فقد روى أنهم لما نزل الرسول صلى ال عليه وسلم المدينة‬ ‫مهاجرا‪ ،‬قالوا‪ :‬ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا‪ ،‬ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه!!‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن الخطاب وإن كان للنبي صلى ال عليه وسلم فهو عام في كل إنسان لسيما المؤمن‪ ،‬أو هو‬ ‫من باب‪ :‬إياك أعني‪ ،‬واسمعي يا جارة‪ ،‬وكونه خاصا بالرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعناه عام‬ ‫هو الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 3‬زاد بعضهم جملة‪ :‬وإنا كتبا عليك‪ ،‬وهي ليست قرآنا إجماعا‪ ،‬وإنما هي تفسير من بعض‬ ‫الصحابة‪ ،‬ول التفات لمن طعن في القرآن بمثل هذه الزيادة التفسيرية‪.‬‬

‫‪ 4‬وما أحسن ما قيل في معنى الية شعرا‪:‬‬ ‫ول خير في الدنيا لمن لم يكن له ‪ ...‬من ال في دار ا لمقام نصيب‬ ‫فإن تعجب الدنيا رجالً فإنها ‪...‬‬ ‫متاع قليل والزوال قريب‬

‫( ‪)1/512‬‬ ‫‪ -3‬ل مفر من الموت ول مهرب منه بحال ‪ 1‬من الحوال‪.‬‬ ‫‪ -4‬الخير والشر كلهما بتقدير ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬الحسنة من ال والسيئة من النفس‪ ،‬إذ الحسنة أمر ال بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها‪،‬‬ ‫وأبعد الموانع عنها‪ ،‬والسيئة من النفس؛ لن ال نهى عنها وتوعد على فعلها‪ ،‬ولم يوفق إليها ولم‬ ‫يعن عليها فهي من النفس ‪ 2‬ل من ال تعالى‪.‬‬ ‫حفِيظا(‪ )80‬وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا‬ ‫{مَنْ ُيطِعِ الرّسُولَ َفقَدْ َأطَاعَ اللّ َه َومَنْ َتوَلّى َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬ ‫بَرَزُوا مِنْ عِنْ ِدكَ بَ ّيتَ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ غَيْرَ الّذِي َتقُولُ وَاللّهُ َيكْ ُتبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ وَتَ َو ّكلْ‬ ‫جدُوا فِيهِ‬ ‫ن وََلوْ كَانَ مِنْ عِ ْندِ غَيْرِ اللّهِ َلوَ َ‬ ‫عَلَى اللّ ِه َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلً(‪َ )81‬أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآ َ‬ ‫ل وَإِلَى‬ ‫خوْفِ َأذَاعُوا بِ ِه وََلوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُو ِ‬ ‫لمْنِ َأوِ ا ْل َ‬ ‫ناَ‬ ‫اخْتِلفا كَثِيرا(‪ )82‬وَإِذَا جَاءَهُمْ َأمْرٌ مِ َ‬ ‫حمَتُ ُه لتّ َبعْتُمُ الشّ ْيطَانَ إِل‬ ‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم وَ َر ْ‬ ‫لمْرِ مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ َيسْتَنْبِطُونَهُ مِ ْنهُمْ وَلَوْل َف ْ‬ ‫أُولِي ا َ‬ ‫قَلِيلً(‪})83‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حفِيظا} ‪ :‬تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{طَاعَةٌ} ‪ :‬أي‪ :‬أمرنا طاعة لك‪.‬‬ ‫{بَرَزُوا} ‪ :‬خرجوا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال زهير بن سلمة‪:‬‬ ‫ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ‪ ...‬ولو رام أسباب السماء بسلّم‬ ‫‪ 2‬قال قتادة‪ :‬رواية ل يصيب رجلً خدش عود ول عثرة قدم ول اختلج عرق إل بذنب وما يعفو‬ ‫ال عنه أكثر‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬والذي نفسه بيده ل يصيب هم ول حزن ول نصب حتى‬ ‫الشوكة يشاكها إل كفر ال عنه بها من خطاياه" فهو دال على حديث قتادة الضعيف‪.‬‬

‫( ‪)1/513‬‬

‫{َأفَل يَ َتدَبّرُونَ} ‪ :‬تدبر القرآن‪ ،‬قراءة الية أو اليات وإعادتها المرة بعد المرة ليفقه مراد ال‬ ‫تعالى منها‪.‬‬ ‫{َأذَاعُوا بِهِ} ‪ :‬أفشوه معلنينه للناس‪.‬‬ ‫{يَسْتَنْ ِبطُونَهُ} ‪ :‬يستخرجون معناه الصحيح‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في قوله تعالى‪{ :‬مَنْ يُطِعِ الرّسُولَ‪ }1‬إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمدا‬ ‫صلى ال عليه وسلم ما أطاع ال تعالى‪ ،‬إن أمر الرسول من أمر ال ونهيه من نهي ال تعالى فل‬ ‫عذر لحد في عدم طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ َتوَلّى} أي‪ :‬عن‬ ‫طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه‪ ،‬فدعه ول تلتفت إليه إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم‬ ‫وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها‪ ،‬إن عليك إل البلغ‪ ،‬وقد بلغت فاعذرت‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَ َيقُولُونَ‬ ‫عةٌ} أي‪ :‬ويقول أولئك المنافقون المنطيرون بك السيئو الفهم لما تقول‪ :‬طاعة أي‪ :‬أمرنا طاعة‬ ‫طَا َ‬ ‫لك‪ ،‬أي‪ :‬ليس لنا ما نقول إذا قلت ول ما نأمر به إذا أمرت‪ ،‬فنحن مطيعون لك {فَِإذَا بَرَزُوا} أي‪:‬‬ ‫خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك‪ ،‬وفي‬ ‫مجلسك‪ ،‬وال تعالى يكتب بواسطة ملئكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه ‪ 2‬من الشر والباطل‪ .‬وعليه‬ ‫{فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُ ْم وَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ} ول تبال بهم { َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلً} فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه‬ ‫من الشر لك‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية(‪َ{ )82‬أفَل يَتَدَبّرُونَ‪ 3‬ا ْلقُرْآنَ} يؤتيهم بإعراضهم وجهلهم وسوء‬ ‫فهمهم‪ ،‬إذ لو تدبروا القرآن وهو يُتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن ما‬ ‫جاء به حق فآمنوا وأسلموا وحسن إسلمهم‪ ،‬وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آرائهم‪ ،‬إن‬ ‫تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مصداقه في صحيح مسلم قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬من أطاعني فقد أطاع ال ومن عصاني‬ ‫فقد عصى ال ومن يطع المير فقد أطاعني ومن يعصي المير فقد عصاني "‪.‬‬ ‫‪ 2‬بيتوا‪ :‬زوروا وبدلوا‪ ،‬إن التبييت‪ :‬هو تدبر المر بالليل حيث اتساع الوقت والفراغ من العمل‬ ‫وقلة العيون‪ ،‬وبيتوا العدو‪ :‬أتوه ليلً‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫أجمعوا أمرهم بليل فلما ‪ ...‬أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء‬ ‫‪ 3‬في هذه الية‪َ{ :‬أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ} مع آية سورة القتال‪َ{ :‬أفَل يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ‬ ‫َأ ْقفَاُلهَا} دليل على وجوب تدبر القرآن لفهم معانيه‪ ،‬لعتقاد الحق والعمل به‪ ،‬وفيه رد على من‬ ‫زعم أنه ل يؤخذ من القرآن إل ما ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم تفسيره‪ ،‬ودليل على‬ ‫وجوب النظر والستدلل وإبطال التقليد‪.‬‬

‫( ‪)1/514‬‬ ‫من الباطل وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا القرآن كلم ال تعالى وليس كلم بشر‪ ،‬إذ لو كان كلم‬ ‫بشر لوجد فيه التناقض والختلف والتضاد‪ ،‬ولكنه كلم خالق البشر‪ ،‬فلذا هو متسق الكلم متآلف‬ ‫اللفاظ والمعاني محكم الي هادٍ إلى السعاد والكمال‪ ،‬فهو بذلك كلم ال حقا ومن شرف بإنزاله‬ ‫عليه رسول حق ول معنى أبدا للكفر بعد هذا والصرار عليه‪ ،‬ومنافقة المسلمين فيه‪ .‬هذا معنى‬ ‫جدُوا فِيهِ اخْتِلفا كَثِيرا} ‪.‬‬ ‫قوله تعالى‪ { :‬وََلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ َلوَ َ‬ ‫خ ْوفِ أَذَاعُوا ِبهِ} وهي الية الرابعة(‪ )83‬فإن ال تعالى‬ ‫لمْنِ َأوِ الْ َ‬ ‫ناَ‬ ‫وقوله‪{ :‬وَإِذَا جَاءَ ُهمْ َأمْرٌ مِ َ‬ ‫يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعيا عليهم إرجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول {وَإِذَا‬ ‫خوْفِ} أي‪ :‬إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا‬ ‫لمْنِ َأوِ ا ْل َ‬ ‫ناَ‬ ‫جَاءَهُمْ َأمْرٌ مِ َ‬ ‫بإفشائه وإذاعته‪ ،‬وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لن الخبر وأطلق عليه لفظ المر؛ لن حالة‬ ‫الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالمن فهم يعلنونه حسدا أو طمعا‪ ،‬وإذا كان‬ ‫بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعا وخوفا؛ لنهم جبناء كما تقدم وصفهم‪ ،‬قال تعالى في‬ ‫تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب‪َ { .‬وَلوْ َردّوهُ إِلَى‬ ‫لمْرِ مِ ْنهُمْ} وهم أمراء السرايا المجاهدة {َلعَِلمَهُ الّذِينَ‬ ‫الرّسُولِ} القائد العلى‪{ ،‬وَإِلَى أُولِي ا َ‬ ‫يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ‪ }1‬أي‪ :‬لستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعا أذاعوه‪ ،‬وإن‬ ‫حمَتُهُ} أيها المؤمنون {لتّ َبعْتُمُ‬ ‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ وَرَ ْ‬ ‫كان ضارا أخوفه‪ .‬ثم قال تعالى‪{ :‬وََلوْل َف ْ‬ ‫الشّ ْيطَانَ‪ }2‬في قبول تلك الشاعات المغرضة والذاعات المثبطة {إِل قَلِيلً} منكم من ذوي الراء‬ ‫الصائبة والحصافة العقلية‪ ،‬إذ مثلهم ل تثيرهم الدعاوى‪ ،‬ول تغيرهم الراجيف‪ ،‬ككبار الصحابة‬ ‫من المهاجرين والنصار رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم فإنه ل يطاع لذاته وإنما يطاع لذات ال عز‬ ‫وجل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستنباط مأخوذ من‪ :‬استنبط الماء‪ ،‬إذا استخرجه من الرض‪ ،‬والنبط‪ :‬الماء المستنبط أول ما‬ ‫يخرج من ماء البئر أو ما يحفر‪ .‬وسمي النبط نبطا؛ لنهم يستخرجون ما في الرض‪ ،‬والستنباط‬ ‫لغة الستخراج‪ ،‬وفي هذه الية دليل على الجتهاد‪.‬‬ ‫‪ 2‬ما فسرنا به الية أصح مما فسرت به‪ ،‬ول التفات إلى ما أورد القرطبي من آراء عدة ل طائل‬ ‫تحتها‪.‬‬

‫( ‪)1/515‬‬ ‫‪ -2‬وجوب تدبر القرآن لتقوية اليمان ‪.1‬‬ ‫‪ -3‬آية أن القرآن وحي ال وكلمه سلمته من التناقض والتضاد في اللفاظ والمعاني‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير مبدأ أن أخبار الحرب ل تذاع إل من قبل القيادة العليا حتى ل يقع الضطراب في‬ ‫صفوف المجاهدين والمة كذلك‪.‬‬ ‫‪ -5‬أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إل القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي‪.‬‬ ‫ك وَحَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَنْ َي ُكفّ بَ ْأسَ الّذِينَ كَفَرُوا‬ ‫سَ‬ ‫{ َفقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ‬ ‫شفَاعَةً‬ ‫شفَعْ َ‬ ‫شفَاعَةً حَسَ َنةً َيكُنْ لَهُ َنصِيبٌ مِ ْنهَا َومَنْ َي ْ‬ ‫شفَعْ َ‬ ‫وَاللّهُ َأشَدّ بَأْسا وَأَشَدّ تَ ْنكِيلً(‪ )84‬مَنْ يَ ْ‬ ‫شيْءٍ ُمقِيتا(‪ )85‬وَإِذَا حُيّيتُمْ بِ َتحِيّةٍ َفحَيّوا بِأَحْسَنَ مِ ْنهَا َأوْ‬ ‫سَيّئَةً َيكُنْ لَهُ ِك ْفلٌ مِ ْنهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شيْءٍ حَسِيبا(‪})86‬‬ ‫رُدّوهَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَحَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ :‬حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال‪.‬‬ ‫{بَأْسَ الّذِينَ َكفَرُوا} ‪ :‬قوتهم الحربية‪.‬‬ ‫روَأَشَدّ تَ ْنكِيلً} ‪ :‬أقوى تنكيلً‪ ،‬والتنكيل‪ :‬ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل عن‬ ‫الظلم‪.‬‬ ‫الشفاعة ‪ : 2‬الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر‬ ‫فهي السيئة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬واستنباط الحكام واستخراج أنواع الهدايات فيه‪ ،‬إذ هو كتاب هداية للمؤمنين به‪ ،‬يهتدون إلى‬ ‫ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الشفاعة من الشفع‪ ،‬وهو الزوج ضد الفرد‪ ،‬وسميت شفاعة؛ لن الشفيع يصير مع المشفوع له‬ ‫شفعا‪ ،‬أي‪ :‬زوجا‪ ،‬والشفعة‪ :‬ضم ملك إلى ملك‪.‬‬

‫( ‪)1/516‬‬ ‫{ ِك ْفلٌ مِ ْنهَا} ‪ :‬نصيب منها‪.‬‬ ‫{ ُمقِيتا‪ : }1‬مقتدرا عليه وشاهدا عليه حافظا له‪.‬‬ ‫{بِ َتحِيّةٍ} ‪ :‬تحية السلم‪ ،‬هي السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‪.‬‬ ‫{َأوْ رُدّوهَا} ‪ :‬أي‪ :‬يقول‪ :‬وعليكم السلم‪.‬‬

‫{حَسِيبا} ‪ :‬محاسبا على العمل مجازيا به خيرا كان أو شرا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫سكَ‬ ‫ما زال السياق في السياسة الحربية‪ ،‬ففي هذه الية‪َ { :‬فقَا ِتلْ‪ 2‬فِي سَبِيلِ اللّهِ ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ‬ ‫وَحَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} يأمر تعالى رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم أن يقاتل المشركين لجل إعلء‬ ‫كلمة ال تعالى بأن يعبد وحده وينتهي اضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله {فِي‬ ‫سكَ‪ }3‬أي‪ :‬ل يكلفك ربك إل نفسك وحدها‪ ،‬أما من عداك فليس‬ ‫سَبِيلِ اللّهِ} وقوله‪{ :‬ل ُتكَّلفُ إِل َنفْ َ‬ ‫عسَى‬ ‫عليك تكليفه‪ ،‬ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه‪ .‬وقوله‪َ { :‬‬ ‫اللّهُ أَنْ َي ُكفّ بَأْسَ الّذِينَ َكفَرُوا} ‪ ،‬وهذا وعد من عند ال تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط‬ ‫عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فل يبقى لهم بأس ول قوة وقد فعل ‪ ،4‬وله‬ ‫شدّ تَ ْنكِيلً} من غيره بالظالمين من أعدائه‪.‬‬ ‫شدّ بَأْسا} م كل ذي بأس {وَأَ َ‬ ‫الحمد والمنة‪ ،‬وهو تعالى {أَ َ‬ ‫حسَنَةً َيكُنْ لَهُ‬ ‫شفَاعَةً َ‬ ‫شفَعْ َ‬ ‫هذا ما دلت عليه الية(‪ ،)84‬أما الية(‪ )85‬وهي قوله تعالى‪{ :‬مَنْ يَ ْ‬ ‫شيْءٍ ُمقِيتا} فهو إخبار‬ ‫شفَاعَةً سَيّئَةً َيكُنْ َلهُ ِكفْلٌ مِ ْنهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شفَعْ َ‬ ‫َنصِيبٌ مِ ْنهَا َومَنْ يَ ْ‬ ‫منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سرية‬ ‫تقاتل في سبيل ال‪ ،‬أو يتوسط لحد في قضاء حاجته فإن للشافع‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده قول الزبير بن عبد الملطب‪:‬‬ ‫وذي صغن كففت النفس عنه ‪ ...‬وكنت على مساءته مقيتا‬ ‫أي‪ :‬مقتدرا‬ ‫‪ 2‬هذه الفاء هي الفصيحة‪ ،‬والتقدير‪ :‬إذا كان المر كما علمت من وجود المثبطين والخائفين‬ ‫والمرجوفين فقاتل في سبيل ال ل تكلف إل نفسك‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على شجاعة الرسول صلى ال عليه وسلم الخارقة للعادة‪ ،‬إذ كلفه ال به على‬ ‫انفراد وأمره بتحريض المؤمنين على القتال‪ ،‬ومعنى هذا‪ :‬أنه أمره بالجهاد ولو كان وحده‪ ،‬ولذا‬ ‫قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬وال لقاتلهنم حتى تنفرد سالفتي" ‪ ،‬أي‪ :‬حتى أموت‪ .‬وتحريض‬ ‫المؤمنين هو أمرهم بالقتال وحثهم عليه ل على سبيل اللزام‪ ،‬كما ألزم به هو صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬فلم يقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى دانت الجزيرة كلها بالسلم‪ ،‬ولم يمض أكثر‬ ‫من ربع قرن حتى دخلت دولتا‪ :‬الفرس والروم في السلم؛ لن "عسى" من ال تعالى تفيد وجوب‬ ‫الوقوع‪.‬‬

‫( ‪)1/517‬‬

‫شفَاعَةً سَيّئَةً} بأن يؤيد باطلً أو يتوسط في فعل شر‬ ‫شفَعْ َ‬ ‫قسطا من الجر والمثوبة‪ ،‬كما أن { َومَنْ يَ ْ‬ ‫أو ترك معروف يكون عليه نصيب من الوزر‪ ،‬لن ال تعالى على كل شيء مقتدر وحفيظ عليم‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية المذكورة‪.‬‬ ‫أما الية الخيرة(‪ )86‬فإن ال تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها‬ ‫فإن لم يكن بأحسن فبالمثل‪ ،‬فمن قال‪ :‬السلم عليكم‪ ،‬فليقل الراد‪ :‬وعليكم السلم ورحمة ال‪ ،‬ومن‬ ‫قال‪ :‬السلم عليكم ورحمة ال‪ .‬فليرد عليه‪ :‬وعليكم السلم ورحمة ال وبركاته‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ‬ ‫شيْءٍ حَسِيبا‪ }1‬فيه تطمين للمؤمنين على أن ال تعالى يثيبهم على إحسانهم‬ ‫علَى ُكلّ َ‬ ‫اللّهَ كَانَ َ‬ ‫ويجزيهم به‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان شجاعة النبي صلى ال عليه وسلم بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل‪.‬‬ ‫‪ -2‬ليس من حق الحاكم أن يجند المواطنين تجنيدا إجباريا‪ ،‬وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد‬ ‫ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل الشفاعة في الخير‪ ،‬وقبح الشفاعة في الشر ‪.2‬‬ ‫‪ -4‬تأكيد سنة التحية‪ ،‬ووجوب ردها بأحسن أو بمثل ‪.3‬‬ ‫‪ -5‬تقرير ما جاء في السنة بأن السلم عليكم‪ :‬يعطي عليها المسلم عشر حسنات ورحمة ال‪:‬‬ ‫عشر حسنات‪ .‬وبركاته‪ :‬عشر كذلك‪.‬‬ ‫ج َمعَ ّنكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِي ِه َومَنْ َأصْ َدقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا (‪َ )87‬فمَا َلكُمْ‬ ‫{ اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ لَ َي ْ‬ ‫سهُمْ ِبمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ َتهْدُوا مَنْ‬ ‫ن وَاللّهُ أَ ْركَ َ‬ ‫فِي ا ْلمُنَافِقِينَ فِئَتَيْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حسيب‪ ،‬هنا‪ :‬بمعنى محاسب‪ ،‬وحفيظ فل يضيع حسنات العبد‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬اشفعوا تؤجروا" ‪ ،‬وليقضي ال على لسان نبيه ما‬ ‫أحب‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية سنية إلقاء السلم ووجوب رده وقد بينت السنة أن القليل يسلم على الكثير‪ ،‬والقائم‬ ‫على القاعد‪ ،‬والراكب على الماشي‪ ،‬وأن الراد يكون بزيادة‪ :‬ورحمة ال وبركاته‪ .‬وأنه ل يسلم‬ ‫على المرأة الصغيرة خشية الفتنة‪ .‬وأن المصلي إن سلم عليه رد السلم بالشارة إن شاء ال‪.‬‬

‫( ‪)1/518‬‬ ‫سوَاءً فَل‬ ‫ضلّ اللّ ُه َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ فَلَنْ َتجِدَ لَهُ سَبِيلً(‪ )88‬وَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُوا فَ َتكُونُونَ َ‬ ‫َأ َ‬ ‫ث وَجَدْ ُتمُو ُه ْم وَل‬ ‫خذُوهُ ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْي ُ‬ ‫خذُوا مِ ْنهُمْ َأوْلِيَاءَ حَتّى ُيهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ َتوَّلوْا فَ ُ‬ ‫تَتّ ِ‬

‫خذُوا مِ ْنهُ ْم وَلِيّا وَل َنصِيرا(‪ )89‬إِل الّذِينَ َيصِلُونَ إِلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُمْ وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ َأوْ جَاءُوكُمْ‬ ‫تَتّ ِ‬ ‫طهُمْ عَلَ ْي ُكمْ فََلقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ‬ ‫ت صُدُورُهُمْ أَنْ ُيقَاتِلُوكُمْ َأوْ ُيقَاتِلُوا َق ْو َمهُمْ وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَسَلّ َ‬ ‫حصِ َر ْ‬ ‫َ‬ ‫جدُونَ آخَرِينَ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ َلكُمْ عَلَ ْيهِمْ سَبِيلً(‪ )90‬سَتَ ِ‬ ‫اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ ُيقَاتِلُوكُ ْم وَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ َفمَا َ‬ ‫يُرِيدُونَ أَنْ يَ ْأمَنُوكُ ْم وَيَ ْأمَنُوا َقوْ َمهُمْ ُكلّ مَا رُدّوا ِإلَى ا ْلفِتْنَةِ أُ ْركِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ َيعْتَزِلُوكُ ْم وَيُ ْلقُوا‬ ‫جعَلْنَا َلكُمْ عَلَ ْيهِمْ سُ ْلطَانا مُبِينا(‬ ‫إِلَ ْيكُمُ السّلَ َم وَ َي ُكفّوا أَ ْيدِ َيهُمْ َفخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُوهُمْ وَأُولَ ِئكُمْ َ‬ ‫‪})91‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل إِلَهَ إِل ُهوَ‪ : }1‬ل معبود بحق إل هو‪.‬‬ ‫{فِئَتَيْنِ‪ : }2‬جماعتين الواحدة فئة‪ ،‬أي‪ :‬جماعة‪.‬‬ ‫س ُهمْ} ‪ :‬الرتكاس‪ :‬التحول من حال حسنة إلى حال سيئة؛ كالكفر بعد اليمان‪ ،‬أو الغدر بعد‬ ‫{أَ ْركَ َ‬ ‫المان وهو المراد هنا‪.‬‬ ‫{سَبِيلً} ‪ :‬أي‪ :‬طريقا إلى هدايتهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اسم الجللة‪{ :‬ال} مبتدأ‪ ،‬و{ل إله إل ال} جملة معترضة‪ ،‬وجملة القسم واقعة موقع الخبر‪.‬‬ ‫‪ 2‬الفئة‪ :‬الطائفة‪ ،‬اشتق لفظها من الفيء الذي هو الرجوع‪ ،‬إذ أفرادها يرجع بعضهم إلى بعض‪،‬‬ ‫وأصلها فيء‪ ،‬فحذفت الياء من وسطها لكثرة الستعمال فصارت‪ :‬فئة‪ ،‬بعد زيادة هاء التأنيث‬ ‫عوضا عن الياء المحذوفة‪.‬‬

‫( ‪)1/519‬‬ ‫{وَلِيّا وَل َنصِيرا} ‪ :‬الولي‪ :‬من يلي أمرك‪ ،‬والنصير‪ :‬من ينصرك على عدوك‪.‬‬ ‫{ َيصِلُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم‪.‬‬ ‫{مِيثَاقٌ} ‪ :‬عهد‪.‬‬ ‫حصِ َرتْ صُدُورُ ُهمْ} ‪ :‬ضاقت‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{السّلَمَ} ‪ :‬الستسلم والنقياد‪.‬‬ ‫{ا ْلفِتْنَةِ} ‪ :‬الشرك‪.‬‬ ‫{ َث ِقفْتُمُوهُمْ} ‪ :‬وجدتموهم متمكنين منهم‪.‬‬ ‫{ سُلْطَانا مُبِينا} ‪:‬حجة بين على جواز قتالهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى اليات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب‪ ،‬أي‪ :‬القادر على الحساب والجزاء‪،‬‬ ‫أخبر عز وجل أنه ال الذي ل إله إل هو‪ ،‬أي‪ :‬المعبود دون سواه لربوبيته على خلقه‪ ،‬إذ الله‬

‫الحق ما كان ربا خالقا رازقا مدبرا بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء‪ ،‬وأنه جامع ‪ 1‬الناس ليوم‬ ‫ل ريب في إتيانه وهو يوم القيامة‪.‬‬ ‫ج َمعَ ّنكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ ل رَ ْيبَ فِيهِ} ‪ ،‬ولما‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الكريمة‪{ :‬اللّهُ ل إِلَهَ إِل ُهوَ لَيَ ْ‬ ‫كان هذا خبرا يتضمن وعدا ووعيدا أكد تعالى إنجازه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَنْ َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا} اللهم إنه‬ ‫ل أحد أصدق منك‪.‬‬ ‫أما اليات الربع الباقية‪ ،‬وهي(‪ )88‬و(‪)89‬و(‪ )90‬و(‪ )91‬فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل‬ ‫حربية معينة‪ ،‬أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا السلم وهم ضليعون في موالة الكافرين‪ ،‬وقد يكونون‬ ‫في مكة ‪ ،2‬وقد يكونون في المدينة‪ ،‬فرأى بعض الصحاب أن من الحزم الضرب على أيديهم‬ ‫وإنهاء نفاقهم‪ ،‬ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون اليمان لعلهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله تعالى‪{ :‬ليجمعنكم} جواب قسم‪ ،‬وهذا الجمع دللة اللفظ أنه في القبور تحت الرض‬ ‫ليبعثهم يوم القيامة‪ ،‬وقد تكون {إلى} صلة‪ ،‬ويكون الجمع هو جمع يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ 2‬السياق الكريم صالح لن تكون الفئتان المختلف فيهما من مكة أو من المدينة‪ ،‬وقد ورد في‬ ‫الصحيح اختلف المؤمنين في ابن أبي‪ ،‬ومن وافقه‪ ،‬ورجع من أحد دون قتال حتى قال رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬أنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما يفني الكير خبث الحديد" كما ورد في غير‬ ‫الصحيح‪ :‬أن جماعة في مكة تكلموا بالسلم وكانوا يظاهرون المشركين‪ ،‬وأبوا أن يهاجروا‬ ‫فاختلف في شأنهم المؤمنون‪ ،‬ول مانع من أن تعنى اليات منافقي المدينة‪ ،‬ومنافقي مكة‪ .‬إذ‬ ‫الخلف وقع في كل منافقي مكة ومنافقي المدينة‪ ،‬ويرجح هذا الرأي صحة الخبر الول وذكر‬ ‫الهجرة في الثاني‪.‬‬

‫( ‪)1/520‬‬ ‫بمرور اليام يتوبون‪ .‬فلما اختلفا واشتد الخلف في شأنهم أنزل ال تعالى هذه اليات فقال‪َ { :‬فمَا‬ ‫ضلّ اللّ ُه َومَنْ ُيضِْللِ‬ ‫سهُمْ‪ِ 1‬بمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ‪ 2‬أَنْ َتهْدُوا مَنْ َأ َ‬ ‫َلكُمْ فِي ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَ ْركَ َ‬ ‫جدَ لَهُ سَبِيلً} ومعنى الية‪ ،‬أي‪ :‬شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ وال تعالى قد‬ ‫اللّهُ فَلَنْ تَ ِ‬ ‫أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام‪ .‬أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل‬ ‫ال‪ ،‬وهل يقدر أحد على هداية من أضله ال؟ وكيف‪ ،‬ومن يضلل ال حسب سنته في إضلل‬ ‫البشر ل يوجد له هادٍ‪ ،‬ول سبيل لهدايته بحال من الحوال‪.‬‬ ‫ثم أخبر تعالى عن نفسية أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الية الثالثة(‪{ )89‬وَدّوا َلوْ‬ ‫سوَاءً} أي‪ :‬أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم‪ ،‬وفيه لزم وهو‬ ‫َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُوا فَ َتكُونُونَ َ‬

‫انتهاء السلم‪ ،‬وظهور الكفر وانتصاره‪.‬‬ ‫ومن هنا قال تعالى محرما موالتهم إلى أن يهاجروا فقال‪{ :‬فَل تَتّخِذُوا مِ ْنهُمْ َأوْلِيَاءَ} تعولون عليهم‬ ‫في نصرتكم على إخوانهم في الكفر‪ .‬ظاهر هذا السياق أن هؤلء المنافقين هم بمكة وهو كذلك‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬حَتّى ُيهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ‪ ، }3‬لن الهجرة إلى المدينة تقطع صلتهم بدار الكفر‬ ‫فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا فإن هاجروا ثم تولوا عن اليمان الصحيح إلى‬ ‫جدْ ُتمُوهُ ْم وَل تَتّخِذُوا مِ ْنهُ ْم وَلِيّا وَل‬ ‫ث وَ َ‬ ‫خذُوهُ ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْي ُ‬ ‫النفاق الكفر فأعلنوا الحرب عليهم {فَ ُ‬ ‫َنصِيرا} ؛ لنهم بارتكاسهم ل خير فيهم ول يعول عليهم‪.‬‬ ‫ثم في الية(‪ )90‬استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين فل يأخذونهم أسرى ول‬ ‫يقاتلونهم‪ ،‬الصنف الول الذين ذكرهم تعالى بقوله {إِل الّذِينَ َيصِلُونَ} أي‪ :‬يلجأون {إِلَى َقوْمٍ بَيْ َن ُكمْ‬ ‫وَبَيْ َنهُمْ‪ 4‬مِيثَاقٌ} فبحكم استجارتهم بهم طالبين المان منهم فأمنوهم أنتم حتى ل تنقضوا عهدكم‪.‬‬ ‫والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة‪{ :‬وال أ ْر َكسَهم} حالية‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام إنكاري‪ ،‬وهو دال على جملة محذوفة تقديرها‪ :‬أنهم قد أضلهم ال‪.‬‬ ‫‪ 3‬الهجرة‪ :‬هجرتان‪ ،‬هي لمنافقي المدينة‪ .‬الخروج إلى الغزو مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وهجرة لمنافقي مكة‪ ،‬وهي إلى المدينة للقامة بها‪ .‬والهجرة أنواع‪ :‬منها ترك المعاصي‪ ،‬لحديث‪:‬‬ ‫"المهاجر من هجر ما نهى ال عنه ورسوله" ومنها هجرة الفساق وأهل البدع ليتوبوا من ذنوبهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬قد اختلف في هؤلء الذين بينهم وبين المؤمنين ميثاق وما دامت العبرة بعموم اللفظ ل‬ ‫بخصوص السبب‪ ،‬فل طائل تحت معرفتهم الن‪ ،‬إذ العبرة أن في الية دليل على جواز الموادعة‬ ‫بين أهل الحرب والمسلمين للضرورة‪.‬‬

‫( ‪)1/521‬‬ ‫وقتال قومهم فهؤلء الذين يلم يستسيغوا قتالكم ول قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فل‬ ‫تأخذوهم ول تقتلوهم واصبروا عليهم‪ ،‬إذ لو شاء ال تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم هذا الصنف‬ ‫ت صُدُورُ ُهمْ أَنْ ُيقَاتِلُوكُمْ َأوْ ُيقَاتِلُوا َق ْو َمهُ ْم وََلوْ شَاءَ اللّهُ‬ ‫حصِ َر ْ‬ ‫هو المعنى بقوله تعالى‪َ{ :‬أوْ جَاءُوكُمْ َ‬ ‫طهُمْ عَلَ ْيكُمْ فََلقَاتَلُوكُمْ} فما دام ال تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪:‬‬ ‫لَسَلّ َ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ َلكُمْ عَلَ ْيهِمْ‬ ‫{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فََلمْ ُيقَاتِلُوكُ ْم وَأَ ْلقَوْا إِلَ ْيكُمُ السَّلمَ} ‪ .‬أي‪ :‬المسالمة والمهادنة { َفمَا َ‬ ‫سَبِيلً‪ .}1‬لخذهم وقتالهم‪ .‬هذا وهناك صنف آخر ذكر تعالى حكم معاملته في الية الخامسة‬ ‫والخيرة(‪ ،)91‬وهي قوله تعالى‪ :‬ستجدون قوما آخرين ‪ 2‬غير الصنفين السابقين { يُرِيدُونَ أَنْ‬ ‫يَ ْأمَنُوكُمْ وَيَ ْأمَنُوا َق ْو َمهُمْ‪ }3‬فهم إذا يلعبون على الحبلين كما يقال { ُكلّ مَا رُدّوا إِلَى ا ْلفِتْنَةِ} أي‪ :‬إلى‬

‫الشرك {أُ ْركِسُوا فِيهَا} أي‪ :‬وقعوا فيها منتكسين‪ ،‬إذ هم منافقون‪ ،‬إذ كانوا معكم عبدوا ال وحده‪،‬‬ ‫وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك‪ ،‬وهو معنى‬ ‫قوله تعالى‪ُ { :‬كلّ مَا رُدّوا إِلَى ا ْلفِتْنَةِ أُ ْركِسُوا فِيهَا} ‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ‬ ‫وَأَ ْلقَوْا إِلَ ْيكُمُ السَّلمَ} أي‪ :‬إن لم يعتزلوا قتالكم ويلقوا إليكم السلم‪ ،‬وهو الذعان والنقياد لكم‪،‬‬ ‫سلْطَانا‬ ‫جعَلْنَا َلكُمْ عَلَ ْيهِمْ ُ‬ ‫ويكفوا أيديهم فعلً عن قتالكم { َفخُذُو ُه ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ َ‬ ‫مُبِينا} أي‪ :‬حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم وعلى أي حال‪ .‬هذا ما دلت‬ ‫عليه اليات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة إل أن لمام‬ ‫المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر‪،‬‬ ‫ولكن خارج جزيرة العرب إذ ل ينبغي أن يجتمع فيها دينان‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب توحيد ال تعالى في عبادته‪.‬‬ ‫‪ -2‬اليمان بالبعث والجزاء‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬سبيل} ‪ :‬أي‪ :‬إذنا بقتالهم بعد أن أمركم بقتال غيرهم‪ ،‬حيث وجدتموهم ممكنين منهم‪.‬‬ ‫‪{ 2‬سَ َتجِدوُن} الوجدان هنا‪ ،‬بمعنى الطلع والعثور‪ ،‬أي‪ :‬ستطلعون على قوم آخرين وصفهم كذا‬ ‫أو كذا‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬ل هم لهم إل حظوظ أنفسهم‪ ،‬ول سعي لهم إل في خويصيتهم‪ ،‬فهم يظهرون المودة‬ ‫للمسلمين ليأمنوهم ويظهروها لقومهم ليؤمنوا أيضا‪ ،‬قيل‪ :‬هم غطفان وبنو أسد‪ ،‬قبل أن يحسن‬ ‫إسلمهم‪ ،‬وبنو عبد الدار بمكة أيضا‪ .‬إذ كانوا يأتون المدينة مظهرين السلم‪ ،‬ثم إذا عادوا إلى‬ ‫مكة عبدوا الصنام‪.‬‬

‫( ‪)1/522‬‬ ‫‪ -3‬خطة حكيمة لمعاملة المنافقين بحسب الظروف والحوال‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير النسخ في القرآن‪.‬‬ ‫{ َومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَنْ َيقْتُلَ ُم ْؤمِنا إِل خَطًَأ َومَنْ قَ َتلَ ُم ْؤمِنا خَطَأً فَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُمؤْمِنَ ٍة وَدِ َيةٌ مُسَّلمَةٌ‬ ‫إِلَى أَهْلِهِ إِل أَنْ َيصّ ّدقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ َقوْمٍ عَ ُدوّ َلكُمْ وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ُم ْؤمِنَ ٍة وَإِنْ كَانَ مِنْ‬ ‫شهْرَيْنِ‬ ‫َقوْمٍ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ فَدِ َيةٌ مُسَّلمَةٌ إِلَى َأهْلِ ِه وَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ُم ْؤمِنَةٍ َفمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ َ‬ ‫جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا‬ ‫حكِيما(‪َ )92‬ومَنْ َيقْ ُتلْ ُم ْؤمِنا مُ َت َعمّدا فَجَزَا ُؤهُ َ‬ ‫مُتَتَا ِبعَيْنِ َتوْبَةً مِنَ اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬ ‫عذَابا عَظِيما(‪})93‬‬ ‫عدّ لَهُ َ‬ ‫غضِبَ اللّهُ عَلَيْ ِه وََلعَنَ ُه وَأَ َ‬ ‫وَ َ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫خطَأً} ‪ :‬أي‪ :‬إل قتلً خطأ‪ ،‬وهو أن ل يتعمد قتله؛ كأن يرمي صيدا فيصيب إنسانا‪.‬‬ ‫{إِل َ‬ ‫{ َرقَبَةٍ} ‪ :‬أي‪ :‬مملوك عبدا كان أو أمة ‪.1‬‬ ‫{مُسَّل َمةٌ} ‪ :‬مؤداة وافية ‪.2‬‬ ‫{إِل أَنْ َيصّ ّدقُوا} ‪ :‬أي‪ :‬يتصدقوا بها على القاتل فل يطالبوا بها ول يأخذوها منه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لبد أن تكون الرقبة مؤمنة‪ ،‬وهل يجب أن تكون بالغة؟ إذ اليمان يتم بالبلوغ‪ ،‬والذي عليه‬ ‫مالك‪ :‬أنها تجزئ إذا كانت سليمة العضاء ولو لم تكن بالغة‪ ،‬وهو الراجح‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقد بينت السنة أن دية الخطأ على العاقلة ول خلف فيها‪.‬‬

‫( ‪)1/523‬‬ ‫{مِيثَاقٌ} ‪ :‬عهدا مؤكد باليمان‪.‬‬ ‫{مُ َت َعمّدا} ‪ :‬مريدا قتله وهو ظالم له‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى في اليات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى ل يجوز ناسب ذكر قتل المؤمن‬ ‫الصادق في إيمانه خطأ وعمدا وبيان حكم ذلك‪ ،‬فذكر تعالى في الية الولى(‪ )92‬أنه ل ينبغي ‪1‬‬ ‫لمؤمن أن يقتل مؤمنا إل في حال الخطأ‪ ،‬أما في حال العمد فل يكون ذلك منه ول يتأتى له وهو‬ ‫مؤمن؛ لن اليمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب ال تعالى‬ ‫وعذابه فل يقدم على ذلك اللهم إل في حال الخطأ‪ ،‬فهذا وارد وواقع‪ ،‬وحكم من قتل خطأ أن يعتق‬ ‫رقبة ذكرا كانت أو أنثى مؤمنة وأن يدفع الدية لولياء القتيل إل أن يتصدقوا بها فل يطالبوا بها‬ ‫ول يقبلونها والدية مائة من ‪ 2‬البل‪ ،‬أو ألف دينار ذهب‪ ،‬أو اثنا عشر ألف درهم فضة‪ .‬هذا معنى‬ ‫خطَأً فَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُم ْؤمِنَةٍ‬ ‫خطًَأ َومَنْ قَ َتلَ ُم ْؤمِنا َ‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ ِل ُمؤْمِنٍ أَنْ َيقْ ُتلَ ُم ْؤمِنا‪ 3‬إِل َ‬ ‫سّلمَةٌ‪ِ 4‬إلَى َأهْلِهِ إِل أَنْ َيصّ ّدقُوا} فإن كان القتيل مؤمنا ولكن من قوم هم عدو للمسلمين‬ ‫وَدِيَةٌ مُ َ‬ ‫محاربين‪ ،‬فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة ل غير‪ ،‬إذ ل تعطى الدية لعدو يستعين بها‬ ‫على حرب المسلمين وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر ولكن بيننا وبين قومه‬ ‫معاهدة‪ ،‬على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله‪ ،‬فمن لم يجد الرقبة فصيام شهرين‬ ‫شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ َتوْبَةً‪ 5‬مِنَ اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ‬ ‫متتابعين‪ ،‬فذلك توبته لقوله تعالى‪َ { :‬فمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ َ‬ ‫حكِيما} عليما بما يحقق المصلحة لعباده‬ ‫عَلِيما َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فالنفي في قوله تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَنْ َيقْ ُتلَ ُم ْؤمِنا} ليس نفي الفعل حتى يقال‪ :‬ما نفاه ال‬

‫ل يجوز وجوده‪ ،‬وإنما هو نفي الحال والشأن ل الفعل‪ ،‬فليتأمل‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومن الغنم‪ :‬ألف شاة‪ ،‬وهل البل تخمس خلف‪ ،‬ومذهب الشافعي ومالك أنها تخمس؛ فعشرون‬ ‫حقه‪ ،‬وعشرون جزعه‪ ،‬وعشرون بنات مخاص‪ ،‬وعشرون بنات لبون‪ ،‬وعشرون بنو لبون ذكور‪.‬‬ ‫وتغلظ دية العمد‪ ،‬بأن يكون أربعون منها في بطونها أولده‪ ،‬وشبه العمد‪ :‬ما كان بأداة ل تقتل‬ ‫عادة؛ كالعصا ونحوها لحديث‪" :‬أل أن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من‬ ‫البل منها أربعون في بطونها أولدها" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬نزلت هذه الية في عياش ابن أبي ربيعة‪ ،‬إذ قتل الحارث بن زيد العامري‪ ،‬لحنة كانت‬ ‫بينهما‪ ،‬وكان الحارث قد أسلم‪ ،‬ولم يعلم عياش بإسلمه فكان قتله خطأ‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬فَ َتحْرِيرُ‬ ‫َرقَبَةٍ ُم ْؤمِنَةٍ} أي‪ :‬فعليه تحرير رقبة‪.‬‬ ‫‪ 4‬أكثر أهل العلم‪ :‬أن دية المرأة على نصف دية الرجل‪ ،‬وإن دية الجنين إذا سقط حيا دية كاملة‪،‬‬ ‫وإذا سقط ميتا فديته غرة عبد أو أمة‪ ،‬ومعنى‪ :‬غرة‪ :‬أن يكون أبيض ل أسود فيقوم العبد وتعطي‬ ‫قيمته دية‪.‬‬ ‫‪{ 5‬تَوبة} منصوب على المصدر‪ ،‬أي‪ :‬تاب ال عليه توبة‪ ،‬أي‪ :‬مشروعية الكفارة في قتل الخطأ‬ ‫كانت توبة من ال على العبد القاتل خطأ‪ .‬وعلة الكفارة أنه لم يتحرز ولم يتحفظ فلذا وقع منه‬ ‫القتل‪ ،‬فكان لبد من مكفر لما لحقه من الثم بالتفريط‪ ،‬أما القاتل عمدا فل كفارة تجزئه‪ .‬وهل له‬ ‫من توبة؟ عليه أن يتون‪ ،‬ومن توبته أن يعتق أو يتصدق ويصوم رجاء أن يتوب ال عليه‪.‬‬

‫( ‪)1/524‬‬ ‫حكيما في تشريعه فل يشرع إل ما كان نافعا ومحققا غير ضار‪ ،‬ومحققا للخير في الحال والمآل‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى‪ ،‬أما الية الثانية(‪ )93‬فإنها بينت حكم من قتل مؤمنا عمدا عدوانا‪،‬‬ ‫وهو أن الكفارة ل تغني عنه شيئا لما قضى ال تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال تعالى‪:‬‬ ‫عظِيما}‬ ‫ضبَ اللّهُ عَلَ ْي ِه وََلعَنَ ُه وَأَعَدّ َلهُ عَذَابا َ‬ ‫غ ِ‬ ‫جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا وَ َ‬ ‫{ َومَنْ َيقْتُلْ ُم ْؤمِنا مُ َت َعمّدا فَجَزَا ُؤهُ َ‬ ‫إل أن الدية أو القصاص لزمان ما لم يعف أولياء الدم فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية‬ ‫أعطوها وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا‪ ،‬إذ هذا حقهم وأما حق ال تعالى‪ :‬فإن القتيل عبده خلقه‬ ‫ليعبده‪ ،‬فمن قتله‪ ،‬فال تعالى رب العبد خصمه وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها‪ ،‬والعياذ بال‬ ‫غضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ‬ ‫جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا وَ َ‬ ‫تعالى وذلك حقه قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيقْ ُتلْ ُم ْؤمِنا مُ َت َعمّدا َفجَزَا ُؤهُ َ‬ ‫عظِيما} ‪.‬‬ ‫وََلعَنَ ُه وَأَعَدّ َلهُ عَذَابا َ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أن المؤمن الحق ل يقع منه القتل العمد للمؤمن‪.‬‬

‫‪ -2‬بيان جزاء القتل الخطأ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا كان القتيل مؤمنا وكان من قوم كافرين محاربين‪ ،‬فالجزاء تحرير رقبة ول دية‪.‬‬ ‫‪ -4‬إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين مثياق‪ ،‬فالواجب الدية وتحرير رقبة‪.‬‬ ‫‪ -5‬من لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين ‪.1‬‬ ‫‪ -6‬القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين‪ :‬القصاص‪ .‬أو الدية حسب رغبة أولياء الدم وإن عفوا‬ ‫فلهم ذلك وأجرهم على ال تعالى‪ ،‬وعذاب الخرة وعيد إن شاء ال أنجزه وإن شاء عفا عنه‪.‬‬ ‫ستَ ُم ْؤمِنا‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَل َتقُولُوا ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلمَ لَ ْ‬ ‫تَبْ َتغُونَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يسقط التتابع بالمرض والحيض‪ ،‬ل بالسفر‪ .‬ومعنى التتابع‪ :‬أل يستأنف من أفطر لمرض‪ ،‬وإنما‬ ‫يبني على ما صامه ويواصل حتى يكمل الشهرين‪.‬‬

‫( ‪)1/525‬‬ ‫عَ َرضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َفعِنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ َكذَِلكَ كُنْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا‬ ‫َت ْعمَلُونَ خَبِيرا(‪})94‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ِإذَا ضَرَبْتُمْ} ‪ :‬خرجتم تضربون الرض بأرجلكم غزاة ومسافرين‪.‬‬ ‫{فَتَبَيّنُوا} ‪ :‬فتثبتوا حتى ل تقتلوا مسلما تحسبونه كافرا‪.‬‬ ‫{السّلمَ‪ : }1‬الستسلم والنقياد‪.‬‬ ‫{تَبْ َتغُونَ} ‪ :‬تطلبون‪.‬‬ ‫{ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ} ‪ :‬بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫روي أن نفرا من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم خرجوا فلقوا رجلً يسوق غنما من‬ ‫بني سليم‪ ،‬فلما رآهم سلم عليهم قائلً‪ :‬السلم عليكم‪ .‬فقالوا له‪ :‬ما قلتها إل تقية لتحفظ نفسك‬ ‫ومالك وقتلوه ‪ .2‬فنزلت هذه الية‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} يريد خرجتم‬ ‫مسافرين للغزو والجهاد {فَتَبَيّنُوا} ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم‪ ،‬أو‬ ‫ستَ‬ ‫كافرين فتقاتلوهم {وَل َتقُولُوا ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْي ُكمُ السّلمَ} أعلن إسلمه لكم بالشهادة أو بالسلم {لَ ْ‬ ‫ُم ْؤمِنا} فتكذبونه في دعواه السلم لتنالوا منه‪ { :‬تَبْ َتغُونَ} بذلك {عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ‪ }3‬أي‪:‬‬ ‫متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند ال مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل‬ ‫يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله‪َ { :‬كذَِلكَ كُنْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ} أي‪ :‬مثل هذا الرجل الذي‬

‫قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفا من قومكم { َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ} بأن أظهر دينه‬ ‫ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم‪ .‬وعليه فتبينوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السلم‪ :‬بكسر السين‪ ،‬والسلم‪ :‬بفتح السين واللم‪ ،‬والسلم واحد‪ .‬والسلم بالكسر هنا أولى؛ لنه‬ ‫بمعنى‪ :‬النقياد والطاعة‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى أن النبي صلى ال عليه وسلم حمل ديته إلى أهله ورد غنمه وهو كذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬مي متاع الدنيا‪ :‬عرضا؛ لنه عارض زائل‪ ،‬ويطلق العرض بفتح الراء على الدراهم والدنانير‪،‬‬ ‫وبإسكان الراء على المتاع من أثاث وغيره‪ ،‬فلذا كل عرض بإسكان الراء‪ ،‬عرض بفتحها ول‬ ‫ينعكس‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬ليس الغني عن كثرة العرض‪ ،‬إنما الغني غني النفس" ‪ .‬رواه‬ ‫مسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/526‬‬ ‫مستقبلً‪ ،‬ول تقتلوا أحدا حتى تتأكدوا من كفره ‪ 1‬وقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا} تذييل‬ ‫يحمل الوعد والوعيد‪ ،‬الوعد لمن أطاع‪ ،‬والوعيد لمن عصى‪ ،‬إذ لزم كونه تعالى خبيرا بالعمال‬ ‫أنه يحاسب عليه ويجزي بها‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية السير في سبيل ال غزوا وجهادا‪.2‬‬ ‫‪ -2‬وجوب التثبت والتبين في المور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ‪.‬‬ ‫‪ -3‬ذم الرغبة في الدنيا ل سيما إذا كانت تتعارض مع التقوى‪.‬‬ ‫‪ -4‬التعاظ بحال الغير والعتبار بالحداث المماثلة‪.‬‬ ‫سهِمْ‬ ‫{ل يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَ ِر وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ وَأَنْفُ ِ‬ ‫ضلَ اللّهُ‬ ‫عدَ اللّهُ الْحُسْنَى َو َف ّ‬ ‫ج ًة َوكُلً وَ َ‬ ‫سهِمْ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ دَرَ َ‬ ‫ضلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬ ‫َف ّ‬ ‫غفُورا رَحِيما(‬ ‫ح َم ًة َوكَانَ اللّهُ َ‬ ‫ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ َأجْرا عَظِيما(‪ )95‬دَرَجَاتٍ مِنْ ُه َو َم ْغفِ َرةً وَرَ ْ‬ ‫‪})96‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أُولِي الضّرَرِ} ‪ :‬هم العميان والعرج والمرضى‪.‬‬ ‫{دَرَجَةً} ‪ :‬منزلة عالية في الجنة‪.‬‬ ‫{ا ْلحُسْنَى} ‪ :‬الجنة‪.‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬لن قتل النفس عظيم‪ ،‬ولذا لما أخبر الرسول صلى ال عليه وسلم بمن قتل‪ :‬من قال ل إله إل‬ ‫ال ظانا أنه قالها تقيه‪ ،‬قال‪" :‬هل شققت عن قلبه" ‪ ،‬قاله ثلثا‪ .‬ولذا لو أن كافرا صلى معنا ولم‬ ‫يقل‪ :‬ل إله إل ال لم نقتله حتى نطلب إليه قولها‪ ،‬فإن قالها وإل قتل حينئذ‪ ،‬هذا الكافر المحارب ل‬ ‫المعاهد والمستئمن‪.‬‬ ‫‪ 2‬بل فضيلة السير في سبيل ال سواء للجهاد أو لطلب علم أو صلة رحم أو حج أو عمرة أو‬ ‫إبلغ دعوة وتعليم علم‪ ،‬أو زيارة مؤمن لما ورد في ذلك من الجر العظيم‪.‬‬

‫( ‪)1/527‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫روى أن ابن أم مكتوم رضي ال تعالى عنه لما نزلت هذه الية بهذه الصيغة‪{ :‬ل يَسْ َتوِي‬ ‫سهِمْ‪ }...‬الية‪.‬‬ ‫ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَ ِر وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬ ‫أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬كيف وأنا أعمى يا رسول ال فما برح حتى نزلت {غَيْرُ‬ ‫أُولِي ‪ 1‬الضّرَرِ} فأدخلت بين جملتي {ل يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ‬ ‫سهِمْ‪ ، }...‬ومعنى الية‪ :‬إن ال تعالى ينفي أن يستوي في‬ ‫وَا ْلمُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬ ‫الجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن ل يجاهد بخلً بماله‪ .‬وضنا بنفسه‪،‬‬ ‫واستثنى تعالى أولي العذار من مرض ونحوه فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا لحسن‬ ‫ضلَ اللّهُ‬ ‫ل وَعَدَ اللّهُ ا ْلحُسْنَى} التي هي‪ :‬الجنة‪ ،‬وقوله‪َ { :‬ف ّ‬ ‫نياتهم‪ ،‬وعدم استطاعتهم‪ ،‬فلذا قال‪َ { :‬وكُ ً‬ ‫سهِمْ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي‪ :‬فضل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على‬ ‫ا ْلمُجَا ِهدِينَ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬ ‫ضلَ اللّهُ‬ ‫القاعدين لعذر درجة‪ ،‬وإن كان الجميع لهم الجنة‪ ،‬وهي الحسنى‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬و َف ّ‬ ‫عظِيما} وهو الدرجات ‪ 2‬العالية مع المغفرة والرحمة‪،‬‬ ‫ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ} لغير عذر {أَجْرا َ‬ ‫وذلك لن ال تعالى كان أزلً وأبدا غفورا رحيما‪ ،‬ولذا غفر لهم ورحمهم‪ ،‬اللهم اغفر لنا وارحمنا‬ ‫معهم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين ل يجاهدون‪.‬‬ ‫‪ -2‬أصحاب العذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا‬ ‫عليه لما قام بهم من ‪ 3‬أعذار وللمجاهدين فعلً درجة تخصهم دون ذوي العذار‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ‪{ :‬غير} بالرفع على أنه نعت للـ {قاعدون} ‪ ،‬وقرئ‪ :‬بالنصب على الستثناء‪ ،‬ويصح‬ ‫أيضا على الحال‪.‬‬

‫‪ 2‬روي في الصحاح أن في الجنة مائة درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين‬ ‫كما بين السماء والرض‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من رمى بسهم فله أجره درجة"‪ .‬فقال‬ ‫رجل يا رسول ال‪ :‬وما الدرجة‪ .‬قال‪" :‬إما إنها ليست بعتبة بابك ما بين الدرجتين مائة عام" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى البخاري تعليقا‪ ،‬وغير و احد أن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد قفل عائداَ من إحدى‬ ‫غزواته‪ ،‬قال‪" :‬إن بالمدينة رجالً ما قطعتم واديا ول سرتم مسيرا إل كانوا معكم‪ ،‬أولئك قوم‬ ‫حبسهم العذر" ‪.‬‬

‫( ‪)1/528‬‬ ‫ض َعفِينَ فِي الَ ْرضِ قَالُوا أَلَمْ‬ ‫سهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنّا مُسْ َت ْ‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫ض َعفِينَ‬ ‫جهَنّ ُم وَسَا َءتْ َمصِيرا(‪ )97‬إِل ا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫سعَةً فَ ُتهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمْ َ‬ ‫َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬ ‫ل وَالنّسَا ِء وَا ْلوِلْدَانِ ل يَسْ َتطِيعُونَ حِيلَ ًة وَل َيهْتَدُونَ سَبِيلً(‪ )98‬فَأُولَ ِئكَ عَسَى اللّهُ أَنْ َي ْع ُفوَ‬ ‫مِنَ الرّجَا ِ‬ ‫س َعةً‬ ‫غفُورا(‪َ )99‬ومَنْ ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَ َ‬ ‫عفُوّا َ‬ ‫عَ ْنهُ ْم َوكَانَ اللّهُ َ‬ ‫َومَنْ َيخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلَى اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ‬ ‫غفُورا َرحِيما(‪})100‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َت َوفّاهُمُ} ‪ :‬تفيض أرواحهم عند نهاية آجالهم‪.‬‬ ‫سهِمْ‪ : }1‬بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم‪.‬‬ ‫{ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫{فِيمَ كُنْتُمْ} ‪ :‬في أي شيء كنتم من دينكم؟‬ ‫{ َمصِيرا} ‪ :‬مأوى ومسكنا‪.‬‬ ‫{حِيلَةً} ‪ :‬قدرة على التحول‪.‬‬ ‫{مُرَاغَما} ‪ :‬مكانا ودارا لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره‪.‬‬ ‫سعَةً} ‪ :‬في رزقه‪.‬‬ ‫{وَ َ‬ ‫{ َوقَعَ َأجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ} ‪ :‬وجب أجره في هجرته على ال تعالى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما كانت الهجرة من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر‬ ‫__________‬ ‫ل يؤول إلى مضرته‪ ،‬فهو بذلك ظالم لنفسه‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬ترك‬ ‫‪ 1‬ظلم النفس‪ :‬أن يفعل العبد فع ً‬ ‫الهجرة إذ يترتب عليها ترك العبادة فتخبث النفس‪ ،‬وذلك ظلم لها‪.‬‬

‫( ‪)1/529‬‬

‫سهِمْ}‬ ‫تعالى في هذه اليات الهجرة وأحكامها‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َت َوفّاهُمُ‪ 1‬ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهون يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين‬ ‫عبادة ربهم‪ .‬هؤلء الظالمون لنفسهم تقول لهم الملئكة عند قبض أرواحهم {فِيمَ كُنْتُمْ‪ }2‬؟ تسألهم‬ ‫هذا السؤال؛ لن أرواحهم مدساة مظلمة لنها لم تزك على الصالحات‪ ،‬فيقولون متعذرين‪{ :‬كُنّا‬ ‫ضعَفِينَ فِي الَ ْرضِ} فلم نتمكن من تطهير أرواحنا باليمان وصالح العمال‪ ،‬فترد عليهم‬ ‫مُسْ َت ْ‬ ‫سعَةً فَ ُتهَاجِرُوا فِيهَا} وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن ال عن الحكم‬ ‫الملئكة قولهم‪َ{ :‬ألَمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬ ‫جهَنّمُ} وساءت جهنم مصيرا يصيرون إليه ومأوى ينزلون‬ ‫فيهم بقوله‪{ :‬فَأُولَ ِئكَ} البعداء {مَ ْأوَا ُهمْ َ‬ ‫فيه‪ .‬ثم استثنى تعالى أصحاب العذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في اليات قبل هذه فقال‬ ‫ض َعفِينَ‪ 3‬مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ} ‪ ،‬واستضعاف الرجال يكون بالعلل ‪،4‬‬ ‫عز من قائل‪{ :‬إِل ا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫والنساء والولدان بالضعف الملزم لهم‪ ،‬هؤلء الذين ل يستطيعون حيلة‪ ،‬أي‪ :‬ل قدرة لهم على‬ ‫التحول والنتقال لضعفهم‪{ ،‬وَل َيهْتَدُونَ سَبِيلً} إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك‬ ‫عسَى اللّهُ أَنْ َي ْع ُفوَ عَ ْن ُهمْ} فل يؤاخذهم ويغفر‬ ‫فطمعهم تعالى ورجاهم بقوله‪{ :‬فَأُولَ ِئكَ} المذكورون { َ‬ ‫لهم بعض ما قصروا فيه ويرجمهم لضعفهم وكان ال غفورا رحيما‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليات الثلث‪.‬‬ ‫أما الية الرابعة(‪ )100‬فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى ل في سبيل دنيا‬ ‫يصيبها أو امرأة يتزوجها يجد بإذن ال تعالى في الرض مذهبا يذهب إليه ودارا ينزل بها ورزقا‬ ‫واسعا يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلده‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ‬ ‫سعَةً} ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجرا‬ ‫اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري عن ابن عباس رضي ال عنهما أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين‬ ‫يكثرون سواد المشركين على محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم‬ ‫فيقتله أو يضرب فيقتل‪ ،‬فأنزل ال تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ‪ }..‬الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام للتوبيخ والتقريع‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس‪" :‬كنت أنا وأمي من عنى ال بهذه الية"‪ .‬وأم ابن عباس هي‪ :‬لبابة‪ ،‬وتكنى أم‬ ‫الفضل‪ ،‬وهي أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي ال عنهما‪.‬‬ ‫‪ 4‬وهي الزمانة‪ ،‬وتكون بالعرج والعمي والشلل ونحوها‪.‬‬

‫( ‪)1/530‬‬

‫في سبيل ال‪ ،‬أي‪ :‬لجل عبادته ونصرة دينه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار‬ ‫الهجرة فقد وجب أجره على ال تعالى‪ ،‬وسيوفاه كاملً غير منقوص‪ ،‬ويغفر ال تعالى له ما كان‬ ‫من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته‪ .‬إذ قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيخْرُجْ مِنْ‪ 1‬بَيْ ِتهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّهِ‬ ‫غفُورا رَحِيما} ‪.‬‬ ‫علَى اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ َ‬ ‫وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الهجرة ‪ 2‬عندما يحال بين المؤمن وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إل لها‪.‬‬ ‫‪ -2‬ترك الهجرة كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار‪.‬‬ ‫‪ -3‬أصحاب العذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل الهجرة في سبيل ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬من مات في طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملً غير منقوص وهو الجنة‪.‬‬ ‫خفْتُمْ أَنْ َيفْتِ َنكُمُ الّذِينَ‬ ‫علَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ َت ْقصُرُوا مِنَ الصّلةِ إِنْ ِ‬ ‫{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الَرْضِ فَلَيْسَ َ‬ ‫َكفَرُوا إِنّ ا ْلكَافِرِينَ كَانُوا َلكُمْ عَ ُدوّا مُبِينا(‪ )01‬وَإِذَا كُ ْنتَ فِيهِمْ فََأ َق ْمتَ َلهُمُ الصّلةَ فَلْ َتقُمْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ‬ ‫سجَدُوا فَلْ َيكُونُوا مِنْ وَرَا ِئكُ ْم وَلْتَ ْأتِ طَا ِئفَةٌ أُخْرَى َلمْ ُيصَلّوا فَلْ ُيصَلّوا‬ ‫َم َعكَ وَلْيَ ْأخُذُوا أَسِْلحَ َتهُمْ فَِإذَا َ‬ ‫حذْرَ ُه ْم وَأَسْلِحَ َت ُه ْم وَدّ الّذِينَ‬ ‫َم َعكَ وَلْيَ ْأخُذُوا ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي تعالى عنهما‪" :‬أن ضمرة بن جندب خرج إلى رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫فنزلت هذه الية‪َ { :‬ومَنْ َيخْرُجْ مِنْ بَيته} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬الهجرة‪ :‬هي النتقال من بلد الكفر إلى بلد السلم‪ ،‬وهي فريضة من فرائض السلم‪ ،‬وهي‬ ‫هجر متعددة‪ ،‬منها‪ :‬الهجرة من بلد البدعة‪ ،‬قال مالك‪" :‬ل يحل لمؤمن أن يقيم بأرض يسب فيها‬ ‫السلف الصالح"‪ ،‬ومنها‪ :‬الخروج من أرض غلب عليها الحرام‪ ،‬إذ طلب الحلل فريضة‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫أن يؤذى المسلم في دينه أو عرضه أو ماله‪ ،‬ومنها‪ :‬الخوف من المرض ما لم يكن طاعونا فإنه‬ ‫يحرم الفرار منه‪ ،‬ومنها‪ :‬أل يكون في بلده من يعرف أحكام الشريعة فيها جر لطلب ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/531‬‬ ‫ح َد ًة وَل جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ كَانَ ِبكُمْ‬ ‫َكفَرُوا َلوْ َت ْغفُلُونَ عَنْ َأسْلِحَ ِت ُك ْم وََأمْ ِتعَتِكُمْ فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْي ُكمْ مَيْلَ ًة وَا ِ‬ ‫عذَابا‬ ‫عدّ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫ضعُوا َأسْلِحَ َتكُمْ وَخُذُوا حِذْ َركُمْ إِنّ اللّهَ أَ َ‬ ‫أَذىً مِنْ َمطَرٍ َأوْ كُنْتُمْ مَ ْرضَى أَنْ َت َ‬ ‫طمَأْنَنْ ُتمْ فََأقِيمُوا‬ ‫ُمهِينا(‪ )102‬فَإِذَا َقضَيْتُمُ الصّلةَ فَا ْذكُرُوا اللّهَ قِيَاما َو ُقعُودا وَعَلَى جُنُو ِبكُمْ فَإِذَا ا ْ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا َم ْوقُوتا(‪ )103‬وَل َتهِنُوا فِي ابْ ِتغَاءِ ا ْلقَوْمِ إِنْ َتكُونُوا‬ ‫الصّلةَ إِنّ الصّلةَ كَا َنتْ َ‬

‫حكِيما(‪})104‬‬ ‫ن َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬ ‫ن وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا ل يَرْجُو َ‬ ‫تَأَْلمُونَ فَإِ ّن ُهمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُو َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ضَرَبْتُمْ فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬أي‪ :‬مسافرين مسافة قصر‪ ،‬وهي‪ :‬أربعة برد‪ ،‬أي‪ :‬ثمانية وأربعون ميلً‪.‬‬ ‫{أَنْ َت ْقصُرُوا مِنَ الصّلةِ} ‪ :‬بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين‪ ،‬والعشاء ركعتين لطولها‪.‬‬ ‫خفْتُمْ أَنْ َيفْتِ َنكُمُ} ‪ :‬هذا خرج مخرج الغالب‪ ،‬فليس الخوف بشرط في القصر وإنما الشرط‬ ‫{إِنْ ِ‬ ‫السفر ‪.1‬‬ ‫{حِذْرَ ُهمْ} ‪ :‬الحيطة والهبة لما عسى أن يحدث من العدو‪.‬‬ ‫{َأسْلِحَ ِتكُمْ} ‪ :‬جمع سلح ما يقاتل به من أنواع السلحة‪.‬‬ ‫{وَل جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تضييق عليكم ول حرج في وضع السلحة للضرورة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أحكام صلة السفر‪ :‬أن المسافر ل يشرع في التقصير حتى يتجاوز مباني المدينة التي‬ ‫يسكنها‪ ،‬وأن المسافر إذا صلى وراء مقيم يتم معه‪ ،‬وأن المسافر إذا أم غيره قصر والمقيم يتم‪،‬‬ ‫وأنه يشرع له الجمع بين الظهرين‪ ،‬والعشاءين تقديما أو تأخيرا‪.‬‬

‫( ‪)1/532‬‬ ‫{ َقضَيْتُمُ الصّلةَ} ‪ :‬أديتموها وفرغتم منها‪.‬‬ ‫طمَأْنَنْ ُتمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالمن‪.‬‬ ‫{فَإِذَا ا ْ‬ ‫{كِتَابا َم ْوقُوتا} ‪ :‬فرضا ذات وقت معين تؤدى فيه ل تتقدمه ول تتأخر عنه‪.‬‬ ‫{وَل َتهِنُوا} ‪ :‬أي‪ :‬ل تضعفوا‪.‬‬ ‫{تَأَْلمُونَ} ‪ :‬تتألمون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بمناسبة الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلة في السفر وذلك بتقصير‬ ‫الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى‪{ :‬وَِإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الَ ْرضِ} أي‪ :‬سرتم فيها ‪ 1‬مسافرين { َفلَيْسَ‬ ‫خفْتُمْ أَنْ َيفْتِ َنكُمُ الّذِينَ َكفَرُوا} وبينت‬ ‫عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ} أي‪ :‬حرج وإثم في {أَنْ َتقْصُرُوا مِنَ الصّلةِ إِنْ ِ‬ ‫السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالي فقط‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ ا ْلكَافِرِينَ كَانُوا َلكُمْ عَ ُدوّا‬ ‫مُبِينا} تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين‪ ،‬فلذا شرع لهم هذه الرخصة‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى(‪ ،)101‬أما اليتان بعدها فقد بينت صلة الخوف وصورتها‪ :‬أن‬ ‫ينقسم الجيش قسمين قسم يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة‪ ،‬ويقف المام مكانه فيتمون‬ ‫لنفسهم ركعة‪ ،‬ويسلمون ويقفون تجاه العدو‪ ،‬ويأتي القسم الذي كان واقفا تجاه العدو فيصلي بهم‬ ‫المام القائد ركعة ويسلم ويتمون لنفسهم ركعة ويسلمون‪ ،‬وفي كل الحالين هم آخذون أسلحتهم ل‬

‫يضعونها على الرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة‪ ،‬هذا معنى‬ ‫خذُوا أَسِْلحَ َتهُمْ فَإِذَا‬ ‫ك وَلْيَأْ ُ‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬وَإِذَا كُ ْنتَ‪ 2‬فِي ِهمْ فََأ َق ْمتَ َل ُهمُ الصّلةَ فَلْ َتقُمْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ َم َع َ‬ ‫سجَدُوا فَلْ َيكُونُوا مِنْ‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في المسافة التي تقصر فيها الصلة والجمهور على أنها أربعة برد‪ ،‬واختلفوا في مسافة‬ ‫الميل الذي هو جزء البريد‪ ،‬فالذي رجحه علماء المالكية‪ ،‬هو أن الميل ألفا ذراعا‪ ،‬وعليه فمسافة‬ ‫القصر ثمانية وأربعون ميلً‪ ،‬أي‪ :‬كيلو متر‪ ،‬وهذا قول وسط بين قول من قال ل يقصر في أقل‬ ‫من سبعين ميلً‪ ،‬وبين من قال كل سفر تقصر فيه الصلة طال أو قصر ولو كان ثلثة أميال‪.‬‬ ‫‪ 2‬شذ أبو يوسف الحنفي فقال‪" :‬صلة الخوف ل تصلى إل مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫ناظرا إلى قوله تعالى‪{ :‬وإذا كُنتَ فيهم} ‪ ،‬وعليه ما لم يكن فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫فل تصلى صلة الخوف‪ .‬ورد هذا علماء السلف والخلف وقالوا‪ :‬بمشروعية صلة الخوف ما‬ ‫وجد خوف‪.‬‬

‫( ‪)1/533‬‬ ‫وَرَا ِئكُمْ} يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه {وَلْتَ ْأتِ طَا ِئفَةٌ‪ 1‬أُخْرَى لَمْ ُيصَلّوا فَلْ ُيصَلّوا‬ ‫حذْرَ ُه ْم وَأَسْلِحَ َت ُهمْ} ‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَدّ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْ َت ْغفُلُونَ عَنْ أَسِْلحَ ِتكُمْ‬ ‫َم َعكَ وَلْيَ ْأخُذُوا ِ‬ ‫وََأمْ ِتعَتِكُمْ‪ 2‬فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْيكُمْ مَيْلَ ًة وَاحِ َدةً} سبق هذا الكلم لبيان علة الصلة طائفة بعد أخرى والمر‬ ‫بالخذ بالحذر وحمل السلحة في الصلة‪ ،‬ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم‬ ‫جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلح أن يضعوا أسلحتهم فقال عز وجل‪{ :‬وَل‬ ‫حذْ َركُمْ‪، }3‬‬ ‫ضعُوا أَسِْلحَ َتكُ ْم َوخُذُوا ِ‬ ‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِنْ كَانَ ِبكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ َأوْ كُنْ ُتمْ مَ ْرضَى أَنْ َت َ‬ ‫عذَابا ُمهِينا} تذييل لكلم محذوف ودل عليه السياق قد يكون‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫تقديره فإن الكفار فجرة ل يؤمن جانبهم‪ ،‬ولذا أعد ال لهم عذابا مهينا‪ ،‬وإنما وضع الظاهر مكان‬ ‫المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في آية(‪{ )103‬فَإِذَا َقضَيْتُمُ الصّلةَ فَا ْذكُرُوا ‪ 4‬اللّهَ قِيَاما َوقُعُودا وَعَلَى جُنُو ِبكُمْ} فإنه‬ ‫تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الحيان ل سيما في وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة‬ ‫الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها‪ ،‬فل يكتفي المجاهدون بذكر ال في الصلة فقط بل إذا‬ ‫طمَأْنَنْتُمْ فََأقِيمُوا الصّلةَ} يريد‬ ‫قضوا الصلة ل يتركون ذكر ال في كل حال وقوله تعالى‪{ :‬فَإِذَا ا ْ‬ ‫إذا ذهب الخوف وحل المن واطمأنت النفوس أقيموا الصلة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة‬ ‫كاملة‪ ،‬ل تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف إذ قد تصلي ركعة واحد‪ ،‬وقد تصلي إيماء‬ ‫وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم‪ .‬وقوله‪{ :‬إِنّ الصّلةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا‬

‫َم ْوقُوتا} تعليل للمر بإقام الصلة فأخبر أن الصلة مفروضة على المؤمنين وأنها موقوتة بأوقات‬ ‫ل تؤدى إل فيها‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في آية(‪{ )104‬وَل َتهِنُوا فِي ابْ ِتغَاءِ ا ْل َقوْمِ} أي‪ :‬ل تضعفوا في طلب العدو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قد اختلفت الروايات في صلة الخوف‪ ،‬واختلف لذلك العلماء‪ ،‬إذ صلى النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم صلة الخوف أربعا وعشرين مرة‪ .‬قال المام أحمد وهو إمام أهل الحديث‪ :‬ل أعلم أنه‬ ‫روي في صلة الخوف إل حديث صحيح ثابت‪ ،‬وهو صحاح ثابتة‪ ،‬فعلى أي حديث صلى منها‬ ‫المصلي صلة الخوف أجزأه إن شاء ال‪ .‬وذهب مالك إلى حديث سهل بن أبي حثمة‪ ،‬وهو الذي‬ ‫ذكرته في التفسير فهو واضح سهل‪.‬‬ ‫‪ 2‬المتعة‪ :‬جمع متاع؛ كالثاث والعروض وماله علقة بالسلح في حالة الحرب‪.‬‬ ‫‪ 3‬في طلب الحذر التشريع للمة بأن تأخذ بأسباب النصر ول تهملها بحال‪ ،‬فإن ال تعالى ربط‬ ‫المسببات بأسبابها‪ ،‬فمن طلب النصر عليه بإعداد ما يمكنه من العدد والعتاد‪.‬‬ ‫‪ 4‬يرى جمهور المفسرين أن هذا الذكر المطلوب يكون بعد صلة الخوف‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬إِذَا‬ ‫َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرا} تقوية للقلوب وتوسلً لحصول النصر على العدو المرهوب‪.‬‬

‫( ‪)1/534‬‬ ‫لنزال الهزيمة به‪ .‬ول تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحتكم {إِنْ َتكُونُوا تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ‬ ‫ن وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ} من النصر والمثوبة العظيمة {مَا ل يَ ْرجُونَ} فأنتم أحق‬ ‫يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُو َ‬ ‫حكِيما} فيه‬ ‫علِيما َ‬ ‫بالصبر والجلد والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم‪ ،‬وقوله تعالى‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ َ‬ ‫تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد‪ ،‬لن علمهم بأن ال تعالى عليم بأحوالهم والظروف‬ ‫الملبسة لهم وحكيم في شرعه بالمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على‬ ‫أعدائهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية صلة القصر‪ ،‬وهي رخصة ‪ 1‬أكدها رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله وعمله‬ ‫فأصبحت سنة مؤكدة ل ينبغي تركها‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية صلة الخوف وبيان كيفيتها‪.‬‬ ‫‪ -3‬تأكد صلة الجماعة بحيث ل تترك حتى في ساعة الخوف والقتال‪.‬‬ ‫‪ -4‬استحباب ذكر ال تعالى بعد الصلة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع‪.‬‬ ‫‪ -5‬ةتقرير فريضة الصلة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها‪.‬‬

‫‪ -6‬حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو والستعانة على قتاله بذكر ال ورجائه‪.‬‬ ‫خصِيما(‪)105‬‬ ‫حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَا أَرَاكَ اللّهُ وَل َتكُنْ لِ ْلخَائِنِينَ َ‬ ‫حقّ لِ َت ْ‬ ‫{إِنّا أَنْ َزلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬ ‫سهُمْ إِنّ اللّ َه ل‬ ‫غفُورا َرحِيما(‪ )106‬وَل تُجَا ِدلْ عَنِ الّذِينَ َيخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫وَاسْ َت ْغفِرِ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫خفُونَ‬ ‫س وَل يَسْ َت ْ‬ ‫خفُونَ مِنَ النّا ِ‬ ‫خوّانا أَثِيما(‪ )107‬يَسْ َت ْ‬ ‫حبّ مَنْ كَانَ َ‬ ‫يُ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كونها رخصه دل عليه قوله تعالى‪{ :‬فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ َت ْقصُرُوا مِنَ الصّلةِ} كما دل عليه‬ ‫قوله صلى ال عليه وسلم لعمر رضي ال عنه‪" :‬تلك صدقة تصدق ال بها عليكم فاقبلوا صدقته" ‪،‬‬ ‫هذا وقد اختلف العلماء اختلفا كبيرا هل القصر واجب أم سنة؟ فمن قال بالوجوب‪ :‬استدل بحديث‬ ‫عائشة‪" :‬فرضت الصلة ركعتين ركعتين"‪ ،‬ومن قال بالسنية وهم الجمهور ووهنوا حديثها‬ ‫لمخالفتها له‪ .‬حيث كانت تتم في السفر وذهب بعضهم إلى أن المسافر مخير بين القصر والتمام‪.‬‬ ‫والراجح أنها سنة مؤكدة وذلك لكون النبي صلى ال عليه وسلم ما ترك القصر في أسفاره أبدا‪.‬‬

‫( ‪)1/535‬‬ ‫مِنَ اللّ ِه وَ ُهوَ َم َعهُمْ ِإذْ يُبَيّتُونَ مَا ل يَ ْرضَى مِنَ ا ْل َق ْولِ َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطا(‪ )108‬هَا أَنْتُمْ‬ ‫َهؤُلءِ جَادَلْتُمْ عَ ْن ُهمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َفمَنْ يُجَا ِدلُ اللّهَ عَ ْن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَمْ مَنْ َيكُونُ عَلَ ْي ِه ْم َوكِيلً(‬ ‫‪})109‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ِبمَا أَرَاكَ اللّهُ} ‪ :‬أي‪ :‬بما علمكه بواسطة الوحي‪.‬‬ ‫خصِيما} ‪ :‬أي‪ :‬مخاصما بالغا في الخصومة مبلغا عظيما‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{ ُتجَا ِدلْ} ‪ :‬تخاصم‪.‬‬ ‫سهُمْ} ‪ :‬يحاولون خيانة أنفسهم‪.‬‬ ‫{ َيخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫خفُونَ} ‪ :‬يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس‪.‬‬ ‫{يَسْ َت ْ‬ ‫{وَ ُهوَ َم َعهُمْ} ‪ :‬بعلمه تعالى وقدرته‪.‬‬ ‫{يُبَيّتُونَ} ‪ :‬يدبرون المر في خفاء ومكر وخديعة‪.‬‬ ‫{ َوكِيلً} ‪ :‬الوكيل‪ :‬من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الغراض‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روي أن هذه اليات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته ‪ ،1‬وكان قد سرق درعا من دار جارٍ له‬ ‫يقال له قتادة وودعها عند يهودي‪ ،‬يقال له‪ :‬يزيد بن السمين‪ ،‬ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته‬ ‫المعرة رموا بها اليهودي‪ ،‬وقالوا هو السارق‪ ،‬وأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم وحلفوا على‬ ‫براءة أخيهم فصدقهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق‬

‫عليه وإذا باليات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة‪ ،‬ولما افتضح طعمة وكان منافقا أعلن عن‬ ‫ردته وهرب إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار فمات تحته كافرا‪..‬‬ ‫حكُمَ بَيْنَ‪2‬‬ ‫وهذا تفسير ليات قوله تعالى‪{ :‬إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ} أي‪ :‬القرآن‪ ،‬أيها الرسول {لِتَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هم ثلثة أنفار‪ :‬بشر‪ ،‬وبشير‪ ،‬ومبشر‪ .‬يقال لهم‪ :‬بنو أبيرق‪.‬‬ ‫‪ 2‬يشهد لهذا قوله صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل‬ ‫بعضكم أن يكون ألحن حجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه‬ ‫فل يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار" ‪.‬‬

‫( ‪)1/536‬‬ ‫النّاسِ ِبمَا أَرَاكَ‪ 1‬اللّهُ} أي‪ :‬بما أعلمك وعرفك به ل بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه‬ ‫خصِيما} أي‪ :‬مجادلً عنهم‪ ،‬فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة‪،‬‬ ‫ربه تعالى بقوله‪{ :‬وَل َتكُنْ ِللْخَائِنِينَ َ‬ ‫لنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة‪{ .‬وَاسْ َت ْغفِرِ‪ 2‬اللّهَ} من أجل ما هممت به‬ ‫غفُورا َرحِيما} فيغفر لك ما هممت به ويرحمك {وَل تُجَا ِدلْ عَنِ‬ ‫من عقوبة اليهودي‪{ ،‬إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫خوّانا أَثِيما}‬ ‫حبّ مَنْ كَانَ َ‬ ‫سهُمْ} حيث اتهموا اليهودي كذبا وزورا‪{ ،‬إِنّ اللّهَ ل يُ ِ‬ ‫الّذِينَ َيخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ‬ ‫خفُونَ مِنَ اللّهِ} ول يستحيون منه‪،‬‬ ‫خفُونَ‪ 3‬مِنَ النّاسِ} حياء منهم‪{ ،‬وَل َيسْتَ ْ‬ ‫كطعمة بن أبيرق { يَسْ َت ْ‬ ‫وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي‬ ‫البريء‪ ،‬وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي هذا القول مما ل يرضاه ال تعالى‪..‬‬ ‫وقوله عز وجل‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطا} فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى‬ ‫اليهودي ثم اتهامهم اليهودي‪ ،‬وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم ال تعالى‪ ،‬وال‬ ‫به محيط‪ ،‬فسبحانه من إله عظيم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬هَا أَنْ ُتمْ َهؤُلءِ} أي‪ :‬يا هؤلء {جَادَلْتُمْ عَ ْنهُمْ فِي‬ ‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا َفمَنْ ُيجَا ِدلُ اللّهَ عَ ْنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َأمْ مَنْ َيكُونُ عَلَ ْيهِ ْم َوكِيلً} هذا الخطاب موجه إلى‬ ‫الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم ال تعالى بقوله‪{ :‬هَا أَنْ ُتمْ َهؤُلءِ‬ ‫جَادَلْتُمْ عَ ْن ُهمْ} ‪ ،‬اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة { َفمَنْ‪ 4‬يُجَا ِدلُ اللّهَ عَ ْن ُهمْ َيوْمَ‬ ‫ا ْلقِيَامَةِ أَمْ مَنْ َيكُونُ عَلَ ْيهِمْ َوكِيلً} يتولى الدفاع عنهم في يوم ل تملك فيه نفس لنفس شيئا والمر‬ ‫كله ل فتضمنت الية تقريعا شديدا ل يقف أحد بعد موقفا مخزيا كهذا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يجوز الحكم بغير ما أنزل ال تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم‬

‫__________‬ ‫‪ِ { 1‬بمَا أَرَاك ال} معناه‪ :‬على قوانين الشرع‪ ،‬إما بوحي ونص‪ ،‬أو بنظر جار على سنن الوحي‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه إرشاد للمة وتعليم لها‪ ،‬إذ الرسول صلى ال عليه وسلم لم يقارف ذنبا‪ ،‬وكل ما في المر‬ ‫أنه هم على ظن منه‪ ،‬ودفع ال عنه ما هم به بنزول الية‪ ،‬أو استغفاره لما هم به‪ ،‬هو من باب‬ ‫حسنات البرار سيئات المقربين‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬يستترون‪.‬‬ ‫‪ 4‬الستفهام للنكار والتوبيخ والتقريع‪.‬‬

‫( ‪)1/537‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الستغفار من الذنب كبيرا كان أو صغيرا‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب بغض الخوان الثيم أيا كان‪.‬‬ ‫‪ -5‬استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة‪.‬‬ ‫سبْ إِثْما فَإِ ّنمَا‬ ‫غفُورا رَحِيما(‪َ )110‬ومَنْ َيكْ ِ‬ ‫{ َومَنْ َي ْع َملْ سُوءا َأوْ يَظِْلمْ َنفْسَهُ ُثمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ َيجِدِ اللّهَ َ‬ ‫سبْ خَطِي َئةً َأوْ إِثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا َفقَدِ‬ ‫حكِيما(‪َ )111‬ومَنْ َي ْك ِ‬ ‫َيكْسِبُهُ عَلَى َنفْسِهِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬ ‫ك َومَا‬ ‫حمَُتهُ َل َه ّمتْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيضِلّو َ‬ ‫ك وَرَ ْ‬ ‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي َ‬ ‫احْ َت َملَ ُبهْتَانا وَإِثْما مُبِينا(‪ )112‬وََلوْل َف ْ‬ ‫ح ْكمَ َة وَعَّل َمكَ مَا َلمْ َتكُنْ‬ ‫شيْ ٍء وَأَنْ َزلَ اللّهُ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬ ‫سهُمْ َومَا َيضُرّو َنكَ مِنْ َ‬ ‫ُيضِلّونَ إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫عظِيما(‪})113‬‬ ‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكَ َ‬ ‫َتعْلَ ُم َوكَانَ َف ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{سُوءا} ‪ :‬السوء‪ :‬ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير‪.‬‬ ‫{َأوْ َيظْلِمْ َنفْسَهُ} ‪ :‬ظلم النفس‪ :‬بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا‪.‬‬ ‫{إِثْما} ‪ :‬الثم‪ :‬ما كان ضارا بالنفس فاسدا‪.‬‬ ‫{بَرِيئا} ‪ :‬البريء‪ :‬من لم يجن جناية قد اتهم بها‪.‬‬ ‫{احْ َت َملَ ُبهْتَانا} ‪ :‬تحمل بهتانا‪ :‬وهو الكذب المحير لمن رمي به‪.‬‬ ‫ح ْكمَةَ} ‪ :‬الكتاب‪ :‬القرآن والحكمة السنة‪.‬‬ ‫ب وَالْ ِ‬ ‫{ا ْلكِتَا َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا السياق معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق‪ ،‬وهو يحمل الرحمة اللهية لولئك‬ ‫الذين تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل‬

‫( ‪)1/538‬‬

‫سوءا يؤذي به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى ال تعالى باستغفاره‬ ‫والنابة إليه يتب ال تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الية(‪َ { )110‬ومَنْ َي ْع َملْ‬ ‫غفُورا رَحِيما} يغفر له ويرحمه‪.‬‬ ‫سهُ ثُمّ‪ 1‬يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ َيجِدِ اللّهَ َ‬ ‫سُوءا َأوْ َيظْلِمْ َنفْ َ‬ ‫سهِ} إذ‬ ‫سبْ إِثْما} أي‪ :‬ذنبا من الذنوب صغيرها وكبيرها {فَإِ ّنمَا َيكْسِبُهُ عَلَى َنفْ ِ‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيكْ ِ‬ ‫هي التي تتدسى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها‪ .‬ول يؤاخذ به غيرها وكان ال عليما‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫بذنوب عباده حكيما‪ ،‬أي‪ :‬في مجازاتهم بذنوبهم فل يؤاخذ نفسا بغير ما اكتسب ويترك نفسا قد‬ ‫اكتسبت(‪ )112‬يخبر تعالى أن من يرتكب خطيئة ضد أحد‪ ،‬أو يكسب إثما ويرمي به أحداً بريئا‬ ‫سبْ خَطِيئَةً َأوْ إِثْما ثُمّ‬ ‫منه قد تحمل تبعة عظيمة قد تصليه نار جهنم وهو معنى قوله‪َ { :‬ومَنْ َيكْ ِ‬ ‫يَرْمِ‪ 2‬بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْ َت َملَ ُبهْتَانا وَإِثْما مُبِينا} ‪.‬‬ ‫وفي الية(‪ )113‬يواجه ال تعالى رسوله بالخطاب ممتنا ًعليه بما حباه به من الفضل والرحمة‬ ‫سهُمْ َومَا‬ ‫ك َومَا ُيضِلّونَ إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫حمَتُهُ َل َه ّمتْ طَا ِئفَةٌ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيضِلّو َ‬ ‫ك وَ َر ْ‬ ‫ضلُ اللّهِ عَلَ ْي َ‬ ‫فيقول‪{ :‬وََلوْل َف ْ‬ ‫شيْءٍ} ‪ ،‬والمراد بالطائفة التي ذكر ال تعالى هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله‪:‬‬ ‫َيضُرّونَكَ مِنْ َ‬ ‫سهُمْ‪ ، }3‬فهو كما قال عز وجل ضللهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره‬ ‫{ َومَا ُيضِلّونَ إِل أَ ْنفُ َ‬ ‫ضلُ اللّهِ‬ ‫ح ْكمَ َة وَعَّل َمكَ مَا لَمْ َتكُنْ َتعَْل ُم َوكَانَ َف ْ‬ ‫ذلك وقوله تعالى‪ { :‬وَأَنْ َزلَ اللّهُ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬ ‫عَلَ ْيكَ عَظِيما} امتنان من ال تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه‬ ‫الحكمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم‪ ،‬وما أوحى إليه من العلوم والمعارف التي‬ ‫كلها نور وهدى مبين‪ ،‬وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على‬ ‫رسوله عظيما‪ ،‬فلله الحمد والمنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ التوبة تجب ما قبلها‪ ،‬ومن تاب تاب ال عليه‪.‬‬ ‫‪ -2‬عظم ذنب من يكذب على البرآء‪ ،‬ويتهم المناء بالخيانة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالستغفار‪ :‬التوبة وطلب العفو من ال تعالى عما مضى من الذنوب قبل التوبة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ينسبه إليه‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذ نتائج الضلل وعوائده وهي الخسران عائدة عليهم ل على الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/539‬‬ ‫‪ -3‬تأثير الكلم على النفوس حتى أن الرسول صلى ال عليه وسلم كاد يضلله بنو أبيرق فيبرئ‬ ‫الخائن ويدين البريء إل أن ال عصمه‪.‬‬

‫‪ -4‬عاقبة الظلم عائدة على الظالم‪.‬‬ ‫س َومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ‬ ‫جوَاهُمْ إِل مَنْ َأمَرَ ِبصَ َد َقةٍ َأوْ َمعْرُوفٍ َأوْ ِإصْلحٍ بَيْنَ النّا ِ‬ ‫{ل خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ َن ْ‬ ‫سوْفَ ُنؤْتِيهِ َأجْرا عَظِيما(‪َ )114‬ومَنْ ُيشَاقِقِ الرّسُولَ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ‬ ‫ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ َف َ‬ ‫جهَنّ َم وَسَا َءتْ َمصِيرا(‪})115‬‬ ‫ا ْلهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى وَ ُنصْلِهِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫جوَاهُمْ‪ : }1‬النجوى‪ :‬المسارة بالكلم‪ ،‬وجواهم‪ :‬أحاديثهم التي يسرها بعضهم إلى بعض‪.‬‬ ‫{ َن ْ‬ ‫{َأوْ َمعْرُوفٍ‪ : }2‬المعروف‪ :‬ما عرفه الشرع فأباحه‪ ،‬أو استحبه أو أوجبه‪.‬‬ ‫{ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ} ‪ :‬أي‪ :‬طلبا لمرضاة ال‪ ،‬أي‪ :‬للحصول على رضا ال عز وجل‪.‬‬ ‫{ ُنؤْتِيهِ} ‪ :‬نعطيه والجر العظيم‪ :‬الجنة وما فيها من نعيم مقيم‪.‬‬ ‫{يُشَا ِققِ الرّسُولَ} ‪ :‬يحاده ويقاطعه ويعاديه‪ .‬كمن يقف في شق‪ ،‬والخر في شق‪.‬‬ ‫{ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ :‬أي‪ :‬يخرج عن إجماع المسلمين‪.‬‬ ‫{ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى} ‪ :‬نخذله فتتركه وما توله من الباطل والشر والضلل حتى‪ :‬يهلك فيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النجوى‪ :‬مشتقة من نجوت الشيء‪ ،‬أنجوه‪ ،‬إذا خلصته وأفردته‪ ،‬والنجوي من الرض ما ارتفع‬ ‫منها دون ما حواليه‪ ،‬ومن ناجى أحدا فقد خلصه وأفرده له‪ .‬وتسمى الجماعة‪ :‬نجوى نحوهم‪،‬‬ ‫عدل‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وإذْ هُم نَجْوى} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬المعروف لفظ يعم جميع ألفاظ البر‪ ،‬أمر ال تعالى في كتابه فقال‪{ :‬خُذْ العُفوْ وأمر بالعُرف}‬ ‫أي‪ :‬المعروف‪ .‬قال الحطيئة‪:‬‬

‫( ‪)1/540‬‬ ‫ونصله نار جهنم ‪ :‬أي‪ :‬ندخله النار ونحرقه فيها‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بني أبيرق ففي الية الولى(‪ )114‬يخبر تعالى أنه ل خير في كثير من أولئك‬ ‫المتناجين ول في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إل في نجوى أمر أصحابها بصدقة تعطى‬ ‫لمحتاج إليها من المسلمين‪ ،‬أو معروف ‪ 1‬استحبه الشارع أو أوجبه من البر والحسان أو إصلح‬ ‫بين الناس للبقاء على اللفة والمودة بين المسلمين‪ .‬ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من‬ ‫الصدقة والمعروف والصلح ‪ 2‬بين الناس طلبا لمرضاة ال تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب أل‬ ‫وهو الجنة دار السلم إذ ل أجر أعظم من أجر يكون الجنة‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى‪ ،‬أما الثانية(‪ )115‬فإن ال تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق‪،‬‬ ‫فيقول جل ذكره‪َ { :‬ومَنْ ُيشَاقِقِ الرّسُولَ} أي‪ :‬يخالفه ويعاديه {مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ ا ْل ُهدَى} أي‪ :‬من‬

‫بعد ما عرف أنه رسول ال حقا جاء بالهدى ودين الحق‪ ،‬ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من‬ ‫جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم ‪ 3‬هذا الشقي الخاسر { ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى} أي‪ :‬نتركه لكفره وضلله‬ ‫خذلنا له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترف فيها‪ ،‬وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة تناجي اثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬الجتماعات السرية ل خير فيها إل اجماعا كان لجمع صدقة‪ ،‬أو لمر بمعروف أو إصلح‬ ‫بين متنازعين من المسلمين مختلفين‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة‪ ،‬واتباع الفرق الضالة التي ل تمثل السلم إل في‬ ‫دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل لحكيم ما أعظم المصائب؟ قال‪ :‬أن تقدر على المعروف فل تصنعه‪ ،‬حتى يفوت‪ ،‬وقال في‬ ‫هذا المعنى الشاعر‪:‬‬ ‫إذا هبت رياحك فاغتنمها ‪ ...‬فإن لكل خافقة سكون‬ ‫ول تغفل عن الحسان فيها ‪ ...‬فما تدري السكون متى يكون‬ ‫‪ 2‬ورد في إصلح ذات البين الكثير من الحاديث‪ ،‬منها‪ :‬قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أل أخبركم‬ ‫بأفضل من درجة الصيام والصلة والصدقة؟" قالوا‪ :‬بلى يا رسول ال‪ .‬قال‪" :‬إصلح ذات البين"‬ ‫رواه الترمذي وصححه وقال‪" :‬ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الية هي دليل حرمة الخروج على جماعة المسلمين‪ ،‬روي أن الشافعي طلب دليلً على‬ ‫صحة الجماع‪ ،‬فقرئ القرآن مرات حتى عثر على هذه الية‪ ،‬وقرر أنها دليل الجماع‪ ،‬وهو‬ ‫كذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/541‬‬ ‫ل ضَللً‬ ‫ضّ‬ ‫{إِنّ اللّهَ ل َي ْغفِرُ أَنْ يُشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ َيشَا ُء َومَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَ ْد َ‬ ‫َبعِيدا(‪ )116‬إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِل إِنَاثا وَإِنْ َيدْعُونَ إِل شَيْطَانا مَرِيدا(‪َ )117‬لعَ َنهُ اللّ ُه َوقَالَ‬ ‫ن الَ ْنعَامِ‬ ‫لمَنّيَ ّنهُ ْم وَلمُرَ ّنهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَا َ‬ ‫لَتّخِذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبا َمفْرُوضا(‪َ )118‬ولُضِلّ ّنهُ ْم َو ُ‬ ‫ن وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا(‪)119‬‬ ‫خذِ الشّ ْيطَا َ‬ ‫وَلمُرَ ّنهُمْ فَلَ ُيغَيّرُنّ خَلْقَ اللّ ِه َومَنْ يَتّ ِ‬ ‫جهَنّ ُم وَل َيجِدُونَ عَ ْنهَا‬ ‫َيعِدُ ُه ْم وَ ُيمَنّيهِ ْم َومَا َي ِعدُهُمُ الشّيْطَانُ إِل غُرُورا(‪ )120‬أُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمْ َ‬ ‫مَحِيصا(‪})121‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أَنْ ُيشْ َركَ بِهِ} ‪ :‬أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت‪.‬‬ ‫{إِنْ َيدْعُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬ما يدعون‪.‬‬ ‫{إِل إِنَاثا} ‪ :‬جمع أنثى لن اللهة مؤنثة‪ ،‬أو أمواتا لن الميت يطلق عليه لفظ أنثى بجامع عدم‬ ‫النفع‪.‬‬ ‫{مَرِيدا} ‪ :‬بمعنى ما رد على الشر والغواء للفساد‪.‬‬ ‫{ َنصِيبا َمفْرُوضا} ‪ :‬حظا معينا‪ .‬أو حصة معلومة‪.‬‬ ‫{فَلَيُبَ ّتكُنّ‪ : }1‬فليقطعن‪.‬‬ ‫{خَلْقَ اللّهِ} ‪ :‬مخلوق ال‪ :‬أي‪ :‬ما خلقه ال تعالى‪.‬‬ ‫{الشّيْطَانُ} ‪ :‬الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنيا أو إنسيا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البتك‪ :‬القطع‪ ،‬يقال‪ :‬سيف باتك‪.‬‬

‫( ‪)1/542‬‬ ‫{وَ ُيمَنّيهِمْ} ‪ :‬يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ل َيغْفِرُ أَنْ ُيشْ َركَ‪ِ 1‬ب ِه وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ} إخبار منه تعالى عن‬ ‫طعمة بن أبيرق بأنه ل يغفر له وذلك لموته على الشرك‪ ،‬أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن‬ ‫أمرهم إلى ال تعالى إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك‬ ‫ل ضَللً َبعِيدا} أي‪ :‬ضل عن طريق النجاة‬ ‫ضّ‬ ‫والفكر‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَ ْد َ‬ ‫والسعادة ببعده عن الحق بعدا كبيرا وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِل إِنَاثا} هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله‪ ،‬فأخبر تعالى أن‬ ‫المشركين ما يعبدون إل أمواتا ل يسمعون ول يبصرون ول ينطقون ول يعقلون‪ .‬إذ أوثانهم ميتة‬ ‫وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللت والعزى ومناة ونائلة‪ ،‬كما هم في واقع‬ ‫المر يدعون شيطانا مريدا‪ ،‬إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الصنام فعبدوها فهم إذا عابدون‬ ‫للشيطان في باطن المر ل الوثان‪ ،‬ولذا قال تعالى‪{ :‬وَإِنْ َيدْعُونَ إِل شَيْطَانا مَرِيدا‪ }2‬لعنه ال‬ ‫ل لَتّخِذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبا َمفْرُوضا‪ }3‬أي‪ :‬عددا كبيرا منهم‬ ‫وأبلسه عن إبائه السجود لدم‪َ { ،‬وقَا َ‬ ‫يعبدونني ول يعبدونك وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك‪ ،‬وطاعتهم لي‪ .‬وواصل العدو‬ ‫لمَنّيَ ّنهُمْ} يريد أعوقهم عن طاعتك بالماني‬ ‫لضِلّ ّنهُمْ} يريد عن طريق الهدى { َو ُ‬ ‫تبجحه قائلً‪َ { :‬و ُ‬ ‫ن الَ ْنعَامِ‪ }4‬أي‪:‬‬ ‫الكاذبة بأنهم ل يلقون عذابا أو أنه سيغفر لهم‪{ .‬وَلمُرَنّهُمْ} فيطيعوني {فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَا َ‬

‫ليجعلون للهتهم نصيبا مما رزقنهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها لللهة؛ كالبحائر والسوائب‬ ‫التي يجعلونها لللهة‪{ ،‬وَلمُرَ ّنهُمْ} أيضا فيطيعونني فيغيرون خلق ال بالبدع‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه الية رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنب دون الشرك‪ ،‬ويوجبون الخلود في النار‬ ‫لمن مات على كبيرة‪ ،‬قال علي رضي ال عنه‪" :‬ما في القرآن أحب إلي من هذه‪ { :‬إِنّ اللّ َه ل‬ ‫َي ْغفِرُ أَنْ ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ َيشَاءُ} " رواه الترمذي‪.‬‬ ‫‪ 2‬أطلق الدعاء وأريد به العبادة‪ ،‬وهو إطلق شائع في القرآن الكريم؛ لن الدعاء هو العبادة‪ .‬إذ‬ ‫خذُوا‬ ‫طاعتهم للشيطان عبادة في حد ذاتها‪ ،‬إذا المطاع في معصية ال معبود‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬اتّ َ‬ ‫أَحْبَا َرهُ ْم وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّهِ}‪ ،‬أي‪ :‬ألهة‪ ،‬وذلك لما أطاعوهم في معصية ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬كان نصيبه من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين‪ ،‬لحديث مسلم‪" :‬أبعث بعث النار فيقول‬ ‫وما بعث النار؟ فيقول‪ :‬من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" ‪ .‬المخاطب‪ :‬آدم عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أجاز الجمهور خصاء الغنم لفائدة اللحم‪ ،‬وحرموا خصاء غيرها‪ ،‬وخاصة الدمي‪ ،‬وأجازوا‬ ‫الوسم في غير الوجه للحيوان ليعرف به‪ ،‬وهو كذلك‪ .‬أما الوشم‪ :‬فحرام للحاديث الصحاح فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/543‬‬ ‫والشرك‪ ،‬والمعاصي كالوشم والخصي‪ .‬هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد‪ .‬ثم قال‬ ‫ن وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا} لن من والى الشيطان عادى‬ ‫تعالى { َومَنْ يَتّخِذِ الشّ ْيطَا َ‬ ‫الرحمن‪ ،‬ومن عادى الرحمن تم له وال أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى‪َ { :‬يعِ ُدهُمْ‬ ‫وَ ُيمَنّيهِمْ} فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة { َومَا َيعِدُ ُهمُ الشّ ْيطَانُ إِل غُرُورا} إذ هو ل يملك من‬ ‫المر شيئا فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذا؟‪.‬‬ ‫جهَنّ ُم وَل َيجِدُونَ عَ ْنهَا‬ ‫وهذا حكم ال تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه‪{ :‬أُولَ ِئكَ مَ ْأوَا ُهمْ َ‬ ‫مَحِيصا} أي‪ :‬معدلً أو مهربا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬سائر الذنوب كبائرها وصغائرها قد يغفرها ال تعالى لمن شاء إل الشرك فل يغفر لصاحبه‪.‬‬ ‫‪ -2‬عبدة الصنام والوهام والشهوات والهواء هم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمرهم‬ ‫فأطاعوه‪.‬‬ ‫‪ -3‬من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة الوشم والوسم والخصاء إل ما أذن فيه الشارع ‪.1‬‬ ‫‪ -5‬سلح الشيطان العدة الكاذبة والمنية الباطلة‪ ،‬والزينة الخادعة‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ سَنُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا وَعْدَ‬ ‫{وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫صدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلً(‪})122‬‬ ‫حقّا َومَنْ َأ ْ‬ ‫اللّهِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آمَنُوا} ‪ :‬صدقوا بال ورسوله ‪.2‬‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ} ‪ :‬الطاعات إذ كل طاعة ل ورسوله هي عمل صالح‪.‬‬ ‫{وَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أذن الشارع في وسم الماشية‪ ،‬ولكن في غير الوجه‪ ،‬كما أذن وخصي الغنم ضائنًا أو ما عزًا‬ ‫لمصلحة إصلح لحومها‪.‬‬ ‫‪ 2‬وصدقوا بكل ما أخبر ال به ورسوله في شأن الغيب؛ كالملئكة‪ ،‬والبعث‪ ،‬والجزاء في الدار‬ ‫الخرة‪.‬‬

‫( ‪)1/544‬‬ ‫{قِيلً‪ : }1‬أي‪ :‬قولً‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في ‪ 2‬هذه الية جزاء التوحيد‬ ‫والموحدين عبيد الرحمن عز وجل‪ ،‬وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت‬ ‫قصورها وأشجارها النهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن ال ربهم فل يخرجون منها أبدا وعدهم‬ ‫ربهم بهذا وعد الصدق‪ ،‬وليس هناك من هو أصدق وعدا ول قولً من ال تعالى‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب ‪ 3‬دخولها‪.‬‬ ‫‪ -2‬صدق وعد ال تعالى‪ ،‬وصدق قوله عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب صدق الوعد من العبد لن خلف الوعد من النفاق لحديث ‪" :4‬وإذا واعد أخلف" ‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب صدق القول والحديث لن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب‪.‬‬ ‫{لَيْسَ بَِأمَانِ ّيكُ ْم وَل َأمَا ِنيّ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ َي ْع َملْ سُوءا يُجْزَ بِ ِه وَل يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَل‬ ‫َنصِيرا(‪َ )123‬ومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّ َة وَل‬ ‫يُظَْلمُونَ َنقِيرا(‪َ )124‬ومَنْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القيل‪ ،‬والقول‪ ،‬والقال‪ :‬بمعنى واحد‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا من منهج القرآن الخاص به‪ ،‬وهو الجمع بين الترهيب والترغيب؛ لنه كتاب هداية وتربية‬

‫فلذا يجمع بين الوعد والوعيد‪ ،‬وذكر الشيء وضده‪.‬‬ ‫‪ 3‬لنه باليمان والعمل الصالح تزكو النفس البشرية وتطهر‪ ،‬وإذا زكت وطهرت تأهلت لدخول‬ ‫الجنة؛ إذ هي دار البرار ودار المتقين‪.‬‬ ‫‪ 4‬رواه البخاري وغيره‪" :‬آية المنافق ثلث‪ :‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا واعد أخلف‪ ،‬وإذا أؤتمن خان" ‪.‬‬

‫( ‪)1/545‬‬ ‫ن وَاتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً(‬ ‫ج َههُ لِلّ ِه وَ ُهوَ ُمحْسِ ٌ‬ ‫حسَنُ دِينا ِممّنْ َأسْلَ َم وَ ْ‬ ‫أَ ْ‬ ‫شيْءٍ مُحِيطا(‪})126‬‬ ‫ض َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَرْ ِ‬ ‫‪ )125‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بَِأمَانِ ّيكُمْ} ‪ :‬جمع أمنية‪ :‬وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالبا تحقيقه‪.‬‬ ‫{أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫{سُوءا} ‪ :‬كل ما يسيء من الذنوب والخطايا‪.‬‬ ‫{وَلِيّا} ‪ :‬يتولى أمره فيدفع عنه المكروه‪.‬‬ ‫{ َنقِيرا} ‪ :‬النقير‪ :‬نقرة في ظهر النواة‪.‬‬ ‫{مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ} ‪ :‬عبادة ال وحده ل شريك له بما شرعه ال تعالى‪.‬‬ ‫{خَلِيلً} ‪ :‬الخليل‪ :‬المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب‪.‬‬ ‫{مُحِيطا} ‪ :‬علما وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روي أن هذه الية نزلت ‪ 1‬لما تلحى مسلم ويهودي وتفاخرا‪ ،‬فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم‬ ‫ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل‪ ،‬ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم ال‬ ‫تعالى بينهما بقوله‪{ :‬لَ ْيسَ بَِأمَانِ ّيكُمْ} أيها المسلمون {وَل َأمَا ِنيّ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ} من يهود ونصارى‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ليس المر والشأن بالماني العذاب‪ ،‬وإنما المر والشأن في هذه القضية أنه سنة ال تعالى‬ ‫في تأثير الكسب الرادي على النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل ‪ 2‬سوءا من الشرك‬ ‫والمعاصي‪ ،‬كمن عمل صالحا من التوحيد والطاعات يجز بحسبه‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أيضا عن قتادة أنه قال‪ :‬تفاخرا و المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب‪ :‬نبينا قبل‬ ‫نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بال منكم‪ .‬وقال المؤمنون‪ :‬نبينا خاتم النبيين‪ ،‬وكتابنا يقضي‬ ‫على سائر الكتب‪ .‬فنزلت‪ ،‬ول تعارض بين الرأيين‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية عامة في الكافر والمؤمن‪ ،‬ويؤكد عمومها رواية مسلم‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫لما نزلت وبلغت من المسلمين مبلغًا‪ ،‬قال‪" :‬قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة‬

‫حتى النكبة ينكبها‪ ،‬والشوكة يشاكها" ‪ ،‬ويفسرها لنا أيضا قوله صلى ال عليه وسلم في رواية‬ ‫أحمد لبي بكر‪ ،‬وقد قال لما نزلت كيف الفلح يا رسول ال‪ ،‬بعد هذه الية؟ فكل سوء عملناه‬ ‫جزينا به‪" .‬غفر ال لك يا أبا بكر‪ ،‬ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك‬ ‫اللواء؟" قال‪ :‬بلى‪ .‬قال‪" :‬فهو مما تجزون" ‪.‬‬

‫( ‪)1/546‬‬ ‫فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة البرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها‬ ‫جدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَل‬ ‫لمجاورة البرار‪ ،‬ويبعدها عن مجاورة الفجار‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَل يَ ِ‬ ‫َنصِيرا} لن سنن ال؛ كأحكامه ل يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها بل تمضي كما هي فل ينفع‬ ‫صاحب السوء أحد‪ ،‬ول يضر صاحب الحسنات آخر‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ‬ ‫مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ فَأُولَ ِئكَ يَ ْدخُلُونَ الْجَنّ َة وَل ُيظَْلمُونَ َنقِيرا} فإنه تقرير لسنته تعالى في‬ ‫تأثير الكسب على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهرا وتدسية وخبثا‪ ،‬فإنه من يعمل‬ ‫الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكرا كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة‪ ،‬ول يظلم مقدار‬ ‫جهَهُ لِلّهِ وَ ُهوَ ُمحْسِنٌ‬ ‫حسَنُ دِينا ِممّنْ َأسْلَ َم َو ْ‬ ‫نقير فضلً عما هو أكثر وأكبر وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ‪ 1‬أَ ْ‬ ‫وَاتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً} إشادة منه تعالى وتفضيل للدين السلمي على‬ ‫سائر الديان غذ هو قائم على أساس إسلم الوجه ‪ 2‬ل وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك‬ ‫طاعة ال تعالى مع الحسان الكامل‪ ،‬وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها ال تعالى‬ ‫واتباع ملة إبراهيم بعبادة ال تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر اللهة‪ .‬وقوله {وَاتّخَذَ اللّهُ‬ ‫ل وقوله‬ ‫إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً} فيه زيادة تقرير فضل السلم الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خلي ً‬ ‫شيْءٍ مُحِيطا} زيادة على أنه إخبار‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَِللّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫بسعة ملك ال تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن ال‬ ‫تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو له حاجة إليه‪ ،‬فأخبر تعالى أن له ما في السموات والرض خلقا‬ ‫وملكا‪ ،‬وإبراهيم في جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء وملكه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ما عند ال ل ينال بالتمني ولكن باليمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والحسان‪.‬‬ ‫‪ -2‬الجزاء أثر طبيعي للعمل وهو معنى {مَنْ َي ْع َملْ سُوءا ُيجْزَ بِهِ} { َومَنْ َي ْع َملْ مِنَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام إنكاري‪ ،‬أي‪ :‬ينكر أن يوجد من هو أحسن دينا منه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أفادت هذه الية حكما عظيمًا‪ ،‬وهو أنه‪ :‬ل يصح عمل بدونه أبدًا‪ .‬وهو الخلص والمتابعة‪،‬‬

‫وهو أن يكون العمل خالصًا ل‪ ،‬وأن يكون صوابًا‪ ،‬أي‪ :‬وفق ما شرع ال تعالى في كتابه‪ ،‬وعلى‬ ‫لسان رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/547‬‬ ‫الصّالِحَاتِ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ}‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل السلم على سائر الديان‪.‬‬ ‫‪ -4‬شرف إبراهيم عليه السلم باتخاذه ربه ‪ 1‬خليلً‪.‬‬ ‫‪ -5‬غنى ال تعالى عن سائر مخلوقاته‪ ،‬وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل‪.‬‬ ‫ن َومَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ اللتِي ل‬ ‫{وَيَسْ َتفْتُو َنكَ فِي النّسَاءِ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِيهِ ّ‬ ‫ن وَأَنْ َتقُومُوا لِلْيَتَامَى‬ ‫ض َعفِينَ مِنَ ا ْلوِ ْلدَا ِ‬ ‫ن وَا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫ن وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَ ْنكِحُوهُ ّ‬ ‫ُتؤْتُونَهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُ ّ‬ ‫ط َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيما(‪ )127‬وَإِنِ امْرََأةٌ خَا َفتْ مِنْ َبعِْلهَا نُشُوزا َأوْ‬ ‫بِا ْلقِسْ ِ‬ ‫ح وَإِنْ‬ ‫ت الَنْفُسُ الشّ ّ‬ ‫حضِ َر ِ‬ ‫علَي ِهمَا أَنْ ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْ ٌر وَأُ ْ‬ ‫إِعْرَاضا فَل جُنَاحَ َ‬ ‫حسِنُوا وَتَ ّتقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا(‪ )128‬وَلَنْ تَسْ َتطِيعُوا أَنْ َتعْدِلُوا بَيْنَ النّسَا ِء وََلوْ‬ ‫تُ ْ‬ ‫غفُورا َرحِيما(‬ ‫حَ َرصْتُمْ فَل َتمِيلُوا ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ فَتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَّلقَ ِة وَإِنْ ُتصْلِحُوا وَتَ ّتقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫حكِيما(‪})130‬‬ ‫سعَتِ ِه َوكَانَ اللّهُ وَاسِعا َ‬ ‫‪ )129‬وَإِنْ يَ َتفَ ّرقَا ُيغْنِ اللّهُ كُلً مِنْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقد شرف بالخلة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ففي الصحيحين أنه صلى ال عليه وسلم خطبهم‬ ‫أخر خطبة‪ ،‬فقال‪" :‬أما بعد أيها الناس‪ :‬فلو كنت متخذا من أهل الرض خليلً‪ ،‬لتخذت أبا بكر‬ ‫ابن أبي قحافة خليلً‪ ،‬ولكن صاحبكم خليل ال" ‪.‬‬

‫( ‪)1/548‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَيَسْ َتفْتُو َنكَ‪ : }1‬يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن‪.‬‬ ‫{ َومَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ} ‪ :‬يقرأ عليكم في القرآن‪.‬‬ ‫{مَا كُ ِتبَ َلهُنّ} ‪ :‬ما فرض لهن من المهور والميراث‪.‬‬ ‫سطِ} ‪ :‬بالعدل‪.‬‬ ‫{بِا ْلقِ ْ‬ ‫{نُشُوزا} ‪ :‬ترفعا وعدم طاعة‪.‬‬ ‫ت الَ ْنفُسُ الشّحّ} ‪ :‬جلبت النفوس على الشح فل يفارقها أبدا‪.‬‬ ‫حضِ َر ِ‬ ‫{وَأُ ْ‬ ‫{فَتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَلّقَةِ} ‪ :‬فتركتوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ول المطلقة‪.‬‬

‫سعَ ِتهِ} ‪ :‬من رزقه الواسع‪.‬‬ ‫{مِنْ َ‬ ‫حكِيما} ‪ :‬واسع الفضل حكيما يعطي فضله حسب علمه وحكمته‪.‬‬ ‫{ َوكَانَ اللّهُ وَاسِعا َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات الربع كل آية منها تحمل حكما شرعيا خاصا فالولى(‪ )127‬نزلت إجابة لتساؤلت‬ ‫من بعض الصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لن العرف الذي كان سائدا في‬ ‫الجاهلية كان يمنع النساء والطفال من الميراث بالمر‪ ،‬وكان اليتامى ل يراعى لهم جانب ول‬ ‫يحفظ لهم حق كامل‪ ،‬فلذا نزلت اليات الولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل في‬ ‫الرث وحضت على المحافظة على مال اليتيم وكثرت التساؤلت لعل قرآنا ينزل إجابة لهم حيث‬ ‫اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم‬ ‫النهائي في القضية فل مراجعة بعد هذه‪ ،‬فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫{وَيَسْ َتفْتُو َنكَ فِي النّسَاءِ } أي‪ :‬وما زالوا يستفتونك في النساء‪ ،‬أي‪ :‬في شأن مالهن وما عليهن من‬ ‫حقوق؛ كالرث والمهر وما إلى ذلك‪ .‬قل لهم أيها الرسول {اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِيهِنّ} وقد أفتاكم فيهن وبين‬ ‫لكم مالهن وما عليهن‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬ومَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ اللتِي ل‬ ‫ن وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَ ْنكِحُوهُنّ} أي‪ :‬وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول‬ ‫ُتؤْتُونَهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُ ّ‬ ‫السورة كافٍ ل تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضا‪ ،‬إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة ل‬ ‫يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أشهب عن مالك أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يسأل فل يجيب حتى ينزل عليه‬ ‫الوحي‪.‬‬

‫( ‪)1/549‬‬ ‫شاء‪ ،‬ول يحل له أن يحبسها في بيته لجل مالها‪ ،‬وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها‬ ‫ض َعفِينَ مِنَ ا ْلوِلْدَانِ} أي‪ :‬وقد‬ ‫مهر مثيلتها ول يبخسها حقها من مهرها شيئا‪ .‬وقوله‪{ :‬وَا ْلمُسْ َت ْ‬ ‫أفتاكم بما يتلى عليكم من اليات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم‬ ‫حظّ الْأُنْثَيَيْنِ} الية‪.‬‬ ‫حقهم وافيا في آية {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأوْل ِدكُمْ لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬ ‫فلم هذه المراجعات والستفتاءات؟ وقوله تعالى‪{ :‬وَأَنْ َتقُومُوا لِلْيَتَامَى بِا ْلقِسْطِ} أي‪ :‬وما تلى عليكم‬ ‫في أول السورة كان آمرا إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله‪{ :‬وَآتُوا‬ ‫الْيَتَامَى َأ ْموَاَلهُمْ وَل تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّ ّيبِ وَل تَ ْأكُلُوا َأ ْموَاَلهُمْ إِلَى َأ ْموَاِلكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوبا كَبِيرا} ‪،‬‬ ‫وقوله تعالى في ختام الية { َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيما} حث لهم على فعل الخير‬ ‫بالحسان إلى الضعيفين المرأة واليتيم زيادة على توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها‪ .‬هذا ما‬

‫دلت عليه الية الكريمة‪{ :‬وَيَسْ َتفْتُو َنكَ‪ }...‬إلخ‪.‬‬ ‫أما الية الثانية(‪{ )128‬وَإِنِ امْرََأةٌ‪ 1‬خَا َفتْ مِنْ َبعِْلهَا نُشُوزا َأوْ‪ 2‬إِعْرَاضا فَل جُنَاحَ عَلَي ِهمَا أَنْ‬ ‫ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا صُلْحا} فقد تضمنت حكما عادلً رحيما وإرشادا ربانيا سديدا وهو أن الزوجة إذا‬ ‫توقعت من زوجها نشوزا‪ ،‬أي‪ :‬ترفعا أو إعراضا عنها‪ ،‬وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها‪ ،‬وقد‬ ‫تزوج غيرها في هذا الحال في المكان أن تجري مع زوجها صلحا يحفظ لها بقاءها في بيتها‬ ‫عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجبا لها وهذا خير‬ ‫ت الَ ْنفُسُ الشّحّ‪ }3‬يريد أن‬ ‫حضِ َر ِ‬ ‫لها من الفراق‪ .‬ولذا قال تعالى‪{ :‬وَالصّلْحُ خَيْرٌ} وقوله تعالى‪{ :‬وَأُ ْ‬ ‫الشح ملزم للنفس البشرية ل يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إل أن المرأة أضمن وأشح بنصيبها‬ ‫في الفراش وبباقي حقها من زوجها‪ .‬إذا فليراع الزوج هذا‪ ،‬ولذا قال تعالى‪ { :‬وَإِنْ تُحْسِنُوا} أيها‬ ‫الزواج إلى نسائكم {وَتَ ّتقُوا} ال تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬خافت‪ ،‬أي‪ :‬توقعت وليس بمعنى تيقنت‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى البخاري عن عائشة رضي ال عنها‪{ :‬وَإِنِ امْرََأةٌ خَا َفتْ مِنْ َبعِْلهَا نُشُوزا َأوْ إِعْرَاضا} ‪،‬‬ ‫قالت‪ :‬الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها‪ ،‬يريد أن يفارقها‪ ،‬فتقول له‪ :‬أجعلك من شأني‬ ‫في حل‪ .‬فنزلت هذه الية‪ .‬كما روي أن الية نزلت في سودة أم المؤمنين لما أسنت‪ ،‬أراد رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم أن يطلقها فآثرت الكون معه‪ .‬فقالت له‪ :‬امسكني واجعل يومي لعائشة‪.‬‬ ‫ففعل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وماتت وهي من أزواجه‪ .‬رواه الترمذي‪ .‬قالوا في الفرق بين النشوز‬ ‫والعراض‪ :‬أن النشوز هو‪ :‬التباعد عنها‪ .‬وأن العراض‪ :‬أن ل يكلمها ول يأنس بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬الشح‪ :‬هو البخل‪ ،‬ومنه الحديث‪" :‬أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى" ‪،‬‬ ‫غير أن الشح يطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها‪.‬‬

‫( ‪)1/550‬‬ ‫فيهن فل تحرمون مالهن من حق في الفراش وغيره فإن ال تعالى يجزيكم بالحسان إحسانا‬ ‫وبالخير خيرا فإنه تعالى { ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا} ‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية(‪ )128‬وأما الية الثالثة(‪ )129‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ َت ْعدِلُوا‬ ‫بَيْنَ النّسَا ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ‪ 1‬فَل َتمِيلُوا ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ فَ َتذَرُوهَا كَا ْل ُمعَلّقَ ِة وَإِنْ ُتصِْلحُوا وَتَ ّتقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ‬ ‫غفُورا َرحِيما} فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته اللئي في‬ ‫َ‬ ‫عصمته‪ ،‬فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبدا‪ ،‬والمراد بالعدل هنا في‬ ‫الحب والجماع‪ .‬أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له‪ ،‬ولما علم‬ ‫تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميلة النفس‪ ،‬كما قال رسول ال صلى ال عليه‬

‫وسلم‪ " :‬اللهم هذا قسمي ‪ 2‬فيما أملك فل تلمني فيما تملك ول أملك" والمحرم على الزوج هو‬ ‫الميل ‪ 3‬الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن‪ ،‬لن ذلك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع ل هي‬ ‫متزوجة تتمنع بالحقوق الزوجية ول هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد بحقوقها‬ ‫معه‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪{ :‬فَتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَّلقَةِ} ‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ ُتصِْلحُوا} أي‪ :‬أيها الزواج‬ ‫في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقوا ال تعالى في ذلك فل تميلوا كل الميل‪ ،‬ول تجوروا‬ ‫فيما تطيقون العدل فيه فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم‬ ‫وأخراكم لن ال تعالى كان وما زال عفوا للتائبين رحيما ًبالمؤمنين‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثالثة‪ ،‬أما الية الرابعة(‪ )130‬وهي قوله تعالى‪ { :‬وَإِنْ يَ َتفَ ّرقَا ُيغْنِ اللّهُ كُلً‬ ‫حكِيما} فإن ال تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للصلح بينهما‬ ‫سعَتِهِ‪َ 4‬وكَانَ اللّ ُه وَاسِعا َ‬ ‫مِنْ َ‬ ‫لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن‬ ‫يغني كل من سعته‪ ،‬وهو الواسع الحكيم‪ .‬فالمرأة يرزقها زوجا خيرا من زوجها الذي فارقته‪،‬‬ ‫والرجل يرزقه كذلك امرأة خيرا ممن فارقها لتعذر الصلح بينهما‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا دال على أن المحبة أمر قهري‪ ،‬يعجز النسان عن جلبها‪ ،‬كما يعجز عن دفعها‪ ،‬وإن كانت‬ ‫لها أسباب ل يملك توفيرها‪ ،‬فلذا عفي عن هذا الحب القهري وجودا وعدمًا‪.‬‬ ‫‪ 2‬رواه أبو داود بإسناد صحيح‪ ،‬ورواه غيره‪ .‬والمراد بقوله‪" :‬فيما تملك ول أملك"‪ .‬القلب؛ لن‬ ‫القلوب بيد ال يقبلها كيف يشاء‪.‬‬ ‫‪ 3‬ورد في ذنب الميل إلى إحدى الزوجات وعيد شديد‪ ،‬وذلك فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬من كانت له امرأتان فمال إحداهما جاء يوم القيامة وإحدى شقيه‬ ‫ساقط" ‪.‬‬ ‫‪ 4‬هناك إشارة إلى أن هذا الوعد اللهي مشروط بمحاولة الصلح أولً فإن لم يتم وتفرقا على‬ ‫طاعة ال تعالى‪ ،‬أنجز ال تعالى لهما ما وعد‪.‬‬

‫( ‪)1/551‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ إرث النساء والطفال‪ ،‬والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحباب الصلح بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إل به‪.‬‬ ‫‪ -3‬تعذر العدل بين الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل‬ ‫في الفراش‪ ،‬والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف‪.‬‬

‫‪ -4‬الترغيب في الصلح والتقوى وفعل الخيرات‪.‬‬ ‫‪ -5‬الفرقة بين الزوجين إن كانت على مبدأ الصلح والتقوى أعقبت خيرا عاجلً آجلً‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ وََلقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُ ْم وَإِيّاكُمْ أَنِ ا ّتقُوا‬ ‫{وَلِلّهِ‪ 1‬مَا فِي ال ّ‬ ‫حمِيدا(‪ )131‬وَلِلّهِ مَا فِي‬ ‫ض َوكَانَ اللّهُ غَنِيّا َ‬ ‫ت َومَا فِي الَ ْر ِ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫اللّ َه وَإِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫ن َوكَانَ‬ ‫س وَيَ ْأتِ بِآخَرِي َ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ َوكَفَى بِاللّ ِه َوكِيلً(‪ )132‬إِنْ يَشَأْ يُذْهِ ْبكُمْ أَ ّيهَا النّا ُ‬ ‫ال ّ‬ ‫علَى ذَِلكَ قَدِيرا(‪ )133‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ َثوَابَ الدّنْيَا َفعِنْدَ اللّهِ َثوَابُ الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َوكَانَ اللّهُ‬ ‫اللّهُ َ‬ ‫سمِيعا َبصِيرا(‪})134‬‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫ت ومَا في الرض} ثلث مرات؟ فالجواب‪ :‬أنه‬ ‫‪ 1‬إن قيل ما وجه تكرار جملة‪{ :‬ل مَا في السمَوا ْ‬ ‫تعالى لما ذكر أن الزوجين إذا تفرقا بعد مصالحة‪ ،‬وعلى تقوى يغنيهما ال‪ .‬برهن على ذلك بأن‬ ‫له ما في السموات وما في الرض‪ ،‬ومن كان كذلك قهو قادر على إغنائهما‪ ،‬ولما وصى عباده‬ ‫بتقواه وهي طاعته بفعل المر وترك النهي‪ ،‬أعلم أنه قادر على عقوبة من عصاه‪ ،‬وأنه لم يوص‬ ‫بالتقوى لحاجة به‪ ،‬إنه يملك ما في السموات وما في الرض‪ ،‬ومن كان كذلك فل حاجة به إلى‬ ‫أحد‪ ،‬ولما ذكر غناه وحمده دلل عليهما بأن له ما في السموات ما في الرض وأنه الحفيظ لعباده‬ ‫المدبر لهم‪.‬‬

‫( ‪)1/552‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬أي‪ :‬خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا‪.‬‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫{وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫{ َوصّيْنَا} ‪ :‬عهدنا إليهم بذلك أي‪ :‬التقوى‪.‬‬ ‫{أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫الوكيل ‪ :‬من يفوض إليه المر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه‪.‬‬ ‫{ َثوَابُ الدّنْيَا} ‪ :‬جزاء العمل لها‪.‬‬ ‫ثواب الخرة ‪ :‬جزاء العمل لها‪ ،‬وهو الجنة‪.‬‬ ‫سمِيعا َبصِيرا} ‪ :‬سمعيا‪ :‬لقوال العباد بصيرا‪ :‬بأعمالهم وسيجزيهم بها خيرا أو شرا‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما وعد تبارك وتعالى كل من الزوجين المتفرقين بالغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في‬ ‫السموات وما في الرض‪ ،‬ولذا فهو قادر على إنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله‪ ،‬ثم واجه بالخطاب‬ ‫الكريم المة جمعا ومن بينها بني أبيرق فقال‪{ :‬وََلقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ} يريد من‬ ‫اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فل يقدموا على مشاقته ول يخرجوا عن‬

‫طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم‪ ،‬ثم أعلمهم أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك‬ ‫غير ضائره شيئا‪ ،‬لنه ذو الغنى والحمد‪ ،‬وكيف وله جميع ما في السموات وما في الرض من‬ ‫كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)131‬أما الية الثانية(‪ )132‬فقد كرر تعالى فيها العلن عن‬ ‫استحقاقه الحمد والغنى‪ ،‬وذلك لملكه جميع ما في السموات وما في الرض ولقيوميته عليهما‪،‬‬ ‫وكفى به تعالى حافظا ووكيلً‪ .‬وفي الية الثالثة(‪ )133‬يخبر تعالى أنه قادر على إذهاب كافة‬ ‫الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬إِنْ يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُمْ أَ ّيهَا النّاسُ‪1‬‬ ‫وَيَ ْأتِ بِآخَرِينَ} وذلك لعظيم قدرته وكفاية وكالته‪ .‬وفي الية الرابعة والخيرة في هذا السياق(‬ ‫‪ )134‬يقول تعالى مرغبا عباده فيما عنده من خير الدنيا والخرة من كان يريد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية تحمل تخويفا إيما تخويف لكل من يقصر في واجبه من أمير‪ ،‬ومأمور‪ ،‬وعالم‪ ،‬وجاهل‪،‬‬ ‫وغني‪ ،‬وفقير‪ ،‬إذ لكل واجبات يجب أن يقوم بها كل بحسب ما طولب به وفرض عليه‪ .‬فالمير‬ ‫عليه العدل‪ ،‬والعالم أن يعلم‪ ،‬والجاهل أن يتعلم‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫( ‪)1/553‬‬ ‫بعمله ثواب ‪ 1‬الدنيا { َفعِنْدَ اللّهِ َثوَابُ الدّنْيَا وَالخِ َرةِ} فلم يقصر العبد عمله على ثواب الدنيا‪ ،‬وهو‬ ‫يعلم أن ثواب الخرة عند ال أيضا‪ ،‬فليطلب الثوابين معا من ال تعالى‪ ،‬وذلك باليمان والتقوى‬ ‫سمِيعا‬ ‫والحسان‪ ،‬وسيجزيه تعالى بعمله ول ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته‪َ { ،‬وكَانَ اللّهُ َ‬ ‫َبصِيرا‪ ، }2‬ومن كان كذلك فل يخاف معه ضياع العمال‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الوصية بالتقوى‪ ،‬وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد اليمان وعمل الصالحات‪.‬‬ ‫‪ -2‬غنى ال تعالى عن سائر خلقه‪.‬‬ ‫‪ -3‬قدرة ال تعالى على إذهاب الناس كلهم والتيان بغيرهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الخلص في العمل ل تعالى وحرمة طلب الخرة بطلب الدنيا‪.‬‬ ‫لقْرَبِينَ إِنْ َيكُنْ‬ ‫ن وَا َ‬ ‫سكُمْ َأوِ ا ْلوَالِدَيْ ِ‬ ‫ش َهدَاءَ لِلّ ِه وََلوْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬ ‫سطِ ُ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ بِا ْلقِ ْ‬ ‫غَنِيّا َأوْ َفقِيرا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا فَل تَتّ ِبعُوا ا ْل َهوَى أَنْ َتعْدِلُوا وَإِنْ تَ ْلوُوا َأوْ ُتعْ ِرضُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا‬ ‫علَى َرسُولِهِ‬ ‫َت ْعمَلُونَ خَبِيرا(‪ )135‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ وَا ْلكِتَابِ الّذِي نَ ّزلَ َ‬ ‫ل ضَلل‬ ‫ضّ‬ ‫وَا ْلكِتَابِ الّذِي أَنْ َزلَ مِنْ قَ ْبلُ َومَنْ َي ْكفُرْ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفقَ ْد َ‬ ‫َبعِيدا(‪ )136‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا ُثمّ آمَنُوا‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه الية إرشاد عظيم للعباد‪ ،‬لقد علم تعالى أن النسان بحكم وجوده في هذه الحياة ورغبته‬ ‫في السعادة فيها‪ ،‬هو يعمل لها جهده غافلً عن الحياة الخرة التي هي أعظم لبقاءها وكبر شأنها‪،‬‬ ‫فلفت نظره إليها معلمًا إياه أنه لديه تعالى ثواب كل من الحياتين‪ ،‬فليطلب ذلك منه باليمان به‪،‬‬ ‫وطاعته كما طلب الدنيا بالعمال الموصلة إلى تحقيق السعادة فيها‪ ،‬وفوق ذلك أن ثواب العملين‬ ‫بديه تعالى ل بيد غيره‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا التذييل يربي ملكة مراقبة ال تعالى‪ ،‬إذ من علم أن ال سميع لقواله عليم بأعماله‪ .‬راقبه‬ ‫واتقاه‪.‬‬

‫( ‪)1/554‬‬ ‫ثُمّ َكفَرُوا ثُمّ ا ْزدَادُوا ُكفْرا لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم وَل لِ َيهْدِ َيهُمْ سَبِيلً(‪})137‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َقوّامِينَ} ‪ :‬جمع قوام‪ :‬وهو كثير القيام بالعدل‪.‬‬ ‫سطِ} ‪ :‬بالعدل وهو الستقامة والتسوية بين الخصوم‪.‬‬ ‫{بِا ْلقِ ْ‬ ‫ش َهدَاءَ} ‪ :‬جمع شهيد‪ :‬بمعنى شاهد‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫{ا ْل َهوَى} ‪ :‬ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه‪.‬‬ ‫{تَ ْلوُوا} ‪ :‬أي‪ :‬ألسنتكم باللفظ تحريفا له حتى ل تتم الشهادة على وجهها‪.‬‬ ‫{ ُتعْ ِرضُوا} ‪ :‬تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫شهَدَاءَ‬ ‫قوله تعالى في هذه الية(‪{ :)135‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ} أي‪ :‬بالعدل { ُ‬ ‫لِلّهِ} إذ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم ال ربكم شهداء له في الرض‬ ‫تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها‪ ،‬وبناء على هذا فأقيموا الشهادة ل ولو شهادتكم على أنفسكم ‪1‬‬ ‫أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فل يحملنكم غنى الغنى‬ ‫ول فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها‪ ،‬فال تعالى ربهمها أولى بهما وهو يعطي ويمنع‬ ‫بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا أنكم إن تلووا ‪ 2‬ألسنتكم بالشهادة تحريفا لها وخروجا بها‬ ‫عن أداء ما يترتب عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل‬ ‫مفعولها فإن ال بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الخرة أل‬ ‫فاحذروا‪.‬‬ ‫هذه الية الكريمة يدخل فيها دخولً أوليا من شهدوا لبناء أبيرق بالسلم والصلح كما هي‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬القاعدة العامة منذ عهد بعيد‪ :‬أن القريب ل يشهد لقريبه‪ ،‬ولكن يشهد عليه‪ .‬فل يشهد الب‬ ‫لبنه‪ ،‬ول البن لبيه‪ ،‬لوجود تهمة المحاباة للقرابة‪ ،‬وكذا ل يجوز شهادة على عدوه‪ ،‬وهذا مذهب‬ ‫عامة الفقهاء‪ ،‬وحتى الخادم في البيت ل يجوز شهادته لهل البيت‪ ،‬إذ قد يحابيهم لمنفعته‪.‬‬ ‫‪ 2‬وفسر ابن عباس‪{ :‬تلووا} بقوله‪ :‬هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي‬ ‫وإعراضه لحدهما على الخر‪ ،‬فللي على هذا هو مطل الكلم وجره حتى يفوت فصل القضاء‬ ‫وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه‪ ،‬ويشهد لهذا الحديث‪" :‬لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" ‪.‬‬ ‫ول تنافي بين تفسير ابن عباس وما ذكرناه في التفسير‪.‬‬

‫( ‪)1/555‬‬ ‫خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق ال المؤمنون في شهاداتهم‪.‬‬ ‫أما الية الثانية(‪{ :)136‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ} فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي‬ ‫سائر المؤمنين عامة‪ ،‬فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين‪ ،‬أما أهل‬ ‫الكتاب فهي دعوة لهم لليمان الصحيح‪ ،‬لن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم‪ ،‬فلذا دعوا إلى‬ ‫اليمان الصحيح فقيل لهم‪{ :‬آمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ} محمد {وَا ْلكِتَابِ الّذِي نَ ّزلَ عَلَى َرسُولِهِ} وهو‬ ‫القرآن الكريم‪{ ،‬وَا ْلكِتَابِ الّذِي أَنْ َزلَ مِنْ قَ ْبلُ} وهو التوراة والنجيل‪ ،‬لن اليهود ل يؤمنون‬ ‫بالنجيل‪ ،‬ثم أخبرهم محذرا لهم أن { َومَنْ َي ْكفُرْ بِاللّهِ َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِل ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفقَدْ‬ ‫ضلّ} طريق الهدى والسعادة {ضَلل َبعِيدا} ل ترجى هدايته‪ ،‬وعليه فسوف يهلك ويخسر خسرانا‬ ‫َ‬ ‫أبديا‪.‬‬ ‫ثم أخبرهم تعالى في الية بعد هذه(‪ )137‬مقررا الحكم بالخسران الذي تضمنته الية قبلها فقال‬ ‫عز وجل‪{ :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا ُثمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ‪ }1‬بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكتابه‬ ‫وبما جاء به {َلمْ َيكُنِ اللّهُ} أي‪ :‬لم يكن في سنة ال أن يغفر لهم ول ليهديهم سبيلً ينجون به‬ ‫ويسعدون فيه أل فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه‪ ،‬وإل فالخلود في نار جهنم لزم لهم ول‬ ‫يهلك على ال إل هالك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب العدل في القضاء والشهادة‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة شهادة الزور وحرمة التخلي ‪ 2‬عن الشهادة لمن تعينت عليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الستمرار على اليمان وتقويته حتى الموت عليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أركان اليمان وهي اليمان بال‪ ،‬وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ‪.3‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬في هذه الية‪ :‬أن الكافر إذا آمن غفر له كفره‪ ،‬وإذا ارتد يؤاخذ بكفره الول والخير سواء‪.‬‬ ‫وشاهده حديث مسلم‪ :‬إذ قال أناس‪ :‬يا رسول ال أتأخذنا بما عملنا في الجاهلية‪ .‬قال‪" :‬أما من‬ ‫أحسن منكم في السلم فل يؤاخذ بها‪ ،‬ومن أساء –كفر‪ -‬أخذ بعمله في الجاهلية والسلم " ‪.‬‬ ‫وفي رواية‪" :‬ومن أساء في السلم أخذ بالول والخير" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬أل أنبئكم بأكبر الكبائر" قلنا بلى يا‬ ‫رسول ال‪ .‬قال‪" :‬الشرك بال وعقوق الوالدين‪ ،‬وكان متكئا فجلس‪ ،‬وقال‪" :‬أل وشهادة الزور‪ ،‬أل‬ ‫وقول الزور" وما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت‪ .‬أو كما قال‪.‬‬ ‫شيْءٍ‬ ‫‪ 3‬وبقي ركن‪ :‬وهو القضاء والقدر‪ ،‬جاء ذكره في قوله تعالى من سورة القمر ‪{ :‬إِنّا ُكلّ َ‬ ‫خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ} ‪.‬‬

‫( ‪)1/556‬‬ ‫‪ -5‬المرتد يستتاب ثلثة أيام وإل قتل كفرا أخذا من قوله‪{ :‬ثُمّ آمَنُوا ثُمّ َكفَرُوا} ‪.‬‬ ‫{بَشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ بِأَنّ َل ُهمْ عَذَابا أَلِيما(‪ )138‬الّذِينَ يَتّخِذُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَيَبْ َتغُونَ‬ ‫س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ‬ ‫جمِيعا(‪َ )139‬وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ‬ ‫عِنْدَ ُهمُ ا ْلعِ ّزةَ فَإِنّ ا ْلعِ ّزةَ لِلّهِ َ‬ ‫ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَل َت ْقعُدُوا َم َعهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّنكُمْ إِذا مِثُْل ُهمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ‬ ‫جمِيعا(‪ )140‬الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ فَإِنْ كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ قَالُوا َألَمْ‬ ‫جهَنّمَ َ‬ ‫ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلكَافِرِينَ فِي َ‬ ‫حكُمُ بَيْ َنكُمْ‬ ‫حوِذْ عَلَ ْيكُمْ وَ َنمْنَ ْعكُمْ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَ ْ‬ ‫َنكُنْ َم َعكُ ْم وَإِنْ كَانَ لِ ْلكَافِرِينَ َنصِيبٌ قَالُوا أََلمْ نَسْ َت ْ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلً(‪})141‬‬ ‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَنْ يَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بَشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ} ‪ :‬البشارة‪ :‬الخير الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيرا كان أو شرا‪ .‬والمنافق‪:‬‬ ‫من يبطن الكفر ويظهر اليمان تقية ليحفظ دمه وماله‪.‬‬ ‫{َأوْلِيَاءَ} ‪ :‬يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين‪.‬‬ ‫{ا ْلعِ ّزةَ} ‪ :‬الغلبة والمنعة‪.‬‬ ‫{وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا} ‪ :‬يذكونها استخفافا بها وإنكارا وجحودا لها‪.‬‬ ‫{ َيخُوضُوا} ‪ :‬يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلم‪.‬‬ ‫{مِثُْلهُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬في الكفر والثم‪.‬‬ ‫{يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ} ‪ :‬ينتظرون متى يحصل لكم انهزام أو إنكسار‪ :‬فيعلنون عن كفرهم‪.‬‬ ‫{ َنصِيبٌ} ‪ :‬أي‪ :‬من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لن انتصارهم على المؤمنين نادر‪.‬‬

‫( ‪)1/557‬‬

‫حوِذْ عَلَ ْي ُكمْ} ‪ :‬أي‪ :‬نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم‪.‬‬ ‫{نَسْ َت ْ‬ ‫{سَبِيلً} ‪ :‬أي‪ :‬طريقا إلى إذللهم واستعبادهم والتسلط عليهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬بَشّرِ ا ْلمُنَافِقِينَ بِأَنّ َلهُمْ عَذَابا أَلِيما} يأمر ال تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم أن‬ ‫يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لن المخبر به يسوء وجوههم وهو العذاب الليم‪ ،‬وقد يكون في‬ ‫الدنيا بالذل والمهانة والقتل‪ ،‬وأما في الخرة فهو أسوأ العذاب وأشده‪ ،‬وهو لزم لهم لخبث نفوسهم‬ ‫خذُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ‪1‬‬ ‫وظلمة أرواحهم‪ ،‬ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها فقال‪{ :‬الّذِينَ يَتّ ِ‬ ‫مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} فيعطون محبتهم ونصرتهم وولءهم للكافرين ويمنعون ذلك المؤمنين وذلك‬ ‫لن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم يُنرها عمل السلم‪ ،‬ثم وبخهم تعالى ناعيا عليهم‬ ‫جهلهم فقال‪{ :‬أَيَبْ َتغُونَ عِنْ َدهُمُ ا ْلعِ ّزةَ} أي‪ :‬يطلبون العزة‪ ،‬أي‪ :‬المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم‬ ‫جمِيعا} فمن أعزه ال عز ومن أذله ذل‪ ،‬والعزة تطلب اليمان‬ ‫عموا فلم يعرفوا أن {ا ْلعِ ّزةَ لِلّهِ َ‬ ‫وصالح العمال ل بالكفر والشر والفساد‪ .‬هذا ما دلت عليه اليتان الولى(‪ )138‬والثانية(‪.)139‬‬ ‫أما الية الرابعة(‪ )140‬فإن ال تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة النعام‬ ‫حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات ال ودينه فقال تعالى‪{ :‬وَإِذَا‬ ‫رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْ ِر ِه وَِإمّا يُنْسِيَ ّنكَ‬ ‫الشّ ْيطَانُ فَل َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَى مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ} هذا الدب أخذ ال تعالى به رسوله والمؤمنين‪،‬‬ ‫وهم في مكة قبل الهجرة لن سورة النعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة‪ ،‬وبدأ النفاق وأصبح‬ ‫للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات ال تعالى استهزاء‬ ‫وسخرية ذكر ال تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال‪َ { :‬وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا‬ ‫س ِمعْتُمْ آيَاتِ‪ 2‬اللّهِ ُيكْفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَل َت ْقعُدُوا َم َعهُمْ‪ 3‬حَتّى‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل على حرمة موالة الكافرين وأنها من صفات المنافقين‪ ،‬ومن مظاهر الموالة‬ ‫المحرمة الستعانة بهم على أمور الدين وعلى أذية المسلمين‪ .‬وفي الحديث أن النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم لحق به مشرك ليقاتل معه‪ ،‬فقال له‪" :‬ارجع فإنا ل نستعين بمشرك" ‪ .‬في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 2‬أوقع السماع على اليات‪ ،‬والمراد سماع الكفر‪ ،‬والستهزاء بها‪ ،‬كما يقال‪ :‬سمعت فلنًا يلم‪،‬‬ ‫أي‪ :‬سمعت اللوم فيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬قوله‪{ :‬في حديث غيره} أي‪ :‬في غير الكفر والستهزاء باليات‪.‬‬

‫( ‪)1/558‬‬

‫يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّنكُمْ إِذا} أي‪ :‬إذا رضيتم بالجلوس معهم‪ ،‬وهم يخوضون في آيات ال‬ ‫جمِيعا}‬ ‫جهَنّمَ َ‬ ‫{مِثُْلهُمْ} في الثم والجريمة ‪ ،1‬والجزاء أيضا‪{ ،‬إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلكَافِرِينَ فِي َ‬ ‫فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم‪ ،‬وإن قلتم ل إذا فل تجالسوهم‪ .‬ثم ذكر تعالى وصفا آخر‬ ‫للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض لهم فقال‪{ :‬الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ} أي‪ :‬ينتظرون‬ ‫بكم الدوائر ويتحينون الفرص {فَإِنْ كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ} أي‪ :‬نصر وغنيمة قالوا‪{ :‬أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ}‬ ‫حوِذْ‪ 2‬عَلَ ْيكُمْ}‬ ‫فأشركونا في الغنيمة‪{ ،‬وَإِنْ كَانَ لِ ْلكَافِرِينَ َنصِيبٌ} في النصر‪ ،‬قالوا لهم‪َ{ :‬ألَمْ نَسْ َت ْ‬ ‫أي‪ :‬نستول عليكم {وَ َنمْ َن ْعكُمْ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} أن يقاتلوكم‪ ،‬فأعطونا مما غنمتم‪ ،‬وهكذا المنافقون‬ ‫يمسكون العصا من الوسط‪ ،‬فأي جانب غلب كانوا معه‪ .‬أل لعنة ال على المنافقين وما على‬ ‫المؤمنين إل الصبر لن مشكلة المنافقين عويصة الحل‪ ،‬فال يحكم بينهم يوم القيامة‪ .‬أما الكافرون‬ ‫الظاهرون فلن يجعل ال تعالى لهم على المؤمنين سبيلً ل لستئصالهم وإبادتهم‪ ،‬ول لذللهم‬ ‫والتسلط عليهم ما داموا مؤمنين صادقين في إيمانهم ‪ .3‬وهذا ما ختم ال تعالى به الية الكريمة إذ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلً} ‪.‬‬ ‫قال‪َ { :‬ولَنْ يَ ْ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين‪.‬‬ ‫‪ -2‬الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل‪ ،‬فالعزة‬ ‫ل ول تطلب إل منه تعالى باليمان واتباع منهجه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخوضون في آيات ال نقدا واستهزاء وسخرية‪.‬‬ ‫‪ -4‬الرضا بالكفر كفر‪ ،‬والرضا بالثم إثم‪.‬‬ ‫‪ -5‬تكفل ال تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فل يسلط عليهم أعداءه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل على حرمة الجلوس في مجالس المعاصي وغشيان الذنوب إلى أن ينكر ذلك على‬ ‫أصحابها؛ لن الرضا بالمعصية معيصية‪ ،‬بل الرضا بالكفر كفر بالجماع‪ .‬ويدخل في هذا مجالس‬ ‫أرباب الهواء وأصحاب البدع‪ ،‬والية محكمة ل نسخ فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل الستحواذ‪ :‬الحوط‪ ،‬يقال‪ :‬حاذه يحذه حوذًا‪ ،‬إذ أحاطه‪ ،‬فمعنى‪ :‬استحوذ‪ :‬أحاط واستولى‬ ‫وغلب‪.‬‬ ‫‪ 3‬يشهد لهذا حديث مسلم قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬إني سألت ربي أل يهلكها –أي‪ :‬أمته‪ -‬بسنة‬ ‫عامة وأل يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها‬ ‫حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا‪ ،‬ويسبي بعضهم بعضا" ‪ .‬وهو معنى قوله تعالى‪َ { :‬ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ‬ ‫ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِيكُمْ} ‪.‬‬

‫( ‪)1/559‬‬ ‫فيستأصلونهم‪ ،‬أو يذلونهم ويتحكمون فيهم‪.‬‬ ‫س وَل‬ ‫ع ُه ْم وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النّا َ‬ ‫{ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّهَ وَ ُهوَ خَادِ ُ‬ ‫يَ ْذكُرُونَ اللّهَ إِل قَلِيلً(‪ )142‬مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَِلكَ ل إِلَى َهؤُل ِء وَل ِإلَى َهؤُل ِء َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ فَلَنْ‬ ‫جدَ لَهُ سَبِيلً(‪})143‬‬ ‫تَ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ُيخَادِعُونَ اللّهَ} ‪ :‬بإظهارهم ما يحب وهو اليمان والطاعات‪ ،‬وإخفائهم الكفر والمعاصي‪.‬‬ ‫عهُمْ} ‪ :‬بالستر عليهم وعدم فضيحتهم‪ ،‬وبعدم إنزال العقوبة بهم‪.‬‬ ‫{وَ ُهوَ خَادِ ُ‬ ‫{يُرَاؤُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين‪.‬‬ ‫{مُذَ ْبذَبِينَ} ‪ :‬أي‪ :‬يترددون بين المؤمنين والكافرين فأي جانب عز كانوا معه‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون ال تعالى بإظهارهم اليمان به وبرسوله‬ ‫وهم غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه وال تعالى‬ ‫عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب ‪ 1‬المعد لهم‬ ‫عاجلً أو آجلً‪ ،‬كما أخبر تعالى إذا قاموا إلى أداء الصلة قاموا كسالى ‪ 2‬متباطئين؛ لنهم ل‬ ‫يؤمنون بالثواب الخروي‪ ،‬فلذا هم يراءون بالعمال الصالحة المؤمنين حتى ل يتهمونهم بالكفر‪،‬‬ ‫ل في الصلة ‪ 3‬وخارج الصلة‪،‬‬ ‫كما أنهم ل يذكرون ال تعالى إل ذكرا قلي ً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال الحسن البصري في الية‪ :‬يعطي كل إنسان من مؤمن ومنافق نورًا يوم القيامة‪ ،‬فيفرح‬ ‫المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى السراط طفأ نور كل منافق‪ .‬فسر به قوله تعالى‪:‬‬ ‫{وَهوَ خَادعهم} ‪ ،‬وما ذكرناه في التفسير أولى‪ ،‬وإن كان هذا حاصل لقوله تعالى‪{ :‬انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ‬ ‫مِنْ نُو ِركُمْ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬إن أثقل صلة على المنافقين العتمة –‬ ‫العشاء‪ -‬والصبح" ؛ لن الصلة تقعان في الظلم‪ ،‬ولن العتمة يكون المرء فيها تعبًا مرهقًا من‬ ‫أعمال النهار‪ ،‬وأما الصبح فإن غلبة النوم أشد على العبد‪ ،‬ولول الخوف من السيف ما شاهدوا‬ ‫الصلتين‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى مالك في الموطأ‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬تلك صلة المنافقين –ثلثًا‪ -‬يجلس‬ ‫أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعًا ل‬

‫يذكر ال فيها إل قليل "‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تجزئ صلة ل يقيم الرجل فيها صلبه‬ ‫في الركوع والسجود "‪ .‬صححه الترمذي‪.‬‬

‫( ‪)1/560‬‬ ‫وذلك لعدم إيمانهم بال تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر واليمان‬ ‫والمؤمنين والكافرين فل إلى اليمان والمؤمنين يسكنون‪ ،‬ول إلى الكفر والمنافقين يسكنون فهم‬ ‫في تردد وحسرة دائمون‪ ،‬وهذه حال من يضله ال فإن من يضلل ال ل يوجد لهدايته سبيل‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان صفات المنافقين ‪.1‬‬ ‫‪ -2‬قبح الرياء وذم المرائين‪.‬‬ ‫‪ -3‬ذم ترك الذكر والتقليل منه لمر ال تعالى بالكثار منه في قوله {يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا‬ ‫اللّهَ ِذكْرا كَثِيرا} ‪.‬‬ ‫‪ -4‬ذم الحيرة والتردد في المور كلها‪.‬‬ ‫جعَلُوا لِلّهِ عَلَ ْيكُمْ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَ ْ‬ ‫جدَ َلهُمْ َنصِيرا(‪ )145‬إِل الّذِينَ‬ ‫س َفلِ مِنَ النّا ِر وَلَنْ تَ ِ‬ ‫ك الَ ْ‬ ‫سُ ْلطَانا مُبِينا(‪ )144‬إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ فِي الدّ ْر ِ‬ ‫سوْفَ ُي ْؤتِ اللّهُ‬ ‫تَابُوا وََأصْلَحُوا وَاعْ َتصَمُوا بِاللّهِ وَأَخَْلصُوا دِي َنهُمْ ِللّهِ فَأُولَ ِئكَ مَعَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َ‬ ‫شكَرْتُ ْم وَآمَنْتُ ْم َوكَانَ اللّهُ شَاكِرا عَلِيما(‪})147‬‬ ‫عظِيما(‪ )146‬مَا َي ْفعَلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِنْ َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َأجْرا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سلْطَانا مُبِينا} ‪ :‬حجة واضحة لتعذيبكم‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وفي صحيح مسلم وصف بحال المنافقين في تذبذبهم وحيرتهم‪ ،‬إذ قال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫"مثل المنافق؛ كمثل الشاة العائرة –المترددة بين قطيعين من الغنم‪ -‬بين الغنمين تعير إلى هذه مرة‬ ‫وإلى هذه أخرى" ‪.‬‬

‫( ‪)1/561‬‬ ‫سفَلِ} ‪ :‬الدرك‪ :‬كالطابق‪ ،‬والدركة كالدرجة‪.‬‬ ‫ك الَ ْ‬ ‫{الدّ ْر ِ‬ ‫{وََأصْلَحُوا} ‪ :‬ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والعمال‪.‬‬ ‫صمُوا بِاللّهِ} ‪ :‬تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه‪.‬‬ ‫{وَاعْ َت َ‬

‫{وَأَخَْلصُوا دِي َنهُمْ لِلّهِ} ‪ :‬تخلوا عن النفاق والشرك‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في إرشاد ال تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الية(‪)144‬‬ ‫يناديهم تعالى بعنوان اليمان‪ ،‬وهو الروح الذي به الحياة وينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من‬ ‫خذُوا ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ومعنى‬ ‫دون المؤمنين فيقول‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّ ِ‬ ‫اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم‪ ،‬ولما كان المر ذا‬ ‫علَ ْيكُمْ سُ ْلطَانا مُبِينا‪ }1‬فيتخلى‬ ‫جعَلُوا لِلّهِ َ‬ ‫خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله‪{ :‬أَتُرِيدُونَ أَنْ َت ْ‬ ‫عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم‪ ،‬أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم‪ .‬ثم‬ ‫حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس‬ ‫س َفلِ مِنَ النّارِ} ‪ ،‬فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى‬ ‫الفتنة بينهم فقال‪{ :‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِي الدّ ْركِ‪ 2‬الَ ْ‬ ‫المنافقين يوم ‪ 3‬القيامة‪ ،‬ولن يوجد لهم ولي ول نصير أبدا ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب‬ ‫التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقوله لهم‪{ :‬إِل الّذِينَ تَابُوا} إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق‬ ‫صمُوا بِاللّهِ} ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين‪{ ،‬وَأَخَْلصُوا دِي َن ُهمْ‬ ‫اليمان { َوَأصْلَحُوا} أعمالهم {وَاعْ َت َ‬ ‫لِلّهِ} فلم يبقوا يراءون أحدا بأعمالهم‪ .‬فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع‬ ‫المؤمنين جزاؤهم واحد‪ ،‬وسوف يؤتي ال المؤمنين أجرا عظيما وهو كرامة الدنيا وسعادة‬ ‫الخرة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي في تفسيره‪{ :‬سلطانا مبينًا} أي‪ :‬في تعذيبه إياكم وبإقامة الحجة عليكم إذ قد نهاكم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الدرك بالسكان والفتح‪ ،‬والنار سبع دركات‪ ،‬يقال فيمن تعالى وارتفع‪ :‬درجة‪ ،‬وفيما سفل‬ ‫ونزل‪ :‬دركة‪ .‬والدركات‪ :‬هي كالتالي‪ :‬جهنم‪ ،‬ثم لظي‪ ،‬ثم الحطمة‪ ،‬ثم السعير‪ ،‬ثم سقر‪ ،‬ثم‬ ‫الجحيم‪ ،‬ثم الهاوية‪ .‬وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الولى‪ :‬جهنم‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي عن ابن عمر رضي ال عنهما أنه قال‪ :‬أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون‪ ،‬ومن‬ ‫كفر من أصحاب المائدة‪ ،‬وآل فرعون تصديق ذلك في كتاب ال تعالى‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ‬ ‫عذّبُهُ َأحَدا مِنَ‬ ‫س َفلِ مِنَ النّارِ} ‪ ،‬وقال في أصحاب المائدة‪{ :‬فَإِنّي أُعَذّ ُبهُ عَذَابا ل أُ َ‬ ‫ك الَ ْ‬ ‫فِي الدّ ْر ِ‬ ‫شدّ ا ْلعَذَابِ}‪.‬‬ ‫عوْنَ أَ َ‬ ‫ا ْلعَاَلمِينَ} ‪ ،‬وقال في آل فرعون‪{ :‬أَ ْدخِلُوا آلَ فِرْ َ‬

‫( ‪)1/562‬‬ ‫وأخيرا في الية(‪ )147‬يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب النتقام فإن عبده‬ ‫مهما جنى وأساء‪ ،‬وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر‪ .‬ل يعذبه أدنى عذاب إذا ل حاجة إلى‬ ‫شكَرْتُ ْم وَآمَنْ ُت ْم َوكَانَ اللّهُ‬ ‫تعذيب عباده فقال عز وجل هو يخاطب عباده {مَا َيفْ َعلُ اللّهُ ِب َعذَا ِبكُمْ إِنْ َ‬

‫شَاكِرا عَلِيما} ل يضيع المعروف عنده‪ .‬لقد شكر لبغي ‪ 1‬سفيها كلبا عطشان فغفر لها وأدخلها‬ ‫الجنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين‪.‬‬ ‫‪ -2‬إذا عصى المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط ال عليهم أعداءهم فساموهم الخسف‪.‬‬ ‫‪ -3‬التوبة تجب ما قبلها حتى إن التائب من ذنبه كمن ل ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل يعذب ال تعالى المؤمن الشاكر ل في الدنيا ول في الخرة‪ ،‬فاليمان والشكر أمان‬ ‫النسان‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا مقتبس من حديث الصحيحين‪ ،‬ونصه‪ :‬روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم قال‪" :‬بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج‪ ،‬فإذا‬ ‫هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش‪ ،‬فقال‪ :‬لقد بلغ مثل الذي بلغ بي‪ ،‬فمل خفه ثم أمسكه بفيه‬ ‫ثم رقى فسقى الكلب‪ ،‬فشكر ال له فغفر له" والشاهد في فضل الشكر واليمان‪.‬‬

‫( ‪)1/563‬‬ ‫الجزء السادس‬ ‫سمِيعا عَلِيما(‪ )148‬إِنْ تُبْدُوا خَيْرا َأوْ‬ ‫جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ إِل مَنْ ظُلِ َم َوكَانَ اللّهُ َ‬ ‫حبّ اللّهُ ا ْل َ‬ ‫{ل يُ ِ‬ ‫ع ُفوّا قَدِيرا(‪})149‬‬ ‫خفُوهُ َأوْ َت ْعفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫تُ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بِالسّوءِ‪ : }1‬ما يسوء إلى من قيل فيه أو فعل به‪.‬‬ ‫سمِيعا عَلِيما} ‪ :‬سميعا للقوال عليما بالعمال‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{إِنْ تُ ْبدُوا} ‪ :‬تظهروا ول تخفوا‪.‬‬ ‫{ َت ْعفُوا عَنْ سُوءٍ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تؤاخذوا به‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أنه ل يحب الجهر بالسوء‪ ،‬ولزم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره‬ ‫ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولية وهي الموافقة وعدم المخالفة‪ ،‬ولما حرم تعالى على‬ ‫عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب‪ ،‬استثنى المظلوم فإن له أن يجهر ‪ 2‬بمظلمته لدى‬ ‫جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ‪ 3‬ا ْل َقوْلِ إِل مَنْ‪ 4‬ظُلِمَ َوكَانَ‬ ‫حبّ اللّهُ ا ْل َ‬ ‫الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى‪{ :‬ل ُي ِ‬ ‫سمِيعا عَلِيما} أل فليتق فل يعصى بفعل السوء ول بقوله‪ .‬ثم انتدب عباده‬ ‫اللّهُ –"وما زال"‪َ -‬‬

‫المؤمنين إلى فعل الخير في السر أو العلن‪ ،‬وإلى العفو عن صاحب السوء فقال‪{ :‬إِنْ تُبْدُوا خَيْرا‬ ‫عفُوّا قَدِيرا} فسيكسب فاعل الخير خيرا أبداه أو أخفاه‬ ‫خفُوهُ َأوْ َت ْعفُوا عَنْ‪ 5‬سُوءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ‬ ‫َأوْ تُ ْ‬ ‫وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر‬ ‫ع ُفوّا قَدِيرا} ‪.‬‬ ‫ال تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه {كَانَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كاللسب والشتم والغيبة والنميمة‪ ،‬والدعاء بالشر‪ ،‬وألفاظ البذاءة وكلمات الفحش‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى ابن جرير عن مجاهد أن رجلً استضاف قومًا‪ ،‬فلم يضيفوه‪ ،‬أي‪ :‬طلب منهم أن يطعموه‬ ‫حبّ‪ }...‬إلخ‪ .‬ودلت على إن إطعام الضيف وإيواءه‬ ‫فاشتكاهم فعوتب عليه‪ ،‬فنزلت هذه الية‪ { :‬ل ُي ِ‬ ‫ليلة واجب‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ليلة الضيف واجبة"‪ .‬رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪{ 3‬مِنَ ا ْل َقوْلِ} في محل نصب على الحال‪.‬‬ ‫‪ 4‬في الية دليل على جواز الدعاء على الظالم ممن ظلمه‪ ،‬وجواز رد الشتم والسب بمثله إل أن‬ ‫ترك ذلك أفضل‪.‬‬ ‫‪ 5‬شاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪" :‬ما نقص مال من صدقة‪ ،‬ول‬ ‫زاد ال عبدًا بعفو إل عزا‪ ،‬ومن تواضع ل رفعه" ‪.‬‬

‫( ‪)1/564‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الجهر بالسوء والسر به كذلك فل يحل لمؤمن ول مؤمنة أن ينطق بما يسوء إلى‬ ‫القلوب والنفوس إل في حالة الشكوى وإظهار الظلم ل غير‪.‬‬ ‫‪ -2‬استحباب فعل الخير وسره كجهره ل ينقص أجره بالجهر ول يزيد بالسر‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء‪ ،‬ومن يعف يعف ال عنه‪.‬‬ ‫ض وَ َنكْفُرُ‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ‬ ‫حقّا وَأَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابا‬ ‫خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيلً(‪ )150‬أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ‬ ‫بِ َب ْعضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتّ ِ‬ ‫س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ َوكَانَ‬ ‫ُمهِينا(‪ )151‬وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِ ْنهُمْ أُولَ ِئكَ َ‬ ‫غفُورا رَحِيما(‪1 })152‬‬ ‫اللّهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَرُسُِلهِ} ‪ :‬الرسل‪ :‬جمع رسول وهم جم غفير‪ ،‬قيل‪ :‬عددهم ثلثمائة وأربعة عشر رسولً‪.2‬‬ ‫{سَبِيلً} ‪ :‬أي‪ :‬طريقا بين الكفر واليمان‪ ،‬وليس ثم إل طريق واحد وهو اليمان أو الكفر فمن‬ ‫آمن بكل الرسل فهو المؤمن‪ ،‬ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد‬

‫منهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المناسبة بين هذه اليات وما سبقها ينظر إليها من حيث أن القرآن كتاب هداية للبشرية‪ ،‬فلذا لما‬ ‫ذكر حال المنافقين مبينا لهم طريق توبتهم إن أرادوا ذلك ذكر بعض بيان حكم حرمة النطق‬ ‫بالسوء سرًا وجهرًا إل ما رخص فيه ذكر حال اليهود والنصارى مبينًا كفرهم‪ ،‬وما أعد لهم من‬ ‫العذاب إن أصروا على كفرهم وضللهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬جاء ذكر هذا العدد في حديث أبي ذر الغفاري‪ ،‬إذ قال فيه‪" :‬قلت يا رسول ال كم كانت‬ ‫النبياء‪ ،‬وكم كانوا المرسلون؟ قال‪ :‬كانت النبياء مائة ألف نبي‪ ،‬وأربعة وعشرون ألف نبي‪.‬‬ ‫وكان المرسلون ثلثمائة وثلثة عشر"‪ .‬والحديث ضعيف‪ .‬ولما لم يوجد غيره قال به أهل العلم‬ ‫قديمًا وحديثًا‪.‬‬

‫( ‪)1/565‬‬ ‫{وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا} ‪ :‬كما فرق اليهود فأمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صلى ال عليه وسلم وكما‬ ‫فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم فهم لذلك كفار‪.‬‬ ‫{ُأجُورَهُمْ} ‪ :‬أجر إيمانهم برسل ال وعملهم الصالح‪ ،‬وهو الجنة دار النعيم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى مقررا حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي ل مرية فيه‪ ،‬فيقول‪{ :‬إِنّ الّذِينَ‬ ‫َي ْكفُرُونَ بِاللّهِ‪ 1‬وَرُسُلِ ِه وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُلِ ِه وَ َيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْعضٍ وَ َنكْفُرُ بِ َب ْعضٍ‬ ‫خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ} أي‪ :‬بين الكفر بالبعض واليمان بالبعض سبيلً‪ ،‬أي‪ :‬طريقا‬ ‫وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتّ ِ‬ ‫يتوصلون به إلى مذهب باطل فاسد وهو التخير بين رسل ال فمن شاءوا اليمان به آمنوا‪ ،‬ومن‬ ‫لم يشاءوا اليمان به كفروا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفرا ل ريب فيه‪ ،‬ولهم بذلك العذاب‬ ‫حقّا‬ ‫المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ‬ ‫عذَابا ُمهِينا} ‪ 2‬فسجل عليهم الكفر ثلث مرات‪ :‬فالمرة الولى بقوله‪{ :‬إِنّ الّذِينَ‬ ‫وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫حقّا} ‪ .‬والثالثة‪ ،‬بقوله‪{ :‬وَأَعْ َتدْنَا‬ ‫َي ْكفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ} ‪ .‬والثانية‪ :‬بقوله‪{ :‬أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ‬ ‫لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابا ُمهِينا} حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الضمار لتسجيل الكفر عليهم‬ ‫وللشارة إلى علة الحكم‪ ،‬وهي الكفر‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى(‪ ،)151‬أما الية الثانية وهي قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ آمَنُوا ‪ 3‬بِاللّهِ‬ ‫وَرُسُلِهِ} فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للية قبلها‪ ،‬فالولى تضمنت الحكم بالكفر على اليهود‬ ‫والنصارى‪ ،‬وبالعذاب المهين لهم‪ ،‬والثانية تضمنت الحكم بإيمان المسلمين بالنعيم المقيم لهم وهو‬ ‫ما وعدهم به ربهم بقوله‪ :‬لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه ‪{.‬أُولَ ِئكَ‬

‫غفُورا َرحِيما} ‪ .‬فغفر‬ ‫س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ َوكَانَ اللّهُ َ‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نسبهم تعالى إلى الكفر به؛ لن إيمانهم بال تعالى باطل‪ ،‬وذلك أن اليهود يصفون ال تعالى‬ ‫بصفات المحدثين‪ ،‬ونسبوا إليه الولد‪ ،‬وكثير من صفات تنزه ال عنها‪ .‬وأن النصارى يكفيهم كفرًا‬ ‫قولهم‪ :‬أن ال ثالث ثلثة وهو الكفر بعينه‪ ،‬حسبهم بعد ذلك كفرهم بمحمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫وبما جاء به‪.‬‬ ‫‪ 2‬توعدوا بالعذاب المهين مقابل ما كانوا يرتكبونه من إهانة المؤمنين وإذللهم‪ ،‬والجزاء من جنس‬ ‫العمل‪ :‬و {حقًا} في الية‪ :‬منصوب على المصدرية‪ ،‬أي‪ :‬حقه لهم أيها السامع حقًا‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا أسلوب القرآن الكريم‪ ،‬فإنه بعد أن ذكر الكافرين حقًا‪ ،‬وبين جزاءهم ذكر المؤمنين حقًا‬ ‫وبين جزاءهم‪ ،‬وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي عليه مدار الهداية والصلح بإذن ال‬ ‫تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/566‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير كفر اليهود والنصارى لفساد عقيدتهم وبطلن أعمالهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر من كذب بال ورسوله ولو في شيء واحد مما وجب اليمان به‪.‬‬ ‫‪ -3‬بطلن إيمان من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض‪.‬‬ ‫‪ -4‬صحة الدين السلمي وبطلن اليهودية ‪ 1‬والنصرانية حيث أوعد تعالى اليهود والنصارى‬ ‫بالعذاب المهين‪ ،‬ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم‪.‬‬ ‫سمَاءِ َفقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ‬ ‫{يَسَْأُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابا مِنَ ال ّ‬ ‫ك وَآتَيْنَا‬ ‫جلَ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َفعَ َفوْنَا عَنْ ذَِل َ‬ ‫خذُوا ا ْلعِ ْ‬ ‫جهْ َرةً فََأخَذَ ْتهُمُ الصّاعِقَةُ ِبظُ ْل ِمهِمْ ُثمّ اتّ َ‬ ‫َ‬ ‫مُوسَى سُلْطَانا مُبِينا(‪ )153‬وَ َر َفعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِ ْم َوقُلْنَا َلهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدا َوقُلْنَا َلهُ ْم ل‬ ‫خذْنَا مِ ْنهُمْ مِيثَاقا غَلِيظا(‪})154‬‬ ‫ت وَأَ َ‬ ‫َتعْدُوا فِي السّ ْب ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫جهْ َرةً} ‪ :‬عيانا نشاهده ونراه بأبصارنا‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫عقَةُ} ‪ :‬صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها‪.‬‬ ‫{الصّا ِ‬ ‫{ ِبظُ ْل ِمهِمْ} ‪ :‬بسبب ظلمهم بطلبهم ما ل ينبغي‪.‬‬ ‫جلَ} ‪ :‬أي‪ :‬إلها فعبدوه‪.‬‬ ‫{اتّخَذُوا ا ْل ِع ْ‬ ‫{ َف َع َفوْنَا عَنْ ذَِلكَ} ‪ :‬أي‪ :‬لم يؤاخذهم به‪.‬‬

‫سلْطَانا مُبِينا} ‪ :‬حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وسائر الديان؛ كالمجوسية والصابئة وغيرهما من سائر الملل والنحل‪ ،‬إذا ل دين حق إل‬ ‫السلم‪ .‬قال السلم تعالى‪{ :‬إنّ الدِين عِندَ ال السلم} ‪.‬‬

‫( ‪)1/567‬‬ ‫{وَ َر َفعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ} ‪ :‬أي‪ :‬جبل الطور بسيناء‪.‬‬ ‫سجّدا} ‪ :‬أي‪ :‬راكعون متواضعين خاشعين ل شكرا لنعمه عليهم‪.‬‬ ‫{ادْخُلُوا الْبَابَ ُ‬ ‫{ل َتعْدُوا ‪ : }1‬ل تعتدوا‪ ،‬أي‪ :‬ل تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل إلى العمل فيه‪.‬‬ ‫{مِيثَاقا غَلِيظا} ‪ :‬عهدا مؤكدا باليمان‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما نعى الرب تعالى على أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود‬ ‫بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما كفر به‬ ‫اليهود أيضا ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا سألوك أن تنزل عليهم ‪ 2‬كتابا من السماء فل تعجب‬ ‫من قولهم‪ ،‬ول تحفل به إذ هذه سننهم وهذا دأبهم‪ ،‬فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا‪،‬‬ ‫فقالوا له‪ :‬أرنا ال جهرة‪ ،‬فأغضبوا ال تعالى‪ ،‬فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلها‬ ‫يعبدونه في غياب موسى عليهم‪ ،‬وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البينات حيث فلق ال لهم البحر‬ ‫وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا ال عنهم‪ ،‬وآتى نبيهم سلطانا مبينا‪ ،‬ولم يؤثر ذلك في‬ ‫طباعهم هذا ما تضمنته الية الولى(‪ )153‬وهي قوله تعالى‪{ :‬يَسَْأُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ‬ ‫عقَةُ بِظُ ْل ِمهِمْ‪4‬‬ ‫جهْ َرةً‪ 3‬فََأخَذَ ْتهُمُ الصّا ِ‬ ‫سمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ َ‬ ‫كِتَابا مِنَ ال ّ‬ ‫سلْطَانا مُبِينا} ‪ .‬أما‬ ‫ك وَآتَيْنَا مُوسَى ُ‬ ‫جلَ‪ 5‬مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َفعَ َفوْنَا عَنْ ذَِل َ‬ ‫ثُمّ اتّخَذُوا ا ْل ِع ْ‬ ‫الية الثانية(‪ )154‬فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم الطور تهديدا لهم ووعيدا وذلك ما امتنعوا أن‬ ‫يتعهدوا بالعمل بما في التوراة‪ ،‬فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقا غير أنهم‬ ‫نقضوه كما سيأتي الخبار بذلك‪ .‬هذا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ ورش‪{ :‬ل تعدّوا} بتشديد الدال وهو إدغام التاء في الدال لتقاربهما في المخرج‪ ،‬والصل‪:‬‬ ‫ل تعتدوا من العتداء الذي هو العدوان‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر القرطبي بغير إسناد أن اليهود سألت النبي صلى ال عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم‬ ‫يرونه‪ ،‬فينزل عليهم كتابًا مكتوبًا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة‪ ،‬كما أتى موسى باللواح‬ ‫تعنتًا منهم فأنزل ال تعالى الية‪.‬‬

‫جهْرَة} نعت لمصدر محذوف تقديره‪ :‬رؤية جهرة‪ ،‬ويصح أن يكون حال‪ ،‬أي‪ :‬مجاهرة بل‬ ‫‪َ{3‬‬ ‫حجاب ساتر‪.‬‬ ‫‪{ 4‬بِظلمهم} ‪ :‬الباء سببية‪ ،‬أي‪ :‬سبب ظلمهم‪ ،‬وليس المراد من ظلمهم طلب رؤية ال تعالى‪ .‬إذ‬ ‫هذا طلبه موسى أيضا‪ ،‬ولكن ظلمهم‪ :‬كونهم اشترطوا ليمانهم بموسى حتى يريهم ال جهرة‪.‬‬ ‫‪ 5‬العطف بثم هنا‪ :‬هو للتراخي الرتبي ل لفادة الترتيب الزمني‪ ،‬إذ اتخاذهم العجل كان قبل‬ ‫طلبهم رؤية ال جهرة‪ ،‬إذ المراد من البينات التي جاءتهم انفلق البحر‪ ،‬وقبله آية العصا‪ ،‬وغيرها‬ ‫من التسع آيات التي أتى ال موسى عليه السلم‪.‬‬

‫( ‪)1/568‬‬ ‫سجّدا}‬ ‫معنى قوله تعالى‪{ :‬وَ َر َفعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِمْ} ‪ ،‬وقوله تعالى‪َ { :‬وقُلْنَا َلهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ ُ‬ ‫كان هذا عندما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس فاتحا أوحى ال تعالى إليه أن يأمر‬ ‫بني إسرائيل أن يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكرا ل تعالى على نعمة الفتح فبدل أن‬ ‫يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفا على استاهم مكرا وعنادا والعياذ بال‪.‬‬ ‫وقوله‪َ { :‬وقُلْنَا َلهُمْ ل َتعْدُوا فِي السّ ْبتِ} أي‪ :‬ونهيناهم عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا‬ ‫عصيانا وتمردا‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وََأخَذْنَا مِ ْنهُمْ مِيثَاقا غَلِيظا} أي‪ :‬على أن يعملوا بما شرعنا لهم‬ ‫ل وتحريما في التوراة‪ ،‬ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا‪ ،‬إذا فل غرابة في سؤالهم إياك‬ ‫تحلي ً‬ ‫على رسالتك وليؤمنوا بك أ تنزل عليهم كتابا من السماء‪ .‬هذا معنى قوله تعالى في الية(‪)154‬‬ ‫{وَ َر َفعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِ ْم َوقُلْنَا َلهُمُ ا ْدخُلُوا الْبَابَ سُجّدا َوقُلْنَا َلهُمْ ل َتعْدُوا فِي السّ ْبتِ} أي‪ :‬ل‬ ‫خذْنَا مِ ْنهُمْ مِيثَاقا غَلِيظا‪.}1‬‬ ‫تتجاوزا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم {وَأَ َ‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تعنت أهل الكتاب إزاء الدعوة السلمية وكفرهم بها على علم إنها دعوة حق‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان قبائح اليهود وخبثهم الملزم لهم طوال حياتهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬نفض اليهود للعهود والمواثيق أصبح طبعا لهم ل يفارقهم أبدا‪ ،‬ولذا وجب عدم الثقة في‬ ‫عهودهم ومواثيقهم‪.‬‬ ‫ق َوقَوِْلهِمْ قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ طَ َبعَ اللّهُ‬ ‫حّ‬ ‫ضهِمْ مِيثَا َقهُ ْم َوكُفْرِ ِهمْ بِآيَاتِ اللّ ِه َوقَتِْلهِ ُم الَنْبِيَاءَ ِبغَيْرِ َ‬ ‫{فَ ِبمَا َن ْق ِ‬ ‫عظِيما(‪َ )156‬و َقوْلِهِمْ‬ ‫عَلَ ْيهَا ِب ُكفْرِهِمْ فَل ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيلً(‪ )155‬وَ ِب ُكفْرِهِ ْم َو َقوِْلهِمْ عَلَى مَرْيَمَ ُبهْتَانا َ‬ ‫إِنّا قَتَلْنَا ا ْلمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ َرسُولَ اللّ ِه َومَا قَتَلُوهُ َومَا صَلَبُوهُ وََلكِنْ شُبّهَ َل ُه ْم وَإِنّ الّذِينَ‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬كل ما ذكر في هذه اليات هو تسلية للنبي صلى ال عليه وسلم وتخفيفا على نفسه‪ ،‬مما يلقي‬ ‫من تعنت اليهود‪ ،‬وصلفهم‪ ،‬وقساوة قلوبهم ومعاملتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/569‬‬ ‫ن َومَا قَتَلُوهُ َيقِينا(‪َ )157‬بلْ َر َفعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‬ ‫شكّ مِنْهُ مَا َل ُهمْ بِهِ مِنْ عِ ْلمٍ إِل اتّبَاعَ الظّ ّ‬ ‫اخْتََلفُوا فِيهِ َلفِي َ‬ ‫حكِيما(‪ )158‬وَإِنْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ إِل لَ ُي ْؤمِنَنّ ِبهِ قَ ْبلَ َموْتِهِ وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ‬ ‫َوكَانَ اللّهُ عَزِيزا َ‬ ‫شهِيدا(‪})159‬‬ ‫عَلَ ْيهِمْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ضهِمْ} ‪ :‬الباء سببية‪ :‬أي‪ :‬فبسبب نقضهم ميثاقهم‪ ،‬والنقض‪ :‬الحل بعد البرام‪.‬‬ ‫{فَ ِبمَا َن ْق ِ‬ ‫{ ِبغَيْرِ حَقّ} ‪ :‬أي‪ :‬بدون موجب لقتلهم‪ ،‬ول موجب لقتل النبياء قط‪.‬‬ ‫{غُ ْلفٌ‪ : }1‬جمع أغلف‪ ،‬وهو ما عليه غلف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه‪.‬‬ ‫عظِيما} ‪ :‬البهتان‪ :‬الكذب الذي يحير من قبل فيه‪ ،‬والمراد هنا رميهم لها بالزنى‪.‬‬ ‫{ ُبهْتَانا َ‬ ‫{ َومَا صَلَبُوهُ} ‪ :‬أيك لم يصلبوه‪ ،‬والصلب شده على خشبة وقتله عليها‪.‬‬ ‫{وَإِنْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬أي‪ :‬وما من أحد من أهل الكتاب إل ليؤمن عند حضور الموت أن عيسى‬ ‫عبد ال ورسوله فما هو ابن زنى ول ساحر كما يقول اليهود‪ ،‬ول هو ال ول ابن ال كما يقول‬ ‫النصارى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سببا في لعنهم وذلهم‪ ،‬وغضب ال‬ ‫تعالى عليهم‪ ،‬وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في اليات الثلث الولى في هذا السياق وهي‪(:‬‬ ‫‪.)157-156-155‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬غُلْف} ‪ :‬قد يكون جمع غلف‪ ،‬ومعناه حينئذ‪ :‬أن قلوبهم أوعية للعلم فل حاجة بهم إلى علم‬ ‫سوى ما عندهم ول منافاة بين المعنيين في النهر وأيسر التفاسير‪.‬‬

‫( ‪)1/570‬‬ ‫‪ -1‬نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بها في التوراة‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفرهم بآيات ال والمنزلة على عبد ال عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬قتلهم النبياء؛ كزكريا ويحي وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة‪.‬‬

‫‪ -4‬قولهم قلوبنا غلف حتى ل يقبلوا دعوة السلم‪ ،‬وما أراد الرسول إعلمهم به وكذبهم ال‬ ‫تعالى في هذه الدعوى‪ ،‬وأخبر أن ل أغطية على قلوبهم‪ ،‬ولكن طبع ال تعالى عليها بسبب ذنوبهم‬ ‫ل وعملً‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى‪ ،‬وهي‬ ‫فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقادا وقو ً‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬فَ ِبمَا َن ْقضِهِمْ مِيثَا َقهُمْ} والباء سببية والميم صلة والصل‪ ،‬فبنقضهم‪ ،‬أي‪ :‬بسبب نقضهم‬ ‫وكفرهم بآيات ال وقتلهم النبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع ال عليها بكفرهم‪{ .‬فَل‬ ‫ُي ْؤمِنُونَ إِل قَلِيلً} أي‪ :‬إيمانا قليلً؛ كليمانهم بموسى وهارون والتوراة والزبور مثلً‪.‬‬ ‫‪ -5‬كفرهم‪ :‬أي‪ :‬بعيسى ومحمد صلى ال عليه وسلم أيضا‪.‬‬ ‫‪ -6‬قولهم على مريم بهتانا عظيما‪ 1‬حيث رموها بالفاحشة‪ ،‬وقالوا عيسى ابن مريم ابن زنى لعنهم‬ ‫ال‪.‬‬ ‫‪ -7‬قولهم متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلم وهو رسول ال‪،‬‬ ‫وأكذبهم ال تعالى في ذلك بقوله‪َ { :‬ومَا قَتَلُوهُ َومَا صَلَبُو ُه وََلكِنْ شُبّهَ َل ُهمْ} أي‪ :‬برحل آخر ظنوه أنه‬ ‫هو فصلبوه وقتلوه‪ ،‬وأما المسيح فقد رفعه ال تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في‬ ‫حكِيما} أي‪ :‬غالبا على أمره حكيما في فعله‬ ‫الية (‪َ { )158‬بلْ َر َفعَهُ اللّهُ إِلَيْ ِه َوكَانَ اللّهُ عَزِيزا َ‬ ‫وتدبيره‪.‬‬ ‫ن َومَا قَتَلُوهُ‬ ‫شكّ مِ ْنهُ مَا َلهُمْ ِبهِ مِنْ عِلْمٍ إِل اتّبَاعَ الظّ ّ‬ ‫وأما قوله تعالى‪{ :‬وَإِنّ الّذِينَ اخْتََلفُوا فِيهِ َلفِي َ‬ ‫َيقِينا} ‪ ،‬هذا إخبار من ال تعالى بحقيقة أخرى وهي أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه‬ ‫ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلء اختلفوا ‪ 2‬في هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى‬ ‫هو عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبدا بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو‬ ‫المسيح عليه السلم‪ ،‬ولذا قال تعالى‪َ { :‬ومَا قَتَلُوهُ‪َ 3‬يقِينا‪َ ،‬بلْ َر َفعَهُ اللّهُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البهتان العظيم الذي قالوه على مريم‪ ،‬هو‪ :‬رميهم لها بالزنى مع يوسف النجار‪ ،‬وهو عبد‬ ‫صالح‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر القرطبي للختلف عدة وجوه‪ ،‬كلها سائغة‪ ،‬وما ذكرناه في التفسير أولى‪ ،‬من بين الوجوه‬ ‫قولهم‪ :‬إن كان صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬ما زال الخلف قائمًا إلى اليوم‪ ،‬فالجمهور منهم يقولون‪ :‬صلب عيسى وقتل وبعد ثلثة أيام‬ ‫رفع‪ .‬وخلف الجمهور يقولون‪ :‬لم يصلب عيسى ولم يقتل‪.‬‬

‫( ‪)1/571‬‬ ‫حكِيما}‪.1‬‬ ‫إِلَيْ ِه َوكَانَ اللّهُ عَزِيزا َ‬ ‫أما الية الخيرة في هذا السياق(‪ )159‬فإن ال تعالى أخبر أنه ما من يهودي ول نصراني‬

‫يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إل آمن بأن عيسى عبد ال ورسوله‪ ،‬وليس هو ابن‬ ‫زنى ول ساحر كما يعتقد اليهود‪ ،‬ول هو ال ول ابن ال كما يعتقد النصارى‪ ،‬ولكن هذا اليمان‬ ‫ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ‬ ‫ل نيفع صاحبه لن حصل عند معاينة الموت قال تعالى‪{ :‬وَلَيْ َ‬ ‫حضَرَ َأحَدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ النَ} هذا ما دلت عليه الية الكريمة‪َ { :‬وإِنْ مِنْ أَ ْهلِ‬ ‫حَتّى إِذَا َ‬ ‫شهِيدا} أي‪ :‬يشهد على كفرهم به وبما‬ ‫ا ْلكِتَابِ إِل لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِ ِه وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ عَلَ ْيهِمْ َ‬ ‫جاءهم به‪ ،‬ووصاهم عليه من اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم ودين الحق الذي جاء به‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان جرائم اليهود‪.‬‬ ‫‪ -2‬بطلن اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل‪ ،‬أما اليهود فإنهم وإن لم يقتلوا عيسى فهم‬ ‫مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير رفع عيسى عليه السلم إلى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -4‬اليمان؛ كالتوبة عند معاينة ملك الموت ل تنفع ول تقبل وجودها كعدمها‪.‬‬ ‫حّلتْ َل ُه ْم وَ ِبصَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا(‪)160‬‬ ‫{فَ ِبظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُ ِ‬ ‫عذَابا أَلِيما(‪)161‬‬ ‫طلِ وَأَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ َ‬ ‫وَأَخْ ِذهِمُ الرّبا َوقَدْ ُنهُوا عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ‬ ‫ك َومَا‬ ‫سخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ مِ ْنهُ ْم وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ‬ ‫َلكِنِ الرّا ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عزة ال يتنافى معها تسلط اليهود على عبده ورسوله عليسى وقتلهم له وحكمته تتجلى في رفعه‬ ‫إليه وإنزاله آخر أيام الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)1/572‬‬ ‫أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ وَا ْلمُقِيمِينَ الصّل َة وَا ْل ُمؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ أُولَ ِئكَ سَ ُنؤْتِيهِمْ‬ ‫أَجْرا عَظِيما(‪})162‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{فَ ِبظُلْمٍ} ‪ :‬الباء سببية‪ ،‬أي‪ :‬فبسبب ظلمهم‪.‬‬ ‫{هَادُوا} ‪ :‬اليهود إذ قالوا‪ :‬أنا هدنا إليك‪.‬‬ ‫{طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ َلهُمْ} ‪ :‬هي كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم‪.‬‬ ‫خذِهِمُ الرّبا} ‪ :‬قبوله والتعامل به وأكله‪.‬‬ ‫{وَأَ ْ‬ ‫{الرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ} ‪ :‬أصحاب القدم الثابتة في معرفة ال وشرائعه ممن علومهم راسخة في‬ ‫نفوسهم ليست لنيات بل هي يقينات‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم‪ ،‬ففي‬ ‫الية الولى(‪ )160‬سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب ال تعالى حيث حرم عليهم‬ ‫طيبات كثيرة كانت حللً لهم‪ ،‬كما سجل عليهم أقبح الجرائم‪ ،‬وهي صدهم أنفسهم وصد غيرهم‬ ‫عن سبيل ال تعالى‪ ،‬وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلم ال‪ ،‬وقبولهم الرشوة في إبطال الحكام‬ ‫الشرعية‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى‪ ،‬أما الثانية(‪ )161‬فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على‬ ‫اليهود وهي أولً استباحتهم للربا ‪ 1‬وهو حرام‪ ،‬وقد نهوا عنه‪ ،‬وثانيا أكلهم أموال الناس بالباطل؛‬ ‫كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها‪ .‬وأما قوله تعالى في ختام الية‪{ :‬وَأَعْتَدْنَا‬ ‫لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما} فهو زيادة على عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم ومات على كفره‬ ‫عذابا أليما موجعا يعذبون به يوم القيامة‪ .‬وأما الية الثالثة(‪ )162‬فقد نزلت في عبد ال بن سلم‬ ‫وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى؛ كالستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات‬ ‫وهي صفات جرائم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أورد القرطبي هنا سؤالً وهو مع علمنا‪ :‬أن اليهود يأكلون الربا والسحت وجميع ما حرم ال‬ ‫تعالى‪ ،‬فهل يجوز التعامل معهم؟ وأجاب بالجواز استدللً بقول ال تعالى‪{ :‬وطَعامْ الذين أُوتوا‬ ‫الكِتَاب حلً َلكُمْ} وبتعامل الرسول صلى ال عليه وسلم معهم‪ ،‬فقد رهن درعه عند يهودي‪.‬‬

‫( ‪)1/573‬‬ ‫اكتسبوها‪ ،‬وعظائم من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم‪ .‬إن الراسخين ‪ 1‬في العلم الثابتين‬ ‫فيه الذين علومهم الشرعية يقينية ل ظنية هؤلء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في‬ ‫دار السلم شأن المؤمنين من هذه المة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك‪،‬‬ ‫وخاصة المقيمين ‪ 2‬للصلة‪ ،‬وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بال واليوم الخر هؤلء جميعا‬ ‫وعدهم ال تعالى بالجر العظيم الذي ل يقادر قدره ول يعرف كنهه فقال تعالى‪{ :‬أُولَ ِئكَ سَ ُنؤْتِيهِمْ‬ ‫أَجْرا عَظِيما} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬المعاصي تورث الحرمان من خير الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة الصد عن السلم ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الربا وأنه موجب للعقوبة في الدنيا والخرة ‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة أكل أموال الناس بالباطل؛ كالسرقة والغش والرشوة‪.‬‬

‫‪ -5‬من أهل الكتاب صلحاء ربانيون وذلك؛ كعبد ال بن سلم وآخرين‪.‬‬ ‫‪ -6‬الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلت والوقوع في المهلكات‪.‬‬ ‫‪ -7‬فضل إقام الصلة لنصب والمقيمي الصلة في الية على المدح والتخصيص‪.‬‬ ‫سحَاقَ‬ ‫ل وَإِ ْ‬ ‫سمَاعِي َ‬ ‫ح وَالنّبِيّينَ مِنْ َبعْ ِد ِه وََأوْحَيْنَا ِإلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬ ‫{إِنّا َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ َكمَا َأوْحَيْنَا إِلَى نُو ٍ‬ ‫ن وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورا(‪ )163‬وَرُسُلً َقدْ‬ ‫ن وَسُلَ ْيمَا َ‬ ‫س وَهَارُو َ‬ ‫وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُ َ‬ ‫صصْنَاهُمْ عَلَ ْيكَ‬ ‫َق َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أنه لما نزلت آية‪{ :‬فَبِظُ ْلمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا} الية‪ .‬قالت يهود منكرة ما أخبر به‬ ‫تعالى عنهم‪ :‬أن هذه الشياء كانت حراما في الصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا‪ ،‬فنزل‪:‬‬ ‫ك َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ} ‪ ،‬وهم‪ :‬عبد‬ ‫{َلكِنِ الرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ مِ ْن ُه ْم وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ‬ ‫ال بن سلم‪ ،‬وأحبار اليهود المسلمون‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأه الجمهور بنصب المقيمين على المدح‪ ،‬أي‪ :‬وأمدح المقيمين‪ ،‬أو أعني المقيمين‪ .‬والنصب‬ ‫على المدح جائز في كلم فصحاء العرب وبلغائهم‪ ،‬ومن ذلك قول شاعرهم‪:‬‬ ‫وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ‪ ...‬إل نميرًا أطاعت أمر غاويها‬

‫( ‪)1/574‬‬ ‫ن َومُنْذِرِينَ لِئَل‬ ‫ك َوكَلّمَ اللّهُ مُوسَى َتكْلِيما(‪ُ )164‬رسُلً مُبَشّرِي َ‬ ‫صهُمْ عَلَ ْي َ‬ ‫ص ْ‬ ‫مِنْ قَ ْبلُ وَرُسُلً لَمْ َن ْق ُ‬ ‫شهَدُ ِبمَا أَنْ َزلَ إِلَ ْيكَ‬ ‫حكِيما(‪َ )165‬لكِنِ اللّهُ يَ ْ‬ ‫ل َوكَانَ اللّهُ عَزِيزا َ‬ ‫سِ‬ ‫َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ‬ ‫شهِيدا(‪})166‬‬ ‫ن َوكَفَى بِاللّهِ َ‬ ‫شهَدُو َ‬ ‫أَنْزَلَهُ ِبعِ ْلمِهِ وَا ْلمَل ِئكَةُ يَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{إِنّا ‪َ 1‬أوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ} ‪ :‬الوحي ‪ :2‬العلم السريع الخفي‪ ،‬ووحي ال تعالى إلى أنبيائه‪ :‬إعلمهم بما‬ ‫يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره‪.‬‬ ‫{وَالَسْبَاطِ} ‪ :‬أولد يعقوب عليه السلم‪.‬‬ ‫{زَبُورا‪ : }3‬الزبور‪ :‬أحد الكتب اللهية أنزله على نبيه داود عليه السلم‪.‬‬ ‫صصْنَاهُمْ عَلَ ْيكَ} ‪ :‬ورد منهم في سورة النعام ثمانية عشر رسولً وسبعة ذكروا في سور‬ ‫{قَدْ َق َ‬ ‫أخرى وهم‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو‪ ،‬وشعيب‪ ،‬وصالح‪ ،‬وذو الكفل‪ ،‬وإدريس‪ ،‬وآدم‪.‬‬ ‫{حُجّةٌ} ‪ :‬عذر يعتذر به إلى ربهم عز وجل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫روى أن اليهود لما سمعوا ما أنزل ال تعالى فيهم في الية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا‪،‬‬ ‫وقالوا لم يوح ال تعالى إلى غير موسى فرد ال تعالى قولهم بقوله‪{ :‬إِنّا َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ َكمَا َأ ْوحَيْنَا‬

‫إِلَى نُوحٍ‪ 4‬وَالنّبِيّينَ مِنْ َبعْ ِدهِ} فذكر عددا من النبياء‪ ،‬ثم قال‪ :‬ورسلً‪ ،‬أي‪ :‬وأرسلنا رسلً قد‬ ‫قصصناهم عليك من قبل‪ ،‬أي‪ :‬قص عليه أسماءهم وبعض ‪ 5‬ما جرى لهم مع أممهم وهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا التوقيت بأن تطلبه إنكار اليهود الوحي إلى نبينا صلى ال عليه وسلم كما تطلبه بهذا الخبر‬ ‫العظيم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الوحي‪ :‬مصدر وحى يحي وحيًا؛ كرمى يرمي رميًا إليه بكذا أعلمه‪ ،‬وأوحى يوحي إيحاء إليه‬ ‫بكذا أعلمه به بطريق خفي‪.‬‬ ‫‪ 3‬في قوله تعالى‪{ :‬وآتينا داود زبورا} وهي جملة معطوفة على جملة‪{ :‬إنّا َأوْحَينَا إِليِك} إشارة‬ ‫إلى أن الزبور كتاب‪ ،‬وهو كذلك‪ .‬إذ هو أحد الكتب الربعة‪ ،‬ولو لم يرد ذلك لعطف اسمه على‬ ‫من سبقه فقط‪ ،‬كأن يقول‪ :‬وهارن وسليمان وداود‪.‬‬ ‫‪ 4‬قدم نوح في الذكر باعتباره أول رسول حارب الشرك‪ ،‬إذ لم يظهر الشرك على عهد من سبقه؛‬ ‫كإدريس وشيث من قبله‪ ،‬فلما ظهر الشرك أرسل ال تعالى نوحًا عليه السلم‪ ،‬وهو نوح بن لمك‬ ‫بن متوشلخ‪ ،‬بن أخنوخ‪.‬‬ ‫‪ 5‬قوله‪َ { :‬قصَصناهم عَليك مِنْ قَبْل} يعني في القرآن الكريم‪ ،‬وهم‪ :‬هود وصالح وشعيب ويحي‬ ‫وإلياس واليسع ولوط‪.‬‬

‫( ‪)1/575‬‬ ‫يبلغون دعوة ربهم‪ ،‬وأرسل رسلً لم يقصصهم عليه‪ ،‬وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليما‪ ،‬فأسمعه‬ ‫كلما بل واسطة‪ ،‬فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل ال على بشر من شيء‪ ،‬وقد‬ ‫أرسلهم تعالى رسلً مبشرين من آمن وعمل صالحا بالجنة‪ ،‬ومنذرين من كفر وأشرك وعمل سوء‬ ‫بالنار وما فعل ذلك إل لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى ل يقولوا ربنا ما أرسلت إلينا رسولً‬ ‫سلِ} أي‪:‬‬ ‫حجّةٌ َب ْعدَ الرّ ُ‬ ‫ن َومُنْذِرِينَ لِئَل َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ ُ‬ ‫هذا معنى قوله تعالى‪ُ { :‬رسُلً مُبَشّرِي َ‬ ‫حكِيما} في أفعاله وتدبيره‪ ،‬هذا‬ ‫بعد إرسالهم‪َ { ،‬وكَانَ اللّهُ عَزِيزا} غالبا ل يمانع في شيء أراده { َ‬ ‫بعض ما تضمنته اليات الثلث(‪ ،)165-164-163‬أما الية الرابعة(‪ )166‬وهي قوله تعالى‪:‬‬ ‫شهِيدا} ‪.‬‬ ‫ن َو َكفَى بِاللّهِ َ‬ ‫شهَدُو َ‬ ‫ش َهدُ ِبمَا أَنْ َزلَ إِلَ ْيكَ أَنْزَلَهُ ِبعِ ْل ِم ِه وَا ْلمَل ِئكَةُ يَ ْ‬ ‫{َلكِنِ اللّهُ يَ ْ‬ ‫فقد روي أن يهودا جمعهم النبي صلى ال عليه وسلم وأبلغهم أنه رسول ال صدقا وحقا ودعاهم‬ ‫إلى اليمان وبما جاء به من الدين الحق فقالوا‪ :‬من يشهد لك بالرسالة إذ كانت النبياء توجد في‬ ‫ش َهدُ ِبمَا‬ ‫وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض‪ ،‬وأنت من يشهد لك فأنزل ال تعالى قوله‪َ{ :‬لكِنِ‪ 1‬اللّهُ يَ ْ‬ ‫أَنْ َزلَ إِلَ ْيكَ} يريد إنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة‪ ،‬أنزله بعلمه بأنك أهل‬ ‫للصطفاء والرسال‪ ،‬وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها‪ ،‬إذ حوى أعظم تشريع‬

‫تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي بمثله‪ ،‬أليس هذا كافيا في الشهادة لك بالنبوة والرسالة‪ ،‬بلى‪،‬‬ ‫شهِيدا} فل تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون‪.‬‬ ‫والملئكة أيضا يشهدون { َو َكفَى بِاللّهِ َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ الوحي اللهي‪.‬‬ ‫‪ -2‬أول الرسل ‪ 2‬نوح عليه السلم وآخرهم محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬توضيح هذا الستدراك الذي هو رفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه هو إذا رفض اليهود الشهادة لك‬ ‫بالرسالة وطالبوا من يشهد لك‪ .‬فال يشهد لك بما أنزله إليك‪ ،‬والملئكة يشهدون كذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر صاحب تفسير التحرير والتنوير‪ :‬المام محمد الطاهر بن عاشور رحمه ال تعالى‪ ،‬عند‬ ‫تفسير هذه الية تاريخ المذكورين من الرسل نقلً عن أهل الكتاب قطعًا فللطلع ل غير‪ .‬نذكر‬ ‫ذلك كما ذكره‪ ،‬وأما علم صحته فهو إلى ال تعالى ل غير‪ :‬نوح عليه السلم ولد سنة ‪ 3974‬قبل‬ ‫الهجرة النبوية‪ .‬وإبراهيم توفى ببلدة الخليل سنة ‪ 2719‬قبل الهجرة‪ .‬وإسماعيل توفى بمكة سنة‬ ‫‪ 2676‬قبل الهجرة تقريبا‪ .‬وإسحاق بن إبراهيم توفى سنة ‪ 2613‬قبل الهجرة‪ .‬ويعقوب إسرائيل‬ ‫توفى سنة ‪ 2586‬قبل الهجرة‪ .‬وعيسى بن مريم ولد سنة ‪ 622‬قبل الهجرة‪ ،‬ورفع إلى السماء‬ ‫قبلها سنة ‪ .589‬وأيوب كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح‪.‬‬ ‫وهارون توفى سنة ‪ 1972‬قبل الهجرة‪ .‬وداود توفى سنة ‪ 1626‬قبل الهجرة‪ .‬وسليمان توفى سنة‬ ‫‪ 1597‬قبل الهجرة‪.‬‬

‫( ‪)1/576‬‬ ‫‪ -3‬إثبات صفة الكلم ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان الحكمة في إرسال الرسل‪ ،‬وهي الحجة على الناس يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -5‬شهادة الرب تبارك وتعالى والملئكة بنبوة خاتم النبياء ورسالته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -6‬ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم بالنبوة والرسالة‪.‬‬ ‫{إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َق ْد ضَلّوا ضَللً َبعِيدا(‪ )167‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَظََلمُوا َلمْ‬ ‫جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا َوكَانَ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ‬ ‫َيكُنِ اللّهُ لِ َيغْفِرَ َلهُمْ وَل لِ َيهْدِ َي ُهمْ طَرِيقا(‪ )168‬إِل طَرِيقَ َ‬ ‫يَسِيرا(‪ )169‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُمُ الرّسُولُ بِا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ فَآمِنُوا خَيْرا َل ُك ْم وَإِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ‬ ‫حكِيما(‪})170‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬ ‫مَا فِي ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫{ َكفَرُوا َوصَدّوا} ‪ :‬كفروا‪ :‬جحدوا بنبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وصدوا‪ :‬صرفوا الناس عن‬ ‫اليمان به صلى ال عليه وسلم بما يبذرون من بذور الشك‪.‬‬ ‫{ َكفَرُوا َوظََلمُوا} ‪ :‬جحدوا نبوة محمد صلى ال عليه وسلم وظلموا ببقائهم على جحودهم بغيا منهم‬ ‫وحسدا للعرب أن يكون فيهم رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور‪.‬‬ ‫{الرّسُولُ} ‪ :‬هو محمد صلى ال عليه وسلم الكامل في رسالته الصادق في دعوته‪.‬‬ ‫{فَآمِنُوا خَيْرا َلكُمْ} ‪ :‬أي يكون إيمانكم خيرا لكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد أن أقام ال تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صلى ال عليه وسلم بشهادته له بالرسالة‬ ‫وشهادة ملئكته‪ ،‬وشهادة القرآن لما فيه من العلوم والمعارف اللهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين‬

‫( ‪)1/577‬‬ ‫كفروا وصدوا عن سبيل ‪ 1‬ال وهم اليهود ‪ 2‬قد ضلوا ضللً بعيدا قد يتعذر معه الرجوع إلى‬ ‫الحق‪ ،‬وهذا ما تضمنته الية الولى(‪ )167‬كما أخبر في الية الثانية(‪ )168‬أن الذين كفروا‬ ‫وظلموا هم أيضا اليهود لم يكن ال ليغفر لهم ول ليهديهم طريقا‪ ،‬اللهم إل طريق جهنم‪ ،‬وهذا قائم‬ ‫على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى الكفر الظلم لم يبق له‬ ‫أي استعداد لقبول الهداية اللهية‪ ،‬لم يبق له من طريق يرجى له سلوكه إل طريق جهنم يخلد فيها‬ ‫خلودا أبديا‪ ،‬وقوله تعالى‪َ { :‬وكَانَ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرا} في ختام الية يقرر فيه أن دخول أصحاب‬ ‫هذه الصفات من اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالمر الصعب على ال المتعذر عليه فعله بل‬ ‫هو من السهل اليسير‪ ،‬أما الية الخيرة(‪ )170‬فهي تتضمن إعلنا إليها موجها إلى الناس كافة‬ ‫مشركين وأهل كتاب‪{ :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَا َءكُمُ الرّسُولُ‪ }3‬الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من‬ ‫ربكم فآمنوا بخ خيرا لكم‪ ،‬وإن أبيتم وأعرضتم إيثارا للشر على الخير والضلل على الهدى‬ ‫فاعلموا أن ل ما في السموات ‪ 4‬والرض خلقا وملكا وتصرفا وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر‬ ‫والضلل جهنم وساءت مصيرا فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع‪ ،‬وبمن أعرض فكفر‬ ‫وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللئق به‪ .‬فل يجزي المحسن بالسوء‪ ،‬ول المسيء‬ ‫بالحسان‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬شر الكفر ما كان مع الصد عن سبيل اله والظلم‪ ،‬وهذا كفر اليهود‪ ،‬العياذ بال‪.‬‬ ‫‪ -2‬سنة ال تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلل‪ ،‬وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة‬ ‫فيموت على ذلك ويهلك‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬صدوا عن سبيل ال بقولهم‪ :‬إنا ل نجد صفة محمد في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود‪،‬‬ ‫وأن في التوراة أن شرع موسى ل ينسخ‪.‬‬ ‫ل ويعم كل من كفر بال ورسوله وصد عن سبيله الذي هو السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬اللفظ يتناول اليهود أو ً‬ ‫‪ 3‬التعريف في الرسول للعهد‪ ،‬إذ هو معهود بين المخاطبين معروف لهم‪ ،‬وكونه للعهد ل ينافي ما‬ ‫ذكر في التفسير من أنه الكامل في رسالته؛ كأنه فرد فيها ل نظير له‪.‬‬ ‫‪ 4‬إنه لم يدعكم إلى اليمان لحاجة به إنه عزيز إنه سبحانه وتعالى يملك الكائنات كلها حيها‬ ‫وميتها ظاهرها وباطنها ويتصرف يها كما يشاء وهو الغني الحميد‪.‬‬

‫( ‪)1/578‬‬ ‫‪ -3‬الرسالة المحمدية عامة لسار الناس أبيضهم وأصفرهم‪.‬‬ ‫إثبات صفتي العلم والحكمة ل تعالى‪ .‬وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم‪.‬‬ ‫حقّ إِ ّنمَا ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ‬ ‫{يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ل َتغْلُوا فِي دِي ِنكُ ْم وَل َتقُولُوا عَلَى اللّهِ إِل الْ َ‬ ‫رَسُولُ اللّ ِه َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِ ِه وَل َتقُولُوا ثَلثَةٌ انْ َتهُوا خَيْرا َلكُمْ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ َو َكفَى بِاللّ ِه َوكِيلً(‬ ‫حدٌ سُ ْبحَانَهُ أَنْ َيكُونَ َل ُه وَلَدٌ َلهُ مَا فِي ال ّ‬ ‫إِ ّنمَا اللّهُ إِلَ ٌه وَا ِ‬ ‫‪ )171‬لَنْ يَسْتَ ْن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَنْ َيكُونَ عَبْدا لِلّ ِه وَل ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ َومَنْ يَسْتَ ْن ِكفْ عَنْ عِبَادَ ِتهِ‬ ‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُمْ‬ ‫جمِيعا(‪ )172‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫حشُرُهُمْ إِلَيْهِ َ‬ ‫وَيَسْ َتكْبِرْ فَسَيَ ْ‬ ‫جدُونَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ‬ ‫عذَابا أَلِيما وَل يَ ِ‬ ‫وَيَزِيدُهُمْ مِنْ َفضْلِ ِه وََأمّا الّذِينَ اسْتَ ْن َكفُوا وَاسْ َتكْبَرُوا فَ ُيعَذّ ُبهُمْ َ‬ ‫وَلِيّا وَل َنصِيرا(‪})173‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬المراد بهم ‪ 1‬هنا‪ :‬النصارى‪.‬‬ ‫{ل َتغْلُوا ‪ 2‬فِي دِي ِن ُكمْ} ‪ :‬الغلو‪ :‬تجاوز الحد للشيء‪ ،‬فعيسى عليه السلم عبد ال ورسوله فغلوا فيه‬ ‫فقالوا هو ال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النصارى غلوا في عيسى فتجاوزوا حد الفراط حيث ألهوه‪ ،‬أي‪ :‬جعلوه إلهًا وعبدوه‪،‬واليهود‬ ‫غلوا في التفريط في عيسى‪ ،‬إذ قالوا‪ :‬ساحر وابن زنا والعياذ بال‪.‬‬ ‫‪ 2‬الغلو مشتق من غلوة السهم‪ ،‬وهي منتهى اندفاعه‪ ،‬ويطلق الغلو في الشرع على الزيادة على‬ ‫المطلوب في العتقاد والقول والعمل‪.‬‬

‫( ‪)1/579‬‬

‫{ا ْلمَسِيحُ} ‪ :‬هو عيسى عليه السلم ولقب بالمسيح لنه ممسوح من الذنوب‪ ،‬أي‪ :‬ل ذنب له قط‪.‬‬ ‫{ َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا} ‪ :‬أي‪ :‬قول ال تعالى له {كن} فكان –ألقاها إلى مريم‪ :‬أوصلها لها وأبلغها إياها‬ ‫وهي قول الملئكة لها إن ال يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم‪.‬‬ ‫{وَرُوحٌ مِنْهُ} ‪ :‬أي‪ :‬عيسى كان بنفخة جبريل روح ال في كم درعها‪.‬‬ ‫{ َوكِيلً} ‪ :‬حفيظا وشاهدا عليما‪.‬‬ ‫{لَنْ َيسْتَ ْن ِكفَ} ‪ :‬ل يرفض عبوديته ل تعالى أنفة وكبرا‪.‬‬ ‫{وَيَسْ َتكْبِرْ} ‪ :‬يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجابا وغرورا‪.‬‬ ‫{وَلِيّا وَل َنصِيرا} ‪ :‬أي‪ :‬ل يجدون يوم القيامة وليا يتولى الدفاع عنهم ول نصيرا ينصرهم حتى‬ ‫ل يدخلوا النار ويعذبوا فيها‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق مع أهل الكتاب‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )171‬نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب‬ ‫الكتاب الذي هو النجيل ونهاهم عن الغلو في دينهم من التنطع والتكلف؛ كالترهب واعتزال‬ ‫النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلو‪ ،‬كما نهاهم عن قولهم على ال تبارك وتعالى‬ ‫غير الحق‪ ،‬وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا‪ ،‬وأخبرهم بأن عيسى لم يكن ‪ 1‬أبدا‬ ‫غير رسول ال وكلمته التي ألقاها إلى مريم ‪ ،2‬حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن ال تعالى قد‬ ‫يهبها غلما زكيا‪ ،‬ونفخ وهو روح ال في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي {كن}‬ ‫وبسبب تلك النفخة من روح ال جبريل عليه السلم فلم يكن عيسى ال ول ابن ال فارجعوا إلى‬ ‫الحق وآمنوا بال ورسله جبريل وعيسى ومحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول تقولوا زورا وباطلً‪:‬‬ ‫ال ثالث ثلثة آلهة ‪ .3‬انتهوا عن القول الكذب يكن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لن‪ :‬إنما أداة قصر فمن هنا قصر عيسى عليه السلم على ثلث صفات‪ ،‬وهي‪ :‬الرسالة‪،‬‬ ‫والكلمة‪ ،‬والروح‪ ،‬أي‪ :‬هو لم يكون غير رسول ال وكلمته وروح منه‪ ،‬والقصر إضافي كما هو‬ ‫ظاهر‪.‬‬ ‫‪ 2‬لم يذكر ال تعالى امرأة في القرآن باسمها العلم سوى مريم‪ ،‬إذ ذكرها في القرآن في نحو من‬ ‫ثلثين موضعًا‪ ،‬وسر هذا أن العرب يتحاشون أن يذكروا أسماء نساؤهم إنما يكنون عنهن بالعرس‬ ‫والهل والعائلة‪ .‬وأما الماء فيذكرونهن بأسماؤهن‪ ،‬لذا ذكر تعالى مريم وهي أمته باسمها العلم‬ ‫ثلثين مرة‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬المراد من التثليث‪ :‬ال تعالى وصاحبته وابنه‪ .‬والقانيم عند‬ ‫بعضهم هي‪ :‬الب والبن وروح القدس‪ .‬وعند بعضهم هو‪ :‬الوجود والحياة والعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/580‬‬ ‫ل ومآلً‪ ،‬إنما ال سبحانه وتعالى إله واحد له ول ند ول ولد‪ .‬سبحانه تنزه‬ ‫انتهاؤكم خيرا لكم حا ً‬ ‫وعل وجل وعظم أن يكون له ولد‪ ،‬ولم تكن له صاحبة‪ ،‬ولم يكن ذا حاجة وله ما في السموات‬ ‫وما في الرض خلقا وملكا وحكما وتدبيرا‪ ،‬وكفى به سبحانه وتعالى وكيلً شاهدا عليما فحسبكم‬ ‫ال تعالى ربا وإلها فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فل تلتفتون إلى غيره ول تطلبون سواه‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى(‪ ،)171‬وأما اليتان الثانية(‪ )172‬والثالثة(‪ )173‬فقد أخبر تعالى أن‬ ‫عبده ورسوله المسيح عليه السلم لن يستنكف أبدا أن يعبد ال وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال‬ ‫عبد ال ورسوله‪ ،‬حتى الملئكة المقربون منهم فضلً عن غيرهم ل يستنكفون عن عبادة ال‬ ‫تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد ال وملئكته‪ ،‬ثم توعد تعالي كل من يستنكف عن عبادته عنها‬ ‫من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعا ويحاسبهم على أعمالهم فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات‬ ‫آمنوا بألوهيته تعالى وحده وعبدوه وحده بما شرع لهم من أنواع العبادات وهي العمال الصالحة‬ ‫فهؤلء يوفيهم أجورهم كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬وقد يضاعف إلى سبعمائة‬ ‫ضعف‪ .‬وأما الذين استنكفوا واستكبروا‪ ،‬أي‪ :‬حملتهم النفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع‬ ‫إليه فأصروا على العتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذابا أليما‪ ،‬أي‪ :‬موجعا ل يجدون‬ ‫لهم من دونه وليا ول ناصرا فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الغلو في الدين إذ هي من السباب الموجبة للبتداع ‪ 1‬والضلل‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة القول على ال تعالى بدون علم مطلقا والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان المعتقد الحق في عيسى ‪ 2‬عليه السلم‪ ،‬وأنه عبد ال ورسوله كان بكلمة ال ونفخة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال مطرف بن عبيد ال‪ :‬والعدل حسنة بين سيئتين‪ :‬الولى‪ :‬الفراط‪ .‬والثانية‪ :‬التفريط‪ .‬فالغلو‪:‬‬ ‫إفراط‪ .‬والتقصير‪ :‬تفريط‪ .‬كلهما مذموم‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫وأوف ول تستوف حقك كله ‪ ...‬وسامح فلم يستوف قط كريم‬ ‫ول تغل في شيء من المر واقتصد ‪ ...‬كل طرفي قصد المور ذميم‬ ‫‪ 2‬ذكر القرطبي عند تفسير هذه الية قصة طويلة في سب فساد دين المسيح عليه السلم‪ ،‬وأن‬ ‫الذي أفسده هو بولس اليهودي ولعنا نذكرها في تفسير آية المائدة‪ { :‬فَأَغْرَيْنَا بَيْ َن ُهمُ ا ْلعَدَا َوةَ‬ ‫وَالْ َب ْغضَاءَ} إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/581‬‬

‫جبريل ‪ 1‬عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة الستنكاف عن الحق والستكبار عن قبوله‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان الجزاء الخروي وهو إما نعيم وإما جحيم‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَا َءكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ نُورا مُبِينا(‪ )174‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ‬ ‫ل وَ َيهْدِيهِمْ إِلَيْ ِه صِرَاطا مُسْ َتقِيما(‪})175‬‬ ‫حمَةٍ مِنْ ُه َو َفضْ ٍ‬ ‫صمُوا بِهِ َفسَيُ ْدخُِلهُمْ فِي رَ ْ‬ ‫وَاعْ َت َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{بُرْهَانٌ} ‪ :‬البرهان‪ :‬الحجة‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬محمد ‪ 2‬صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{نُورا مُبِينا} ‪ :‬هو القرآن الكريم‪.‬‬ ‫صمُوا} ‪ :‬أي‪ :‬تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع‪.‬‬ ‫{وَاعْ َت َ‬ ‫حمَةٍ مِنْهُ} ‪ :‬الجنة‪.‬‬ ‫{فِي رَ ْ‬ ‫{صِرَاطا} ‪ :‬طريقا يفضي بهم إلى جوار ربهم في دار الكرامة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ينادي ‪ 3‬الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى مخبرا إياهم قاطعا للحجة‬ ‫عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو البرهان الساطع والدليل القاطع‬ ‫على وجود ال تعالى وعلمه وقدرته ووجوب اليمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعته وطاعة‬ ‫رسوله وأنه أنزل عليه كتابه شافيا كافيا هاديا نورا مبينا يهدي به ال من اتبع رضوانه سبل‬ ‫السلم‪ ،‬ويخرجه من الظلمات إلى النور‪ .‬بهذا قد أعذر ال تعالى إلى الناس كافة وقطع عليهم كل‬ ‫معذرة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال أبي بن كعب رضي ال عنه‪" :‬خلق ال أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ثم ردها إلى‬ ‫صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلم‪ ،‬فلما أراد خلقه أرسل ملك الروح إلى مريم فكان‬ ‫منه عيسى‪ .‬فلذا قال‪{ :‬ورُوح مِنه} "‪ .‬هذا الثر أحسن ما يقال في قوله تعالى‪{ :‬ورُوح مِنه} "‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الذي قرره ابن جرير وأن البرهان في هذه الية هو‪ :‬النبي محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا النداء وما بعده؛ كالفذلكة لما تقدم من دعوة أهل الكتابين إلى الدخول في السلم لقامة‬ ‫الحجة على الجميع‪ .‬إذ وجه نداءه العام لكل البشر‪ ،‬وهو يتناول أهل الكتابين والمشركين وغيرهم‬ ‫لقامة الحجة على الجميع‪.‬‬

‫( ‪)1/582‬‬

‫وحجة ثم هم صنفان مؤمن وكافر‪ ،‬فالذين آمنوا بال ربا وإلها وبرسوله نبيا ورسولً واعتصموا‬ ‫بالقرآن فأحلوا حلله وحرموا حرامه وصدقوا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلء سيدخلهم في رحمة ‪1‬‬ ‫منه وفضل وذلك بأن ينجيهم من النار ويدخهلم الجنان‪ ،‬وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى‪:‬‬ ‫خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ} ‪ .‬وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم‬ ‫{ َفمَنْ ُزحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ‬ ‫معروف وجزاءهم معلوم فل حاجة إلى ذكره‪ :‬إنه الحرمان والخسران‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الدعوة السلمية دعوة عامة فهي للبيض والصفر على حد سواء‪.‬‬ ‫‪ -2‬إطلق لفظ البرهان على النبي صلى ال عليه وسلم؛ لنه بأميته وكماله الذي ل مطمع لبشري‬ ‫أن يساميه فيه برهان على وجود ال وعلمه ورحمته‪.‬‬ ‫‪ -3‬القرآن نور لما يحصل به من الهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال‪.‬‬ ‫ثمن السعادة ودخول الجنة اليمان بال ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب‬ ‫والسنة المعبر عنه بالعتصام‪.‬‬ ‫ك وَ ُهوَ‬ ‫ختٌ فََلهَا ِنصْفُ مَا تَ َر َ‬ ‫{يَسْ َتفْتُو َنكَ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِي ا ْلكَللَةِ إِنِ امْ ُرؤٌ َهَلكَ لَيْسَ لَهُ وَلَ ٌد وَلَهُ ُأ ْ‬ ‫ل وَنِسَاءً‬ ‫خ َوةً ِرجَا ً‬ ‫ك وَإِنْ كَانُوا ِإ ْ‬ ‫يَرِ ُثهَا إِنْ لَمْ َيكُنْ َلهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فََل ُهمَا الثّلُثَانِ ِممّا تَ َر َ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪})176‬‬ ‫ظ الُنْثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ أَنْ َتضِلّوا وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬ ‫حّ‬ ‫فَلِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{يَسْ َتفْتُو َنكَ‪ : }2‬يطلبون فتياك في كذا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرحمة‪ :‬الجنة بعد النجاة من النار‪ .‬والفضل‪ :‬ما ينعم به عليهم في دار السلم‪ ،‬وأعظمه النظر‬ ‫إلى وجه الكريم‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَ َي ْهدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطا مُسْ َتقِيما} أي‪ :‬يهديهم إلى ما يصل بهم إلى‬ ‫رضاه وجواره‪ ،‬وهو‪ :‬السلم‪ ،‬وذلك بأن يثبتهم عليه حتى الموت‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن هذه الية وتسمى آية الكللة نزلت في آخر ما نزل‪ ،‬وسبب نزولها‪ :‬أن جابر بن عبد‬ ‫ال مرض فعاداه رسول ال صلى ال عليه وسلم مع أبي بكر فأغمى على عبد ال فتوضأ رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم ثم صب عليه من فضل وضوءه فأفاق‪ ،‬فقال يا رسول ال‪ :‬كيف أقضي‬ ‫في مالي؟ وكان له تسع أخوات‪ ،‬فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الية‪.‬‬

‫( ‪)1/583‬‬ ‫{ ُيفْتِيكُمْ} ‪ :‬يبين لكم ما أشكل عليكم من أمر الملئكة‪.‬‬ ‫{ا ْلكَللَةِ} ‪ :‬أن يهلك الرجل ول يترك ولدا ول يترك ولد ولد‪ ،‬وإنما يترك أخا أو أختا‪.‬‬

‫الحظ ‪ :‬النصيب‪.‬‬ ‫{أَنْ َتضِلّوا} ‪ :‬كيل تضلوا‪ ،‬أي‪ :‬تخطئوا في قسمة التركة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫هذه الية تسمى آية الكللة ‪ ،1‬وآيات المواريث أربع‪ :‬الولى في شأن الولد والوالد‪{ :‬يُوصِيكُمُ اللّهُ‬ ‫صفُ مَا تَ َركَ‬ ‫ظ الُنْثَيَيْنِ‪ . }2‬والثانية‪ :‬في شأن الزوج والزوجة‪{ :‬وََلكُمْ ِن ْ‬ ‫حّ‬ ‫فِي َأوْل ِدكُمْ لِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬ ‫ختٌ}‬ ‫جلٌ يُو َرثُ كَللَةً َأوِ امْرََأ ٌة وَلَهُ أَخٌ َأوْ أُ ْ‬ ‫جكُمْ} إلخ‪ ...‬وفي شأن الخوة لم‪{ :‬وَإِنْ كَانَ َر ُ‬ ‫أَ ْزوَا ُ‬ ‫إلخ‪ ..‬وهاتان اليتان تقدمتا في أول سورة النساء‪ .‬والثالثة‪ ،‬هي هذه‪َ { :‬يسْ َتفْتُو َنكَ} إلخ‪ ..‬وهي في‬ ‫شأن ميراث الخوة والخوات عند موت أحدهم ولم يترك ولدا ول ولد ولد‪ ..‬وهو معنى الكللة‪.‬‬ ‫والرابعة‪ :‬في آخر سورة النفال وهي في شأن ذوي الرحام‪ ،‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وَأُولُوا الَرْحَامِ‬ ‫ضهُمْ َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} ‪.‬‬ ‫َب ْع ُ‬ ‫وهذه الية نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي ال عنهم عن الكللة‪ ،‬فقال تعالى‪ :‬يسألونك‬ ‫أيها الرسول عن الكللة‪ .‬قل للسائلين‪{ :‬اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِي ا ْلكَللَةِ} ‪ ،‬وهذه فتواه‪ :‬إن هلك امرؤ ذكرا‬ ‫كان أو أنثى‪ ،‬وليس له ولد ول ولد ولد وله أخت شقيقة أو لب فلها نصف ما ترك‪ ،‬وهو يرثها‬ ‫أيضا إن لم يكن لها ولد ول ولد ولد‪ .‬فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالً‬ ‫ونساء‪ ،‬أي‪ :‬ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ النثيين وبعد أن بين تعالى كيف يورث من مات كللة‬ ‫قال مبينا حكمة هذا البيان‪{ :‬يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ أَنْ َتضِلّوا} أي‪ :‬كيل ‪ 3‬تضلوا في قسمة التركات‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ‪ }4‬فل‬ ‫فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم‪{ .‬وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وتسمى آية الصيف لنها نزلت في زمن الصيف‪ ،‬وقال عمر رضي ال عنه‪" :‬إني وال ل أدع‬ ‫شيئا أهم إليّ من أمر الكللة‪ ،‬وقد سألت رسول ال عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها‬ ‫حتى طعن في جنبي أو صدري وقال‪" :‬يا عمر أل تكفيك آية الصيف‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجمهور ما عدا ابن عباس والظاهرية على أن الخوات عصبة مع البنات‪ ،‬فلو هلك هالك‬ ‫وترك أختًا له وبنتا فإن المال بينهما نصفين‪ ،‬وإن ترك ثلثًا فالمال بينهما أثلثًا‪ ،‬وهكذا الخوات‬ ‫عصبة مع البنات‪ .‬قضى بهذا معاذ رضي ال عنه‪.‬‬ ‫‪ 3‬بعضهم يقدر كراهة أن تضلوا‪ ،‬ولما كان الحذف لزمًا للتخفيف فتقدير‪ :‬كيل‪ ،‬أفضل من لفظ‪:‬‬ ‫الكراهة‪ .‬وهو ما ذكرته في التفسير ولم أذكر غيره‪.‬‬ ‫‪ 4‬من جملة الشياء العليم بها‪ :‬أحوالكم‪ ،‬وما تتطلبه حياتكم في الدنيا والخرة‪ ،‬وهذا يقتضي الثقة‬ ‫والطمأنينة فيما شرع لكم وتنفيذه في إخلص وحسن أداء‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬

‫يجهل شيئا ول يخفى عليه آخر‪ ،‬وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه ل إله غيره ول رب‬ ‫سواه‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز ‪ 1‬سؤال من ل يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له‪.‬‬ ‫‪ -2‬إثبات وجود ال تعالى عليما قديرا سميعا بصيرا‪ ،‬وتقرير نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذ‬ ‫سؤال الصحاب وإجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ويثبته‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان قسمة تركة من يورث كللة من رجل أو امرأة؛ فالخت الواحدة لها من أخيها نصف ما‬ ‫ترك‪ ،‬والختان لهما الثلثان‪ ،‬والخوة مع الخوات للذكر مثل حظ النثيين‪ ،‬والخ يرث أخته إن لم‬ ‫يكن لها ولد ول ولد ولد‪ ،‬والخوة والخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ النثيين إذا لم تترك‬ ‫ولدا ول ولد ولد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بل الواجب أن يسأل كل من ل يعلم حتى يعلم لقول ال تعالى‪{ :‬فَاسْأَلوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُ ْم ل‬ ‫َتعَْلمُونَ} ‪.‬‬

‫( ‪)1/585‬‬ ‫سورة المائدة‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة المائدة ‪2‬‬ ‫مدنية‬ ‫وآياتها مائة وعشرون آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫حلّي الصّ ْيدِ‬ ‫علَ ْيكُمْ غَيْرَ مُ ِ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َأ ْوفُوا بِا ْل ُعقُودِ أُحِّلتْ َلكُمْ َبهِيمَ ُة الَ ْنعَامِ إِل مَا يُتْلَى َ‬ ‫شهْرَ ا ْلحَرَامَ وَل‬ ‫شعَائِرَ اللّ ِه وَل ال ّ‬ ‫حكُمُ مَا يُرِيدُ(‪ )1‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تُحِلّوا َ‬ ‫وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ َي ْ‬ ‫ي وَل ا ْلقَلئِ َد وَل آمّينَ الْبَ ْيتَ‬ ‫ا ْلهَ ْد َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 2‬سورة المائة من آخر ما نزل من السور في القرآن وأحكامها كلها محكمة ما عدا قوله تعالى‪:‬‬ ‫ي وَل ا ْلقَلئِدَ‪ }...‬الية‪ .‬وهو قول الشعبي رحمه ال تعالى‪ ،‬وفيها‬ ‫شهْرَ ا ْلحَرَا َم وَل ا ْلهَ ْد َ‬ ‫{وَل ال ّ‬ ‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ‬ ‫أحكام لم توجد في غيرها من السور‪ ،‬من ذلك حكم‪ :‬المنخنقة‪ ،‬وما بعدها {وَا ْلمُ ْ‬ ‫أُوتُوا ا ْلكِتَاب} ‪ ،‬والوضوء‪ ،‬وحكم السرقة‪.‬‬

‫( ‪)1/585‬‬ ‫صدّوكُمْ‬ ‫ن َ‬ ‫الْحَرَامَ يَبْ َتغُونَ َفضْلً مِنْ رَ ّب ِه ْم وَ ِرضْوَانا وَإِذَا حَلَلْ ُتمْ فَاصْطَادُوا وَل يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَ ْ‬ ‫ن وَا ّتقُوا‬ ‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ أَنْ َتعْتَدُوا وَ َتعَاوَنُوا عَلَى الْبِ ّر وَال ّت ْقوَى وَل َتعَاوَنُوا عَلَى الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬ ‫عَنِ ا ْلمَ ْ‬ ‫اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪})2‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َأ ْوفُوا بِا ْل ُعقُودِ} ‪ :‬العقود‪ :‬هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها‪:‬‬ ‫عدم نكثها والخلل بمقتضاها‪.‬‬ ‫{ َبهِيمَ ُة الَ ْنعَامِ‪ : }1‬هي البل والبقر والغنم‪.‬‬ ‫{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ‪ :‬أي‪ :‬محرمون بحج أو عمرة‪.‬‬ ‫شعَائِرَ اللّهِ} ‪ :‬جمع شعيرة‪ ،‬وهي هنا مناسك الحج والعمرة وسائر أعلم دين ال تعالى‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫شهْرَ الْحَرَامَ} ‪ :‬رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه‪.‬‬ ‫{ال ّ‬ ‫{ا ْل َه ْديَ} ‪ :‬ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة النعام‪.‬‬ ‫{ا ْلقَلئِدَ} ‪ :‬جمع قلدة ما يقلد الهدي‪ ،‬وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن‪.‬‬ ‫{آمّينَ الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ} ‪ :‬قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان ال تعالى‪.‬‬ ‫{وَإِذَا حَلَلْ ُتمْ‪ : }2‬أي‪ :‬من إحرامكم‪.‬‬ ‫{وَل يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ} ‪ :‬أي‪ :‬ل يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم‪.‬‬ ‫صدّوكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬لجل أن صدوكم‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫{أَ ْ‬ ‫{الْبِ ّر وَال ّت ْقوَى} ‪ :‬البر‪ :‬كل طاعة ل ورسوله‪ .‬والتقوى‪ :‬فعل ما أمر ال به ورسوله وترك ما نهى‬ ‫عنه ال ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سميت البهيمة‪ :‬بهيمة؛ لبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها‪ ،‬ومنه باب‬ ‫مبهم‪ ،‬أي‪ :‬مغلق‪ ،‬وليل بهيم‪ :‬ل يميز ما فيه من الظلم‪ .‬وقولهم في الشجاع من الرجال‪ :‬بهمة؛‬ ‫لنه ل يدري من أين يؤتى‪.‬‬ ‫حلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} الجماع على أن المر هنا للباحة وليس للوجوب‪ ،‬وهذه‬ ‫‪ 2‬قوله تعالى‪{ :‬وَِإذَا َ‬ ‫قاعدة أصولية كل أمر بعد حظر‪ ،‬فهو للباحة‪.‬‬

‫( ‪)1/586‬‬

‫{الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ} ‪ :‬الثم‪ :‬سائر الذنوب‪ ،‬والعدوان‪ :‬الظلم وتجاوز الحدود‪.‬‬ ‫شدِيدُ ا ْلعِقَابِ} ‪ :‬أي‪ :‬عقابه شديد ل يطاق ول يحتمل‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان اليمان فيقول‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا} أي‪ :‬يا من‬ ‫آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدي {َأ ْوفُوا بِا ْل ُعقُودِ‪ }1‬فل تحلوها وبالعهود فل تنكثوها‪ ،‬فل‬ ‫تتركوا واجبا ول ترتكبوا منهيا‪ ،‬ول تحرموا حللً ول تحلو حراما أحللت لكم بهيمة النعام من‬ ‫البل والبقر والغنم إل ما يتلى عليكم وهي التية في آية‪{ :‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالدّمُ‪ }...2‬فل‬ ‫تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم ‪ 3‬فل تحلوه‪ .‬وسلموا المر لي فل تتنازعوا فيما أحل‬ ‫حّلتْ‬ ‫وأحرم فإني أحكم ما أريد‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َأ ْوفُوا بِا ْل ُعقُودِ أُ ِ‬ ‫ح ُكمُ مَا يُرِيدُ‪. }4‬‬ ‫َلكُمْ َبهِيمَ ُة الَ ْنعَامِ إِل مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْ ِد وَأَنْ ُتمْ حُ ُرمٌ إِنّ اللّهَ يَ ْ‬ ‫أما الية الثانية فقد تضمنت أحكاما بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين‪،‬‬ ‫فمن المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر ال‪ ،‬وهي أعلم دينه من سائر ما فرض وأوجب‪،‬‬ ‫ونهى وحرم‪ .‬فل تستحل بترك واجب‪ ،‬ول بفعل محرم‪ ،‬ومن ذلك مناسك الحج والعمرة‪ .‬ومن‬ ‫المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرما في الشهر الحرم ثم نسخ بقول ال تعالى‪{ :‬فَاقْتُلُوا‬ ‫ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْيثُ َوجَدْ ُتمُوهُمْ} الية‪ ،‬ومن المنسوخ أيضا‪ :‬هدي المشركين وقلئدهم والمشركون‬ ‫أنفسهم فل يسمح لهم بدخول الحرم ول يقبل منهم هدي‪ ،‬ول يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء‬ ‫شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل ُتحِلّوا‬ ‫شهْرَ الْحَرَا َم وَل ا ْلهَ ْديَ‪ 5‬وَل ا ْلقَلئِدَ‪ 6‬وَل آمّينَ‬ ‫شعَائِرَ اللّ ِه وَل ال ّ‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال الحسن‪ :‬يعني عقود الدين‪ ،‬وهو ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة كراء‪،‬‬ ‫ومناكحة وطلق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير‪ ،‬وكذلك ما عاهد عليه ال‬ ‫تعالى من نذر وسائر التكاليف الشرعية وما خرج من عقد على شريعة ال رد وحل‪ ،‬ول وفاء‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬وما حرم بالسنة‪ ،‬وهو كل ذي ناب من السباع‪ ،‬وذي مخلب من الطيور لثبوت ذلك في‬ ‫الصحاح‪.‬‬ ‫‪ 3‬أما إذا حلوا من إحرامهم فالصيد حلل‪ ،‬كما هو في غير الحرام إل ما كان من صيد الحرم‬ ‫فإنه حرام في الحرام والحلل‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذه الجملة تقتضي تسليم المر ل‪ ،‬فل اعتراض عليه فيما يحل ويحرم وهو كذلك‪.‬‬ ‫‪ 5‬الهدي‪ :‬ما يهدى إلى الحرم‪ ،‬ومن خصائصه‪ :‬أنه يشعر وذلك يجرح سنامه من الجهة اليمنى‬ ‫حتى يسيل الدم‪ ،‬وبذلك يعلم أنه هدي‪ ،‬وقال‪ :‬بالشعار كافة الفقهاء إل أبا حنيفة‪ ،‬ولموه وعنفوا‬ ‫عليه لتركه السنة الصحيحة في الشعار‪.‬‬

‫‪ 6‬يحرم بيع الهدي إذا أشعر وقلت لنه أصبح كالوقف ل تعالى‪ ،‬ومعنى التقليد‪ :‬أن يوضع في‬ ‫عنقه قلدة يعلم بها أنه هدي‪ ،‬وهذا يكون في الغنم لنها ل تشعر‪.‬‬

‫( ‪)1/587‬‬ ‫الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ يَبْ َتغُونَ َفضْلً مِنْ رَ ّب ِه ْم وَ ِرضْوَانا}‪ .‬والمراد بالفضل‪ :‬الرزق بالتجارة في الحج‪،‬‬ ‫والمراد بالرضوان‪ :‬ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى ال ليبارك لهم في أرزاقهم‬ ‫ويحفظهم في حياتهم‪.‬‬ ‫حلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} خطاب للمؤمنين أذن لهم في الصطياد الذي كان محرما‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وَِإذَا َ‬ ‫وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَل َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَنْ‬ ‫سجِدِ الْحَرَامِ أَنْ َتعْتَدُوا} ينهي عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدورهم يوم‬ ‫صَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬ ‫الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن ال تعالى لهم فيه‪ ،‬وهو قتالهم إن‬ ‫قاتلوا وتركهم إن تركوا‪ .‬ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى‪ ،‬أي‪ :‬على أداء الواجبات‬ ‫والفضائل‪ ،‬وترك المحرمات والرذائل‪ ،‬ونهاهم عن التعاون عن ضدها‪ ،‬فقال عز وجل‪{ :‬وَ َتعَاوَنُوا‬ ‫عَلَى الْبِرّ‪ 1‬وَال ّت ْقوَى وَل َتعَاوَنُوا عَلَى الِثْمِ‪ 2‬وَا ْلعُ ْدوَانِ} ‪ .‬ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلً‬ ‫وتركا أمرهم بها‪ ،‬فقال‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ} باليمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك‪ ،‬وحذرهم‬ ‫شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ} فاحذروه بلزوم التقوى‪.‬‬ ‫من إهمال أمره بقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ َ‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الوفاء بالعهود التي بين ال تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد‬ ‫وأخيه العبد لشمول الية ذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬إباحة أكل لحوم البل والبقر والغنم إل الميتة منها‪.‬‬ ‫‪ -3‬تحريم الصيد في حال الحرام وحليته بعد التحلل من الحرام وهو صيد البر ل البحر ‪.3‬‬ ‫‪ -4‬وجوب احترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه‪ ،‬وتركا لما وجب تركه‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة العتداء مطلقا على الكافر‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين‪ ،‬ورحمة تعاونهم على المساس به‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في البر‪ ،‬وهو فعل الخير رضا الناس وفي التقوى رضا ال‪ ،‬ومن جمع بين رضا الناس ورضا‬ ‫ال فقد جمع الخير كله وتمت سعادته في دنياه وآخرته‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ول تعانوا على فعل الثم من سائر كبائر الذنوب والفواحش ول على الظلم والعتداء إذ‬ ‫كلهما مما حرم ال تعالى‪.‬‬

‫حلّ لَك ْم صَيْد البَحْر ما ُدمْتم حُرما}‬ ‫‪ 3‬لن صيد البحر حلل في الحرام وغيره لقوله تعالى‪{ :‬وَُأ ِ‬ ‫الية من آخر هذه السورة‪.‬‬

‫( ‪)1/588‬‬ ‫حمُ ا ْلخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ ِب ِه وَا ْلمُنْخَ ِنقَ ُة وَا ْل َم ْوقُو َذةُ وَا ْلمُتَرَدّيَةُ‬ ‫{حُ ّر َمتْ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالدّ ُم وَلَ ْ‬ ‫سمُوا بِالَزْلمِ ذَِلكُمْ ِفسْقٌ‬ ‫ب وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫وَالنّطِيحَ ُة َومَا َأ َكلَ السّبُعُ إِل مَا َذكّيْتُ ْم َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ‬ ‫شوْنِ الْ َيوْمَ َأ ْكمَلْتُ َلكُمْ دِي َنكُ ْم وَأَ ْت َم ْمتُ عَلَ ْيكُمْ‬ ‫شوْهُمْ وَاخْ َ‬ ‫الْ َيوْمَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ دِي ِنكُمْ فَل َتخْ َ‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‬ ‫ف لِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُتَجَا ِن ٍ‬ ‫ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َل ُكمُ السلم دِينا َفمَنِ اضْطُرّ فِي مَ ْ‬ ‫‪})3‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلمَيْتَةُ} ‪ :‬ما مات من بهيمة النعام حتف أنفه‪ ،‬أي‪ :‬بدون تذكية ‪.1‬‬ ‫{ َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ} ‪ :‬أي‪ :‬ما ذكر عليه اسم غير اسم ال تعالى‪ ،‬مثل المسيح‪ ،‬أو الولي‪ ،‬أو‬ ‫صنم‪.‬‬ ‫{وَا ْلمُنْخَ ِنقَةُ} ‪ :‬أي‪ :‬بحبل ونحوه فماتت‪.‬‬ ‫{وَا ْل َم ْوقُو َذةُ‪ : }2‬أي‪ :‬المضروبة بعصا أو حجر فماتت به‪.‬‬ ‫{وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ} ‪ :‬الساقطة من عال إلى أسفل‪ ،‬مثل‪ :‬السطح والجدار والجبل فماتت‪.‬‬ ‫{وَالنّطِيحَةُ‪ : }3‬ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها‪.‬‬ ‫{ َومَا َأ َكلَ السّبُعُ} ‪ :‬أي‪ :‬ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة‪.‬‬ ‫{إِل مَا َذكّيْ ُتمْ‪ : }4‬أي‪ :‬أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه ‪ 5‬بذبحه أو نحره‪.‬‬ ‫صبِ} ‪ :‬أي‪ :‬ما ذبح على الصنام المنصوبة التي تمثل إلها أو زعيما أو عظيما‪،‬‬ ‫{ َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ‬ ‫و مثلها ما ذبح على أضرحة الولياء وقبورهم وعلى الجان‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ومن غيرها من مأكول اللحم؛ كالضباء‪ ،‬والرانب‪ ،‬وأنواع الصيد باستثناء ما ذكر عليه اسم ال‬ ‫حال صيده‪ ،‬فإن ما مات منه يؤكل ولو لم يزك‪ ،‬ول يقال فيه ميتة‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬وقذة‪ ،‬يقذة‪ ،‬وقذًا؛ إذا ضربه بحجر ونحوها‪ ،‬والوكذ‪ :‬شدة الضرب‪.‬‬ ‫‪ 3‬فهي فعيلة بمعنى‪ :‬مفعولة‪ ،‬فالنطيحة‪ :‬هي المنطوحة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ما ذبح من قفاه ل يؤكل إجماعًا‪ ،‬واختلف فيما إذا رفع المذكي يده قبل إنهاء الذكاة ثم ردها‬ ‫فورًا‪ ،‬الصحيح أنها تؤكل ول خلف في جواز أكل البعير إذا ند أو وقع في بئر فإنه كيفما ذُكي‬ ‫جاز أكله للحديث الصحيح‪.‬‬

‫‪ 5‬الستثناء متصل‪ ،‬وهو راجع على كل ما أدرك زكاته من المذكورات وفيه حياة ول اللتفات‬ ‫إلى الخلف في هذه المسألة‪.‬‬

‫( ‪)1/589‬‬ ‫سمُوا} ‪ :‬أي‪ :‬وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالستقسام بالزلم ومثله ما يأخذه صاحب‬ ‫{وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ‬ ‫الكهانة والشواقة وقرعة النبياء‪ ،‬والحروز الباطلة التي فيها طلسم وأسماء الجن والعفاريت‪.‬‬ ‫سقٌ} ‪ :‬أي‪ :‬ما ذكر من أكل الميتة إلى الستقسام بالزلم خروج عن طاعة ال تعالى‬ ‫{ذَِلكُمْ فِ ْ‬ ‫ومعصية له سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫{ َفمَنِ اضْطُرّ} ‪ :‬أي‪ :‬من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فل بأس أن يأكل مما‬ ‫ذكر‪.‬‬ ‫خ َمصَةٍ} ‪ :‬المخمصة‪ :‬شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به‪.‬‬ ‫{فِي مَ ْ‬ ‫{غَيْرَ مُ َتجَا ِنفٍ} ‪ :‬غير مائل لثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة‪ ،‬وذلك بأن‬ ‫يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫هذه الية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الية الولى من هذه السورة‪ ،‬وهو قوله‪:‬‬ ‫{إِل مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ} حيث ذكر في هذه الية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي‪:‬‬ ‫الميتة‪ ،‬والدم‪ ،‬ولحم الخنزير‪ ،‬وما أهل لغير ال به‪ ،‬والمنخنقة‪ ،‬والموقوذة‪ ،‬والمتردية‪ ،‬والنطيحة‪،‬‬ ‫وما أكل السبع‪ ،‬وما ذبح على النصب ‪.1‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إِل مَا َذكّيْتُمْ‪ }2‬يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة‪ .‬بحيث إذا ذبحتموه اضطرب‬ ‫للذبح وركض برجليه فإن هذا علمة أنه كان حيا وأنه مات بالذبح ‪.3‬‬ ‫سمُوا بِالَزْلمِ} يريد ول يحل لكم الستقسام بالزلم‪ ،‬ول أكل ما يعطى عليها‬ ‫وقوله‪{ :‬وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ‬ ‫وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالزلم جمع زلم وهو رمح صغير‬ ‫ل زج له ول ريش فيه‪ ،‬يضعونها في خريطة كالكيس‪ ،‬وقد كتب على واحد أمرني‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ما ذبح على النصب‪ ،‬وما أهل لغير ال به‪ :‬هما كشيء واحد إلى أن ما أهل لغير ال به غالبًا‬ ‫يكون مذبوحًا لغير الصنام؛ كالنبياء والولياء‪.‬‬ ‫‪ 2‬الذكاة في لغة العرب‪ :‬الذبح كقوله تعالى‪{ :‬إل ما ذَكيتم} ‪ ،‬أي‪ :‬ذبحتم ما ذكر اسم ال عليها‪،‬‬ ‫وفي الحديث‪" :‬ذكاة الجنين ذكاة أمه" ‪ ،‬والذكاة‪ :‬سرعة الفطنة‪ ،‬والتذكية‪ :‬مأخوذة من التطيب‪،‬‬ ‫فذكاها بمعنى‪ :‬طيبها بالذبح‪ ،‬ومنه رائحة ذكية‪ :‬أي‪ :‬طيبة‪.‬‬

‫‪ 3‬والذكاة تقع بكل حاد ينهر الدم‪ ،‬ويفري الوداج ما عدا العظم والسن‪ ،‬لقوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬ليس السن والظفر" ‪ ،‬لن السن عظم‪ ،‬والظفر مدى الحبشة‪.‬‬

‫( ‪)1/590‬‬ ‫ربي‪ ،‬وآخر‪ :‬نهاني ثم يحيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلما منها فإن وجده مكتوبا عليه‪:‬‬ ‫أمرني ربي‪ ،‬مضى في عمله سفرا أو زواجا ‪ ،‬أو بيعا أو شراء‪ ،‬وإن وجده مكتوبا عليه‪ :‬نهاني‬ ‫ربي‪ ،‬ترك ما عزم على فعله ‪ 1‬فجاء السلم فحرم الستقسام بالزلم‪ ،‬وسن الستخارة وهي‪ :‬أن‬ ‫يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول‪ :‬اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك‬ ‫وأسألك من فضلك العظيم‪ ،‬فإنك تقدر ول أقدر‪ ،‬وتعلم ول أعلم وأنت علم الغيوب‪ ،‬اللهم إن كنت‬ ‫تعلم أن هذا المر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك‬ ‫لي فيه‪ ،‬وإن كنت تعلم أن هذا المر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عنى‬ ‫واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به‪ ،‬ويسمي حاجته‪ .‬ويفعل أو يترك ما عزم‬ ‫عليه‪ ،‬والذي يأتيه هو الخير بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ذَِلكُمْ ِفسْقٌ} يريد ما ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه‪.‬‬ ‫شوْنِ} يخبر تعالى عباده‬ ‫شوْهُ ْم وَاخْ َ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬الْ َيوْمَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ دِي ِنكُمْ فَل َتخْ َ‬ ‫المؤمنين‪ :‬أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك‬ ‫قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في السلم‪ ،‬وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم‬ ‫وبينهم إذا فل تخشوهم بعد الن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم‪ ،‬وذلك‬ ‫بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والخذ بسنتي في كوني حتى ل تتعرضوا لنقمتي بسلب‬ ‫عطائي فإن نصرتي لهل طاعتي وإذللي لهل معصيتي‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َنكُ ْم وَأَ ْت َم ْمتُ عَلَ ْي ُكمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َل ُكمُ السلم دِينا‪ }2‬فهو‬ ‫إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأول‪ :‬إكمال الدين ‪ 3‬بجميع‬ ‫عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الية نزلت عشية يوم عرفة عام‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هي ثلثة أزلم كتب على أحدها‪ :‬أمرني ربي‪ ،‬وعلى الثاني‪ :‬نهاني ربي‪ ،‬والثالث‪ :‬مهمل لم‬ ‫يكتب عليه شيء ويجعلها في خريطته‪ ،‬فإذا خرج أمرني مضى في عمله ‪ ،‬وإذا خرج نهاني ترك‬ ‫ما أراد فعله‪ ،‬وإذا خرج المهمل أعاد الضرب في الخريطة‪ ،‬وهناك نوعان من الستقسام غير ما‬ ‫ذكرنا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية‪{ :‬الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َنكُمْ‪ }...‬نزلت بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع بعد العصر‪،‬‬ ‫والرسول صلى ال عليه وسلم على ناقته‪ :‬العضباء‪ ،‬كما هو واضح في رواية مسلم في صحيحه‪.‬‬

‫‪ 3‬ووجه إكمال الدين أنه كان قبل الهجرة مقصورًا على الشهادتين‪ ،‬والصلة ولما هاجر صلى ال‬ ‫عليه وسلم إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يومًا بعد يوم حتى كمل وأعلن عنه الرب تعالى في حجة‬ ‫الوداع بقوله‪ { :‬الْ َيوْمَ َأ ْكمَلْتُ‪ }...‬إلخ‪.‬‬

‫( ‪)1/591‬‬ ‫حجة الوداع‪ ،‬ولم يعش بعدها رسول ال صلى ال عليه وسلم إل أحدى وثمانين ليلة ثم توفاه ال‬ ‫تعالى‪ .‬وثانيا‪ :‬إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف‪ ،‬ونصرهم وأعزهم‬ ‫بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلد لهم وأظهر دينهم‪ ،‬وأبعد الكفر والكفار عنهم‪ ،‬فعلمهم بعد جهل‬ ‫وهداهم بعد ضلل فهذه من النعمة التي أتمها عليهم‪ .‬وثالثا‪ :‬رضاه بالسلم دينا لهم حيث بعث‬ ‫رسوله به وأنزل كتابه فيه فين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الديان الباطلة؛ كاليهودية والنصرانية‬ ‫والمجوسية‪ ،‬وأغناهم عنها بما رضيه لهم أل وهو السلم القائم على الستسلم ل تعالى ظاهرا‬ ‫وباطنا‪ ،‬وذلك سلم العروج إلى الكمالت ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات‪ ،‬فلله الحمد‬ ‫وله المنة‪.‬‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ} يريد تعالى من‬ ‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُ َتجَا ِنفٍ لِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫ضطُرّ فِي مَ ْ‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬فمَنِ ا ْ‬ ‫اضطر‪ ،‬أي‪ :‬ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي المخمصة ‪ 1‬والمسغبة إلى أكل ما حرمت‬ ‫عليكم من الميتة وأنواعها فأكل فل إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إل أن يكون‬ ‫قد أكل من الميتة وأنواعها متعمدا المعصية مائلً إليها غير مبال بتحريمي لها‪ ،‬فذاك الذي‬ ‫عصاني وتعرض لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم‪ ،‬وإن أصر فإن عذابي أليم شديد‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة الستقسام بالزلم ومثلها قرعة النبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز أكل ما أدركه المسلم حيا من الحيوان المأكول فذكاه وإن كان قد جرح أو كسر أو‬ ‫أشرف على الموت بأي سبب مميت ‪.2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المخمصة‪ :‬لغة الجوع‪ ،‬وخلء البطن من الطعام‪ .‬والخمص‪ :‬ضمور البطن‪ ،‬ومنه الحديث‪" :‬إن‬ ‫الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" ‪ .‬وفي الحديث أيضًا‪" :‬خماص البطون خفاف الظهور"‪.‬‬ ‫والخميصة‪ :‬ثوب‪ ،‬وجمعها‪ :‬خمائص‪ ،‬ثياب خز وصوف‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬تعس عبد الخميصة "‪.‬‬ ‫‪ 2‬من آداب التذكية‪ :‬الرفق بالحيوان‪ ،‬إحداد الشفرة‪ ،‬إن يوجهها إلى القبلة‪ ،‬تركها حتى تبرد قبل‬

‫أن يشرع في سلخها‪ ،‬إحضار نية الباحة قبل الشروع في الذبح‪ ،‬بأن يقول‪ :‬بسم ال ال اكبر‪.‬‬ ‫والعتراف بالمنة ل؛ حيث سخر لنا هذا الحيوان‪ ،‬ولو شاء لسلطه علينا‪ ،‬وأباح لنا ما لو شاء‬ ‫لحرمه علينا‪ .‬وكل هذه الداب جاءت في قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن ال كتب الحسان على‬ ‫كل شيء‪ ،‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتل‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح" ‪ .‬الذبح‪.‬‬

‫( ‪)1/592‬‬ ‫‪ -5‬وجوب خشية ال تعالى وحرمة خشية الكفار‪.‬‬ ‫‪ -6‬حرمة البتداع في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع السلمي‪.‬‬ ‫‪ -7‬جواز أكل الميتة للمضطر‪ ،‬وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلك‬ ‫على شرط أن ل يكون قاصدا المعصية مائلً إلى الثم‪.‬‬ ‫جوَارِحِ ُمكَلّبِينَ ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َمكُمُ‬ ‫عّلمْتُمْ مِنَ ا ْل َ‬ ‫ت َومَا َ‬ ‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَا ُ‬ ‫حلّ َلهُمْ ُقلْ ُأ ِ‬ ‫{يَسْأَلو َنكَ مَاذَا أُ ِ‬ ‫حلّ‬ ‫حسَابِ(‪ )4‬الْ َيوْمَ ُأ ِ‬ ‫علَيْ ِه وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ‬ ‫سمَ اللّهِ َ‬ ‫سكْنَ عَلَ ْي ُك ْم وَا ْذكُرُوا ا ْ‬ ‫اللّهُ َفكُلُوا ِممّا َأمْ َ‬ ‫حصَنَاتُ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتِ‬ ‫حلّ َلهُ ْم وَا ْل ُم ْ‬ ‫طعَا ُمكُمْ ِ‬ ‫حلّ َلكُ ْم َو َ‬ ‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫َلكُمُ الطّيّبَا ُ‬ ‫ن وَل‬ ‫حصِنِينَ غَيْرَ مُسَا ِفحِي َ‬ ‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ ِإذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ ُأجُورَهُنّ مُ ْ‬ ‫وَا ْلمُ ْ‬ ‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(‪})5‬‬ ‫ن َومَنْ َي ْكفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ‬ ‫مُتّخِذِي أَخْدَا ٍ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الطّيّبَاتُ} ‪ :‬ما أذن ال تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين‪.‬‬ ‫جوَارِحِ} ‪ :‬جمع جارحة بمعنى كاسبة تخرج بمعنى تكسب‪.‬‬ ‫{ا ْل َ‬ ‫{ ُمكَلّبِينَ‪ : }1‬أي‪ :‬مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارحة كلبا أو طيرا‪.2‬‬ ‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬ذبائح اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫{وَ َ‬ ‫حصَنَاتُ} ‪ :‬جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء‪.‬‬ ‫{وَا ْلمُ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المكلب‪ :‬هو معلم الكلب‪ ،‬ومدربها على الصيد‪ ،‬ويقال للصائد‪ :‬مكلب‪ ،‬وعليه فقوله‪ُ { :‬مكَلّبين}‬ ‫يكون بمعنى‪ :‬صائدين‪.‬‬ ‫‪ 2‬يكتفي في الطير بأن تطيع إذا أمرت‪ ،‬إذ هي دون الكلب في الستعداد للفهم والستجابة‪،‬‬ ‫ومثلها‪ :‬سباع الوحوش‪ ،‬فإنها دون الكلب أيضًا‪ ،‬إلى أن الجمهور يشترط فيها ما يشترط في‬ ‫الكلب‪.‬‬

‫( ‪)1/593‬‬

‫{ُأجُورَهُنّ} ‪ :‬مهورهن وصدقاتهن‪.‬‬ ‫{غَيْرَ مُسَا ِفحِينَ} ‪ :‬غير مجاهرين بالزنى‪.‬‬ ‫{َأخْدَانٍ} ‪ :‬جمع خدن وهو الخليل والصاحب السري‪.‬‬ ‫{ َومَنْ َي ْكفُرْ بِالِيمَانِ} ‪ :‬أي‪ :‬يرتد عن اليمان‪ ،‬فالباء بمعنى عن إذ يقال‪ :‬ارتد عن كذا‪...‬‬ ‫عمَُلهُ} ‪ :‬بطل عمله ما قدمه من الصالحات فل يثاب عليه‪.‬‬ ‫{حَبِطَ َ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ورد أن جبريل عليه السلم أتى النبي صلى ال عليه وسلم فاستأذن فأذن له النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال‪" :‬إنا ل ندخل بيتا فيه كلب"‪ .‬فأمر النبي‬ ‫بعدها بقتل الكلب‪ ،‬فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم من أمة الكلب‪ ،‬فأنزل ال تعالى‬ ‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ} وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه ال‬ ‫حلّ َل ُهمْ ُقلْ أُ ِ‬ ‫هذه الية‪{ :‬يَسْأَلو َنكَ‪ 1‬مَاذَا أُ ِ‬ ‫تعالى ولم ينه عنه‪ ،‬وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلب الخاصة بالصطياد‬ ‫والفهود والنمور والطيور؛ كالصور ونحوها‪ .‬مكبلين‪ ،‬أي‪ :‬مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم‪،‬‬ ‫{ ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َم ُكمُ اللّهُ} ‪ .‬أي‪ :‬تؤدبون تلك الجوارح بالدب الذي أدبكم ال تعالى به‪ ،‬وحد‬ ‫الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت‪ ،‬أي‪ :‬أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زُجرت انزجرت‪ ،‬وإذا‬ ‫سمَ اللّهِ عَلَيْهِ} يفيد شرطين‬ ‫سكْنَ عَلَ ْيكُم ‪ 2‬وَا ْذكُرُوا ا ْ‬ ‫دعيت أجابت‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬فكُلُوا ِممّا َأمْ َ‬ ‫لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما‪ :‬أولً‪ :‬أن يذكر اسم ال عند إرسال الجارحة‬ ‫بأن يقول‪ :‬بسم ال هاته مثلً‪ ،‬والثاني ‪ :3‬أن ل تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت‬ ‫لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها‪ ،‬اللهم إل إذا أدركت حية لم تمت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي أن الية‪َ { :‬يسْألونك‪ }...‬نزلت بسبب عدي بن حاتم‪ ،‬وزيد الخيل الذي سماه‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬زيد الخير"‪ ،‬إذ قال يا رسول ال‪ :‬إنا قوم نصيد بالكلب والبذاة‪،‬‬ ‫وإن الكلب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقلته فل ندرك ذكاته‪ ،‬وقد‬ ‫حرم ال الميتة‪ ،‬فماذا يحل لنا؟ فنزلت الية‪{ :‬يَسْألونك‪ }..‬إلخ‪ .‬ول منافاة بين ما ذكر في التفسير‬ ‫وبين هذا‪ ،‬إذ يسأل السائل فيقرأ عليه الرسول بالية فيرى أنها نزلت فيه‪.‬‬ ‫سكْنّ عَلِيكُم} ‪ :‬على هنا بمعنى اللم‪ ،‬أي‪ :‬مما أمسكن لكم ولجلكم؛ كقولهم‪ :‬سجن على‬ ‫‪{ 2‬مما أمْ َ‬ ‫كذا وضرب الصبي على قوله كذا‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر القرطبي الجماع على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فيشلي إذا أشلى‪ ،‬ويجيب إذا‬ ‫دُعي‪ ،‬وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر وأن يكون ل يأكل من صيده الذي صاده‪ ،‬وأثر فيه‬ ‫بجرح أو تنيب وصاد به مسلم وذكر اسم ال عند ارساله أن صيده صحيح‪ .‬هذه الشروط داخلة‬ ‫في الشرطين اللذين ذكرتهما الية‪ ،‬كما في التفسير إل اشتراط أل يكون الكلب أسود‪ ،‬وهذا الشرط‬ ‫فيه خلف‪.‬‬

‫( ‪)1/594‬‬ ‫ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية ل بالصطياد ‪ ،1‬وقوله تعالى‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَاب}‬ ‫وعيد لمن لم يتق ال في أكل ما حرم أكله من الميتة وأنواعها‪ ،‬ومن صيد صاده غير معلم من‬ ‫الجوارح‪ ،‬أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات قبل التذكية‪ .‬فلنتق عقوبة ال في ذلك فإن ال سريع‬ ‫الحساب‪.‬‬ ‫حلّ َلكُمُ‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى(‪ ،)4‬أما الية الثانية(‪ )5‬وهي قوله تعالى‪{ :‬الْ َيوْمَ أُ ِ‬ ‫الطّيّبَاتُ} ‪ ،‬أي‪ :‬في هذا اليوم الذي أكمل ال تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر‬ ‫الطيبات‪ ،‬وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ذبائحهم حل لكم‪ ،‬وطعامكم حل لهم‪ ،‬أي‪ :‬ل بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم‬ ‫ولهم‪ .‬وأحل لكم أيضا نكاح المحصنات‪ ،‬أي‪ :‬العفائف من المؤمنات‪ ،‬والمحصنات من نساء الذين‬ ‫أوتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات‪ ،‬على شرط إتيانهن أجورهن‪،‬‬ ‫أي‪ :‬مهورهن حال كونكم محصنين‪ ،‬أي‪ :‬عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي‬ ‫والشهود وصيغة اليجاب والقبول‪ ،‬ل مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد‬ ‫مستوف لشروطه‪ ،‬ول متخذي أيضا بأن تنكوحهن سرا بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك‬ ‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ‬ ‫هو الزنى فل يحل بأجرة ول بغير أجرة‪ ،‬وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْكفُرْ‪ 2‬بِالِيمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ‬ ‫فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد تؤدي إلى‬ ‫الكفر‪ ،‬ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله‪ ،‬أي‪ :‬بطل ثواب ما عمله في إسلمه‪ ،‬حتى ولو راجع‬ ‫السلم فليس له إل ما عمله بعد رجوعه إلى السلم‪ ،‬وإن مات قبل العودة إلى السلم فهو قطعا‬ ‫في الخرة من الخاسرين وبإلقائهم في نار جهنم خالدين فيها أبدا‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية سؤال من ل يعلم عما ينبغي له أن يعلمه‪.‬‬ ‫‪ -2‬حلية الصيد إن توفرت شروطه‪ ،‬وهي‪ :‬أن يكون الجارح معلما وأن يذكر اسم ال تعالى عند‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم ال عليه فكل" دال على أن الصائد‬ ‫يتعين عليه أن يقصد عند إرسال الكلب والطير التذكية والباحة إذا العمال بالنيات ولكل أمرء ما‬ ‫نوى‪.‬‬ ‫‪ 2‬لفظ اليمان مصدر آمن يؤمن إيمانًا‪ ،‬أطلق وأريد به السلم؛ لن السلم واليمان متلزمان‬ ‫ما أسلم من لم يؤمن‪ ،‬وما آمن من لم يسلم‪ ،‬ومعنى الية‪َ { :‬ومَنْ يَرْتَدّ عَنْ السلم} ‪.‬‬

‫( ‪)1/595‬‬ ‫إرساله وأن ل يأكل منه الجارح‪ ،‬ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة ‪ 1‬بشرط ذكر اسم‬ ‫ال عند رميه ولو وجد ميتا فلم يذك‪.‬‬ ‫‪ -3‬إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب‪.‬‬ ‫‪ -4‬إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة ‪ 2‬عفيفة‪ ،‬وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم‬ ‫على الولي والشهود والمهر‪ ،‬والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل‪ :‬زوجني‬ ‫فلنة‪ .‬فيقول له‪ :‬قد زوجتكها‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة‪.‬‬ ‫‪ -6‬المعاصي قد تقود إلى الكفر‪.‬‬ ‫‪ -7‬المرتد عن السلم يحبط عمله فلو راجع السلم ل يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات‬ ‫قبل العودة إلى السلم خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين‪.‬‬ ‫سكُمْ‬ ‫سحُوا بِ ُرؤُو ِ‬ ‫ق وَامْ َ‬ ‫سلُوا ُوجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَافِ ِ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا ُقمْتُمْ ِإلَى الصّلةِ فَاغْ ِ‬ ‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ‬ ‫سفَرٍ َأوْ جَاءَ أَ َ‬ ‫طهّرُوا وَإِنْ كُنْ ُتمْ مَ ْرضَى َأوْ عَلَى َ‬ ‫وَأَرْجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْ ُتمْ جُنُبا فَا ّ‬ ‫صعِيدا طَيّبا فَامْسَحُوا ِبوُجُو ِه ُك ْم وَأَيْدِيكُمْ مِ ْنهُ مَا‬ ‫ا ْلغَائِطِ َأ ْو لمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ َتجِدُوا مَاءً فَتَ َي ّممُوا َ‬ ‫شكُرُونَ(‪)6‬‬ ‫طهّ َركُمْ وَلِيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬ ‫ج وََلكِنْ يُرِيدُ لِيُ َ‬ ‫ج َعلَ عَلَ ْي ُكمْ مِنْ حَرَ ٍ‬ ‫يُرِيدُ اللّهُ لِ َي ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ‪ :‬حادة‪ ،‬احتراز من غير الحادة؛ كالعصا‪ ،‬وعرض المعراض‪ ،‬والحجر‪ ،‬ونحوها‪ ،‬لحديث‪:‬‬ ‫"إذا ضربت بالمعراض فخرق فكله‪ ،‬وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فل تأكله" ‪ .‬إذ المعراض‪ :‬سهم‬ ‫بل ريش غليظ الوسط يصيب بحدة وعرضة معًا‪ ،‬فإن أصاب بحدة جاز أكل ما أصابه‪ ،‬وإن‬ ‫أصاب بعرضة فهو كالموقوذة فل يؤكل‪.‬‬ ‫‪ 2‬لن المة الكافرة ل تحل للمؤمن لقول ال تعالى‪{ :‬مِنْ فَتَياتِكم الْمؤمِنات} أي‪ :‬ل الكافرات‪.‬‬ ‫الية من سورة النساء‪.‬‬

‫( ‪)1/596‬‬ ‫طعْنَا وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ‬ ‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬ ‫وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم َومِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَ َقكُمْ ِبهِ إِذْ قُلْ ُتمْ َ‬ ‫بِذَاتِ الصّدُورِ(‪})7‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إِذَا ُقمْ ُتمْ إِلَى الصّلةِ ‪ :‬أي‪ :‬إذا أردتم القيام إلى الصلة وأنتم محدثون ‪ ،1‬أي‪ :‬على غير وضوء‪.‬‬

‫فَاغْسِلُوا وُجُو َهكُمْ ‪ :‬أي‪ :‬بعد غسل الكفين ثلثا‪ ،‬والمضمضة والستنشاق والستنثار ثلثا ثلثا‬ ‫لبيان رسول ‪ 2‬ال صلى ال عليه وسلم ذلك‪.‬‬ ‫وَأَرْجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَيْنِ ‪ :‬أي‪ :‬واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إل أن يكون عليها خف ساتر فإنه يجوز‬ ‫المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين‪ ،‬وذلك إن لبسه بعد وضوء ولم يمض على‬ ‫لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيما‪ ،‬أو ثلثة أيام إن كان مسافرا بهذا جاءت السنة ‪.3‬‬ ‫وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبا ‪ :‬الجنب‪ :‬من قامت به جنابة‪ ،‬وهي شيئان‪ :‬غياب رأس الذكر في الفرج‪ ،‬وخروج‬ ‫المني بلذة في نوم أو يقظة‪.‬‬ ‫طهّرُوا ‪ :‬يعني‪ :‬فاغتسلوا‪ ،‬والغسل‪ :‬هو غسل سائر الجسد بالماء‪.‬‬ ‫فَا ّ‬ ‫ا ْلغَائِطِ ‪ :‬كناية عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو ضراط‪ ،‬أو بول أو مذي‪.‬‬ ‫َأوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ ‪ :‬ملمسة النساء كناية عن الجماع‪ ،‬كما أن من لمس امرأة ليلتذذ بها‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إن خلفًا طويلً عريضًا ف تأويل هذه الية‪ ،‬وهو يدور على هل الوضوء واجب لكل صلة أو‬ ‫هو مستحب أو واجب على المحدث ل غير‪ ،‬ومستحب لغيره‪ ،‬وهل في الية تقديم وتأخير؟ والذي‬ ‫عليه جمهور المة‪ :‬أن الوضوء واجب على المحدث ل غير ومستحب لغيره‪ ،‬وأن تأويل الية هو‬ ‫كان في التفسير‪ ،‬ومما ينبغي الشارة إليه أن الوضوء والغسل والتيمم كلها كانت مشروعة قبل‬ ‫نزول هذه الية‪ ،‬إذ ما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم صلة بغير وضوء‪ ،‬ومشروعية‬ ‫التيمم نزلت في غزوة المريسيع‪ ،‬وكانت سنة خمس أو ست من الهجرة‪ ،‬وعليه فالية شملت‬ ‫الطهارة بأنواعها مؤكدة لها لتبقى خالدة تتلى في كتاب ال نتعبد بتلوتها ويعمل بمضمونها علمًا‬ ‫وعملً‪ ،‬إذ سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن كما تقدم‪.‬‬ ‫‪ 2‬ورد هذا في حديث عثمان في الصحيح‪ ،‬إذ فيه‪" :‬ثم تمضمض واستنشق واستنثر" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث مسلم عن علي رضي ال عنه أنه قال‪ :‬جعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثة أيام‬ ‫ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم‪ .‬يعني في المسح على الخفين‪.‬‬

‫( ‪)1/597‬‬ ‫أو لمسها لغير قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه‪ ،‬ومن هذا مس الفرج باليد لنه مظنة‬ ‫اللذة‪ ،‬لذا قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ" ‪.‬‬ ‫صعِيدا} ‪ :‬اقصدوا ترابا أو حجرا أو رملً أو سبخة مما صعد على وجه الرض‪.‬‬ ‫{فَتَ َي ّممُوا َ‬ ‫الحرج‪ :‬المشقة والعسر والضيق‪.‬‬ ‫{ َومِيثَاقَهُ} ‪ :‬أي‪ :‬ميثاق ال تعالى‪ ،‬وهو عهده المؤكد‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬شهادة أن ل إله إل ال وأن‬ ‫محمدا رسول ال‪ ،‬إذ بها وجب اللتزام بسائر التكاليف الشرعية‪.‬‬

‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة‪ ،‬إذا هم أرادوا‬ ‫الصلة‪ ،‬وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلى يناجي ‪ 1.2‬ربه‪ ،‬وبين لهم الطهارة الصغرى منها‬ ‫وهي الوضوء‪ ،‬والكبرى وهي الغسل‪ ،‬وبين لهم ما ينوب عنها إذا تعذر وجود الماء الذي به‬ ‫الطهارة أو عجزوا عن استعماله‪ ،‬وهو التيمم فقال تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلةِ‬ ‫فَاغْسِلُوا وُجُو َهكُمْ} وحدُ الوجه طولً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه‬ ‫وحده عرضا من وتد الذن اليمنى إلى وتد الذن اليسرى {وَأَيْدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَافِقِ} فيشمل الغسل‬ ‫سكُمْ} واللفظ‬ ‫سحُوا بِ ُرؤُو ِ‬ ‫الكفين والذراعين إلى بداية العضدين‪ ،‬فيدخل في الغسل المرفقان {وَامْ َ‬ ‫محتمل للكل والبعض‪ ،‬والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه‪ ،‬وهو‬ ‫أكمل وذلك ببلل يكون في كفيه‪ ،‬كما بينت السنة مسح الذنين ظاهرا وباطنا بعد مسح الرأس‬ ‫{وَأَرْجَُل ُكمْ إِلَى ا ْل َكعْبَيْنِ} ‪ ،‬أي‪ :‬واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين‪ ،‬وهما العظمان النائتان عند بداية‬ ‫الساق‪ ،‬وبينت السنة رخصة المسح ‪ 3‬على الخفين بدلً من غسل الرجلين‪ ،‬كما بينت غسل الكفين‬ ‫والمضمضة والستنشاق والستنثار‪ ،‬وكون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نص الحديث‪" :‬إذا كان أحدكم في الصلة فإنه يناجي ربه" ‪ ،‬وفي رواية البخاري‪ " :‬إذا كان‬ ‫أحدكم في الصلة فإن ربه بينه وبين القبلة" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬وكل ما ذكر في التفسير من صفة الوضوء والغسل والتيمم هو ثابت في الصحاح والسنن‪،‬‬ ‫وليس فيه ما هو ضعيف قط‪.‬‬ ‫‪ 3‬وضلت الرافضة فأخذوا بقراءة‪{ :‬وأرجلكم} بالكسر ومسحوا أرجلهم في كل وضوء وتركوا‬ ‫غسل الرجلين أبدًا‪ ،‬والحامل لهم على ذلك أن رؤسائهم زينوا لهم ذلك وأوجبوه عليهم لعلة أن‬ ‫يبقوا بعيدين عن السلم والمسلمين ليستغلوهم ماديًا‪ ،‬وليعدوهم لقتال المسلمين لعادة دولة‬ ‫المجوس التي يحلمون بها‪ ،‬وأما أهل السنة والجماعة فإنهم عملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم فغسلوا‬ ‫أرجلهم؛ لن نبيهم لم يمسح رجليه بدون خف قط‪ ،‬ومسحوا على الخفين كما مسح نبيهم فأخذوا‬ ‫بالقراءتين معًا‪.‬‬

‫( ‪)1/598‬‬ ‫الغسل ثلثا ثلثا على وجه الستحباب‪ ،‬وقول بسم ال عند الشروع‪ ،‬أي‪ :‬البدء في الوضوء‪ .‬كما‬ ‫بينت السنة وجوب الترتيب بين العضاء المغسولة الول فالول‪ ،‬ووجوب الفور بحيث ل يفصل‬ ‫بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب‬ ‫النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء ‪.1‬‬

‫طهّرُوا ‪ }2‬أي‪ :‬وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والحتلم‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبا فَا ّ‬ ‫فمن جامع زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل‪ ،‬أي‪ :‬لم يخرج منه المني فقد أجنب‪ ،‬كما أن‬ ‫من احتلم فخرج منه مني فقد أجنب بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب‬ ‫طهّرُوا} يريد‬ ‫وانقطاع دم حيض المرأة‪ ،‬ودم نفاسها؛ كالجنابة يجب منه الغسل‪ ،‬وقوله‪{ :‬فَا ّ‬ ‫فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي‪ :‬أن ينوي المرء رفع الحدث الكبر بقلبه ويغسل كفيه‬ ‫قائلً‪ :‬بسم ال ويغسل فرجه وا حولهما‪ ،‬ثم يتوضأ الوضوء الصغر المعروف‪ ،‬ثم يخلل أصول‬ ‫شعر رأسه ببلل يديه‪ ،‬ثم يغسل رأسه ‪ 3‬ثلث مرات‪ ،‬ثم يقبض الماء على شق جسده اليمن كله‬ ‫من أعله إلى أسفله‪ ،‬ثم اليسر‪ ،‬ويتعاهد الماكن التي قد ينبو عنها الماء فل يمسها؛ كالسرة‬ ‫سفَرٍ َأوْ‬ ‫وتحت البطين‪ ،‬والرفقين وهما أصل الفخذين‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ كُنْ ُتمْ مَ ْرضَى َأوْ عَلَى َ‬ ‫جدُوا مَاءً} ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة‬ ‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ ا ْلغَا ِئطِ َأ ْو لمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَ ِ‬ ‫جَاءَ أَ َ‬ ‫نواقض الوضوء وموجب النتقال منه إلى التيمم فقال‪{ :‬وَإِنْ كُنْتُمْ مَ ْرضَى} ‪ ،‬فالمريض قد يعجز‬ ‫عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك‪ ،‬وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر‬ ‫سفَرٍ} إذ السفر مظنة عدم‬ ‫معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء‪ ،‬وقوله‪َ{ :‬أوْ عَلَى َ‬ ‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ‬ ‫وجود الماء هذه موجبات النتقال من الوضوء إلى التيمم‪ ،‬وقوله عز وجل‪َ{ :‬أوْ جَاءَ أَ َ‬ ‫ا ْلغَائِطِ‪َ 4‬أ ْو لمَسْتُمُ النّسَاءَ} ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بعض الفقهاء يعدون النية فرضًا من فروض الوضوء‪ ،‬وبعضهم يعدها شرطًا‪ ،‬وما دام‬ ‫المشروط يتوقف على شرطه صحة وبطلنًا‪ ،‬والفرض إذا ترك بطل الوضوء فإنه خلف لفظي‬ ‫ل غير‪.‬‬ ‫‪{ 2‬فاطهروا} ‪ :‬أصلها فتطهروا‪ ،‬فأدغمت التاء في الطاء لتحاد مخرجيهما‪ ،‬ومعنى‪ :‬اطهروا‪:‬‬ ‫اغتسلوا‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬ل يقبل ال صلة بغير طهور‪. "...‬‬ ‫‪ 3‬مع أذنيه ظاهرًا وباطنًا‪.‬‬ ‫‪ 4‬أصل الغائط‪ :‬أنه المكان المنخفض‪ ،‬ولما كان من يريد قضاء حاجته يأتي المكان المنخفض‬ ‫ليستتر عن أعين الناس‪ ،‬أطلق لفظ الغائط على ما يحل فيه من بول وعذرة‪.‬‬

‫( ‪)1/599‬‬ ‫ذكر في الجملة الولى نواقض الوضوء إجمالً وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء‬ ‫وضراط وبول ومذي كنى عنه بقوله‪َ{ :‬أوْ جَاءَ َأحَدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ ا ْلغَائِطِ} وهو مكان التغوط والتبول‪،‬‬ ‫وذكر موجب الغسل وهو الجماع‪ ،‬وكنى عنه بالملمسة‪ ،‬تعليما لعباده المؤمنين الداب الرفيعة في‬ ‫جدُوا مَاءً} للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا‪ ،‬اقصدوا‬ ‫مخاطباتهم‪ ،‬وقوله‪{ :‬فَلَمْ تَ ِ‬

‫من أم الشيء إذا قصده صعيدا طيبا يريد ما صعد على وجه الرض من أجزائها؛ كالتراب‬ ‫سحُوا‬ ‫والرمل والسبخة والحجارة‪ ،‬وقوله‪{ :‬طَيّبا} يريد به طاهرا من النجاسة والقذر‪ ،‬وقوله‪{ :‬فَامْ َ‬ ‫ِبوُجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِي ُكمْ مِنْهُ} بين فيه كيفية التيمم‪ ،‬وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك‬ ‫فما تيسر له من أجزاء الرض فيضرب بكفيه الرض فيمسح بهما وجهه وكفيه طاهرا أو باطنا‬ ‫مرة واحدة وقوله تعالى‪{ :‬مِنْهُ} أي‪ :‬من ذلك الصعيد‪ ،‬وبهذا بين تعالى كيفية التيمم‪ ،‬وهي التي‬ ‫علمها رسول ال صلى ال عليه وسلم عمار بن ياسر ‪ 1‬رضي ال عنه وقوله تعالى‪{ :‬مَا يُرِيدُ اللّهُ‬ ‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء‪،‬‬ ‫لِيَ ْ‬ ‫والكبرى وهي الغسل‪ ،‬وما ينوب عنهما عند العجز‪ ،‬وهو التيمم‪ ،‬ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق‬ ‫والعنت‪ ،‬ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الحداث والذنوب‪ ،‬لن الوضوء كفارة لذنب‬ ‫طهّ َركُ ْم وَلِيُ ِتمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ}‬ ‫المتوضئ كما جاء بيانه في السنة ‪ 2‬وهو قوله تعالى‪{ :‬وََلكِنْ يُرِيدُ لِيُ َ‬ ‫أي‪ :‬بهدايتكم إلى السلم وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به‬ ‫شكُرُونَ} ‪.‬‬ ‫السلم من العمال الباطنة والظاهرة‪ ،‬وهو معنى قوله‪َ{ :‬لعَّلكُمْ َت ْ‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ ،)6‬أما الية الخيرة (‪ )7‬وه قوله تعالى‪{ :‬وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ‬ ‫علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ} فإنه‬ ‫طعْنَا وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫س ِمعْنَا وََأ َ‬ ‫عَلَ ْيكُ ْم َومِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَ َقكُمْ ِبهِ إِذْ قُلْتُمْ َ‬ ‫تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى اليمان ليشكروه بالسلم‪ ،‬كما‬ ‫يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به‪ ،‬وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه‬ ‫بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم عندما تعهد أن ل إله إل ال وأن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ قال له‪" :‬إنما يكفيك أن تقول هكذا ثم ضرب بيديه الرض ضربة واحدة‪ ،‬ثم مسح الشمال‬ ‫على اليمين‪ ،‬وظاهر كفيه ووجه" متفق عليه‪ .‬وورد أنه يضرب الرض فيمسح وجه ثم يكررها‬ ‫مرة أخرى فيمسح كفيه‪ ،‬وورد عن ابن عمر مسحهما إلى المرفقين‪.‬‬ ‫‪ 2‬ورد في فضل الوضوء أحاديث صحيحة كثيرة منها‪" :‬من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى‬ ‫الصلة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" ‪ ،‬ومنها‪" :‬ما من مسلم يتوضأ فيحسن‬ ‫الوضوء ثم يرفع طرفه إلى السماء ويقول‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له وأشهد أن‬ ‫محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إل فتحت له أبواب الجنة‬ ‫الثمانية" ‪.‬‬

‫( ‪)1/600‬‬ ‫طعْنَا} قد قالها الصحابة بلسان الحال عندما بايعوا‬ ‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬ ‫محمدا رسول ال‪ .‬وأما قوله‪{ :‬إِذْ قُلْ ُتمْ َ‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره‪ ،‬وقد قالها كل مسلم‬

‫بلسان الحال لما شهد ل بالوحدانية وللنبي بالرسالة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَا ّتقُوا اللّهَ} أمر بالتقوى التي‬ ‫هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدبا وقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}‬ ‫يذكرهم بعلم ال تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن‪ ،‬وهذا من باب تربية‬ ‫ال تعالى لعباده المؤمنين لكمالهم وإسعادهم فله الحمد وله المنة‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬المر بالطهارة ‪ 1‬وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل‪ ،‬وكيفية التيمم ‪.2‬‬ ‫‪ -2‬بيان العذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان موجبات الوضوء والغسل‪.‬‬ ‫‪ -4‬الشكر هو علة النعام‪.‬‬ ‫‪ -5‬ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها‪.‬‬ ‫ط وَل َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى أَل َت ْعدِلُوا اعْدِلُوا‬ ‫سِ‬ ‫ش َهدَاءَ بِا ْلقِ ْ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ ِللّهِ ُ‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ‬ ‫ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّتقْوَى وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ(‪ )8‬وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬ ‫َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ عَظِيمٌ(‪ )9‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الحديث الصحيح‪" :‬الطهور شطر اليمان" ‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬وكيفية المسح على الخفين هي‪ :‬أن يبل يده بالماء ثم يمسح ظاهر رجله اليمنى‪ ،‬ثم يمسح ظاهر‬ ‫اليسرى دون باطنها‪ .‬حديث علي‪" :‬لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعله"‬ ‫‪ .‬ويشترط في المسح أن يلبس خفيه على طهارة‪.‬‬

‫( ‪)1/601‬‬ ‫جحِيمِ(‪ )10‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ َهمّ َقوْمٌ أَنْ يَ ْبسُطُوا إِلَ ْي ُكمْ أَيْدِ َيهُمْ َفكَفّ‬ ‫الْ َ‬ ‫أَيْدِ َيهُمْ عَ ْنكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ(‪})11‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َقوّامِينَ لِلّهِ} ‪ :‬جمع قوام‪ ،‬وهو كثير القيام ل تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى‪ ،‬وبحقوق الغير‬ ‫أيضا ل يفرط في شيء من ذلك‪.‬‬ ‫سطِ} ‪ :‬جمع شهيد بمعنى‪ :‬شاهد‪ ،‬والقسط‪ :‬العدل‪.‬‬ ‫ش َهدَاءَ بِا ْلقِ ْ‬ ‫{ُ‬ ‫{وَل يَجْ ِرمَ ّنكُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل يحملنكم‪.‬‬ ‫{شَنَآنُ} ‪ :‬بغض وعداوة‪.‬‬ ‫العدل ‪ :‬خلف الجور‪ ،‬وهو المساواة بل حيف ول جور‪.‬‬

‫{ ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى} ‪ :‬أي‪ :‬العدل أقرب للتقوى من الجور‪.‬‬ ‫{ َهمّ َقوْمٌ} ‪ :‬أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير‪.‬‬ ‫سطُوا إِلَ ْيكُمْ أَيْدِ َيهُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ليقتلوا نبيكم صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{يَبْ ُ‬ ‫{ َف َكفّ أَيْدِ َيهُمْ} ‪ :‬لم يمكنهم مما أرادوه من قتل النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ‪ ،1‬ففي الية (‪)8‬‬ ‫أمر ال تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين ل تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات‪ ،‬وأن يكونوا‬ ‫شهداء بالعدل ل يحيفون ول يجورون في شيء سواه كان المشهد عليه وليا أو عدوا‪ ،‬ونهاهم أن‬ ‫يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به‪ ،‬ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل‬ ‫العدل هم أقرب الناس إلى التقوى ‪ ،2‬لن من كانت ملكة العدل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لما ذكرهم تعالى في اليات السابقة بنعمه العظيمة‪ ،‬طلب إليهم في هذه الية أن يشكروا تلك‬ ‫سطِ}‪.‬‬ ‫شهَدَاءَ بِا ْلقِ ْ‬ ‫النعم‪ ،‬وذلك بالوفاء له بالعهد‪ ،‬فقال لهم‪{ :‬كُونُوا َقوّامِينَ لِلّهِ ُ‬ ‫‪ 2‬المراد من التقوى‪ :‬التقوى الكاملة التامة التي هي ملك المر‪ ،‬إذ بها تتحقق لهم ولية ربهم ما‬ ‫داموا مؤمنين متقين‪.‬‬

‫( ‪)1/602‬‬ ‫صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات‪ ،‬وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات‪ ،‬ثم أمرهم‬ ‫بالتقوى مؤكدا شأنها؛ لنها ملك المر‪ ،‬وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة ال‬ ‫تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معا‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى(‪ )8‬أما الية(‪ )9‬فقد‬ ‫تضمنت بشرى سارة ‪ 1‬لهم‪ ،‬وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة‬ ‫لذنوبهم والجر العظيم لهم وهو الجنة‪ ،‬وقلت بشرى سارة لهم‪ ،‬لنهم هم أهل اليمان وصالح‬ ‫العمال رضي ال عنهم وأرضاهم‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )10‬فقد تضمنت وعيدا شديدا للكافرين‬ ‫المكذبين بآيات ال وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها‪ ،‬ولزم لكذبهم وكفرهم خبث‬ ‫أرواحهم‪ ،‬ولذا فهم ل يلئمهم إل عذاب النار فكانوا بذلك أصحاب الجحيم ‪ 2‬الذين ل يفارقونها‬ ‫أبدا‪ ،‬وأما الية الرابعة(‪ )11‬فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه‪ ،‬هي نجاة نبيهم محمد صلى‬ ‫ال عليه وسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الية ما خلصته‪:‬‬ ‫أن أولياء العامريين الذين قتل خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما‪ ،‬جاءوا يطالبون‬ ‫بدية قتيلهم‪ ،‬فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعه الخلفاء الراشدون الربعة وعبد الرحمن‬ ‫بن عوف رضي ال عنهم أجمعين إلى بني النضير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب‬

‫عقد المعاهدة‪ ،‬إذ من جملة موادها‪ :‬تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الخر في مثل هذه الحالة‬ ‫المالية‪ ،‬فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالحفاوة‬ ‫والتكريم وأجلسوه مكانا لئقا تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود‪،‬‬ ‫وقد خلوا ببعضهم وتأمروا على قتله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقالوا فرصة متاحة فل نفوتها أبدا‬ ‫وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫فتقتله‪ ،‬وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى ال إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة‪ ،‬فقام صلى ال‬ ‫عليه وسلم وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء‬ ‫المعاهدة وإجلئهم من المدينة‪ ،‬وقصتهم في سورة الحشر‪ ،‬والمقصود من هذا بيان المراد من قوله‬ ‫تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬ ‫__________‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ‪َ ،‬ل ُهمُ الْبُشْرَى فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي‬ ‫‪ 1‬لقوله تعالى‪{ :‬إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ ل َ‬ ‫الخِ َرةِ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية قصر إدعائي‪ ،‬وهو قوله تعالى‪{ :‬أولئك أصْحَابْ ا ْلجَحيِم} ‪ ،‬أي‪ :‬ل غيرهم؛ كأنهم‬ ‫المتأهلون للعذاب والخلود فيه دون غيرهم‪ ،‬وذلك لعظم جرمهم بالكفر والتكذيب‪.‬‬

‫( ‪)1/603‬‬ ‫سطُوا ‪ 1‬إِلَ ْيكُمْ أَيْدِ َيهُمْ} أي‪ :‬بالقتل للنبي صلى ال‬ ‫آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْي ُكمْ إِذْ هَمّ َقوْمٌ أَنْ يَبْ ُ‬ ‫عليه وسلم { َف َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَ ْنكُمْ} حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم‬ ‫يظفروا بما أرادوا‪ ،‬وهو معنى‪َ { :‬ف َكفّ أَ ْيدِ َيهُمْ‪ 2‬عَ ْن ُكمْ}‪.‬‬ ‫ثم أمر ال تعالى المؤمنين بتقواه‪ ،‬إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم‪ ،‬وهي عبارة عن امتثال أمره‬ ‫وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله‪{ :‬وَعَلَى ‪3‬‬ ‫اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب القيام بحق ال تعالى على العبد‪ ،‬وهو ذكره وشكره بطاعته‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء‪.‬‬ ‫‪ -3‬تأكيد المر بتقوى ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -4‬الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في اليتين(‪)9‬و(‪.)10‬‬ ‫‪ -5‬وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب التوكل على ال تعالى والمضي في أداء ما أوجب ال تعالى‪.‬‬

‫عشَرَ َنقِيبا َوقَالَ اللّهُ إِنّي َم َعكُمْ لَئِنْ َأ َقمْتُمُ‬ ‫{وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرائيلَ وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ َ‬ ‫لكَفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُكمْ‬ ‫الصّلةَ وَآتَيْتُمُ ال ّزكَا َة وَآمَنْ ُتمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُ ْم وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا ُ‬ ‫وَلُ ْدخِلَ ّنكُمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ولهذه الحادثة نظيرتها‪ ،‬فقد تعددت مؤامرات اليهود والمشركين على النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫والمؤمنين‪ ،‬ففي الحديبية حصل مثل هذا‪ ،‬وحادثة غورث‪ ،‬وعثور كذلك‪ ،‬إذ الكل همه فيها ببسط‬ ‫أيديهم بالذى‪ ،‬ولكن ال كف أيديهم فله الحمد وله المنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬كف اليد‪ :‬كناية عن عدم القتل والقتال‪ .‬وبسطها‪ :‬كناية عن السوء والذى الحاصل بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية قصر حقيقي‪ ،‬وهو أن التوكل ل يكون إل على ال‪ ،‬إذ ل كافي إل هو سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/604‬‬ ‫سوَاءَ السّبِيلِ(‪})12‬‬ ‫ضلّ َ‬ ‫جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ َفمَنْ كَفَرَ َبعْدَ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الميثاق ‪ :‬العهد المؤكد باليمان‪.‬‬ ‫{بَنِي إِسْرائيلَ} ‪ :‬اليهود‪.‬‬ ‫{ َنقِيبا‪ : }1‬نقيب القوم‪ :‬من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم‪.‬‬ ‫{وَعَزّرْ ُتمُوهُمْ‪ : }2‬أي‪ :‬نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم‪.‬‬ ‫{وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ} ‪ :‬أي‪ :‬أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله‪.‬‬ ‫ل َكفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِتكُمْ} ‪ :‬أسترها ولم أوآخذكم بها‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫سوَاءَ السّبِيلِ} ‪ :‬أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب والنجاة من‬ ‫ضلّ َ‬ ‫{ َفقَ ْد َ‬ ‫المرهوب‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء بعهودهم واللتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الية بما أخذ على‬ ‫بني إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي الدنيا وعذاب الخرة ليكون هذا عبرة للمؤمنين‬ ‫حتى ل ينكثوا عهدهم ول ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لستعظام من استعظم غدر اليهود وهمهم‬ ‫بقتل النبي صلى ال عليه وسلم فقال تعالى‪{ :‬وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرائيلَ} وهو قوله إني‬ ‫عشَرَ َنقِيبا‪ }3‬أي‪ :‬من كل قبيلة من قبائلهم الثنى عشرة قبيلة نقيبا‬ ‫معكم التي‪{ ،‬وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ َ‬ ‫يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم‪ ،‬وهم الذين بعثهم موسى عليه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النقب‪ ،‬والنقب بفتح القاف وضمها‪ :‬الطريق في الجبل‪ .‬والنقيب‪ :‬المين على القوم‪ ،‬وجمعه‬

‫نقباء‪ ،‬وهو من ينقب عن أمور القوم ومصالحهم ليرعاها لهم‪ .‬وقالوا النقيب أكبر من العريف‪،‬‬ ‫وفي البخاري‪" :‬ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفائكم أمركم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬التعزير‪ :‬التعظيم‪ .‬والتوقير والنصرة والدفاع عن المعزر‪ .‬والتعزير في الشرع‪ :‬الضرب دون‬ ‫الحد لرد المخالف إلى الحق وسبيل الرشاد‪.‬‬ ‫‪ 3‬من بين النقباء الثنى عشر‪ :‬يوشع‪ ،‬وكالب‪ ،‬وهما رجلن صالحان‪ ،‬والباقون هلكوا فل خير‬ ‫فيهم‪.‬‬

‫( ‪)1/605‬‬ ‫السلم إلى فلسطين لتعرفوا على أحوال الكنعانيين ‪ 1‬قبل قتالهم‪ .‬وقال ال تعالى‪{ :‬إِنّي َم َعكُمْ} ‪،‬‬ ‫وهذا بند الميثاق {لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّلةَ} أي‪ :‬وعزتي وجللي {لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّلةَ وَآتَيْ ُتمُ ال ّزكَا َة وَآمَنْتُمْ‬ ‫بِرُسُلِي} صدقتموهم فيما جاءوكم به {وَعَزّرْ ُتمُوهُمْ} بنصرتهم وتعظيمهم‪{ ،‬وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَرْضا‬ ‫حسَنا} أي‪ :‬زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في النفاق‪ ،‬وفي تزكية النفس باليمان وصالح‬ ‫َ‬ ‫ل َكفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُكمْ‪ }2‬بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر { َولُدْخِلَ ّن ُكمْ} بعد‬ ‫العمال { ُ‬ ‫ذلك التطهير {جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا} ‪ ،‬أي‪ :‬من تحت أشجارها وقصورها {الَ ْنهَارُ} هذا جزاء‬ ‫سوَاءَ السّبِيلِ} أي‪ :‬أخطأ‬ ‫ضلّ َ‬ ‫الوفاء بالميثاق { َفمَنْ َكفَرَ} فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده { َفقَ ْد َ‬ ‫طريق الفلح في الدنيا والخرة‪ ،‬أي‪ :‬خرج عن الطريق المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬الحث على الوفاء باللتزامات الشرعية‪.‬‬ ‫‪ -2‬إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك‬ ‫منهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬إقام الصلة وإيتاء الزكاة والنفاق في سبيل ال تعبد ال بها ‪ 3‬من قبل هذه المة‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب تعظيم ‪ 4‬الرسول صلى ال عليه وسلم ونصرته في أمته ودينه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل على قبول خبر الواحد فيما يحتاج إليه من الطلع على حاجة من الحاجات‬ ‫الدينية والدنيوية‪ ،‬وفيها دليل على اتخاذ العين‪ ،‬أي‪ :‬الجاسوس‪ ،‬وقد بعث رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬بسبسبة" عينًا في غزوة بدر بعثه لتقصي أخبار أبي سفيان‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا جواب القسم في قوله‪{ :‬لَئِنْ َأ َقمْ ُتمُ الصّلةَ‪ }...‬إلخ‪ .‬وأما قوله تعالى‪{ :‬إِنيِ َمعَكم} فهو إخبار‬ ‫بوعد ال تعالى لبني إسرائيل‪ ،‬وهي معية نصرة وتأييد إن هم وفوا ال بما أخذ عليهم من عهد‬ ‫وميثاق وجملة‪{ :‬لَئِنْ َأ َقمْتُمُ} جملة مستأنفة ول علقة لها بجملة الوعد‪ { :‬إني معكم}‪.‬‬

‫‪ 3‬ليس هذا من خصائص أمة السلم؛ لن هذه العبادات شرعت لسعاد وإكمال النسان‪ ،‬لذا هي‬ ‫مشروعة لكل المم لتوقف الكمال والسعادة على مثلها من مزكيات النفوس ومهذبات الخلق‪.‬‬ ‫‪ 4‬لن مقام الرسل شريف‪ ،‬وكيف وهم رسول ال تعالى‪ ،‬ثم لول وجوب ذلك لهم مع وجوب‬ ‫محبتهم لما أطاعهم من بعثوا فيهم وأرسلوا إليهم‪.‬‬

‫( ‪)1/606‬‬ ‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِ َيةً يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَاضِعِ ِه وَنَسُوا حَظّا ِممّا‬ ‫ضهِمْ مِيثَا َقهُمْ َلعَنّاهُمْ وَ َ‬ ‫{فَ ِبمَا َن ْق ِ‬ ‫حبّ‬ ‫صفَحْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬ ‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَا ْ‬ ‫ُذكّرُوا بِ ِه وَل تَزَالُ تَطِّلعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِ ْنهُمْ إِل قَلِيلً مِ ْنهُمْ فَا ْ‬ ‫خذْنَا مِيثَا َقهُمْ فَنَسُوا حَظّا ِممّا ُذكّرُوا ِبهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْ َنهُمُ‬ ‫حسِنِينَ(‪َ )13‬ومِنَ الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى أَ َ‬ ‫ا ْلمُ ْ‬ ‫س ْوفَ يُنَبّ ُئ ُهمُ اللّهُ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ(‪})14‬‬ ‫ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫نقض الميثاق ‪ :‬حله بعدم اللتزام بما تضمنه من أمر ونهي‪.‬‬ ‫{َلعَنّا ُهمْ} ‪ :‬طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال‪.‬‬ ‫{ ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ ‪ :‬يبدلون الكلم ويؤولون معانيه لغراض فاسدة‪ ،‬والكلم من الكلم‪.‬‬ ‫حظّا ِممّا ُذكّرُوا} ‪ :‬تركوا قسطا كبيرا مما ذكرهم ال تعالى به‪ ،‬أي‪ :‬أمرهم به في كتابهم‪.‬‬ ‫وَنَسُوا َ‬ ‫{خَائِنَةٍ} ‪ :‬خيانة أو طائفة خائنة منهم‪.‬‬ ‫صفَحْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسنا إليهم بذلك‪.‬‬ ‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَا ْ‬ ‫{فَا ْ‬ ‫{إِنّا َنصَارَى} ‪ :‬أي‪ :‬ابتدعوها بدعة النصرانية‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنا نصارى‪.‬‬ ‫{فَأَغْرَيْنَا بَيْ َنهُمُ ا ْلعَدَا َوةَ} ‪ :‬الغراء‪ :‬التحريش‪ ،‬والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلف إلى يوم‬ ‫القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبدا‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود و غدرهم‪ ،‬فقد أخبر تعالى في هذه الية الكريمة‬

‫( ‪)1/607‬‬ ‫(‪ )13‬أن اليهود الذين أخذ ال ميثاقهم على عهد موسى عليه السلم بأن يعملوا بما في التوراة وأن‬ ‫يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثنى عشر نقيبا قد نكثوا عهدهم‬ ‫ونقضوا ميثاقهم‪ ،‬وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى‪:‬‬ ‫ضهِمْ‪ }1‬أي‪ :‬فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم‬ ‫{فَ ِبمَا َن ْق ِ‬ ‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِيَةً‪ }2‬شديدة‬ ‫{َلعَنّا ُهمْ} أي‪ :‬أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلم {وَ َ‬

‫ضعِهِ} فيقدمون ويؤخرون‬ ‫غليظة ل ترق لموعظة‪ ،‬ول تلين لقبول هدى {يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَا ِ‬ ‫ويحذفون بعض الكلم ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم‪ ،‬ومن ذلك تأويلهم اليات الدالة على نبوة‬ ‫كل من عيسى ومحمد صلى ال عليهما وسلم في التوراة {وَنَسُوا حَظّا ِممّا ُذكّرُوا ِبهِ} وتركوا‬ ‫كثيرا مما أمروا به من الشرائع والحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها‪ ،‬فهل‬ ‫يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة‪ ،‬ول تزال يا رسولنا { َتطّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِ ْنهُمْ‬ ‫‪ }3‬أي‪ :‬على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير {إِل قَلِيلً مِ ْنهُمْ} فإنهم ل يخونون؛ كعبد ال بن‬ ‫عفُ ‪ 4‬عَ ْنهُمْ} فل تؤاخذهم بالقتل‪{ ،‬وَاصْفَحْ} عنهم فل تتعرض‬ ‫سلم وغيره‪ ،‬وبناء على هذا {فَا ْ‬ ‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ} ‪.‬‬ ‫لمكروههم فأحسن إليهم بذلك {إِنّ اللّهَ ُي ِ‬ ‫هذا ما دلت عليها الية الولى(‪ ،)13‬أما الية الثانية(‪ )14‬في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن‬ ‫النصارى ‪ 5‬وأن حالهم كحال اليهود ل تختلف كثيرا عنهم‪ ،‬فقد أخذنا ميثاقهم على اليمان بي‬ ‫وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيرا مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه‪ ،‬فكان أن‬ ‫أغرينا بينهم ‪ 6‬العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الميم في قوله تعالى‪{ :‬فَبِما َنقْضُهم} زائدة لتقوية الكلم وتأكيده ولفت النظر إليه ليتأمل وتفهم‬ ‫معانيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرئت‪َ { :‬قسْية} يقال‪ :‬عام قسي‪ ،‬أي‪ :‬شديد ل مطر فيه‪ ،‬فالمادة مأخوذة من الشدة والقساوة‪.‬‬ ‫‪ 3‬لفط‪ :‬خائنة‪ ،‬صالح لن يكون صفة لطائفة محذوفة كما في التفسير‪ ،‬وجائز أن تكون خائنة‬ ‫بمعنى خيانة؛ كقولهم في القيلولة‪ :‬قائلة‪ ،‬والخيانة‪ :‬هي المعصية‪ ،‬يحدثونها؛ كالكذب والفجور‪،‬‬ ‫وأصل الخيانة‪ :‬عدم الوفاء بالعهد‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا حمل له صلى ال عليه وسلم على مكارم الخلق؛ لن أذاهم كان منصبًا عليه صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬فأمره بعدم مقابلة الذى بالذى‪ ،‬بل بالعفو والصفح ليعظم مقامه أمامه ويكبر في‬ ‫أعينهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬التعبير بلفظ‪ :‬النصارى‪ ،‬فيه إشارتات مهمتان‪ :‬الولى‪ :‬أن النصرانية بدعة ابتدعوها وليست‬ ‫مما شرع ال تعالى‪ ،‬فهو ينفي عنهم ذلك‪ .‬والثانية‪ :‬بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين‬ ‫والحق وأهله أخذًا من قول عيسى‪{ :‬مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ} ‪ ،‬فقَالَ الحواريون‪َ { :‬نحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ}‬ ‫إذا لم تنصرون الحق وهو السلم وأهله‪ ،‬وهم المسلمون؟‪.‬‬ ‫‪ 6‬من الجائز أن يقال‪{ :‬فَأَغْرَيْنَا بَيْ َنهُمُ ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَاءَ} هو عائد على اليهود والنصارى؛ لن‬ ‫العداوة بينهم ثابتة‪ ،‬إلى أن السياق هو في النصارى فظوائفهم متعددة ومتعادية متباغضة‪ ،‬كما‬ ‫أخبر تعالى‪ ،‬والفرق بين العداوة والبغضاء‪ :‬أن العداوة من العدوان فقد ينتج عنها أذي بالضرب‬ ‫أو القتل‪ .‬وأما البغضاء‪ :‬فهي من البغض القلبي فل يتوقع من صاحبها أذى‪.‬‬

‫( ‪)1/608‬‬ ‫بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة‪،‬‬ ‫وسوف ينبئهم ال تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق‬ ‫لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ول سيما ما كان بين العبد وربه‪.‬‬ ‫‪ -2‬الخيانة وصف لزم لكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحباب العفو عند القدرة‪ ،‬وهو من خلل الصالحين‪.‬‬ ‫‪ -4‬حال النصارى ‪ 1‬ل تختلف كثيرا عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد‪ .‬وعليه فل‬ ‫يستغرب منهم الشر ول يؤمنون على سر‪ ،‬فهم على عداوة السلم والحرب عليه متعاونون‬ ‫متواصون‪.‬‬ ‫ب وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ‬ ‫خفُونَ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫{يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َقدْ جَا َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ كَثِيرا ِممّا كُنْتُمْ ُت ْ‬ ‫جهُمْ مِنَ‬ ‫ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّل ِم وَيُخْ ِر ُ‬ ‫جَا َءكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مُبِينٌ(‪َ )15‬يهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّ َبعَ ِر ْ‬ ‫الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْ ِن ِه وَ َيهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ(‪})16‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪ : }2‬هنا هم اليهود والنصارى معا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جائز أن يكون النصارى‪ :‬جمع نصارى منسوب إلى النصر‪ ،‬كما قالوا‪ :‬شعراني‪ ،‬ولحياني‪،‬‬ ‫منسوب إلى الشعر واللحية‪.‬‬ ‫‪ 2‬الكتاب‪ :‬اسم جنس‪ ،‬يصدق على الواحد والثنين والكثر‪ ،‬والمراد بأهل الكتاب‪ :‬اليهود‬ ‫والنصارى‪ ،‬ونداءه لهم بعنوان الكتاب فيه معنى العيب عليهم سلوكهم الشائن وإنحرافهم الخطير‬ ‫حيث بعدوا عن كل خير‪.‬‬

‫( ‪)1/609‬‬ ‫{قَدْ جَا َء ُكمْ رَسُولُنَا} ‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫خفُونَ مِنَ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬الكتاب‪ :‬التوراة والنجيل‪ ،‬وما يخفونه صفات النبي محمد صلى ال عليه‬ ‫{ ُت ْ‬ ‫وسلم وبعض الحكام‪ ،‬المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة؛ كالرجم مثلً‪.‬‬

‫{وَ َي ْعفُو ‪ 1‬عَنْ كَثِيرٍ} ‪ :‬ل يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها‪.‬‬ ‫{نُو ٌر َوكِتَابٌ مُبِينٌ} ‪ :‬النور‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والكتاب‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫{إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ} ‪ :‬السلم‪ :‬وهو الدين الحق الذي ل نجاة إل به‪ .‬والمستقيم‪ :‬الذي ل اعوجاج‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه من شر وسوء دعاهم‪ ،‬وهو‬ ‫ربهم وأرحم بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى اليمان رسوله وكتابه ذلك‬ ‫الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزي‪ ،‬والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقين فقال‪{ :‬يَا‬ ‫أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ َرسُولُنَا} أي‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم {يُبَيّنُ َل ُكمْ} بوحينا {كَثِيرا} من‬ ‫مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لنها حق جحدتموه‪ ،‬وذلك كنعوت النبي المي‬ ‫وصفاته حتى ل يؤمن به الناس‪ ،‬وكحكم الرجم في التوراة وما إلى ذلك‪{ .‬وَ َي ْعفُو} يترك كثيرا لم‬ ‫يذكر لعدم الداعي إلى ذكره يا أهل الكتاب { َقدْ جَا َءكُمْ مِنَ اللّهِ} ربكم {نُورٌ} هو رسولنا محمد ‪2‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم { َوكِتَابٌ مُبِينٌ} وهو القرآن‪ ،‬أذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما‬ ‫ضوَانَهُ}‪ ،‬وذلك‬ ‫تتوقف سعادة النسان وكماله عليه دنيا وأخرى { َيهْدِي بِهِ اللّهُ} تعالى {مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬ ‫بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا ال عز وجل بواسطة فعل محابه وترك مساخطه عن‬ ‫جهُمْ} أي‪:‬‬ ‫كل معتقد وقول وعمل يهديه به {سُ ُبلَ السّلمِ} أي‪ :‬طريق السعادة والكمال‪{ ،‬وَ ُيخْرِ ُ‬ ‫المتبعين رضوان ال {مِنَ الظُّلمَاتِ} وهي ظلمات الكفر والشرك والشك‪ ،‬إلى نور اليمان الصحيح‬ ‫والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم‪ ،‬أي‪ :‬أولئك‬ ‫الراغبين حقا في رضا ال {وَ َيهْدِي ِهمْ إِلَى صِرَاطٍ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬يَعفو} معناه‪ :‬يعرض ول يظهر‪ ،‬يقال‪ :‬عفا الرسم‪ ،‬إذا لم يظهر‪ ،‬فعفا عن كذا‪ ،‬أعرض عنه‬ ‫ولم يظهره‬ ‫‪ 2‬واللفظ صالح لن يكون المراد بالنور‪ :‬السلم‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم نور السلم‪ ،‬نور‬ ‫إذ كل منهما يهدي إلى دار السلم في الخرة وإلى الطهر والصفاء والكمال في دار الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)1/610‬‬ ‫مُسْ َتقِيمٍ} ل يضلون معه ول يشقون أبدا‪ ،‬وهو دينه الحق السلم الذي ل يقبل دينا غيره ‪ ،1‬والذي‬ ‫ما اهتدى من جانبه ول سعد ول كمل من تركه‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪:‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬

‫‪ -1‬نصح ال تعالى لهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السلم بالدخول في السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان جحود اليهود والنصارى لكثير من الحكام الشرعية ودلئل النبوة المحمدية مكرا وحسدا‬ ‫حتى ل يؤمن الناس بالسلم ويدخلوا فيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه إلى سعادته وكماله‪.‬‬ ‫‪ -4‬القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء‪.‬‬ ‫‪ -5‬طالب رضا ‪ 2‬ال بصدق يفوز بكل خبر وينجو من كل ضير‪.‬‬ ‫{َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َيمَ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ مِنَ اللّهِ شَيْئا إِنْ أَرَادَ أَنْ ُيهِْلكَ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا َيخْلُقُ مَا‬ ‫جمِيعا وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫ا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْ َي َم وَُأمّ ُه َومَنْ فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪َ )17‬وقَاَلتِ الْ َيهُو ُد وَال ّنصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّا ُؤهُ ُقلْ فَِلمَ‬ ‫يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫ُيعَذّ ُبكُمْ ِبذُنُو ِبكُمْ َبلْ أَنْتُمْ َبشَرٌ ِممّنْ خََلقَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا وَإِلَ ْيهِ ا ْل َمصِيرُ(‪ )18‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َقدْ جَا َءكُمْ‬ ‫وَالَرْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده قوله تعالى‪ ،‬من سورة آل عمران‪َ { :‬ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ السلم دِينا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْ ُه وَ ُهوَ فِي‬ ‫الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ} ‪.‬‬ ‫‪ 2‬لنه يطلبه عن طريق السلم‪ ،‬والسلم قائد أهله إلى النجاة من كل مرهوب‪ ،‬وإلى الفوز بكل‬ ‫محبوب مرغوب‪.‬‬

‫( ‪)1/611‬‬ ‫سلِ أَنْ َتقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ َبشِي ٍر وَل َنذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُمْ بَشِيرٌ‬ ‫رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ عَلَى فَتْ َرةٍ مِنَ الرّ ُ‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ}‬ ‫وَنَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ} ‪ :‬لنهم جحدوا الحق‪ ،‬وقالوا كذبا‪ :‬ال هو المسيح بن مريم‪.‬‬ ‫{ا ْلمَسِيحُ} ‪ :‬لقب لعيسى بن مريم عبد ال ورسوله عليه السلم‪.‬‬ ‫{مَرْيَمَ} ‪ :‬بنت عمران‪ ،‬من صلحاء بني إسرائيل‪ ،‬والدة عيسى عليه السلم‪.‬‬ ‫{ ُيهِْلكَ} ‪ :‬يميت ويبيد‪.‬‬ ‫{قَدِيرٌ} ‪ :‬قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه‪.‬‬ ‫الحباء ‪ :‬واحده‪ :‬حبيب‪ ،‬كما أن البناء واحده‪ :‬ابن‪.‬‬ ‫{عَلَى فَتْ َرةٍ} ‪ :‬الفترة‪ :‬زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال ال تعالى رسولً‪.‬‬ ‫{بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} ‪ :‬البشير‪ :‬المبشر بالخير‪ ،‬والنذير‪ :‬المنذر من الشر‪ ،‬وهو رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب‪ ،‬ففي الية الولى(‪ )17‬أخبر تعالى مؤكدا‬ ‫الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللم الواقعة في جواب القسم‪ ،‬فقال‪َ{ :‬لقَدْ َكفَرَ‪ 1‬الّذِينَ قَالُوا إِنّ‬ ‫اللّهَ ُهوَ‪ 2‬ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوف المربوب هو ال الخالق الرب لكل‬ ‫شيء‪ ،‬وهو كفر من أقبح أنواع الكفر‪ ،‬وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى‬ ‫النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به‪ ،‬لن الرضا بالكفر كفر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد من ذكر هذا الخبر‪َ{ :‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هو بيان كفرهم‬ ‫بهذه المقالة‪ ،‬ل أنه تقرير لضللهم ونقضهم الميثاق‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا عائد إلى قول بعضهم‪ :‬إن المسيح لهوت ناسوت‪ ،‬أي‪ :‬إله وإنسان‪ .‬وهو خلط وخبط ل‬ ‫نظير لهما‪ ،‬وأشهر طوائفهم‪ ،‬وهم‪ :‬اليعقوبية‪ ،‬والملكائية‪ ،‬والنسطورية‪ ،‬ينكرون أن يكون ال هو‬ ‫المسيح‪ ،‬ولكن يقولون‪ :‬إن عيسى ابن ال‪ ،‬وأنه إله‪ .‬وهو كذب صراح‪ ،‬وكفر بواح‪.‬‬

‫( ‪)1/612‬‬ ‫وقوله تعالى‪ُ { :‬قلْ َفمَنْ‪َ 1‬يمِْلكُ مِنَ اللّهِ شَيْئا} يعلم رسوله كيف يتحج على أهل هذا الباطل فيقول‬ ‫له‪ :‬قل لهم‪ :‬فمن يملك من ال شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما السلم { َومَنْ‬ ‫جمِيعا} ‪ ،‬والجواب قطعا‪ :‬ل أحد‪ ،‬إذا فكيف يكون عبد ال هو ال أو إلها مع ال؟‬ ‫فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫أليس هذا هو الضلل بعينه وذهاب العقول بكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له {مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫خلُقُ مَا َيشَاءُ} خلقه بل حجر عليه ول حظر‪ ،‬و هو على كل‬ ‫َومَا بَيْ َن ُهمَا} خلقا وتصرفا‪ ،‬وأنه {يَ ْ‬ ‫شيء قدير خلق آدم من تراب بل أب ول أم‪ ،‬وخلق حواء من آدم‪ ،‬وخلق عيسى من مريم بل‬ ‫أب‪ ،‬ويخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه السلم خلقه بكلمة كن بل أب ل‬ ‫تستلزم عقلً ول شرعا أن يكون هو ال‪ ،‬ول ابن ال‪ ،‬ول ثالث مع ال‪ ،‬كما هي عقيدة أكثر‬ ‫النصارى‪ ،‬والعجب من إصرارهم على هذا الباطل‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى‪ ،‬أما الية‬ ‫الثانية(‪ )18‬فقد تضمنت بيان ضلل اليهود والنصارى معا‪ ،‬وهو دعواهم أنهم {أَبْنَاءُ اللّه‬ ‫‪2‬وَأَحِبّا ُؤهُ} ‪ ،‬إذ قال تعالى عنهم‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُو ُد وَال ّنصَارَى نَحْنُ‪ 3‬أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ} وهو تبجح‬ ‫وسفه وضلل‪ ،‬فأمر ال تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله‪ :‬قل لهم يا رسولنا‪{ :‬فَلِمَ ُيعَذّ ُبكُمْ‬ ‫بِذُنُو ِبكُمْ} فهل الب يعذب أبناءه‪ ،‬والحبيب يعذب محبيه‪ ،‬وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوما‬ ‫بسب خطيئة عبادة أسلفهم العجل أربعين يوما‪ ،‬كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم‪َ { :‬وقَالُوا‬ ‫لَنْ َتمَسّنَا النّارُ إِل أَيّاما َمعْدُو َدةً} ‪ ،‬والحقيقة أن هذا القول منكم من جملة الترهات والباطيل التي‬ ‫تعيشون عليها‪ ،‬وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق ال فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق‪،‬‬

‫وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحا غفر له وأكرمه‪ ،‬ومن كفر منكم وعمل سوء عذبه‪،‬‬ ‫كما هي سنته في سائر عباده‪ ،‬ول اعتراض عليه فإن له ملك السموات والرض وما بينهما وأنتم‬ ‫من جملة مملوكيه‪ ،‬وإليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )19‬فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفاء‪ :‬للعطف على جملة محذوفة متضمنة كذبهم في قولهم‪ ،‬والتقدير‪ :‬كل كذبتم فمن يملك‪...‬‬ ‫إلخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬التعبير بالبوة والبنوة المنسوبة إلى ال تعالى تفيض بها التوراة والنجيل‪ ،‬وهو من التحريف‬ ‫الذي حصل لكتابيهم‪ ،‬وأما قول من قال‪ :‬هذه البوة والبنوة كانت تعني التشريف فاغتر بها‬ ‫المتأخرون واعتقدوا حقيقتها‪ .‬هذا القول فيه مجازفة ل تقبل‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪" :‬خوف رسول ال صلى ال عليه وسلم قومًا من اليهود في‬ ‫العقاب فقالوا‪ :‬ل نخاف فإننا أبناء ال وأحباؤه‪ ،‬فنزلت هذه الية‪.‬‬

‫( ‪)1/613‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله‪{ :‬يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ} وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من ‪1‬‬ ‫الرسل‪ ،‬إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين‬ ‫سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى ل تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم‪{ :‬مَا جَاءَنَا‬ ‫مِنْ بَشِي ٍر وَل نَذِيرٍ‪ }2‬فها هو ذا البشير محمد ‪ 3‬صلى ال عليه وسلم قد جاءكم ‪ 4‬فآمنوا به واتبعوه‬ ‫تنجوا وتسعدوا‪ ،‬وإل؛ فالعذاب لزم لكم‪ ،‬وال على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كفر من ينسب إلى ال تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص‪.‬‬ ‫‪ -2‬بطلن دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء ال وأحباؤه بالدليل العقلي‪.‬‬ ‫‪ -3‬نسبة المخلوقات ل تعالى ل تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم‬ ‫فيها بما يريد‪.‬‬ ‫‪ -4‬قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى ال عليه وسلم على حين فترة من الرسل‪.‬‬ ‫جعََلكُمْ مُلُوكا وَآتَا ُكمْ مَا‬ ‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء وَ َ‬ ‫{وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َقوْمِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ َ‬ ‫لَمْ ُي ْؤتِ أَحَدا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )20‬يَا َقوْمِ ادْخُلُوا الَ ْرضَ ا ْل ُمقَدّسَةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َلكُ ْم وَل تَرْتَدّوا عَلَى‬ ‫أَدْبَا ِركُمْ‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬الفترة‪ :‬مشتقة من فتر عن عمله‪ ،‬يفتر فتورًا‪ ،‬إذا سكن‪ .‬والصل فيها النقطاع عما كان عليه‬ ‫من الجد عليه‪ .‬والمراد بها في الشرع‪ :‬هي انقطاع ما بين الرسولين‪.‬‬ ‫‪{ 2‬مَن بَشِير ول نَذِير} من زائدة وزيادتها لغرض المبالغة في نفي المجيء وتنكير بشير ونذير‬ ‫للتقليل‪ ،‬أي‪ :‬ما جاءنا أقل بشير وأقل نذير‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا‬ ‫لليهود‪ :‬يا معشر يهود اتقوا ال فإنكم وال لتعلمون أن محمدًا رسول ال ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل‬ ‫مبعثه وتصفونه بصفته فقالوا‪ :‬ما أنزل ال من كتاب بعد موسى ول أرسل بعد من بشير ول نذير‬ ‫فنزلت هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 4‬قوله تعالى‪َ { :‬فقَدْ جَا َء ُكمْ بَشِيرٌ‪ }...‬الية‪ .‬الفاء‪ :‬هي الفاء الفصيحة‪ ،‬فقد أفصحت عن محذوف ما‬ ‫بعدها يكون علة له‪ ،‬وتقديره هنا‪ :‬ل تعتذروا فقد جاءكم‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫( ‪)1/614‬‬ ‫ن وَإِنّا لَنْ نَ ْدخَُلهَا حَتّى َيخْرُجُوا مِ ْنهَا فَإِنْ‬ ‫فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ(‪ )21‬قَالُوا يَا مُوسَى إِنّ فِيهَا َقوْما جَبّارِي َ‬ ‫يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ(‪ )22‬قَالَ َرجُلنِ مِنَ الّذِينَ َيخَافُونَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَي ِهمَا ا ْدخُلُوا عَلَ ْيهِمُ الْبَابَ‬ ‫ن وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُوا إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪})23‬‬ ‫فَإِذَا دَخَلْ ُتمُوهُ فَإِ ّنكُمْ غَالِبُو َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ِن ْعمَةَ‪ 1‬اللّهِ عَلَ ْيكُمْ} ‪ :‬منها نجاتهم من فرعون وملئه‪.‬‬ ‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ‪ : }2‬منهم موسى وهارون عليهما السلم‪.‬‬ ‫{ِإذْ َ‬ ‫جعََلكُمْ مُلُوكا} ‪ :‬أي‪ :‬مالكين أمر أنفسكم بعد الستعباد الفرعوني لكم‪.‬‬ ‫{وَ َ‬ ‫{ا ْلعَاَلمِينَ} ‪ :‬المعاصرين لهم والسابقين لهم‪.‬‬ ‫سةَ الّتِي كَ َتبَ} ‪ :‬المطهرة التي فرض ال عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها‪.‬‬ ‫{ا ْل ُمقَدّ َ‬ ‫{وَل تَرْتَدّوا عَلَى أَدْبَا ِركُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ترجعوا منهزمين إلى الوراء‪.‬‬ ‫{ َقوْما جَبّارِينَ} ‪ :‬عظام الجسام أقوياء البدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا‪.‬‬ ‫{ َيخَافُونَ} ‪ :‬مخالفة أمر ال تعالى ومعصية رسوله‪.‬‬ ‫{أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَي ِهمَا} ‪ :‬أي‪ :‬بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين‬ ‫لكشف أحوال العدو بها‪ ،‬وهما يوشع وكالب من النقباء الثنى عشر‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق مع أهل الكتاب‪ ،‬وهو هنا في اليهود خاصة‪ ،‬إذ قال ال تعالى لرسوله محمد‬ ‫__________‬

‫حصُوهَا}‬ ‫‪ 1‬النعمة‪ :‬اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد؛ كقوله تعالى‪{ :‬وَإِنْ َت ُعدّوا ِن ْعمَةَ اللّهِ ل ُت ْ‬ ‫فهو دال على العدد الذي ل يحصى‪.‬‬ ‫‪ 2‬أنبياء‪ :‬جمع نبي‪ ،‬ولم يصرف لن فيه ألف التأنيث الممدودة‪.‬‬

‫( ‪)1/615‬‬ ‫ج َعلَ فِيكُمْ‬ ‫صلى ال عليه وسلم واذكر ‪َ { 1‬وإِذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ َ‬ ‫جعََل ُكمْ مُلُوكا‪ }2‬تملكون أنفسكم ل سلطان لمة عليكم إل‬ ‫أَنْبِيَاءَ} كموسى وهارون عليهما السلم {وَ َ‬ ‫سةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ} للسكن فيها‬ ‫سلطان ربكم عز وجل ‪{ 3‬يَا َقوْمِ ا ْدخُلُوا الَ ْرضَ ا ْل ُمقَدّ َ‬ ‫والستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون {وَل تَرْتَدّوا عَلَى َأدْبَا ِركُمْ} أي‪ :‬ول‬ ‫ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين‪ ،‬ل أمر ال بالجهاد أطعتم‪ ،‬ول المدينة المقدسة‬ ‫دخلتم وسكنتم‪ ،‬واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك‪ ،‬ولتعلم‬ ‫أنهم قوم بهت سفلة ل خير لهم‪ ،‬إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلم‪{ :‬يَا مُوسَى إِنّ فِيهَا‬ ‫خلُونَ} !! وكان سبب‬ ‫خَلهَا حَتّى يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا فَإِنْ يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا فَإِنّا دَا ِ‬ ‫َقوْما جَبّارِينَ‪ 4‬وَإِنّا لَنْ نَدْ ُ‬ ‫هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات ل‬ ‫تكاد تتصور في العقول‪ ،‬اللهم إل اثنين منهم‪ ،‬وهما‪ :‬يوشع بن نون‪ ،‬وكالب بن يوحنا‪ ،‬وهما اللذان‬ ‫قال تعالى عنهما‪{ :‬قَالَ َرجُلنِ مِنَ الّذِينَ َيخَافُونَ} أي‪ :‬أمر ال تعالى {أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَي ِهمَا} فعصمهما‬ ‫من إفشاء سر ما رأوا من قوة الكنعانيين إل لموسى عليه السلم قال للقوم‪{ :‬ا ْدخُلُوا عَلَ ْيهِمُ الْبَابَ}‬ ‫أي‪ :‬باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْ ُتمُوهُ فَإِ ّنكُمْ غَالِبُونَ} ‪ ،‬وذلك لعنصر المباغتة‪ ،‬وهو عنصر مهم في‬ ‫الحروب‪{ ،‬وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُوا} وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة {إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ} بما أوجب‬ ‫ال عليكم من جهاد وكتب لكم من الستقرار بهذه البلد والعيش بها‪ ،‬لنها أرض ‪ 5‬القدس‬ ‫والطهر‪ .‬هذا ما تضمنته اليات الربع‪ ،‬وسنسمع رد اليهود على الرجلين في اليات التالية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه اليات تسلية لرسول ال صلى ال عليه وسلم عما يلقي من عنت وعناد له بالمدينة‪،‬‬ ‫لذا أعلمهم بما لقى موسى منهم من غلظة وجفاء وتعنت وعناد‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي عن الحسن وزيد ابن أسلم‪" :‬أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك"‪ .‬وهو قول عبد‬ ‫ال بن عمرو بن العاص‪ ،‬كما في صحيح مسلم‪ ،‬إذ سأله رجل قائلً‪" :‬ألسنا من فقراء المهاجرين‪.‬‬ ‫فقال له عبد ال‪ :‬ألك امرأة تأوي إليها‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ألك منزل تسكنه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فأنت من‬ ‫الغنياء‪ .‬قال‪ :‬فإن لي خادمًا‪ .‬قال‪ :‬فأنت ملك"‪.‬‬ ‫‪ 3‬سقطت هذه الية من التفسير‪{ :‬وَآتَاكُمْ مَا لَمْ ُي ْؤتِ أَحَدا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ} وهو قول موسى لقومه‪،‬‬ ‫وما آتاهم منه‪ :‬المن والسلوى والغمام‪ .‬وكون النبياء في بني إسرائيل في هذا المذكور تبدوا‬

‫الخصوصية المذكورة في قوله‪{ :‬مَا َلمْ ُي ْؤتِ َأحَدا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ} ‪.‬‬ ‫‪{ 4‬جَبّارِين} أي‪ :‬عظام الجسام طوالها‪ ،‬والجبار من الناس‪ :‬المتعظم الممتنع من الذل والفقر‪ ،‬أو‬ ‫هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم‪ ،‬وذكر القرطبي هنا حديثًا مسهبًا‪ ،‬عن‬ ‫عوج بن عناق‪ ،‬وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة‪.‬‬ ‫‪ 5‬هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر البيض المتوسط وبين نهر الردن والبحر الميت‪ ،‬فتنتهي‬ ‫إلى حماة شمالً وغزة وحرون جنوبًا "نقلً عن التنوير"‪.‬‬

‫( ‪)1/616‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تسلية الرسول صلى ال عليه وسلم بإعلمه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض‬ ‫قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضح اليهود بكشف اليات عن مخازيهم مع أنبيائهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان الثر السيئ الذي تركه إذاعة النقباء للخبار الكاذبة المهولة‪ ،‬وقد استعملت ألمانيا النازية‬ ‫هذا السلوب ونجحت نجاحا كبيرا حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جدا‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان سنة ال تعالى من أنه ل يخلو زمان ول مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس‪.‬‬ ‫‪ -5‬فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب النتصار‪.‬‬ ‫{قَالُوا يَا مُوسَى إِنّا لَنْ َندْخَُلهَا أَبَدا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْ َهبْ أَ ْنتَ وَرَ ّبكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(‪)24‬‬ ‫سقِينَ(‪ )25‬قَالَ فَإِ ّنهَا مُحَ ّرمَةٌ عَلَ ْيهِمْ‬ ‫قَالَ َربّ إِنّي ل َأمِْلكُ إِل َنفْسِي وََأخِي فَافْ ُرقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬ ‫سقِينَ(‪})26‬‬ ‫أَرْ َبعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الَ ْرضِ فَل تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{لَنْ َندْخَُلهَا} ‪ :‬أي‪ :‬المدينة ‪ 1‬التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها‪.‬‬ ‫سقِينَ} ‪ :‬أي‪ :‬عن أمر ال ورسوله بتركهم الجهاد جبنا وخوفا‪.‬‬ ‫{ا ْلفَا ِ‬ ‫{مُحَ ّر َمةٌ عَلَ ْيهِمْ} ‪ :‬أي‪ :‬تحريما كونيا قضائيا ل شرعيا تعبديا‪.‬‬ ‫{يَتِيهُونَ فِي الَ ْرضِ} ‪ :‬أي‪ :‬في أرض سيناء متحيرين فيها ل يدرون أين يذهبون مدة أربعين‬ ‫سنة‪.‬‬ ‫{فَل تَأْسَ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تحزن ول تأسف‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إليا أو أريحا ل تعدو واحدة منها عند أكثر المفسرين والمؤرخين‪.‬‬

‫( ‪)1/617‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا هو جواب القوم على طالب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو‪ ،‬إذ قالوا بكل وقاحة‬ ‫ودناء وخسة‪{ :‬يَا مُوسَى إِنّا لَنْ نَ ْدخَُلهَا} أي‪ :‬المدينة {أَبَدا مَا دَامُوا فِيهَا} أي‪ :‬ما دام أهلها فيها‬ ‫يدافعون عنها ولو لم يدافعوا ‪{ ،1‬فَاذْ َهبْ أَ ْنتَ‪ 2‬وَرَ ّبكَ فَقَاتِل} أهل المدينة‪ ،‬أما نحن ف {هَاهُنَا‬ ‫قَاعِدُونَ} ‪ .‬أي تمرد وعصيان أكثر من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط‬ ‫من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئا من القوم الفاسقين‪ :‬رب‪ :‬أي يا رب {إِنّي ل َأمِْلكُ‪ 3‬إِل َنفْسِي‬ ‫سقِينَ} فطلب بهذا البراءة منهم ‪ 4‬ومن صنيعهم‪ ،‬إذ‬ ‫وَأَخِي} يريد هارون {فَافْ ُرقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬ ‫قد استوجبوا العذاب قطعا‪ ،‬فأجابه ربه تعالى بقوله في الية الثالثة(‪{ )26‬فَإِ ّنهَا مُحَ ّر َمةٌ عَلَ ْيهِمْ} أي‪:‬‬ ‫الرض المقدسة أربعين سنة ل يدخلونها وفعلً ما دخلوها إل بعد مضي الفترة المذكورة "أربعين‬ ‫سنة" وكيف كانوا فيها؟ يتيهون ‪ 5‬في أرض سيناء متحيرين ل يدرون أين يذهبون ول من أين‬ ‫يأتون‪ ،‬وعليه فل تحزن يا رسولنا ول تأسف على القوم الفاسقين‪ ،‬إذ هذا جزاؤهم من العذاب‬ ‫عُجل لهم فليذوقوه!!‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان جبن اليهود وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة ال تعالى تنزل بهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة اللهية جزاء فسقهم‬ ‫وظلمهم لنفسهم ولغيرهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا الجبن والخور الذي أصاب القوم سببه‪ :‬ما أذاعه النقباء فيهم‪ ،‬ما عدا يوشع وكالب؛ من أن‬ ‫العمالقة قوم جبارون‪ ،‬أجسامهم كذا وكذا في طولها وعرضها‪ ،‬وقوتهم كذا وكذا‪...‬‬ ‫‪ 2‬هذه العبارة تدل على جهل القوم بال تعالى وبما يجب له من العظيم والوقار‪ ،‬وهي كلمة كفر‬ ‫إن لم يعذر صاحبها بجهل بال تعالى وصفاته‬ ‫‪ 3‬ليس معنى الملك أن يملكه كعبد ل‍‍‪ .‬أنه أخوه فكيف يملكه وإنما مراده‪ :‬إني ل أملك إل نفسي‬ ‫وأخي ل يملك ل نفسه أيضًا ل قدرة لي ول له على بني إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ 4‬أراد مفاصلتهم لما ظهر منهم من التمرد والعصيان والبعد عنهم حتى ل يصيبهما ما يصيبهم‬ ‫من العقاب‪.‬‬

‫‪ 5‬التيه في اللغة‪ :‬الحيرة‪ .‬يقال‪ :‬تاه يتيه تيهًا‪ ،‬إذا تحير‪ ،‬والرض التيهاء التي ل يهتدي فيها‪ ،‬وتاه‬ ‫المرء في الرض ذهب فيها متحيرًا ل يدري‪ ،‬أين يذهب أو يجيء‪.‬‬

‫( ‪)1/618‬‬ ‫لقْتُلَ ّنكَ‬ ‫ل َ‬ ‫حقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُبّلَ مِنْ َأحَدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَبّلْ مِنَ الخَرِ قَا َ‬ ‫{وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ آدَمَ بِالْ َ‬ ‫لقْتَُلكَ إِنّي‬ ‫ك َ‬ ‫طتَ إَِليّ َي َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْي َ‬ ‫قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ(‪ )27‬لَئِنْ بَسَ ْ‬ ‫أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )28‬إِنّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ فَ َتكُونَ مِنْ َأصْحَابِ النّا ِر َوذَِلكَ جَزَاءُ‬ ‫حثُ‬ ‫عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ َفقَتَلَهُ فََأصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(‪ )30‬فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَ ْب َ‬ ‫طوّ َ‬ ‫الظّاِلمِينَ(‪َ )29‬ف َ‬ ‫سوْ َءةَ َأخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ َهذَا ا ْلغُرَابِ‬ ‫فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ ُيوَارِي َ‬ ‫سوْ َءةَ أَخِي فََأصْبَحَ مِنَ النّا ِدمِينَ(‪})31‬‬ ‫فَُأوَا ِريَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ} ‪ :‬وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك‪.‬‬ ‫{نَبَأَ ابْ َنيْ آدَمَ} ‪ :‬خبر ابني آدم هابيل وقابيل‪.‬‬ ‫{قُرْبَانا} ‪ :‬القربان‪ :‬ما يتقرب ‪ 1‬به إلى ال تعالى؛ كالصلة والصدقات‪.‬‬ ‫طتَ إَِليّ يَ َدكَ} ‪ :‬مددت إليّ يدك‪.‬‬ ‫س ْ‬ ‫{بَ َ‬ ‫{أَنْ تَبُوءَ بإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ} ‪ :‬ترجع إلى ال يوم القيامة بإثم قتلك إياي‪ ،‬وإثمك في معاصيك‪.‬‬ ‫طوّعَتْ لَهُ َنفْسُهُ} ‪ :‬شجعته على القتل وزينته حتى فعله‪.‬‬ ‫{ َف َ‬ ‫{غُرَابا} ‪ :‬طائرا أسود معروف يضرب به المثل في السواد ‪.2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل كان قربان قابيل‪ :‬حزمة من سنبل؛ لنه صاحب زرع فاختارها من أردئ زرعه‪ ،‬حيث إنه‬ ‫وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها‪ ،‬وأما قربان هابيل‪ :‬فكان كبشًا؛ لنه صاحب غنم واختاره من‬ ‫أجود غنمه‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬أسود غريب‪ ،‬وقال الشاعر‪ :‬حتى إذا شاب الغراب أتيت أهلي‪.‬‬

‫( ‪)1/619‬‬ ‫سوْ َءةَ َأخِيهِ} ‪ :‬يستر بالتراب جسد أخيه‪ ،‬وقيل‪ :‬فيه سوءة‪ ،‬لن النظر إلي الميت تكرهه‬ ‫{ ُيوَارِي َ‬ ‫النفوس‪ ،‬والسوءة‪ :‬ما يكره النظر إليها‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صلى ال‬

‫عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬فال تعالى يقول لرسوله‪ :‬واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا‬ ‫بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به‪ ،‬توبيخا لهم‪ ،‬وإظهارا لموقفك الشريف منهم حيث عفوت‬ ‫عنهم‪ ،‬فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم‪ ،‬وكنت معهم كخير ابني آدم‪ِ{ ،‬إذْ قَرّبَا قُرْبَانا‪ ، }1‬أي‪ :‬قرب كل‬ ‫منهما قربانا ل تعالى فتقبل ال قربان ‪ 2‬أحدهما لنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة‪،‬‬ ‫{وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ} وهو قابيل؛ لنه كان من أردأ ماله‪ ،‬ونفسه به متعلقة‪ ،‬فقال لخيه هابيل‬ ‫لقتلنك حسدا له –كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك‪ -‬فقال له أخوه إن عدم‬ ‫قبول قربانك عائد إلى نفسك ل إلى غيرك {إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ‪ }3‬للشرك‪ ،‬فلو اتقيت الشرك‬ ‫لتقبل منك قربانك لن ال تعالى ل يتقبل إل ما كان خالصا له‪ ،‬وأنت أشركت نفسك وهواك في‬ ‫سطٍ يَ ِديَ إِلَ ْيكَ‬ ‫طتَ إَِليّ يَ َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَا ِ‬ ‫س ْ‬ ‫قربانك‪ ،‬فلم يتقبل منك‪ .‬ووال قسما به‪ { .‬لَئِنْ بَ َ‬ ‫لقْتَُلكَ} ‪ ،‬وعلل ذلك بقوله‪{ :‬إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} ‪ ،‬أي‪ :‬أن ألقاه بدم أرقته ظلما‪ .‬وإن‬ ‫َ‬ ‫أبيت إل قتلي فإني ل أقتلك لني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك‪ ،‬أي‪ :‬ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم‬ ‫قتلك إياي‪ ،‬وإثمك الذي فارقته في حياتك كلها‪ ،‬فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها‬ ‫عتْ لَهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ َأخِيهِ} أي‬ ‫طوّ َ‬ ‫الذين ل يفارقونها أبدا‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ} ‪{ ،‬فَ َ‬ ‫شجعته عليه وزينته له فقتله {فََأصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ‪ }4‬النادمين لنه لم يدر ما يصنع به‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القربان‪ :‬اسم جنس يطلق على الواحد‪ ،‬والمتعدد‪ ،‬إذ لكل منهما قربان وليس قربانًا واحدًا‬ ‫اشتراكًا فيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن قيل كيف عرف القبول من عدمه؟ فالجواب‪ :‬إن سنة ال تعالى فيمن سبق أن من قرب ل‬ ‫تعالى فقبله أرسل عليه نارًا من السماء فأحرقته ومن لم يتقبله لم يفعل به ذلك‪ .‬ويشهد له حديث‬ ‫الصحيح في غنائم بني إسرائيل إذ كانت محرمة عليهم ولم تحل إل لمة السلم‪ ،‬إذ أخبر النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن نارًا تنزل من السماء على الغنائم فتحرقها" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬فيه دللة على أن قابيل لم يكن تقيًا‪ ،‬وقابيل في لغة بني إسرائيل بالنوب‪ :‬قابين‪ ،‬وكذا هابيل‪،‬‬ ‫وقوله‪{ :‬إنما يَتَقبل ال‪ }...‬إلخ‪ .‬مسبوق بكلم دل عليه السياق‪ ،‬وهو مثل قوله‪ :‬لم تقتلني ولم أجني‬ ‫شيئًا ول ذنب لي في قبول ال قرباني وكونه تقبل مني ل يستوجب قتلي {إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ‬ ‫ا ْلمُ ّتقِينَ} ‪.‬‬ ‫‪ 4‬لما كان أول من سن القتل فإنه ل تقتل نفسًا ظلمًا إل وعليه كفل منها لقوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬ل تقتل نفس ظلمًا إل كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لنه أول من سن القتل" ‪ .‬وفي‬ ‫الحديث الخر‪" :‬من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ‪.‬‬

‫( ‪)1/620‬‬

‫فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن‪ ،‬وعندئذ بعث ال غرابا يبحث في الرض‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ينبش الرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه‪ :‬أي بعث ال الغراب‬ ‫ليريه كيف يواري‪ ،‬أي‪ :‬يستر سوءة أخيه‪ ،‬أي جيفته‪ ،‬فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه‬ ‫الغراب الميت قال متندما ًمتحسرا يا ويلنا‪ ،‬أي‪ :‬يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك‪ ،‬ثم وبخ‬ ‫سوْ َءةَ َأخِي} ‪ ،‬كما وارى الغراب سوءة‬ ‫عجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ هَذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَا ِريَ َ‬ ‫نفسه قائلً‪{ :‬أَ َ‬ ‫أخيه‪ ،‬وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه وبمجرد الندم ل يكون توبة مع أن‬ ‫توبة القاتل عمدا ل تنجيه من النار‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية التقرب إلى ال تعالى بما يجب أن يتقرب به إليه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الثار السيئة‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبول العمال الصالحة يتوقف على الخلص فيها ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أول من سن جريمة القتل‪ ،‬وهو قابيل‪ ،‬ولذا ورد‪ :‬ما من نفس تقتل نفسا ظلما إل كان‬ ‫على ابن آدم الول كفل "نصيب" ذلك بأنه أول من سن القتل‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية الدفن ‪ 1‬وبيان زمنه‪.‬‬ ‫‪ -6‬خير ابنى آدم المقتول ظلما‪ ،‬وشرهما القاتل ظلما‪.2‬‬ ‫جلِ ذَِلكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنّهُ مَنْ قَ َتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الَرْضِ َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ‬ ‫{مِنْ َأ ْ‬ ‫جمِيعا َومَنْ َأحْيَاهَا َفكَأَ ّنمَا َأحْيَا النّاسَ‬ ‫النّاسَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يستحب توسعة القبر لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬احفروا وأوسعوا وأحسنوا اللحد"‪ .‬واللحد‬ ‫أفضل من الشق لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬اللحد لنا والشق لغيرنا" ‪ .‬ويستحب لمن يضع الميت‬ ‫في قبره أن يقول‪ :‬بسم ال وعلى ملة رسول ال‪ ،‬ولمن حضر الدفن أن يحثو على القبر من قبل‬ ‫رأسه ثلثًا‪.‬‬ ‫‪ 2‬وإن قيل ما تصنع بحديث الصحيح‪" :‬إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"‪.‬‬ ‫قلت هذا الحديث فيمن يقاتل في غير حق استوجب القتل والقتال‪ .‬أما من ظلم فدافع عن نفسه فقتل‬ ‫فهو شهيد بنص الحديث الصحيح‪ .‬وكذا من بغى على المسلمين فقتاله واجب‪ ،‬ومن قاتله فهو‬ ‫مجاهد ومن قتل فهو شهيد‪.‬‬

‫( ‪)1/621‬‬

‫سلُنَا بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ إِنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ َبعْدَ ذَِلكَ فِي الَ ْرضِ َلمُسْ ِرفُونَ(‪})32‬‬ ‫جمِيعا وََلقَدْ جَاءَ ْتهُمْ رُ ُ‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{من أجل ذلك}‪ :‬أي بسبب ذلك القتل‪.‬‬ ‫}كتبنا}‪ :‬أوحينا‪.‬‬ ‫{أو فساد في الرض} ‪ :‬بحلبه ل ورسوله والمؤمنين‪.‬‬ ‫{ومن أحياها}‪ :‬قدرعلى قتلها وهي مستوجبه له فتركها‪.‬‬ ‫{بالبينات}‪ :‬اليات والواضحةات حاملة للشرائع والدلئل‪.‬‬ ‫{لمسرفون}‪ :‬مكثرون من المعاصي والذنوب‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫يقول تعالى‪ :‬إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار ل يقادر قدرها‪،‬‬ ‫أوحينا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء‪ ،‬فقد قتلوا النبياء والمرين‬ ‫بالقسط من الناس لجل هذه الضراوة على القتل‪ ،‬فقد قتلوا رسولين‪ :‬زكريا ويحي‪ ،‬وهموا بقتل‬ ‫المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من أجل ذلك ‪ 1‬شددنا ‪ 2‬عليهم في‬ ‫العقوبة‪ ،‬إذ من قتل منهم نفسا بغير نفس أي ظلما وعدوانا‪ ،‬أو قتلها بغير فساد قامت به في‬ ‫جمِيعا} بمعنى يعذب عذاب قتل‬ ‫الرض‪ ،‬وهو حرب ال ورسوله والمؤمنين { َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ النّاسَ َ‬ ‫الناس جميعا يوم القيامة‪َ { ،‬ومَنْ أَحْيَاهَا} بأن استوجب القتل فعفا عنها وتركها ل إبقاء عليها‬ ‫جمِيعا} يعني يُعطى أجر من أحيا الناس ‪ 4‬جمعيا‪ ،‬كل هذا شرعه ال تعالى‬ ‫{ َفكَأَ ّنمَا أَحْيَا النّاسَ‪َ 3‬‬ ‫لهم تنفيرا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله‪{ :‬مِنْ أَجْل ذَلِك} ‪ :‬تعليل لقوله‪{ :‬كَتَبْنا} ومن‪ :‬ابتدائية‪ ،‬والجل‪ :‬الجراء والسبب‪ ،‬وهو‬ ‫مصدر أجل يؤجل ويأجل بمعنى‪ :‬جنى واكتسب‪ .‬فلذا هو يقال في الخير كما يقال في الشر‪ ،‬تقول‪:‬‬ ‫أكرمته لجل علمه‪ .‬كما تقول‪ :‬أهنته لجل فسقه‪ .‬أما الجراء في قولك‪ :‬فعلت كذا من جراء كذا‪.‬‬ ‫فهو مأخوذ من جر إذا سبب تقول‪ :‬فعليّ كذا‪ ،‬جرى لي كذا‪ ،‬أي‪ :‬سببه‪.‬‬ ‫‪ 2‬خص بني إسرائيل بهذا دون من سبقهم من المم تغليظًا عليهم لجرأتهم على القتل علهم يكفون‬ ‫من سفك الدماء‪ ،‬إذ قتلوا حتى النبياء والمرين بالقسط من الناس‪.‬‬ ‫‪ 3‬كأن للتشبيه‪ ،‬ومن هنا يكون معنى الكلم‪ :‬كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس‪ ...‬إلخ‪ .‬بقتل الناس‬ ‫أجمعين‪ ،‬أي‪ :‬في عظم الجرم ومشابهة من أحيا الناس جميًعا في عظم الجر‪.‬‬ ‫‪ 4‬من أحياها‪ :‬معناه‪ :‬من استنقذها من الموت‪ ،‬بأن عفى عنها بعد تعين القصاص عليها‪ ،‬أو دافع‬ ‫عنها حتى أنقذها ممن أراد قتلها لن الحياء بعد الموت ليس في مقدور النسان وإنما قد يهم‬ ‫المرء بالقتل ويعفو فيكون كمن أحياها‪.‬‬

‫( ‪)1/622‬‬ ‫لهم من القتل الذي أصروا عليه‪ ،‬وترغيبا لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬وََلقَدْ جَاءَ ْت ُهمْ‪ُ 1‬رسُلُنَا بِالْبَيّنَاتِ} يخبر تعالى عن حالهم مسليا رسوله محمدا عما يحمله من‬ ‫همّ منهم‪ ،‬وهم الذين تآمروا على قتله أن الشر الذي لزم اليهود والفساد الذي أصبح وصفا لزما‬ ‫لهم وخاصة المؤامرات بالقتل وإيقاد نار الحروب لم يكن عن جهل وعدم معرفة منهم ل أبدا‪ ،‬بل‬ ‫جاءتهم رسلهم باليات البينات والشرائع القويمة والداب الرفيعة‪ ،‬ولكنهم قوم بهت متمردون على‬ ‫الشرائع مسرفون في الشر والفساد‪ ،‬ولذا فإن كثيرا منهم وال لمسرفون في الشر والفساد‪ ،‬وبنهاية‬ ‫سطُوا‬ ‫هذه الية ومن قوله تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْي ُكمْ إِذْ هَمّ َقوْمٌ أَنْ يَبْ ُ‬ ‫إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ} وهي الية(‪ )11‬انتهى الحديث عن اليهود المتعلق بحادثة همهم بقتل الرسول صلى‬ ‫ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬وقد ذكر تسلية لرسول ال وأصحابه‪ ،‬كما هو تسلية لكل مؤمن يتعرض‬ ‫لمكر اليهود عليهم لعائن ال‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:‬‬ ‫‪ -1‬تأديب الرب تعالى لبني إسرائيل‪ ،‬ومع السف لم ينتفعوا به‪.‬‬ ‫‪ -2‬فساد بني إسرائيل لم ينشأ عن الجهل وقلة العلم‪ ،‬بل كان اتباعا للهواء وجريا وراء عارض‬ ‫الدنيا‪ .‬فلذا غضب ‪ 2‬ال عليهم ولعنهم؛ لنهم عالمون‪.‬‬ ‫‪ -3‬بالرغم من تضعيف جزاء الجريمة على اليهود‪ ،‬ومضاعفة أجر الحسنة لهم فإنهم أكثر الناس‬ ‫إسرافا في الشر والفساد في الرض‪.‬‬ ‫س َعوْنَ فِي الَ ْرضِ َفسَادا أَنْ ُيقَتّلُوا َأوْ ُيصَلّبُوا َأوْ ُتقَطّعَ‬ ‫{إِ ّنمَا جَزَاءُ الّذِينَ ُيحَارِبُونَ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَيَ ْ‬ ‫أَيْدِيهِمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الجملة‪ :‬تذييل لما سبق من حكم ال تعالى فيهم‪ ،‬حيث شرع لهم وأعلمهم بأن من يقتل نفسًا‬ ‫ظلمًا وعدوانًا يعتبر شرعًا كأنما قتل الناس جميعًا‪ ،‬ذكر فيه أنه ل عذر لهم فيما عوقبوا به‪ ،‬إذ لم‬ ‫يكونوا جاهلين لمجيئتهم رسلهم باليات البينات تحمل الشرائع والهدايات‪ ،‬ومع هذا فإن كثير منهم‬ ‫مسرفون في المعاصي والجرائم العظام؛ كالقتل في الرض‪.‬‬ ‫ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ} من الممتحنة‪ ،‬و {غير‬ ‫غ ِ‬ ‫‪ 2‬شاهده من القرآن‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَ َتوَّلوْا َقوْما َ‬ ‫المغضوب عليهم} من الفاتحة‪.‬‬

‫( ‪)1/623‬‬

‫ن الَ ْرضِ ذَِلكَ َلهُمْ خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(‬ ‫وَأَرْجُُلهُمْ مِنْ خِلفٍ َأوْ يُ ْنفَوْا مِ َ‬ ‫غفُورٌ رَحِيمٌ(‪})34‬‬ ‫‪ )33‬إِل الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهِمْ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ ُيحَارِبُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ} ‪ :‬بالخروج عن طاعتهما وحمل السلح على المؤمنين وقتلهم وسلب‬ ‫أموالهم والعتداء على حرماتهم‪.‬‬ ‫س َعوْنَ فِي الَ ْرضِ فَسَادا} ‪ :‬بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والعتداء على‬ ‫{وَيَ ْ‬ ‫أعراضهم‪.‬‬ ‫{َأوْ ُيصَلّبُوا} ‪ :‬يشدون على أعواد الخشب ويقتلون‪ ،‬أو بعد أن يقتلوا‪.‬‬ ‫{مِنْ خِلفٍ} ‪ :‬بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى‪ ،‬والعكس‪.‬‬ ‫ن الَ ْرضِ} ‪ :‬أي من أرض السلم‪.‬‬ ‫{َأوْ يُ ْن َفوْا مِ َ‬ ‫{خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا} ‪ :‬ذل ومهانة‪.‬‬ ‫عظِيمٌ} ‪ :‬عذاب جهنم‪.‬‬ ‫عذَابٌ َ‬ ‫{َ‬ ‫{أَنْ َتقْدِرُوا عَلَ ْي ِهمْ} ‪ :‬أي‪ :‬تتمكنوا منهم بأن فروا بعيدا ثم جاءوا مسلمين‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الرض‬ ‫كسرا لحدة جرءتهم على القتل والفساد‪ ،‬ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد‬ ‫في ديارهم فقال تعالى‪{ :‬إِ ّنمَا جَزَاءُ الّذِينَ‪ُ 1‬يحَارِبُونَ اللّ َه وَرَسُوَلهُ} بالكفر ‪ 2‬بعد اليمان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجمهور على أن سبب نزول هذه الية‪{ :‬إ ْنمَا جَزاء‪ }...‬إلخ‪ .‬هو العرنيون الذين نزلوا المدينة‬ ‫وادعوا أنهم اجتووها‪ ،‬أي‪ :‬أمرضهم مناخها فأمر لهم الرسول صلى ال عليه وسلم بلقاح وأمرهم‬ ‫أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا خارج المدينة‪ ،‬ولما شفوا وصحوا قتلوا الراعي ومثلوا به‪،‬‬ ‫وذهبوا بالبل فلحقتهم خيل المسلمين فردتهم ونزلت هذه الية ببيان حكم ال فيهم‪ ،‬والعبرة بعموم‬ ‫اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬فبقى هذا تشريعًا يطبق على مثلهم إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ 2‬لن العرنيين وكانوا سبعة ثلثة من عُكل‪ ،‬وأربعة من عرينة كفروا بعد إيمانهم الذي أظهروا‬ ‫بالمدينة‪ ،‬ثم ادعوا أنهم استوخموا المدينة فساعدهم الرسول صلى ال عليه وسلم رحمة منه بما‬ ‫يشفيهم‪ ،‬فلما شفوا وصحوا كفروا وقلتوا الراعي وساقوا البل‪ ،‬والية عامة في المرتد وغيره‪،‬‬ ‫والحكم ما بين ال تعالى في هذه الية ل غيره‪ ،‬وصيغة الحصر فيها إنما ظاهرة‪.‬‬

‫( ‪)1/624‬‬

‫س َعوْنَ فِي الَ ْرضِ َفسَادا} بتخويف المسملين‪ ،‬وقطع طرقهم وأخذ‬ ‫والقتل والسلب بعد المان‪{ ،‬وَيَ ْ‬ ‫أموالهم‪ ،‬والعتداء على حرماتهم وأعراضهم‪ ،‬هو ما أذكره لكم ل غيره فاعلموه أنه {أَنْ ُيقَتّلُوا َأوْ‬ ‫ن الَ ْرضِ} ‪ ،‬ومعنى‪ :‬يقتلوا‪ :‬واحدا بعد‬ ‫ُيصَلّبُوا َأوْ ُتقَطّعَ أَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ مِنْ خِلفٍ َأوْ يُ ْنفَوْا مِ َ‬ ‫واحد نكاية لهم وإرهابا وتعزيرا لغيرهم‪ ،‬ومعنى‪ :‬يصلبوا‪ :‬بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على‬ ‫خشبة مدة ثلثة أيام‪ ،‬ومعنى‪ :‬ينفوا من الرض‪ :‬يخرجوا من دار السلم‪ ،‬أو إلى مكان ناءٍ‬ ‫كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وآذاهم‪ ،‬ويكون ذلك الجزاء المذكور‬ ‫عذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إِل‬ ‫خزيا وذلً لهم ‪ 1‬في الدنيا {وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬ ‫الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتقْدِرُوا عَلَ ْي ِهمْ} فهذا استثناء متصل من أولئك المحاربين بأن من عجزنا عنه‬ ‫فلم نتمكن من القبض عليه‪ ،‬وبعد فترة جاءنا تائبا فإن حكمه يختلف عمن قبله‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ} يحمل إشارة واضحة إلى تخفيف الحكم عليه‪ ،‬وذلك فإن كان كافرا‬ ‫{فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬ ‫وأسلم فإن السلم يجب ما قبله‪ ،‬فيسقط عنه كل ما ذكر في الية من عقوبات‪ ..‬وإن كان مسلما‬ ‫فيسقط بالصلب ويجب عليه‪ ،‬رد المال الذي أخذه إن بقي في يده‪ ،‬وإن قتل أو فجر وطالب بإقامة‬ ‫الحد عليه أقيم عليه الحد‪ ،‬وإل ترك ل وال غفور رحيم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان حكم الحرابة ‪ 2‬وحقيقتها‪ :‬خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلح ولهم شوكة‪،‬‬ ‫خروجهم إلى ا لصحراء بعيدا عن المدن والقرى‪ ،‬يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون‬ ‫ويعتدون على العراض‪ ،‬هذه هي الحرابة وأهلها‪ ،‬يقال لهم‪ :‬المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى‬ ‫في الية الولى(‪.)33‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إن كان المحاربون مسلمين؛ فالخزي لهم هو نزول العقوبة بهم في الدنيا من القتل والصلب‬ ‫والنفي‪ ،‬وفي الخرة ينجون من عذابها‪ ،‬إن تابوا قبل موتهم‪ .‬وإن كان المحاربون كافرين؛‬ ‫فالخزي عذاب الدنيا والعذاب العظيم لهم في الخرة‪ .‬وفرقنا بين المسلمين والكافرين؛ لن‬ ‫المسلمين إقامة الحد عليهم يكفر ذنب الجريمة‪ ،‬للحديث الصحيح في البيعة‪" :‬فمن وفى منكم فأجره‬ ‫على ال‪ ،‬ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له‪ ،‬ومن أصاب منها شيئًا فستره ال‪،‬‬ ‫فهو إلى ال إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" ‪ .‬فقوله‪{ :‬فَه َو كفَارَة له} دليل على سقوط عذاب‬ ‫الخرة بالحد‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجمهور على أن اللص كالمحارب يناشد بال تعالى أن يكف وينصرف وإن أبى يُقاتل ويقتل‪،‬‬ ‫ومن قتله اللص فهو في الجنة‪ ،‬وإن قتل اللص فهو النار‪ ،‬لحديث الصحيح‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪:‬‬ ‫جاء رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬أرأيت يا رسول ال إن جاء يريد أخذ مالي؟‬

‫قال‪" :‬فل تعطيه مالك"‪ .‬قال‪ :‬أرأيت إن قاتلني؟ قال‪" :‬قاتله"‪ .‬قال‪ :‬أرأيت إن قتلني؟ قال‪" :‬فأنت‬ ‫شهيد"‪ .‬قال‪ :‬فإن قتلته؟ قال‪" :‬فهو في النار" ‪.‬‬

‫( ‪)1/625‬‬ ‫‪ -2‬المام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة ‪ 1‬لستتباب المن‪ ،‬إن قلنا أو في الية‬ ‫للتخيير‪ ،‬وإل فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب‪ ،‬ومن قتل ولم يأخذ مالً قتل‪ ،‬ومن‬ ‫قتل وأخذ مالً قطعت ‪ 2‬يده ورجله من خلف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى‪ ،‬ومن لم يقتل ولم‬ ‫يأخذ مالً يُنفى ‪.3‬‬ ‫‪ -3‬من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه إل أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على‬ ‫ذنوبه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬عظم عفو ال ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ وَابْ َتغُوا إِلَ ْيهِ ا ْلوَسِيلَ َة َوجَاهِدُوا فِي سَبِيِلهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ(‪ )35‬إِنّ الّذِينَ‬ ‫جمِيعا َومِثْلَهُ َمعَهُ لِ َيفْتَدُوا ِبهِ مِنْ عَذَابِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَا ُتقُ ّبلَ مِ ْنهُمْ‬ ‫َكفَرُوا َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫عذَابٌ مُقِيمٌ(‪})37‬‬ ‫وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )36‬يُرِيدُونَ أَنْ َيخْرُجُوا مِنَ النّارِ َومَا ُهمْ ِبخَارِجِينَ مِ ْنهَا وََلهُمْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ّتقُوا اللّهَ} ‪ :‬خافوا عذابه فامتثلوا أمره وأمر رسوله واجتنبوا نهيهما‪.‬‬ ‫{وَابْ َتغُوا} ‪ :‬اطلبوا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا مذهب الجمهور من الئمة‪ ،‬وهو أرفق وأصلح وأكثر تمثيلً للية وانسجامًا معها‪.‬‬ ‫‪ 2‬مذهب الجمهور‪ ،‬وهو الحق ل تقطع يد المحارب إل في مال تقطع فيه يد السارق‪ ،‬وهو زنة‪:‬‬ ‫ربع دينار ذهب فأكثر‪.‬‬ ‫‪ 3‬إن تعذر النفي فالسجن يقوم مقامه‪ ،‬إذ هو نفي من ظاهر الرض إلى باطنها‪ .‬كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ‪ ...‬فلسنا من الموات فيها ول الحيا‬ ‫إذا جاءنا السجان يومًا لحاجة ‪...‬‬ ‫عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا‬

‫( ‪)1/626‬‬ ‫{ا ْلوَسِيَلةَ‪ : }1‬تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب ‪ 2‬منه‪.‬‬ ‫{وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} ‪ :‬أنفسكم بحملها على أن تتعلم وتعمل وتعليم‪ ،‬وأعداءه بدعوتهم إلى السلم‬

‫وقتالهم على ذلك‪.‬‬ ‫{ ُتفْلِحُونَ} ‪ :‬تنجون من النار وتدخلون الجنة‪.‬‬ ‫عذَابٌ ُمقِيمٌ} ‪ :‬دائم ل يبرح ول يزول‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليرشدهم إلى ما ينجيهم من‬ ‫العذاب فيجتنبوه‪ ،‬وإلى ما يدنيهم من الرحمة فيعملوه فيقول‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ وَابْ َتغُوا‬ ‫إِلَيْهِ‪ 3‬ا ْلوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيِلهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ} ومعنى اتقوا ال خافوا عذابه فأطيعوه بفعل أوامره‬ ‫وأوامر رسوله واجتناب نواهيهما فإن عذاب ال ل يتقى إل بالتقوى‪ .‬ومعنى { وَابْ َتغُوا ِإلَيْهِ‬ ‫ا ْلوَسِيلَةَ} ‪ :‬اطلبوا إليه القربة‪ ،‬أي‪ :‬تقربوا إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره تفوزوا بالقرب منه‪.‬‬ ‫ومعنى {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} ‪ :‬جاهدوا أنفسكم في طاعته‪ ،‬والشيطان في معصيته‪ ،‬والكفار في‬ ‫السلم إليه والدخول في دينه باذلين كل ما في وسعكم من جهد وطاقة‪ .‬هذا ما دلت عليه الية‬ ‫الولى(‪ ،)35‬أما الية الثانية(‪ )36‬وهي قوله تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الَ ْرضِ‬ ‫جمِيعا َومِثْلَهُ َمعَهُ} فإنها علة لما دعت إليه الية الولى من المر بالتقوى وطلب القرب من ال‬ ‫َ‬ ‫تعالى وذلك باليمان وصالح العمال‪ ،‬لن العذاب الذي أمروا باتقائه بالتقوى عذاب ل يطاق أبدا‬ ‫جمِيعا} من مال صامت وناطق { َومِثْلَهُ َمعَهُ}‬ ‫ناهيكم أن الذين كفروا {َلوْ أَنّ َل ُهمْ مَا فِي الَ ْرضِ‪َ 4‬‬ ‫وقبل منهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الوسيلة‪ :‬لغة‪ :‬القربة‪ ،‬والجمع‪ :‬قرب‪ ،‬وهي فيعلة‪ ،‬بمعنى‪ :‬مفعولة‪ ،‬أي‪ :‬متقرب بها‪ .‬من توسل‬ ‫إلى فلن تقرب إليه بكذا‪ .‬وشاهده من قول العرب‪ ،‬قول عنترة‪:‬‬ ‫إن الرجال لهم إليك وسيلة ‪ ...‬أن يأخذوك تكحلي وتخضبي‬ ‫والوسيلة‪ :‬تجمع على وسائل‪ ،‬ومنه قول القائل‪:‬‬ ‫إذ غفل الواشون عدنا لوصلنا ‪ ...‬وعاد التصافي بيننا والوسائل‬ ‫‪ 2‬فكل قربة‪ :‬هي وسيلة تقرب من رضا ال والزلفى إليه‪ .‬وعليه فكل العمال الصالحة هي‬ ‫وسيلة‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما أفترضت عليه" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬تقديم الجار والمجرور على المفعول والمطلوب‪ ،‬في قوله تعالى‪{ :‬وَابْتَغوُا إلَيه الوَسِيلة} مؤذن‬ ‫بتوحيد ال تعالى بالعبادات التي يتقرب بها إليه فل يصح صرف شيء منها إلى غيره مهما كان‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬لو ثبت لهم ما في الرض ومثله معه أيضًا لجل الفتداء به ل لجل أن يكنزوه في وجوه‬ ‫النفاق المحبوبة لهم لفتدوا به ولكن أنى يكون لهم ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫فداء لنفسهم من ذلك العذاب لقدموه سخية به نفوسهم‪ ،‬إنه عذاب أليم موجع أشد الوجع ومؤلم أشد‬ ‫اللم إنهم يتمنون بكل قلوبهم أن يخرجوا من النار { َومَا هُمْ‪ 1‬بِخَا ِرجِينَ مِ ْنهَا وََلهُمْ عَذَابٌ ُمقِيمٌ} دائم‬ ‫ل يبرح ول يزول‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب تقوى ال عز وجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية التوسل إلى ال تعالى باليمان وصالح ‪ 2‬العمال‪.‬‬ ‫‪ -3‬عظم عذاب يوم القيامة وشدته غير المتناهية‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل فدية يوم القيامة ول شفاعة تنفع الكافر فيخرج بها من النار‪.‬‬ ‫‪ -5‬حسن التعليل للمر والنهي بما يشجع على المتثال والترك‪.‬‬ ‫حكِيمٌ(‪َ )38‬فمَنْ تَابَ‬ ‫طعُوا أَيْدِ َي ُهمَا جَزَاءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫ق وَالسّا ِرقَةُ فَاقْ َ‬ ‫{وَالسّا ِر ُ‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‪ )39‬أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ‬ ‫مِنْ َبعْدِ ظُ ْلمِ ِه وََأصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَ ْيهِ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ(‪})40‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَ َيغْفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{وَالسّا ِرقُ} ‪ :‬الذي أخذ مالً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر‪.‬‬ ‫{وَالسّا ِر َقةُ} ‪ :‬التي أخذت مالً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي‪ :‬أن يزيد الفقير قال‪ :‬قيل لجابر بن عبد ال رضي ال عنهما‪ :‬إنكم يا أصحاب‬ ‫محمد تقولون أن قومًا يخرجون من النار وال تعالى يقول‪{ :‬ومَا همُ ْ بِخَارِجين مِنْها} ‪ .‬فقال‬ ‫جابر‪ :‬إنكم تجعلون العام خاصًا‪ ،‬والخاص عامًا‪ .‬إنما هذه في الكفار خاصة‪ .‬فقرئت الية كلها من‬ ‫أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة‪.‬‬ ‫‪ 2‬لذا وجب معرفة محاب ال تعالى ومكارهه من العتقادات والقوال والعمال والصفات‬ ‫ل وتركًا للحصول على رضاه والفوز بالجنة والنجاة من النار‪.‬‬ ‫ليتوسل بها إلى ال تعالى‪ ،‬فع ً‬

‫( ‪)1/628‬‬ ‫طعُوا أَ ْيدِ َي ُهمَا} ‪ :‬أي‪ :‬اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع‪.‬‬ ‫{فَاقْ َ‬ ‫{ َنكَالً} ‪ :‬عقوبة من ‪ 1‬ال تجعل غيره ينكل أن يسرق‪.‬‬ ‫حكِيمٌ} ‪ :‬عزيز‪ :‬غالب ل يحال بينه وبين مراده‪ ،‬حكيم‪ :‬في تدبيره وقضائه‪.‬‬ ‫{عَزِيزٌ َ‬ ‫{ َبعْدِ ظُ ْلمِهِ} ‪ :‬بعد ظلمه لنفسه بمعصية ال تعالى بأخذ أموال الناس‪.‬‬ ‫{وََأصْلَحَ} ‪ :‬أي‪ :‬نفسه بتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح‪.‬‬

‫علَيْهِ} ‪ :‬أي‪ :‬يقبل توبته‪ ،‬ويغفر له ويرحمه إن شاء‪.‬‬ ‫{فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ} ‪ :‬خلقا وملكا وتدبيرا‪.‬‬ ‫{َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫{ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَاءُ} ‪ :‬أي‪ :‬تعذيبه لنه مات عاصيا لمره كافرا بحقه‪.‬‬ ‫{وَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَاءُ} ‪ :‬ممن تاب من ذنبه وأناب إليه سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى مقررا حكما من ‪ 2‬أحكام شرعه‪ ،‬وهو أن الذي يسرق مالً يقدر بربع دينار فأكثر من‬ ‫حرز مثله ‪ 3‬خفية وهو عاقل بالغ‪ ،‬ورفع إلى الحاكم‪ ،‬والسارقة كذلك فالحكم أن تقطع يد السارق‬ ‫اليمنى من الكوع‪ ،‬وكذا يد السارقة مجازاة لهما على ظلمهما بالعتداء على أموال غيرهما‪َ { ،‬نكَالً‬ ‫مِنَ اللّهِ} أي‪ :‬عقوبة من ال تعالى لهما تجعل غيرهما ل يقدم على أخذ أموال الناس بطريق‬ ‫حكِيمٌ} غالب على أمره حكيم في قضائه وحكمه‪ .‬هذا معنى قوله‬ ‫السرقة المحرمة‪{ ،‬وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫طعُوا أَيْدِ َي ُهمَا جَزَاءً ِبمَا كَسَبَا} ‪ 5‬من الثم { َنكَالً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَالسّارِقُ‪ 4‬وَالسّا ِرقَةُ فَا ْق َ‬ ‫حكِيمٌ} ‪.‬‬ ‫عَزِيزٌ َ‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية(‪َ { )39‬فمَنْ تَابَ مِنْ َب ْعدِ ظُ ْل ِمهِ} أي‪ :‬تاب من السرقة بعد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هل يكون غرم مع القطع؟ مالك يرى‪ :‬إن وجد المال عنده أخذ وإن كان موسرًا أخذ من ماله‪،‬‬ ‫وإن معسرًا يكتفي بالقطع‪،‬وهذا أرحم وأحكم‪ .‬وتعلق يد السارق في عنقه لحديث الترمذي وأبي‬ ‫داود والنسائي‪.‬‬ ‫‪ 2‬لما ذكر تعالى حكم المحاربين ذكر حكم السارق والسارقة وما ذكر بينها من دعوة المؤمنين‬ ‫إلى التقوى والتقرب إلى ال تعالى للحصول على رضاه هو من باب تنويع السلوب وتلوين‬ ‫الكلم إذهابًا للسآمة والملل عن القارئ والسامع‪.‬‬ ‫‪ 3‬السارق عن العرب‪ :‬هو من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له‪ ،‬فإن أخذ من ظاهر‬ ‫فهو مختلس ومستلب ومنتهب‪ ،‬فإن تمنع بما أخذ فهو غاصب‪.‬‬ ‫‪ 4‬قرئ‪ :‬والسارق‪ :‬بالنصب على تقدير‪ :‬اقطعوا السارق والسارقة‪ .‬وقرئ‪ :‬بالرفع‪ ،‬وهو أشهر‪،‬‬ ‫والعراب فيما فرض عليكم‪ :‬السارق والسارقة فاقطعوا‪ ,‬وأحسن من أن يكون السارق والسارقة‬ ‫مبتدأ‪ ،‬وجملة‪ :‬فاقطعوا‪ ،‬خبر‪.‬‬ ‫‪ 5‬أول سارق قطعت يده في السلم‪ ،‬هو‪ :‬الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف‪ .‬وأول سارقة‬ ‫في السلم هي‪ :‬مرة بنت سفيان المخزومية‪.‬‬

‫( ‪)1/629‬‬

‫أن ظلم نفسه بذلك {وََأصْلَحَ} نفسه بالتوبة‪ ،‬ومن ذلك رد المال المسروق {فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} ؛‬ ‫لنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين‪ ،‬وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )40‬أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ} يخاطب تعالى رسوله وكل من هو أهل للتلقي والفهم من ال تعالى‬ ‫مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ} ‪ ،‬والجواب‪ :‬بلى‪ ،‬وإذا‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫فيقول مقررا المخاطب‪َ{ :‬ألَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫فالحكم له تعالى ل ينازع فيه‪ ،‬فلذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ}‪.‬‬ ‫علَى ُكلّ َ‬ ‫السرقة وأصلح‪ .‬وهو { َ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان حكم حد السرقة‪ ،‬وهو قطع يد السارق والسارقة ‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن التائب من السراق إذا اصلح يتوب ال عليه‪ ،‬أي‪ :‬يقبل توبته‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده‪ ،‬وإن رفع فل توبة له إل بالقطع‪،‬‬ ‫فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التسليم لقضاء ال تعالى والرضا بحكمه لنه عزيز حكيم‪.‬‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ ل َيحْزُ ْنكَ الّذِينَ ُيسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوا آمَنّا بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَلَمْ ُت ْؤمِنْ‬ ‫سمّاعُونَ ِل َقوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ مِنْ َبعْدِ‬ ‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َ‬ ‫قُلُو ُبهُ ْم َومِنَ الّذِينَ هَادُوا َ‬ ‫خذُوهُ وَإِنْ لَمْ ُتؤْ َت ْوهُ فَاحْذَرُوا‬ ‫َموَاضِعِهِ َيقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ َهذَا فَ ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجماع على أن الوالد ل تقطع يده إذا سرق مال ولده‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أنت ومالك‬ ‫لبيك" واختلف في العكس‪ .‬والراجح‪ :‬أنه ل قطع عليه‪ .‬وهل تقطع اليد في السفر؟ وفي دار‬ ‫الحرب خلف‪ :‬مالك يرى‪ :‬إقامة الحدود في دار الحرب‪ .‬واليد تقطع من الرسخ‪ ،‬والرجل من‬ ‫المفصل‪ ،‬ول قطع على الصبي والمجنون والعبد إن سرق من مال سيده‪ ،‬ول السيد من مال عبده‪.‬‬

‫( ‪)1/630‬‬ ‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ َلهُمْ فِي الدّنْيَا‬ ‫َومَنْ يُ ِردِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ َتمِْلكَ َلهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَمْ يُ ِردِ اللّهُ أَنْ يُ َ‬ ‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ‬ ‫حتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَا ْ‬ ‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬ ‫عذَابٌ عَظِيمٌ(‪َ )41‬‬ ‫ي وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬ ‫خِ ْز ٌ‬ ‫سطِ إِنّ اللّهَ‬ ‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ‬ ‫ح َكمْتَ فَا ْ‬ ‫َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْنهُ ْم وَإِنْ ُتعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ فَلَنْ َيضُرّوكَ شَيْئا وَإِنْ َ‬ ‫ك َومَا‬ ‫حكْمُ اللّهِ ثُمّ يَ َتوَّلوْنَ مِنْ َبعْدِ ذَِل َ‬ ‫ح ّكمُو َنكَ وَعِنْ َدهُمُ ال ّتوْرَاةُ فِيهَا ُ‬ ‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ(‪َ )42‬وكَ ْيفَ يُ َ‬ ‫يُ ِ‬ ‫أُولَ ِئكَ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ(‪})43‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل يَحْزُ ْنكَ} ‪ :‬الحزن‪ :‬ألم نفسي يسببه خوف فوات محبوب‪.‬‬

‫{يُسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ} ‪ :‬بمعنى‪ :‬يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر أظهروه‪.‬‬ ‫{قَالُوا آمَنّا بَِأ ْفوَا ِه ِهمْ} ‪ :‬هؤلء هم المنافقون‪.‬‬ ‫{ َومِنَ الّذِينَ هَادُوا} ‪ :‬أي‪ :‬اليهود‪.‬‬ ‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ} ‪ :‬أي‪ :‬كثيرو الستماع للكذب‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫{ ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ} ‪ :‬يبدلون الكلم ويغيرونه ليوافق أهواءهم‪.‬‬ ‫{إِنْ أُوتِي ُتمْ هَذَا} ‪ :‬أي‪ :‬أعطيتم‪.‬‬ ‫{فِتْنَتَهُ} ‪ :‬أي‪ :‬ضللة لما سبق له من موجبات الضلل‪.‬‬ ‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ} ‪ :‬من الكفر والنفاق‪.‬‬ ‫{أَنْ ُي َ‬ ‫{خِ ْزيٌ} ‪ :‬ذل‪.‬‬

‫( ‪)1/631‬‬ ‫حتِ} ‪ :‬كثيروا الكل للحرام؛ كالرشوة والربا‪.‬‬ ‫{َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬ ‫{َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ} ‪ :‬أي‪ :‬ل تحكم بينهم‪.‬‬ ‫سطِ} ‪ :‬أي‪ :‬بالعدل‪.‬‬ ‫{بِا ْلقِ ْ‬ ‫{ َومَا أُولَ ِئكَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ :‬أي‪ :‬صدقا وحقا وإن ادعوه نطقا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫عظِيمٌ} في‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ‪ 1‬ل َيحْزُ ْنكَ الّذِينَ ُيسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ} إلى قوله‪{ :‬عَذَابٌ َ‬ ‫نهاية الية نزل تسلية لرسول ال صلى ال عليه وسلم وتخفيفا مما كان يجده صلى ال عليه وسلم‬ ‫من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي‬ ‫كذب بها المنافقون واليهود معا‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ} الحق‪ ،‬لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه‪:‬‬ ‫{ل يَحْزُ ْنكَ} حال الذين { ُيسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ} بتكذيبك فإنهم ما خرجوا من الكفر‪ ،‬بل هم فيه‬ ‫منغمسون‪ ،‬فإذا سمعت منهم قول الكفر ل تحفل به حتى ل يسبب لك حزنا في نفسك‪{ .‬مِنَ الّذِينَ‪2‬‬ ‫قَالُوا آمَنّا بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وََلمْ ُت ْؤمِنْ قُلُو ُبهُ ْم َومِنَ الّذِينَ هَادُوا} أي‪ :‬ل يحزنك كذلك حال اليهود الذين‬ ‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ} سماعون ليهود آخرين لم يأتوك؛ كيهود‬ ‫يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك‪َ { ،‬‬ ‫خيبر وفدك‪ ،‬أي‪ :‬كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الساءة إليك سماعون‬ ‫لهمل قوم آخرين ينقلون إليهم أخبارك كوسائط‪ ،‬وهم لم يأتوك‪ ،‬وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم‬ ‫ضعِهِ} ‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫أن يسألوا لهم النبي صلى ال عليه وسلم عن حد الزنى { ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ مِنْ َبعْدِ َموَا ِ‬ ‫يغيرون حكم ال الذي تضمنه الكلم‪ ،‬يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم‬ ‫بالفحم‪ ،‬فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك‪ .‬هذا معنى تعالى في هذه الية‪ { :‬وكَ‬ ‫حذَرُوا} ‪ ،‬وقال تعالى‬ ‫ضعِهِ َيقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا َفخُذُو ُه وَإِنْ لَمْ ُتؤْ َت ْوهُ فَا ْ‬ ‫يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ مِنْ َبعْدِ َموَا ِ‬

‫لرسوله‪َ { :‬ومَنْ يُ ِردِ اللّهُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هو النبي محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬خاطبه ربه بعنوان الرسالة تشريفًا له وتعطيمًا وإشعارًا‬ ‫له بعدم داعي الحزن‪ ،‬إذ من كان في مقامه ل يحزن مهما كانت المصائب‪ ،‬والية نزلت في‬ ‫حادثة زنا اليهوديين‪ ،‬إذ روى في الصحيحين‪ ،‬أن جابرًا قال‪ :‬زنى رجل من أهل فدك‪ ،‬فكتب أهل‬ ‫فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة‪ ،‬أن سلوا محمدًا عن ذلك‪ ،‬فإن أمركم بالجلد فخذوه‪ ،‬وإن أمركم‬ ‫بالرجم فل تأخذوه‪ .‬فسألوه‪ .‬فدعا ابن صوريا‪ ،‬وكان عالمهم‪ ،‬وكان أعور‪ .‬فقال له رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬أنشدك ال كيف تجدون حد الزنا في كتابكم"؟ فقال ابن صوريا‪ :‬فأما إذ‬ ‫نشادتني ال فإنا نجد في التوراة‪ :‬النظر‪ :‬زنية‪ ،‬والعتناق‪ :‬زنية‪ ،‬والقبلة‪ :‬زنية‪ .‬فإن شهد أربعة‬ ‫بأنهم رأوا ذكره في فرجها‪ .‬مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬هو ذاك" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬من‪ :‬بيانية‪ ،‬أي‪ :‬بينت أن المسارعين في الكفر‪ :‬هم من المنافقين‪.‬‬

‫( ‪)1/632‬‬ ‫فِتْنَتَهُ} أي‪ :‬إضلله عن الحق لما اقترف ن عظائم الذنوب وكبائر الثام {فَلَنْ َتمِْلكَ لَهُ مِنَ اللّهِ‬ ‫طهّرَ‬ ‫شَيْئا} إذا أراد ال إضلله‪ ،‬إذا فل يحزنك مسارعتهم في الكفر‪{ ،‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ لَمْ يُ ِردِ اللّهُ أَنْ يُ َ‬ ‫قُلُو َبهُمْ} من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت دون قبول اليمان ولحق‪،‬‬ ‫عذَابٌ عَظِيمٌ} جزاء كفرهم وبغيهم‪ .‬هذا ما‬ ‫{َلهُمْ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ} أي‪ :‬ذل وعار‪{ ،‬وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬ ‫دلت عليه الية(‪ ،)41‬أما الية الثانية(‪ )42‬فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع‬ ‫الكذب مضافا إليه كثرة أكلهم للسحت‪ ،‬وهو المال الحرام أشد حرمة؛ كالرشوة والربا ‪ ،1‬فقال‬ ‫حتِ‪ 2‬فَإِنْ جَاءُوكَ} أي‪ :‬للتحاكم عندك فأنت مخير بين‬ ‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬ ‫تعالى عنهم‪َ { :‬‬ ‫أن تحكم بحكم ال ‪ .3‬أو تعرض عنهم وتتركهم لحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن تعرض‬ ‫عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئا‪ ،‬أي‪ :‬من الضرر ولو قل‪ ،‬لن ال تعالى وليك وناصرك‪،‬‬ ‫وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي‪ :‬العدل‪ ،‬لن ال تبارك وتعالى يحب ذلك فافعله لجله‬ ‫ك وَعِنْدَهُمُ ال ّتوْرَاةُ‬ ‫ح ّكمُو َن َ‬ ‫إنه يحب القسط والمقسطين‪ ،‬وقوله تعالى في الية الثالثة(‪َ { :)43‬وكَ ْيفَ يُ َ‬ ‫حكْمُ اللّهِ} ‪ .‬أي‪ :‬إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة‪ ،‬وعندهم التوراة‬ ‫فِيهَا ُ‬ ‫فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتباعا لهوائهم‪َ { ،‬ومَا أُولَ ِئكَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ل بك ول بحكمك‬ ‫ول بحكم التوراة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫‪ -1‬استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة تحريف الكلم وتشويهه للفساد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرشوة مشتقة من الرشى الذي هو الحبل الذي يستخرج به الماء من البئر بضميمة الدلو‪،‬‬ ‫وعليه فكل مال أعطى لحاكم ليؤخذ به الراشي حق امرء فهو رشوة وسحت محرمان بل خلف‪.‬‬ ‫وكذا ما يدفعه الواسطة لحاكم ليسقط عنه حقًا وجب عليه فهو رشوة‪ .‬أما ما كان ليدفع به عن‬ ‫نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه فل يحرم‪ ،‬وليس هو من الرشوة‪ ،‬قال السمرقندي الفقيه‪ ،‬وبهذا‬ ‫نأخذ‪.‬‬ ‫سحِ َتكُمْ ِبعَذَابٍ} ‪ ،‬وقال الفرزدق‪:‬‬ ‫‪ 2‬أصل السحت‪ :‬الهلك‪ ،‬والشدة‪ .‬قال تعالى‪{ :‬فَيُ ْ‬ ‫وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع ‪ ...‬من المال إل مسحتًا أو مجلف‬ ‫وسمي المال الحرام كالربا والرشوة‪ :‬سحتًا؛ لنه يسحت الطاعات ويبطل ثوابها‪ ،‬ويسحت البركة‬ ‫ويزيلها‪.‬‬ ‫‪ 3‬يرى مالك والشافعي أن اليهود إذا رفعوا للمام قضية دم أو مال أو عرض حكم بينهم بما أنزل‬ ‫ال‪ ،‬وإن كان ما رفعوه ل يتعلق بالمال أو الدم أو العرض تركهم معرضًا عنهم‪ ،‬وأبي حنيفة يرى‬ ‫الحكم بينهم مطلقًا‪.‬‬

‫( ‪)1/633‬‬ ‫‪ -4‬الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على‬ ‫علمائهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم‪.‬‬ ‫‪ -6‬تقرير كفر ‪ 1‬اليهود وعدم إيمانهم‪.‬‬ ‫ن وَالَحْبَارُ‬ ‫ح ُكمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسَْلمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّو َ‬ ‫ى وَنُورٌ يَ ْ‬ ‫{إِنّا أَنْ َزلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُد ً‬ ‫ن وَل َتشْتَرُوا بِآيَاتِي َثمَنا‬ ‫شوْ ِ‬ ‫س وَاخْ َ‬ ‫شوُا النّا َ‬ ‫ش َهدَاءَ فَل َتخْ َ‬ ‫حفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّ ِه َوكَانُوا عَلَ ْيهِ ُ‬ ‫ِبمَا اسْ ُت ْ‬ ‫علَ ْيهِمْ فِيهَا أَنّ ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ(‪َ )44‬وكَتَبْنَا َ‬ ‫ل َومَنْ لَمْ َي ْ‬ ‫قَلِي ً‬ ‫ن وَالْجُرُوحَ ِقصَاصٌ َفمَنْ َتصَدّقَ بِهِ َف ُهوَ‬ ‫ن وَالسّنّ بِالسّ ّ‬ ‫ف وَالُذُنَ بِالُذُ ِ‬ ‫وَا ْلعَيْنَ بِا ْلعَيْنِ وَالَ ْنفَ بِالَنْ ِ‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ(‪َ )45‬و َقفّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‬ ‫َكفّارَةٌ َل ُه َومَنْ َلمْ َي ْ‬ ‫ى وَنُو ٌر َومُصَدّقا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ال ّتوْرَاةِ‬ ‫ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ال ّتوْرَا ِة وَآتَيْنَا ُه الِنْجِيلَ فِيهِ هُد ً‬ ‫حكُمْ‬ ‫ى َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ(‪ )46‬وَلْيَ ْ‬ ‫وَهُد ً‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬قالت العلماء‪ :‬إن من طلب غير حكم ال تعالى من حيث لم يرض به فهو كافر‪ ،‬وهذه حالة‬ ‫اليهود وحال أكثر المسلمين اليوم حيث لم يرضوا بحكم ال تعالى وحكموا شرائع الباطل وقوانين‬ ‫الكفر‪.‬‬

‫( ‪)1/634‬‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَاسِقُونَ(‪})47‬‬ ‫ل الِنْجِيلِ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فِي ِه َومَنْ لَمْ َي ْ‬ ‫أَ ْه ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ال ّتوْرَاةَ} ‪ :‬كتاب موسى عليه السلم‪.‬‬ ‫ى وَنُورٌ} ‪ :‬الهدى‪ :‬ما يوصل إلى المقصود‪ ،‬والنور‪ :‬ما يهدي السائر إلى غرضه‪.‬‬ ‫{هُد ً‬ ‫{هَادُوا} ‪ :‬اليهود‪.‬‬ ‫{وَالرّبّانِيّونَ} ‪ :‬جمع رباني‪ :‬العالم المربي الحكيم‪.‬‬ ‫{وَالَحْبَارُ‪ : }1‬جمع حبر‪ :‬العالم من أهل الكتاب‪.‬‬ ‫{ َوكَتَبْنَا} ‪ :‬فرضنا عليهم وأوحينا‪.‬‬ ‫{ ِقصَاصٌ} ‪ :‬مساواة‪.‬‬ ‫{ َو َقفّيْنَا} ‪ :‬أتبعناهم بعيسى بن مريم‪.‬‬ ‫سقُونَ} ‪ :‬الخارجون عن طاعة ال ورسله‪.‬‬ ‫{ا ْلفَا ِ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الحديث على بني إسرائيل‪ ،‬إذ قال تعالى مخبرا عما أتى بنى إسرائيل‪{ :‬‬ ‫ى وَنُورٌ} هدى من كل ضللة ونور مبين للحكام مُخرج من ظلمات‬ ‫إِنّا أَنْزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُد ً‬ ‫سَلمُوا} ل قلوبهم ووجوههم فانقادوا ل‬ ‫حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ} من بني إسرائيل {النّبِيّونَ الّذِينَ أَ ْ‬ ‫الجهل { َي ْ‬ ‫ظاهرا وباطنا‪ِ{ ،‬للّذِينَ هَادُوا}‪ ،2‬ويحكم بها الربانيون من أهل العلم والحكمة من بني إسرائيل { ِبمَا‬ ‫حفِظُوا} بسبب استحفاظ ال تعالى إياهم كتابه التوراة فل يبدلونه ول يغيرون فيه‪َ { ،‬وكَانُوا عَلَ ْيهِ‬ ‫اسْ ُت ْ‬ ‫شهَدَاءَ} بأحقيته وسلمته من النقص والزيادة بخلفكم أيها اليهود‪ ،‬فقد حرفتم الكلم عن مواضعه‬ ‫ُ‬ ‫وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صلى ال عليه وسلم والمر باليمان به‪،‬‬ ‫ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة ول تخشوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قالوا‪ :‬الحَبر بالفتح‪ :‬العالم بتحبير الكلم والعلم وتحسينه‪.‬‬ ‫‪ 2‬قد تكون اللم هنا بمعنى على‪ ،‬أي‪ :‬على الذين هادوا‪ ،‬وقد تكون على بابها‪ ،‬ويكون لفظ‪:‬‬ ‫عليهم‪ ،‬محذوفًا‪ ،‬أي‪ :‬يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‪ .‬وعليهم فحذف‪" :‬عليهم"‪.‬‬

‫( ‪)1/635‬‬ ‫الناس في ذلك واخشوا ال تعالى فهو أحق أن يخشى‪ ،‬ول تشتروا بآيات ال التي هي أحكامه‬ ‫فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين ال وكتابه‪َ { .‬ومَنْ‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ} ‪ 1‬فكيف ترضون بالكفر بدل اليمان‪.‬‬ ‫لَمْ َي ْ‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى(‪ ،)44‬أما الية الثانية(‪َ { :)45‬وكَتَبْنَا عَلَ ْي ِهمْ فِيهَا أَنّ ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ‪}2‬‬ ‫فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود في النفس والقصاص في‬ ‫الجراحات؛ فالنفس تقتل بالنفس‪ ،‬العين تفقأ بالعين ‪ 3‬والنف يجدع بالنف‪ ،‬والذن ‪ 4‬تقطع بالذن‬ ‫والسن تكسر إن كسرت ‪ 5‬بالسن‪ ،‬وتقلع به إن قلع‪ ،‬والجروح ‪ 6‬بمثلها قصاص ومساواة‪ ،‬وأخبر‬ ‫تعالى‪ :‬أن من تصدق على الجاني بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه ‪ ،7‬وإن‬ ‫لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائبا‪،‬‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ‬ ‫أي‪ :‬نادما على فعله مستغفرا ربه‪ .‬وقوله تعالى في ختام الية‪َ { :‬ومَنْ لَمْ يَ ْ‬ ‫فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ} ‪ ،‬وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أو فقأ بالعين عينين‪ ،‬كما‬ ‫كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثالثة(‪ )46‬وهي قوله تعالى‪َ { :‬و َقفّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فقد‬ ‫أخبر تعالى أنه أتبع أولئك النبياء السابقين من بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلم‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫أرسله بعدهم مباشرة { ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ال ّتوْرَاةِ} لم ينكرها أو يتجاهلها‪{ ،‬وَآتَيْنَا ُه الِنْجِيلَ} ‪،‬‬ ‫أي‪ :‬وأعطيناه النجيل وحيا أوحيناه إليه‪ ،‬وهو كتاب مقدس أنزله ال تعالى عليه فيه‪ ،‬أي‪ :‬في‬ ‫النجيل هدى من الضلل ونور لبيان الحكام من الحلل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القول الذي ل خلف فيه‪ :‬هو أن المسلم ل يكفر لمجرد عدم حكمه بما أنزل ال تعالى‪ ،‬وإنما‬ ‫يفسق ويصبح في عداد الفاسقين من أمة السلم‪ .‬أما الكفر فل يكفر ول يكفر إل بشرط أن ينكر‬ ‫هداية القرآن وصلحيته ويعرض عنه مستخفًا به مفضلً عليه غيره‪.‬‬ ‫‪ 2‬الذي عليه أكثر الفقهاء‪ :‬أن المسلم ل يقتل بالذمي‪ .‬لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫"المؤمنون تتكافأ دمائهم وهم يدُ على من سواهم ول يقتل مسلم بكافر ول ذو عهد في عهده" رواه‬ ‫أبو داود والترمذي‪.‬‬ ‫‪ 3‬ل خلف أن في العينين دية‪ ،‬وفي العين الواحدة نصف دية‪ ،‬وفي عين العور دية كاملة‪ ،‬وفي‬ ‫النف إذا جدع الدية كاملة‪.‬‬ ‫‪ 4‬الدية في ذهاب السمع‪ ،‬إما مع بقاء السمع ففيه حكومة‪.‬‬ ‫‪ 5‬في السن خمس من البل لحديث الصحيح في ذلك‪.‬‬

‫‪ 6‬وفي الشفتين الدية‪ ،‬وفي الواحدة نصف الدية‪ ،‬وفي اللسان إذا قطع الدية‪.‬‬ ‫‪ 7‬اختلف في دية المرأة الكثرون على أن أصبعها كأصبع الرجل وسنها كسنه‪ ،‬وموضوحتها‬ ‫كموضوحته‪ ،‬ومنقلتها كمنقلته‪ ،‬فإذا بلغت ثلث الدية كانت على النصف من دية الرجل‪ .‬وقالت‬ ‫طائفة‪ :‬دية المرأة فيما ذكر على النصف من دية الرجل‪.‬‬

‫( ‪)1/636‬‬ ‫والحرام‪َ { ،‬و ُمصَدّقا} ‪ ،‬أي‪ :‬النجيل لما قبله من التوراة‪ ،‬أي‪ :‬مقررا أحكامها مثبتا لها إل ما نسخه‬ ‫ى َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ} أي‪ :‬يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير‬ ‫ال تعالى منها بالنجيل‪{ ،‬وَهُد ً‬ ‫في طريقهم إلى ال تعالى والموعظة التامة للتعاظ بها في الحياة‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الثالثة‪،‬‬ ‫حكُمْ َأ ْهلُ الِ ْنجِيلِ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فِيهِ} أي‪ :‬وقلنا ليحكم أهل‬ ‫أما الية(‪ )47‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وَلْ َي ْ‬ ‫النجيل‪ ،‬يريد وأمرنا أهل النجيل أن يحكموا بما أنزل ال فيه من الحكام‪ ،‬وأخبرناهم أن من {َلمْ‬ ‫سقُونَ} عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلما‬ ‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬ ‫يَ ْ‬ ‫وكفرا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب خشية ال بأداء ما أوجب وترك ما حرم‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر من جحد أحكام ال فعطلها أو تلعب بها فحكم بالبعض دون البعض‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب ‪ 1‬القود في النفس والقصاص في الجراحات؛ لن ما كتب على بني إسرائيل كتب على‬ ‫هذه المة‪.‬‬ ‫‪ -4‬من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل الواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين‬ ‫الواحدة عينان مثلً‪ ،‬وهو كفر مع الستحلل وظلم في نفس الوقت‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية القصاص في النجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الحكام‬ ‫وهم مؤمنون بها‪.‬‬ ‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ‬ ‫{وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ َو ُمهَ ْيمِنا عَلَيْهِ فَا ْ‬ ‫جعََلكُمْ ُأمّةً‬ ‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْعَ ًة َومِ ْنهَاجا وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬ ‫حقّ ِل ُكلّ َ‬ ‫عمّا جَا َءكَ مِنَ الْ َ‬ ‫وَل تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ َ‬ ‫وَاحِ َد ًة وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إل إن يرضى الملظلوم بالدية فإنه يعطاها على نحو ما تقدم آنفًا‪.‬‬

‫( ‪)1/637‬‬

‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ‬ ‫جمِيعا فَيُنَبّ ُئ ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ(‪ )48‬وَأَنِ ا ْ‬ ‫ج ُعكُمْ َ‬ ‫آتَاكُمْ فَاسْتَ ِبقُوا ا ْلخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَ ْر ِ‬ ‫ِبمَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَل تَتّبِعْ َأ ْهوَاءَهُ ْم وَاحْذَرْ ُهمْ أَنْ َيفْتِنُوكَ عَنْ َب ْعضِ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكَ فَإِنْ َتوَّلوْا فَاعْلَمْ‬ ‫حكْمَ ا ْلجَاهِلِيّةِ يَ ْبغُونَ‬ ‫سقُونَ(‪َ )49‬أ َف ُ‬ ‫أَ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيصِي َبهُمْ بِ َب ْعضِ ذُنُو ِبهِ ْم وَإِنّ كَثِيرا مِنَ النّاسِ َلفَا ِ‬ ‫حكْما ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ(‪})50‬‬ ‫َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّهِ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫{مِنَ ا ْلكِتَابِ} ‪ :‬اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله؛ كالتوراة والنجيل‪.‬‬ ‫علَيْهِ} ‪ :‬حاكما عليه‪ ،‬أي‪ :‬محققا للحق الذي فيه‪ ،‬مبطلً للباطل الذي التصق به‪.‬‬ ‫{ َو ُمهَ ْيمِنا َ‬ ‫عةً‪َ 1‬ومِ ْنهَاجا} ‪ :‬شريعة تعملون بها وسبيلً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى‪.‬‬ ‫{شِرْ َ‬ ‫{ُأمّةً وَاحِ َدةً} ‪ :‬ل اختلف بينكم في عقيدة ول في عبادة ول قضاء‪.‬‬ ‫{فَاسْتَ ِبقُوا} ‪ :‬أي‪ :‬بادروا فعل الخيرات ليفوز السابقون‪.‬‬ ‫{أَنْ َيفْتِنُوكَ} ‪ :‬يضلوك عن الحق‪.‬‬ ‫{فَإِنْ َتوَّلوْا} ‪ :‬أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به‪.‬‬ ‫{حكم الجاهلية} ‪ :‬هو ما عليه أهل الجاهلية من الحكام القبلية التي ل تقوم على وحي ال تعالى‬ ‫وإنما على الراء والهواء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر النجيل وأنه أيضا فيه الهدى والنور‬ ‫حقّ} متلبسا به ل يفارقه‬ ‫ناسب ذكر القرآن الكريم‪ ،‬فقال‪{ :‬وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ} ‪ ،‬أي‪ :‬القرآن {بِالْ َ‬ ‫الحق والصدق لخلوه من الزيادة والنقصان حال كونه { ُمصَدّقا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ} من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل الشريعة في اللغة‪ :‬الطريقة التي يتوصل بها إلى الماء‪ ،‬وهي هنا‪ :‬ما شرع ال لعباده من‬ ‫الدين الشامل من العقائد والعبادات والحكام القضائية يتوصل بها إلى سعادة الدارين‪.‬‬

‫( ‪)1/638‬‬ ‫الكتب السابقة‪ ،‬ومهيمنا‪ 1‬عليها حفيظا حاكما‪ ،‬فالحق ما أحقه منها والباطل ما أبطله منها‪ .‬وعليه‬ ‫حكُمْ} يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك { ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ} إليك بقتل القاتل ورجم الزاني ل‬ ‫{فَا ْ‬ ‫كما يريد اليهود {وَل تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ} في ذلك وترك ما جاءك من الحق‪ ،‬واعلم أنا جعلنا لكل أمة‬ ‫جعََلكُمْ‬ ‫شرعة ومنهاجا‪ ،‬أي‪ :‬شرعا وسبيلً خاصا يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم‪{ ،‬وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬ ‫ح َدةً} على شريعة واحدة ل تختلف في قضاياها وأحكامها لفعل‪ ،‬ولكن نوع الشرائع فأوجب‬ ‫ُأمّ ًة وَا ِ‬

‫وأحل ونهى وحرم في شريعة ولم يفعل ذلك في شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم‬ ‫وأنزل عليكم ليتبين المطيع من العاصي والمهتدي من الضال‪ ،‬وعليه فهلم {فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ‪}2‬‬ ‫أي‪ :‬بادروا العمال الصالحة‪ ،‬وليجتهد كل واحد أن يكن سابقا‪ ،‬فإن مرجعكم إليه تعالى {فَيُنَبّ ُئكُمْ‬ ‫ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ} ‪ ،‬ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك‪ .‬هذا ما دلت عليه الية‬ ‫الولى‪ ،‬أما الية الثانية (‪ )49‬فقد أمر ال تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه‬ ‫حكُمْ‪ 3‬بَيْ َن ُهمْ ِبمَا أَنْ َزلَ‬ ‫أمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال‪{ :‬وَأَنِ ا ْ‬ ‫اللّهُ} ‪ ،‬ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال‪{ :‬وَل تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ} وحذره من أن يتبع بعض آرائهم‬ ‫حذَرْهُمْ‪ 4‬أَنْ َيفْتِنُوكَ‬ ‫فيترك بعض ما أنزل عليه ول يعمل به ويعمل بما اقترحوه عليه فقال‪{ :‬وَا ْ‬ ‫عَنْ َب ْعضِ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكَ} وأعلمه أن اليهود إن تولوا‪ ،‬أي‪ :‬أعرضوا عن قبول حكمه وهو‬ ‫الحكم الحق العادل فإنما يريد ال تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب‪ ،‬وما‬ ‫ارتكبوا من الخطايا فقال‪{ :‬فَإِنْ َتوَلّوْا فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيصِي َبهُمْ‪ 5‬بِ َب ْعضِ ذُنُو ِبهِمْ} ‪ .‬وندد‬ ‫بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون‪ ،‬أي‪ :‬عصاة خارجون عن طاعة ال تعالى ورسله‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫سقُونَ} ‪ .‬فسله بذلك وهون عليه ما قد يجده‬ ‫{وَإِنّ كَثِيرا مِنَ النّاسِ َلفَا ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فسر‪{ :‬مهيمنًا} بعال مرتفع عليه وبمؤتمن عليه‪ ،‬ويعود اللفظان إلى ما فسرناه به؛ لن المرتفع‬ ‫العالي هو الحاكم‪ .‬والمؤتمن هو الحافظ‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه دليل على تقديم الواجبات وعدم تأخيرها لسيما الصلوات الخمس‪ ،‬وخالف أبو حنيفة في‬ ‫الصلة‪ ،‬والية حجة عليه‪.‬‬ ‫‪ 3‬هل هذه الية ناسخة للتخيير السابق‪ ،‬أو ل نسخ ويقدر بعدها جملة –إن شئت‪ -‬لتقدم ذكر‬ ‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ} ‪ ،‬يحدد معنى هذه الية‪.‬‬ ‫التخيير وما تقدم من توجيه في آية‪{ :‬فَا ْ‬ ‫‪ 4‬روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن قومًا من الحبار اجتمعوا‪ ،‬منهم‪ :‬ابن صوريا‪ ،‬وكعب‪،‬‬ ‫وشاس‪ ،‬وقالوا‪ :‬إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه‪ ،‬فإنما هو بشر‪ ،‬فأتوه وقالوا‪ :‬قد عرفت يا‬ ‫محمد إنا أحبار اليهود وإن اتبعناك لم يحالفنا أحد من اليهود‪ ،‬وإن بيننا وبين قوم خصومة‬ ‫فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك‪ .‬فأبى رسول ال صلى ال عليه وسلم ونزلت هذه‬ ‫الية‪.‬‬ ‫‪ 5‬وقد أصابهم فأجلوا من الحجاز وقتل بنو قريظة وضربت عليهم الجزية في ديار السلم‪.‬‬

‫( ‪)1/639‬‬ ‫من ألم تمرد اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه‪ .‬هذا ما دلت‬ ‫عليه الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )50‬فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم أهل الجاهلية‬

‫حيث ل وحي ول تشريع إلهي وإنما العادات والهواء والشهوات معرضين عن حكم الكتاب‬ ‫ح ْكمَ الْجَاهِلِيّةِ‪ 1‬يَ ْبغُون}َ ‪ .‬ثم أخبر تعالى نافيا أن‬ ‫والسنة حيث العدل والرحمة‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬أفَ ُ‬ ‫يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من حكم ال تعالى للمؤمنين به الموقنين بعدله تعالى ورحمته‬ ‫حكْما ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؟‪.‬‬ ‫فقال‪َ { :‬ومَنْ َأحْسَنُ‪ 2‬مِنَ اللّهِ ُ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل يحوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي اللهي الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الضلل عن الحق‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان الحكمة من اختلف الشرائع‪ ،‬وهو البتلء‪.‬‬ ‫‪ -5‬أكثر المصائب في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب‪.‬‬ ‫‪ -6‬حكم الشريعة السلمية أحسن الحكام عدلً ورحمة‪.‬‬ ‫ض َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ فَإِنّهُ‬ ‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْع ٍ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا الْ َيهُو َد وَال ّنصَارَى َأوْلِيَاءَ َب ْع ُ‬ ‫مِ ْنهُمْ إِنّ اللّهَ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ(‪ )51‬فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ ُيسَارِعُونَ فِيهِمْ َيقُولُونَ‬ ‫خشَى أَنْ ُتصِيبَنَا دَائِ َرةٌ َفعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْ ِتيَ بِا ْلفَتْحِ َأوْ َأمْرٍ مِنْ عِ ْن ِدهِ فَ ُيصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرّوا فِي‬ ‫نَ ْ‬ ‫سهِمْ نَا ِدمِينَ(‪)52‬‬ ‫أَ ْنفُ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أفحكم} منصوب بيبغون‪ ،‬أي‪ :‬أيبغون حكم الجاهلية‪ ،‬إذ أهل الجاهلية من العرب يجعلون حكم‬ ‫الشريف خلف حكم الوضيع‪ .‬واليهود يقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء دون القوياء‬ ‫والغنياء‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام إنكاري‪ ،‬أي‪ :‬ينكر أن يكون هناك حكم أحسن من ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/640‬‬ ‫عمَاُلهُمْ فََأصْبَحُوا‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫ج ْهدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ إِ ّنهُمْ َل َم َعكُمْ حَ ِب َ‬ ‫سمُوا بِاللّهِ َ‬ ‫وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا َأ َهؤُلءِ الّذِينَ َأقْ َ‬ ‫خَاسِرِينَ(‪})53‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{آمَنُوا} ‪ :‬صدقوا بال ورسوله ووعد ال ووعيده‪.‬‬ ‫{َأوْلِيَاءَ} ‪ :‬لكم توالونهم بالنصرة والمحبة‪.‬‬ ‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ} ‪ :‬أي‪ :‬اليهودي ولي أخيه اليهودي‪ ،‬والنصراني ولي أخيه النصراني‪.‬‬ ‫{ َب ْع ُ‬ ‫{الظّاِلمِينَ} ‪ :‬الذين يوالون أعداء ال ورسوله ويتركون موالة ال ورسوله والمؤمنين‪.‬‬

‫{مَ َرضٌ} ‪ :‬نفاق وشك وشرك‪.‬‬ ‫{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} ‪ :‬أي‪ :‬في البقاء على موالتهم‪ ،‬أي‪ :‬موالة اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫{دَائِ َرةٌ‪ : }1‬تدور علينا من جدب‪ ،‬أو انتهاء أمر السلم‪.‬‬ ‫{بِا ْلفَتْحِ} ‪ :‬نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك؛ كفتح مكة‪.‬‬ ‫جهْدَ‪ 2‬أَ ْيمَا ِن ِهمْ} ‪ :‬أقصاها وأبلغها‪.‬‬ ‫{َ‬ ‫عمَاُلهُمْ} ‪ :‬بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء؛ لنها ما كانت ل تعالى‪.‬‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫{حَبِ َ‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ورد في سبب نزول هذه الية عن عبادة بن الصامت النصاري‪ ،‬وعبد ال بن أبي كان لكل منهما‬ ‫حلفاء من يهود المدينة‪ ،‬ولما انتصر رسول ال صلى ال عليه وسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ‬ ‫اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالة ال ورسوله‬ ‫والمؤمنين وأبي بن أبي‪ ،‬ذلك وقال بعض ما جاء في هذه اليات فأنزل ال تعالى قوله‪{ :‬يَا أَ ّيهَا‬ ‫ضهُمْ‬ ‫الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا الْ َيهُو َد وَال ّنصَارَى َأوْلِيَاءَ} أي‪ :‬لكم من دون المؤمنين‪ ،‬وقوله تعالى‪َ { :‬ب ْع ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الدائرة‪ :‬اسم فاعل من دار يدو فهو دائر‪ ،‬إذا عكس سيره فالدائرة تغير الحال‪ ،‬وغلبت في‬ ‫الخير والشر‪ ،‬أي‪ :‬من خير إلى شر‪ .‬ودوائر الدهر‪ :‬نوبه ودوله‪.‬‬ ‫‪ 2‬حقيقة الجهد‪ :‬التعب والمشقة‪ ،‬ومنتهى الطاقة‪ ،‬والمراد به في الية‪ :‬آكد اليمان وأغلظها‪ ،‬وفعل‬ ‫الجهد‪ :‬جهد؛ كمنع يجهد كيمنع جهدا كمنع‪.‬‬

‫( ‪)1/641‬‬ ‫َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ} تعليل لتحريم موالتهم ‪ ،1‬لن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني‬ ‫على المسلمين فكيف تجوز إذا موالتهم‪ ،‬وكيف يصدقون أيضا فيها فهل من المعقول أن يحبك‬ ‫النصراني ويكره أخاه‪ ،‬وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ يَ َتوَّلهُمْ مِ ْنكُمْ} أي‪ :‬أيها‬ ‫المؤمنون {فَإِنّهُ مِ ْنهُمْ‪ . }2‬لنه بحكم موالتهم سيكون حربا على ال ورسوله والمؤمنين‪ ،‬وبذلك‬ ‫يصبح منهم قطعا وقوله‪{ :‬إِنّ اللّهَ ل َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ} جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود‬ ‫والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية ال تعالى لن ال ل يهدي القوم الظالمين‪.‬‬ ‫والظلم وضع الشيء في غير محله‪ ،‬وهذا الموالي لليهود قد ظلم بوضع الموالة في غير محلها‬ ‫حيث عادى ال ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء ال ورسوله والمؤمنين‪ .‬هذا ما‬ ‫دلت عليه الية الولى‪ ،‬أما الية الثانية(‪ )52‬فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبررا موقفه‬ ‫المخزي وهو البقاء على موالته لليهود‪ ،‬إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم‪{ :‬فَتَرَى الّذِينَ‬ ‫فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ} كابن أبي‪ ،‬والمرض مرض النفاق { ُيسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي‪ :‬في موالتهم ولم يقل‬

‫يسارعون إليهم لنهم ما خرجوا من دائرة موالتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها‬ ‫يسارعون‪ ،‬يقولون كالمعتذرين { َنخْشَى أَنْ ُتصِيبَنَا دَائِ َرةٌ} من تقلب الحوال فنجد أنفسنا مع أحلفنا‬ ‫ننتفع بهم‪ .‬وقوله تعالى‪َ { :‬فعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْ ِتيَ بِا ْلفَتْحِ} وعسى من ال تعبد تحقيق الوقوع‪ ،‬فهي‬ ‫بشرى لرسول ال والمؤمنين بقرب النصر والفتح ‪َ{ 3‬أوْ َأمْرٍ مِنْ عِ ْندِه ‪ 4‬فَ ُيصْ ِبحُوا} أي‪ :‬أولئك‬ ‫سهِمْ} من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين {نَا ِدمِينَ}‬ ‫الموالون لليهود {عَلَى مَا أَسَرّوا فِي أَ ْنفُ ِ‬ ‫حيث ل ينفعهم ندم‪ .‬هذا ما تضمنته الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )53‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وَ َيقُولُ‬ ‫الّذِينَ آمَنُوا} عندما يأتي ال بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين‪ ،‬ويصبح‬ ‫سمُوا بِاللّه} أغلظ اليمان‬ ‫المنافقون نادمين‪ ،‬يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين‪{ :‬أَ َهؤُلءِ الّذِينَ َأقْ َ‬ ‫عمَاُلهُمْ} لنها لم تكن ل {فََأصْبَحُوا خَاسِرِينَ} ‪.‬‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫{إِ ّنهُمْ َل َم َعكُمْ حَ ِب َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الموالة حقيقتها‪ :‬المودة والنصرة‪ ،‬فمن والى اليهود والنصارى فأحبهم ونصرهم على المسلمين‬ ‫لزمه أن أبغض المؤمنين وخذلهم‪ ،‬وبهذا يصبح كافرًا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو حرمة موالة الكافرين‪ ،‬ومن والهم تحرم موالته كما‬ ‫تحرم موالتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬أتى ال بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريضة‪ ،‬وسبيت ذراريهم‪،‬‬ ‫وأجلى بنو النضير‪.‬‬ ‫‪ 4‬فسر الحسن قوله تعالى‪{ :‬أو أمر منْ عِنده} بأنه إظهار أمر المنافقين والخبار بأسمائهم‪،‬‬ ‫والمر بقتلهم‪ ،‬وهو تفسير عظيم عليه نور‪.‬‬

‫( ‪)1/642‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة موالة اليهود والنصارى ‪ 1‬وسائر الكافرين‪.‬‬ ‫‪ -2‬موالة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬موالة الكافرين ناجمة عن ضعف اليمان‪ ،‬فلذا تؤدى إلى الكفر‪.‬‬ ‫‪ -4‬عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة‪.‬‬ ‫سوْفَ يَأْتِي اللّهُ ِبقَوْمٍ ُيحِ ّبهُ ْم وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى‬ ‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْ َتدّ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ َف َ‬ ‫ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ُيجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَل َيخَافُونَ َل ْومَ َة لئِمٍ ذَِلكَ َف ْ‬ ‫علِيمٌ(‪ )54‬إِ ّنمَا وَلِ ّيكُمُ اللّ ُه وَرَسُولُ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلةَ وَ ُيؤْتُونَ‬ ‫مَنْ يَشَاءُ وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ‬ ‫ال ّزكَا َة وَهُمْ رَا ِكعُونَ(‪َ )55‬ومَنْ يَ َت َولّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِ ْزبَ اللّهِ هُمُ ا ْلغَالِبُونَ(‪})56‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{مَنْ يَرْ َتدّ‪ : }2‬أي‪ :‬يرجع إلى الكفر بعد إيمانه‪.‬‬ ‫{َأذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} ‪ :‬أرقاء عليهم رحماء بهم‪.‬‬ ‫{أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ‪ : }3‬أشداء غلظ عليهم‪.‬‬ ‫{َل ْومَ َة لئِمٍ} ‪ :‬عذل عاذل‪.‬‬ ‫{حِ ْزبَ اللّهِ} ‪ :‬أنصار ال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل يعد موالة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني‪ ،‬إذا دعت‬ ‫الحاجة إليه‪ ،‬ول يصح اسبتطانهم ول الستعانة بهم في الجهاد‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرئ‪{ :‬يرتد} بالفتح وهي قراءة أهل المدينة والشام‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس‪ :‬هم للمؤمنين كالوالد للولد‪،‬والسيد للعبد‪ ،‬وهم في الغلظة على الكفار؛ كالسبع‬ ‫على فريسته‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه الية الكريمة (‪{ :)54‬يَا أ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْ َتدّ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ} تضمنت خبرا من أخبار‬ ‫الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلم ال حقا وأن المنزل على‬ ‫رسوله صدقا‪ ،‬فقد أخبر تعالى أنه من يرتد من المؤمنين سوف يأتي ال عز وجل بخير منه ممن‬ ‫يحبون ال ويحبهم ال تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل ال ول‬ ‫يخافون لوم من يلوم‪ ،‬ول عتاب من يعتب عليهم‪ .‬وما إن مات الرسول صلى ال عليه وسلم حتى‬ ‫ارتد فئات ‪ 1‬من أجلف العراف ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر مع الصحابة رضوان ال عليهم‬ ‫حتى أخضعوهم للسلم وحسن إسلمهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف ال تعالى يحبون ال‬ ‫ويحبهم ال يجاهدون في سبيله ول يخافون لومة لئم‪ ،‬وقد روي بل وصح أن النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم لما نزلت هذه الية وتلها صلى ال عليه وسلم وأبو موسى الشعري أمامه فأشار إليه‬ ‫وقال قوم هذا‪ ،‬وفعلً بعد وفاة الرسول جاء الشعريون وظهرت الية وتمت المعجزة وصدق ال‬ ‫ضلُ اللّهِ} الشارة إلى ما أولى ‪ 2‬أولئك المؤمنين من أبي بكر‬ ‫العظيم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ذَِلكَ َف ْ‬ ‫الصديق والصحابة والشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب ال والرقة والرأفة على‬ ‫المؤمنين والشدة على الكافرين‪ ،‬والجهاد في سبيل ال‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي‪ :‬واسع‬ ‫الفضل عليم بمن يستحقه‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى‪ ،‬أما الثانية ‪ )55( 3‬فقد تضمنت طمأنة‬ ‫الرب تعالى لعباده بن الصامت وعبد ال بن سلم ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى ال ورسوله‬

‫فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا {الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلةَ وَيُؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ‬ ‫رَا ِكعُونَ‪ }4‬أي‪ :‬خاشعون متطامنون‪ ،‬وأما ولية اليهود والنصارى فل خير لهم فيها وهم منها‬ ‫براء فقصرهم تعالى على وليته وولية رسوله والمؤمنين الصادقين‪ ،‬وفي الية الثالثة أخبرهم‬ ‫تعالى أن من يتول ال ورسوله والذين آمنوا ينصره ال ويكفه ما يهمه‪ ،‬لنه أصبح من حزب ال‪،‬‬ ‫وحزب ال أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الكريمة وهي قوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن إسحاق لما قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم ارتدت العرب إلى ثلثة مساجد‪:‬‬ ‫مسجد المدينة‪ ،‬ومسجد مكة‪ ،‬ومسجد جؤاثي‪ .‬جؤاثي‪ :‬اسم حصن بالبحرين‪ ،‬وكان المرتدون على‬ ‫قسمين‪ :‬قسم منعوا الزكاة واعترفوا بباقي الشريعة‪ ،‬وقسم نبذوا الشريعة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ما وهبهم وأعطاهم من الصفات الحميدة الجليلة‪.‬‬ ‫‪ 3‬هي قوله تعالى‪{ :‬إِ ّنمَا وَلِ ّيكُمُ اللّهُ وَرَسُولُ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا‪ }...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪ 4‬يروى أن عليًا رضي ال عنه كان يصلي نافلة في المسجد فسأله أحد فرمى إليه بالخاتم وهو‬ ‫يصلي فاستدل الفقهاء بهذا أن العمل اليسير ل يبطل الصلة‪.‬‬

‫( ‪)1/644‬‬ ‫تعالى‪َ { :‬ومَنْ يَ َت َولّ اللّهَ وَرَسُولَ ُه وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِ ْزبَ‪ 1‬اللّهِ ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ} ‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلم ال‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضيلة أبي بكر والصحابة والشعريين قوم أبي موسى الشعري وهم من أهل اليمن‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل حب ال والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين‪ ،‬وفضل الجهاد في سبيل ال‬ ‫وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالة بمن يلوم ويعذل في ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة إقام الصلة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع‪.‬‬ ‫‪ -5‬ولية ال ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه‪.‬‬ ‫خذُوا دِي َنكُمْ هُزُوا وََلعِبا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ل تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّ َ‬ ‫خذُوهَا هُزُوا وََلعِبا ذَِلكَ‬ ‫وَا ْلكُفّارَ َأوْلِيَا َء وَا ّتقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ(‪ )57‬وَإِذَا نَادَيْ ُتمْ إِلَى الصّلةِ اتّ َ‬ ‫بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ ل َي ْعقِلُونَ(‪ُ )58‬قلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َهلْ تَ ْن ِقمُونَ مِنّا إِل أَنْ آمَنّا بِاللّهِ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَا‬ ‫سقُونَ(‪ُ )59‬قلْ َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ‪ 2‬بِشَرّ مِنْ ذَِلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ َلعَنَهُ اللّهُ‬ ‫أُنْ ِزلَ مِنْ قَ ْبلُ وَأَنّ َأكْثَ َركُمْ فَا ِ‬ ‫سوَاءِ‬ ‫ضلّ عَنْ َ‬ ‫ج َعلَ مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َد َة وَالْخَنَازِي َر وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَ ِئكَ شَرّ َمكَانا وََأ َ‬ ‫غضِبَ عَلَيْهِ وَ َ‬ ‫وَ َ‬ ‫السّبِيلِ(‪})60‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬الحزب‪ :‬الصنف من الناس‪ ،‬وأصله من النائبة مأخوذ من قولهم‪ :‬حزبه كذا‪ ،‬أي‪ :‬نابه؛ كأن‬ ‫المحتزبين مجتمعون اجتماع أهل النائبة عليها‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى أنه لما نزلت أية‪ُ { :‬قلْ َهلْ أُنَبّ ُئ ُكمْ بِشَرّ مِنْ ذَِلكَ‪ }...‬إلخ‪ .‬قال المسلمون لهم يا أخوة القردة‬ ‫والخنازير نكسوا رؤسهم افتضاحا‪ ،‬وفيهم يقول الشاعر‪:‬‬ ‫فلعنة ال على اليهود ‪...‬‬ ‫إن اليهود أخوة القرود‬

‫( ‪)1/645‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{هُزُوا وََلعِبا} ‪ :‬الهزء‪ :‬ما يُهزأ به ويسخر منه‪ .‬واللعب‪ :‬ما يعلب به‪.‬‬ ‫{أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} ‪ :‬هم اليهود في هذا السياق‪.‬‬ ‫{وَا ْل ُكفّارَ} ‪ :‬المشركون‪.‬‬ ‫{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلةِ} ‪ :‬أذنتم بها‪.‬‬ ‫{ َهلْ تَ ْن ِقمُونَ مِنّا} ‪ :‬أي‪ :‬ما تنقمون منا‪ ،‬ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا‪.‬‬ ‫{مَثُوبَةً} ‪ :‬جزاء‪.‬‬ ‫سقُونَ} ‪ :‬خارجون عن طاعة ال تعالى بالكفر والمعاصي‪.‬‬ ‫{فَا ِ‬ ‫{ا ْلقِرَ َدةَ} ‪ :‬جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة‪.‬‬ ‫{وَالْخَنَازِيرَ} ‪ :‬جمع خنزير حيوان خبيث معروف محرم الكل‪.‬‬ ‫{شَرّ َمكَانا} ‪ :‬أي‪ :‬منزلة يوم القيامة في نار جهنم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في تحذير المؤمنين من موالة اليهود وأعداء ال ورسوله‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬يَا أَ ّيهَا‬ ‫خذُوا دِي َنكُمْ} السلمي‬ ‫الّذِينَ آمَنُوا} بال ربا وبمحمد رسولً وبالسلم دينا {ل تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّ َ‬ ‫{هُزُوا} شيئا يهزءون به‪ ،‬ولعبا‪ ،‬أي‪ :‬شيئا يلعبون به {مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ} يعني اليهود‪،‬‬ ‫والكفار ‪ ،1‬وهم المنافقون والمشركون {أولياء} أنصارا وأحلفا‪{ 2‬وَا ّتقُوا اللّهَ} في ذلك‪ ،‬أي‪ :‬في‬ ‫اتخاذهم أولياء {إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ} صادقين في إيمانكم فإن حب ال ورسوله والمؤمنين يتنافى معه‬ ‫حب أعداء ال ورسوله والمؤمنين‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى(‪ ،)57‬أما الية الثانية(‪ )58‬فقد‬ ‫تضمنت إخبار ال تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزوا ولعبا وهم أولئك‬ ‫الذين إذا سمعوا الذان ينادى ‪ 3‬للصلة اتخذوه هزوا ولعبا‪ ،‬فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬قرئ‪ :‬والكفار بالجر‪ ،‬وقرئ‪ :‬بالنصب‪ ،‬قال مكي‪ :‬لول اتفاق الجماعة على قراءة النصب‬ ‫لخترت قراءة الجر لقوته في العراب‪ ،‬وفي التفسير والقرب من المعطوف عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية فيها دليل على عدم جواز التأييد والستنصار بالمشركين‪ ،‬وقد روي عن جابر أن‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود فقالوا‪ :‬نسير معك‪ .‬فقال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنا ل نستعين على أمرنا بالمشركين" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم يكن بمكة الذان وإنما كان ينادي للصلة باللفظ‪" :‬الصلة جامعة" ولما هاجر رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالذان‪ ،‬وبقيت‪" :‬الصلة جامعة" والمر‬ ‫بعرض‪ ،‬ولما همهم أمر الذان رأى عبد ال بن زيد النصاري الذان في المنام‪ ،‬وكذا رآه عمر‪.‬‬

‫( ‪)1/646‬‬ ‫هذا نهيق حمار‪ ،‬قبح ال قولهم وأقمأهم‪ .‬فقال تعالى عنهم‪{ :‬وَِإذَا نَادَيْتُمْ‪ِ 1‬إلَى الصّلةِ اتّخَذُوهَا‬ ‫هُزُوا وََلعِبا ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْ ٌم ل َي ْعقِلُونَ} ‪ .‬حقا إنهم ل يعقلون‪ ،‬فلو كانوا يعقلون الكلم لكان النداء‬ ‫إلى الصلة من أطيب ما يسمع العقلء لنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة واللفة‪،‬‬ ‫نداء إلى ذكر ال وعبادته‪ ،‬ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم‪{ :‬ل َي ْعقِلُونَ} شأنهم شأن البهائم‬ ‫والبهائم أفضل منهم‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الثانية‪ ،‬أما الية الثالثة(‪ )59‬فقد تضمنت تعليم ال‬ ‫تعالى لرسوله أن يقول لولئك اليهود والكفرة الفجرة‪ :‬يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم‬ ‫علنيا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ول تعيبون علينا إل إيماننا بال وما أنزل علينا من هذا‬ ‫القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والنجيل‪ ،‬وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر‬ ‫من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم ل‪ ،‬ولكنكم قوم ل تعقلون‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى في هذه الية‪ُ { :‬قلْ‬ ‫يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َهلْ تَ ْن ِقمُونَ مِنّا إِل أَنْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَ ْبلُ وَأَنّ َأكْثَ َركُمْ‬ ‫سقُونَ} ‪ ،‬أما الية الرابعة في هذا السياق (‪ )60‬فقد تضمنت تعليم ال لرسوله كيف يرد على‬ ‫فَا ِ‬ ‫أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم‪ :‬ل نعلم دينا شرا من دينكم‪ ،‬وذلك أنهم سألوا النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬بمن تؤمن؟ فقال‪ :‬أؤمن بال وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل‬ ‫على عيسى‪ ،‬فلما قال هذا‪ ،‬قالوا‪ :‬ل نعلم دينا شرا من دينكم بغضا لعيسى عليه السلم وكرها له‪،‬‬ ‫فأنزل ال تعالى‪ُ { :‬قلْ َهلْ أُنَبّ ُئ ُكمْ بِشَرّ مِنْ ذَِلكَ مَثُوبَةً} أي‪ :‬ثوابا وجزاء {عِ ْندَ اللّهِ} أنه {مَنْ َلعَنَهُ‬ ‫ج َعلَ مِ ْنهُمُ ا ْلقِرَ َدةَ وَالْخَنَازِيرَ} إذ مسخ طائفة منهم قردة‪ ،‬وأخرى خنازير على‬ ‫ضبَ عَلَيْ ِه وَ َ‬ ‫غ ِ‬ ‫اللّ ُه وَ َ‬ ‫عهد داود عليه السلم‪ ،‬وقوله‪{ :‬وَعَ َبدَ الطّاغُوتَ‪ }2‬أي‪ :‬وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو‬ ‫الشيطان‪ ،‬و ذلك بطاعته والنقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد‪ ،‬إنه أنتم يا معشر‬ ‫يهود‪ ،‬إنكم لشر مكانا يوم القيامة وأضل سبيلً اليوم في هذه الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬الذان فرض في المدن والقرى‪ ،‬وسن لجماعة تطلب غيرها ومستحب لمن ل يطلب غيره‪،‬‬ ‫والسفر والحضر سواء إل أنه في السفر أعظم أجرًا لحديث الموطأ‪" :‬ل يسمع مدى صوت المؤذن‬ ‫جن ول إنس ول شيء إل شهد له يوم القيامة" ‪ .‬وهذا الثواب عام لمن أذن في السفر والحضر‬ ‫والقامة سنة مؤكدة لكل صلة‪ ،‬ومن أذن أقام ولو أقام غير المؤذن جازت‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرئ‪ :‬هذا اللفظ‪{ :‬عبد الطاغوت} بعدة قراءات‪ ،‬منها‪{ :‬عبد} اسما؛ كفضل‪ ،‬و {عبد الطاغوت}‬ ‫أي‪ :‬جمع عبد‪ ،‬وعبد الطاغوت‪ :‬جمع عابد؛ كشاهد وشهد‪.‬‬

‫( ‪)1/647‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء ل سيما أهل الظلم منهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬سوء أخلق اليهود وفساد عقولهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬شعور اليهود بفسقهم وبعد ضللهم جعلهم يعملون على إضلل المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير‪.‬‬ ‫‪ -5‬اليهود شر الناس مكانا يوم القيامة‪ ,‬وأضل الناس في هذه الدنيا‪.‬‬ ‫{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنّا َوقَدْ َدخَلُوا بِا ْل ُكفْرِ وَ ُهمْ قَدْ خَرَجُوا ِب ِه وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا كَانُوا َيكْ ُتمُونَ(‪)61‬‬ ‫حتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ(‪َ )62‬لوْل‬ ‫ن وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬ ‫وَتَرَى كَثِيرا مِ ْن ُهمْ يُسَارِعُونَ فِي الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬ ‫حتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ(‪})63‬‬ ‫يَ ْنهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالَحْبَارُ عَنْ َقوِْلهِمُ الِثْ َم وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َيكْ ُتمُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها‪.‬‬ ‫{فِي الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ} ‪ :‬الثم‪ :‬كل ضار وفاسد وهو ما حرمه ال تعالى من اعتقاد أو قول أو عمل‪،‬‬ ‫والعدوان‪ ،‬والعدوان‪ :‬الظلم‪.‬‬ ‫حتَ} ‪ :‬المال الحرام؛ كالرشوة والربا‪ ،‬وما يأخذونه من مال مقابل تحريف الكلم وتأويله‪.‬‬ ‫{السّ ْ‬ ‫ن وَالَحْبَارُ} ‪ :‬الربانيون هنا العباد المربون؛ كمشايخ ‪ 1‬التصوف عندنا‪ .‬والحبار‪:‬‬ ‫{الرّبّانِيّو َ‬ ‫العلماء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في فضح اليهود وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالتهم فأخبر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مشايخ الطرق –والحق يقال‪ -‬لقد ربوا كثيرًا من الجهال على اليمان والتقوى ولكن لعدم‬

‫علمهم بالكتاب والسنة ضلوا وأضلوا في المجالت كثيرة‪ ،‬وخاصة في العقيدة‪ .‬لذا ل يجوز‬ ‫إقرارهم ول التربي على أيديهم‪.‬‬

‫( ‪)1/648‬‬ ‫تعالى في الية الولى عن منافقيهم فقال‪َ { :‬وإِذَا جَاءُوكُمْ‪ }1‬يريد‪ :‬غشوكم في مجالسكم‪{ ،‬قَالُوا آمَنّا}‬ ‫وما آمنوا ولكنهم ينافقون ل غير فقد دخلوا بالكفر ‪ 2‬في قلوبهم وخرجوا به‪{ ,‬وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا كَانُوا‬ ‫َيكْ ُتمُونَ} من الكفر والكيد لكم‪ .‬هذا معنى قوله تعالى في الية الولى(‪{ )61‬وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنّا‬ ‫َوقَدْ َدخَلُوا بِا ْل ُكفْرِ وَ ُهمْ قَدْ خَرَجُوا ِب ِه وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا كَانُوا َيكْ ُتمُونَ} ‪ ،‬وأما الية الثانية(‪ )62‬فقد‬ ‫أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من المعاصي ترى كثيرا منهم ‪3‬‬ ‫يسارعون في الثم والعدوان وأكلهم السحت علنا ل يستترون به ول يخفونه ثم ذمهم ال تعالى‬ ‫ذلك وقبح فعلهم فقال‪{ :‬لَبِئْسَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} ‪ .‬وفي الية الخيرة‪ :‬أنكر على عبادهم وعلمائهم‬ ‫سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضوا بها مصانعة لهم ومداهنة ‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬لوْل يَ ْنهَاهُمُ‪4‬‬ ‫ن وَالَحْبَارُ} أي‪ :‬لم ل ينهونهم عن قولهم الثم‪ ،‬أي‪ :‬الكذب‪ ،‬وأكلهم السحت‪ .‬الرشوة‬ ‫الرّبّانِيّو َ‬ ‫والربا‪ ،‬ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله‪{ :‬لَبِئْسَ‪ 5‬مَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ} أي‪ :‬وعزتي وجللي‬ ‫لبئس صنيع هؤلء من صنيع حيث أصبح السكوت المتعمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة‬ ‫لهم أتقنوها وحذقوها‪ .‬والعياذ بال‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجود منافقين من اليهود على عهد الرسول صلى ال عليه وسلم بالمدينة‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان استهتار اليهود وعدم مبالتهم بارتكابهم الجرائم علنية‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه‪ ،‬ولذا قال كثير من السلف في هذه‬ ‫الية أشد آية وأخطرها على العلماء‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا اليات معطوفة على قوله تعالى‪{ :‬وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلةِ} السابقة‪ ،‬وخص بهذه الصفات‪:‬‬ ‫منافقوا اليهود‪ ،‬وهم من جملة‪ :‬من اتخذوا الدين هزوا ولعبا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬أنهم ما أمنوا قط‪ ،‬ولم يخالط اليمان قلوبهم طرفة عين‪ ،‬فهم دخلوا كافرين وخرجوا‬ ‫كافرين‪.‬‬ ‫‪ 3‬الرؤيا هنا‪ :‬بصرية‪ ،‬والخطاب عام لكل من يسمع ويرى‪ ،‬والمعنى‪ :‬أن حالهم ل تخفى على أحد‬ ‫ذي بصر‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن عباس رضي ال عنه‪ :‬ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الية‪َ { .‬لوْل يَ ْنهَاهُمُ‬

‫حتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ} ‪ ،‬والية وإن نزلت‬ ‫ن وَالَحْبَارُ عَنْ َقوِْلهِ ُم الِثْ َم وََأكِْلهِمُ السّ ْ‬ ‫الرّبّانِيّو َ‬ ‫في يهود المدينة‪ ،‬فقد ذكرت النصارى لن حالهم سواء‪ .‬والية تنطبق اليوم على علماء المسلمين‬ ‫حيث تركوا المر والنهي‪ ،‬والعياذ بال تعالى من عاقبة ذلك‪ .‬فقد قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن‬ ‫الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ال بعقاب من عنده" ‪ .‬الترمذي‬ ‫وصححه‪ .‬ولول هنا‪ :‬أداة تحظيظ‪ ،‬والمراد‪ :‬توبيخ علماؤهم وعابديهم على ترك المر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫‪ 5‬قال الزجاج‪ :‬اللم في قوله تعالى‪{ :‬لبئس} للقسم والتأكيد‪.‬‬

‫( ‪)1/649‬‬ ‫{ َوقَاَلتِ الْ َيهُودُ يَدُ اللّهِ َمغْلُولَةٌ غُّلتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَُلعِنُوا ِبمَا قَالُوا َبلْ َيدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُ ْنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‬ ‫طغْيَانا َوكُفْرا وَأَ ْلقَيْنَا بَيْ َنهُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ‬ ‫وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ُ‬ ‫حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ(‬ ‫س َعوْنَ فِي الَ ْرضِ فَسَادا وَاللّهُ ل يُ ِ‬ ‫طفَأَهَا اللّهُ وَيَ ْ‬ ‫ا ْلقِيَامَةِ كُّلمَا َأ ْوقَدُوا نَارا لِ ْلحَ ْربِ َأ ْ‬ ‫‪ )64‬وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ آمَنُوا وَا ّتقَوْا َل َكفّرْنَا عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِه ْم وَلَ ْدخَلْنَا ُهمْ جَنّاتِ ال ّنعِيمِ(‪ )65‬وََلوْ أَ ّنهُمْ‬ ‫حتِ أَ ْرجُِلهِمْ مِ ْنهُمْ ُأمّةٌ‬ ‫لكَلُوا مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ تَ ْ‬ ‫ل َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِمْ مِنْ رَ ّب ِه ْم َ‬ ‫َأقَامُوا ال ّتوْرَاةَ وَالِنْجِي َ‬ ‫ُمقْتَصِ َد ٌة َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ سَاءَ مَا َي ْعمَلُونَ(‪})66‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ َيدُ اللّهِ َمغْلُولَةٌ‪ : }1‬يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم‪.‬‬ ‫{غُّلتْ أَ ْيدِيهِمْ} ‪ :‬دعاء عليهم بأن يحرموا النفاق في الخير وفيما ينفعهم‪.‬‬ ‫{وَُلعِنُوا ِبمَا قَالُوا} ‪ :‬طردوا من رحمة ال بسبب وصفهم الرب تعالى بالبخل‪.‬‬ ‫{ َبلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ‪ :‬ل كما قالوا لعنهم ال‪ :‬يد ال مغلولة‪ ،‬أي‪ :‬ممسكة عن النفاق‪.‬‬ ‫طغْيَانا} ‪ :‬تجاوزا لحد العتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد‪.‬‬ ‫{ُ‬ ‫{وَأَ ْلقَيْنَا بَيْ َنهُمُ} ‪ :‬أي‪ :‬بين اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫{َأ ْوقَدُوا نَارا} ‪ :‬أي‪ :‬نار الفتنة والتحريش والغراء والعداوات للحرب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القائل‪ :‬فنحاص اليهودي عليه لعائن ال وهو يعنى‪ :‬بمغلولة‪ :‬بخيلة ل تنفق‪ ،‬وهو كاذب‪ ،‬بل‬ ‫يمين ال ملى ل يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار‪" :‬أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والرض‬ ‫فإنه لم يغض ما في يمينه" حديث الشيخين‪.‬‬

‫( ‪)1/650‬‬

‫{وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلكِتَاب}ِ ‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫حتِ أَ ْرجُِلهِمْ} ‪ :‬كناية عن بسط الرزق عليهم‪.‬‬ ‫{مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ تَ ْ‬ ‫{ُأمّةٌ مُقْ َتصِ َدةٌ} ‪ :‬معتدلة ل غالبة مفرطة‪ ،‬ول جافية مفرطة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يحبر تعالى عن كفر اليهود وجرأتهم على ال تعالى بباطل القول وسيء العمل‪ ،‬فيقول‪َ { :‬وقَاَلتِ‪1‬‬ ‫الْ َيهُودُ يَدُ اللّهِ َمغْلُولَةٌ} يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم‪ ،‬فرد ال تعالى عليهم‬ ‫بقوله‪{ :‬غُّلتْ أَيْدِيهِمْ} هو دعاء عليهم بأن ل يوفقوا للنفاق فيما ينفعهم {ولعنوا بما قالوا} ‪ .‬ولعنهم‬ ‫تعالى ولعنهم كل صالح في الرض والسماء بسبب قولهم الخبيث الفاسد‪ .‬وأكذبهم تعالى في قولهم‬ ‫{ َيدُ اللّهِ َمغْلُولَةٌ} فقال‪َ { :‬بلْ َيدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُ ْنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} كما قال عنه رسوله في الصحيح‪:‬‬ ‫"يمين ال سحاء ‪ 2‬تنفق الليل والنهار" ثم أخبر تعالى نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم ليسله‬ ‫ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود وخبثهم فقال‪{ :‬وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ} أي‪ :‬من‬ ‫اليهود {مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ} من اليات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم المخزية لهم‪{ .‬‬ ‫طغْيَانا َو ُكفْرا} أي‪ :‬إبعادا في الظلم والشر وكفرا بتكذيبك وتكذيب ما أنزل إليك وذلك دفعا للحق‬ ‫ُ‬ ‫ليبرروا باطلهم وما هم عليه من العتقاد الفاسد والعمل السيء‪ ،‬ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره‬ ‫فيهم انتقاما منهم فقال عز وجل من قائل‪{ :‬وَأَ ْلقَيْنَا بَيْ َنهُمُ ا ْل َعدَا َوةَ‪ 3‬وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ} أي‪:‬‬ ‫أن العداوة بين اليهود والنصارى ل تنتهي إلى يوم القيامة‪ ،‬ثم أخبر عن اليهود أنهم {كُّلمَا َأ ْوقَدُوا‬ ‫نَارا لِ ْلحَ ْربِ} وذلك بالتحريش بين الفراد والجماعات وحتى الشعوب والمم‪ ،‬وبالغراء‪ ،‬وقالة‬ ‫طفَأَهَا اللّه} تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه‪ ،‬وقد أذلهم ال على يد رسوله والمؤمنين‬ ‫السوء‪{ ،‬أَ ْ‬ ‫وأخزاهم وعن دار اليمان أجلهم وأخبر تعالى أنهم يسعون دائما وأبدا في الرض بالفساد‪ ،‬فلذا‬ ‫أبغضهم ال وغضب عليهم‪ ،‬لنه تعالى ل يحب المفسدين‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى(‪،)64‬‬ ‫أما الية الثانية(‪ )65‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ} من يهود ونصارى {آمَنُوا} بال‬ ‫ورسوله وبما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إنه وإن القائل‪ :‬فنحاص بن عازوراء فإن رضي اليهود بمقالته سلكهم في سلكه واعتبروا كلهم‬ ‫قائلون‪ ،‬إذ الرضى بالكفر كفر‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا اللفظ معنى للحديث ل لفظه‪ ،‬وقد تقدم قريبًا لفظه كما في الصحيحين‪.‬‬ ‫جمِيعا َوقُلُو ُبهُمْ‬ ‫حسَ ُبهُمْ َ‬ ‫‪ 3‬الكلم صالح لن يكون‪{ :‬بينهم} المراد بهم اليهود أنفسهم كقوله تعالى‪{ :‬تَ ْ‬ ‫خذُوا‬ ‫شَتّى} ‪ ،‬وأن يكون المراد بين اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم معًا في قوله تعالى‪{ :‬ل تَتّ ِ‬ ‫الْ َيهُو َد وَال ّنصَارَى َأوْلِيَاءَ} ‪ ،‬والواقع شاهد‪.‬‬

‫( ‪)1/651‬‬

‫جاء من الدين الحق وعملوا به‪{ ،‬وَا ّت َقوْا} الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش‪ ،‬لكفر ال عنهم‬ ‫سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولدخلهم جنات النعيم‪ .‬وهذا وعد ال تعالى اليهود‬ ‫والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لنجزه لهم قطعا‪ .‬وهو ل يخلف الميعاد‪.‬‬ ‫أما الية الخيرة(‪ )66‬في هذا السياق فهي تتضمن وعدا إلهيا آخر وهو أن اليهود والنصارى لو‬ ‫أقاموا التوراة والنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم‪ ،‬ومعنى أقاموا ذلك آمنوا‬ ‫بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والداب الرفيعة والخلق‬ ‫الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط ال تعالى عليهم الرزق وأسبغ عليهم النعم‬ ‫ولصبحوا في خيرات وبركات تحوطهم من كل جانب هذا ما وعدهم ال به‪ .‬ثم أخبر تعالى عن‬ ‫واقعهم المرير فقال‪{ :‬مِ ْنهُمْ ُأمّةٌ ُمقْ َتصِ َدةٌ} لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن ال ول هو‬ ‫ابن زنى‪ ،‬ولكن قالت عبد ال ورسوله‪ ،‬ولذا لما جاء النبي المي بشارة عيسى ‪ 1‬عليه السلم‬ ‫آمنوا به وصدقوا بما جاء به من الهدى والدين الحق وهم عبد ال بن سلم وبعض اليهود‪،‬‬ ‫والنجاشي من النصارى وخلق كثير ل يحصون عدا‪ .‬وكثير من أهل الكتاب ساء ‪ ،2‬أي‪ :‬قبح ما‬ ‫يعلمون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬أقبح وصف ال تعالى بما ل يليق بجلله وكماله‪.‬‬ ‫‪ -2‬ثبوت صفة اليدين ل تعالى ووجوب اليمان بها على مراد ال تعالى‪ ،‬وعلى ما يليق بجلله‬ ‫وكماله‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء ‪ 3‬وهو من تدبير ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬سعى اليهود الدائم في الفساد في الرض فقد ضربوا البشرية بالذهب المادي اللحادي‬ ‫الشيوعي‪ ،‬وضربوها أيضا بالباحة ومكائد الماسونية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بشارة عيسى بدل من النبي المي‪ ،‬وقلنا‪ :‬بشارة عيسى؛ لن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬‬ ‫أنا دعوة أبي إبراهيم‪ ،‬وبشارة عيسى عليهم السلم" ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬بئس‪ :‬شيء عملوه‪ ،‬إذ كذبوا الرسل وحرفوا الكتب وأكلوا السحت‪.‬‬ ‫‪ 3‬وإن قيل‪ :‬إن التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الية‪ ،‬قلنا‪ :‬إن اليهود احتالوا‬ ‫على النصارى فضربوهم باللحاد‪ ،‬فلما قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم‬ ‫يتحكمون فيهم‪ ،‬وبذلك فرضوا عليهم حبهم وعدم عداوتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/652‬‬

‫‪ -5‬وعد ال لهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لدخلهم الجنة‪.‬‬ ‫‪ -6‬وعده تعالى لهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والنجيل وما أنزل إليهم من‬ ‫ربهم‪ ،‬أي‪ :‬لو أنهم أخذوا بما في التوراة والنجيل من دعوتهم إلى اليمان بالنبي المي والدخول‬ ‫في السلم لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلثة قرون وزيادة‪ .‬وما زال العرض كما‬ ‫هو ‪ 1‬لكل المم والشعوب أيضا‪.‬‬ ‫صمُكَ مِنَ النّاسِ‬ ‫ك وَإِنْ لَمْ َتفْ َعلْ َفمَا بَّل ْغتَ ِرسَالَتَ ُه وَاللّهُ َي ْع ِ‬ ‫{يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّب َ‬ ‫شيْءٍ حَتّى ُتقِيمُوا ال ّتوْرَاةَ‬ ‫إِنّ اللّ َه ل َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ(‪ُ )67‬قلْ يَا َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َلسْتُمْ عَلَى َ‬ ‫طغْيَانا َو ُكفْرا فَل‬ ‫وَالِنْجِيلَ َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُمْ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ ُ‬ ‫تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ(‪ )68‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئُونَ وَال ّنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَل هُمْ يَحْزَنُونَ(‪})69‬‬ ‫ع ِملَ صَالِحا فَل َ‬ ‫وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{الرّسُولُ} ‪ :‬ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫{بَلّغْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ‪ : }2‬من التوحيد والشرائع والحكام‪.‬‬ ‫ص ُمكَ} ‪ :‬يحفظك حفظا ل يصل إليك معه أحد بسوء‪.‬‬ ‫{ َي ْع ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الوعد‪ :‬هو ما عرضه ال تعالى عليهم‪ ،‬وهو في قوله‪{ :‬وََلوْ أَ ّنهُمْ َأقَامُوا ال ّتوْرَا َة وَالِنْجِيلَ َومَا‬ ‫لكَلُوا‪ }...‬الية‪.‬‬ ‫أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِمْ مِنْ رَ ّبهِمْ َ‬ ‫‪ 2‬روى مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت‪ :‬من حدثك أن محمدًا صلى ال عليه وسلم كتم‬ ‫ك وَإِنْ لَمْ‬ ‫شيئًا من الوحي فقد كذب‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّب َ‬ ‫َت ْفعَلْ َفمَا بَّل ْغتَ رِسَالَتَهُ‪ }...‬الية‪.‬‬

‫( ‪)1/653‬‬ ‫{فَل تَأْسَ} ‪ :‬ل تأسف ول تحزن‪.‬‬ ‫{هَادُوا} ‪ :‬اليهود‪.‬‬ ‫{وَالصّابِئُونَ} ‪ :‬جمع صابئ‪ ،‬وهم فرقة من أهل الكتاب‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في الية الولى(‪ )67‬ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظما له بقوله‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ} المبجل‬ ‫ليأمره بإبلغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع والحكام فيقول‪{ :‬يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْ ِزلَ‬ ‫إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ} ‪ .‬ويقول له‪{ :‬وَإِنْ لَمْ َتفْ َعلْ} أي‪ :‬إن قصرت في شيء لم تبلغه لي اعتبار من‬ ‫العتبارات { َفمَا بَّل ْغتَ ِرسَالَتَهُ} أي‪ :‬فكأنك لم تبلغ ‪ 1‬شيئا‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وَاللّهُ َي ْعصِ ُمكَ‪ 2‬مِنَ‬

‫النّاسِ} أي‪ :‬يمنعك من أن يمسوك بشيء من الذى‪ ،‬ولذا فل عذر لك في ترك إبلغ أي شيء‬ ‫سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم‪ ،‬ولذا فلم يكتم رسول ال شيئاَ مما أمر بإبلغه البتة‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ ل َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ} تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬إذ هو تعالى ل يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من أذية رسوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬ولما نزلت هذه الية قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل تحرسوني فإن ال قد عصمني" هذا ما‬ ‫شيْءٍ‬ ‫دلت عليه الية الولى‪ ،‬أما الية الثانية(‪ )68‬وهي قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى َ‬ ‫ل َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُمْ مِنْ ‪ 3‬رَ ّبكُمْ} لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريرا له‬ ‫حَتّى ُتقِيمُوا ال ّتوْرَا َة وَالِنْجِي َ‬ ‫وتأكيدا وهو إعلم من ال تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ول من‬ ‫ولية ال تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات والصالحات‬ ‫مما جاء في التوراة والنجيل والقرآن أيضا‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ‬ ‫طغْيَانا َو ُكفْرا} هذا إخبار من ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم بأن كثيرا من اليهود‬ ‫رَ ّبكَ ُ‬ ‫والنصارى يزيدهم ما يوحي ال تعالى إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية رد على الرافضة القائلين‪ :‬بأن النبي صلى ال عليه وسلم كتم شيئًا مما أمر بإبلغه‬ ‫تقية وكذبوا ورب الكعبة قالت أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها‪ :‬لو كان في إمكان الرسول أن‬ ‫س وَتَولّى} إذ هي عتاب له صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫يكتم شيئًا لكتم‪{ :‬عَ َب َ‬ ‫‪ 2‬روى مسلم عن عائشة رضي ال عنها أنها قالت‪ :‬سهر رسول ال صلى ال عليه وسلم مقدمه‬ ‫المدينة ليلة فقال‪ " :‬ليت رجلً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت‪ :‬فبينما كذلك سمعنا‬ ‫خشخشة سلح فقال‪" :‬من هذا" قال سعد بن أبي وقاص‪ .‬فقال له‪" :‬ما جاء بك" فقال‪ :‬وقع في نفسي‬ ‫خوف على رسول ال صلى ال عليه وسلم فجئت أحرسه ‪ .‬فدعا له رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ثم انصرف ونزلت هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا‪:‬‬ ‫ألست تقر أن التوراة حق من عند ال‪ .‬قال‪" :‬بلى" فقالوا‪ :‬إنا نؤمن بها ول نؤمن بما عداها‪ .‬فنزلت‬ ‫الية‪ { :‬لستم على شيء‪ }...‬إلخ‪.‬‬

‫( ‪)1/654‬‬ ‫أهل الكتاب مما هو بيان لذنوبهم وضللهم‪ .‬ومما هو أمر لهم باليمان بالنبي المي واتباعه على‬ ‫الدين الحق الذي ارسل به يزيدهم ذلك طغيانا‪ ،‬أي‪ :‬علوا وعتوا وكفرا فوق كفرهم‪ .‬ولذا فل تأس‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ل تحزن ‪ 1‬على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لنهم قوم كافرون‪ .‬أما الية الثالثة(‪ )69‬وهي‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ‪ 2‬هَادُوا وَالصّابِئُونَ‪ 3‬وَال ّنصَارَى} فالذين آمنوا هم المسلمون‪،‬‬

‫واليهود والنصارى والصابئون وهم فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم‬ ‫اليمان الحق بال وباليوم الخر وأتى بلزم اليمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي‬ ‫أفعالً وتروكا فل خوف عليه في الدنيا ول في البرزخ ول يوم القيامة ول حزن يلحقه في‬ ‫الحيوات الثلث وعد ال حقا { َومَنْ َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثا} !‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب البلغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم بهذا الواجب على‬ ‫أكمل وجه وأتمه‪.‬‬ ‫‪ -2‬عصمة الرسول المطلقة‪.‬‬ ‫‪ -3‬كفر أهل الكتاب إل من آمن منهم بالنبي محمد صلى ال عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين‬ ‫الحق‪.‬‬ ‫‪ -4‬أهل العناد والمكابرة ل تزيدهم الدلة والبراهين إل عتوا ونفورا وطغيانا وكفرا‪.‬‬ ‫‪ -5‬العبرة باليمان والعمل الصالح وترك الشرك و المعاصي ل بالنتساب إلى دين من الديان‪.‬‬ ‫ل وَأَرْسَلْنَا ِإلَ ْيهِمْ رُسُلً كُّلمَا جَاءَ ُهمْ رَسُولٌ ِبمَا‬ ‫{َلقَدْ َأخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائي َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذا الرشاد اللهي تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم وليس بنهي عن الحزن إذ ل يقدر‬ ‫المرء على دفع الحزن وإنما يقدر على ترك مثيراته‪ ،‬فإنه متى ترك العرض لها لم يوجد في نفسه‬ ‫حزن‪.‬‬ ‫‪ 2‬في ذكر المؤمنين‪ ،‬وهم‪ :‬المسلمون‪ ،‬مع اليهود‪ ،‬والصائبين‪ ،‬والنصارى‪ ،‬إشارة أبلغ من عبارة‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬أن العبرة ليست بالنساب ول النتساب ول بزمان أو مكان‪ .‬وإنما النجاة من النار ودخول‬ ‫الجنة متوقفان على اليمان الصحيح بال واليوم الخر والعمل الصالح الذي جاء به كتاب ال‬ ‫ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في إعراب {والصابئون} على أقوال نكتفي بقول منها‪ :‬وهو أن تكون مبتدأ وخبرها‬ ‫محذوف تقديره‪ :‬والصابئون كذلك على حد قول الشاعر‪:‬‬ ‫فمن يك أمسى بالمدينة رحله ‪ ...‬فإني وقيار بها لغريب‬ ‫أي‪ :‬كذلك‪ ،‬وتقدير الكلم‪{ :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَال ّنصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‬ ‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَل ُهمْ يَحْزَنُونَ} والصابئون‬ ‫ع ِملَ صَالِحا فََلهُمْ َأجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَل َ‬ ‫وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ َ‬ ‫كذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/655‬‬

‫صمّوا ُثمّ تَابَ اللّهُ‬ ‫حسِبُوا أَل َتكُونَ فِتْنَةٌ َف َعمُوا َو َ‬ ‫سهُمْ فَرِيقا كَذّبُوا َوفَرِيقا َيقْتُلُونَ(‪ )70‬وَ َ‬ ‫ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬ ‫صمّوا كَثِيرٌ مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ(‪َ )71‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ‬ ‫عمُوا وَ َ‬ ‫عَلَ ْيهِمْ ُثمّ َ‬ ‫ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َي َم َوقَالَ ا ْل َمسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْ ُبدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ إِنّهُ مَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَدْ حَرّمَ‬ ‫علَيْهِ ا ْلجَنّ َة َومَ ْأوَاهُ النّا ُر َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ(‪})72‬‬ ‫اللّهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الميثاق ‪ :‬العهد المؤكد باليمين‪.‬‬ ‫س ُهمْ} ‪ :‬بما ل يحبونه ول تميل إليه أنفسهم المريضة‪.‬‬ ‫{ ِبمَا ل َت ْهوَى أَ ْنفُ ُ‬ ‫{فَرِيقا كَذّبُوا} ‪ :‬أي‪ :‬كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى‪.‬‬ ‫{أَل ‪َ 1‬تكُونَ فِتْنَةٌ} ‪ :‬أي‪ :‬أن ل يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن‪.‬‬ ‫{ َف َعمُوا َوصَمّوا} ‪ :‬عموا عن العبر‪ ،‬وصموا عن سماع المواعظ‪.‬‬ ‫{مَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ} ‪ :‬أي‪ :‬يشرك بال غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع ال بأي نوع من‬ ‫أنواع العبادات‪.‬‬ ‫{حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ} ‪ :‬حكم بمنعه من دخولها أبدا إل أن يتوب من الشرك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني‬ ‫إسرائيل‪ ،‬وذلك في التوراة بأن يعبدوا ال وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إن‪ :‬هي المخففة من الثقيلة‪ ،‬وحسبانهم ذلك هو الذي جعلهم يواصلون جرائمهم‪ ،‬ولم يرتدعوا‬ ‫عنها‪.‬‬

‫( ‪)1/656‬‬ ‫إليهم رسله ‪ 1‬تترا كلما جاءهم ‪ 2‬رسول بما ل يوافق أهواءهم ‪ 3‬كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم‬ ‫إليه‪ .‬أو قتلوه‪ .‬وحسبوا أن ل يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق صموا عن سماع المواعظ فابتلهم‬ ‫ربهم وسلط عليهم من سامهم سوء العذاب‪ ،‬ثم تاب ال عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت‬ ‫أحوالهم ثم عموا وصموا مرة أخرى إل قليلً منهم فسلط عليهم من سامهم ‪ 4‬سوء العذاب أيضا‪،‬‬ ‫وهاهم أولء في عمى وصمم وال بصير بما يعملون وسوف ينزل بهم بأساه إن لم يتوبوا فيؤمنوا‬ ‫بال ورسوله ويدينوا بالدين الحق الذي هو السلم‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته اليتان الولى والثانية(‪ ،)71-70‬أما الية الثالثة(‪ )72‬وهو قوله تعالى‪َ{ :‬لقَدْ َكفَرَ‪5‬‬ ‫الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ‪ 6‬ابْنُ مَرْيَمَ} فقد أخبر تعالى مقررا حكمه بالكفر على من افترى‬ ‫عليه وعلى رسوله فادعى أن ال جل جلله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى ال أن‬

‫يكون عبدا من عباده‪ ،‬وحاشا عيسى عبد ال ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت ال‪ .‬وكيف وهو‬ ‫القائل‪{ :‬يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ إِنّهُ مَنْ ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَ ْيهِ الْجَنّةَ‬ ‫َومَأْوَاهُ النّا ُر َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ} فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه ال أو ابن ال؟‬ ‫سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان تاريخ بني إسرائيل‪ ،‬والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل‪.‬‬ ‫‪ -2‬إكرام ال تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه‬ ‫وتكذيبهم‪ ،‬والمكر بهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كموسى‪ ،‬وهارون‪ ،‬ومن جاء بعدهم‪ ،‬وداود‪ ،‬وسليمان‪ ،‬وزكريا‪ ،‬ويحي‪ ،‬وعيسى عليهم السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬كلما‪ :‬نصبت على الظرفية‪ ،‬وهي لستغراق الزمان الذي أتت فيه الرسل وأشربت معنى‬ ‫الشرطية‪ ،‬فكان العامل فيها بمنزلة الجواب‪.‬‬ ‫‪{ 3‬أهوائهم} جمع‪ :‬هوى‪ ،‬وهو المحبوب‪ ،‬وفعله‪ :‬هوي يهوى؛ كرضي يرضى‪ ،‬إذا أحب ومالته‬ ‫نفسه إلى ملبسة شيء‪.‬‬ ‫‪ 4‬إشارة إلى تاريخ بني إسرائيل‪ ،‬فقد استقام أمرهم وقامت دولتهم في فلسطين على عهد يوشع بن‬ ‫نون فتى موسى‪ ،‬ثم دالت دولتهم بجرائمهم على عهد البابليين ثم اجتمعت كلمتهم وقامت دولتهم‬ ‫على عهد داود وسليمان‪ ،‬ثم دالت دولتهم بجرائمهم التي نعاها ال تعالى عليهم في هذه الية على‬ ‫يد الرومان‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذا استئناف ابتدائي لبطال باطل النصارى بعد إبطال باطل اليهود‪ ،‬فالمناسبة جد قوية لنهما‬ ‫خصم السلم والمسلمين‪.‬‬ ‫‪ 6‬هذا قول اليعقوبية‪ ،‬وهم‪ :‬فرقة من النصارى‪ ،‬لنهم قالوا‪ :‬باتحاد البن والب؛ فكأن المسيح هو‬ ‫ال في اعتقادهم الباطل الفاسد‪.‬‬

‫( ‪)1/657‬‬ ‫‪ -3‬تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو ال‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير عبودية عيسى عليه السلم لربه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬تحريم الجنة على من لقي ربه وهو يشرك به سواه‪.‬‬ ‫عمّا َيقُولُونَ لَ َيمَسّنّ‬ ‫{َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَاِلثُ ثَل َث ٍة َومَا مِنْ إِلَهٍ إِل إِلَهٌ وَاحِ ٌد وَإِنْ َلمْ يَنْ َتهُوا َ‬ ‫غفُورٌ َرحِيمٌ(‪ )74‬مَا‬ ‫الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪َ )73‬أفَل يَتُوبُونَ ِإلَى اللّ ِه وَيَسْ َت ْغفِرُونَهُ وَاللّهُ َ‬

‫طعَامَ انْظُرْ كَ ْيفَ‬ ‫صدّيقَةٌ كَانَا يَ ْأكُلنِ ال ّ‬ ‫ل وَُأمّ ُه ِ‬ ‫سُ‬ ‫ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َيمَ إِل رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِ الرّ ُ‬ ‫نُبَيّنُ َلهُ ُم الياتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ(‪ُ )75‬قلْ أَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا ل َيمِْلكُ َلكُ ْم ضَرّا وَل َنفْعا‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ(‪})76‬‬ ‫وَاللّهُ ُهوَ ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ثَاِلثُ ثَلثَةٍ‪ : }1‬الثلثة‪ :‬هي الب والبن وروح القدس‪ :‬وكلها إله واحد‪.‬‬ ‫سلُ} ‪ :‬مضت قبله رسل كثيرون‪.‬‬ ‫{خََلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّ ُ‬ ‫{وَُأمّ ُه صِدّيقَةٌ} ‪ :‬أي‪ :‬مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها‪.‬‬ ‫{أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحا‪.‬‬ ‫معنى اليات‬ ‫مازال السياق في بيان كفر النصارى‪ ،‬ففي السياق الول ورد كفر من قالوا إن ال هو المسيح بن‬ ‫مريم‪ ،‬وفي هذا السياق كفر من قالوا إن ال ثالث ثلثة‪ ،‬إذ قال تعالى في هذه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬أحد ثلثة‪ ،‬وهو قول الملكانية‪ ،‬والنصطورية‪ ،‬واليعقوبية‪ ،‬ول يقولون‪ :‬ثلثة آلهة‪،‬‬ ‫ويتمنعون من ذلك‪ ،‬وهو لزمهم‪.‬‬

‫( ‪)1/658‬‬ ‫الية(‪َ{ )73‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَاِلثُ ثَل َثةٍ} يعنون الب والبن وروح القدس‪ ،‬وبعضهم‬ ‫يقول الب والبن والم‪ ،‬والثلثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا‪ ،‬فقال ردا باطلهم‪َ { ،‬ومَا‬ ‫حدٌ} أي‪ :‬وليس المر كما يكذبون‪ ،‬وإنما ال إله واحد‪ ،‬وأما جبريل فأحد ملئكته‪،‬‬ ‫مِنْ إِلَهٍ إِل إَِل ٌه وَا ِ‬ ‫وعيسى عبده ورسوله‪ ،‬ومريم أمته‪ ،‬فالكل عبد ال وحده الذي ل إله غيره ول رب سواه‪ .‬ثم قال‬ ‫عذَابٌ‬ ‫عمّا َيقُولُونَ لَ َيمَسّنّ الّذِينَ َكفَرُوا ‪ 1‬مِ ْنهُمْ َ‬ ‫تعالى متوعدا هؤلء الكفرة الكذبة‪ { :‬وَإِنْ لَمْ يَنْ َتهُوا َ‬ ‫أَلِيمٌ} ‪ ،‬فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية‬ ‫اليجاع‪ .‬ثم لكمال رحمته عز وجل دعاهم في الية الثانية(‪ )74‬إلى التوبة ليتوب عليهم ويغفر لهم‬ ‫وهو الغفور الرحيم‪ ،‬فقال عز وجل‪َ{ :‬أفَل يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ} بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون‬ ‫ال منه‪ ،‬وال غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين‪ ،‬وفي الية الثالثة(‪ )75‬أخبر تعالى معلما رسوله‬ ‫الحتجاج على باطل النصارى‪ ،‬فقال‪{ :‬مَا ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِل رَسُولٌ‪ }2‬فلم يكن ربا ول إلها‬ ‫وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضا إلها كما‬ ‫يزعمون‪ ،‬وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة ‪ 3‬كثيرة الصدق في حياتها ل تعرف‬ ‫الكذب ول الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلم بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما‬ ‫يأكلن الطعام ‪ 4‬احتياجا إليه لن بنيتهما ل تقوم إل عليه فهل أكل الطعام افتقارا إليه‪ ،‬ثم يفرز‬

‫فضلته‪ ،‬يصلح أن يكون إلها‪ .‬اللهم ل‪ .‬وهنا قال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬انظر يا رسولنا‬ ‫كيف نبين لهم اليات الدالة بوضوح على بطلن كفرهم‪ ،‬ثم انظر كيف يؤفكون ‪ 5‬عن الحق‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫كيف يصرفون عنه وهو واضح بين‪ .‬وفي الية الخيرة(‪ )76‬أمر رسوله أن يقول لولئك‬ ‫المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلئله ل ينظرون فيها أمره أن يقول لهم موبخا لهم‪:‬‬ ‫{أَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية نص في أن من يقول بقول النصارى كافر مستوجب للعذاب الليم‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه قصر موصوف على صفة أي‪ ،‬قصر عيسى على الرسالة ل يتجاوزها إلى اللوهية‪ ،‬ولذا‬ ‫فهو قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في أنه ال‪.‬‬ ‫‪ 3‬صديقة‪ :‬كثيرة الصدق في قولها وعملها‪ ،‬وفي تصديقها بآيات ربها‪ ،‬وفي تصديقها لبنها‪ ،‬وقد‬ ‫ناداها ساعة ولدته وفي رضاعه‪ ،‬وهل هي مع الصديقية نبية؟ في نداء الملئكة لها ما يرجح‬ ‫نبوتها‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬إن من يأكل الطعام وولدته امرأة كيف ل يكون مخلوقًا مربوبًا محدثًا كسائر المخلوقين لم‬ ‫يستطع دفع هذا نصراني مهما أوتى من العلم إلى أنهم يهربون من مواجهة الحق فيقولون تضليلً‬ ‫لعقولهم وخداعًا لنفوسهم إنه يأكل الطعام بناسوته ل بلهوته‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن النسان اختلط بالله‪،‬‬ ‫وهذه هي الحلولية الباطلة الفاسدة عقلً وشرعا وواقعا‪.‬‬ ‫‪ 5‬يقال‪ :‬أفكه يأفكه أفكًا‪ ،‬إذا صرفه صرفًا‪ ،‬وهو من باب ضرب‪.‬‬

‫( ‪)1/659‬‬ ‫اللّهِ مَا ل َيمِْلكُ َلكُمْ ضَرّا وَل َنفْعا} وهو عيسى وأمه‪ ،‬وتتركون عبادة من يملك ذلك‪ ،‬وهو ال‬ ‫السميع العليم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد‪.‬‬ ‫‪ -2‬إبراء عيسى ووالدته عليهما السلم من دعوى اللوهية للناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلم بدليل احتياجهما إلى الطعام بنيتهما‪ ،‬ومن كان‬ ‫مفتقرا ل تصح ألوهيته عقلً وشرعا‪.‬‬ ‫‪ -5‬ذم كل من يعبد غير ال إذ كل الخلئق مفتقرة ل تملك لنفسها ول لعابدها ضرا ول نفعا‪ ،‬ل‬ ‫تسمع دعاء من يدعوها‪ ،‬ول تعلم عن حاله شيئا‪ ،‬وال وحده السميع لقوال كل عباده العليم بسائر‬

‫أحوالهم وأعمالهم‪ ،‬فهو المعبود بحق وما عداه باطل‪.‬‬ ‫{ ُقلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ل َتغْلُوا فِي دِي ِنكُمْ غَيْرَ ا ْلحَقّ وَل تَتّ ِبعُوا أَ ْهوَاءَ َقوْمٍ قَ ْد ضَلّوا مِنْ قَ ْبلُ وََأضَلّوا‬ ‫علَى ِلسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى‬ ‫سوَاءِ السّبِيلِ(‪ُ )77‬لعِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ بَنِي ِإسْرائيلَ َ‬ ‫كَثِيرا َوضَلّوا عَنْ َ‬ ‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ(‪ )78‬كَانُوا ل يَتَنَا َهوْنَ عَنْ مُ ْنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا‬ ‫ع َ‬ ‫ابْنِ مَرْيَمَ ذَِلكَ ِبمَا َ‬ ‫علَ ْيهِمْ‬ ‫خطَ اللّهُ َ‬ ‫سهُمْ أَنْ سَ ِ‬ ‫َي ْفعَلُونَ(‪ )79‬تَرَى كَثِيرا مِ ْنهُمْ يَ َتوَّلوْنَ الّذِينَ َكفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَ ّد َمتْ َلهُمْ أَ ْنفُ ُ‬ ‫َوفِي ا ْلعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(‪)80‬‬

‫( ‪)1/660‬‬ ‫سقُونَ(‪})81‬‬ ‫خذُوهُمْ َأوْلِيَا َء وََلكِنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ فَا ِ‬ ‫ي َومَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مَا اتّ َ‬ ‫وََلوْ كَانُوا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالنّ ِب ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫{ل َتغْلُوا فِي دِي ِنكُمْ‪ : }1‬الغلو‪ :‬الفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه‪ ،‬فمثلً أمرنا بغسل اليدين في‬ ‫الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو‪ ،‬أمرنا بتعظيم الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫فدعاؤه غلو في الدين‪.‬‬ ‫{أَ ْهوَاءَ َقوْمٍ قَ ْد ضَلّوا} ‪ :‬جمع هوى‪ ،‬وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه ل بما‬ ‫قامت به الحجة وأقره الدليل من دين ال تعالى‪.‬‬ ‫{وََأضَلّوا كَثِيرا} ‪ :‬أي‪ :‬أضلوا عددا كثيرا من الناس بأهوائهم وأباطيلهم‪.‬‬ ‫سوَاءِ السّبِيلِ‪ : }2‬سواء السبيل‪ :‬وسط الطريق العدل ل ميل فيه إلى يمين ول إلى يسار‪.‬‬ ‫{عَنْ َ‬ ‫{ُلعِنَ} ‪ :‬دعى عليهم باللعنة التي هي البعاد من الخير والرحمة وموجباتها‪.‬‬ ‫صوْا َوكَانُوا َيعْتَدُونَ} ‪ :‬أي‪ :‬بسبب عصيانهم لرسلهم‪ ،‬واعتدائهم في دينهم‪.‬‬ ‫ع َ‬ ‫{ ِبمَا َ‬ ‫{ل يَتَنَا َهوْنَ} ‪ :‬أي‪ :‬ل نهي بعضهم بعضا عن ترك المنكر‪.‬‬ ‫{لَبِئْسَ‪ 3‬مَا كَانُوا َيفْعَلُونَ} ‪ :‬قبح عملهم من عمل وهو تركهم المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫{يَ َتوَّلوْنَ الّذِينَ َكفَرُوا} ‪ :‬يوادونهم ويتعاونون معهم دن المؤمنين‪.‬‬ ‫{وََلوْ كَانُوا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالنّ ِبيّ} ‪ :‬أي‪ :‬لو كانوا صادقين في إيمانهم بال والنبي محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهودا ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ُ { :‬قلْ} يا رسولنا‪{ :‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ} ‪ ،‬والمراد بهم هنا النصاري‪{ :‬ل َتغْلُوا فِي دِي ِن ُكمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الغلو‪ :‬مصدر غل يغلو غلوًا في المر‪ ،‬إذا جاوز حده المعروف‪.‬‬ ‫‪ 2‬سواء السبيل هنا المراد به‪ :‬السلم؛ لنهم ضلوا في دينهم قبل مجيء السلم ثم ضلوا عن‬

‫السلم بعد مجيئه‪.‬‬ ‫‪ 3‬اللم‪ :‬لم القسم‪ ،‬جيئ بها لتدل عليه‪ ،‬وتؤكد الذم بصورة فظيعة‪.‬‬

‫( ‪)1/661‬‬ ‫غَيْرَ ا ْلحَقّ} ‪ ،‬أي‪ :‬ل تتشددوا في غير ما هو حق شرعه ال تعالى لكم‪ ،‬فتبتدعون البدع وتتغالوا‬ ‫ل وعملً ل في‬ ‫في التمسك بها والدفاع عنها‪ ،‬التشدد محمود في الحق الذي أمر ال به اعتقادا وقو ً‬ ‫المحدثات الباطلة‪ ،‬ول تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم اليهود‪ ،‬إذ قالوا في عيسى وأمه‬ ‫بأهوائهم فقالوا في عيسى ساحر‪ ،‬وقالوا في أمه بغي وأضلوا كثيرا من الناس بأهوائهم المتولدة‬ ‫عن شهواتهم‪ ،‬وضلوا‪ ،‬أي‪ :‬وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم‬ ‫وأعمالهم وأقوالهم‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى (‪ ،)77‬أما اليات بعد فقد أخبر تعالى في الية‬ ‫الثانية أن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور‪ ،‬وعلى لسان‬ ‫عيسى بن مريم في النجيل وعلى لسان محمد صلى ال عليه و سلم في القرآن فقال تعالى‪ُ{ :‬لعِنَ‬ ‫علَى ِلسَانِ دَاوُدَ} ‪ .‬فقد مسخ منهم طائفة قردة‪{ ،‬وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}‬ ‫الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ‪ 1‬بَنِي ِإسْرائيلَ َ‬ ‫حيث مسخ منهم خنازير كما لعنوا على لسان محمد صلى ال عليه وسلم في غير آية من القرآن‬ ‫الكريم‪ ،‬وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والخرة سببه ما‬ ‫صوْا َوكَانُوا َيعْ َتدُونَ} ‪ .‬أي‪ :‬بسبب عصيانهم ل تعالى ورسله بترك‬ ‫ع َ‬ ‫ذكر تعالى بقوله‪{ :‬ذَِلكَ ِبمَا َ‬ ‫الواجبات وفعل المحرمات‪ ،‬واعتدائهم في الدين بالغلو والبتداع‪ ،‬وبقتل النبياء والصالحين منهم‪:‬‬ ‫وأخبر تعالى في الية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال‪{ :‬كَانُوا ل‬ ‫يَتَنَا َهوْنَ عَنْ مُ ْنكَرٍ‪َ 2‬فعَلُوهُ} ‪ .‬أي‪ :‬كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ول ينهى‬ ‫بعضهم بعضا كما أخبر النبي صلى ال عليه وسلم في قوله‪" :‬إن أول ما دخل النقص على بني‬ ‫إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول‪ :‬يا هذا اتق ال ودع ما تصنع فإنه ل يحل ثم يلقاه من‬ ‫الغد وهو على حاله فل يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده" ‪ .‬فلما فعلوا ذلك ضرب ال‬ ‫على قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬لعن الذين كفروا –إلى قوله‪ -‬فاسقون" ‪.‬‬ ‫ثم قال‪" :‬كل وال لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على ليد الظالم ولتأطرنه‬ ‫(تعطفنه) على الحق أطرأ ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن ال قلوب بعضكم ببعض ثم‬ ‫يلعنكم كما لعنهم ‪ "3‬وفي آخر الية قبح ال تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل على جواز لعن الكافر‪ ،‬وإن كان من أولد النبياء‪ ،‬وإن شرف النسب ل يمنع‬ ‫إطلق اللعنة في حقه‪" :‬قرطبي"‪.‬‬ ‫‪ 2‬نقل القرطبي عن ابن عطية رحمهما ال تعالى‪ :‬أن الجماع منعقد على أن النهي عن المنكر‬

‫فرض لمن أطاقه وآمن الضرر على نفسه‪ ،‬وعلى غيره من المسلمين‪ ،‬فإن خاف فينكر بقلبه‪،‬‬ ‫ويهجر صاحب المنكر ول يخالطه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخرجه أبو داود عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)1/662‬‬ ‫عملهم فقال‪{ :‬لَبِئْسَ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ} ثم قال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪{ :‬تَرَى كَثِيرا مِ ْنهُمْ} ‪،‬‬ ‫أي‪ :‬اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة‬ ‫يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالتهم في دينهم وكتابهم‪ ،‬ثم‬ ‫سهُمْ} نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر‬ ‫قبح تعالى عملهم فقال‪{ :‬لَبِ ْئسَ مَا قَ ّد َمتْ َلهُمْ أَ ْنفُ ُ‬ ‫والفساد‪ ،‬وهو سخط ال تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مال نهاية له فقال تعالى‪:‬‬ ‫سخِطَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ َوفِي ا ْلعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} ل يخرجون منه أبدا‪.‬‬ ‫سهُمْ أَنْ‪َ 1‬‬ ‫{لَبِئْسَ مَا قَ ّد َمتْ َلهُمْ أَ ْنفُ ُ‬ ‫ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال‪{ :‬وََلوْ كَانُوا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ} كما يجب‬ ‫اليمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن واليات‬ ‫البينات ما اتخذوا الكفار المشركين والمنافقين أولياء‪ ،‬ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إل قليلً منهم‪،‬‬ ‫والفاسق عن أمر ال الخارج عن طاعته ل يقف في الفساد عند حد أبدا‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى‪:‬‬ ‫سقُونَ‪.}3‬‬ ‫ي َومَا أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُو ُهمْ‪َ 2‬أوْلِيَا َء وََلكِنّ كَثِيرا مِ ْنهُمْ فَا ِ‬ ‫{وََلوْ كَانُوا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالنّ ِب ّ‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الغلو والبتداع في الدين‪ ،‬واتباع أهل الهواء‪.‬‬ ‫‪ -2‬العصيان والعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة موالة أهل الكفر والشر والفساد‪.‬‬ ‫‪ -5‬موالة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلمته في صاحبه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أن‪ :‬في موضع رفع على البتداء‪ ،‬والتقدير‪ :‬لبئس ما قدمت لهم أنفسهم‪ ،‬وهو سخط ال عليهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية دليل واضح على أن من اتخذ الكافر وليًا ل يكون مؤمنًا‪ ،‬إذ يجره ذلك الولء إلى قول‬ ‫ما يقول‪ ،‬وفعل ما يفعل‪ ،‬وحتى اعتقاد ما يعتقد‪ ،‬وبذلك يكفر مثله‪ .‬وشاهده من الحديث‪" :‬من تشبه‬ ‫بقوم فهو منهم" ‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬كافرون‪ ،‬إذ فسقوا عند دين ال وخرجوا عنه باليهودية الباطلة‪ ،‬وخرجوا عن السلم‬ ‫بالنفاق‪ .‬فهم كفرة منافقون يهود ملعونون‪.‬‬

‫( ‪)1/663‬‬ ‫المجلد الثاني‬ ‫تابع سورة المائدة‬ ‫‪...‬‬ ‫الجُزء السابع‬ ‫شدّ النّاسِ عَدَا َوةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْ َيهُو َد وَالّذِينَ َأشْ َركُواْ وَلَتَجِدَنّ َأقْرَ َب ُهمْ ّموَ ّدةً لّلّذِينَ آمَنُواْ‬ ‫جدَنّ أَ َ‬ ‫* لَتَ ِ‬ ‫س ِمعُواْ مَا‬ ‫ن وَرُهْبَانًا وَأَ ّنهُ ْم لَ يَسْ َتكْبِرُونَ (‪ )82‬وَإِذَا َ‬ ‫الّذِينَ قَاُلوَاْ إِنّا َنصَارَى ذَِلكَ بِأَنّ مِ ْنهُمْ ِقسّيسِي َ‬ ‫أُن ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ ا ْلحَقّ َيقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ‬ ‫طمَعُ أَن ُيدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ ا ْل َقوْمِ‬ ‫ق وَنَ ْ‬ ‫حّ‬ ‫الشّا ِهدِينَ (‪َ )83‬ومَا لَنَا لَ ُن ْؤمِنُ بِالّل ِه َومَا جَاءنَا مِنَ الْ َ‬ ‫الصّالِحِينَ (‪ )84‬فَأَثَا َبهُمُ اللّهُ ِبمَا قَالُواْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ َذِلكَ جَزَاء‬ ‫جحِيمِ(‪)86‬‬ ‫صحَابُ الْ َ‬ ‫حسِنِينَ (‪ )85‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ َوكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا ُأوْلَ ِئكَ َأ ْ‬ ‫ا ْلمُ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عداوة ‪ : 1‬العداوة‪ :‬بغض نفسي تجعل صاحبها بعيدا ممن يعاديه فل يصله بخير‪ ،‬ول يقربه‬ ‫بمودة‪ ،‬وقد تحمله على إرادة الشر بالعدو‪.‬‬ ‫مودة‪ :‬المودة‪ :‬حب نفسي يجعل صاحبه يتقرب إلى من يوده بالخير ودفع الشر‪.‬‬ ‫قسيسين ‪ :‬جمع قسيس‪ :‬وهو الرئيس الديني لعلمه عند النصارى‪.‬‬ ‫ورهبانا‪ :‬الرهبان‪ :‬جمع راهب‪ :‬مشتق من الرهبة وهو الرجل في النصارى يتبتل وينقطع للعبادة‬ ‫في دير أو صومعة‪.‬‬ ‫ما أنزل إلى الرسول ‪ :‬الرسول محمد صلى ال عليه وسلم ومما أنزل إليه آيات القرآن الكريم‬ ‫الدالة على تشريف عيسى ووالدته مريم عليهما السلم‪ ،‬وأن عيسى عبدال‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬عداوة} منصوب على التمييز مبيّنا لنسبة أشد وكذا مودّة‪.‬‬

‫( ‪)2/4‬‬ ‫الشاهدين ‪ :‬جمع شاهد‪ :‬من شهد ل بالوحدانية وللنبي محمد بالرسالة واستقام على ذلك‪.‬‬ ‫الصالحين ‪ :‬جمع صالح‪ :‬وهو من أدّى حقوق ال تعالى كاملة من اليمان به وشكره على نعمه‬ ‫بطاعته‪ ،‬وأدّى حقوق الناس كاملة من الحسان إليهم‪ ،‬وكف الذى عنهم‪.‬‬ ‫فأثابهم ال بما قالوا ‪ :‬جزاهم بما قالوا من اليمان و ُوفّقوا له من العمل جنات تجري من تحتها‬

‫النهار‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم بعداوة كل من اليهود والمشركين للمؤمنين وأنهم‬ ‫أشد عداوة من غيرهم‪ ،‬فيقول {لتجدن ‪ 1‬أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} أما‬ ‫اليهود فلما توارثوه خَلفا عن سلف من إنكار الحق‪ .‬والوقوف في وجه دعاته‪ ،‬إضافة إلى أن أملهم‬ ‫في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة السلمية وأما المشركون فلجهلهم وإسرافهم في‬ ‫المحرمات وما ألفوه لطول العهد من الخرافات والشرك والضللت‪ .‬كما أخبر تعالى أن‬ ‫النصارى هم أقرب مودة للذين آمنوا فقال‪{ :‬ولتجدن أقربهم ‪ 2‬مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا‬ ‫نصارى} وعلل تعالى لهذا القرب من المودة بقوله‪{ :‬ذلك ‪ }...‬أي كان ذلك بسبب أن منهم‬ ‫قسّيسين ‪ 3‬ورهبانا فالقسيسون علماء بالكتاب رؤساء دينّيون غالبا ما يؤثرون العدل والرحمة‬ ‫والخير على الظلم والقسوة والشر والرهبان لنقطاعهم عن الدنيا وعدم رغبتهم فيها ويدل عليه‬ ‫قوله‪{ :‬وأنهم ل يستكبرون} عن الحق وقبوله والقول به ولذا لما عمت المادية المجتمعات‬ ‫النصرانّية‪ ،‬وانتشر فيها اللحاد والباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت‪ .‬أما‬ ‫توله تعالى‪{ :‬وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اللم في {لتجدن} لم القسم‪ .‬وهذه اليات الربع كالفذلكة لما سبق من اليات في أهل الكتاب‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية نزلت في النجاشي وأصحابه إذ هاجر إليه المؤمنون الهجرة الولى والثانية هروبا من‬ ‫اضطهاد المشركين وأذاهم‪ ،‬ولما بعثت قريش عمرو بن العاص وعبدال بن ربيعة بهدايا تطالب‬ ‫برد المهاجرين إليها دعا النجاشي الرهبان والقسس وأسمعهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم‬ ‫فبكوا حتى فاضت أعينهم من الدمع فنزلت هذه الية‪.‬‬ ‫س ويجمع على قساوسة‪ ،‬والرهبان جمع راهب كراكب وركبان وفعله رهب يرهب رهبا‬ ‫‪ 3‬جمع ق ّ‬ ‫ورهبا ورهبة إذا خاف والرهبانية والترهب التعبّد في صومعة أو دير‪.‬‬

‫( ‪)2/5‬‬ ‫تفيض ‪ 1‬من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} فالمعنيّ بها من‬ ‫أسلم من النصارى بمجرد أن تُلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى‬ ‫قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين} أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من‬ ‫الحق وسألوا ال تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة‪ ،‬والشاهدون هم الذين‬ ‫شهدوا ل تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة‪ ،‬وأطاعوا ال ورسوله من هذه المة وقولهم‪( :‬ومالنا ل‬ ‫نؤمن بال وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا ‪ 2‬مع القوم الصالحين} فإن معناه‪ :‬أي شيء‬

‫يمنعنا من اليمان بال ربا وإلها واحدا ل شريك له ول ولد ول والد‪ .‬وبما جاء من الحق في‬ ‫توحيده تعالى ونبّوة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن الطمع في أن يدخلنا ربنا الجنة مع‬ ‫الصالحين من هذه المة‪ .‬ولما قالوا هذا أخبرهم تعالى أنه أثابهم به {جنات ‪ 3‬تجري من تحتها‬ ‫النهار خالدين فيها}‪ ،‬وأخبر تعالى أن ذلك الجزاء الذي جزاهم به هو {جزاء المحسنين} وهم‬ ‫الذين أحسنوا القول والعمل مع سلمة عقائدهم‪ ،‬وطهارة أرواحهم حيث لم يتلوثوا بالشرك‬ ‫والمعاصي ثم أخبر تعالى بأن الذين كفروا ‪ 4‬بال إلها واحدا وبرسوله نبيا ورسولً‪ ،‬وكذبوا بآياته‬ ‫القرآنية أولئك البعداء هم أصحاب ‪ 5‬الجحيم الذين ل يفارقونها أبدا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم عداوة اليهود والمشركين للسلم والمسلمين‪.‬‬ ‫‪ -2‬قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة التواضع‪ ،‬وقبح الكبر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تفيض أعينهم من الدمع أي بالدمع‪ :‬وحروف الجرّ تتناوب قال امرؤ القيس‪:‬‬ ‫ل دمعي مِحملي‬ ‫ففاضت دموع العين مني صبابة ‪ ...‬على النحر حتى َب ّ‬ ‫أي غلف السيف‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الكلم إضمار أي‪ :‬ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة مع القوم الصالحين‪ ،‬وهم امّة محمد صلى‬ ‫ال عليه وسلم الصادقين الصالحين‪.‬‬ ‫‪ 3‬دل هذا الجزاء الحسن على إخلص إيمانهم وصدق مقالهم إذ به أجاب ال سؤالهم وحقق‬ ‫طمعهم ورجاءهم وهكذا كل من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة‪.‬‬ ‫‪ 4‬في هذا احتراس إذ ما كل النصارى آمنوا لما سمعوا القرآن وبكوا وسألوا ال في صدقٍ وآمنوا‬ ‫وعملوا الصالحات فأثابهم ال الجنة‪ ،‬ل بل منهم الذين كفروا وكذبوا وهم الكثرون فجزاؤهم‬ ‫الجحيم يلزمونها أبدا لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬يقال‪ :‬نار جحمة على وزن نجمة أي‪ :‬شديدة اللهب قال شاعر الحماسة الطائي‪:‬‬ ‫نحن حبسنا بني جديلة في ‪...‬‬ ‫نار من الحرب جحمةِ الضرَم‬

‫( ‪)2/6‬‬ ‫‪ -4‬فضل هذه المة وكرامتها على المم قبلها‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضل الكتابي إذا أسلم‪ .‬وحسن إسلمه‪.‬‬

‫‪ -6‬بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم‪.‬‬ ‫‪ -7‬استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد‪.‬‬ ‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ(‪)87‬‬ ‫حلّ اللّهُ َل ُك ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تُحَ ّرمُواْ طَيّبَاتِ مَا َأ َ‬ ‫للً طَيّبًا وَا ّتقُواْ الّلهَ الّ ِذيَ أَنتُم بِهِ ُمؤْمِنُونَ(‪ )88‬لَ ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي‬ ‫َوكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَ َ‬ ‫ط ِعمُونَ‬ ‫سطِ مَا ُت ْ‬ ‫طعَامُ عَشَ َرةِ مَسَاكِينَ مِنْ َأوْ َ‬ ‫عقّدتّ ُم الَ ْيمَانَ َف َكفّارَتُهُ إِ ْ‬ ‫أَ ْيمَا ِنكُ ْم وََلكِن ُيؤَاخِ ُذكُم ِبمَا َ‬ ‫سوَ ُتهُمْ َأوْ تَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ َفمَن لّمْ َيجِدْ َفصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيّامٍ ذَِلكَ َكفّا َرةُ أَ ْيمَا ِنكُمْ إِذَا حََلفْتُمْ‬ ‫أَهْلِيكُمْ َأوْ ِك ْ‬ ‫شكُرُونَ(‪)89‬‬ ‫حفَظُواْ أَ ْيمَا َنكُمْ كَ َذِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َت ْ‬ ‫وَا ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل تحرموا ‪ :‬التحريم‪ :‬المنع أي ل تمتنعوا‪.‬‬ ‫مما أحل ال لكم‪ :‬أي ما أباحه لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب‪.‬‬ ‫حللً طيبا‪ :‬مباحا غير مستقذر ول مستخبث‪.‬‬ ‫ل يؤاخذكم ال باللغو‪ :‬ل يعاقبكم ال باللغو الذي هو ما كان بغير قصد اليمين‪.‬‬ ‫عقدتم اليمان ‪ :‬عزمتم عليها بقلوبكم بأن تفعلوا أو ل تفعلوا‪.‬‬ ‫من أوسط ‪ :‬أغلبه ول هو من أعله‪ ،‬ول هو من أدناه‪.‬‬ ‫أهليكم‪ :‬من زوجة وولد‪.‬‬

‫( ‪)2/7‬‬ ‫تحرير رقبة‪ :‬عتقها من الرق القائم بها‪.‬‬ ‫يبين ال لكم آياته ‪ :‬المتضمنة لحكام دينه من واجب وحلل وحرام‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫اليتان الولى (‪ )87‬والثانية (‪ )88‬نزلتا في بعض ‪ 1‬الصحابة منهم عبدال بن مسعود وعثمان بن‬ ‫مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول ال صلى ال عليه وسلم فزهدوا‬ ‫في الدنيا ورغبوا في الخرة‪ .‬وعزموا على التبتل والنقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة‬ ‫رضي ال عنها وسألوها عن صلة رسول ال صلى ال عليه وسلم وقيامه فكأنهم تقالّوا ذلك فقال‬ ‫أحدهم‪ :‬أنا ل آتي النساء‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أنا أصوم ل أفطر الدهر كله وقال آخر‪ :‬أنا أقوم فل أنام‪،‬‬ ‫فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فخطب الناس‪ ،‬وقال‪" :‬ما بال أقوام يقولون كذا وكذا‬ ‫وإني وأنا رسول ال لكل اللحم‪ ،‬وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن‬ ‫سنتي فليس مني" ونزلت هذه الية‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تحرموا طيبات ‪ 2‬ما أحل ال لكم} من‬ ‫طعام وشراب ونساء‪{ ،‬ول تعتدوا} بمجاوزة ‪ 3‬ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن ال تعالى ربكم‬ ‫{ل يحب المعتدين} {وكلوا مما رزقكم ال حللً طيبا} أما الحرام فل يكون رزقا لكم‪{ ،‬واتقوا ال}‬

‫أي خافوه بترك الغلوّ والتنطع المفضى بكم إلى الترهب ول رهبانية في السلم‪{ .‬الذي أنتم به‬ ‫مؤمنون} أي ربا يشرع فيحلل ويحرم‪ ،‬وإلها يطاع ويعبد‪ ،‬هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية‬ ‫أما الية الثالثة وهي قوله تعالى‪{ :‬ل يؤاخذكم ال باللغو في أيمانكم} فقد نزلت لما قال أولئك‬ ‫الرهط من أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا‬ ‫نصنع بأيماننا" فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه‬ ‫فقال‪{ :‬ل يؤاخذكم ال باللغو في أيمانكم} وهو ما ل قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على‬ ‫اللسان فقط نحو‪ :‬ل وال أو بلى وال‪ ،‬ومثله أن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج البخاري عن أنس قال‪ :‬جاء ثلثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫يسألون عن عبادته فلمّا أخبروا كأنّما تقالّوها فقالوا‪ :‬وأين نحن من النبي صلى ال عليه وسلم قد‬ ‫غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر‪ ،‬فقال أحدهم أمّا أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أمّا أنا‬ ‫فأصوم الدهر ول أفطر وقال آخر أمّا أنا فأعتزل النساء ول أتزوج أبدا فجاء رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم فقال‪" :‬أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما واللّه إنّي لخشاكم للّه واتقاكم له لكني أصوم وأفطر‬ ‫وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"‪.‬‬ ‫‪ 2‬قالت العلماء هذه الية وما شابهها والحاديث الواردة في معناها تردّ على غلة المترهبين‬ ‫وأهل البطالة من المتصوفين‪ ،‬وقال الطبري ل يجوز لمسلم تحريم شيء مما أحل ال لعباده‬ ‫المؤمنين على نفسه من الطيبات‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذا حرّم العبد على نفسه شيئا ل يحرم عليه إلّ امرأته فإنّها تحرم عليه بالطلق‪.‬‬

‫( ‪)2/8‬‬ ‫يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلف ما ظن‪{ ،‬ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمان} أي‬ ‫قصدتموها عازمين ‪ 1‬عليها‪ ،‬فمن حنث بعد الحلف فالواجب في حقه خروجا من الثم كفّارة وهي‬ ‫{إطعام عشرة مساكين} لكل مسكين نصف صاع أي مدّان ‪ 2‬من أعدل {ما تطعمون أهليكم} ما هو‬ ‫بالجود الغالي‪ ،‬ول بالردأ الرخيص‪{ ،‬أو كسوتهم} كقميص وعمامة‪ ،‬أو إزار ورداء‪{ ،‬أو تحرير‬ ‫رقبة} أي عتق رقبة مؤمنة ذكرا كان أو أنثى صغيرة أو كبيرة فهذه الثلثة المؤمن مخيّر في‬ ‫التكفير بأيها شاء‪ ،‬فإن لم يجد فصيام ثلثة أيام مفرقة أو متتابعة كما شاء هذا معنى قوله تعالى‬ ‫{فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام}‪ ،‬وقوله {ذلك كفارة أيمانكم} أي هذا الذي بين لكم هو ما تكفّرون به‬ ‫ما علق بنفوسكم من إثم الحنث‪ .‬وقوله {واحفظوا أيمانكم ‪ }3‬أي ل تكثروا الحلف فتحنثوا فتأثموا‬ ‫فتجب عليكم الكفارة لذلك‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬كذلك يبين ال لكم آياته لعلكم تشكرون} معناه مثل هذا‬ ‫التبيين الذي بينه لكم في مسألة الحنث في اليمين والكفارة له يبين لكم آياته المتضمنة لشرائعه‬

‫وأعلم دينه ليعدكم بذلك لشكره بطاعته بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه‪ ،‬فله الحمد‬ ‫والمنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة تحريم ما أباح ال‪ ،‬كحرمة تحليل ما حرم ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان مدى حرص الصحابة على طاعة ال خوفا من عقابه وطمعا في إنعامه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان كفارة اليمين بالتفصيل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا إذا لم يستثن بأن يقول إلّ أن يشاء ال أمّا من استثنى فل كفارة عليه إذ ل إثم مع الستثناء‬ ‫ولبد للستثناء من النطق يقول‪ :‬إلّ أن يشاء ال ول يتم إلّ بتحريك لسانه وشفتيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬وفي الية وجه آخر ذكره القرطبي وهو أن يبادر إلى إخراج الكفارة إذا حنث وهذا حفظها من‬ ‫النسيان ظاهر‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال العلماء‪ :‬اليمان أربعة‪ :‬يمينان يكفر فيهما إذا حنث ويمينان ل كفارة فيهما فالوّلن أن‬ ‫يقول‪ :‬وال لفعلن كذا ثم يحنث والثاني أن يقول‪ :‬وال ل أفعل كذا ويحنث‪ ،‬واللّذان ل كفارة‬ ‫فيهما‪ :‬الولى‪ :‬لغو اليمين وهو أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر خلفه‪ ،‬والثانية‪ :‬أن يجري‬ ‫على لسانه الحلف وهو غير قاصد نحو‪ :‬ل وال‪ ،‬بلى وال‪ ،‬والخامسة‪ :‬اليمين الغموس‪ ،‬وهو أن‬ ‫يحلف متعمّدا الكذب وكفّارتها التوبة ل غير وان كفّر مع التوبة فحسن‪.‬‬

‫( ‪)2/9‬‬ ‫‪-5‬كراهة الكثار من الحلف‪ .‬وحرمة الحلف ‪ 1‬بغير ال تعالى مطلقا‪.‬‬ ‫‪ -6‬استحباب حنث من ‪ 2‬حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه‪ ،‬وتكفيره على ذلك أما إذا حلف‬ ‫أن يترك واجبا أو يأتي محرما فإن حنثه واجب وعيه الكفارة‪.‬‬ ‫‪ -7‬اليمان ثلثة ‪ :3‬لغو‪ :‬يمين ل كفارة لها إذ ل إثم فيها‪ ،‬الغموس ‪ :4‬وهي أن يحلف متعمدا‬ ‫الكذب ول كفارة لها إل التوبة‪ ،‬اليمين المكفّرة‪ :‬وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده‬ ‫ليفعل أو ل يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها‪.‬‬ ‫ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ‬ ‫ب وَالَزْلَمُ ِرجْسٌ مّنْ َ‬ ‫خمْرُ وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا ا ْل َ‬ ‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ‬ ‫َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ (‪ )90‬إِ ّنمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْ َنكُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َبغْضَاء فِي ا ْل َ‬ ‫لةِ َف َهلْ أَنتُم مّن َتهُونَ (‪ )91‬وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ‬ ‫وَ َيصُ ّدكُمْ عَن ِذكْرِ اللّ ِه وَعَنِ الصّ َ‬ ‫عمِلُواْ‬ ‫لغُ ا ْلمُبِينُ(‪ )92‬لَ ْيسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬ ‫وَاحْذَرُواْ فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ فَاعَْلمُواْ أَ ّنمَا عَلَى َرسُولِنَا الْبَ َ‬

‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ ثُمّ ا ّتقَو ْا وّآمَنُواْ ثُمّ ا ّتقَواْ‬ ‫ط ِعمُواْ إِذَا مَا ا ّتقَو ْا وّآمَنُو ْا وَ َ‬ ‫الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا َ‬ ‫حسِنِينَ(‪)93‬‬ ‫حبّ ا ْلمُ ْ‬ ‫وّأَحْسَنُو ْا وَاللّهُ يُ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث الترمذي‪" :‬من حلف بغير ال فقد أشرك أو كفر" وحديث الصحيح‪" :‬أل إنّ ال ينهاكم أن‬ ‫تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بال أو ليصمت"‪..‬‬ ‫‪ 2‬لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير‬ ‫وليكفر عن يمينه"‪.‬‬ ‫ن اليمان خمسة‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا العدد مجمل وقد تقدم تفصيله وأ ّ‬ ‫‪ 4‬أخرج البخاري "أن النبي صلى ال عليه وسلم سأله إعرابي قائلً يا رسول ال ما الكبائر؟ قال‪:‬‬ ‫الشراك بال قال ثمّ ماذا؟ قال‪ :‬عقوق الوالدين‪ .‬قال‪ :‬ثمّ ماذا؟ قال اليمين الغموس‪ .‬قلت وما اليمين‬ ‫الغموس؟ قال‪ :‬التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب"‪.‬‬

‫( ‪)2/10‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الخمر والميسر ‪ :‬الخمر ‪ :1‬كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت‪ ،‬والميسر‪ :‬القمار‪2 .‬‬ ‫والنصاب ‪ :‬النصاب‪ :‬جمع نصب‪ .‬ما ينصب للتقرب به إلى ال أو التبرك به‪ ،‬أو لتعظيمه‬ ‫كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث‪.‬‬ ‫الزلم ‪ :‬جمع زلم‪ :‬وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من‬ ‫الخسارة‪ ،‬ومثلها قرعة النبياء‪ ،‬وخط الرمل‪ ،‬والحساب بالمسبحة‪.‬‬ ‫رجس ‪ :‬الرجس‪ :‬المستقذر حسا كان أو معنى‪ ،‬إذ المحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة‪.‬‬ ‫من عمل الشيطان ‪ :‬أي مما يزينّه للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم‪.‬‬ ‫فاجتنبوه‪ :‬اتركوه جانبا فل تقبلوا عليه بقلوبكم وابتعدوا عنه بأبدانكم‪.‬‬ ‫تفلحون ‪ :‬تكملون وتسعدون في دنياكم وآخرتكم‪.‬‬ ‫ويصدكم‪ :‬أي يصرفكم‪.‬‬ ‫فهل أنتم منتهون‪ :‬أي انتهوا فالستفهام للمر ل للستخبار‪.‬‬ ‫جناح فيما طعموا ‪ :‬أي إثم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر قبل تحريم ذلك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما نهى ال تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل ال تعالى لهم بَيّنَ َلهُم ما حرّمه عليهم ودعاهم إلى‬ ‫تركه واجتنابه لضرره بهم‪ ،‬وإفساده لقلوبهم وأرواحهم فقال تعالى ‪{ :‬يا أيها الذين ‪ 3‬آمنوا} أي يا‬ ‫من صدقتم بال ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا ورسولً اعلموا {إنما الخمر والميسر‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬صحّ عن عمر رضي ال عنه أنه خطب يوما فقال‪" :‬أيّها الناس أل إنّه قد نزل تحريم الخمر‬ ‫يوم نزل وهي من خمسة‪ :‬من العنب والتمر‪ ،‬والعسل والحنطة والشعير" والخمر ما خامر العقل‬ ‫أي‪ :‬ستره وغطّاه فأصبح المرء يهذي ويقول الخطأ والصواب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ما دامت علّة التحريم في الخمر والميسر هي إثارة العداوة بين إخوة اليمان‪ ،‬والصدّ وهو‬ ‫اللهاء عن ذكر ال وعن الصلة فإن كل ما ينشأ عنه إثارة العداوة والصدّ عن الذكر والصلة‬ ‫فهو حرام‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الية نزلت بعد وقعة أحد وكانت في السنة الثالثة من الهجرة أي في آخرها ولكنها وقعت‬ ‫هنا في سورة المائدة بعد نزولها وهذه الية هي الناسخة لباحة الخمر ويروى في سبب نزولها أن‬ ‫ملحاة كانت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من النصار سببها شرب خمر في ضيافة لهم‪.‬‬

‫( ‪)2/11‬‬ ‫والنصاب ‪ 1‬والزلم رجس} أي سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزيّنه للنفوس ويحسنه لها‬ ‫لترغب فيه‪ ،‬وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم‬ ‫الواحد‪ .‬وإلى صدهم عن ذكر ال الذي هو عصمتهم وعن الصلة التي هي معراجهم إلى ال‬ ‫ربهم‪ ،‬وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر‪ ،‬ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة‬ ‫هذه المحرمات الربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال‪{ :‬فهل أنتم منتهون‬ ‫‪2‬؟!} وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال {وأطيعوا‬ ‫ال وأطيعوا الرسول واحذروا} مغبة ذلك ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه‬ ‫فالرسول ل يضيره توليهم‪ ،‬إذ ما عليه إل البلغ المبين وقد بلّغ وأما هم فإن جزاءهم على توليهم‬ ‫سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين‪ .‬هذا معنى قوله‪{ :‬وأطيعوا ال وأطيعوا‬ ‫الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعلموا ‪ 3‬أنما على رسولنا البلغ المبين} وقوله تعالى في الية‬ ‫الخيرة (‪{ )93‬ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا‬ ‫وعملوا الصالحات ثم اتقوا ‪ 4‬وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا وال يحب المحسنين} فقد نزلت لقول بعض‬ ‫الصحاب ‪ 5‬لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬يا رسول ال ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم‬ ‫يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟" أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل ال تعالى‬ ‫هذه الية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم‬ ‫بشرط أن يكونوا قد اتقوا ال في محارمه وآمنوا به وبشرائعه‪ ،‬وعملوا الصالحات استجابة لمره‬ ‫وتقربا إليه‪ .‬فكان رفع الحرج عليهم مقيدا بما ذكر‪ .‬وقوله‪{ :‬ثم اتقوا‪ }...‬كما ل جناح ‪ 6‬على‬ ‫الحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر النصاب والزلم مع الخمر والميسر المقصود منه تأكيد التحريم وتقويته نظرا لما ألفته‬ ‫النفوس منهما‪ ،‬والمراد من تحريم النصاب تحريم عبادتها وصنعها‪ ،‬وبيعها‬ ‫‪ 2‬هذه الصيغة تستعمل للحث على الفعل إذا المأمور بدا عليه التراخي أو عدم الهتمام مما أمر‬ ‫بفعله أو تركه‪ .‬والفاء في { فهل أنتم} تفريع عن قوله‪{ :‬إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم‪ }..‬الية‪،‬‬ ‫والمأمور بالنتهاء عنه هو الخمر والميسر فلذا يقدّر عنهما بعد {منتهون}‪.‬‬ ‫‪{ 3‬فاعلموا} جواب الشرط أي فإن توليتم عن طاعة ال والرسول فاعلموا أن توليكم ل يضر‬ ‫الرسول شيئا إنما على الرسول البلغ وقد بلّغكم‪.‬‬ ‫‪ 4‬جملة‪{ :‬ثم اتقوا وآمنوا} تأكيد لفظي لجملة‪{ :‬إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات}‪.‬‬ ‫‪ 5‬يروى أن القائل‪ :‬أبو بكر الصديق رضي ال عنه وهو سؤال إشفاق ورحمة على من مات وهو‬ ‫يشرب هذا المحرم‪.‬‬ ‫‪ 6‬الجناح‪ ،‬الثم المترتب عن الجنح الذي هو الميل إلى المعصية وعدم الطاعة‪.‬‬

‫( ‪)2/12‬‬ ‫وبشرط اليمان‪ ،‬والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم‪ ،‬ودوام اليمان والتقوى والحسان في‬ ‫ذلك بالخلص فيه ل تعالى‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الخمر والقمار‪ ،‬وتعظيم النصاب والستقسام بالزلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب النتهاء من تعاطي هذه المحرمات فورا وقول انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي ال‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين‬ ‫واللعبين والصد عن ذكر ال وعن الصلة وهما قوام حياة المسلم الروحية‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب طاعة ال والرسول والحذر من معصيتهما‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب التقوى حتى الموت ووجوب الحسان في المعتقد والقول والعمل‪.‬‬ ‫ح ُكمْ لِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن َيخَافُهُ بِا ْلغَ ْيبِ‬ ‫شيْءٍ مّنَ الصّ ْيدِ تَنَالُهُ أَ ْيدِيكُ ْم وَ ِرمَا ُ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبُْلوَ ّنكُمُ الّلهُ بِ َ‬ ‫َفمَنِ اعْتَدَى َبعْدَ ذَِلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )94‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَ َتقْتُلُواْ الصّيْ َد وَأَنتُمْ حُرُمٌ َومَن قَتََلهُ‬ ‫طعَامُ‬ ‫حكُمُ بِهِ َذوَا عَ ْدلٍ مّنكُمْ هَدْيًا بَاِلغَ ا ْل َكعْبَةِ َأوْ َكفّا َرةٌ َ‬ ‫مِنكُم مّ َت َعمّدًا َفجَزَاء مّ ْثلُ مَا قَ َتلَ مِنَ ال ّنعَمِ َي ْ‬ ‫عمّا سَلَف َومَنْ عَادَ فَيَن َتقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ‬ ‫عفَا اللّهُ َ‬ ‫ق وَبَالَ َأمْ ِرهِ َ‬ ‫مَسَاكِينَ أَو عَ ْدلُ َذِلكَ صِيَامًا لّ َيذُو َ‬

‫طعَامُهُ مَتَاعًا ّلكُ ْم وَلِلسّيّا َر ِة َوحُرّمَ عَلَ ْي ُك ْم صَيْدُ الْبَرّ مَا‬ ‫حلّ َلكُ ْم صَيْدُ الْبَحْ ِر َو َ‬ ‫عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ(‪ُ )95‬أ ِ‬ ‫ُدمْتُمْ حُ ُرمًا وَا ّتقُواْ الّلهَ الّ ِذيَ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ(‪)96‬‬

‫( ‪)2/13‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ليبلونكم ‪ :‬ليختبرونكم‪.‬‬ ‫الصيد ‪ : 1‬ما يصاد‪2 .‬‬ ‫تناله أيديكم ‪ : 3‬كبيض الطير وفراخه‪.‬‬ ‫ورماحكم ‪ :‬جمع رمح‪ ،‬وما ينال به هو الحيوان على اختلفه‪.‬‬ ‫ليعلم القه من يخافه بالغيب ‪ : :‬ليظهر ال تعالى بذلك الختبار من يخافه بالغيب فل يصيد‪.‬‬ ‫فمن اعتدى (بعد التحريم)‪ :‬بأن صاد بعد ما بلغه التحريم‪.‬‬ ‫وأنتم حرم‪ :‬جمع حرام والحرام‪ :‬المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام‪.‬‬ ‫من النعم‪ :‬النعم‪ :‬البل والبقر والغنم‪.‬‬ ‫ذوا عدل منكم ‪ :‬أي صاحبا عدالة من أهل العلم‪.‬‬ ‫وبال أمره ‪ :‬ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام‪.‬‬ ‫وللسيارة ‪ :‬المسافرين يتزوّدون به في سفرهم‪ .‬وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكدا خبره بأنه يبلوهم اختبارا لهم ليظهر ‪4‬‬ ‫المطيع من العاصي فقال‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم ال بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم‬ ‫ليعلم ال من يخافه بالغيب} فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلهم بوجوده بين أيديهم‬ ‫بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم‬ ‫الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعا ويوم ل يسبتون ل يأتيهم كذلك بلهم ربهم‬ ‫بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أُذن للمحرم ولمن في الحرم في قتل ما يؤذي كالحية والعقرب‪ ،‬والغراب والفأرة وكل ما يؤذي‬ ‫كالسد والنمر والذئب والفهد لقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‪:‬‬ ‫الحية والغراب البقع والفأرة والكلب العقور والحدأة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الصيد مصدر صاد بصيد صيدا وأطلق المصدر على اسم المفعول‪ :‬المصيد فقالوا‪ :‬صيدٌ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قوله‪{ :‬تناله أيديكم} يريد صغار الصيد‪ ،‬وفراخه وبيضه‪{ .‬ورماحكم} هو كبار الصيد الذي ل‬

‫يؤخذ باليد ولكن بآلة الصيد‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي ليظهر ذلك لهم إقامة للحجة عليهم أما هو سبحانه وتعالى فعلمه بذلك أزلي سابق‪.‬‬

‫( ‪)2/14‬‬ ‫وامتثلوا أمره‪ ،‬على خلف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين‪ .‬وقوله تعالى‬ ‫{فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}‪ ،‬أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت‬ ‫عليه الية الولى (‪ .)94‬أما الية الثانية (‪ )95‬وهي قوله تعالى‪{ :‬يا أيها ‪ 1‬الذين آمنوا ل تقتلوا ‪2‬‬ ‫الصيد وأنتم حرم} فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال {ومن قتله‬ ‫منكم متعمدا} فالحكم الواجب على من قتله جزاءً {مثل ما قتل من النعم} وهى البل والبقر والغنم‬ ‫{يحكم به ذوا عدل منكم} فالعدلن ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل‬ ‫وبقرة الوحش تشبه البقرة‪ ،‬والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء ‪ 3‬من وجب عليه بعير أو بقرة أو‬ ‫تيس أن يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وأن شاء اشترى بثمنه طعاما وتصدق به‪ ،‬وإن شاء‬ ‫صام بدل كل نصف صاع يوما لقوله تعالى‪{ :‬هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل‬ ‫ذلك صياما} وقوله تعالى‪{ :‬ليذوق وبال أمره} أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى‪{ :‬عفا ال عما‬ ‫سلف} أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى‪ ،‬وأما مستقبلً فإنه تعالى يقول‪{ :‬ومن عاد فينتقم ‪ 4‬ال‬ ‫منه وال عزيز ذو انتقام} ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ول يحول دون مراده تعالى حائل أل‬ ‫فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الثانية أما الثالثة (‪ )96‬فقد أخبر تعالى‬ ‫بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد‪ .‬أخبر أنه امتنانا منه‬ ‫عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه‬ ‫البحر من حيوانات ‪ 5‬ميتة على ساحله {متاعا لكم وللسيارة} وهم المسافرون يتزودون به في‬ ‫سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرما‪ ،‬وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا‬ ‫طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم‪ ،‬وذكرهم بحشرهم جميعا إليه يوم القيامة للحساب والجزاء‬ ‫فقال‪{ :‬واتقوا ال الذي إليه تحشرون}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن أبا اليسر عمرو بن مالك النصاري قتل حمار وحش وهو محرم بعمرة عام الحديبية‬ ‫فنزلت هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬القتل لغة‪ :‬إفاتة الروح وهو أنواع منها النحر‪ ،‬والذبح‪ ،‬والخنق‪ ،‬والرضخ وشبهه‪.‬‬ ‫‪ 3‬قالت العلماء‪ :‬ما يجزىء من الصيد شيئان دواب وطير فيجزىء ما كان من الدواب بنظيره في‬ ‫الخلقة والصورة ففي النعامة بدنه والطير‪ :‬القيمة إل الحمام ففيه شاة‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجمهور أنّ مَنْ صاد ودفع الجزاء ث ّم صاد كلما صاد لزمه الفداء‪ ،‬وبعض أهل العلم يرى أنه‬

‫ل يحكم عليه بشيء ويترك ل تعالى ويقال له‪ :‬ينتقم ال منك‪.‬‬ ‫‪ 5‬مذهب مالك حلية ميتة البحر مطلقا لحديث‪" :‬هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وحديث العنبر‪.‬‬

‫( ‪)2/15‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ابتلء ال تعالى لصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم‪.‬‬ ‫وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر ال تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيرا من بني إسرائيل وأفضل منهم‬ ‫على عهد أنبيائهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬تحريم الصيد على المحرم إل صيد البحر فإنّه مباح له‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان جزاء من صاد وهو محرم وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التحكيم فيما صاده المحرم‪ ،‬ول يصح أن يكفر الصائد بنفسه‪.‬‬ ‫‪ -5‬صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلل‪.‬‬ ‫ي وَا ْلقَلَئِدَ ذَِلكَ لِ َتعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ‬ ‫شهْرَ ا ْلحَرَا َم وَا ْلهَ ْد َ‬ ‫س وَال ّ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ ا ْل َكعْبَةَ الْبَ ْيتَ ا ْلحَرَامَ قِيَامًا لّلنّا ِ‬ ‫َ‬ ‫ب وَأَنّ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪ )97‬اعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَا ِ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ وَأَنّ الّلهَ ِب ُكلّ َ‬ ‫مَا فِي ال ّ‬ ‫لغُ وَالّلهُ َيعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا َتكْ ُتمُونَ(‪ )99‬قُل لّ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪ )98‬مّا عَلَى الرّسُولِ ِإلّ الْبَ َ‬ ‫اللّهَ َ‬ ‫عجَ َبكَ كَثْ َرةُ الْخَبِيثِ فَا ّتقُواْ اللّهَ يَا ُأوْلِي الَلْبَابِ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ(‪)100‬‬ ‫ث وَالطّ ّيبُ وََلوْ أَ ْ‬ ‫يَسْ َتوِي الْخَبِي ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الكعبة ‪ :‬الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت ال الحرام‪.‬‬ ‫قياما للناس‪ :‬يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء‬ ‫إليه‪.‬‬

‫( ‪)2/16‬‬ ‫الشهر الحرام‪ :‬أي المحرم والمراد به الشهر الحرم الربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم‪.‬‬ ‫الهدي ‪ :‬ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا‪.‬‬ ‫والقلئد ‪ :‬جمع قلدة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم‪.‬‬ ‫البلغ‪ :‬بلغ ما أمره بإبلغه‪.‬‬ ‫ما تبدون وما تكتمون ‪ :‬أي ما تظهرون وما تخفون‪.‬‬ ‫الخبيث‪ :‬مقابل الطيب وهو الحرام وهو عام في المحسوسات والمعقولت‪.‬‬

‫أولي اللباب‪ :‬أصحاب العقول‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬جعل ‪ 1‬ال الكعبة البيت الحرام ‪ 2‬قياما للناس} المراد من الناس العرب في جاهليتهم‬ ‫قبل السلم ومعنى قياما‪ :‬أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن التي إليه‬ ‫والداخل في حرمه‪ ،‬وكذا الشهر ‪ 3‬الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب ‪،4‬‬ ‫وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من النعام‪ ،‬وكذا القلئد جمع قلدة وهي ما يقلده الهدي‬ ‫إشعارا بأنه مهدى إلى الحرم‪ ،‬وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من ِلحَاءَ‪ 5‬شجر الحرم‬ ‫إعلما بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلئد‬ ‫كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق المن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من‬ ‫قبائل قريش فهذا من تدبير ال تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال‬ ‫تعالى‪{ :‬ذلك لتعلموا أن ال يعلم ما في السموات وما في الرض وأن ال بكل شيء عليم} أي‬ ‫حقق ذلك المن والرخاء في وقت ل دولة لكم فيه ول نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما‬ ‫في الرض من سائر الكائنات وشتى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ال الذي أوجد الكعبة إذ أمر خليله ببنائها فبناها هذا اليجاد الخير أمّا الول فكان على عهد‬ ‫آدم عليه السلم‪ ،‬وجعل هنا بمعني صيرها كذلك أي قياما للناس الذين هم العرب‪.‬‬ ‫‪ 2‬قياما وقيما وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لن أصل الفعل قام يقوم قواما‪ ،،‬وقياما‪.‬‬ ‫‪ 3‬الشهر‪ :‬اسم جنس ولذا أريد به هنا الشهر الحرم الربعة‪.‬‬ ‫‪ 4‬يقال له رجب الصم لنه ل يسمع فيه قعقعة السلح ويقال‪ :‬رجب مضر لن مضر كانت‬ ‫تعظّمه أكثر من غيره‪ ،‬والصب حيث يصب فيه الخير صبّا‪.‬‬ ‫‪ 5‬لِحاء ككِساء ‪ :‬قشر الشجر‪.‬‬

‫( ‪)2/17‬‬ ‫المخلوقات ل يخفى عليه من أمرها شيء‪ ،‬وأنه بكل شيء عليم فهو الله الحق الذي ل إله غيره‬ ‫ول رب سواه فاعبدوه‪ ،‬وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه‪ ،‬وإن لم تفعلوا فسوف‬ ‫يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان الولى (‪ )97‬والثانية (‪ )98‬أما الية الثالثة (‪ )99‬فقد أكدت مضمون قوله‬ ‫تعالى في الية الثانية {اعلموا أن ال شديد العقاب} وهو وعيد شديد فقال تعالى {ما على الرسول‬ ‫إل البلغ} ‪ 1‬وقد بلّغ‪ ،‬فأنذر وأعذر‪ ،‬وبقي المر إليكم إن أنبتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم‬ ‫ويرحمكم لنه غفور رحيم‪ ،‬وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه‬

‫وهو شديد العقاب وقوله {وال يعلم ما تبدون وما تكتمون} وعد ووعيد لن علمه تعالى بالظواهر‬ ‫والبواطن يترتب عليه الجزاء فإن كان العمل خيرا كان الجزاء خيرا وإن كان العمل شرا كان‬ ‫الجزاء كذلك‪.‬‬ ‫هذا مضمون الية الثالثة أما الرابعة (‪ )100‬فإنه تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم قل‬ ‫للناس أيها الناس أنه {ل يستوي الخبيث ‪ }2‬من المعتقدات والقوال والعمال والرجال والموال‬ ‫‪{ ،3‬والطيّب} منها‪ ،‬ولو أعجبتكم ‪ 4‬أي سرتكم كثرة الخبيث فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما‬ ‫هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلً‪ ،‬وعليه {فاتقوا ال يا أولي اللباب} أي خافوه فامتثلوا‬ ‫أمره واجتنبوا نهيه رجاء حصول الفلح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب‬ ‫المحبوب‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان عظيم تدبير ال تعالى لخلقه‪ ،‬إذ أمّن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي ليس عليه هداية الناس ول التوفيق ول الثواب‪ .‬وأصل البلغ‪ :‬البلوغ وهو الوصول‪ ،‬بلغ‬ ‫المكان يبلغه وصل إليه‪ ،‬وأبلغه الشيء أوصله إليه فعلى الرسول إبلغ أمر ال ونهيه وأخباره إلى‬ ‫عباده بأسلوب بلغي يصل به إلى نفوسهم في أطيب لفظ وأحسنه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخبيث ل يساوي الطيب مقدارا ول انفاقا ومكانا ول ذهابا فالطيب يأخذ جهة اليمين‪ ،‬والخبيث‬ ‫يأخذ ذات الشمال‪ ،‬والطيّب والطيّبون في الجنة‪ ،‬والخبيث والخبثاء في النار‪.‬‬ ‫‪ 3‬قالت العلماء‪ :‬في قوله‪{ :‬ل يستوي الخبيث} الية دليل على أنّ البيع الفاسد يفسخ ويرد الثمن‬ ‫على المبتاع وشاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من عمل عملً ليس عليه أمرنا فهو‬ ‫ردّ"‪.‬‬ ‫‪ 4‬الخطاب في قوله {ولو أعجبك كثرة الخبيث} الخطاب صالح لكل من هو أهل للخطاب والنتفاع‬ ‫به من عقلء هذه المة ولذا قلت في التفسير ولو أعجبتكم ولم أقل‪ :‬أعجبتك‪.‬‬

‫( ‪)2/18‬‬ ‫واستقرارا وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت‬ ‫الحرام والشهر الحرام‪ ،‬والهدي والقلئد‪ ،‬المر الذي ل يقدر عليه إل ال‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان مسئولية الرسول أزاء الناس وأنها البلغ ل غير وقد بلغ صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف ل بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلل‬ ‫خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة ل تقبل‪.‬‬

‫‪ -4‬المر بالتقوى رجاء فلح المتقين‪1 .‬‬ ‫س ْؤكُ ْم وَإِن تَسْأَلُواْ عَ ْنهَا حِينَ يُنَ ّزلُ ا ْلقُرْآنُ تُبْدَ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَسْأَلُواْ عَنْ َأشْيَاء إِن تُ ْبدَ َلكُمْ َت ُ‬ ‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪ )101‬قَدْ سَأََلهَا َقوْمٌ مّن قَبِْلكُمْ ُثمّ َأصْبَحُواْ ِبهَا كَافِرِينَ (‪)102‬‬ ‫عفَا اللّهُ عَ ْنهَا وَاللّهُ َ‬ ‫َلكُمْ َ‬ ‫علَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ‬ ‫ل َوصِيلَ ٍة َولَ حَا ٍم وََلكِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َيفْتَرُونَ َ‬ ‫ج َعلَ اللّهُ مِن بَحِي َر ٍة َولَ سَآئِبَ ٍة َو َ‬ ‫مَا َ‬ ‫وََأكْثَرُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ (‪ )103‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْاْ إِلَى مَا أَن َزلَ الّل ُه وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا‬ ‫علَيْهِ آبَاءنَا َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَ َيعَْلمُونَ شَيْئًا َولَ َيهْتَدُونَ(‪)104‬‬ ‫وَجَدْنَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن تبد لكم‪ :‬تظهر لكم تضركم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من الحناف من يمنع الحبس‪ ،‬والوقف تعلّقا واستدللً بهذه الية وهو محجوج بإجماع الصحابة‬ ‫لحديث عمر في الصحيح إذ قال له الرسول صلى ال عليه وسلم "احبس الصل وسبّل الثمرة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬وذلك إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى‬ ‫بحروا أذنها أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها‪ ،‬والسائبة‪ ،‬بعير يسيب بنذر ينذره‬ ‫أحدهم لللهة إن حصل له كذا سيّب كذا وتترك فل تمنع من رعي ول ماء ول يركبها أحد‪.‬‬

‫( ‪)2/19‬‬ ‫عفا ال عنها ‪ :‬سكت عنها فلم يذكرها أو لم يؤاخذكم بها‪.‬‬ ‫سألها قوم ‪ :‬طلبها غيركم من المم السابقة‪.‬‬ ‫ما جعل ال ‪ :‬أي ما شرع‪.‬‬ ‫بحيرة ول سائبة ‪ :‬البحيرة‪ :‬الناقة تبحر أذنها أي تشق‪ ،‬والسائبة‪ :‬الناقة تسيّب‪.‬‬ ‫ول وصيلة ول حام‪ :‬الوصيلة‪ :‬الناقة يكون أول إنتاجها أنثى‪ ،‬والحام‪ :‬الجمل يحمى ظهره لللهة‪.‬‬ ‫ما أنزل ال‪ :‬من الحق والخير‪.‬‬ ‫ما وجدنا عليه آباءنا‪ :‬من الباطل والضلل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى تضايق منهم فقام خطيبا‬ ‫فيهم وقال‪" :‬ل تسألوني اليوم عن شيء إل بينته لكم"‪ . .‬فقام رجل يدعى عبدال بن حذافة كان إذا‬ ‫تلمى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول ال؟ فقال‪ :‬أبوك حذافة‪ ،‬وقال أبو‬ ‫هريرة‪ :‬خطبنا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪" :‬أيها الناس قد فرض ال عليكم الحج فحجوا‬ ‫فقال رجل أفي كل عام يا رسول ال؟ فسكت حتى قالها ثلثا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫ل ولو قلت نعم‪ ،‬لوجبت‪ ،‬ولو وجبت لما استطعتم‪ ،‬ثم قال‪ :‬ذروني ما تركتكم" فنزلت‪{ :‬يا أيها‬

‫الذين آمنوا ل تسألوا عن أشياء ‪ 1‬إن تبد لكم تسؤكم} أي تظهر لكم جوابا لسؤالكم يحصل لكم بها‬ ‫ما يسؤكم ويضركم‪{ ،‬وإن ‪ 2‬تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي يبينها رسولنا لكم‪ .‬أما أن‬ ‫تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مال ينبغي لكم لنه من باب إحفاء رسول ال وأذيته ثم‬ ‫قال تعالى لهم‪{ :‬عفا ال عنها} أي لم يؤاخذكم بما سألتم {وال غفور حليم}‪ ،‬فتوبوا إليه يتب ‪3‬‬ ‫عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬قد سألها قوم من قبلكم ثم‬ ‫أصبحوا بها كافرين} أي قد سأل أسئلتكم التنطعية‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ممنوع من الصرف لنّه مشبه بحمراء‪ .‬في الية دليل على كراهة السؤال لغير حاجة وفي‬ ‫صحيح مسلم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن ال حرّم عليكم عقوق المهات ووأد البنات‬ ‫ومنعا وهات‪ ،‬وكره لكم ثلثا‪ :‬قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن قيل‪ :‬ما وجه أنه تعالى نهاهم عن السؤال ثم أذن لهم بقوله‪{ :‬وإن تسألوا عنها‪ }..‬الخ؟‬ ‫الجواب‪ :‬إن تسألوا عن غيرها مما دعت الحاجة إليه‪ ،‬ففي الكلم حذف مضاف كما قدّمناه فتأمله‪.‬‬ ‫‪ 3‬بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يسوء ومع هذا فإن سؤال التنطع والتعنت مكروه‬ ‫دائما وفي الحديث الصحيح‪" :‬من حسن إسلم المرء تركه مال يعنيه"‪.‬‬

‫( ‪)2/20‬‬ ‫المحرجة هذه قوم من قبلكم {فأصبحوا بها كافرين ‪ ، }1‬لنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء‬ ‫تعنتهم في أسئلتهم لنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا‪ .‬هذا ما دلت عليه اليتان الولى (‪)101‬‬ ‫والثانية (‪ )102‬وأما الثالثة (‪ )103‬فقد قال تعالى‪{ :‬ما جعل ال من بحيرة ول سائبة ول وصيلة‬ ‫ول حام} ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل ال تعالى‬ ‫حمَى‬ ‫قوله‪{ :‬ما جعل ال من بحيرة} أي ما بحر ال بحيرة ول سيب سائبة ول وصل وصيلة ول َ‬ ‫حَامِيا‪ ،‬ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على ال وكذبا عليه {وأكثرهم ل يعقلون} ‪،‬‬ ‫ولو عقلوا ما افتروا على ال وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى ال تعالى‪ ،‬وأول من‬ ‫سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلم عمرو بن لحي الذي رآه رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم يج ّر قصَبه في النار أي أمعاءه في جهنم‪ .‬هذا ما تضمنته الية الثالثة أما الرابعة (‪ )104‬فقد‬ ‫أخبر تعالى أن المشركين المفترين على ال الكذب بما ابتدعوه من الشرك إذ قيل لهم {تعالوا إلى‬ ‫ما أنزل ال وإلى الرسول} ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب‪ ،‬يرفضون‬ ‫الرجوع إلى الحق ويقولون‪{ :‬حسبنا} أي يكفينا {ما وجدنا عليه آباؤنا} فلسنا في حاجة إلى غيره‬ ‫فرد تعالى عليهم منكرا عليهم قولهم الفاسد {أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئا} أي يتبعونهم‬ ‫ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الباء جهالً حمقا ل يعقلون شيئا من الحق‪{ ،‬ول يهتدون} إلى‬

‫خير أو معروف‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬كراهية اللحاف في السؤال والتقعر في السئلة والتنطع فيها‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة البتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أمثلة ذلك‪ :‬سؤال قوم صالح الناقة‪ ،‬وقوم عيسى المائدة‪ ،‬وفي الية تحذير للمؤمنين أن‬ ‫يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا‪ .‬وفي صحيح مسلم يقول الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرْم عن المسلمين فحرم من‬ ‫أجل مسألته"‪.‬‬

‫( ‪)2/21‬‬ ‫جمِيعًا فَيُنَبّ ُئكُم‬ ‫ج ُعكُمْ َ‬ ‫ضلّ ِإذَا اهْ َتدَيْتُمْ إِلَى الّلهِ مَرْ ِ‬ ‫س ُك ْم لَ َيضُ ّركُم مّن َ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَ ْيكُمْ أَنفُ َ‬ ‫ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ(‪)105‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آمنوا ‪ :‬صدقوا ال ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي‪.‬‬ ‫عليكم أنفسكم ‪ : 1‬ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلحها‪.‬‬ ‫إذا اهتديتم ‪ :‬إلى معرفة الحق ولزوم طريقه‪.‬‬ ‫إلى ال مرجعكم جميعا ‪ :‬ضلّلً ومهتدين‪.‬‬ ‫فينبئكم‪ :‬يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة ‪:‬‬ ‫ينادي ال تعالى عباده المؤمنين فيقول ‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا بال ورسوله ووعد ال‬ ‫ووعيده {عليكم أنفسكم ‪ }2‬ألزموها الهداية والطهارة باليمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك‬ ‫والمعاصي‪{ ،‬ل يضركم من ضل إذا اهتديتم}‪ :‬أي أن ضلل غيركم غير ضار بكم إن كنتم‬ ‫مهتدين إذ ل تزر وازرة وزر أخرى‪ ،‬كل نفس تجزى بما كسبت ل بما كسب غيرها ومن اهتدى‬ ‫فإنما يهتدي لنفسه‪ ،‬ومن ضل فإنما يضل عليها إل أن من الهتداء المر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر فإن ترك المؤمنون المر بالمعروف والنهي عن المنكر ل يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت‬ ‫ل المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر‬ ‫عن المنكر يكثر وينتشر ويؤذّي حتما إلى أن يض ّ‬

‫الصديق رضي ال عنه خطيبا يوما فقال‪" :‬يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الية‪{ :‬يا أيها الذين ‪3‬‬ ‫آمنوا عليكم أنفسكم ‪ ..4‬الخ} وإنكم تضعونها ‪ 5‬على غير‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وإن قيل في معنى احفظوا أنفسكم من الوقوع في المعاصي لكان وجيها لنّ عليكم اسم فعل‬ ‫بمعنى احفظ كذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية التحذير مما وقع فيه مَنْ تقدّم ذكرهم من التقليد العمى والبتداع المضر المهلك وهو‬ ‫وجه المناسبة بين هذه الية وما سبقها من اليات‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل هذه الية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ‪ ،‬فالناسخ فيها قوله‪{ :‬إذا اهتديتم}‬ ‫والمنسوخ هو {عليكم أنفسكم} إذ من اهتدى ل يضره من ضل ول تتم الهداية إل بعد المر‬ ‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫‪ 4‬أنفسكم منصوب على الغراء الدال عليه اسم الفعل عليكم‪.‬‬ ‫‪ 5‬ورد بدل تضعونها‪ ...‬إلخ ‪ :‬وتتأوّلونها على غير تأويلها‪.‬‬

‫( ‪)2/22‬‬ ‫موضعها‪ ،‬وإني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬إن الناس إذا رأوا المنكر ولم‬ ‫يغيروه يوشك أن يعمهم ال بعقاب" وقوله تعالى‪{ :‬إلى ال مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}‬ ‫فيه وعد ووعيد‪ ،‬وعد لمن أطاع ال ورسوله‪ ،‬ووعيد لمن عصاهما‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب إصلح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك باليمان والعمل‬ ‫الصالح‪.‬‬ ‫‪ -2‬ضلل الناس ل يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف ‪ 1‬ونهاهم عن المنكر‪.‬‬ ‫‪ 3‬تقرير مبدأ البعث الخر‪.‬‬ ‫‪ -4‬للعمل أكبر الثر في سعادة النسان أو شقائه‪.‬‬ ‫ع ْدلٍ مّنكُمْ َأوْ‬ ‫حضَرَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ حِينَ ا ْل َوصِيّةِ اثْنَانِ َذوَا َ‬ ‫شهَا َدةُ بَيْ ِنكُمْ إِذَا َ‬ ‫يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َ‬ ‫لةِ‬ ‫آخَرَانِ مِنْ غَيْ ِركُمْ إِنْ أَنتُ ْم ضَرَبْتُمْ فِي الَ ْرضِ فََأصَابَ ْتكُم ّمصِيبَةُ ا ْل َم ْوتِ َتحْبِسُو َن ُهمَا مِن َبعْدِ الصّ َ‬ ‫شهَا َدةَ الّلهِ إِنّا ِإذًا ّلمِنَ‬ ‫سمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْ ُت ْم لَ نَشْتَرِي بِهِ َثمَنًا وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَ َنكْتُمُ َ‬ ‫فَ ُيقْ ِ‬ ‫حقّا إِ ْثمًا فَآخَرَانِ ِيقُومَانُ َمقَا َم ُهمَا مِنَ الّذِينَ اسْ َتحَقّ عَلَ ْيهِمُ‬ ‫ال ِثمِينَ(‪ )106‬فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَ ّن ُهمَا اسْ َت َ‬ ‫شهَادَ ِت ِهمَا َومَا اعْتَدَيْنَا إِنّا إِذًا ّلمِنَ الظّاِلمِينَ(‪ )107‬ذَِلكَ‬ ‫حقّ مِن َ‬ ‫شهَادَتُنَا أَ َ‬ ‫سمَانِ بِالّلهِ لَ َ‬ ‫لوْلَيَانِ فَ ُيقْ ِ‬ ‫اَ‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬قالت العلماء‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رُجي القبول والتغيير فإن كان‬ ‫هناك عدم رجاء فل يجب المر والنهي‪ .‬وكذا يسقط إذا خاف ضررا يلحقه ل يقوى عليه أو‬ ‫يلحق غيره من المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)2/23‬‬ ‫س َمعُو ْا وَاللّهُ‬ ‫ج ِههَا َأوْ يَخَافُواْ أَن تُ َردّ أَ ْيمَانٌ َبعْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَا ْ‬ ‫شهَا َدةِ عَلَى وَ ْ‬ ‫أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِال ّ‬ ‫سقِينَ‪)108( 1‬‬ ‫لَ َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫شهادة بينكم ‪ :‬الشهادة‪ :‬قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة‪ ،‬وبينكم‪ :‬أي شهادة‬ ‫بعضكم على بعض‪.‬‬ ‫إن أنتم ضربتم في الرض ‪ :‬أي بأن كنتم مسافرين‪.‬‬ ‫من بعد الصلة ‪ :‬صلة العصر‪.‬‬ ‫إن ارتبتم ‪ :‬شككتم في سلمة قولهما وعدالته‪.‬‬ ‫فإن عثر ‪ :‬أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه‪.‬‬ ‫أدنى ‪ :‬أقرب‪.‬‬ ‫على وجهها ‪ : 2‬أي صحيحة كما هي ل نقص فيها ول زيادة‪.‬‬ ‫الفاسقين ‪ :‬الذين لم يلتزموا بطاعة ال ورسوله في المر والنهي‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه اليات‬ ‫الثلث (‪ )108( ،)107( ،)106‬ينادي ال تعالى عباده المؤمنين فيقول‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا شهادة‬ ‫بينكم إذ حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} أي ليشهد اثنان {ذوا عدل منكم }‬ ‫أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة‪ ،‬أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير‬ ‫المسلمين {إن أنتم ضربتم في الرض} أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في‬ ‫السفر إل كافر‪ ،‬فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين‪ :‬في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى‬ ‫البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما‪ :‬فتى من بني سهم‬ ‫فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما (إناء) من فضة‬ ‫مخوصا بالذهب فاستحلفهما رسول ال صلى ال عليه وسلم "ما كتمتما ول أطلعتما" ثم وجد الجام‬ ‫بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلن من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي‬

‫ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال‪ :‬فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الية‪.‬‬ ‫"لفظ الدار قطني"والظاهر أن استحلف الرسول صلى ال عليه وسلم لهما‪ :‬كان بعد نزول الية‬ ‫مبيّنة طريق الحكم في هذه القضية فاتبعها الرسول صلى ال عليه وسلم وحكم بينهم بما في الية‬ ‫نصّا وروحا وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي غير مشوّه بالتغيير والتبديل والنقص والزيادة‪ ،‬والتعبير بالوجه شائع يقال‪ :‬جاء بالشيء‬ ‫الفلني على وجهه أي‪ :‬من كمال أحواله‪.‬‬

‫( ‪)2/24‬‬ ‫شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بال فيقولن‬ ‫وال ل نشتري بأيماننا ثمنا قليلً‪ ،‬ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة‪{ ،‬ول‬ ‫نكتم شهادة ال‪ ،‬إنا إذا} أي إذا كتمنا شهادة ال {لمن الثمين} {فإن عثر على أنهما استحقا إثما}‬ ‫أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن‬ ‫وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه‪{ ،‬فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم‬ ‫الوليان} ‪ 1‬فيقسمان بال قائلين وال‪ :‬لشهادتنا أحق من شهادتهما أي ليماننا أصدق وأصح من‬ ‫أيمانهما‪{ ،‬وما اعتدينا} أي عليهما باتهام باطل‪ ،‬إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين‪ ،‬فإذا حلفا هذه‬ ‫اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند‬ ‫الموت‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة‬ ‫عادلة ل حيف فيها ول جور وقوله {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}‪ ،‬أي وأقرب إلى أن‬ ‫يخافوا أن ترد أيمانهم فل يكذبوا خوف الفضيحة‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬واتقوا ال} أي خافوه أيها‬ ‫المؤمنون فل تخرجوا عن طاعته‪{ ،‬واسمعوا} ما تؤمرون به واستجيبوا ل فيه‪ ،‬فإن ال ل يهدي‬ ‫إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته‪ ،‬فاحذروا الفسق واجتنبوه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫ا‪ -‬مشروعية الوصية في الحضر والسفر معا‪ ،‬والحث عليها والترغيب فيها‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الشهاد على الوصية‪.‬‬ ‫‪ -3‬يجوز شهادة غير المسلم ‪ 2‬على الوصية إذا تعذر وجود مسلم ‪.3‬‬ ‫‪ - 4‬استحباب الحلف بعد صلة العصر تغليظا في شأن اليمين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬واحد الوليان‪ :‬الولى بمعنى الجدر والحق‪ ،‬وعرفا باللّم العهدية لنه معهود للمخاطب ذهنا‪،‬‬ ‫والوليان‪ :‬الحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت‪ ،‬قال أهل العلم إن هذه الية في غاية الصعوبة‬

‫إعرابا ونظما وحكما‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا بناء على أن الية غير منسوخة وهو قول القلية كأحمد بن حنبل رحمة ال تعالى وهو‬ ‫الراجح والية دللتها قوية عليه‪ ،‬وأما التخوف من قوله تعالى‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} فل‬ ‫داعي إليه مع وجود ضرورة السفر وانعدام وجود المسلم‪ ،‬كما ل محذور من تحليف الشاهد إذا‬ ‫حامت حوله ريبة أو شك في عدالته لسيما في ظروف تقل فيها العدالة لفساد أحوال الناس‪ .‬ولهذا‬ ‫ذهبت في تفسير الية على أنها محكمة والعمل بها جائر‪.‬‬ ‫‪ 3‬وممن قال بعدم نسخ هذه الية وأنها محكمة والعمل بها من الصحابة‪ :‬أبو موسى الشعري‬ ‫وقضى بها‪ ،‬وعبدال بن قيس‪ ،‬وعبدال بن عباس‪ ،‬ومن التابعين سعيد بن المسيب‪ ،‬وسعيد بن‬ ‫جبير‪ ،‬وإبراهيم النخعي وغيرهم‪ ،‬ومن الئمة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحم ال الجميع‪.‬‬

‫( ‪)2/25‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم‪.‬‬ ‫سلَ فَ َيقُولُ مَاذَا ُأجِبْتُمْ قَالُو ْا لَ عِ ْلمَ لَنَا إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ(‪ِ )109‬إذْ قَالَ اللّهُ يَا‬ ‫ج َمعُ اللّهُ الرّ ُ‬ ‫َيوْمَ يَ ْ‬ ‫ك وَعَلَى وَالِدَ ِتكَ ِإذْ أَيّد ّتكَ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ ُتكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َم ْهدِ‬ ‫عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ ا ْذكُرْ ِن ْعمَتِي عَلَ ْي َ‬ ‫ل وَإِذْ َتخْلُقُ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ بِِإذْنِي فَتَنفُخُ‬ ‫ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَاةَ وَالِنجِي َ‬ ‫عّلمْ ُتكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ‬ ‫ل وَإِذْ َ‬ ‫َو َكهْ ً‬ ‫ل ْكمَ َه وَالَبْ َرصَ بِِإذْنِي وَِإذْ تُخْرِجُ ا ْلمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ َك َففْتُ بَنِي‬ ‫فِيهَا فَ َتكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِى ُء ا َ‬ ‫سحْرٌ مّبِينٌ(‪ )110‬وَإِذْ َأوْحَ ْيتُ‬ ‫إِسْرَائِيلَ عَنكَ ِإذْ جِئْ َتهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِ ْنهُمْ إِنْ هَذَا ِإلّ ِ‬ ‫ش َهدْ بِأَنّنَا مُسِْلمُونَ(‪)111‬‬ ‫حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَاُلوَاْ آمَنّا وَا ْ‬ ‫إِلَى الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يوم ‪ 1‬يجمع ال الرسل ‪ :‬أي اذكر يوم يجمع ال الرسل وذلك ليوم القيامة‪.‬‬ ‫الغيوب‪ :‬جمع غيب‪ :‬وهو ما غاب عن العيون فل يدرك بالحواس‪.‬‬ ‫أيدتك ‪ :‬قويتك ونصرتك‪.‬‬ ‫بروح القدس ‪ :‬جبريل عليه السلم‪.‬‬ ‫المهد‪ :‬سرير الطفل الرضيع‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وجه اتصال هذه الية بسابق‬ ‫تها ظاهر‪ ،‬إذ أمرهم تعالى في الية الولى بالتقوى والسمع والطاعة لوامره ونواهيه‪ ،‬وذكّرهم‬ ‫في هذه الية بأهوال يوم القيامة ليكرر ذلك حافزا لهم على التقوى مقوّيا لهم على السمع‬ ‫والطاعة‪.‬‬

‫( ‪)2/26‬‬ ‫الكهل ‪ :‬من تجاوز سن الشباب أي ثلثين سنة‪.‬‬ ‫الكتاب ‪ :‬الخط والكتابة‪.‬‬ ‫والحكمة ‪ :‬فهم أسرار الشرع‪ ،‬والصابة في المور كلها‪.‬‬ ‫تخلق كهيئة الطير‪ :‬أي توجد وتقدر هيئة كصورة الطير‪.‬‬ ‫الكمه والبرص‪ :‬الكمه‪ :‬من ولد أعمى‪ ،‬والبرص‪ :‬من به مرض البرص‪.‬‬ ‫تخرج الموتى ‪ :‬أي أحياء من قبورهم‪.‬‬ ‫كففت ‪ :‬أي منعت‪.‬‬ ‫الحواريون‪ :‬جمع حواري‪ :‬وهو صادق الحب في السر والعلن‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يحذر ال تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الخر يوم يجمع ‪ 1‬الرسل عليهم السلم‬ ‫ويسألهم وهو أعلم بهم‪{ :‬فيقول‪ :‬ماذا أجبتم؟} أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون‬ ‫ويفوضون المر إليه تعالى ويقولون‪{ :‬ل علم لنا ‪ :2‬انك أنت علم الغيوب}‪ ،‬إذا كان هذا حال‬ ‫الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلم من بين الرسل بالكلم في هذا‬ ‫الموقف العظيم‪ ،‬لن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى‪،‬‬ ‫والنصارى ادعوا أنه ال وابن ال‪ ،‬فخاطبه ال تعالى وهم يسمعون‪{ :‬يا عيسى بن مريم اذكر‬ ‫نعمتي عليك وعلى والدتك} فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي‪ ،‬وذكر له أنواع نعمه عليه فقال‪{ :‬إذ‬ ‫أيدتك ‪ 3‬بروح القدس}‪ ،‬جبريل عليه السلم {تكلم الناس في المهد} وأنت طفل‪ .‬إذ قال وهو في‬ ‫مهده {إني عبدال آتاني الكتاب وجعلني نبيا‪ ،‬وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلة والزكاة‬ ‫ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلم علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث‬ ‫حيا} وقوله {وكهلً} أي وتكلمهم وأنت كهل أيضا وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ول يموت‬ ‫صغيرا وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬يومَ} منصوب على الظرفية معمول لـ اسمعوا لفعل محذوف يقدّر بـ اذكروا‪ ،‬أو اسمعوا‪ ،‬أو‬ ‫احذروا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ل علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا‪ ،‬وشهد له حديث الصحيح‪" :‬يرد على أقوام الحوض‬ ‫فيختلجون فأقول‪ :‬أمتي فيقال‪ :‬إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك"‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬قويتك مأخوذ من اليد الذي هو القوة ومنه قوله تعالى‪{ :‬والسماء بنيناها بأيد}‪.‬‬

‫( ‪)2/27‬‬

‫فيقول‪{ :‬وإذ علمتك الكتاب والحكمة}‪ ،‬فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة‪ ،‬وعلمتك التوراة‬ ‫كتاب موسى عليه السلم والنجيل الذي أوحاه إليه {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني}‬ ‫فيكون طيرا بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيرا‬ ‫فأخذت طينا وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائرا‪ ،‬واذكر‬ ‫أيضا {إذ تبرىء الكمة} وهو العمى الذي ل عينين له‪{ ،‬والبرص بإذني} أي بعوني لك‬ ‫وإقداري لك على ذلك {وإذ تخرج الموتى} من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه السلم عددا من‬ ‫الموات بإذن ال تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حيا‬ ‫من قبره وهم ينظرون‪ ،‬واذكر {إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات ‪ }1‬فكذبوك وهموا‬ ‫بقتلك وصلبك‪{ ،‬فقال الذين كفروا منهم إن هذا إل سحر مبين}‪ .‬واذكر {إذ أوحيت إلى الحواريين‬ ‫‪ }2‬على لسانك {أن آمنوا بي وبرسولي} أي بك يا عيسى {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} أي‬ ‫منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الستعداد لذلك اليوم بتقوى ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان إكرام ال تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والنعام‪.‬‬ ‫‪ -5‬ثبوت معجزات عيسى عليه السلم وتقريرها‪.‬‬ ‫سمَاء قَالَ ا ّتقُواْ‬ ‫حوَارِيّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ َهلْ َيسْتَطِيعُ رَ ّبكَ أَن يُنَ ّزلَ عَلَيْنَا مَآئِ َدةً مّنَ ال ّ‬ ‫إِذْ قَالَ ا ْل َ‬ ‫اللّهَ إِن كُنتُم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي ‪ :‬الدللت والمعجزات وهي المذكورة في هذه اليات من إبراء الكمه والبرص وإحياء‬ ‫الموتى‪.‬‬ ‫‪ 2‬الوحي يكون بمعنى اللهام لغير الرسول أمّا الرسول فطرق الوحي إليهم جاءت في آخر سورة‬ ‫الشورى‪.‬‬

‫( ‪)2/28‬‬ ‫ص َدقْتَنَا وَ َنكُونَ عَلَ ْيهَا مِنَ‬ ‫طمَئِنّ قُلُوبُنَا وَ َنعْلَمَ أَن قَ ْد َ‬ ‫ّم ْؤمِنِينَ(‪ )112‬قَالُواْ نُرِيدُ أَن نّ ْأ ُكلَ مِ ْنهَا وَتَ ْ‬ ‫سمَاء َتكُونُ لَنَا عِيدا لَّأوّلِنَا‬ ‫الشّا ِهدِينَ(‪ )113‬قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْ َيمَ الّلهُمّ رَبّنَا أَن ِزلْ عَلَيْنَا مَآئِ َدةً مّنَ ال ّ‬

‫ك وَارْ ُزقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ(‪ )114‬قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزُّلهَا عَلَ ْيكُمْ َفمَن َي ْكفُرْ َبعْدُ‬ ‫وَآخِرِنَا وَآيَةً مّن َ‬ ‫عذّبُهُ َأحَدًا مّنَ ا ْلعَاَلمِينَ(‪)115‬‬ ‫مِنكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَابًا لّ أُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫هل يستطيع‪ :‬هل يطيع ويرضى‪.‬‬ ‫مائدة من السماء ‪ :‬المائدة‪ :‬الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام‪.‬‬ ‫وتطمئن قلوبنا ‪ :‬أي تسكن بزيادة اليقين فيها‪.‬‬ ‫ونكون عليها من الشاهدين ‪ :‬أي نشهد أنها نزلت من السماء‪.‬‬ ‫عيدا ‪ :‬أي يوما يعود علينا كل عام نذكر ال تعالى فيه ونشكره‪.‬‬ ‫وآية منك‪ :‬علمة منك على قدرتك ورحمتك‪ ،‬ونبوة نبيك‪.‬‬ ‫فمن يكفر بعد منكم‪ : :‬فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة‪.‬‬ ‫أحدا من العالمين‪ :‬أي من الناس أجمعين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر {إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا‬ ‫آمنا واشهد بأننا مسلمون}‪{ ،‬إذ قال الحواريون}‪{ :‬هل يستطيع ‪ 1‬ربك أن ينزل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة‪{ :‬هل يستطيع ربك‪ }..‬كيف يقول هذا أنصار‬ ‫ال الحواريون وهو دالّ دللة واضحة على جهل بال تعالى وعدم معرفة الدب مع نبيّه عيسى‬ ‫عليه السلم‪ ،‬فمن قائل‪ :‬أنّ يستطيع بمعنى‪ :‬يطيع أي‪ :‬هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل‪ :‬إن‬ ‫قراءة (هل يستطيع) بالتاء‪ ،‬وربك معمول أي‪ :‬هل تقدر على سؤال ربّك أن ينزل الخ ومن قائل‬ ‫إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا‪ ،‬ومن قائل‪ :‬أن هذا صدر ممن كان مع الحواريين‬ ‫ولم يكن من الحواريين‪ ،‬وما ذكرته في التفسير أولى لنسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم‪:‬‬ ‫اتقوا ال‪ ،‬وقولهم‪ :‬ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بال ومقام عيسى عليه السلم‪ ،‬وقد يكون‬ ‫أصحاب هذا القول ليسوا من فضلء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪:‬اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه السلم‪ :‬اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وال‬ ‫أعلم‪.‬‬

‫( ‪)2/29‬‬ ‫علينا مائدة من السماء؟} ولما كان قولهم هذا دالً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم‬ ‫قال لهم عيسى عليه السلم {اتقوا ال إن كنتم مؤمنين} فل تقولوا مثل هذا القول‪ .‬فاعتذروا عن‬ ‫قيلهم الباطل {قالوا‪ :‬نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا‪ ،‬ونعلم أن قد صدقتنا‪ ،‬ونكون عليها من‬

‫الشاهدين} أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلم داعيا ربه ضارعا‬ ‫إليه {اللهم} أي يا ال {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء‪ ،‬تكون لنا عيدا لولنا}) أي للموجودين‬ ‫الن منا {وآخرنا} أي ولمن يأتون بعدنا‪{ ،‬وآية منك}‪ ،‬أي وتكون آية منك أي علمة على‬ ‫وحدانيتك وعظيم قدرتك‪ ،‬وعلى صدقي في إرسالك لي رسولً إلى بني إسرائيل‪{ ،‬وارزقنا} وأدم‬ ‫علينا رزقك وفضلك {وأنت خير الرازقين}‪ ،‬فأجابه تعالى قائل‪{ :‬إني منزلها عليكم}‪ ،‬وحقا قد‬ ‫أنزلها ‪{ ،1‬فمن يكفر بعد منكم} يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة‬ ‫رسولي‪ ،‬أو عظيم قدرتي {فإني أعذبه عذابا ل أعذبه أحدا من العالمين} ‪ ،‬ولذا مسخ من كفروا‬ ‫منهم قردة وخنازير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى {اذهب أنت وربك فقاتل إنا‬ ‫ها هنا قاعدون} وقالوا لعيسى {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء}‪.‬‬ ‫‪ -2‬في قول عيسى لهم {اتقوا ال} دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم ‪{ :‬ونعلم أن قد‬ ‫صدقتنا} دال على شكهم وارتيابهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية العياد الدينية لعبادة ال بالصلة والذكر شكرا ل تعالى وفي السلم عيدان‪:‬‬ ‫الضحى والفطر‪.‬‬ ‫‪ -4‬من أشد الناس عذابا يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى الترمذي عن عمار بن ياسر أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬أنزلت المائدة من‬ ‫السماء خبزا ولحما"‪.‬‬

‫( ‪)2/30‬‬ ‫خذُونِي وَُأ ّميَ إَِلهَيْنِ مِن دُونِ الّلهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ‬ ‫وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّ ِ‬ ‫علَمُ مَا فِي‬ ‫مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِن كُنتُ قُلُْتهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعَْلمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَ ْ‬ ‫سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ(‪ )116‬مَا قُ ْلتُ َلهُمْ ِإلّ مَا َأمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُ ْم َوكُنتُ‬ ‫َنفْ ِ‬ ‫شهِيدٌ(‪)117‬‬ ‫شيْءٍ َ‬ ‫شهِيدًا مّا ُد ْمتُ فِيهِمْ فََلمّا َت َوفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ ال ّرقِيبَ عَلَ ْي ِه ْم وَأَنتَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫عَلَ ْيهِمْ َ‬ ‫حكِيمُ(‪ )118‬قَالَ اللّهُ هَذَا َيوْمُ يَنفَعُ‬ ‫ك وَإِن َت ْغفِرْ َلهُمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ‬ ‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ وَ َرضُواْ‬ ‫ن صِ ْد ُقهُمْ َلهُمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا ّر ِ‬ ‫الصّا ِدقِي َ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‬ ‫ن وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َومَا فِيهِ ّ‬ ‫عَنْهُ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ(‪ )119‬لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫‪)120‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إلهين ‪ :‬معبودين يعبدان من دوني‪.‬‬ ‫سبحانك ‪ :‬تنزيها لك وتقديسا‪.‬‬ ‫ما يكون لي‪ :‬ما ينبغي لي ول يتأتى لي ذلك‪.‬‬ ‫شهيدا‪ :‬رقيبا‪.‬‬ ‫الرقيب ‪ :‬الحفيظ‪.‬‬ ‫إن تعذبهم ‪ :‬أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء‪.‬‬ ‫وإن تغفر لهم ‪ :‬أي تستر عليهم وترحمهم بأن تدخلهم جنتك‪.‬‬ ‫العزيز الحكيم‪ :‬العزيز‪ :‬الغالب الذي ل يحال بينه وبين مراده‪ ،‬الحكيم‪ :‬الذي يضع كل شيء في‬ ‫موضعه فيدخل المشرك النار‪ ،‬والموحد الجنة‪.‬‬

‫( ‪)2/31‬‬ ‫الصادقين ‪ :‬جمع صادق‪ :‬وهو من صدق ربه في عبادته وحده‪.‬‬ ‫ورضوا عنه ‪ :‬لنه أثابهم بأعمالهم جنات تجرى من تحتها النهار‪.‬‬ ‫على كل شيء قدير ‪ :‬أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ول يعجزه‬ ‫بحال من الحوال‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقول ال تعالى لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم واذكر لقومك {إذ قال ال ‪ }1‬تعالى يوم يجمع‬ ‫الرسل ويسألهم ماذا أجبتم‪ ،‬ويسأل عيسى بمفرده توبيخا للنصارى على شركهم {يا عيسى بن‬ ‫مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور‬ ‫ويقول منزها ربه تعالى مقدسا {سبحانك ‪ 2‬ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}‪ ،‬ويؤكد تفصيه‬ ‫مما وجه إليه توبيخا لقومه‪{ :‬إن كنت قلته فقد علمته} يا ربي‪ ،‬إنك {تعلم ما في نفسي} فكيف‬ ‫بقولي وعملي‪ ،‬وأنا {ل أعلم ما في نفسك} إل أن تعلمني شيئا‪ ،‬لنك {أنت علم الغيوب} { ما قلت‬ ‫لهم إل ما أمرتني به} أن أقوله لهم وهو {اعبدوا ال ربي وربكم‪ ،‬وكنت عليهم شهيدا‪ }3‬أي رقيبا‬ ‫{فلما توفيتني } برفعي إليك {كنت أنت الرقيب عليهم} ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها‪.‬‬ ‫{وأنت على كل شيء شهيد} رقيب وحفيظ‪{ .‬إن تعذبهم} أي من مات منهم على الشرك بأن تصليه‬ ‫نارك فأنت على ذلك قدير‪{ ،‬وإن تغفر لهم} أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل‬ ‫فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فل ينعم من أشرك به‬ ‫ول يعذب من أطاعه ووحده‪ .‬فأجابه الرب تبارك وتعالى قائل‪{ :‬هذا يوم ‪ 4‬ينفع الصادقين‬ ‫صدقهم}‪ :‬صدقوا ال تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده ل شريك له ولم يشركوا‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا مثل أتى أمر ال أتى بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وكذلك هناك {إذ قال} فهو بمعنى‬ ‫يقول‪ :‬اذكر إذ يقول ال يا عيسى ‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال‪" :‬تلقى عيسى حجته ولقّاه ال في قوله‪{ :‬وإذ قال‬ ‫ال يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميّ إلهين من دون ال} قال أبو هريرة عن‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم فلقاه ال‪{ :‬سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬شهيدا‪ :‬أي رقيبا أراعي أحوالهم وأدعوهم إلى العمل بطاعتك وأنهاهم عن مخالفتك‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ال {هذا يوم ينفع الصادقين‪ }...‬الخ كلم مستأنف ختم به الحديث عما يقع يوم يجمع ال‬ ‫الرسل فذكر ثواب الصادقين وهو الجنة ورضوان ال وهو الفوز العظيم‪.‬‬

‫( ‪)2/32‬‬ ‫سواه‪ .‬ونفعه لهم أن ُأدْخِلُوا به جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ل يخرجون منها أبدا‪،‬‬ ‫مع رضى ال تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم ل يفنى ول يبيد‪{ ،‬ذلك الفوز‬ ‫العظيم} إّنه النّجاة من النار ودخول الجنات‪ .‬وفي الية الخيرة (‪ )120‬يخبر تعالى أن له {ملك ‪1‬‬ ‫السموات والرض وما فيهن} من سائر المخلوقات والكائنات خلقا وملكا وتصرفا يفعل فيها ما‬ ‫يشاء فيرحم ويعذب {وهو على كل شيء قدير ‪ }2‬ل يعجزه شيء في الرض ول في السماء وهو‬ ‫السميع العليم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬براءة عيسى عليه السلم مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة اللهية‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والخرة‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬عليكم بالصدق ‪ 3‬فإنه يدعو إلى‬ ‫البر وأن البر يهدي إلى الجنة‪ ،‬ول يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال‬ ‫صديقا"‪.‬‬ ‫‪ -5‬سؤال غير ال شيئا ضرب من الباطل والشرك‪ ،‬لن غير ال ل يملك شيئا‪ ،‬ومن ل يملك‬ ‫كيف يعطي ومن أين يعطي؟‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذه الية البرهنة الصحيحة على ألوهية ال تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى‬ ‫النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما السلم‪.‬‬

‫‪ 2‬فما تعلقت إرادته بشيء فأراده إل كان كما أراد من سائر الممكنات‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن‪.‬‬

‫( ‪)2/33‬‬ ‫سورة النعام‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة النعام ‪1‬‬ ‫مكية‬ ‫وآياتها خمس وستون ومائة‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫ت وَالنّورَ ُثمّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّبهِم َي ْعدِلُونَ(‪)1‬‬ ‫ج َعلَ الظُّلمَا ِ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ َو َ‬ ‫ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬ ‫الْ َ‬ ‫جلٌ مّسمّى عِن َدهُ ثُمّ أَن ُتمْ َتمْتَرُونَ(‪ )2‬وَ ُهوَ اللّهُ فِي‬ ‫ل وَأَ َ‬ ‫ُهوَ الّذِي خََل َقكُم مّن طِينٍ ثُمّ َقضَى أَجَ ً‬ ‫سمَاوَاتِ َوفِي الَ ْرضِ َيعْلَمُ سِ ّر ُك ْم وَجَه َركُ ْم وَ َيعْلَمُ مَا َت ْكسِبُونَ(‪)3‬‬ ‫ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الحمد ‪ : 2‬الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلل‪.‬‬ ‫خلق ‪:‬أنشأ وأوجد‪.‬‬ ‫يعدلون ‪ :‬يسوون به غيره فيعبدونه معه‪.‬‬ ‫الجل‪ :‬الوقت المحدد لعمل ما من العمال يتم فيه أو ينتهي فيه‪ ،‬والجل الول أجل كل إنسان‪،‬‬ ‫والثاني أجل الدنيا‪.‬‬ ‫تمترون ‪ :‬تشكّون في البعث الخر والجزاء‪ :‬كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون‬ ‫غيره‪.‬‬ ‫وهو ال في السموات ‪ :‬أي معبود في السموات وفي الرض‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى الطبراني عن عبدال بن عمر رضي ال عنهما قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫" نزلت عليّ سورة النعام جملة واحدة وشيّعها سبعون ألفا من الملئكة لهم زجل بالتسبيح‬ ‫والتحميد‪ ،‬وسميت بالنعام لذكر لفظ النعام فيها ست مرّات نزلت بمكة ليلً"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحمد ل‪ :‬تفيد استغراق المحامد ل تعالى إذ ال للستغراق واللّم للستحقاق فجميع المحامد‬ ‫مستحقة ل تعالى‪ ،‬والقصر في الحمد ل قصر إضافي دال على إبطال حمد المشركين للهتهم‬ ‫الباطلة‪.‬‬

‫( ‪)2/34‬‬ ‫ما تكسبون ‪ :.‬أي من خير وشر‪ ،‬وصلح فساد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلل والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك‬ ‫يأمر عباده أن يحمدوه كأنما قال قولوا الحمد ل‪ ،‬ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال‪:‬‬ ‫{الذي خلق السموات ‪ 1‬والرض ‪ 2‬وجعل الظلمات والنور} فالذي أوجد السموات والرض وما‬ ‫فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات ‪ 3‬والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو‬ ‫المستحق للحمد والثناء ل غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناما وأوثانا‬ ‫ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!!‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )1‬أما الية الثانية (‪ )2‬فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخا لهم‬ ‫على جهلهم منددا بباطلهم فيقول‪{ :‬هو الذي خلقكم من ‪ 4‬طين} لن آدم أباهم خلقه من طين ثم‬ ‫تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين‪ ،‬ثم‬ ‫قضى لكلٍ أجلً وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده‬ ‫معروف له ل يعرفه غيره ول يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه‪ ،‬ثم أنتم أيها المشركون الجهلة‬ ‫تشكّون في وجوب توحيده‪ ،‬وقدرته على إحيائكم بعد موتكم ‪ 5‬لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم‬ ‫خيره وشره‪ ،‬حسنه وسيئه‪ ،‬وفي الية الثالثة (‪ )3‬يخبر تعالى أنه هو ال المعبود بحق في‬ ‫السموات ‪ 6‬وفي الرض ل إله غيره ول رب سواه {يعلم‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬الذي خلق السموات والرض وجعل الظلمات والنور} هاتان الجملتان هما مقتضيات الحمد ل‬ ‫وموجباته له تعالى‪ ،‬إذ من أوجد الكون كلّه وهو جواهر وإعراض‪ ،‬فالجواهر السموات والرض‬ ‫وما فيهما وما بينهما‪ ،‬والعراض الظلمة والنور هو المستحق للعبادة دون غيره فأبطل بهذا عبادة‬ ‫الجسام كالصنام والملئكة والنبياء‪ ،‬وعبادة العراض كالظلمة والنور إلها المانوية‪.‬‬ ‫‪ 2‬الرض‪ :‬اسم جنس‪ ،‬فالمراد بالرض‪ :‬الرضون السبع كالنور اسم جنس والمراد به كل نور‪.‬‬ ‫‪ 3‬من رشاقة الكلم جعل خلق للجسام وجعل للعراض في قوله‪{ :‬خلق السموات والرض وجعل‬ ‫الظلمات والنور}‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال القرطبي هل في هذه الية دليل على أنّ الجواهر من جنس واحد؟ الجواب‪ :‬نعم لنّه إذا‬ ‫جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر إذ‬ ‫صح انقلب الجماد إلى حيوان بدللة هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 5‬ذكره تعالى أصل خلق الناس من طين فيه إشارة إلى الردّ على منكري البعث المحتجين على‬

‫عدم إمكان الحياة الخرة بكونهم بعد الموت يصيرون ترابا‪ ،‬وجهلوا أن صيرورتهم إلى تراب هو‬ ‫دليل إعادتهم إلى خلقهم من جديد إذ عادوا إلى أصل خلقهم ليعودوا إلى حياة أكمل من حياتهم‬ ‫الولى‪.‬‬ ‫‪ 6‬قال القرطبي في تفسير هذه الية‪{ :‬وهو ال في السموات وفي الرض} أي‪ :‬وهو ال المعظّم‬ ‫والمعبود في السموات وفي الرض كما تقول‪ :‬زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه‪.‬‬

‫( ‪)2/35‬‬ ‫سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} من خير وشر فهو تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ويعلم سر‬ ‫عباده وجهرهم ويعلم أعمالهم وما يكتسبون بجوارحهم يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور‪ ،‬لذا‬ ‫وجبت الرغبة فيما عنده من خير‪ ،‬والرهبة مما لديه من عذاب‪ ،‬ويحصل ذلك لهم بالنابة إليه‬ ‫وعبادته والتوكل عليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب حمد ال تعالى والثناء عليه بما هو أهله‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عز وجل في العبادة‪.‬‬ ‫‪ -4‬التعجب من حال من يرى عجائب صنع ال ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الخرة‪.‬‬ ‫‪ -5‬صفة العلم ل تعالى وأنه تعالى ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء يعلم السر‬ ‫وأخفى‪.‬‬ ‫س ْوفَ‬ ‫َومَا تَأْتِيهِم مّنْ آ َيةٍ مّنْ آيات رَ ّبهِمْ ِإلّ كَانُواْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ(‪َ )4‬فقَدْ كَذّبُواْ بِا ْلحَقّ َلمّا جَاء ُهمْ فَ َ‬ ‫يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْ ِزؤُونَ(‪ )5‬أَلَمْ يَ َروْاْ َكمْ أَهَْلكْنَا مِن قَبِْلهِم مّن قَرْنٍ ّمكّنّاهُمْ فِي الَ ْرضِ مَا‬ ‫جعَلْنَا الَ ْنهَارَ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِمْ فَأَ ْهَلكْنَاهُم ِبذُنُو ِبهِمْ‬ ‫سمَاء عَلَ ْيهِم مّدْرَارًا وَ َ‬ ‫لَمْ ُن َمكّن ّل ُك ْم وَأَرْسَلْنَا ال ّ‬ ‫وَأَنْشَأْنَا مِن َبعْدِ ِهمْ قَرْنًا آخَرِينَ(‪)6‬‬

‫( ‪)2/36‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من آية ‪ :‬المراد بالية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد ال تعالى واليمان برسوله ولقائه‬ ‫يوم القيامة‪.‬‬ ‫معرضين ‪ :‬غير ملتفتين إليها ول مفكرين فيها‪.‬‬

‫الحق ‪ :‬الحق هنا هو النبي صلى ال عليه وسلم وما جاء به من الدين الحق‪.‬‬ ‫أنباء ‪ :‬أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪.‬‬ ‫من قرن‪ :‬أي أهل قرن من المم السابقة‪ ،‬والقرن مائة سنة‪.‬‬ ‫مكنا لهم في الرض ‪ :‬أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلء المشركين‪.‬‬ ‫مدرارا ‪ :‬مطرا متواصلً غزيرا‪.‬‬ ‫بذنوبهم‪ :‬أي بسبب ذنوبهم وهي معصية ال ورسله‪.‬‬ ‫وأنشأنا‪ :‬خلقنا بعد إهلك الولين أهل قرن آخرين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم‪:‬‬ ‫وما تأتيهم ‪ 1‬من آية من آيات ربهم التي ‪ 2‬يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم‪ ،‬إل‬ ‫قابلوها بالعراض التام‪ ،‬وعدم اللتفات إلى ما تحمله من هدى ونور‪ ،‬وسبب ذلك أنهم قد كذبوا‬ ‫بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى‪ ،‬وبناء على ذلك {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا‬ ‫به يستهزئون} وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا‪ ،‬وأول عذاب‬ ‫نزل بهم هزيمتهم يوم بدر‪ ،‬ثم القحط سبع سنين‪ ،‬ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في‬ ‫نار جهنم أبدا‪ ،‬ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون وقوله تعالى‪{ :‬ألم يروا كم‬ ‫أهلكنا من ‪ 3‬قبلهم من قرن} أي كثيرا من أهل القرون‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬من آية من آيات ربهم} من الولى لستغراق الجنس‪ ،‬ومن الثانية للتبعيض‪.‬‬ ‫‪ 2‬وجائز أن يراد بالية أيضا المعجزة كانشقاق القمر ونحوها‪.‬‬ ‫‪ 3‬القرد‪ :‬المّة من الناس‪ ،‬وا لجمع‪ :‬قرون قال الشاعر‪:‬‬ ‫خّلفْتَ في قرن فأنت غريب‪.‬‬ ‫إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم ‪ ...‬و ُ‬ ‫فالقرن‪ :‬كل عالم في عصره مأخوذ من القتران أي عالم مقترن بعضهم ببعض وفي الحديث‪:‬‬ ‫"خير الناس قرني‪ "..‬ويطلق القرن على المائة سنة‪ ،‬إذ قال النبي صلى ال عليه وسلم لعبد ال بر‬ ‫بشر "تعيش قرنا" فعاش مائة سنة وقرن الشاة معروف‪.‬‬

‫( ‪)2/37‬‬ ‫الماضية مكن ال تعالى لهم في الرض من الدولة والسلطان والمال والرجال ما لم يمكن لهؤلء‬ ‫المشركين من كفار قريش‪ ،‬وأرسل على أولئك الذين مكن لهم السماء ‪ 1‬مدرارا بغزير ‪ 2‬المطر‬ ‫وجعل لهم في أرضهم النهار تجري من تحت أشجارهم وقصورهم‪ ،‬فلما أنكروا توحيدي وكذبوا‬ ‫رسولي‪ ،‬وعصوا أمري {فأهلكناهم بذنويهم} ‪ ،‬ل ظلما منا ولكن بظلمهم هم لنفسهم‪ ،‬وأوجدنا‬

‫بعدهم قوما آخرين‪ ،‬وكان ذلك علينا يسيرا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التكذيب بالحق هو سبب العراض عنه فلو آمنوا به لقبلوا عليه‪.‬‬ ‫‪ -2‬الستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه‪.‬‬ ‫‪ -3‬العبرة بهلك الماضين‪ ،‬ومصارع الظالمين‪.‬‬ ‫‪ -4‬هلك المم كان بسبب ذنوبهم‪ ،‬فما من مصيبة إل بذنب ‪.3‬‬ ‫وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابًا فِي قِ ْرطَاسٍ فََلمَسُوهُ بِأَيْدِي ِهمْ َلقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ هَذَا ِإلّ سِحْرٌ مّبِينٌ(‪َ )7‬وقَالُواْ‬ ‫جعَلْنَاهُ رَجُلً‬ ‫جعَلْنَاهُ مََلكًا لّ َ‬ ‫ضيَ المْرُ ُث ّم لَ يُنظَرُونَ(‪ )8‬وََلوْ َ‬ ‫َلوْل أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ مََلكٌ وََلوْ أَنزَلْنَا مََلكًا ّلقُ ِ‬ ‫سلٍ مّن قَبِْلكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِ ْنهُم مّا كَانُواْ ِبهِ‬ ‫وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ(‪ )9‬وََلقَدِ اسْ ُتهْزِىءَ بِرُ ُ‬ ‫يَسْ َتهْ ِزؤُونَ(‪)10‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} عبر عن المطر بالسماء لنّه منها ينزل قال الشاعر‪:‬‬ ‫إذا سقط السماء بأرض قوم ‪ ...‬رعيناها وإن كانوا غضابا‬ ‫‪2‬مدرارا ‪ :‬بناء دال على الكثرة نحو امرأة مذكار إذا كثر أولدها الذكور وهم مشتق من درّت‬ ‫الشاة إذا أقبل لبنها على الحالب لها بكثرة‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده من القرآن الكريم ‪ :‬قول تعالى ‪{ :‬وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن‬ ‫كثير}‪.‬‬

‫( ‪)2/38‬‬ ‫ُقلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ ثُمّ انظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ(‪)11‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫قرطاسا‪ :‬القرطاس‪ :‬ما يكتب عليه جلدا أو كاغدا‪.‬‬ ‫لمسوه بأيديهم ‪ :‬مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه‪.‬‬ ‫ملك ‪ :‬الملك أحد الملئكة‪.‬‬ ‫لقضي المر‪ :‬أي أهلكوا وانتهت حياتهم‪.‬‬ ‫ل ينظرون ‪ :‬ل يمهلون‪.‬‬ ‫ولو جعلناه ملكا‪ :‬ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا لنكارهم البشر‪.‬‬ ‫لبسنا‪ :‬خلطنا عليهم‪.‬‬ ‫استهزىء‪ :‬سخر وتهكم واستخف‪.‬‬

‫حاق بهم ‪ :‬نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا‪.‬‬ ‫معنى اليات‬ ‫مازال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند ال‬ ‫يقول تعالى‪{ :‬ولو نزلنا عليك} أيها الرسول {كتابا} أي مكتوبا في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلً‬ ‫من السماء ‪ 1‬ولمسوه بأيديهم ولمسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا‪{ :‬إن هذا إل سحر مبين}‪ .‬أي‬ ‫سحر واضح سحركم به محمد صلى ال عليه وسلم وإل كيف ينزل الكتاب من السماء‪{ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫لول أنزل ‪ 2‬عليه ملك} أي هل أنزل عليه‪ ،‬لم ل ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي ال‬ ‫ورسوله‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬ولو أنزلنا ملكا}‪ ،‬وليس من شأن ال أن ينزل الملئكة ولو أنزل ملكا‬ ‫فكذبوه لهلكهم‪ ،‬إذ الملئكة ل تنزل إل لحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلكهم‬ ‫وقطع دابرهم وهذا ما ل يريده ال تعالى لهم‪ .‬وقوله ‪{ :‬ثم ل ينظرون} أي ل يمهلون ولو ساعة‬ ‫ليتوبوا أو يعتذروا مثلً‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ولو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس‪ :‬كتابا معلقّا بين السماء والرض يشاهدونه‪ .‬أمّا إنزال الوحي فهو حاصل وأبوا‬ ‫أن يؤمنوا به‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا اقتراح منهم حملهم عليه الكبر والعناد‪.‬‬

‫( ‪)2/39‬‬ ‫جعلناه ملكا} أي الرسول ملكا لقالوا كيف نفهم عن الملك ونحن ‪ 1‬بشر فيطالبون بأن يكون بشرا‬ ‫وهكذا كما قال تعالى‪{ :‬ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلً‪ ،‬وللبسنا عليهم} خلطنا وشبهنا ما يخلطون‬ ‫على أنفسهم ويشبهون‪ .‬ثم أخبر تعالى رسوله مسليا له قائلً {ولقد استهزئ ‪ 2‬برسل من قبلك} كما‬ ‫استهزيء بك فاصبر‪ ،‬فقد حاق بالمستهزئين ما كانوا به يستهزئون‪ ،‬كانوا إذا خوفهم الرسل عذاب‬ ‫ال سخروا منهم واستخفوا بهم وبالعذاب الذي خوفوهم به‪ ،‬ثم أمر ال تعالى رسوله محمدا صلى‬ ‫ال عليه وسلم أن يقول لولئك المستهزئين بما يعدهم من عذاب ربهم وهم أكابر مجرمي قريش‪:‬‬ ‫ل لتقفوا على ديار ثمود‪ ،‬أو غربا‬ ‫{قل سيروا ‪ 3‬في الرض} جنوبا لتقفوا على ديار عاد أو شما ً‬ ‫لتقفوا على بحيرة لوط فتعرفوا {كيف كان عاقبة المكذبين} من أمثالكم لعلكم تحققون من طغيانكم‬ ‫وتكذيبكم فيسهل عليكم الرجوع‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليات بمعنى المعجزات والخوارق ل تستلزم اليمان بل قد تكون سببا للكفر والعناد‪ ،‬ولذا لم‬ ‫يستجب ال لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه به هن اليات‪.‬‬

‫‪ -2‬إنكار رسالة البشر عام في كل المم وقالوا ما هذا إل بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن‬ ‫إرسال الملئكة ل يتم معه هدف لعدم قدرة النسان على التلقي عن الملئكة والتفاهم معهم‪ ،‬ولو‬ ‫أنزل ال ملكا رسولً لقالوا نريده بشرا مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬الستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية ل تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر‬ ‫على ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬عاقبة التكذيب والستهزاء هلك المكذبين المستهزئين‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية زيارة القبور للوقوف ‪ 4‬على مصير النسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف‬ ‫شهوة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لنّ سنة ال تعالى في التفاهم أن تكون بين متجانسين كإنسان مع إنسان أو حيوان مع حيوان‬ ‫أمّا ملك مع إنسان أو إنسان مع حيوان فل ل‪.‬‬ ‫‪ 2‬في هذه الية تعزية للرسول صلى ال عليه وسلم وتسلية له ليصبر على ما يلقيه من قومه من‬ ‫سخرية واستهزاء وعناد ومكابرة‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال القرطبي‪ :‬هذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل العتبار بآثار من خل من المم وأهل‬ ‫الديار‪ ،‬وأقول على شرط أن يدخلوا تلك الديار باكين أو متباكين ل ضاحكين غافلين لهين بأنواع‬ ‫الطعام والشراب‪.‬‬ ‫‪ 4‬أخذا من قول تعالى في الية‪{ :‬قل سيروا في الرض} وشاهده من السنة قوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم في السنة الصحيحة‪" :‬كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور أل فزوروها فإنها تذكركم الخرة"‪.‬‬

‫( ‪)2/40‬‬ ‫الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها وهو سبب الظلم والفساد‪.‬‬ ‫ج َمعَ ّنكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة لَ‬ ‫حمَةَ لَيَ ْ‬ ‫علَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ قُل لِّلهِ كَ َتبَ َ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫قُل ّلمَن مّا فِي ال ّ‬ ‫سمِيعُ‬ ‫ل وَال ّنهَا ِر وَ ُهوَ ال ّ‬ ‫سكَنَ فِي اللّ ْي ِ‬ ‫سهُمْ َفهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )12‬وَلَهُ مَا َ‬ ‫خسِرُواْ أَنفُ َ‬ ‫رَ ْيبَ فِيهِ الّذِينَ َ‬ ‫ط َعمُ ُقلْ إِ ّنيَ ُأمِ ْرتُ‬ ‫طعِمُ وَلَ يُ ْ‬ ‫ض وَ ُهوَ يُ ْ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬ ‫ا ْلعَلِيمُ(‪ُ )13‬قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا فَاطِرِ ال ّ‬ ‫عذَابَ َيوْمٍ‬ ‫عصَ ْيتُ رَبّي َ‬ ‫أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ َأسْلَ َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركَينَ(‪ُ )14‬قلْ إِ ّنيَ َأخَافُ إِنْ َ‬ ‫ح َم ُه وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ(‪)16‬‬ ‫عَظِيمٍ(‪ )15‬مّن ُيصْ َرفْ عَ ْنهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ رَ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كتب على نفسه الرحمة ‪ :‬أي أوجب على نفسه رحمة خلقه‪.‬‬ ‫ل ريب فيه ‪ :‬ل شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له‪.‬‬ ‫خسروا أنفسهم ‪ :‬حيث لوثوها بأوضار الشرك والمعاصي فلم ينتفعوا بها‪.‬‬

‫وله ما سكن في الليل والنهار‪ :‬أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء‪.‬‬ ‫وليا‪ :‬أحبه وأنصره واطلب نصرته ومحبته ووليته‪.‬‬ ‫من يصرف عنه ‪ :‬أي من العذاب بمعنى يبعد عنه‪.‬‬ ‫الفوز المبين ‪ :‬أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله‬

‫( ‪)2/41‬‬ ‫سلهم قائلً‪{ :‬لمن ‪ 1‬ما في السموات والرض} خلقا وإيجادا أو ملكا وتصرفا وتدبيرا‪ ،‬واسبقهم إلى‬ ‫الجواب فقل ل‪ ،‬إذ ليس لهم من جواب إل هذا‪{ :‬ل}‪ ،‬أي هو ال الذي {كتب ‪ 2‬على نفسه الرحمة}‬ ‫قضى بها وأوجبها على نفسه‪ ،‬ومظاهرها متجلية في الناس‪ :‬إنهم يكفرونه ويعصونه وهو يطعمهم‬ ‫ويسقيهم ويكلؤهم ويحفظهم‪ ،‬وما حمدوه قط‪ .‬ومن مظاهر رحمته جمعه الناس ليوم القيامة‬ ‫ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم الحسنة بعشر أمثالها أما السيئة فبسيئة مثلها فقط وهو ما دل عليه قوله‪:‬‬ ‫{ليجمعنكم ‪ 3‬إلى يوم القيامة ل ريب فيه} أي الكائن التي بل ريب ول شك‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬الذين‬ ‫خسروا أنفسهم فهم ل يؤمنون} يخبر تعالى أنّ الذين كتب خسرانهم أزلً في كتاب المقادير فهم‬ ‫لذلك ل يؤمنون رما كتب أزلً لعلم تام بموقفهم هذا الذي هم وافقوه من الكفر والعناد والشرك‬ ‫والشر والفساد‪ ،‬بذلك استوجبوا الخسران هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )12‬أما الية الثانية (‬ ‫‪{ )13‬وله ما سكن في الليل والنهار} وهذا تقرير بأنه رب كل شيء والمالك لكل شيء إذ ما هناك‬ ‫إل ساكن ومتحرك وهو رب الجميع‪ ،‬وهو السميع لحوال عباده وسائر مخلوقاته العليم بأفعالهم‬ ‫الظاهرة والباطنة ولذا ل يسأل عما يفعل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن هنا وجب اللجأ إليه‬ ‫والتوكل عليه‪ ،‬والنقياد لمره ونهيه‪ .‬وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )14‬قل أغير ‪ 4‬ال أتخذ وليا‬ ‫طعَم} يأمر تعالى رسوله أن يرد على المشركين‬ ‫طعِم ول يُ ْ‬ ‫فاطر السموات والرض وهو ُي ْ‬ ‫المطالبين منه أن يوافقهم على شركهم ويعبد معهم آلهتهم فيقول‪ :‬أفغير ال فاطر السموات‬ ‫والرض الذي يطعم غيره لفتقاره إليه‪ ،‬ول يطعم ‪ 5‬لغناه المطلق أغيره تعالى أتخذ وليا أعبده‬ ‫كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء تعبدونهم‪ .‬إن هذا لن يكون أبدا كما أمره ربه تعالى أن يقول‬ ‫في صراحة ووضوح‪{ ،‬إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي وجهه ل‪ ،‬وأقبل عليه يعبده‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا حجاج مع المشركين آخر‪ :‬قل لهم لمن ما في السموات والرض؟ فإن قالوا‪ :‬لمن هو؟ قل‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬ولكن ل يقولون إلّ ال‪ ،‬لمعرفتهم أن غير ال ل يخلق ول يرزق ول يملك‪.‬‬ ‫‪ 2‬ولذا لم يعاجلهم بالعقوبة التي يقتضيها كفرهم وعنادهم‪ ،‬روى الشيخان عن أبي هريرة رضي‬

‫ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬إنّ ال لمّا خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق‬ ‫العرش إن رحمتي تغلب غضبي"‪.‬‬ ‫‪ 3‬اللّم‪ :‬للقسم أي‪ :‬وعزتي وجللي ليجمعنكم في يوم القيامة الذي كذّبتم به وهو ل شك فيه‪.‬‬ ‫‪ 4‬الستفهام إنكاري وقدم المفعول الول‪{ :‬أغير ال} لنّه هو المقصود بالنكار‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي يرزُق ول يُرزق كقوله تعالى‪{ :‬ما أريد منهم من رزق ولها أريد أن يطعمون} وقرأ مجاهد‬ ‫وسعيد بن جبير {وهو يُطعم ول يطعم} بفتح العين أي إنّه يُطعم عباده بالرزق وهو ل يطعم‬ ‫لستحالة احتياجه إلى الغذاء كما يحتاجه المخلوقون من عباده‪.‬‬

‫( ‪)2/42‬‬ ‫بما شرع له‪ ،‬ونهاني أن أكون من المشركين بقوله‪{ :‬ول تكونن من المشركين} الذين يعبدون مع‬ ‫ال غيره من مخلوقاته وأمره في الية (‪ )15‬أن يقول للمشركين الراغبين في تركه التوحيد‪{ :‬إني‬ ‫أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ‪ }1‬وهو عذاب يوم القيامة‪ .‬انه عذاب أليم ل يطاق من‬ ‫يصرف ‪ 2‬عنه يومئذ فقد رحمه أي أدخله الجنة والنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم‬ ‫كما قال تعالى {فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز} نعم فاز وأي فوز أكبر من الخلود من‬ ‫العذاب ودخول في دار السلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عموم رحمة ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الزل قبل خلق الخلق‪.‬‬ ‫‪ -3‬ال رب كل شيء ومليكه‪.‬‬ ‫‪ -4‬تحريم ولية غير ال‪ ،‬وتحريم الشرك به تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان الفوز الخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة‪.‬‬ ‫شيْءٍ قَدُيرٌ(‪ )17‬وَ ُهوَ‬ ‫سكَ بِخَيْرٍ َف ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫سْ‬ ‫شفَ لَهُ ِإلّ ُه َو وَإِن َيمْ َ‬ ‫سكَ الّلهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ‬ ‫وَإِن َيمْسَ ْ‬ ‫شهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْ َنكُمْ‬ ‫شهَادةً ُقلِ اللّهِ َ‬ ‫شيْءٍ َأكْبَرُ َ‬ ‫حكِيمُ الْخَبِيرُ(‪ُ )18‬قلْ َأيّ َ‬ ‫ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ وَ ُهوَ ا ْل َ‬ ‫شهَدُ ُقلْ‬ ‫ش َهدُونَ أَنّ مَعَ الّلهِ آِلهَةً أُخْرَى قُل لّ أَ ْ‬ ‫ن لُنذِ َركُم بِ ِه َومَن بَلَغَ أَئِ ّنكُمْ لَتَ ْ‬ ‫حيَ ِإَليّ هَذَا ا ْلقُرْآ ُ‬ ‫وَأُو ِ‬ ‫إِ ّنمَا ُهوَ إِلَهٌ وَاحِ ٌد وَإِنّنِي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ(‪)19‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله‪{ :‬إن عصيت ربي} عوضا عن اسم الجللة (ال) فيه إيماء وإشارة إلى أن عصيان الرب‬ ‫قبيح قبحا أشد من عصيان المعبود‪ ،‬لن الربّ هو المليك المربي المتولي الحافظ الولي فعصيان‬

‫من يربّي ويرزق قبيح جدا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي ‪ :‬من يصرف ال عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه فأدخله جنّته بعد أن نجّاه من النار‪.‬‬

‫( ‪)2/43‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يمسسك ‪ :‬يصبك‪.‬‬ ‫بضر ‪ :‬الضر‪ :‬ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن‪.‬‬ ‫بخير‪ :‬الخير‪ :‬كل ما يسعد الجسم أو الروح‪.‬‬ ‫القاهر ‪ :‬الغالب المذل المعز‪.‬‬ ‫شهادة‪ :‬الشهادة‪ :‬إخبار العالم بالشيء عنه بما ل يخالفه‪.‬‬ ‫لنذركم به‪ :‬لخوفكم بما فيه من وعيد ال لهل عداوته‪.‬‬ ‫إله واحد ‪ :‬معبود واحد لنه رب واحد‪ ،‬إذ ل يعبد إل الرب الخالق الرازق المدبر‪.‬‬ ‫معنى اليات ‪:‬‬ ‫ما زال السياق في توجيه الرسول صلى ال عليه وسلم وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم‬ ‫المشركين به فيقول له ربه تعالى‪{ :‬وإن يمسسك ال بضر ‪ 1‬فل كاشف له إل هو} أي إن أصابك‬ ‫ال بما يضرك في بدنك فل كاشف له عنك بإنجائك منه إل هو‪{ .‬وإن يمسسك بخير} أي وإن‬ ‫يردك بخير فل ‪ 2‬راد له {فهو على كل شيء قدير}‪ ،‬والخطاب وإن كان موجها للرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم فإنه عام في كل أحد فل كاشف للضر إل هو‪ ،‬ول راد لفضله أحد‪ ،‬ومع كل أحد‪،‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )18‬وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} تقرير لربوييته‬ ‫المستلزمة للوهيته فقهره لكل أحد‪ ،‬وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء موجب‬ ‫للوهيته وطاعته وطلب وليته‪ ،‬وبطلن ولية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الية الثالثة (‬ ‫‪{ )19‬قل ال شهيد بيني وبينكم} نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صلى ال عليه وسلم إئتنا‬ ‫بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم ردا عليهم‪ :‬أي شيء‬ ‫أكبر شهادة؟ ولما كان ل جواب لهم إل أن يقولوا ال أمره أن يجيب به‪{ :‬قل ال شهيد بيني‬ ‫وبينكم}‪ .‬فشهادة ال تعالى لي بالنبوة إيحاؤه إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به‪ ،‬وأنذر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الضر‪ :‬هو ما يؤلم النسان وهو من الشر المنافي للنسان ويقابله النفع وهو من الخير الملئم‬ ‫للنسان ولذا فالضر هنا أعم من المرض إذ يتناوله وغيره من سائر ما يضر النسان‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده حديث ابن عباس عند الترمذي وهو صحيح إذ قال له رسول ال صلى ال عليه وسلم "يا‬ ‫غلم إذا سألت فاسأل ال‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بال واعلم أن المة لو اجتمعوا على أن ينفعوك‬

‫بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه ال لك‪ ،‬ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إل‬ ‫بشيء قد كتبه ال عليك رفعت القلم وجفّت الصحف"‪.‬‬

‫( ‪)2/44‬‬ ‫كل من بلغه وسمع به بأن من بلغه ‪ 1‬ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات‬ ‫والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة‪ .‬ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله‪ :‬أئنكم ‪ 2‬لتشهدون مع‬ ‫ال آلهة أخرى‪ ،‬وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها أما أنا فل أعترف بها بل أنكرها فضلً عن أن‬ ‫أشهد بها‪ .‬ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر ألوهيته ال وحده وأن يتبرأ من آلهتهم‬ ‫المدعاة فقال له قل‪{ :‬إنما هو إله واحد‪ ،‬وإنني بريء مما تشركون}‪.3‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب اللجأ إلى ال تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ ل يكشف الضر ‪ 4‬إل هو‪.‬‬ ‫‪ -2‬شهادة ال تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات‪.‬‬ ‫‪ -3‬نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير مبدأ التوحيد ل إله إل ال‪ ،‬ووجوب البراءة من الشرك‪.‬‬ ‫سهُمْ َفهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪َ )20‬ومَنْ‬ ‫خسِرُواْ أَنفُ َ‬ ‫الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءهُمُ الّذِينَ َ‬ ‫جمِيعًا ثُمّ‬ ‫حشُرُهُمْ َ‬ ‫أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآياتهِ إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ(‪ )21‬وَ َيوْمَ نَ ْ‬ ‫عمُونَ(‪ )22‬ثُمّ َلمْ َتكُن فِتْنَ ُتهُمْ ِإلّ أَن قَالُو ْا وَالّلهِ رَبّنَا‬ ‫َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُواْ أَيْنَ شُ َركَآ ُؤكُمُ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْ ُ‬ ‫ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ(‪)24‬‬ ‫سهِ ْم َو َ‬ ‫مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ(‪ )23‬انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في البخاري‪" :‬بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ول حرج‪ ،‬ومن كذب علي متعمدا‬ ‫فليتبوأ مقعده من النار" وقال مقاتل‪ :‬من بلغه القرآن من الجن والنس فهو نذير له‪ ،‬وقال‬ ‫القرطبي‪ :‬من بلغه القرآن فكأنما خد رأي محمدا صلى ال عليه وسلم وسمع منه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام للتوبيخ والتقريع مع النكار لشهادتهم الباطلة وذلك بتأليههم الصنام‪ ،‬والحجار جهل‬ ‫وعنادا‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي من الشرك والشركاء معا‪.‬‬ ‫‪ 4‬آية (يونس) في هذا الباب عظيمة إذ قال مخاطبا رسوله صلى ال عليه وسلم‪ "{ :‬ول تدع من‬ ‫دون ال مال ينفعك ول يضرك‪ ،‬فإن فعلت فانك إذا من الظالمين‪ ،‬وإن يمسسك ال بضر فل‬ ‫كاشف له إل هو وإن يردك بخير فل راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور‬ ‫الرحيم"}‪.‬‬

‫( ‪)2/45‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الذين آتيناهم الكتاب‪ :‬علماء اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫يعرفونه‪ :‬يعرفون محمدا نبيا ل ورسولً له‪.‬‬ ‫افترى على ال كذبا‪ :‬اختلق الكذب وزوّره في نفسه وقال‪.‬‬ ‫ل يفلح الظالمون ‪ :‬ل ينجون من عذاب ال يوم القيامة‪.‬‬ ‫أين شركاؤكم ‪ :‬استفهام توبيخي لهم‪.‬‬ ‫تزعمون‪ :‬تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند ال‪.‬‬ ‫وضل عنهم‪ :‬غاب عنهم ولم يحضرهم ما كانوا يكذبونه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪::‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬الذين آتيناهم الكتاب} أي علماء اليهود والنصارى {يعرفونه} أي النبي محمدا صلى‬ ‫ال عليه وسلم أنه نبي ال ورسوله وأن القرآن كتاب ال أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره‬ ‫ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم‪ ،‬رد ال تعالى بهذا على العرب الذين قالوا‪ :‬لو كنت نبيا لشهد لك‬ ‫بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين ‪ 1‬خسروا أنفسهم في قضاء ال وحكمه الزلي ل‬ ‫يؤمنون‪ ،‬وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به‪ ،‬فهذا سر عدم إيمانهم‪ ،‬فلن يكون إذا عدم‬ ‫إيمانهم حجة ودليلً على النبي محمد صلى ال عليه وسلم بأن غير نبي ول رسول هذا ما دلت‬ ‫عليه الية الولى (‪ )20‬وفي الية الثانية نداء ال تعالى يكلّ من مشركي العرب وكفار أهل‬ ‫الكتاب بقوله {ومن ‪ 2‬أظلم ممن افترى على ال كذبا} وهم المشركون بزعمهم أن الصنام تشفع‬ ‫لهم عند ال ولذا عبدوها‪ ،‬أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب‪ ،‬وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي‬ ‫للتوحيد والسلم ظالمون‪ ،‬وإن الظالمون ل يفلحون فحكم بخسران الجميع إل من آمن منهم وعبد‬ ‫ال ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )22‬ويوم نحشرهم ‪ 3‬جميعا}‬ ‫مشركين وأهل كتاب أي ل يفلحون في الدنيا ول يوم‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬والذين خسروا أنفسهم} في موضع النعت أو البدلية من قوله‪{ :‬الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه}‪.‬‬ ‫‪{ 2‬ومن أظلم} الستفهام للنفي والتقريع أي ل أحد أعظم ظلما ممن افترى على ال الكذب أو كذّب‬ ‫بآياته التي هي اليات القرآنية والمعجزات النبوية‪.‬‬ ‫‪ 3‬الظرف معمول لفعل محذوف تقديره‪ :‬واذكر لقومك الوقت الذي يجري فيه الستنطاق‬ ‫والستجواب وكيف يكون موقف هؤلء المشركين الظالمين‪.‬‬

‫( ‪)2/46‬‬

‫نحشرهم وهو يوم القيامة لنهم ظالمون‪ ،‬ثم أخبر تعالى بمناسبة ذكر يوم القيامة أنه يسأل‬ ‫المشركين منهم فيقول لهم‪{ :‬أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم؟ ثم‬ ‫لم تكن نتيجة هذه الفتنة أي الختبار إل قولهم‪{ :‬وال ربنا ما كنا ‪ 1‬مشركين} ‪ ،‬يكذبون هذا الكذب‬ ‫لنهم رأوا أن المشركين ل يغفر لهم ول ينجون من النار‪.‬ثم أمر ال رسوله أن يتعجب من‬ ‫موقفهم هذا المخزي لهم فقال له‪{ :‬أنظر كيف كذبوا على ‪ 2‬أنفسهم} أما ربهم فهو عليم بهم {وضل‬ ‫عنهم} أي غاب فلم يروه‪{ .‬ما كانوا يفترون} أي يكذبون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في السلم إل إيثار الدنيا على الخرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬سببان في عظم الجريمة الكاذب على ال المفتري والمكذب الجاحد به وبكتاب وبنبيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير عدم فلح الظالمين في الحياتين‪.‬‬ ‫‪ -4‬الشرك ل يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته‪.‬‬ ‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَن َي ْف َقهُو ُه َوفِي أذا ِنهِ ْم َوقْرًا وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَ ٍة لّ‬ ‫ك َو َ‬ ‫َومِ ْنهُم مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْي َ‬ ‫لوّلِينَ(‪ )25‬وَ ُهمْ‬ ‫ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا حَتّى إذا جَآؤُوكَ يُجَادِلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ َهذَا ِإلّ أَسَاطِي ُر ا َ‬ ‫شعُرُونَ(‪ )26‬وََلوْ تَ َرىَ ِإ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ‬ ‫سهُمْ َومَا َي ْ‬ ‫يَ ْن َهوْنَ عَ ْن ُه وَيَنَْأوْنَ عَ ْن ُه وَإِن ُيهِْلكُونَ ِإلّ أَنفُ َ‬ ‫َفقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَ ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيات رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪)27‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تبرّؤا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوز ال ومغفرته للموحدين‪ ،‬قال ابن عباس رضي‬ ‫ال عنهما‪ :‬يغفر ال تعالى لهل الخلص ذنوبهم ول يتعاظم عليه ذنب أن يغفره فإذا رأى‬ ‫المشركون ذلك قالوا‪ :‬إن ربنا يغفر الذنوب ول يغفر الشرك فتعالوا نقول‪ :‬وال ربّنا ما كنا‬ ‫مشركين‪.‬‬ ‫‪ 2‬وجه كذبهم‪ :‬أنهم كانوا يقولون في الصنام تشفع لنا عند ال وتقرّبنا إليه زلفى‪ .‬ففي هذا‬ ‫الموقف غاب عنهم الكذب والفتراء وواجهوا الحقيقة المرّة كما هي‪.‬‬

‫( ‪)2/47‬‬ ‫ل وََلوْ رُدّواْ َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْهُ وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ(‪َ )28‬وقَالُواْ إِنْ‬ ‫خفُونَ مِن قَ ْب ُ‬ ‫َبلْ بَدَا َلهُم مّا كَانُواْ ُي ْ‬ ‫ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ(‪)29‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أكنة‪ :‬جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء‪.‬‬

‫ل وصمما فهم ل يسمعون‪.‬‬ ‫وقرا‪ :‬ثق ً‬ ‫يجادلونك ‪ :‬يخاصمونك‪.‬‬ ‫أساطير الولين‪ :‬جمع أسطورة‪ :‬ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين‪.‬‬ ‫وينأون عنه‪ :‬أي ويبعدون عنه‪.‬‬ ‫بل بدا لهم ‪ :‬بل ظهر لهم‪.‬‬ ‫إن هي إل حياتنا ‪ :‬ما هي إل حياتنا‪.‬‬ ‫مبعوثين ‪ :‬بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم‬ ‫فيقول {ومنهم من يستمع إليك} حال قراءتك القرآن ولكنه ل يعيه قلبه ول يفقه ما فيه من أسرار‬ ‫وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به‪ ،‬وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة ‪ 1‬على قلوبهم‬ ‫أي أغطية‪ ،،‬ومن ‪ 2‬وقر أي ثقل وصمم في آذانهم‪ ،‬فلذا هم يستمعون ول يسمعون‪ ،‬ول يفقهون‬ ‫وتلك الغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صلى ال عليه وسلم وكره لما‬ ‫جاء به من التوحيد‪ ،‬ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون به من المعجزات كإحياء الموتى‬ ‫ونزول الملئكة عيانا ل يؤمنون بها لنهم ل يريدون أن يؤمنوا ولذا قال تعالى‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الكنة‪ :‬جمع كنان كأسنة جمع سنان‪ ،‬والعنة جمع عنان‪ ،‬والكنّة‪ :‬امرأة الب لنّها في كنّه‪،‬‬ ‫وكذا امرأة البن والخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬وقرت أذنه توقر وقرا‪ ،‬إذا صمت‪ ،‬والنخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير‪.‬‬

‫( ‪)2/48‬‬ ‫{وإن يروا كل آية ل يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك} أي في شأن التوحيد وآلهتهم {يقول‬ ‫الذين كفروا ‪ 1‬إن هذا} أي ما هذا {إل أساطير الولين}‪ ،‬أمليت عليك أو طلبت كتابتها فأنت‬ ‫تقصها‪ ،‬وليس لك من نبوة ول وحي ول رسالة‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )25‬أما باقي‬ ‫اليات فإن الثانية (‪ )26‬تضمنت إخبار ال تعالى عنهم بأنهم ينهون الناس عن اليمان بالنبي وبما‬ ‫جاء به وعن متابعته والدخول في دينه‪ ،‬وينأون هم بأنفسهم أي يبعدون عنه فل إيمان ول متابعة‪.‬‬ ‫وهذه شر الصفات يصفهم ال تعالى بها وهي البعد عن الحق والخير‪ ،‬وأمر الناس بالبعد عن‬ ‫عنهما ونهيهم عن قربههما ولذا قال تعالى‪{ :‬وإن يهلكون إل ‪ 2‬أنفسهم} بهذا الموقف الشائن‬ ‫المعادى للرسول والتوحيد‪ ،‬وما يشعرون بذلك إذ لو شعروا لكفوا‪ ،‬والذي أفقدهم الشعور هو حب‬ ‫الباطل والشر الذي حملهم على عداوة الرسول وما جاء به من عبادة ال وتوحيده وها هم أولً قد‬

‫حشروا في جهنم‪ ،‬وال تعالى يقول للرسول‪{ :‬ولو ترى إذ وقفوا ‪ 3‬على النار} ول بد لهم من‬ ‫دخولها والصطلء بحرها والحتراق بلهبها‪ ،‬فقالوا وهم في وسطها {يا ليتنا نرد} إلى الحياة الدنيا‬ ‫{ول نكذب بآيات ربنا‪ ،‬ونكون من المؤمنين }‪ ،‬وما هم وال بصادقين وإنما هي تمنيات حمل‬ ‫عليها الشفاق من العذاب والخوف من نار جهنم‪ ،‬والفضيحة حين ظهر لهم ‪ 4‬ما كانوا يخفون في‬ ‫الدنيا من جرائم وفواحش وهم يغشونها الليل والنهار قال تعالى وهو العليم الخبير‪{ :‬ولو ردوا‬ ‫لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} ‪ ،‬وصدق ال لو ردوا لعادوا وفي الية الخيرة (‪ )29‬يسجل‬ ‫ال تعالى عليهم سبب بلئهم ومحنتهم‪ ،‬وإقدامهم في تلك الجرأة الغريبة على الشرك ومحاربة‬ ‫التوحيد‪ ،‬ومحاربة الموحدين بالضرب والقتل والتعذيب إنه كفرهم بالبعث والجزاء إذ قالوا ما‬ ‫أخبر تعالى به عنهم‪{ :‬إن هي إل ‪5‬حياتنا الدنيا‪ ،‬وما نحن بمبعوثين}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس‪ :‬قالوا للنضر بن الحارث ما يقول محمد؟ قال‪ :‬أرى تحريك شفتيه وما يقول إلّ‬ ‫أساطير الوّلين مثل ما أحدّثكم أنا عن القرون الماضية إذ كان النضر صاحب قصص سمعها من‬ ‫ديار العجم إذ كان سافر إليها للتجارة‪ ،‬والساطير‪ :‬جمع أسطار وأسطورة نحو‪ :‬أحاديث وأحدوثة‬ ‫ومعنى الساطير‪ :‬ما كتب وسطر من أخبار الولين وهو ترّهاتهم وأباطيلهم‪.‬‬ ‫‪{ 2‬وإن يهلكون} أي‪ :‬ما يهلكون فإن بمعنى‪ :‬ما النافية‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬وهم على الصراط وهي تحتهم أو وقفوا بقربها وهم يعاينونها‪ ،‬وجواب لو محذوف تقديره‪:‬‬ ‫لرأيت منظرا هائلً ونحوه‪.‬‬ ‫‪ 4‬قوله تعالى {وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} أي في دار الدنيا من الكفر والتكذيب والعناد‬ ‫وجائز أن يكون ظهر لهم صدق ما كانوا يعلمون أنّه حق من أمر الدين والتوحيد ولكن يخفونه في‬ ‫أنفسهم حتى ل يعلم ذلك إخوانهم في الكفر واتباعهم في الشرك‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذا سبب شقائهم هو إنكارهم للبعث والجزاء ومغالطة أنفسهم بأنه ل حياة إلّ الحياة الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)2/49‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في أن العبد إذا كره أحدا وأبغضه وتعالى في ذلك يصبح ل يسمع ما‬ ‫يقول له‪ ،‬ول يفهم معنى ما يسمع منه‪.‬‬ ‫‪ -2‬شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالعراض عنه‪ ،‬وينهى من يقبل عليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬سبب الشر في الرض الكفر بال‪ ،‬وإنكار البعث والجزاء الخر‪.‬‬ ‫وََلوْ تَرَى ِإ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى رَ ّبهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِا ْلحَقّ قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ ِبمَا كُنتُمْ‬

‫حسْرَتَنَا عَلَى مَا‬ ‫َت ْكفُرُونَ(‪ )30‬قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِِلقَاء اللّهِ حَتّى إذا جَاء ْتهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً قَالُواْ يَا َ‬ ‫ظهُورِهِمْ َألَ سَاء مَا يَزِرُونَ(‪َ )31‬ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا ِإلّ َل ِعبٌ‬ ‫حمِلُونَ َأوْزَارَهُمْ عَلَى ُ‬ ‫فَرّطْنَا فِيهَا وَ ُهمْ يَ ْ‬ ‫وََلهْ ٌو وَلَلدّارُ الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ(‪)32‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وقفوا على ربهم‪ :‬جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم‪.‬‬ ‫بلى وربنا‪ :‬أي إنه للحق وال‪.‬‬ ‫خسر الذين كذبوا‪ :‬أي خسروا أنفسهم في جهنم‪.‬‬ ‫الساعة بغتة‪ :‬ساعة‪ :‬البعث ليوم القيامة وبغتة‪ :‬أي فجأة‪.‬‬ ‫يا حسرتنا‪ :‬الحسرة‪ :‬التندم والتحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن‪.‬‬ ‫أوزارهم‪ :‬أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل‪.‬‬ ‫لعب ولهو‪ :‬اللعب‪ :‬العمل الذي ل يجلب درهما للمعاش‪ ،‬ول حسنة للمعاد‪.‬‬ ‫واللهو‪.:‬ما يشغل النسان عما يعنيه مما يكسبه خيرا أو يدفع عنه ضيرا‪.‬‬

‫( ‪)2/50‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقول تعالى لرسوله‪ :‬ولو ترى ‪ 1‬إذ وقف أولئك لمنكرون للبعث القائلون {إن هي إل حياتنا الدنيا‬ ‫وما نحن بمبعوثين}‪ ،‬لو تراهم وقد حبسوا لقضاء ال وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال‬ ‫القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب {أليس ‪ 2‬هذا بالحق} أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون‬ ‫بالجابة قائلين {بلى‪ ،‬وربنا}‪ ،‬فيحلفون بال تعالى تأكيدا لصحة جوابهم فيقال لهم ‪{ :3‬فذوقوا‬ ‫العذاب بما كنتم تكفرون} ل ظلما منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة ال ورسوله‪،‬‬ ‫والنفس ل تطهر إل على تلك الطاعة‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )30‬أما الية الثانية (‪)31‬‬ ‫فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا اليمان بالكفر والتوحيد بالشرك‪ ،‬والطاعة‬ ‫بالمعاصي فقال تعالى‪{ :‬قد خسر الذين كذبوا بلقاء ال ‪ }4‬أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب‬ ‫المحنة والكارثة {حتى إذا جاءتهم الساعة} ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الخرة {بغتة} أي‬ ‫فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها‪ ،‬وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتههم معلنين عن تندمهم {يا‬ ‫حسرتنا ‪ 5‬على ما فرطنا} أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر باليمان والشرك بالتوحيد قال‬ ‫تعالى‪{ :‬وهم يحملون أوزارهم} من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم‬ ‫والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد‬ ‫به خبر‪ .‬ولذا قال تعالى‪{ :‬أل ساء ما يزرون} أي قبح ما يحملونه! وفي الية (‪ )32‬الخيرة يخبر‬ ‫تعالى مذكرا واعظا ناصحا فيقول يا عباد ال‪{ :‬وما الحياة الدنيا إل لعب ولهو} فانتبهوا فل‬

‫تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زوال ما شأنها إل شأن من يلعب أو يلهو‪ ،‬ثم ل يحصل‬ ‫على طائل من لعبة ‪ 6‬ولهوه‪ ،‬أما الدار الخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جواب لو محذوف تقديره‪ :‬لعَظم شأن الوقوف‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام للتقريع والتوبيخ أي‪ :‬أليس هذا البعث كائنا موجودا‪.‬‬ ‫‪ 3‬جائز أن يكون القائل‪ :‬ال تعالى‪ ،‬وجائز أن تكون الملئكة وهو أولى لنهم ليسوا أهل لن‬ ‫يكلّمهم الربّ تبارك وتعالى‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي بالبعث بعد الموت والجزاء على العمل في الدنيا هذا كقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من حلف‬ ‫على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي ال وهو عليه غضبان" في الصحيح‪ ،‬إلّ أنه ل مانع‬ ‫من حمل اللفظ على ظاهره لنّ لقاء ال كائن حقا وكيف وهو الذي يفصل بينهم في ساحة فصل‬ ‫القضاء‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬يا حسرتنا احضري فهذا أوان حضورك‪ ،‬والحسرة‪ :‬الندم الشديد‪ ،‬والتلهف والنداء للتندّم‬ ‫والتعجب من حالهم وما حلّ بهم‪.‬‬ ‫‪ 6‬هي كما قال الحكيم‪:‬‬ ‫أل إنّما الدنيا كأحلم نائم ‪ ...‬وما خير عيش ل يكون بدائم‬ ‫تأمّل إذا ما نلت بالمس لذّة ‪...‬‬ ‫فأفنيتها هل أنت إل كحالم‬

‫( ‪)2/51‬‬ ‫والمعاصي‪ ،‬فما لكم مقبلين غلى الفاني معرضين عن الباقي {أفل تعقلون؟!}‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له‪.‬‬ ‫‪ -2‬قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حكم ال تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا‪.‬‬ ‫‪ -4‬الساعة ل تأتي إل بغتة‪ ،‬ول ينافي ذلك ظهور علماتها‪ ،‬لن الزمن ما بين العلمة والعلمة‬ ‫ل يعرف مقداره‪.‬‬ ‫‪ -5‬نصيحة القرآن للعقلء بأن ل يغتروا بالحياة الدنيا‪ .‬ويهملوا شأن الخرة وهي خير للمتقين‪.‬‬ ‫جحَدُونَ(‪ )33‬وََلقَدْ‬ ‫قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيات اللّهِ يَ ْ‬ ‫سلٌ مّن قَبِْلكَ َفصَبَرُواْ عَلَى مَا ُكذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّى أَتَاهُمْ َنصْرُنَا َولَ مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ اللّ ِه وَلَقدْ‬ ‫كُذّ َبتْ رُ ُ‬

‫ط ْعتَ أَن تَبْ َتغِيَ َن َفقًا فِي‬ ‫ضهُمْ فَإِنِ اسْ َت َ‬ ‫جَاءكَ مِن نّبَإِ ا ْلمُرْسَلِينَ(‪ )34‬وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكَ إِعْرَا ُ‬ ‫ج َم َعهُمْ عَلَى ا ْلهُدَى فَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ(‬ ‫سمَاء فَتَأْتِ َيهُم بِآ َي ٍة وََلوْ شَاء اللّهُ َل َ‬ ‫الَ ْرضِ َأوْ سُّلمًا فِي ال ّ‬ ‫‪)35‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ليحزنك ‪ :‬أي لوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل‬ ‫ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك‪.‬‬

‫( ‪)2/52‬‬ ‫فإنهم ل يكذبونك‪ :‬أي ل ينسبونك إلى الكذب في بواطنهم ومجالسهم السرية لعلمهم اليقيني أنك‬ ‫صادق‪.‬‬ ‫كذبت رسل ‪ :‬أي كذبتهم أقوامهم وأممهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلم‪.‬‬ ‫ول مبدل لكلمات ال‪ :‬التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلك أعدائه‪.‬‬ ‫من نبإ المرسلين‪ :‬أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم‪.‬‬ ‫تبتغي نفقا‪ :‬تطلب سربا تحت الرض‪.‬‬ ‫أو سلما في السماء ‪ :‬أي مصعدا تصعد به إلى السماء‪.‬‬ ‫بآية ‪ :‬أي خارقة من خوارق العادات وهي المعجزات‪.‬‬ ‫فل تكونن من الجاهلين ‪ :‬أي فل تقف موقف الجاهلين بتدبير ال في خلقه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات من تربية ال تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة‬ ‫الحق التي أناط به بلغها وبيانها فقال له تعالى‪{ :‬قد نعلم ‪ 1‬أنه} أي الحال والشأن‪{ ،‬ليحزنك الذي‬ ‫يقولون} أي الكلم الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر‪ ،‬والتقول على ال‪ ،‬وما إلى ذلك‬ ‫مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم ل يكذبونك ‪ 2‬لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك‬ ‫لهم وإرسالك بالمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق‬ ‫ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة‪ ،‬ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في البقاء على عاداتهم‬ ‫وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق ‪ 3‬غير‬ ‫كاذب فإذا عرفت هذا فل تحزن لقولهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قد نعلم إنه‪ :‬كسرت إن في إنه لدخول اللم في {ليحزنك} ولولها لفتحت نحو أنه يحزنك‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن أبا جهل وجماعة معه من رجالت قريش مرّوا بالنبي صلى ال عليه وسلم فقالوا يا‬ ‫محمد ما نكذّبك وإنّك عندنا لصادق ولكن نكذّب ما جئت به‪ .‬وهذه الية شاهد لصحة هذه الرواية‪،‬‬

‫ومعنى يكذّبونك ينسبونك إلى الكذب ويردون قولك‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى ابن اسحق وغبره أنّ الخنس بن شريق أتى أبا جهل فقال له‪ :‬يا أبا الحكم ما رأيك فيما‬ ‫سمعت من محمد إذ كانوا يأتون دار محمد وهو يصلي بالليل يستمعون القرآن فإذا طلع النهار‬ ‫تفرّقوا قال ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا‬ ‫وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا‪ :‬منّا نبي يأتيه الوحي من‬ ‫السماء فمتى ندرك نحن هذه وال ل نؤمن أبدا ول نصدقه فقام الخنس وتركه‪.‬‬

‫( ‪)2/53‬‬ ‫هذا أولً وثانيا فقد كذبت رسل من قبلك وأوذوا كما كُذبت أنت وأوذيت‪ ،‬وصبروا حتى أتاهم‬ ‫نصرنا فاصبر أنت حتى يأتيك النصر فإنه ل مبدل لكلمات ال التي تحمل وعده لوليائه ووعيده‬ ‫لعدائه‪ ،‬ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم ما يكون عونا‬ ‫لك على الصبر حتى النصر فاصبر‪ ،‬وثالثا {إن كان كبر ‪ 1‬عليك إعراضهم} عن دعوتك وعدم‬ ‫إيمانهم بها حتى تأتيهم بآية تلجئهم إلى اليمان بك وبرسالتك كما يطلبون منك ويُلِحّون عليك وهم‬ ‫كاذبون فإن استطعت أن تطلب لهم آية من تحت الرض أو من السماء فافعل‪ ،‬وهذا ما ل تطيقه‬ ‫ول تستطيعه لنه فوق طاقتك فل تكلف به وإذا فما عليك إل بالصبر هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وإن‬ ‫كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الرض} أي ‪ 2‬سربا‪{ ،‬أو سلما في‬ ‫السماء} أي مصعدا {فتأتيهم بآية} أي فافعل‪ ،‬وما أنت بقادر فاصبر إذا ورابعا إن ال قادر على أن‬ ‫يجمعهم كلهم على اليمان بك وبرسالتك والدخول في دينك‪ ،‬ولكنه لم يشأ ذلك لحكم عالية فل‬ ‫تطلب أنت مال يريده ربك‪ ،‬فإنك إن فعلت كنت من الجاهلين ‪ ،3‬ول نريد لك ذلك ‪.4‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ثبوت بشرية الرسول صلى ال عليه وسلم ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر‬ ‫لذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬تسلية الرسول صلى ال عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان سنة ال في المم السابقة‪.‬‬ ‫‪ -4‬إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالت بإبعاده عن ساحة الجاهلين‪.‬‬ ‫جعُونَ(‪َ )36‬وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ آ َيةٌ‬ ‫ن وَا ْل َموْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ُثمّ إِلَيْهِ يُ ْر َ‬ ‫س َمعُو َ‬ ‫إِ ّنمَا يَسْ َتجِيبُ الّذِينَ َي ْ‬ ‫مّن رّبّهِ ُقلْ إِنّ الّلهَ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬كَبُرَ} ثقل فشق عليه تحمله لثقله‪.‬‬

‫‪ 2‬أي نفقا كالنفاق المعروفة اليوم تحت الرض‪ ،‬والسلّم‪ :‬الدرج وهو ما يرقى عليه وسمي السلم‬ ‫من السلمة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ول يليق بمثلك مثله وهذا كلّه تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم وتعزية وحمل له على الصبر‬ ‫وهو لكلّ داعٍ إلى ال تعالى يواجه التكذيب والتعذيب إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫‪ 4‬جائز أن يكون المعنى‪ :‬من الجهل الذي هو ضد العلم‪ ،‬والجهل الذي هو ضد الحلم ويناسب‬ ‫الوّل قوله {ولو شاء ال لجمعهم على الهدى} والثاني قوله‪{ :‬وإن كان كبر عليك إعراضهم‪}..‬‬ ‫الية‪.‬‬

‫( ‪)2/54‬‬ ‫ض َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ‬ ‫قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَ ّزلٍ آيَ ًة وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَ َيعَْلمُونَ(‪َ )37‬ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ‬ ‫شيْءٍ ُثمّ إِلَى رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ(‪ )38‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ‬ ‫بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُم مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬ ‫جعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ(‪)39‬‬ ‫بِآياتنَا صُ ّم وَ ُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ مَن َيشَإِ اللّهُ ُيضْلِلْ ُه َومَن يَشَأْ َي ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إنما يستجيب‪ :‬أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول ال صلى ال عليه وسلم فيؤمن ويهتدي‪.‬‬ ‫يبعثهم ال ‪ :‬أي يوم القيامة‪.‬‬ ‫لول نزل عليه آية ‪ :‬هل أداة تحضيض ل لول الشرطية‪.‬‬ ‫آية من ربه ‪ :‬آية‪ :‬خارقة تكون علمة على صدقه‪.‬‬ ‫ل يعلمون ‪ :‬أي ما يترتب على إيتائها مع عدم اليمان بعدها من هلك ودمار‪.‬‬ ‫من دابة ‪ :‬الدابة كل ما يدب على الرض من إنسان وحيوان‪.‬‬ ‫في الكتاب ‪ :‬كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫صم وبكم في الظلمات‪ :‬صم‪ :‬ل يسمعون وبكم‪ :‬ل ينطقون في الظلمات ل يبصرون‪.‬‬ ‫صراط مستقيم ‪ :‬هو الدين السلمي المفضي بالخذ به إلى سعادة الدارين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعدما سلى الرب تعالى رسوله في اليات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية‬ ‫تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صلى ال عليه وسلم هم الذين‬ ‫يسمعون لن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق‬

‫( ‪)2/55‬‬

‫وبغض أهله والداعين إليه فهؤلء هم الذين يستجيبون لنهم أحياء أما الموات فإنهم ل يسمعون‬ ‫ولذا فهم ل يستجيبون ولكن سيبعثهم ال يوم القيامة أحياء ثم يرجع الجميع إليه من استجاب‪ ،‬لحياة‬ ‫قلبه‪ ،‬ومن لم يستجب لموت قلبه ويجزيهم بما عملوا الجزاء الوفى وهو على كل شيء قدير‪ ،‬هذا‬ ‫ما دلت عليه الية الولى (‪ )36‬أما الية الثانية (‪ )37‬فقد أخبر تعالى رسوله بقولهم {لول نزل‬ ‫عليه آية} ‪ ،‬وعلمه أن يقول لهم {إن ال قادر على أن ينزل آية} وهي الخارقة كإحياء الموتى أو‬ ‫تسيير الجبال أو إنزال الملئكة يشاهدونهم عيانا‪ ،‬ولكن لم ينزلها لحكم عالية وتدبير حكيم‪{ ،‬ولكن‬ ‫أكثرهم ل يعلمون} الحكمة في ‪ 1‬ذلك‪ ،‬ولو علموا أنها إذا نزلت كانت نهاية حياتهم لما سألوها‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الثانية أما الية الثالثة (‪ )38‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وما من دابة في الرض ول‬ ‫طائر يطير ‪ 2‬بجناحيه إل أمم أمثالكم} سيقت هذه الية لبيان كمال ال تعالى وشمول علمه وعظيم‬ ‫قدرته‪ ،‬وسعة تدبيره تدليلً على أنه تعالى قادر على إنزال اليات‪ ،‬ولكن منع ذلك حكمته تعالى‬ ‫في تدبير خلقه فما من دابة تدب في الرض ول طائر يطير في السماء إل أمم مثل المة ‪3‬‬ ‫النسانية مفتقرة إلى ال تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها‪ ،‬وال وحده القائم عليها‪ ،‬وفوق‬ ‫ذلك إحصاء عملها عليها ثم بعثها يوم القيامة ومحاسبتها ومجازاتها‪ ،‬وكل ذلك حواه كتاب‬ ‫المقادير وهو يقع في كل ساعة ول يخرج شيء عما كتب في كتاب المقادير‪ ،‬اللوح المحفوظ {ما‬ ‫فرطنا في الكتاب من شيء} فهل يعقل مع هذا أن يعجز ال تعالى عن إنزال آية‪ ،‬وكل مخلوقاته‬ ‫دالة على قدرته وعلمه ووحدانيته‪ ،‬ووجوب عبادته وفق مرضاته‪ ،‬وقوله {ثم إلى ربهم يحشرون}‬ ‫‪ 4‬كل دابة وكل طائر يموت أحب أم كره‪ ،‬ويبعث ‪ 5‬أحب أم كره‪ ،‬وال وحده مميته ومحييه‬ ‫ومحاسبه ومجازيه‪{ ،‬ثم إلى ربهم يحشرون} ‪ ،‬ومن هنا كان المكذبون بآيات ال {صم وبكم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪ :‬القول بحشر البهائم هو الصحيح‪ ،‬والبهائم وإن كان القلم ل يجري عليها في‬ ‫الحكام ولكن فيما بينها تؤاخذ به‪ ،‬وروي عن أبي ذرّ قال‪ ،‬انتطحت شاتان عند رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم فقال‪" :‬يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا‪ .‬قلت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬لكن ال تعالى يدري وسيفضي‬ ‫بينهم"‪.‬‬ ‫‪ 2‬من الحكمة في عدم إنزال الية أنه لو أنزلها ما آمنوا بها‪ ،‬فاستوجبوا الهلك فأهلكهم‪ ،‬ولكنّه‬ ‫يريد البقاء عليهم ليخرج من أصلبهم مؤمنين يعبدونه ويوحدونه‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذكر الجناحين للتأكيد من جهة‪ ،‬وإزالة البهام من جهة أخرى لن العرب تطلق لفظ الطيران‬ ‫على غير الطائر فتقول للرجل‪ ،‬طر في حاجتي أي أسرع في قضائها وطائر النسان ما قسم ال‬ ‫ل قال تعالى‪{ :‬وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}‪.‬‬ ‫له أز ً‬ ‫‪ 4‬وهذه المثلية بين النسان وبين دواب الرض وطائر السماء تقتضي أل يظلم النسان الحيوان‬ ‫ول يؤذيه ول يتجاوز ما أمر به نحوه‪ ،‬ووجه المثلية في كون كل من النسان والحيوان يسبح ال‬ ‫تعالى ويدل على قدرته وعلمه وحكمته‪.‬‬

‫‪ 5‬قيل في {يحشرون} أنّ حشرها الموت وهو مروي عن ابن عباس قال‪ :‬موت البهائم‪ :‬حشرها‬ ‫وروي عن مجاهد والضحاك أيضا‪ ،‬وقيل حشرها‪ :‬هو بعثها يوم القيامة حيّة وهذا أصح لحديث‪:‬‬ ‫"إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة"‪.‬‬

‫( ‪)2/56‬‬ ‫في الظلمات ‪ }1‬أموات غير أحياء إذ الحياء يسمعون وينطقون ويبصرون وهؤلء صم بكم في‬ ‫الظلمات فهم أموات غير أحياء وما يشعرون‪ .‬وأخيرا أعلم تعالى عباده أن هدايتهم كإضللهم بيده‬ ‫فمن شاء هداه ومن شاء أضله‪ ،‬وعليه فمن أراد الهداية فليطلبها في صدق من ال جل جلله‬ ‫وعظم سلطانه ومن رغب عنها فلن يعطاها‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من بداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليمان بال ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت‪.‬‬ ‫‪ -2‬سبب تأخر اليات علم ال تعالى بأنهم لو أعطاهم اليات ما آمنوا وبذلك يستوجبون العذاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬تعدد المم ‪ 2‬في الرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير ال تعالى مربوب له‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب‪.‬‬ ‫ُقلْ أَرَأَيْ ُتكُم إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَابُ الّلهِ َأوْ أَتَ ْتكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ َتدْعُونَ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪َ )40‬بلْ إِيّاهُ‬ ‫سوْنَ مَا تُشْ ِركُونَ(‪ )41‬وََلقَدْ أَ ْرسَلنَآ إِلَى ُأمَمٍ مّن قَبِْلكَ‬ ‫شفُ مَا تَدْعُونَ إِلَ ْيهِ إِنْ شَاء وَتَن َ‬ ‫تَدْعُونَ فَ َيكْ ِ‬ ‫ستْ‬ ‫خذْنَاهُمْ بِالْبَ ْأسَاء وَالضّرّاء َلعَّلهُمْ يَ َتضَرّعُونَ(‪ )42‬فََلوْل إِذْ جَاء ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُو ْا وََلكِن قَ َ‬ ‫فَأَ َ‬ ‫قُلُو ُبهُ ْم وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪ )43‬فََلمّا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إنها ظلمات الكفر والشرك والمعاصي وما ينتج عن ذلك من القلق والحيرة واضطراب النفس‪،‬‬ ‫والخوف‪ ،‬والهمّ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى ابن كثير بسنده عن الحافظ أبي يعلى عن جابر بن عبدال أن الجراد لم يُرَفي سنة من‬ ‫سِني عمر رضي ال عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا إلى‬ ‫كذا وآخر إلى الشام‪ ،‬وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو ل؟ قال فأتاه الراكب‬ ‫الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبّر ثلثا ثم قال سمعت رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬خلق ال عز وجل ألف أمّة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ‬ ‫وأول شيء يهلك من هذه المم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه‪ .‬هذه الرواية‬ ‫ذكر بعض أهل العلم بطلنها‪.‬‬

‫( ‪)2/57‬‬ ‫شيْءٍ حَتّى إذا فَ ِرحُواْ ِبمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم َبغْتَةً فَإذا هُم‬ ‫نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬ ‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪)45‬‬ ‫مّبْلِسُونَ(‪َ )44‬فقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَالْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أرأيتكم ‪ :‬أخبروني‪.‬‬ ‫الساعة ‪ :‬يوم القيامة‪.‬‬ ‫يكشف ‪ :‬يزيل ويبعد وينجي‪.‬‬ ‫البأساء والضراء‪ :‬البأساء‪ :‬الشدائد من الحروب والمراض‪ ،‬والضراء‪ :‬الضر‪.‬‬ ‫يتضرعون‪ :‬يتذللون في الدعاء خاضعون‪.‬‬ ‫بغتة‪ :‬فجأة وعل حين غفلة‪.‬‬ ‫مبلسون ‪ :‬آيسون قنطون متحسرون حزنون‪.‬‬ ‫دابر القوم ‪ :‬آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم‪.‬‬ ‫الحمد ل‪ :‬الثناء بالجميل والشكر ل دون سواه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في طلب هداية أولئك المشركين العادلين بربهم أصناما وأحجارا‪ ،‬فيقول ال تعالى‬ ‫لرسوله صلى ال عليه وسلم قل يا رسولنا لولئك الذين يعدلون بنا الصنام {أرأيتكم ‪ }1‬أي‬ ‫أخبروني‪{ ،‬إن أتاكم عذاب ال} اليوم انتقاما منكم‪{ ،‬أو أتتكم الساعة} وفيها عذاب يوم القيامة‪،‬‬ ‫{أغير ال تدعون} ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم {إن كنتم صادقين} في أن آلهتكم تنفع وتضره تقي‬ ‫السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم ل تدعونها ليأسكم من إجابتها بل ال ‪ 2‬وحده هو الذي‬ ‫تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء‪ ،‬وتنسون عندها ما تشركون به من الصنام فل تدعونها‬ ‫ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪ :‬هذه الية في محاجة المشركين ممن اعترف أنّ له صانعا أي‪ :‬أنتم عند الشدائد‬ ‫ترجعون إلى ال تعالى وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا‪ ،‬فلم تصرّون على الشرك في حال‬ ‫الرفاهية؟! وكانوا يعبدون الصنام ويدعون ال في صرف العذاب‪.‬‬ ‫‪{ 2‬بل إيّاه تدعون} بل‪ :‬للضراب‪ ،‬إضراب عن الوّل وهو دعاء غير ال تعالى وإيجاب للثاني‬ ‫وهو دعاء ال عز وجل‪.‬‬

‫( ‪)2/58‬‬

‫هذا ما تضمنته اليتان الولى (‪ )40‬والثانية (‪ )41‬وأما اليات الربع بعدهما فإن ال تعالى يخبر‬ ‫رسوله بقوله {ولقد أرسلنا إلى أمم ‪ 1‬من قبلك} أي أرسلنا رسلً من قبلك إلى أممهم فأمروهم‬ ‫باليمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض‬ ‫لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى اليمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان‬ ‫ولما لم يفعلوا وبخهم تعالى بقوله‪{ :‬فلول إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ‪ }2‬أي فهل إذ جاءهم بأسنا‬ ‫تضرعوا إلينا {ولكن} حصل العكس حيث {قست قلوبهم وزين لهم الشيطان} أي حسن لهم {ما‬ ‫كانوا يعملون} من الشرك والمعاصي‪ .‬وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به‬ ‫معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح ال تعالى عليهم أبواب كل شيء من ‪ 3‬الخيرات حتى إذا‬ ‫فرحوا بذلك ‪ 4‬وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة‪ .‬قال تعالى {أخذناهم بغتة}‬ ‫أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة {فإذا هم مبلسون}‪ 5‬آيسون من الخلص متحسرون‬ ‫{فقطع دابر ‪ 6‬القوم الذين ظلموا} أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم‪ .‬وانتهى أمرهم {والحمد ل‬ ‫رب العالمين} ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم‬ ‫ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬من غريب أحوال النسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو ال وحده ول يدعو معه‬ ‫اللهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫ل مضمر وهناك إضمار آخر تقديره‪ :‬فكذّبوهم فأهلكناهم‪.‬‬ ‫‪ 1‬أي أرسلنا رسلً‪ .‬فرس ً‬ ‫‪ 2‬يتضرعون‪ :‬يدعون ال ويتذلّلون له‪ ،‬إذ التضرع مأخوذ من الرضاعة التي هي الذلة‪ ،‬يقال‪:‬‬ ‫ضرع إليه فهو ضارع أي‪ :‬متذلل‪.‬‬ ‫‪ 3‬أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم وهو استدراج لهم وقد تطول مدّة الستدراج والمهال عشرين‬ ‫سنة فأكثر‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬إذا رأيت ال يعطي‬ ‫العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج‪ ،‬ثم تل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫{فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا‬ ‫هم مبلسون}‪.‬‬ ‫‪ 5‬قالوا‪ :‬المبلس‪ :‬هو الباهت الحزين اليس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال قال‬ ‫العجاج‪.‬‬ ‫يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ‪ ...‬قال نعم أعرفه وأبلسا‬ ‫المكرّس‪ :‬الذي به الكرس وهو أبوال البل وأبعارها‪.‬‬

‫‪ 6‬الدابر‪ :‬الخر يقال‪ :‬دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم‪ .‬ومعناه أخذهم أجمعين إذ آخر من‬ ‫يؤخذ هو من كان خلف القوم وآخرهم‪.‬‬

‫( ‪)2/59‬‬ ‫‪ -2‬بيان سنة ال تعالى في إهلك المم‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا رأيت المة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على‬ ‫فسقها وبسط ال تعالى لها في الرزق وأغدق علبها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلك وأنها‬ ‫هالكة ل محالة‪.‬‬ ‫‪ -4‬شؤم الظلم هلك الظالمين‪.‬‬ ‫‪ -5‬الرشاد إلى حمد ال تعالى عند نهاية كل عمل‪ ،‬وعاقبة كل أمر‪.‬‬ ‫علَى قُلُو ِبكُم مّنْ ِإلَهٌ غَيْرُ الّلهِ يَأْتِيكُم ِبهِ انظُرْ كَ ْيفَ‬ ‫س ْم َعكُ ْم وَأَ ْبصَا َركُ ْم وَخَتَمَ َ‬ ‫ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ َ‬ ‫جهْ َرةً َهلْ ُيهَْلكُ ِإلّ‬ ‫ُنصَ ّرفُ اليات ثُمّ هُمْ َيصْ ِدفُونَ(‪ُ )46‬قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَابُ الّلهِ َبغْتَةً َأوْ َ‬ ‫علَ ْيهِمْ‬ ‫خ ْوفٌ َ‬ ‫ن وََأصْلَحَ فَلَ َ‬ ‫ن َومُنذِرِينَ َفمَنْ آمَ َ‬ ‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ مُبَشّرِي َ‬ ‫ا ْل َقوْمُ الظّاِلمُونَ(‪َ )47‬ومَا نُ ْر ِ‬ ‫سقُونَ(‪)49‬‬ ‫سهُمُ ا ْلعَذَابُ ِبمَا كَانُواْ َيفْ ُ‬ ‫وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ(‪ )48‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآياتنَا َيمَ ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أرأيتم‪ :‬أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب‪.‬‬ ‫أخذ سمعكم وأبصاركم‪ :‬أي أصمكم وأعماكم‪.‬‬ ‫وختم على قلوبكم‪ :‬جعلها ل تعي ول تفهم‪.‬‬ ‫نصرف اليات ‪ :‬ننوع الساليب لزيادة البيان واليضاح‪.‬‬ ‫يصدفون‪ :‬يعرضون‪.‬‬ ‫بغتة أو جهرة‪ :‬بغتة‪ :‬بدون إعلم ول علمة سابقة‪ ،‬والجهرة‪ :‬ما كان بإعلم وعلمة تدل عليه‪.‬‬ ‫هل يهلك ‪ :‬أي ما يهلك‪.‬‬

‫( ‪)2/60‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في دعوة العادلين بريهم الصنام والوثان إلى التوحيد فقال تعالى لنبيه يلقنه‬ ‫الحجج التي تبطل باطل المشركين {قل أرأيتم} أي أخبروني يا قوم {إن أخذ ال ‪ 1‬سمعكم} وجعلكم‬ ‫صما ل تسمعون وأخذ {أبصاركم} فكنتم عميا ل تبصرون {وختم على قلوبكم} أي طبع عليها‬ ‫فأصبحتم ل تعقلون ول تفهمون‪ .‬أي إله غير ال يأتيكم بالذي أخذ ال منكم؟ والجواب ل أحد‪ ،‬إذا‬

‫فكيف تتركون عبادة من يملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويملك كل شيء فيكم وعندكم‪ ،‬وتعبدون‬ ‫مال يملك من ذلكم من شيء؟ أي ضلل أبعد من هذا الضلل! ثم قال تعالى لرسوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم {انظر} يا رسولنا {كيف ‪ 2‬نصرف اليات}‪.‬‬ ‫أي ننوع أساليبها زيادة في بيانها لظهار الحجة بها {ثم هم يصدفون} أي يعرضون عادلين بربهم‬ ‫مال يملك نفعا ول ضرا ثم أمره في الية الثانية (‪ )47‬أن يقول لهم وقد أقام الحجة عليهم في‬ ‫الية الولى (‪ )46‬قل لهم {أرأيتكم} أي أخبروني ‪{ 3‬إن أتاكم عذاب ال} وقد استوجبتموه‬ ‫بصدوفكم عن الحق وإعراضكم عنه {بغتة ‪ }4‬أي فجأة بدون سابق علمة‪{ ،‬أو جهرة} بعلمة‬ ‫تقدمته تنذركم به أخبروني من يهلك منا ومنكم؟ {هل يهلك إل القوم الظالمون}‪ 5‬بصرف العبادة‬ ‫إلى هن ل يستحقها وترك من وجبت له وهو ال الذي ل إله إل هو ثم عزى الرحمن جل جلله‬ ‫رسوله بقوله‪{ :‬وما نرسل المرسلين إل مبشرين ‪ 6‬ومنذرين } أي ما نكلفهم بغير حمل البشارة‬ ‫بالنجاة ودخول الجنة لمن آمن وعمل صالحا والنذارة لمن كفر وعمل سوءا‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬فمن‬ ‫آمن وأصلح فل خوف عليهم ول هم يحزنون} {والذين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخذ‪ :‬انتزاع الشيء‪ ،‬وتناوله من مقره وهو هنا بمعنى السلب والعدام‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا التعجيب لرسول ال صلى ال عليه وسلم من عدم تأثرهم بما عاينوا من اليات الباهرة‪،‬‬ ‫أي‪ :‬انظر كيف نكررها ونلونها من أسلوب إلى آخر تارة نوردها بمقدمات عقلية وأخرى بأسلوب‬ ‫الترغيب والترهيب‪ ،‬والتنبيه والتذكير‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهذا تبكيت آخر غير الول لهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬وفُسّر بغتة وجهرة بليل ونهارا والكل صالح وصحيح‪.‬‬ ‫‪ 5‬الستفهام في قوله‪{ :‬هل يهلك‪ } ..‬الخ للتقرير وحصر الهلك في أهل الظلم تسجيل عليهم‬ ‫الظلم وإيذانا بأن هلكهم كان سبب ظلمهم الذي هو وضعهم الشرك موضع التوحيد والكفر موضع‬ ‫اليمان‪.‬‬ ‫‪{ 6‬مبشرين ومنذرين} حالن مقدرتان من المرسلين أي ما نرسلهم إلّ مقدرين تبشيرهم وإنذارهم‬ ‫وفيهما معنى التعليل للرسال والتبشير‪ :‬الصل فيه الخبار بالمر السار‪ ،‬والنذار‪ :‬الخبار‬ ‫بالخبر الضار دنيويا أو أخرويا‪ .‬والمراد هنا لكل من البشارة والنذارة نعيم الخرة وعذابها‪.‬‬

‫( ‪)2/61‬‬ ‫كذبوا بآياتنا} التي نرسل نجا المرسلين فلم يؤمنوا ول يعملوا صالحا {يمسهم العذاب} ‪ 1‬عذاب‬ ‫النار {بما كانوا يفسقون} بسبب فسقهم عن طاعتنا وطاعة رسلنا الفسق الذي أثمره لهم التكذيب‬ ‫باليات‪ ،‬إذ لو آمنوا بآيات ال لما فسقوا عن طاعته وطاعة رسوله فشؤمهم في تكذيبهم‪ ،‬وذلك‬

‫جزاؤهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬افتقار العبد إلى ال في سمعه وبصره وقلبه وفي كل حياته موجب عليه عبادة ال وحده دون‬ ‫سواه‪.‬‬ ‫‪ -2‬هلك الظالمين ل مناص منه عاجلً أو آجلً‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان مهمة الرسل وهي البشارة لمن أطاع والنذارة من عصى والهداية والخيرات على ال‬ ‫تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬الفسق عن طاعة ال ورسوله ثمرة التكذيب‪ ،‬والطاعة ثمرة اليمان‪.‬‬ ‫قُل لّ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّ ِه وَل أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ وَل َأقُولُ َل ُكمْ إِنّي مََلكٌ إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ‬ ‫حشَرُواْ إِلَى رَ ّبهِمْ‬ ‫عمَى وَالْ َبصِيرُ َأفَلَ تَ َتفَكّرُونَ(‪ )50‬وَأَنذِرْ بِهِ الّذِينَ َيخَافُونَ أَن يُ ْ‬ ‫ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الَ ْ‬ ‫شيّ‬ ‫شفِيعٌ ّلعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ(‪َ )51‬ولَ َتطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬ ‫ي وَلَ َ‬ ‫لَيْسَ َلهُم مّن دُونِ ِه وَِل ّ‬ ‫حسَا ِبكَ‬ ‫شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ‬ ‫علَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ‬ ‫جهَهُ مَا َ‬ ‫ن وَ ْ‬ ‫يُرِيدُو َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي ‪ :‬العذاب الذي أنذروا به وهو عاجل كعذاب الدنيا أو آجل وهو عذاب الخرة‪.‬‬

‫( ‪)2/62‬‬ ‫ضهُم بِ َب ْعضٍ لّ َيقُولواْ َأ َهؤُلء مَنّ‬ ‫شيْءٍ فَتَطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ(‪َ )52‬وكَذَِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬ ‫عَلَ ْيهِم مّن َ‬ ‫علَ ْيهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ بِالشّاكِرِينَ(‪)53‬‬ ‫اللّهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫خزائن‪ :‬جمع خزانة أو خزينة ما يخزن فيه الشيء ويحفظ‪.‬‬ ‫الغيب‪ :‬ما غاب عن العيون وكان محصلً في الصدور وهو نوعان غيب حقيقي وغيب إضافي‬ ‫والحقيقي مال يعلمه إل ال تعالى‪ ،‬والضافي ما يعلمه أحد ويجهله آخر‪.‬‬ ‫أنذر به ‪ :‬خوّف به أي بالقرآن‪.‬‬ ‫الغداة‪ :‬من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‪ ،‬والعشي من صلة العصر إلى غروب الشمس‪.‬‬ ‫فتطردهم‪ :‬أي تبعدهم من مجلسك‪.‬‬ ‫فتنا‪ :‬ابتلينا بعضهم ببعض الغني بالفقير‪ ،‬والشريف بالوضيع‪.‬‬ ‫من ال علينا‪ :‬أي أعطاهم الفضل فهداهم إلى السلم في دوننا‪.‬‬ ‫بالشاكرين‪ :‬المستوجبين لفضل ال ومنته بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫مازال السياق مع العادلين بربهم الصنام المنكرين للنبوة المحمدية فأمر ال تعالي رسوله أن يقول‬ ‫لهم‪{ :‬ل أقول لكم عندي خزائن ال ‪ }1‬أي خزائن الرزاق {ول أعلم الغيب} أي ول أقول لكم إني‬ ‫أعلم الغيب‪{ ،‬ول أقول لكم إني ملك} من الملئكة ما أنا إل عبد رسول أتبع ما يوحي ‪ 2‬إليّ ربي‬ ‫فأقول وأعمل بموجب وحيه إليّ‪ .‬ثم قال له اسألهم قائلً {هل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا ردّ على المشركين في اقتراحاتهم المتعددة المتنوعة فأمر تعالى رسوله أن يرد عليهم بأنه‬ ‫ل يملك خزائن ال التي فيها الرزاق حتى يعطيهم ما يطلبون ويقترحون‪ ،‬ول هو يعلم الغيب‬ ‫حتى يخبرهم بموعد العذاب الذي ينتظرهم‪ ،‬ول هو ملك يقدر على مال يقدر عليه البشر‪ ،‬وإنما‬ ‫هو بشر يوحى إليه الخبر من ربّه فيخبر به ويعمل به ليس غير‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا غير ناف لجتهاد الرسول صلى ال عليه وسلم وكثيرا ما يجتهد وقد يقيس على‬ ‫المنصوص عنه‪ ،‬ولكنه ل يقرّ على غير الحق وما يرضي الرب عز وجل‪.‬‬

‫( ‪)2/63‬‬ ‫يستوي العمى ‪ 1‬والبصير؟} والجواب ل‪ ،‬فكذلك ل يستوي المؤمن والكافر‪ ،‬والمهدي والضال‬ ‫{أفل تتفكرون} أي مالكم ل تتفكرون فتهتدوا للحق وتعرفوا سبيل النجاة‪ .‬هذا ما دلت عليه الية‬ ‫الولى (‪ )50‬أما الية الثانية (‪ )51‬فإن ال تعالى يأمر رسوله أن ينذر بالقرآن المؤمنين العاصين‬ ‫فقال {وأنذر ‪ 2‬به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} يوم القيامة وهم مذنبون‪ ،‬وليس لهم من‬ ‫دون ال ولي ول شفيع ‪ 3‬فهؤلء ينفعهم إنذارك بالقرآن أما الكفرة المكذبون فهم كالموات ل‬ ‫يستجيبون وهذا كقوله تعالى من سورة ق {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} فهؤلء إن أنذرتهم‬ ‫يرجى لهم أن يتقوا معاصي ال ومعاصيك أيها الرسول وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬لعلهم يتقون}‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الثانية (‪ )51‬أما الية الثالثة (‪ )52‬وهي قوله تعالى {ول تطرد ‪ 4‬للذين‬ ‫يدعون ربهم بالغداة والعشي‪ ،‬يريدون وجهه} فإن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم أن يبعد من مجلسه فقراء المؤمنين كبلل وعمار وصهيب حتى يجلسوا إليه‬ ‫ويسمعوا عنه فهمّ الرسول صلى ال عليه وسلم أن يفعل رجاء هداية أولئك المشركين فنهاه ال‬ ‫تعالى عن ذلك بقوله {ول تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} في صلة الصبح‪ ،‬وصلة‬ ‫العصر‪ ،‬يريدون وجه ال ليرضى عنهم ويقربهم ويجعلهم من أهل وليته وكرامته‪ ،‬ومبالغة في‬ ‫الزجر عن هذا الهم قال تعالى‪{ :‬ما عليك من حسابهم من شيء} أي ما أنت بمسؤول عن خطاياهم‬ ‫إن كانت لهم خطايا‪ ،‬ول هم بمسئولين عنك فلم تطردهم إذا؟ {فتطردهم ‪ 5‬فتكون من الظالمين} أي‬ ‫فل تفعل‪ ،‬ولم يفعل صلى ال عليه وسلم وصبر عليهم وحبس نفسه معهم وفي الية الخيرة (‪)53‬‬ ‫يقول تعالى‪{ :‬وكذلك فتنا بعضهم ببعض}‪6‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذا الخطاب الستفهامي إيماء إلى المفارقة التامة الحاصلة من المؤمنين والكافرين‪ ،‬وأن‬ ‫الكافرين عمي والمؤمنين بصراء‪ ،‬والمؤمنون مهتدون‪ ،‬والكافرون ضالّون‪ ،‬فما لهم ل يتفكرون‬ ‫لعلهم يخرجون من ظلمة كفرهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬وأنذر به أي‪ :‬بالقرآن وقيل بيوم القيامة‪ ،‬وكونه القرآن أولى وأصح لقوله تعالى‪{ :‬فذكّر بالقرآن‬ ‫من يخاف وعيد}‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على إبطال شفاعة الصنام لعابديها‪ ،‬والولياء للمشركين ممن يذبحون لهم‬ ‫وينذرون كما فيها إبطال لزعم أهل الكتاب القائلين نحن أبناء ال وأحباؤه فسوف يشفع لنا الب‪،‬‬ ‫إذ شرط صحة الشفاعة يوم القيامة أن يأذن ال لمن يشفع وأن يرضى بنجاة المشفوع له‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال‪ :‬كنا مع النبي صلى ال عليه وسلم ستة نفر فقال‬ ‫المشركون للنبي صلى ال عليه وسلم اطرد هؤلء عنك ل يجترئون علينا وكنت أنا وابن مسعود‬ ‫ورجل من هذيل وبلل ورجلن لست أسميهما فوقع في نفس رسول ال صلى ال عليه وسلم ما‬ ‫شاء ال أن يقع فحدّث نفسه فأنزل ال عز وجل‪{ :‬ول تطرد الذين يدعون ربهم‪ } ...‬الية‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية دليل على عدم جواز تعظيم الرجل لجاهه وثوبه وعدم احتقار الرجل لخموله ورثاثة‬ ‫ثوبه‪.‬‬ ‫‪ 6‬الفتنة‪ :‬الختبار أي‪ :‬عاملناهم معاملة المختبر لهم فأغنينا بعضا وأفقرنا بعضا واللّم في قوله‬ ‫تعالى‪{ :‬ليقولوا} هي لم العاقبة أي‪ :‬ليقول أغنياء وأشراف المشركين مشيرين إلى فقراء‬ ‫المؤمنين‪ :‬أهؤلء من ال عليهم بأن وفقهم لصابة الحق دوننا‪ ،‬ونحن الرؤساء وهم العبيد‪.‬‬

‫( ‪)2/64‬‬ ‫أي هكذا ابتلينا بعضهم ببعض هذا غني وذاك فقير‪ ،‬وهذا وضيع وذاك شريف‪ ،‬وهذا قوي وذاك‬ ‫ضعيف ليؤول المر ويقول الغنياء الشرفاء للفقراء الضعفاء من المؤمنين استخفافا بهم واحتقارا‬ ‫لهم‪ :‬أهؤلء الذين من ال عليهم بيننا بالهداية والرشد قال تعالى‪{ :‬أليس ال بأعلم بالشاكرين}‪ .‬بلى‬ ‫فالشاكرون هم المستحقون لنعام ال بكل خير وأما الكافرون فل يعطون ول يزادون لكفرهم‬ ‫النعم‪ ،‬وعدم شكرهم لها‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير بشرية الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ أن الرسول ل يعلم الغيب‪ ،‬وأنه ل يتصرف في شيء من الكون‪.‬‬ ‫‪ -3‬نفي مساواة المؤمن والكافر إذ المؤمن مبصر والكافر أعمى‪.‬‬

‫‪ -4‬استحباب مجالسة أهل الفاقة وأهل التقوى واليمان‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان الحكمة في وجود أغنياء وفقراء وأشراف ووضعاء‪ ،‬وأقوياء وضعفاء وهي الختبار‪.‬‬ ‫‪ -6‬الشاكرون مستوجبون لزيادة النعم‪ ،‬والكافرون مستوجبون لنقصانها وذهابها‪.‬‬ ‫ع ِملَ مِنكُمْ‬ ‫حمَةَ أَنّهُ مَن َ‬ ‫وَإِذَا جَاءكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِنَا َف ُقلْ سَلَمٌ عَلَ ْي ُكمْ كَ َتبَ رَ ّب ُكمْ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬ ‫ك ن َفصّلُ اليَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ‬ ‫غفُورٌ‪ 1‬رّحِيمٌ(‪َ )54‬وكَذَِل َ‬ ‫جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِن َبعْ ِد ِه وََأصْلَحَ فَأَنّهُ َ‬ ‫سُوءًا ِب َ‬ ‫ا ْلمُجْ ِرمِينَ(‪ُ )55‬قلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الّلهِ قُل لّ أَتّبِعُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ {فأنه غفور} بالفتح أنّه وقرئ بكسرها على الستئناف‪ ،‬أمّا على الفتح ففي توجيهه رأيان‪،‬‬ ‫الوّل أن يكون في موضع رفع على البتداء كأنّه قال‪ :‬فله أنه غفور رحيم أي‪ :‬فله غفران ال‪،‬‬ ‫ن وما وعملت فيه خبره‪ ،‬فأمره غفران ال له‪ ،‬وهذا الخير أولى‬ ‫والثاني‪ :‬أن يضم مبتدأ تكون أ ّ‬ ‫من الول‪.‬‬

‫( ‪)2/65‬‬ ‫أَ ْهوَاءكُمْ قَ ْد ضَلَ ْلتُ إِذًا َومَا أَنَاْ مِنَ ا ْل ُمهْتَدِينَ(‪ُ )56‬قلْ إِنّي عَلَى بَيّ َنةٍ مّن رّبّي َوكَذّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا‬ ‫ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ(‪ )58‬قُل ّلوْ أَنّ عِندِي مَا تَسْ َتعْجِلُونَ‬ ‫حكْمُ ِإلّ لِلّهِ َيقُصّ ا ْلحَ ّ‬ ‫تَسْ َتعْجِلُونَ ِبهِ إِنِ ا ْل ُ‬ ‫لمْرُ بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ أَعَْلمُ بِالظّاِلمِينَ(‪)58‬‬ ‫ضيَ ا َ‬ ‫بِهِ َل ُق ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سلم عليكم‪ :‬دعاء بالسلمة من كل مكروه‪ ،‬وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الخرة في الجنة‪.‬‬ ‫كتب ربكم على نفسه الرحمة‪ :‬أي أوجب الرحمة على نفسه فلذا ل يعذب إل بعد النذار‪ ،‬ويقبل‬ ‫توبة من تاب‪.‬‬ ‫سوءا‪ :‬أي ذنبا أساء به إلى نفسه‪.‬‬ ‫بجهالة ‪ :‬الجهالة أنواع منها‪ :‬عدم تقدير عاقبة الذنب‪ ،‬ونسيان عظمة الرب‪.‬‬ ‫تستبين‪ :‬تتضح وتظهر‪.‬‬ ‫نهيت ‪ :‬أي نهاني ربي أي زجرني عن عبادة أصنامكم‪.‬‬ ‫تدعون ‪ :‬تعبدون‪.‬‬ ‫بينة ‪ :‬البينة‪ :‬الحجة الواضحة العقلية الموجبة للحكم بالفعل أو الترك‪.‬‬ ‫إن الحكم ‪ :‬أي ما الحكم إل ل‪.‬‬ ‫يقص الحق ‪ :‬أي يخبر بالحق‪.‬‬ ‫خير الفاصلين ‪ :‬الفصل في الشيء‪ :‬القضاء والحكم فيه‪ ،‬والفاصل في القضية‪ :‬الحاكم فيها‬ ‫ومنهيها‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يرشد ال تبارك وتعالى رسوله إلى الطريقة المثلى في الدعوة إليه‪ ،‬بعد أن نهاه عن الطريقة التي‬ ‫هم بها وهي طرد المؤمنين من مجلسه ليجلس الكافرون رجاء هدايتهم فقال تعالى‪:‬‬

‫( ‪)2/66‬‬ ‫{وإذا جاءك الذين ‪ 1‬يؤمنون بآياتنا} أي يصدقون بنبوتك وكتابك وما جئت به من الدين الحق‬ ‫فهؤلء رحب بهم وقل ‪ 2‬سلم عليكم ومهما كانت ذنوبهم التي ارتكبوها‪ ،‬وأخبرهم أن ربهم تعالى‬ ‫قد كتب ‪ 3‬على نفسه الرحمة فل يخافون ذنوبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى ربهم باليمان به وتوطين‬ ‫النفس على طاعته‪{ ،‬أنه من عمل منكم سوءً‪ 4‬بجهالة ثم تاب من بعده} أي أقلع عن الذنب نادما‬ ‫مستغفرا‪ ،‬وأصلح نفسه بالصالحات فإن ربه غفور رحيم فسيغفر له ويرحمه‪ .‬هكذا يستقبل كل‬ ‫عبد جاء مؤمنا مستفتيا يسأل عن طريق النجاة يستقبل بالبشر والطلقة والتحية والسلم ل بالعنف‬ ‫والتقريع والتوبيخ‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )54‬أما الية الثانية (‪ )55‬فإنه تعالى بعد أن‬ ‫نهى رسوله عن الستجابة لقتراح المشركين المتكبرين‪ ،‬وعن طرد المؤمنين وعن حكمته في‬ ‫وجود أغنياء وفقراء وأقوياء وضعفاء في الناس وعن الطريقة المثلى في استقبال التائبين‬ ‫المستفتين بعد هذا كله قال تعالى‪{ :‬وكذلك نفصل اليات} أي مثل هذا التفصيل نفصل اليات‬ ‫مستقبلً لبيان الهداية اللهية ليهتدي من أراد ال له الهداية وقد طلبها ورغب فيها‪ ،‬ولتستبين ‪5‬‬ ‫وتتضح سبيل المجرمين‪ ،‬فل تُتبع وَيَنْهى عن اتباعها‪ ،‬لنها طريق الهلك والدمار‪ .‬هذا ما أفادته‬ ‫الية الثانية أما اليات الثالثة والرابعة والخامسة في هذا السياق فهي تحمل الهداية اللهية للرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم في طريق دعوته إلى ربه فكل آية من تلك اليات مفتتحة بكلمة (قل) أي قل‬ ‫أيها الرسول لولئك المشركين الذين يدعونك إلى موافقتهم على شركهم وعبادة غيري معهم {أني‬ ‫نهيت} أي نهاني ربي أن أعبد ما تدعون ‪ 6‬من الصنام والوثان‪ ،‬وقل لهم‪ :‬ل أتبع أهواءكم في‬ ‫عبادة غير ال تعالى الموروثة لكم عن آبائكم الضلل مثلكم إني إن فعلت أكون قد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي عن الفضل بن عباس قول‪ :‬جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا‬ ‫إنّا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الية‪ ،‬وروي عن أنس بن مالك مثله‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬سلمكم ال في دينكم وأنفسكم‪ ،‬كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلم وقال‪:‬‬ ‫"الحمد ل الذي جعل من أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلم "‪.‬‬ ‫‪ 3‬كتب‪ :‬بمعنى أوجب ذلك على نفسه بفضله ورحمته‪ ،‬وكتبه في اللوح المحفوظ فالكتابة على‬ ‫بابها إذا‪.‬‬ ‫‪{ 4‬سوءا} أي خطيئة من غير إرادة تحدي شرع ال وانتهاك حرماته وإنما ضعفا منه وعدم قدرة‬

‫على التغلب على طبعه وشهوته وميل هواه‪.‬‬ ‫‪ 5‬قرىء‪{ :‬ليستبين} بالياء والتاء فقراءة التاء يكون الخطاب فيها لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫أي‪ :‬ولتستبين يا رسولنا سبيل المجرمين‪ ،‬وخطاب النبي صلى ال عليه وسلم خطاب لمته‪ ،‬وإذا‬ ‫بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين وقراءة الياء ليستبين سبيل المجرمين‪ ،‬فسبيل مرفوع‬ ‫على الفاعلية‪.‬‬ ‫‪ 6‬أطلق لفظ الدعاء وأريد به العبادة‪ ،‬لنّ الدعاء هو العبادة ومخها أيضا لما في الدعاء من‬ ‫مظاهر العبودية ل تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته عز وجل‪.‬‬

‫( ‪)2/67‬‬ ‫ضللت ‪ 1‬إذا وما أنا من المهتدين إلى سبل الفوز والفلح‪ .‬وقل ‪{:‬إني على بينة من ربي} أي على‬ ‫علم يقيني من وجوب اليمان بال ووجوب توحيده وطاعته ووجوب الدعوة إلى ذلك‪ ،‬وكذبتم أنتم‬ ‫بهذا كله وبالعذاب إذ أنذرتكم به وأنا ما عندي ما تستعجلون به من العذاب‪ ،‬ولو كان عندي لحل‬ ‫بكم وانتهى أمركم‪ ،‬ولكن الحكم ل ليس لحد غيره وقد قص عليكم أخبار السابقين المطالبين ‪2‬‬ ‫رسلهم بالعذاب ورأيتم كيف حل بهم العذاب‪{ ،‬وال يقص ‪ 3‬الحق وهو خير الفاصلين} فإذا أراد‬ ‫أن يحكم بيني وبينكم فإنه نعم الحكم والعدل وهو خير الحاكمين‪ .‬وقل لهم يا رسولنا {لو أن عندي‬ ‫ما تستعجلون به} من العذاب {لقضي المر بيني وبينكم} بتدمير الظالم منا‪{ ،‬وال أعلم بالظالمين}‪،‬‬ ‫ول يهلك غيرهم لنهم المستوجبون للعذاب بظلمهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬إتباع أهواء أهل الهواء والباطل يضل ويهلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بال تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده‬ ‫وأحكام شرعه‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلل من القتراحات الفاسدة‪.‬‬ ‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ‬ ‫وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَ َيعَْل ُمهَا ِإلّ ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ‬ ‫ب َولَ يَا ِبسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ(‪)59‬‬ ‫ط ٍ‬ ‫حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْرضِ َولَ رَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ {ضلَلِت} بفتح اللم وكسرها‪ ،‬وهما لغتان‪ ،‬فضلِلت‪ :‬بكسر اللم لغة تميم‪ ،‬والفتح لغة‬ ‫الحجاز‪ ،‬وهي أفصح‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ أكثر أمم الوصل قالوا لرسلهم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قالتها عاد لنبيها هود‬

‫وقالها قوم نوح لنوح عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬يقص القصص الحق‪ ،‬قال القرطبي بهذا استدل من منع المجاز في القرآن‪ ،‬وقرئ نقض‬ ‫بالضاد من القضاء ويدل عليه قوله بعد‪{ :‬وهو خير الفاصلين} الفصل‪ :‬القضاء والحكم‪.‬‬

‫( ‪)2/68‬‬ ‫ج ُعكُمْ‬ ‫سمّى ُثمّ إِلَيْهِ مَرْ ِ‬ ‫جلٌ مّ َ‬ ‫ل وَ َيعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِال ّنهَارِ ثُمّ يَ ْبعَ ُث ُكمْ فِيهِ لِ ُي ْقضَى َأ َ‬ ‫وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُم بِاللّ ْي ِ‬ ‫حفَظَةً حَ ّتىَ إِذَا جَاء َأحَ َدكُمُ‬ ‫سلُ عَلَ ْيكُم َ‬ ‫ثُمّ يُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ(‪ )60‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ‬ ‫حكْ ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ‬ ‫ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ(‪)61‬ثُمّ ُردّواْ إِلَى اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ َألَ َلهُ ا ْل ُ‬ ‫الْحَاسِبِينَ(‪)62‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مفاتح الغيب‪ :‬المفاتح‪ :‬جمع ‪ 1‬مفتح بفتح الميم أي المخزن‪.‬‬ ‫البر والبحر‪ :‬البر ضد البحر‪ ،‬وهو اليابس من الرض‪ ،‬والبحر ما يغمره الماء منها‪.‬‬ ‫ورقة‪ :‬واحدة الورق والورق للشجر كالسعف للنخل‪.‬‬ ‫حبة‪ :‬واحدة الحب من ذرة أو بر أو شعير أو غيرها‪.‬‬ ‫ول رطب ‪ :‬الرطب ضد اليابس من كل شيء‪.‬‬ ‫في كتاب مبين‪ :‬أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير‪.‬‬ ‫يتوفاكم بالليل‪ :‬أي ينيمكم باستتار الرواح وحجبها عن الحياة كالموت‪.‬‬ ‫جرحتم‪ :‬أي كسبتم بجوارحكم من خير وشر‪.‬‬ ‫ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى‪ :‬أي يوقظكم لتواصلوا العمل إلى نهاية الجل المسمى لكل‪.‬‬ ‫حفظة ‪ :‬الكرام الكاتبين‪.‬‬ ‫رسلنا‪ :‬ملك الموت وأعوانه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المفتاح والجمع مفاتيح‪ ،‬والمفتح‪ :‬عبارة عن كل ما يحل مغلقا محسوسا كالقفل للباب‪ ،‬أو معقولً‬ ‫كالنظر‪ .‬وفي الحديث‪" :‬إنّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر"‪.‬‬

‫( ‪)2/69‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى في نهاية الية السابقة أنه أعلم بالظالمين المستحقين للعقوبة أخبر عز وجل أن‬ ‫المر كما قال ودليل ذلك أنه عالم الغيب والشهادة‪ ،‬إذ {عنده مفاتح الغيب ‪ }1‬أي خزائن الغيب‬

‫وهو الغيب الذي استأثر بعلمه فل يعلمه سواه ‪ 2‬ويعلم ما في البر والبحر وهذا من عالم الشهادة‪،‬‬ ‫إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح‬ ‫المحفوظ‪ ،‬وهو ما دل عليه قوله‪{ :‬وما تسقط من ورقة إل يعلمها ول حبة في ظلمات الرض ول‬ ‫رطب ‪ 3‬ول يابس إل في كتاب مبين} وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذا فهو عالم الغيب والشهادة‬ ‫أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما‪ ،‬فكيف إذا ل يعبد ول يرغب فيه ول يرهب منه‬ ‫وأين هو في كماله وجلله من أولئك الموات من أصنام وأوثان‪.‬؟؟ هذا ما دلت عليه الية الولى‬ ‫(‪ )59‬وأما الية الثانية (‪ )65‬فقد قررت ما دلت عليه الية قبلها من قدرة ال وعلمه وحكمته فقال‬ ‫تعالى مخبرا عن نفسه {وهو الذي يتوفاكم ‪ 4‬بالليل} حال نومكم إذ روح النائم تقبض ما دام نائما‬ ‫ثم ترسل إليه عند إرادة ال بعثه من نومه أي يقظته‪ ،‬وقوله {ثم يبعثكم فيه} أي في النهار المقابل‬ ‫لليل‪ ،‬وعلة هذا أن يقضى ويتم الجل الذي حدده تعالى للنسان يعيشه وهو مدة عمره طالت أو‬ ‫قصرت‪ ،‬وهو معنى قوله {ثم يبعثكم فيه ليُقضى أجل مسمى} وقوله تعالى {ثم إليه مرجعكم} ل‬ ‫محالة وذلك بعد نهاية الجل‪{ ،‬ثم ينبئكم} بعلمه {بما كنتم تعملون} من خير وشر ويجازيكم بذلك‬ ‫وهو خير الفاصلين‪ .‬وفي الية الثالثة يخبر تعالى عن نفسه أيضا تقريرا لعظيم سلطانه الموجب‬ ‫له بالعبادة والرغبة والرهبة إذ قال مخبرا عن نفسه {وهو القاهر فوق عباده}‪ ،‬ذو القهر التام‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري عن ابن عمر رضي ال عنهما عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬مفاتيح‬ ‫الغيب خمس ل يعلمها إلّ ال‪ :‬ل يعلم ما تغيض الرحام إل ال‪ ،‬ول يعلم ما في غد إل ال ول‬ ‫يعلم متى يأتي المطر أحد إل ال‪ ،‬ول تدري نفس بأي أرض تموت إل ال ول يعلم متى تقوم‬ ‫الساعة إل ال" ولذا قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلة‬ ‫أربعين ليلة" والعرّاف الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب‪ ،‬والمهنة‪ :‬العرافة‪ ،‬وصاحبها‬ ‫عَرّاف‪ .‬وفي مسلم عن عائشة أنها قالت سأل رسول ال أناس عن الكهانة فقال‪" :‬ليست بشيء‪.‬‬ ‫فقالوا يا رسول ال انهم يحدّثون أحيانا بشيء فيكون حقا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم تلك‬ ‫الكلمة الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي ال عنها قالت‪ :‬من زعم أن رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على ال الفرية‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬قل ل يعلم من في‬ ‫السموات والرض الغيب إل ال}‪.‬‬ ‫‪ 3‬يطلق لفظ الرطب على الماء وما ينبت والحيّ‪ ،‬ولسان المؤمن‪ ،‬واليابس على ضد ذلك كالياس‬ ‫والتراب ومال ينبت‪ ،‬ولسان الكافر لنّه ل يذكر ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 4‬التوفي‪ :‬استيفاء الشيء‪ ،‬وتوفي الميت‪ :‬استوفى عدد أيام عمره‪ ،‬والنائم كأنه استوفى حركاته في‬ ‫اليقظة‪ ،‬والوفاة‪ :‬الموت‪ ،‬واستوفى دينه‪ :‬أخذه كاملً‪.‬‬

‫( ‪)2/70‬‬ ‫والسلطان الكامل على الخلق أجمعين {ويرسل عليكم} أيها الناس {حفظة ‪ }1‬بالليل والنهار يكتبون‬ ‫أعمالكم وتحفظ لكم لتجزوا بها {حتى إذا جاء أحدكم الموت} لنقضاء أجله {توفته رسلنا} ملك‬ ‫الموت وأعوانه‪{ ،‬وهم ل يفرطون} أي ل يضيعون ول يقصرون وأخيرا يقول تعالى مخبرا‬ ‫بالمر العظيم إنه الوقوف بين يدي الرب تعالى المولى الحق الذي يجب أن يعبد دون سواه‪ ،‬وقد‬ ‫كفره أكثر الناس وعصوه‪ ،‬وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته وأدهى من ذلك عبدوا غيره من‬ ‫مخلوقاته فكيف يكون حسابهم والحكم عليهم؟ وال يقول‪{ :‬ثم ردوا إلى ال مولهم الحق أل له‬ ‫الحكم وهو أسرع الحاسبين ‪.}2‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬استئثار ال تعالى بعلم الغيب‪.‬‬ ‫‪ -3‬كتاب المقادير حوى كل شيء حتى سقوط الورقة من الشجرة وعلم ال بذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬صحة إطلق الوفاة على النوم‪ ،‬وبهذا فسر قوله تعالى لعيسى إني متوفيك‪.‬‬ ‫‪ - 5‬تقرير مبدأ المعاد والحساب والجزاء‪.‬‬ ‫خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ َه ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ‬ ‫ُقلْ مَن يُ َنجّيكُم مّن ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َتدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ‬ ‫الشّاكِرِينَ(‪ُ )63‬قلِ اللّهُ يُ َنجّيكُم مّ ْنهَا َومِن ُكلّ كَ ْربٍ ثُمّ أَنتُمْ تُشْ ِركُونَ(‪ُ )64‬قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَى أَن‬ ‫ضكُم‬ ‫سكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬ ‫حتِ أَرْجُِل ُكمْ َأوْ يَلْبِ َ‬ ‫يَ ْب َعثَ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابًا مّن َف ْوقِكُمْ َأوْ مِن َت ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحفظة ‪ :‬جمع حافظ كالكتبة جمع كاتب‪ ،‬والمراد هنا‪ :‬الملئكة الكرام الكاتبون وهم أربعة‪:‬‬ ‫ملكان بالليل‪ ،‬وملكان بالنهار‪ ،‬وخامس ل يفارق أبدا‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أسرع الحاسبين} أي‪ :‬ل يحتاج إلى فكرة وروية ول عقد يدٍ‪.‬‬

‫( ‪)2/71‬‬ ‫ستُ‬ ‫بَأْسَ َب ْعضٍ انظُرْ كَيْفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َيفْ َقهُونَ(‪َ )65‬وكَ ّذبَ بِهِ َق ْو ُمكَ وَ ُهوَ ا ْلحَقّ قُل لّ ْ‬ ‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ(‪)67‬‬ ‫عَلَ ْيكُم ِب َوكِيلٍ(‪ّ )66‬ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ينجيكم‪ :‬يخلصكم مما تخافون‪.‬‬

‫تضرعا وخفية ‪ :‬التضرع‪ :‬الدعاء بتذلل وخفية بدون جهر بالدعاء‪.‬‬ ‫من هذه ‪ :‬أي الهلكة‪.‬‬ ‫من الشاكرين ‪ :‬المعترفين بفضلك الحامدين لك على فعلك‪.‬‬ ‫كرب ‪ :‬الكرب‪ :‬الشدّة الموجبة للحزن وألم الجسم والنفس‪.‬‬ ‫تشركون ‪ :‬أي به تعالى بدعائهم أصنامهم وتقربهم إليها بالذبائح‪.‬‬ ‫من فوقكم‪ :‬كالصواعق ونحوها‪.‬‬ ‫من تحت أرجلكم‪ :‬كالزلزال والخسف ونحوها‪.‬‬ ‫أو يلبسكم شيعا ‪ :‬أي يخلط عليكم أمركم فتختلفون شيعا وأحزابا‪.‬‬ ‫ويذيق بعضكم بأس بعض‪ :‬أي يقتل بعضكم بعضا فتذيق كل طائفة الخرى ألم الحرب‪.‬‬ ‫يفقهون ‪ :‬معاني ما نقول لهم‪.‬‬ ‫وكذب به قومك ‪ :‬أي قريش‪.‬‬ ‫الوكيل‪ :‬صن يوكل إليه الشيء أو المر يدبره‪.‬‬ ‫لكل نبأ مستقر‪ :‬المستقر‪ :‬موضع الستقرار والنبأ‪ :‬الخبر العظيم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق مع المشركين العادلين بربهم فيقول ال تعالى لرسوله قل لهم‪{ :‬من ينجيكم من‬ ‫ظلمات البر ‪ 1‬والبحر} إذا ضل أحدكم طريقه في الصحراء ودخل عليه ظلم الليل‪ ،‬أو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ظلمات البر والبحر‪ :‬كناية عن شدائدهما‪ ،‬يقال‪ :‬يوم مظلم أي‪ :‬شديد‪ ،‬وتقول العرب‪ :‬يوم ذو‬ ‫كواكب وأنشد سيبويه‪.‬‬ ‫بني أسد هل تعلمون بلدنا ‪ ...‬إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا‬ ‫وجمع الظلمات لتعددها إذ هي ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم‪.‬‬

‫( ‪)2/72‬‬ ‫ركب البحر فغشيته ظلمة السحاب والليل والبحر واضطربت نفسه من الخوف يدعو من؟ إنه‬ ‫يدعو ال وحده لعلمه أنه ل ينجيه إل هو يدعوه ويتضرع إليه جهرا وسرا قائلً وعزتك لئن‬ ‫أنجيتنا من هذه الهلكة التي حاقت بنا لنكونن من الشاكرين لك‪ .‬ثم إذا نجاكم استجابة لدعائكم‬ ‫وأمنتم المخاوف عدتم فجأة إلى الشرك به بدعاء غيره‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪{ )63‬قل‬ ‫من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية‪ ،‬لئن أنجانا من هذه لنكونن من‬ ‫الشاكرين}‪ ،‬وفي الية الثانية (‪ )64‬يأمر ال تعالى رسوله أن يقول لهم جوابا لقوله من ينجيكم‬ ‫‪{:‬ال ينجيكم منها ‪ }1‬أي من تلك الحالة التي اضطربت لها نفوسكم وخشيتم فيها الهلك وينجيكم‬

‫أيضا من كل كرب ‪ ،2‬ثم مع هذا يا للعجب أنتم تشركون ‪ 3‬به تعالى أصنامكم‪ .‬قل لهم يا رسولنا‬ ‫أن ال الذي ينجيكم من كل كرب هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من السماء فوقكم ‪ ،4‬أو‬ ‫من الرض تحتكم‪ ،‬أو يخلط عليكم أمركم فتتنازعوا فتختلفوا فتصبحوا شيعا وطوائف وفرقا‬ ‫متعادية يقتل بعضكم بعضا‪ ،‬فيذيق بعضكم بأس بعض‪ ،‬ثم قال ال تعالى لرسوله انظر يا رسولنا‬ ‫كيف نفصل اليات بتنويع الكلم وتوضيح معانيه رجاء أن يفقهوا معنى ما نقول لهم فيهتدوا إلى‬ ‫الحق فيؤمنوا بال وحده ويؤمنوا بلقائه وبرسوله وما جاء به فيكملوا ويسعدوا وفي الية (‪)65‬‬ ‫يخبر تعالى بواقع القوم‪ :‬أنهم كذبوا بهذا القرآن وما أخبرهم به من الوعيد الشديد وهو الحق الذي‬ ‫ليس بباطل ول يأتيه الباطل‪ ،‬ويأمر رسوله أن يقول لهم بعد تكذيبهم له {لست عليكم بوكيل}‬ ‫فأخاف من تبعة عدم إيمانكم وتوحيدكم {لكل نبأ مستقر ‪ }5‬وقد أنبأتكم بالعذاب على تكذيبكم‬ ‫وشرككم {وسوف تعلمون} ذلك يوم يحل بكم وقد استقر نبأه يوم بدر والحمد ل‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل برهان أعظم على بطلن الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء ل تعالى في الشدة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرئ‪{ :‬ينجّيكم} بالتشديد‪ ،‬و {ينجيكم} بالتخفيف‪ ،‬والمعنى واحد والفعل‪ :‬يقال نجّاه من كذا وأنجاه‬ ‫من كذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬الكرب‪ :‬الغمّ يأخذ النفس ويقال فيه‪ :‬رجل مكروب‪ ،‬والكربة مأخوذة منه‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الجملة تحمل لهم التقريع والتوبيخ أي‪ :‬ومع هذا النجاء الذي يحصل لكم من ربكم إذا أنتم‬ ‫مشركون يا للوقاحة والدناءة‪ ،‬وإلّ فهم مشركون من قبل‪.‬‬ ‫‪ 4‬من فوقكم كالحجارة‪ ،‬والطوفان والصواعق ومن تحتكم كالخسف والرجفة‪.‬‬ ‫‪{ 5‬لكل نبأ} أي‪ :‬خبر مستقر أي وقت يقع فيه مضمونه فل يتقدّم ول يتأخر‪.‬‬

‫( ‪)2/73‬‬ ‫‪ -2‬ل منجى من الشدائد ول منقذ من الكروب إل ال سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من الختلف المفضي ‪ 1‬إلى النقسام والتكتل‪.‬‬ ‫‪{ -4‬لكل نبأ مستقر} ‪ .‬أجري مجرى المثل ‪ ،‬وكذا {سوف تعلمون}‪.‬‬ ‫حدِيثٍ غَيْ ِرهِ وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ‬ ‫وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّى َيخُوضُواْ فِي َ‬ ‫شيْءٍ‬ ‫حسَا ِبهِم مّن َ‬ ‫الشّ ْيطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَى مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪َ )68‬ومَا عَلَى الّذِينَ يَ ّتقُونَ مِنْ ِ‬ ‫وََلكِن ِذكْرَى َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ(‪ )69‬وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِي َنهُمْ َلعِبًا وََل ْهوًا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَ َذكّرْ ِبهِ أَن‬ ‫خذْ مِ ْنهَا ُأوْلَ ِئكَ‬ ‫ل لّ ُيؤْ َ‬ ‫شفِي ٌع وَإِن َت ْع ِدلْ ُكلّ عَ ْد ٍ‬ ‫ي وَلَ َ‬ ‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّ ِه وَِل ّ‬ ‫تُبْ َ‬

‫حمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ(‪)70‬‬ ‫الّذِينَ أُبْسِلُواْ ِبمَا كَسَبُواْ َلهُمْ شَرَابٌ مّنْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يخوضون في آياتنا ‪ :‬يتكلمون في القرآن طعنا فيه ونقدا له ولما جاء فيه‪.‬‬ ‫فأعرض عنهم ‪ :‬قم محتجا على صنيعهم الباطل‪ ،‬غير ملتفت إليهم‪.‬‬ ‫بعد الذكرى ‪ :‬أي بعد التذكر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يحسن ذكر شاهد عظيم على معنى هذه الية‪{ :‬ويلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} روى‬ ‫مسلم عن ثوبان قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنّ ال زوى لي الرض (أي جمعها)‬ ‫فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الحمر‬ ‫والبيض وإني سألت ربي لمّتي ألّ يهلكهم بسنة عامة وأل يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم‬ ‫فيستبيح بيضتهم وإنّ ربي قال لي يا محمد‪ :‬إني إذا قضيت قضاء فإنه ل يرد وإني أعطيتك لمّتك‬ ‫أل أهلكهم بسنة عامة وأل أسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم‬ ‫من بأقطارها‪ ،‬أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا"‪.‬‬

‫( ‪)2/74‬‬ ‫ولكن ذكرى ‪ :‬أي موعظة لهم‪.‬‬ ‫وذر الذين ‪ :‬أي اترك الكافرين‪.‬‬ ‫لعبأ ولهوا ‪ :‬كونه لعبا لنه ل يجنون منه فائدة قط‪ ،‬وكونه لهوا لنهم يتلهون به وشغلهم عن الدين‬ ‫الحق الذي يكملهم ويسعدهم‪.‬‬ ‫أن تبسل نفس‪ :‬أي تسلم فتؤخذ فتحبس في جهنم‪.‬‬ ‫كل عدل‪ :‬العدل هنا‪ :‬الفداء‪.‬‬ ‫أبسلو‪ :‬حبسوا في جنهم بما كسبوا من الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫من حميم ‪ :‬الحميم الماء الشديد الحرارة الذي ل يطاق‪.‬‬ ‫وعذاب أليم‪ :‬أي شديد اللم واليجاع وهو عذاب النار‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين المكذبين في!قول ال تعالى لرسوله {وإذا رأيت ‪1‬‬ ‫الذين يخوضون في آياتنا} يستهزئون باليات القرآنية ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد‬ ‫والعذاب للكافرين {فأعرض عنهم} أي فصد عنهم وانصرف {حتى يخوضوا في حديث غيره} وإن‬ ‫أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ول تقعد مع القوم الظالمين‪،‬وقوله تعالى‪{ :‬وما‬ ‫على الذين يتقون من حسابهم من شيء} أي وليس على المؤمنين المتقين أنت وأصحابك يا رسولنا‬

‫من تبعة ول مسئولية ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن‬ ‫الخوض في آيات ال تعالى‪ .‬وهذا كان بمكة قبل قوة السلم‪ ،‬ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس‬ ‫مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات ال ومن جلس معهم يكون مثلهم وهو أمر عظيم قال‬ ‫تعالى‪{ :‬وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات ال يكفر بها ويستهزأ بها فل تقعدوا معهم‬ ‫حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخطاب للرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه وأمته داخلة معه في هذا فمتى حصل لمؤمن‬ ‫أو مؤمنة مثل هذا تعيّن عليه أن يقوم احتجاجا وعدم رضا‪ ،‬وفي الية دليل على أنّ مجالسة أهل‬ ‫الكبائر ل تجوز لسيما في حال تلبسهم بالكبيرة‪ ،‬وهذه أقوال السلف في هذه المسألة قال ابن‬ ‫خويز منداد‪ :‬من خاض في آيات ال تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافرا قال القرطبي‪:‬‬ ‫منع أصحابنا الدخول على أرض العدو ودخول كنائسهم ومجالسة الكفار وأهل البدع وأل تعتقد‬ ‫مودّتهم ول يسمع كلمهم ول مناظرتهم‪ .‬قال الفضيل بن عياض من أحبّ صاحب بدعة أحبط ال‬ ‫عمله وأخرج نور اليمان من قلبه‪.‬‬

‫( ‪)2/75‬‬ ‫أما الثالثة (‪ )70‬فإن ال تعالى يأمر رسوله أن يترك الذين اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به‬ ‫رسول الحق لعبا ولهوا يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به وغرتهم الحياة الدنيا قال‬ ‫تعالى‪{ :‬وذر الذين اتخذوا دينهم ‪ 1‬لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا} اتركهم فل يهمك أمرهم وفي‬ ‫هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والستهزاء‪ ،‬وقد أخبر تعالى في سورة الحجر‬ ‫أنه كفاه أمرهم إذ قال {إنا كفيناك المستهزئين} ‪ ،‬وقوله تعالى {وذكر به} أي بالقرآن {أن تبسل‬ ‫نفس} أي كي ل تبسل ‪{ 2‬بما كسبت} أي كي ل تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك‬ ‫والمعاصي‪{ ،‬ليس لها} يوم تسلم للعذاب {من دون ال ولي} يتولى خلصها‪{ ،‬ول شفيع} يشفع لها‬ ‫فينجيها من عذاب النار {وإن تعدل كل ‪ 3‬عدل ل يؤخذ منها} أي وإن تقدم ما أمكنها حتى ولو‬ ‫كان ملء الرض ذهبا فداء لها لما نفعها ذلك ولما نجت من النار‪ ،‬ثم قال تعالى‪{ :‬أولئك الذين‬ ‫أبلسوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم} أبلسوا‪ :‬أسِْلمُوا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا‬ ‫من الذنوب والثام لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع اليم‪ .‬وذلك بسبب كفرهم‬ ‫بال وآياته ورسوله حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم فما أصبح يلئم وصفهم إل عذاب النار قال‬ ‫تعالى من هذه السورة سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫‪ -1‬حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من السلم وشرائعه وأحكامه وأهله‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب القيام احتجاجا من أي مجلس يعصى فيه ال ورسوله‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية العراض في حال الضعف عن المستهزئين بالسلم الذين غرتهم الحياة الدنيا من‬ ‫أهل القوة والسلطان وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فل يفرح بهم ول يضحك لهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في الدين الذي اتخذه المشركون لهوا ولعبا‪ ،‬والظاهر أنّه السلم الذي جاءهم الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم به إذ ل دين ل سواه وبعث ال تعالى إليهم رسوله به فهو دينهم ومع السف‬ ‫رفضوه واتخذوه لهوا ولعبا يسخرون ويستهزئوا به‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال القرطبي تبسل أي ترتهن وتسلم للهلكة عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والبسال تسليم‬ ‫المرء للهلك‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫وابسالي بنيّ بغير جرم ‪ ...‬بعوناه ول بدم مراق‬ ‫ومعنى بعوناه جنيناه‪ .‬والشاهد في قوله وإبسالي بني حيث أسلم بنيه للهلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬العدل الفداء أو الفدية‪.‬‬

‫( ‪)2/76‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬من مات على كفره لم ينج من النار إذ ل يجد فداء ول شفيعا يخلصه من النار بحال‪.‬‬ ‫عقَابِنَا َبعْدَ إِذْ هَدَانَا الّلهُ كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ‬ ‫ُقلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ الّلهِ مَا لَ يَنفَعُنَا َولَ َيضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَى أَ ْ‬ ‫الشّيَاطِينُ فِي الَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ َأصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ا ْل ُهدَى ائْتِنَا ُقلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْل ُه َدىَ‬ ‫حشَرُونَ(‪ )72‬وَ ُهوَ‬ ‫وَُأمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )71‬وَأَنْ َأقِيمُواْ الصّل َة وَا ّتقُو ُه وَ ُهوَ الّ ِذيَ إِلَ ْيهِ تُ ْ‬ ‫ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي‬ ‫حّ‬ ‫ق وَ َيوْمَ َيقُولُ كُن فَ َيكُونُ َقوْلُهُ الْ َ‬ ‫حّ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بِالْ َ‬ ‫الّذِي خَلَقَ ال ّ‬ ‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ(‪)73‬‬ ‫شهَا َد ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬ ‫ب وَال ّ‬ ‫صوَرِ عَالِمُ ا ْلغَ ْي ِ‬ ‫ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أندعوا ‪ : :‬أي نعبد‪.‬‬ ‫ما ل ينفعنا ول يضرنا‪ :‬أي ما ل يقدر على نفعنا ول على ضرنا لو أراد ذلك لنا‪.‬‬ ‫ونرد على أعقابنا ‪ :‬أي نرجع كفارا بعد أن كنا مؤمنين‪.‬‬ ‫استهوته الشياطين ‪ :‬أي أضلته في الرض فهوى فيها تائه حيران ل يدري أين يذهب‪.‬‬ ‫واتقوه‪ :‬أي اتقوا ال بتوحيده في عبادته وترك معصيته‪.‬‬ ‫ويوم يقول كن فيكون ‪ :‬أي في يوم القيامة‪.‬‬

‫الصور ‪ :‬بوق كالقرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلم‪.‬‬ ‫الحكيم‪ :‬في أفعاله الخبير بأحوال عباده‪.‬‬

‫( ‪)2/77‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يدل السياق على أن عرضا من المشركين كان لبعض المؤمنين لن يعبدوا معهم آلهتهم فأمر ال‬ ‫تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص منكرا عليهم ذلك أشد النكار {قل أندعوا من دون‬ ‫ال}‪ ،‬الستفهام للنكار‪{ ،‬ما ل ينفعنا} إن عبدناه‪{ ،‬ول يضرنا} إن تركنا عبادته وبذلك نصبح وقد‬ ‫رددنا على أعقابنا ‪ 1‬من التوحيد إلى الشرك بعد إذ هدانا ال إلى اليمان به ومعرفته ومعرفة‬ ‫دينه‪ ،‬ويكون حالنا كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها فل يدرى أين يذهب ول أين‬ ‫يجيئ‪{ ،‬وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا} وهو ل يقدر على إجابتهم ول التيان إليهم لشدة ما‬ ‫فعل استهواء ‪ 2‬الشياطين في عقله‪ .‬ثم أمره أن يقول أيضا قل إن الهدى الحق الذي ل ضلل ول‬ ‫خسران فيه هدى ال الذي هدانا إليه أل إنه السلم‪ ،‬وقد أمرنا ربنا أن نسلم ‪ 3‬له قلوبنا ووجوهنا‬ ‫لنه رب العالمين فأسلمنا‪ ،‬كما أمرنا أن نقيم الصلة فأقمناها وأن نتقيه فاتقيناه وأعلمنا أنا سنحشر‬ ‫إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك نم هدانا فلن نرجع بعد إلى الضللة‪ .‬هذا ما تضمنته اليتان‬ ‫الولى والثانية أما الثالثة (‪ )73‬فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله فقال‬ ‫تعالى‪{ :‬وهو} أي ال رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له فأسلمنا {الذي خلق السموات والرض‬ ‫بالحق ‪ }4‬فلم يخلقهما عبثا وباطلً بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر‪ ،‬ويوم يقول لما أراد إيجاده أو‬ ‫إعدامه أو تبديله كن فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائما {وله الملك يوم ‪ 5‬ينفخ في الصور}‪6‬‬ ‫نفخة الفناء فل يبقى شيء إل هو الواحد القهار فيقول جل ذكره {لمن الملك اليوم} فل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي نرجع من الهدي إلى الضلل‪ .‬والعقاب جمع عقب وهي مؤنثه فتصغر على عقبيه‪ .‬ويقال‬ ‫رجع على عقبيه إذا أدبر وأصابه من العاقبة والعقبى من ذلك عقب الرجل ومنه العقوبة لنها‬ ‫تالية للترتيب وتكون نسبية‪.‬‬ ‫‪ 2‬استهوته بمعنى استغوته وزينت له هواه ودعته إليه فهو إذا من هوى يهوى من هوى النفس‬ ‫وليس هو يهوى إلى الشيء إذا أسرع إليه والحيران هو الذي ل يهتدي لجهله‪.‬‬ ‫‪ 3‬الية وأمرنا لنسلم ومعناها أمرنا بأن نسلم تقول العرب أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى واحد‬ ‫واللمات أربع‪ :‬لم الجر‪ ،‬لم البتداء‪ ،‬لم التوكيد‪ ،‬ولم المر‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال القرطبي‪ :‬ومعنى {بالحق} أي بكلمة الحق يعني قوله {كن} وهو كما قال إل أن القول أن‬ ‫ح ْكمَةٍ أي لم يخلقها لهوا أو لعبا هذا أوضح وأهم كما هو في التفسير‪.‬‬ ‫بالحق بمعنى ب ِ‬

‫‪ 5‬من أخطاء الناس قول من قال الصور جمع صورة ومعناه ينفخ في الصور فتتم الحياة وهذا‬ ‫يتنافى مع الحاديث الصحاح ومع سياق الية‪ .‬إذ قال ثم نفخ فيه أخرى أي مرة أخرى ولم يقل‬ ‫فيها أي في الصور فأين معنى الصورة هنا؟‬ ‫‪ 6‬الصور القرن والنافخ فيه إسرافيل عليه السلم والمراد بالنفخة هنا نفخة الفناء والنفخة التالية‬ ‫لها نفخة البعث وهناك نفخة الصعقة وهم في ساحة القضاء ونفخة رابعة وهي التي يقومون فيها‬ ‫لفصل القضاء‪.‬‬

‫( ‪)2/78‬‬ ‫يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائل‪{ :‬ل الواحد القهار} {عالم الغيب والشهادة} أي يعلم ما غاب في‬ ‫خزائن الغيب عن كل أحد‪ ،‬ويعلم الشهادة والحضور ل يخفي عليه أحد وهو الحكيم في تصرفاته‬ ‫وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته الخبير ببواطن المور وظواهرها ل يخفى عليه شيء في‬ ‫الرض ول في السماء بهذا كان المعبود الحق الذي ل يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من‬ ‫العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى ل ُيعْبَد بها‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قبح الردة وسوء عاقبتها‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل هدى إل هدى ال تعالى أي ل دين إل السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب السلم ل تعالى وإقامة الصلة واتقاء ال تعالى بفعل المأمور وترك المنهي‪.‬‬ ‫‪ -5‬تقرير المعاد والحساب والجزاء‪.‬‬ ‫للٍ مّبِينٍ(‪َ )74‬وكَذَِلكَ نُرِي‬ ‫ك َو َق ْو َمكَ فِي ضَ َ‬ ‫وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَامًا آِلهَةً إِنّي أَرَا َ‬ ‫ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ(‪ )75‬فََلمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّ ْيلُ رَأَى َك ْوكَبًا قَالَ‬ ‫ت وَالَرْ ِ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬ ‫ب الفِلِينَ(‪ )76‬فََلمّا رَأَى ا ْل َقمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبّي فََلمّا َأ َفلَ قَالَ لَئِن لّمْ‬ ‫ح ّ‬ ‫هَذَا رَبّي فََلمّا َأ َفلَ قَالَ ل أُ ِ‬ ‫شمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَآ َأكْبَرُ فََلمّا‬ ‫َيهْدِنِي رَبّي لكُونَنّ مِنَ ا ْل َقوْمِ الضّالّينَ(‪ )77‬فََلمّا رَأَى ال ّ‬ ‫َأفََلتْ قَالَ يَا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ(‪)78‬‬

‫( ‪)2/79‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ حَنِيفًا َومَا أَنَاْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪)79‬‬ ‫جهِيَ لِلّذِي فَطَرَ ال ّ‬ ‫ج ْهتُ َو ْ‬ ‫إِنّي وَ ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫إبراهيم‪ :‬هو إبراهيم خليل الرحمن بن آزر من أولد سام بن نوح عليه السلم‪.‬‬ ‫أصناما ‪ :‬جمع صنم تمثال من حجر‪.‬‬ ‫آلهة ‪ :‬جمع إله بمعنى المعبود‪.‬‬ ‫في ضلل‪ :‬عدول عن طريق الحق‪.‬‬ ‫ملكوت ‪ :‬مُلك‪.‬‬ ‫جن عليه الليل ‪ :‬أظلم‪.‬‬ ‫فلما أفل ‪ :‬أي غاب‪.‬‬ ‫بازغا ‪ :‬طالعا والبزوغ الطلوع‪.‬‬ ‫الضالين ‪ :‬العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل‪.‬‬ ‫وجهت وجهي ‪ :‬أقبلت بقلبي على ربي وأعرضت عما سواه‪.‬‬ ‫حنيفا‪ :‬مائلً عن الضلل إلى الهدى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناما يعبدونها لعلهم يهتدون فقال تعالى لرسوله‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم‪{ :‬وإذ قال إبراهيم لبيه آزر}‪ 1‬أي واذكر لهم قول إبراهيم لبيه آزر‪:‬‬ ‫{أتتخذ أصناما آلهة} ‪ 2‬أي أتجعل تماثيل من حجارة آلهة‪ .‬أربابا تعبدها أنت وقومك {إني أراك} يا‬ ‫أبت {وقومك في ضلل مبين ‪ }3‬عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه هذا ما دلت عليه الية‬ ‫الولى (‪ )74‬أما الية الثانية (‪ )75‬فإن ال تعالى يقول ‪{ :‬وكذلك نُري إبراهيم ‪4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل لزر اسم آخر هو تارح فيكون كيعقوب له اسم يعقوب وإسرائيل أما من قال آزر عمه‬ ‫فخلط وخبط حملهم عليه عدم اطاقتهم أن يكون والد رسول في النار وهو غاية الجهل بأسرار‬ ‫الشرع وحكمه وآزر بالرفع على تقدير النداء أي يا آزر‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام للنكار وأصناما مفعول أول وآلهة مفعول ثان لن اتخذ تنصب مفعولين كعلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناما وهي ديانة الكلدانيين قوم‬ ‫ل وتقربا بها إلى ال تعالى ولذا فهم مشركون وليسوا ملحدة‪.‬‬ ‫إبراهيم وكانوا يعبدونها توس ً‬ ‫‪ 4‬نُري هو بمعنى أرينا الماضي‪.‬‬

‫( ‪)2/80‬‬ ‫ملكوت ‪ 1‬السموات} والرض أي كما أريناه الحق في بطلن عبادة أبيه للصنام نريه أيضا‬ ‫مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة للوهيتنا في ملك السموات والرض‪ ،‬ليكون بذلك من‬ ‫جملة الموقنين‪ ،‬واليقين من أعلى مراتب اليمان‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الثانية وفي الثالثة (‪)76‬‬

‫فصّل ال تعالى ما أجمله في قوله {نري إبراهيم ملكوت السموات والرض} فقال تعالى‪{ :‬فلما‬ ‫جن عليه الليل} أي أظلم {رأى كوكبا} قد يكون الزهرة {قال هذا ربي ‪ 2‬فلما أفل} أي غاب‬ ‫الكوكب {قال ل أحب الفلين}‪{ ،‬فلما رأى القمر ‪ 3‬بازغا} أي طالعا {قال هذا ربي‪ ،‬فلما أفل} أي‬ ‫غاب {قال لئن لم يهدني ربي لكونن من القوم الضالين} ‪ ،‬في معرفة ربهم الحق‪{ .‬فلما رأى‬ ‫الشمس بازغة} أي طالعة {قال هذا ربي ‪ 4‬هذا أكبر} يعني من الكوكب والقمر {فلما أفلت ‪ }5‬أي‬ ‫غابت بدخول الليل {قال يا قوم إني بريء مما تشركون}‪ .‬هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب‬ ‫التي تمثلها أصنام منحوتة واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم وهي إبطال عبادة غير‬ ‫ال تعالى فقال {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والرض حنيفا} ل كما توجهون أنتم‬ ‫وجوهكم لصنام نحتموها بأيديكم وعبدتموها بأهوائكم ل بأمر ربكم‪ ،‬وأعلن براءته في وضوح‬ ‫وصراحة‪ :‬فقال‪{ :‬وما أنا من المشركين}‪.6‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬إنكار الشرك على أهله‪ ،‬وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب الناس إلى المرء‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل ال تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الملكوت الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة‪ ،‬ومثله الرغبوت والرهبوت‬ ‫والجبروت من الرغبة والرهبة والجبر قيل كشف له تعالى عن السموات والرض حتى رأى‬ ‫العرش وأسفل الرضين‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله هذا ربي في المواضع كلها في السياق ليس هو على ظاهره أبدا‪ .‬بل هو تدرج بهم إلى‬ ‫الوصول إلى الحقيقة وهو إنه ل إله إل ال فقوله‪ :‬هذا ربي أي على قولكم أو زعمكم وهو كقوله‬ ‫تعالى أين شركائي كما زعمتم أو على قولكم وإل فال تعالى يعلم أنه ل شريك له أبدا أو هو على‬ ‫حذف حرف الستفهام أي أهو ربي؟ نحو أفإن مت فهم الخالدون أي أفهم الخالدون؟‪.‬‬ ‫‪ 3‬بزغ القمر إذا بدأ في الطلوع وأصل البزغ الشق فالقمر يشق الظلم بنوره ومن بزغ البيطار‬ ‫الدابة إذا أسال دمها‪ .‬ومنه البزاغ وهو ما يسيل من الفم‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا ربي أي هذا الطالع ربي وإلّ فالشمس مؤنثة وقد قال فيها بازغة‪.‬‬ ‫‪ 5‬أفل يأفل أفولً إذا غاب‪.‬‬ ‫‪ 6‬في أنا ثلث لغات أنّ وأنه‪ ،‬وأنا وهي متعينة في الوقف (أنا)‪.‬‬

‫( ‪)2/81‬‬

‫‪ -3‬مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها‪ ،‬ويتم بالتفكر والنظر في اليات‪.‬‬ ‫‪ -4‬الستدلل بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -5‬سنة التدرج في التربية والتعليم‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب البراءة من الشرك وأهله‪.‬‬ ‫وَحَآجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَتُحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ هَدَانِ وَلَ َأخَافُ مَا ُتشْ ِركُونَ ِبهِ ِإلّ أَن يَشَاء رَبّي شَيْئًا‬ ‫شيْءٍ عِ ْلمًا َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ(‪َ )80‬وكَيْفَ َأخَافُ مَا َأشْ َركْتُ ْم َولَ تَخَافُونَ أَ ّنكُمْ َأشْ َركْتُم‬ ‫وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ‬ ‫لمْنِ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ(‪ )81‬الّذِينَ آمَنُو ْا وَلَمْ‬ ‫بِاللّهِ مَا َلمْ يُنَ ّزلْ بِهِ عَلَ ْي ُكمْ سُ ْلطَانًا فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ َأحَقّ بِا َ‬ ‫حجّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى َق ْومِهِ‬ ‫لمْنُ وَهُم ّمهْتَدُونَ(‪ )82‬وَتِ ْلكَ ُ‬ ‫يَلْبِسُواْ إِيمَا َنهُم ِبظُلْمٍ ُأوْلَ ِئكَ َل ُه ُم ا َ‬ ‫حكِيمٌ عَلِيمٌ(‪)83‬‬ ‫نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مّن نّشَاء إِنّ رَ ّبكَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حاجه قومه ‪ :‬جادلوه وحاولوا غلبة بالحجة‪ ،‬والحجة ‪ :‬البينة والدليل القوي‪.‬‬ ‫أتحآجّوني في ال ‪ :‬أتجادلونني في توحيد ال وقد هداني إليه‪ ،‬فكيف أتركه وأنا منه على بينة‪.‬‬ ‫سلطانا ‪ :‬حجة وبرهانا‪.‬‬

‫( ‪)2/82‬‬ ‫المن ‪ : 1‬خلف الخوف‪.‬‬ ‫ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‪ :‬أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أقام إبراهيم الدليل على بطلن عبادة غير ال تعالى وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه‬ ‫في ذلك فقال منكرا عليهم ذلك‪{ :‬أتحاجوني ‪ 2‬في ال وقد هدان} أي كيف يصح منكم جدال لي في‬ ‫توحيد ال وعبادته‪ ،‬وترك عبادة ما سواه من اللهة المدعاة وهي لم تخلق شيئا ولم تنفع ولم‬ ‫تضر‪ ،‬ومع هذا فقد هداني إلى معرفته وتوحيده وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى‪ ،‬هذا ما‬ ‫دل عليه قوله تعالى‪{ :‬وحاجه قومه قال أتحاجوني في ال وقد هدان}‪ .‬ول شك أنهم لما تبرأ من‬ ‫آلهتهم خوفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه ‪ 3‬فرد ذلك عليهم قائلً‪{ :‬ول أخاف ما‬ ‫تشركون به} من آلهة أن تصيبني بأذى‪{ ،‬إل أن يشاء ربي ‪ 4‬شيئا} فإنه يكون قطعا ففد {وسع‬ ‫ربي كل شيء علما}‪ ،‬ثم وبخهم قائل {أفل تتذكرون} فتذكروا ما أنتم عليه هو الباطل‪ ،‬وأن ما‬ ‫أدعوكم إليه هو الحق‪ ،‬ثم رد القول عليهم قائلً {وكيف أخاف ما أشركتم} وهي أصنام جامدة ل‬ ‫تنفع ول تضر لعجزها وحقارتها وضعفها‪ ،‬ول تخافون أنتم الرب الحق ال الذي ل اله إل هو‬ ‫المحيي المميت الفعال لما يريد‪ ،‬وقد أشركتم به أصناما ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ول‬ ‫برهانا تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى‪ .‬ثم قال لهم استخلصا للحجة وانتزاعا لها‬

‫منهم فأي الفريقين أحق بالمن من الخوف‪ :‬أنا الموحد للرب‪ ،‬أم أنتم المشركون به؟ والجواب‬ ‫معروف وهو من يعبد ربا واحدا أحق بالمن ممن يعبد آلهة شتى جمادات ل تسمع ول تبصر‪.‬‬ ‫وحكم ال تعالى بينهم وفصل فقال‪{ :‬الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم ‪ 5‬بظلم} أي ولم يخلطوا إيمانهم‬ ‫بشرك‪{ ،‬أولئك لهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي إنهم قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟‬ ‫‪ 2‬قرأ نافع بتخفيف نون أتحاجونني وثقلها غيره وتخفيفها مبني على حذف النون الثانية تخفيفا‬ ‫ومن ثقلها فقد ادغمها في نون الرفع‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخرج ابن كثير عن ابن مردويه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬من أُعطي فشكر‬ ‫ومنع فصبر‪ .‬وأذنب فاستغفر وظلم فغفر وسكت فقلنا يا رسول ال ماله؟ قال أولئك لهم المن وهم‬ ‫مهتدون‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال هذا احتياطا منه للتوحيد إذ من الجائز أن بعثر في حجر أو تشوكه شوكة أو يمرض بسبب‬ ‫وآخر فيقولون هذه آلهتنا قد أصابتك لنك تسبها فهذا وجه الستثناء هنا‪.‬‬ ‫‪ 5‬روي في الصحيح عن ابن مسعود رضي ال عنه أنه لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم‬ ‫بظلم} الية شق ذلك على أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لبنه‪{ :‬يا بني ل‬ ‫تشرك بال إن الشرك لظلم عظيم}‪.‬‬

‫( ‪)2/83‬‬ ‫المن} أي في الدنيا والخرة {وهم مهتدون} في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو السلم‬ ‫الصحيح ثم قال تعالى‪{ :‬وتلك ‪ 1‬حجتنا آتيناها إبراهيم عل قومه} إشارة إلى ما سبق من محاجة‬ ‫إبراهيم قومه ودحض باطلهم وإقامة الحجة عليهم‪ .‬وقوله {نرفع درجات من نشاء} تقرير لما‬ ‫فضّل به إبراهيم على غيره من اليمان واليقين والعلم المبين‪ .‬ثم علل تعالى لذلك بقوله‪{ :‬إن ربك‬ ‫حكيم عليم}‪ .‬حكيم في تدبيره عليم بخلقه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية جدال المبطلين والمشركين لقامة الحجة عليهم علهم يهتدون‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ضلل عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫‪ -3‬التعجب من حال مذنب ل يخاف عاقبة ذنوبه‪.‬‬ ‫‪ -4‬أحق العباد بالمن من الخوف من آمن بال ولم يشرك به شيئا‪.‬‬

‫‪ -5‬تقرير معنى {ال ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}‪.‬‬ ‫سلَ ْيمَانَ وَأَيّوبَ‬ ‫سحَقَ وَ َيعْقُوبَ كُلّ َهدَيْنَا وَنُوحًا َهدَيْنَا مِن قَ ْبلُ َومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُو َد وَ ُ‬ ‫َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ‬ ‫ن َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ(‪ )84‬وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ُكلّ مّنَ‬ ‫ف َومُوسَى وَهَارُو َ‬ ‫وَيُوسُ َ‬ ‫ل فضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ(‪َ )86‬ومِنْ آبَا ِئهِمْ‬ ‫س وَلُوطًا َوكُ ّ‬ ‫ل وَالْيَسَعَ وَيُونُ َ‬ ‫سمَاعِي َ‬ ‫الصّالِحِينَ(‪ )85‬وَإِ ْ‬ ‫خوَا ِنهِمْ وَاجْتَبَيْنَا ُه ْم وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ(‪)87‬‬ ‫وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَإِ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ما هي تلك الحجة؟ هل هي جميع احتياجاته التي حاجهم بها فغلبهم وهذا هو الظاهر‪ ،‬وقيل هي‬ ‫قوله لهم ‪ :‬أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها‪ :‬قال لهم أفل تخافون أنتم منها إذ سويتم بين‬ ‫الصغير والكبير في العبادة والتعظيم فيغضب الكبير فيخبلكم‪.‬‬

‫( ‪)2/84‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وهبنا له ‪ :‬أعطيناه تكرما منا وإفضال‪.‬‬ ‫اسحق ويعقوب ‪ :‬إسحاق بن إبراهيم الخليل ويعقوب ولد إسحاق ويلقب بإسرائيل‪.‬‬ ‫كل هدينا ‪ :‬أي كل واحد منهما هداه إلى صراطه المستقيم‪.‬‬ ‫ومن ذريته‪ :‬أي ذرية إبراهيم‪.‬‬ ‫داود وسليمان‪ :‬داود الوالد وسليمان الولد وكل منهما ملك ورسول‪.‬‬ ‫وزكريا ويحيى‪ :‬زكريا الوالد ويحيى الولد وكل منهما كان نبيا رسول‪.‬‬ ‫على العالمين‪ :‬أي عالمي زمانهم ل على الطلق‪ ،‬لن محمدا صلى ال عليه وسلم أفضل‬ ‫النبياء‪.‬‬ ‫ومن ذرياتهم‪ :‬أي من بعض الباء والذرية والخوة ل الجميع‪.‬‬ ‫اجتبيناهم ‪ :‬اخترناهم للنبوة والرسالة وهديناهم إلى السلم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد أن ذكر تعالى ما آتى إبراهيم خليله من قوة الحجة والغلبة على أعدائه ذكر منّة أخرى منّ بها‬ ‫عليه وهي أنه ‪ 1‬وهبه اسحق ويعقوب بعد كبر سنه‪ ،‬اسحق الولد ويعقوب الحفيد وأنه تعالى هدى‬ ‫كلً منهم الوالد والولد والحفيد‪ ،‬كما أخبر تعالى أنه هدى من قبلهم نوحا‪ ،‬وهدى من ذريته ‪ 2‬أي‬ ‫إبراهيم‪ ،‬وإن كان الكل من ذرية نوح‪ ،‬أي هدى من ذرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب ويوسف‬ ‫وموسى وهرون ‪ ،3‬وأشار تعالى إلى أنهم كانوا محسنين‪ ،‬فجزاهم جزاء المحسنين والحسان هو‬ ‫الخلص في العمل وأداؤه على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى مع الحسان العام لسائر‬ ‫المخلوقات بما يخالف الساءة إليهم في القول والعمل‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )84‬وأما‬

‫الية الثانية (‪ )85‬فقد ذكر تعالى أنه هدى كذلك إلى حمل رسالته والدعوة إليه والقيام بواجباته‬ ‫وتكاليف شرعه كلً من زكريا ويحيى وعيسى وإلياس‪ ،‬وأخبر أن كل واحد منهم كان من‬ ‫الصالحين الذين يؤدون حقوق ال كاملة وحقوق‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي جزاء صبره وحجاجه وبذله نفسه في سبيل نصرّة دين ربه كافأه ال عز وجل بأن وهبه‬ ‫من الذرية الصالحة‪.‬‬ ‫‪ 2‬يصح عود الضمير على نوح كما يصح عوده على إبراهيم قاله غير واحد من أهل التفسير لن‬ ‫ذكرها قد م ّر معا‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس‪ :‬هؤلء النبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم تلحقه‬ ‫ولدة من جهته ل من جهة الب ول الم لن لوطا ابن أخ إبراهيم وعُدّ عيسى من ذريته وهو‬ ‫ابن البنت من هنا ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من وقف وقفا على ولده وولد ولده دخل فيه‬ ‫ولد بناته لن لفظ الولد يشمل الذكر والنثى كما يشمل عيسى عليه السلم وهو ولد البنت ل غير‪.‬‬

‫( ‪)2/85‬‬ ‫عباده كذلك كاملة غير ناقصة وكانت المجموعة الولى داود وسليمان ومن ذكر بعدهما الصفة‬ ‫الغالبة عليهم الحسان لنه كان فيهم ملك وسلطان ودولة‪ ،‬والمجموعة الثانية وهي زكريا ويحيى‬ ‫وعيسى وإلياس الصفة الغالية عليهم الصلح لنهم كانوا أهل زهد في الدنيا وأعراضها‪،‬‬ ‫والمجموعة الثالثة والخيرة في الية الثالثة (‪ )86‬وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط لم يغلب‬ ‫عليهم وصف مما وصف به المجموعتان الولى والثانية‪ ،‬لنهم وسط بين المجموعتين‪ ،‬فذكر‬ ‫تعالى أن كل واحد منهم فضله على عالمي زمانه‪ ،‬وكفى بذلك شرفا وكرما وخيرا‪ .‬وأما الية‬ ‫الخيرة (‪ )87‬فإن ال تعالى يقول فيها‪ ،‬ومن آباء المذكورين من النبياء ومن ذرياتهم ‪ 1‬وإخوانهم‬ ‫هديناهم أيضا وإن لم نذكر أسماءهم فهم كثير هديناهم إلى ما هدينا إليه آباءهم من الحق والدين‬ ‫الخالص الذي ل شائبة شرك فيه‪ ،‬واجتبينا ‪ 2‬الجميع اخترناهم للنبوة والرسالة ‪{ 3‬وهديناهم إلى‬ ‫صراط مستقيم} وهو الدين السلمي‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫هن هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬سعة فضل ال‪.‬‬ ‫‪ 2‬خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة كل من الحسان والصلح‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل منافاة بين الملك والنبوة أو المارة والصلح‪.‬‬

‫‪ -5‬فضيلة الزهد في الدنيا‪ ،‬والرغبة في الخرة‪.‬‬ ‫ذَِلكَ ُهدَى اللّهِ َيهْدِي بِهِ مَن َيشَاء مِنْ عِبَا ِد ِه وََلوْ َأشْ َركُواْ لَحَ ِبطَ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من للتبعيض أي هدى بعض أبنائهم وبعض ذرياتهم ولم يهد كل أب وكل ولد‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجتباء مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته فالجتباء اختيار الشخص وضمه إلى‬ ‫خاصتك من الناس‪ ،‬والجبا مقصور مصدر جبيت الماء والجابية الحوض‪.‬‬ ‫ل وبقى سبعة ذكروا في سورٍ أخرى وهم إدريس‬ ‫‪ 3‬ذكر تعالى في هذه اليات ثمانية عشر رسو ً‬ ‫وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وآدم عليهم السلم وقد نظمهم البعض في ثلثة أبيات من الشعر‬ ‫هي‪:‬‬ ‫حتم على كل ذي التكليف معرفة ‪ ...‬بأنبياء على التفصيل قد عرفوا‬ ‫في تلك حجتنا منهم ثمانية ‪ ...‬من بعد عشر ويبقى سبعة وهم‬ ‫إدريس هود شعيب صالح وكذا ‪...‬‬ ‫ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا‬

‫( ‪)2/86‬‬ ‫ح ْك َم وَالنّ ُب ّوةَ فَإِن َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلء َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َق ْومًا‬ ‫ب وَالْ ُ‬ ‫َي ْعمَلُونَ(‪ُ )88‬أوْلَ ِئكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَا َ‬ ‫لّيْسُواْ ِبهَا ِبكَافِرِينَ(‪ُ )89‬أوْلَ ِئكَ الّذِينَ َهدَى اللّهُ فَ ِبهُدَاهُمُ اقْ َت ِدهْ قُل لّ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِنْ ُهوَ ِإلّ‬ ‫ِذكْرَى لِ ْلعَاَلمِينَ(‪)90‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫هدى ال ‪ :‬الهدى ضد الضلل‪ ،‬وهدى ال ما يهدى إليه من أحب من عباده وهو اليمان‬ ‫والستقامة‪.‬‬ ‫حبط عنهم ما كانوا يعملون ‪ :‬أي بطلت أعمالهم فلم يثابوا عليها بقليل ول كثير‪.‬‬ ‫الحكم ‪ :‬الفهم للكتاب مع الصابة في المور والسداد فيها‪.‬‬ ‫يكفر بها هؤلء ‪ :‬يجحد بها أي بدعوتك السلمية هؤلء‪ :‬أي أهل مكة‪.‬‬ ‫قوما ليسوا بها بكافرين ‪ :‬هم المهاجرون والنصار بالمدينة النبوية‪.‬‬ ‫اقتده‪ :‬اقتد ‪ :‬أي اتبع وزيدت الهاء للسكت‪.‬‬ ‫عليه أجرا ‪ :‬أي على إبلغ دعوة السلم ثمنا مقابل البلغ‪.‬‬ ‫ذكرى‪ :‬الذكرى ‪ :‬ما يذكر به الغافل والناسي فيتعظ‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ذكر ما وهب ال تعالى لمن شاء من عباده من هدايات وكمالت ل يقدر على‬

‫عطائها إل هو فقال ذلك في الية الولى (‪ )88‬ذلك المشار إليه ما وهبه أولئك الرسل الثمانية‬ ‫عشر رسولً وهداهم إليه من النبوة والدين الحق هو هدى ال يهدي به من يشاء من عباده‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ‪ }1‬يقرر به حقيقة علمية‪ ،‬وهي أنّ الشرك محبط‬ ‫للعمل فإن أولئك الرسل على كمالهم وعلو درجاتهم لو أشركوا بربهم سواه فعبدوا معه غيره لبطل‬ ‫كل عمل عملوه‪ ،‬وهذا من باب الفتراض‪ ،‬وإل فالرسل معصومون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حبوط العمل بطلنه وقد عصم ال تعالى أنبياءه من الشرك فلذا لم تحبط ولم تبطل أعمالهم‪.‬‬

‫( ‪)2/87‬‬ ‫ولكن ليكون هذا عظة وعبرة للناس‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى أما الثانية (‪ )89‬فقد أشاد ال‬ ‫تعالى بأولئك الرسل السابقي الذكر مخبرا أنهم هم الذين آتاهم الكتاب وهي صحف إبراهيم وتوراة‬ ‫موسى وزبور داوود وإنجيل عيسى والحكم ‪ 1‬وهو الفهم والصابة والسداد في المور كلها‪ .‬ثم‬ ‫قال تعالى فإن يكفر بهذه اليات القرآنية وما تحمله من شرائع وأحكام وهداية السلم {إن يكفر‬ ‫بها هؤلء} من أهل مكة {فقد وكلنا بها قوما} من قبل وهم الرسل المذكورون في هذا السياق‬ ‫وقوما هم موجودون وهم المهاجرون والنصار من أهل المدينة‪ ،‬ومن يأتي بعد من سائر البلد‬ ‫والقطار وقوله تعالى‪{ :‬أولئك الذين هدى ال فبهداهم ‪ 2‬اقتده}‪ ،‬يأمر رسوله صلى ال عليه وسلم‬ ‫أن يقتدي بأولئك النبياء المرسلين ‪ 3‬في كمالتهم كلها حتى يجمع صلى ال عليه وسلم كل كمال‬ ‫فيهم فيصبح بذلك أكملهم على الطلق‪ .‬وكذلك كان‪ ،‬وقوله تعالى في ختام الية الكريمة‪{ :‬قل ل‬ ‫أسألكم عليه ‪ 4‬أجرا} يأمره تعالى أن يقول لولئك العادلين بربهم الصنام والوثان المكذبين بنبوته‬ ‫وكتابه‪ :‬ما أسألكم على القرآن الذي أمرت أن أقرأه عليكم لهدايتكم أجرا أي مالً مقابل تبليغه‬ ‫إياكم {إن هو إل ذكرى للعالمين} أي ما القرآن إل موعظة للعالمين يتعظون بها إن هم القوا‬ ‫أسماعهم وتجردوا من أهوائهم وأرادوا الهداية ورغبوا فيها‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب القتداء بالرسول صلى ال عليه وسلم وأهل العلم والصلح من هذه المة‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة أخذ الجرة على تبليغ الدعوة السلمية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪ :‬والحكم العلم والفقه وهو كذلك إل أن ما في التفسير أوسع وأولى بالعتماد عليه‪.‬‬

‫‪ 2‬قال القرطبي‪ :‬القتداء طلب موافقة الغير في فعله‪ .‬وقال‪ :‬قد احتج بعض العلماء بهذه الية علي‬ ‫وجوب إتباع شرائع النبياء فيما عدم فيه النص واستدلوا بحديث مسلم في حادثة الرُبيع إذ أمر‬ ‫الرسول بكسر سنها محتجا بآية {والسن بالسن} وهو من أحكام بني إسرائيل ولم يوجد في القرآن‬ ‫غيره‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى البخاري عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة {ص} فقال سألت ابن عباس عن سجدة‬ ‫{ص} فقال أو تقرأ {ومن ذريته داوود وسليمان} إلى قوله {أولئك هدى ال فبهداهم اقتده} وكان‬ ‫داوود عليه السلم ممن أمر نبيكم عليه السلم بالقتداء بهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي جعل على القرآن‪.‬‬

‫( ‪)2/88‬‬ ‫‪ -5‬القرآن الكريم ذكرى لكل من يقرأه أو يستمع إليه وهو شهيد حاضر القلب‪.‬‬ ‫شيْءٍ ُقلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَاء‬ ‫َومَا َقدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْ ِرهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَن َزلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن َ‬ ‫خفُونَ كَثِيرًا وَعُّلمْتُم مّا َلمْ َتعَْلمُواْ أَن ُتمْ‬ ‫جعَلُونَهُ‪ 1‬قَرَاطِيسَ تُ ْبدُو َنهَا وَتُ ْ‬ ‫بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لّلنّاسِ تَ ْ‬ ‫ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ(‪ )91‬وَ َهذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ ّمصَدّقُ الّذِي بَيْنَ‬ ‫خ ْو ِ‬ ‫وَلَ آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ُثمّ ذَرْ ُهمْ فِي َ‬ ‫علَى صَلَ ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ(‬ ‫حوَْلهَا وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه وَهُمْ َ‬ ‫يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَى َومَنْ َ‬ ‫‪)92‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وما قدروا ال حق قدره‪ :‬ما عظموه التعظيم اللئق به ول عرفوه حق معرفته‪.‬‬ ‫على بشر ‪ :‬أي إنسان من بني آدم‪.‬‬ ‫الكتاب الذي جاء به موسى‪ :‬التوراة‪.‬‬ ‫قراطيس ‪ :‬جمع قرطاس‪ :‬وهو ما يكتب عليه من ورق وغيره‪.‬‬ ‫تبدونها‪ :‬تظهرونها‪.‬‬ ‫قل ال‪ :‬هذا جواب‪ :‬من أنزل الكتاب؟‬ ‫ذرهم ‪ :‬اتركهم‪.‬‬ ‫في خوضهم‪ :‬أي ما يخوضون فيه من الباطل‪.‬‬ ‫مبارك‪ :‬أي مبارك فيه فخبره ل ينقطع‪ ،‬وبركته ل تزول‪.‬‬ ‫أم القرى ‪ :‬مكة المكرمة‪.‬‬ ‫يحافظون‪ :‬يؤدونها بطهارة في أوقاتها المحددة لها في جماعة المؤمنين‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحي‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬فسرت الية على قراءة يجعلونه بالياء وكذلك يبدون ويخفون أما على قراءة تجعلون بالتاء فإن‬ ‫الخطاب يكون لليهود والسورة مكية فلذا رجح ابن جرير قراءة الياء‪.‬‬

‫( ‪)2/89‬‬ ‫اللهي وتكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا‪{ :‬ما أنزل ال على بشر من شيء}‪ ،‬ومن هنا قال تعالى‬ ‫{وما قدروا ال حق قدره} أي ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا‪{ :‬ما أنزل ال على بشر من‬ ‫شيء}‪ ،1‬ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم‪{ :‬من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا}‬ ‫يستضاء به في معرفة الطريق إلى ال تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك وهو التوراة جعلها اليهود‬ ‫قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم‪ ،‬وقوله‪{ :‬وعلمتم ما لم تعلموا‬ ‫أنتم ول آباؤكم} أي وعلمكم ال بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتوحيد ال تعالى وأسمائه‬ ‫وصفاته‪ ،‬والدار الخرة وما فيها من نعيم مقيم‪ ،‬وعذاب أليم‪ ،‬ثم أمر الرسول أن يجيب عن‬ ‫السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتا‪{ :‬قل ال } أي الذي أنزل التوراة على موسى هو ال‪{ .‬ثم ذرهم}‬ ‫أي اتركهم {في خوضهم} أي في الباطل {يلعبون}‪ 2‬حيث ل يحصلون من ذلك الخوض في الباطل‬ ‫على أي فائدة تعود عليهم فهم كاللعبين من الطفال‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى (‪ )91‬أما الية‬ ‫الثانية (‪ )92‬فقد تضمنت أولً الرد على قول من قال‪{ :‬ما أنزل ال على بشر من شيء} أي كيف‬ ‫يقال ما أنزل ال على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله ال مباركا ل ينتهي‬ ‫خيره ول يقل نفعه‪ ،‬مصدقا لما سبقه من الكتب كالتوراة والنجيل أنزلناه ليؤمنوا به‪{ ،‬ولتنذر أم‬ ‫القرى ‪ }3‬أي أهلها {ومن حولها} من المدن والقرى القريبة والبعيدة لينذرهم عاقبة الكفر والضلل‬ ‫فإنها الخسران التام والهلك الكامل‪ ،‬وثانيا الخبار بأن الذين يؤمنون بالخرة أي بالحياة في الدار‬ ‫الخرة يؤمنون ‪ 4‬بهذا القرآن‪ ،‬وهم على صلتهم يحافظون وذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي‬ ‫يجنيها المؤمنون الصادقون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بيان ذلك أنهم لما قالوا ما أنزل ال من شيء كانوا قد نسبوا إلى ال تعالى أنه ل يقيم الحجة‬ ‫على عباده ول يأمرهم بما فيه صلحهم ول ينهاهم عما فيه خسرانهم وبهذا ما قدروا ال حق‬ ‫قدره وما آمنوا أنه على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي لعبين لنها حال من قوله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون إذ لو لم يكن حالً لجزم في وجوب‬ ‫الطلب الذي هو ذرهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أم القرى‪ :‬مكة المكرمة‪.‬‬ ‫‪ 4‬يريد إتباع محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/90‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كل من كذب ال تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف ل يليق بجلله فإنه لم يقدر ال حق‬ ‫قدره ‪.1‬‬ ‫‪ -2‬بيان تلعب اليهود بكتاب ال في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر وهو‬ ‫تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان فضل ال على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم بلغتهم لهدايتهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬تعليم الرسول صلى ال عليه وسلم كيفية الحجاج والرد على المجادلين والكاذبين‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان علة ونزول الكتاب وهي اليمان به وإنذار المكذبين والمشركين‪.‬‬ ‫‪ -6‬اليمان بالخرة سبب لكل خير‪ ،‬والكفر به سبب لكل باطل وشر‪.‬‬ ‫شيْ ٌء َومَن قَالَ سَأُن ِزلُ مِ ْثلَ مَا‬ ‫ي وَلَمْ يُوحَ إِلَ ْيهِ َ‬ ‫حيَ إَِل ّ‬ ‫علَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ قَالَ ُأوْ ِ‬ ‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ‬ ‫سكُمُ الْ َيوْمَ‬ ‫سطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْ ِرجُواْ أَنفُ َ‬ ‫ت وَا ْلمَل ِئكَةُ بَا ِ‬ ‫غمَرَاتِ ا ْل َموْ ِ‬ ‫أَنَزلَ اللّ ُه وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬ ‫ق َوكُنتُمْ عَنْ آيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ(‪ )93‬وََلقَدْ‬ ‫حّ‬ ‫تُجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنتُمْ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْ َ‬ ‫شفَعَاء ُكمُ‬ ‫ظهُورِكُمْ َومَا نَرَى َم َعكُمْ ُ‬ ‫خوّلْنَاكُ ْم وَرَاء ُ‬ ‫جِئْ ُتمُونَا فُرَادَى َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُم مّا َ‬ ‫عمُونَ(‪)94‬‬ ‫ضلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْ ُ‬ ‫عمْ ُتمْ أَ ّنهُمْ فِي ُكمْ شُ َركَاء َلقَد ّتقَطّعَ بَيْ َنكُ ْم َو َ‬ ‫الّذِينَ زَ َ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫افترى على ال كذبا ‪ :‬اختلق على ال كذبا قال عليه ما لم يقل‪ ،‬أو نسب له ما هو منه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي لم يعرفه حق معرفته ولم يعرف جلله وعظمته ول رحمته وحكمته فلهذا قال ما قال من‬ ‫الباطل وهو نفيه إنزال الوحي اللهي على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/91‬‬ ‫براء‪.‬‬ ‫أوحي إلي ‪ :‬الوحي‪ :‬العلم السريع الخفي بواسطة الملك وبغيره‪.‬‬ ‫غمرات الموت ‪ :‬شدائده عند نزع الروح‪.‬‬ ‫باسطوا أيديهم‪ :‬للضرب وإخراج الروح‪.‬‬ ‫عذاب الهون ‪ :‬أي عذاب الذل والمهانة‪.‬‬

‫فرادى‪ :‬واحدا واحدا ليس مع أحدكم مال ول رجال‪.‬‬ ‫ما خولناكم ‪ :‬ما أعطيناكم من مال ومتاع‪.‬‬ ‫وراء ظهوركم ‪ :‬أي في دار الدنيا‪.‬‬ ‫وضل عنكم ‪ :‬أي غاب‪.‬‬ ‫تزعمون ‪ :‬تدعون كاذبين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على ال تعالى بإتخاذ النداد والشركاء فقال‬ ‫تعالى‪{ :‬ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا} بأن أدّعى ‪ 1‬أن ال نبأه وأنه نبيه ورسوله كما ادعى‬ ‫سعد ‪ 2‬بن أبي سرح بمكة ومسيلمة ‪ 3‬في بني حنيفة بنجد والعنسى باليمن‪ :‬اللهم ل أحد هو أظلم‬ ‫منه‪ ،‬وممن قال أوحى إلىّ شيء من عند ال‪ ،‬ولم يوح إليه شيء وممن قال‪{ :‬سأنزل مثل ما أنزل‬ ‫ال} من الوحي والقرآن‪،‬ثم قال تعالى لرسوله‪{ :‬ولو نرى} يا رسولنا {إذ الظالمون في غمرات‬ ‫الموت} أي في شدائد سكرات الموت‪{ ،‬والملئكة} ملك الموت وأعوانه {باسطوا أيديهم} بالضرب‬ ‫وإخراج الروح‪ ،‬وهم يقولون لولئك المحتضرين تعجيزا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪ :‬ومن هذا النمط أي المدعي للوحي ولم يوح إليه من أعرض عن الفقه والسنن‬ ‫وما كان عليه السلف من السنن فيقول وقع في خاطري كذا أو أخبرني قلبي بكذا أو أخبرني قلبي‬ ‫عن ربي فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ويزعمون أن ذلك لصفائها من‬ ‫الكدار وخلوها عن الغيار فتنجلي لهم العلوم اللهية والحقائق الربانية فيستغنون بذلك عن أحكام‬ ‫الشرع ويقولون هذه الحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الغبياء والعامة وهي زندقة‬ ‫وكفر يقتل قائله ول يستتاب ول يحتاج معه إلى سؤال ول جواب‪.‬‬ ‫‪ 2‬أدعى عبد ال بن سعد الوحي لما كتب لرسول ال صلى ال عليه وسلم قوله تعالى ولقد خلقنا‬ ‫النسان إلى قوله ثم أنشأناه خلقا آخر فأعجبه تفصيل خلق ال تعالى للنسان قال فتبارك ال‬ ‫أحسن الخالقين‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم هكذا أنزلت فشك عبدال بن سعد حينئذ‬ ‫وارتد ولحق بالمشركين وأسلم عام الفتح وحسن إسلمه بشفاعة عثمان له إذ كان أخا له من‬ ‫الرضاعة وهو فاتح أفريقيا ودعا ربه أن يموت وهو يصلي فمات في صلة الصبح‪.‬‬ ‫‪ 3‬كانوا يسمونه رحمان اليمامة والعنسي هو السود العنسي ومنهم سجاح امرأة مسيلمة قال ابن‬ ‫عباس وقتادة نزلت هذه الية في مسيلمة‪.‬‬

‫( ‪)2/92‬‬

‫وتعذيبا لهم‪{ :‬أخرجوا ‪ 1‬أنفسكم ‪ ،2‬اليوم تجزون عذاب الهون} بسبب استكباركم ‪ 3‬في الرض‬ ‫بغير الحق إذ الحامل للعذرة وأصله نطفة قذرة‪ ،‬ونهايته جيفة قذرة‪ ،‬استكباره في الرض حقا إنه‬ ‫استكبار باطل ل يصح من فاعله بحال من الحوال‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )93‬أما الية‬ ‫الثانية (‪ )94‬فإن ال تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم {لقد‬ ‫جئتمونا فرادى ‪ }4‬أي واحد واحدا {كما خلقناكم} حفاة ‪ 5‬عراة غُ ْزلً {وتركتم ما خولناكم} أي ما‬ ‫وهبناكم من مال وولد {وراء ظهوركم} أي في دار ‪ 6‬الدنيا‪{ ،‬وما نرى معكم شفعاءكم الذين‬ ‫زعمتم أنهم فيكم شركاء‪ ،‬وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم {لقد نقطع بينكم} أي انحل‬ ‫حبل الولء بينكم‪{ ،‬وضل عنكم ما كنتم تزعمون} أي ما كنتم تكذبون به في الدنيا‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬قبح الكذب على ال تعالى في أي شكل‪ ،‬وأن صاحبه ل أظلم منه قط‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير عذاب القبر‪ ،‬وسكرات الموت وشدتها‪ ،‬وفي الحديث‪ :‬أن للموت سكرات‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبح الستكبار وعظم جرمه‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير عقيدة البعث الخر والجزاء على الكسب في الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -5‬انعدام الشفعاء يوم القيامة إل ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫والعلماء والشهداء بشروط هي‪ :‬أن يأذن ال للشافع أن يشفع وأن يرضى عن المشفوع له‪.‬‬ ‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ َومُخْرِجُ‬ ‫ب وَال ّنوَى ُيخْرِجُ ا ْل َ‬ ‫ح ّ‬ ‫إِنّ الّلهَ فَالِقُ الْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الغمرة الشدة وأصلها من غمر الشيء إذا غطاه ومنه غمر الماء‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال لهم هذا توبيخا لهم وتقريعا أي خلصوها من هذا العذاب إن أمكنكم‪.‬‬ ‫‪ 3‬تستكبرون أي تتعظمون وتأنفون من قول الحق الذي هو توحيد ال تعالى وعبادته بما شرع‬ ‫لعباده المؤمنين‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا يوم القيامة يوم يحشرون إلى ربهم‪ ،‬وفرادى في موضع نصب على الحال‪.‬‬ ‫‪ 5‬روي أن عائشة رضي ال عنها قرأت قول ال تعالى {ولقد جئتمونا فرادى‪ ...‬الخ} فقالت يا‬ ‫رسول ال واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه ل ينظر الرجال إلى النساء ول النساء‬ ‫إلى الرجال شُغل بعضهم عن بعض‪.‬‬ ‫‪ 6‬ثبت في الصحيح أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من‬ ‫مالك إل ما أكلت فأثنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس‪.‬‬

‫( ‪)2/93‬‬

‫س وَا ْل َقمَرَ‬ ‫شمْ َ‬ ‫سكَنًا وَال ّ‬ ‫ج َعلَ اللّ ْيلَ َ‬ ‫لصْبَاحِ وَ َ‬ ‫قاِ‬ ‫حيّ ذَِل ُكمُ اللّهُ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ(‪ )95‬فَاِل ُ‬ ‫ا ْلمَ ّيتِ مِنَ الْ َ‬ ‫ج َعلَ َل ُكمُ النّجُومَ لِ َتهْتَدُواْ ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَرّ‬ ‫حسْبَانًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ(‪ )96‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬ ‫ُ‬ ‫س وَاحِ َدةٍ َفمُسْ َتقَ ّر َومُسْ َتوْ َدعٌ َقدْ‬ ‫وَالْبَحْرِ َقدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ(‪ )97‬وَ ُهوَ الّ ِذيَ أَنشََأكُم مّن ّنفْ ٍ‬ ‫شيْءٍ‬ ‫سمَاء مَاء فَأَخْ َرجْنَا بِهِ نَبَاتَ ُكلّ َ‬ ‫َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيفْ َقهُونَ(‪ )98‬وَ ُهوَ الّ ِذيَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬ ‫خلِ مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ‬ ‫خضِرًا نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّتَرَاكِبًا َومِنَ النّ ْ‬ ‫فَأَخْ َرجْنَا مِنْهُ َ‬ ‫وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ مُشْتَ ِبهًا وَغَيْرَ مُتَشَا ِبهٍ انظُرُواْ ِإلِى َثمَ ِرهِ ِإذَا أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ إِنّ فِي ذَِل ُك ْم ليَاتٍ ّل َقوْمٍ‬ ‫ُي ْؤمِنُونَ(‪)99‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فالق الحب والنوى ‪ :‬شاق الحب كحب البر ليخرج منه الزرع‪ ،‬والنوى واحده نواة وشقها ليخرج‬ ‫منها الفسيلة (النخلة الصغيرة)‪.‬‬ ‫يخرج الحي من الميت ‪ :‬الدجاجة من البيضة‪.‬‬ ‫ومخرج الميت من الحي‪ : :‬البيضة من الدجاجة‪.‬‬ ‫فأنى تؤفكون‪ :‬كيف تصرفون عن توحيد ال الذي هذه قدرته إلى عبادة الجمادات‪.‬‬ ‫فالق الصباح ‪ :‬الصباح‪ :‬بمعنى الصبح وفلقه‪ :‬شقه ليتفجر منه النور والضياء‪.‬‬

‫( ‪)2/94‬‬ ‫سكنا ‪ :‬يسكن فيه الناس ويخلدون للراحة‪.‬‬ ‫حسبانا ‪ :‬أي حسابا بهما تعرف الوقات اليام والليالي والشهور والسنون‪.‬‬ ‫تقدير العزيز العليم ‪ :‬إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره العليم بأحوال وأفعال عباده‪.‬‬ ‫لتهتدوا بها ‪ :‬أي ليهتدي بها المسافرون في معرفة طرقهم في البر والبحر‪.‬‬ ‫من نفس واحدة ‪ :‬هي آدم أبو البشر عليه السلم‪.‬‬ ‫فمستقر ‪ :‬أي في الرحام‪.‬‬ ‫ومستودع‪ :‬أي في أصلب الرجال‪.‬‬ ‫يفقهون ‪ :‬أسرار ألشياء وعلل الفعال فيهتدوا لما هو حق وخير‪.‬‬ ‫خضرا‪ :‬هو أول ما يخرج من الزرع ويقال له القصيل الخضر‪.‬‬ ‫متراكبا‪ :‬أي بعضه فوق بعض وهو ظاهر في السنبلة‪.‬‬ ‫طلع النخل ‪ :‬زهرها‪.‬‬ ‫قنوان‪ :‬واحده قنو وهو العِذْق وهو العُرْجون بلغة أهل المغرب‪.‬‬ ‫مشتبها وغير متشابه ‪ :‬في اللون وغير مشتبه في الطعم‪.‬‬

‫وينعه‪ :‬أي نضجه واستوائه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان الدليل على وجوب توحيد ال تعالى وبطلن عبادة غيره فقال تعالى‬ ‫واصفا نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر ألوهيته وتبطل ربوبية وألوهية‬ ‫غيره مما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة‪{ :‬إن ال فالق الحب والنوى} أي هو الذي يفلق‬ ‫الحب ويخرج منه الزرع ل غيره وهو الذي يفلق النوى‪ ،‬ويخرج منه الشجر والنخل ل غيره فهو‬ ‫الله الحق إذا وما عداه باطل‪ ،‬وقال‪{ :‬يخرج الحيّ من الميت} فيخرج الزرع الحيّ من الحب‬ ‫الميت {ويخرج الميت ‪ 1‬من الحيّ} فيخرج الحب من الزرع الحيّ‪ ،‬والنخلة والشجرة من النواة‬ ‫الميتة ثم يقول‪{ :‬ذلكم ال} أي المستحق لللهية أي العبادة وحده {فأنى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي يخرج النطفة الميتة من الحي وهو النسان ويخرج النسان الحي من النطفة الميتة‪.‬‬

‫( ‪)2/95‬‬ ‫تؤفكون} أي فكيف يا للعجب تصرفون عن عبادته وتأليهه إلى تأليه وعبادة غيره‪ .‬ويقول‪{ :‬فالق‪،‬‬ ‫الصباح ‪ }1‬أي هو ال الذي يفلق ظلم الليل فيخرج منه ضياء النهار {وجعل الليل سكنا} ‪ :‬أي‬ ‫ظرف سكن وسكون وراحة تسكن فيه الحياء من تعب النهار والعمل فيه ليستريحوا‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫{والشمس والقمر ‪ 2‬حسبانا} أي وجعل الشمس والقمر يدوران في فلكيهما بحساب تقدير ل يقدر‬ ‫عليه إل هو‪ ،‬وبذلك يعرف الناس الوقات وما يتوقف عليها من عبادات وأعمال وآجال وحقوق‬ ‫ثم يشير إلى فعله ذلك فيقول‪{ :‬ذلك تقدير العزيز} الغالب على أمره {العليم} بسائر خلقه وأحوالهم‬ ‫وحاجاتهم وقد فعل ذلك لجلهم فكيف إذا ل يستحق عبادتهم وتأليههم؟ عجبا لحال بني آدم ما‬ ‫أضلهم؟!‬ ‫ويقول تعالى في الية الثالثة (‪{ )97‬وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر‬ ‫والبحر} هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهرا آخر من مظاهر قدرته حيث جعل لنا النجوم‬ ‫لمهتدي به مسافرونا في البر والبحر حتى ل يضلوا طريقهم فيهلكوا فهي نعمة ل يقدر على‬ ‫النعام بها إل ال‪ ،‬فلم إذا يكفر به ويعبد سواه؟ وقوله‪{ :‬قد فصلنا اليات لقوم يعلمون} يخبر به‬ ‫تعالى على نعمة أخرى وهي تفصيله تعالى لليات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذين يميزون‬ ‫بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع ويقول في الية الرابعة (‪{ )98‬وهو الذي أنشأكم‬ ‫أي خلقكم‪ -‬من نفس واحدة} هي آدم عليه السلم‪ ،‬فبعضكم مستقر في الرحام وبعضنا ‪3‬‬‫مستودع في الصلب وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه‪ ،‬ويختم الية بقوله‬ ‫{قد فصلنا اليات لقوم يفقهون} لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر‬

‫المخلوقات لفهمهم أسرار الكلم وعلل الحديث ومغزاه‪.‬‬ ‫ويقول في الية (‪{ )99‬وهو الذي أنزل من السماء ماءً} وهو ماء المطر ويقول {فأخرجنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصباح مصدر أصبح يصبح إصباحا أي يخرج النور من الظلم إذ نور الفجر يشق ظلمة‬ ‫الليل ويخرج عنها الصبح والصباح أول النهار ويجمع الصباح على أصباح بفتح الهمزة وقرىء‬ ‫به‪.‬‬ ‫‪ 2‬حسبانا أي بحساب يتعلق به مصالح العباد‪ ،‬والحسبان جمع حساب مثل شهاب وشهبان أي جعل‬ ‫ال سير الشمس والقمر بحساب ول يزيد ول ينقص ويطلق الحسبان على النار كما في قوله تعالى‬ ‫ويرسل عليها حسبانا من السماء أي نارا‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال عبدال بن مسعود لها مستقر في الرحم ومستودع في الرض التي تموت فيها وهذا على‬ ‫قراءة مستقر بفتح القاف بمعنى لها مستقر وأكثر المفسرين على ما جاء في التفسير أن المستقر ما‬ ‫كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس هل تزوجت‬ ‫فقلت ل‪ .‬قال فإن ال عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه‪ .‬أما قوله تعالى {ولكم في‬ ‫الرض مستقر ومستودع إلي حين} ف المستقر هو القبر مودع فيه النسان إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫( ‪)2/96‬‬ ‫به نبات كل شيء} أي ينبت أي قابل للنبات من سائر الزروع والنباتات ويقول فأخرجنا من ذلك‬ ‫النبات خضرا وهو ‪ 1‬القصيل للقمح والشعير‪ ،‬ومن الخضر ‪ 2‬يخرج حبا متراكبا في سنابله‪،‬‬ ‫ويقول عز وجل‪{ :‬ومن النخْل من طلعها قنوان دانية} أي ويخرج بإذن ال تعالى من طلع النخل‬ ‫قنوان جمع قنو العذق دانية متدلية وقريبة ل يتكلف مشقة كبيرة من أراد جنيها والحصول عليها ‪3‬‬ ‫وقوله {وجنات من أعناب} يقول وأخرجنا به بساتين من نخيل وأعناب‪ ،‬وأخرجنا به كذلك‬ ‫الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في اللون وغير متشابه في الطعم‪ ،‬كلوا من ثمره إذا أثمر‬ ‫وينعه ينبت لديكم ذلك التشابه وعدمه‪ ،‬وختم الية بقوله‪ :‬إن في ذلكم المذكور كله {ليات}‬ ‫علمات ظاهرات تدل على وجوب ألوهية ال تعالى وبطلن ألوهية غيره {لقوم يؤمنون} لنهم‬ ‫أحياء يفعلون ويفكرون ويفهمون أما غيرهم من أهل الكفر فهم أموات القلوب لما ران عليها من‬ ‫أوضار الشرك والمعاصي فهم ل يعقلون ول يفقهون فأنى لهم أن يجدوا في تلك اليات ما يدلهم‬ ‫على توحيد ال عز وجل؟‬ ‫هداية اليات‬ ‫هن هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ال خالق كل شيء فهو رب كل شيء ولذا وجب أن يؤله وحده دون ما سواه‪.‬‬

‫‪ -2‬تقرير قدرة ال على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء‪.‬‬ ‫‪ -3‬فائدة خلق النجوم وهي الهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر‪.‬‬ ‫‪ -4‬يتم إدراك ظواهر المور وبواطنها بالعقل‪.‬‬ ‫‪ -5‬يتم إدراك أسرار الشياء بالفقه‪.‬‬ ‫‪ -6‬اليمان بمثابة الحياة‪ ،‬والكفر بمثابة الموت في إدراك المور‪.‬‬ ‫عمّا‬ ‫ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬ ‫ن وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ‬ ‫جعَلُواْ لِلّهِ شُ َركَاء ا ْلجِ ّ‬ ‫وَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬خضر بمعنى أخضر كمطرة بمعنى ماطرة ومنه قولهم‪ :‬أرنها نمرة أركها مطر أي أرني‬ ‫سحابة كأنها نمرة في شكلها أركها ماطرة يتصبب منها الماء الغزير‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن عباس رضي ال عنه يريد القمح والشعير والسلت والذرة والرز وسائر الحبوب‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا قصار النخل إذ يجنى ثمارها لمدة عشر سنوات والمرء يتناول منها بيديه هو واقف عندها‬ ‫وبعد ذلك ترتفع وتطول فيرقى إليها‪.‬‬

‫( ‪)2/97‬‬ ‫شيْءٍ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ أَنّى َيكُونُ لَ ُه وََل ٌد وَلَمْ َتكُن لّهُ صَاحِبَ ٌة َوخَلَقَ ُكلّ َ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫َيصِفُونَ(‪َ )100‬بدِيعُ ال ّ‬ ‫شيْءٍ فَاعْبُدُو ُه وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪ )101‬ذَِلكُمُ الّلهُ رَ ّبكُمْ ل إَِلهَ ِإلّ ُهوَ خَاِلقُ ُكلّ َ‬ ‫و ُهوَ ِب ُكلّ َ‬ ‫ك الَ ْبصَارَ وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ(‪)103‬‬ ‫شيْ ٍء َوكِيلٌ(‪ )102‬لّ تُدْ ِركُ ُه الَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِر ُ‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫شركاء ‪ :‬جمع شريك في عبادته تعالى‪.‬‬ ‫الجن ‪ :‬عالم كعالم النس إل أنهم أجسام خفية ل ترى لنا إل إذا تشكلت بما يُرى‪.‬‬ ‫وخرقوا ‪ :‬اختنقوا وافتاتوا‪.‬‬ ‫يصفون ‪ :‬من صفات العجز بنسبة الولد والشريك إليه‪.‬‬ ‫بديع السموات والرض ‪ :‬مبدع خلقهما حيث أوجدهما على غير مثال سابق‪.‬‬ ‫أنى يكون له ولد ‪ :‬أي كيف يكون له ولد؟ كما يقول المبطلون‪.‬‬ ‫ولم تكن له صاحبة ‪ :‬أي زوجة‪.‬‬ ‫ل تدركه البصار‪ :‬ل تراه في الدنيا‪ ،‬ول تحيط به في الخرة‪.‬‬ ‫وهو يدرك البصار ‪ :‬أي محيط علمه بها‪.‬‬ ‫وهو اللطيف‪ :‬الذي ينفذ علمه إلى بواطن المور وخفايا السرار فل يحجبه شيء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫لقد جاء في اليات السابقة من الدلة والبراهين العقلية ما يبهر العقول ويذلها لقبول التوحيد‪ ،‬وأنه‬ ‫ل إله إل ال‪ ،‬ول رب سواه‪ ،‬ولكن مع هذا فقد جعل الجاهلون ل من‬

‫( ‪)2/98‬‬ ‫الجن شركاء فأطاعوهم فيما زينوا لهم من عبادة الصنام والوثان‪ ،‬وهذا ما أخبر به تعالى في‬ ‫هذه الية الكريمة (‪ )100‬إذ قال {وجعلوا ل شركاء الجن ‪ 1‬وخلقهم ‪ 2‬وخرقوا له بنين وبنات‬ ‫بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} ومعنى الية وجعل العادلون بربهم الصنام والجن شركاء‬ ‫ل في عبادته‪ ،‬وذلك بطاعتهم فيما زينوا لهم من عبادة الصنام‪ ،‬والحال أنه قد خلقهم فالكل‬ ‫مخلوق له العابد والمعبود من الجن والصنام‪ ،‬وزادوا في ضللهم شوطا آخر حيث اختلقوا له‬ ‫البنين والبنات وهذا كله من تزيين الشياطين لهم وإل فأي معنى في أن يكون لخالق العالم كله بما‬ ‫فيه النس والجن والملئكة أبناء وبنات‪ .‬هذا ما عناه تعالى بقوله‪{ :‬وخرقوا له بنين وبنات بغير‬ ‫علم سبحانه وتعالى عما يصفون} فنزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما وصفوه به كذبا بحتا‬ ‫وتخرّصا كاملً من أن له بنين وبنات وليس لهم على ذلك أي دليل علمي ل عقلي ول نقلي‪ ،‬وقد‬ ‫شارك في هذا الباطل العرب المشركون حيث قالوا الملئكة بنات ال‪ ،‬واليهود حيث قالوا عزير‬ ‫ابن ال‪ ،‬والنصارى إذ قالوا المسيح ابن ال‪ ،‬تعالى ال عما يقول المبطلون‪ .‬هذا ما تضمنته الية‬ ‫الولى أما الية الثانية (‪ )101‬فقد تضمنت إقامة الدليل الذي ل يرد على بطلن هذه الفرية‬ ‫المنكرة فرية نسبة الولد ل سبحانه وتعالى‪ ،‬فقال تعالى ‪{ :‬بديع السموات والرض} أي خالقهما‬ ‫على غير مثال سابق {أنى ‪ 3‬يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} أي يا للعجب كيف يكون ل ولد‬ ‫ولم تكن له زوجة إذ التوالد يكون بين ذكر وأنثى لحاجة إليه لحفظ النوع وكثرة النسل لعمارة‬ ‫الرض بل ولعبادة الرب تعالى بذكره وشكره‪ ،‬أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء ورب كل‬ ‫شيء فأي معنى لتخاذ ولد له‪ ،‬لول تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من النس‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬وهو بكل شيء عليم} دليل آخر على بطلن ما خرق أولئك الحمقى ل من ولد‪ ،‬إذ لو كان‬ ‫ل ولد لعلمه وكيف ل‪ ،‬وهو بكل شيء عليم‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الثانية أما الثالثة (‪)102‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صور اتخاذهم الجن شركاء ثلث الولى‪ :‬أنهم أطاعوا الجن فجعلوهم بطاعتهم لهم شركاء ل‬ ‫إذ المطاع الحق هو ال تعالى‪:‬‬ ‫والثانية‪ :‬قولهم الملئكة بنات ال مع عبادتهم لهم فذلك معنى جعلوا ل شركاء الجن لن الملئكة‬ ‫ل يرون كالجن قال تعالى {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} فسمى الملئكة جنا لجتنابهم واستتارهم‬ ‫عن عيون الناس والثالثة‪ :‬أن الزنادقة قالوا ال خالق الماء والنور والدواب والنعام وإبليس خالق‬ ‫الظلمة والسباع والحيات والعقارب‪.‬‬

‫‪ 2‬قوله تعالى وخلقهم يصح عود الضمير فيه على العادلين كما في التفسير ويصح عوده على‬ ‫الجن الذين اتخذوهم شركاء ل يعبدونهم معه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي من أين يكون له ولد والولد ل يكون إلّ من صاحبة أي زوجة‪.‬‬

‫( ‪)2/99‬‬ ‫وهي قوله تعالى‪{ :‬ذلكم ال ربكم ل اله إل هو خالق كل شيء ‪ }1‬أي ذلكم ال الذي هو بديع‬ ‫السموات والرض والخالق لكل شيء والعليم بكل شيء هو ربكم الذي ل إله إل هو خالق كل‬ ‫شيء فاعبدوه ول تشركوا به سواه‪ .‬وإنه لكفيل برزقكم وحفظكم ومجازاتكم على أعمالكم وهو‬ ‫على كل شيء قدير‪ .‬والية الخيرة في السياق الكريم (‪ )153‬يقرر تعالى حقيقة كبرى وهى أن‬ ‫ال تعالى مباين لخلقه في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء فكيف يشرك به وكيف لكون له ولد‪ ،‬وهو‬ ‫ل تدركه البصار ‪ 2‬وهو يدركها وهو اللطيف ‪ 3‬الذي ينفذ علمه وقدرته في كل ذرات الكون‬ ‫علويّه وسفليّه الخبير بكل خلقه ل يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ول في الرض وهو العزيز‬ ‫الحكيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن من النس من عبد الجن بطاعتهم وقبول ما يأمرونهم به ويزينونه لهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬تنزه الرب تعالى عن الشريك والصاحبة والولد ‪ -3‬مباينة الرب تبارك وتعالى لخلقه‪.‬‬ ‫‪ -4‬استحالة رؤية الرب في الدنيا ‪ ،4‬وجوازها في الخرة لوليائه في دار كرامته‪.‬‬ ‫حفِيظٍ(‪َ )104‬وكَذَِلكَ‬ ‫ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا َومَا أَنَاْ عَلَ ْيكُم بِ َ‬ ‫قَدْ جَاءكُم َبصَآئِرُ مِن رّ ّب ُكمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ‬ ‫حيَ إِلَ ْيكَ مِن رّ ّبكَ ل إِلَهَ ِإلّ‬ ‫ت وَلِنُبَيّنَهُ ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ(‪ )105‬اتّ ِبعْ مَا أُو ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت وَلِيَقُولُواْ دَرَ ْ‬ ‫ُنصَ ّرفُ اليَا ِ‬ ‫ُه َو وَأَعْ ِرضْ عَنِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا أكبر برهان على بطلن نسبة الولد له تعالى إذ كل شيء خلقه فهل من خلق شيئا يقال لمن‬ ‫خلقه ولده؟ لو صح هذا لقالوا لكل من صنع شيئا هو أبو والمصنوع ولده ول قائل بهذا البتة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل تدركه البصار بمعنى ل تحيط به ولذا يراه أولياؤه في الجنة رؤية بصرية فينظرون إلى‬ ‫وجهه الكريم وأما رؤيته تعالى فمتعذرة في الحياة الدنيا إذ طلبها موسى ولم ينلها لعجز النسان‬ ‫عن رؤية ال تعالى بهذه البصار المحدودة القدرة والطاقة‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي في الصحيحين ما يفيد تعذر رؤية ال في الدنيا لضعف النسان فقد قال رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪" :‬إن ال ل ينام ول ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه‪ ،‬يرفع ال عمك النهار‬ ‫قبل الليل‪ ،‬وعمل الليل قبل النهار حجابه النور أو النار لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى‬

‫إليه بصره من خلقه"‪.‬‬ ‫‪ 4‬وفسر اللطيف بالرفيق بعباده واللطيف من أسماء ال تعالى‪ .‬ولذا هو يلطف بعباده‪ .‬كما هو‬ ‫للطفه ل يدرك بالكيفية‪،‬واللطيف في الجسام الذي يدخل في كل شيء‪.‬‬

‫( ‪)2/100‬‬ ‫علَ ْيهِم ِب َوكِيلٍ(‪)107‬‬ ‫حفِيظًا َومَا أَنتَ َ‬ ‫جعَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬ ‫ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪ )106‬وََلوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْ َركُواْ َومَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بصائر من ربكم‪ :‬البصائر جمع بصيرة‪ :‬والمراد بها هنا اليات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق‬ ‫الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها‪.‬‬ ‫حفيظ‪ :‬وكيل مسئول‪.‬‬ ‫نصرف اليات‪ :‬نجريها في مجاري مختلفة تبيانا للحق وتوضيحا للهدى المطلوب‪.‬‬ ‫وليقولوا درست ‪ :‬أي تعلمت وقرأت ل وحيا أوحي إليك‪.‬‬ ‫وأعرض عن المشركين ‪ :‬أي ل تلتفت إليهم وامضِ في طريق دعوتك‪.‬‬ ‫ولو شاء ال ما أشركوا‪ :‬أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى ل يشركوا َل َفعَل وما‬ ‫أشركوا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الية يقول {قد جاءكم} أي‬ ‫أيها الناس {بصائر من ‪ 1‬ربكم} وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة {فمن أبصر} بها وهي‬ ‫كالعين المبصرة {فلنفسه} إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد { ومن عمي} فلم يبصر فعلى نفسه‬ ‫عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا {ما أنا عليكم بحفيظ} أي بوكيل مسئول عن‬ ‫هدايتكم‪ ،‬وفي الية الثانية (‪ )105‬يقول تعالى‪{ :‬وكذلك ‪ 2‬نصرف اليات} أي بنحو ما صرفناها‬ ‫من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين ‪ 3‬فيها أما غيرهم فسيقولون‬ ‫درست ‪ 4‬وتعلمت من غيرك حتى يحرموا اليمان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قد جاءكم بصائر أي حجج وبينات ووصفها بالمجيء لتضخيم شأنها واكباره‪.‬‬ ‫‪ 2‬كذلك الكاف في محل نصب أي مثل أي نصرف اليات‪ :‬مثل ذلك التصريف‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهم المذكورون في الية ولنبيننه لقوم يعلمون‪.‬‬ ‫‪ 4‬قرىء دَارست أي ذاكرت أهل الكتاب وتعلمت عنهم ولم يوح إليك شيء واللم في قوله‬ ‫وليقولوا درست هي لم العاقبة كما يقال كتب فلن هذا الكتاب لحتفه‪ ،‬وفي القرآن {فالتقطه آل‬ ‫فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}‪.‬‬

‫( ‪)2/101‬‬ ‫بك وبرسالتك والعياذ بال تعالى‪ ،‬وفي الية الثالثة (‪ )106‬يأمر ال تعالى رسوله باتباع ما يوحى‬ ‫إليه من الحق والهدى‪ ،‬والعراض عن المشركين المعاندين الذين يقولون درست حتى ل يأخذوا‬ ‫بما آتيتهم به ودعوتهم إليه من آيات القرآن الكريم إذ قال تعالى له‪{ :‬اتبع ما أوحي إليك من ربك‬ ‫ل إله إل هو وأعرض عن المشركين ‪ ، }1‬وفي الية الرابعة (‪ )107‬يسلي الرب تعالى رسوله‬ ‫ويخفف عنه آلم إعراض المشركين عن دعوته ومحاربته فيها فيقول له‪{ :‬ولو شاء ال ما‬ ‫أشركوا}‪ 2‬أي لو يشاء ال عدم إشراكهم لما قدروا على أن يشركوا إذا فل تحزن عليهم‪ ،‬هذا‬ ‫أولً‪ ،‬وثانيا {وما جعلناك عليهم حفيظا} تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم وتجازيهم بها‪ ،‬وما‬ ‫أرسلناك عليهم وكيل تتولى هدايتهم بما فوق طاقتك {إن عليك إل البلغ} وقد بلغت إذا فل أسى‬ ‫ول أسف!!‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬آيات القرآن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد‪.‬‬ ‫‪ -2‬ينتفع بتصريف اليات وما تحمله من هدايات العالمون ل الجاهلون وذلك لقوله تعالى في‬ ‫الية الثانية (‪{ )105‬ولنبينه لقوم يعلمون}‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان الحكمة في تصريف اليات وهي هداية من شاء ال هدايته‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان بطلن مذهب القدرية "نفاة القدر"‪.‬‬ ‫عمََلهُمْ ُثمّ إِلَى‬ ‫ع ْدوًا ِبغَيْرِ عِلْمٍ َكذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬ ‫وَلَ تَسُبّواْ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَ َيسُبّواْ اللّهَ َ‬ ‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَئِن جَاء ْتهُمْ آ َيةٌ‬ ‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬ ‫ج ُع ُهمْ فَيُنَبّ ُئهُم ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪ )108‬وََأقْ َ‬ ‫رَ ّبهِم مّرْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا منسوخ بآية الجهاد‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية دليل على إبطال مذهب القدرية وهم نفاة القدر والزاعمون أن أفعال العباد لم تقدر‬ ‫عليهم وإنما هم الخالقون لهَا بدون إذن ال وإرادته‪.‬‬

‫( ‪)2/102‬‬ ‫ت لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )109‬وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َت ُهمْ‬ ‫شعِ ُركُمْ أَ ّنهَا إِذَا جَاء ْ‬ ‫لّ ُي ْؤمِنُنّ ِبهَا ُقلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّ ِه َومَا يُ ْ‬ ‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ(‪)110‬‬ ‫وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُواْ بِهِ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ول تسبوا ‪ :‬ول تشتموا آلهة المشركين حتى ل يسبوا ال تعالى‪.‬‬ ‫عدوا ‪ :‬ظلما‪.‬‬ ‫زينا لكل أمة عملهم‪ :‬حسناه لهم خيرا كان أو شرا حتى فعلوه‪.‬‬ ‫جهد أيمانهم ‪ :‬أي غاية اجتهادهم في حلفهم بال‪.‬‬ ‫آية‪ :‬معجزة كإحياء الموتى ونحوها‪.‬‬ ‫وما يشعركم‪ :‬وما يدريكم‬ ‫ونذرهم ‪ :‬نتركهم‪.‬‬ ‫يعمهون ‪ :‬حيارى يترددون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫عندما ظهر رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصبح يصدع بالدعوة جهرا بعد ما كانت سرا أخذ‬ ‫بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين‪ ،‬فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون ال تعالى إله‬ ‫المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله‪{ :‬ول تسبوا الذين‬ ‫يدعون من دون ال} أي ل تسبوا آلهتهم {فيسبوا ‪ 1‬ال عدوا‪ }2‬أي ظلما واعتداء بغير علم‪ ،‬إذ لو‬ ‫علموا جلل ال وكماله لما سبوه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وكذلك زينا لكل أمة عملهم} بيان منه تعالى‬ ‫لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئا ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح‬ ‫زينا له ولو كان في الواقع شيئا ويراه حسنا وإن كان في حقيقة المر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬قالت كفار قريش لبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه‬ ‫عن سب آلهتنا والغضّ منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه‪ .‬فنزلت الية وهذا الحكم باق إلى نهاية‬ ‫الحياة فإن كان سب المؤمن الكافر يؤدي إلى سب ال تعالى أو رسوله فل يحل للمؤمن أن يسب‬ ‫الكافر أو دينه‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقرىء عُدوا بضم العين والدال ومعنى القراءتين واحد وهو الجهل والعتداء الذي هو الظلم‪.‬‬

‫( ‪)2/103‬‬ ‫قبيحا‪ ،‬ومن هنا كان دفاع المشركين عن آلهتهم الباطلة من هذا الباب فلذا لم يرضوا أن تسب لهم‬ ‫وهددوا الرسول والمؤمنين بأنهم لو سبوا آلهتهم لسبوا لهم آلهتهم وهو ال تعالى‪ ،‬وقوله تعالى {ثم‬ ‫إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} يخبر تعالى أن مرجع الناس المزين لهم أعمالهم‬ ‫خيرها وشرها ورجوعهم بعد نهاية حياتهم إلى ال ربهم فيخبرهم بأعمالهم ويطلعهم عليها‬ ‫ويجزيهم بها الخير بالخير والشر بالشر‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )108‬وأما اليتان الثانية‬

‫(‪ )109‬والثالثة (‪ )110‬فقد أخبر تعالى أن المشركين أقسموا ‪ 1‬بال أبلغ إيمانهم وأقصاها أنهم إذا‬ ‫جاءتهم آية كتحويل جبل الصفا إلى ذهب آمنوا عن آخرهم بنبوة محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫ورسالته واتبعوه على دينه الذي جاء به‪ ،‬قال هذا رؤساء المشركين‪ ،‬وال يعلم أنهم إذا جاءتهم‬ ‫الية ل يؤمنون‪ ،‬فأمر رسوله أن يرد عليهم قائلً‪{ :‬إنما اليات عند ال} هو الذي يأتي بها إن شاء‬ ‫أما أنا فل أملك ذلك‪ .‬إل أن المؤمنين من أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم رغبوا في مجيء‬ ‫الية حتى يؤمن المشركون وينتهي الصراع الدائر بين الفريقين فقال تعالى لهم‪{ :‬وما يشعركم ‪}2‬‬ ‫أيها المؤمنون {أنها إذا جاءت ‪ 3‬ل يؤمنون} أي وما يدريكم أن الية لو جاءت ل يؤمن بها‬ ‫المشركون؟ وبين علة عدم إيمانهم فقال‪{ :‬ونقلب أفئدتهم } فل تعي ول تفهم {وأبصارهم} فل ترى‬ ‫ول تبصر‪ .‬فل يؤمنون كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة لما دعوا إلى اليمان به {ونذرهم في‬ ‫طغيانهم يعمهون} أي ونتركهم في شركهم وظلمهم حيارى يترددون ل يعرفون الحق من الباطل‬ ‫ول الهداية من الضلل‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة قول أو فعل ما يتسبب ‪ 4‬عنه يسب ال ورسوله‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان سنة ال في تزيين العمال لصحابها خيرا كانت أو شرا‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن الهداية بيد ال تعالى وأن المعجزات قد ل يؤمن عليها من شاهدها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذا دليل الموادعة والخذ بمبدأ سد الذرائع‪.‬‬ ‫‪ 2‬كان المشركون يحلفون بآلهتهم‪ ،‬وإذا حلفوا بال كان ذلك أقصى أيمانهم وأشدها‪ .‬وهنا مسألة لو‬ ‫قال المرء اليمان تلزمه ثم حنث فإن عليه إطعام ثلثين مسكينا لن أقل الجمع ثلثة‪ ،‬وإن لم يكن‬ ‫له مال صام تسعة أيام‪..‬‬ ‫‪ 3‬الشعار مصدر أشعره إذا أعلمه بأمر من شأنه أن يخفى ويدق‪.‬‬ ‫‪ 4‬قرئت إنها بكسر الهمزة على الستئناف فيكون الكلم قد انتهى عند قوله وما يشعركم ويكون‬ ‫المعنى وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم قال إنها إذا جاءت ل يؤمنون‪ .‬فذكر علة عدم‬ ‫إيمانهم بقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم‪.‬‬

‫( ‪)2/104‬‬ ‫الجزء الثامن‬ ‫شيْءٍ قُبُلً مّا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِإلّ أَن‬ ‫وََلوْ أَنّنَا نَزّلْنَا إِلَ ْيهِمُ ا ْلمَل ِئكَةَ َوكَّلمَهُمُ ا ْل َموْتَى وَحَشَرْنَا عَلَ ْيهِمْ ُكلّ َ‬ ‫س وَالْجِنّ يُوحِي‬ ‫ن الِن ِ‬ ‫ع ُدوّا شَيَاطِي َ‬ ‫جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ َ‬ ‫جهَلُونَ(‪َ )111‬وكَذَِلكَ َ‬ ‫يَشَاء اللّ ُه وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ يَ ْ‬

‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ غُرُورًا وََلوْ شَاء رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَرْ ُه ْم َومَا َيفْتَرُونَ(‪)112‬‬ ‫َب ْع ُ‬ ‫ض ْوهُ وَلِ َيقْتَ ِرفُواْ مَا هُم ّمقْتَ ِرفُونَ(‪)113‬‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َر ِة وَلِيَ ْر َ‬ ‫صغَى إِلَيْهِ َأفْئِ َدةُ الّذِي َ‬ ‫وَلِ َت ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الملئكة‪ :‬أجسام نورانية يعمرون السموات عباد مكرمون ل يعصون ال تعالى ويفعلون ما‬ ‫يؤمرون ل يوصفون بذكورة ول أنوثة‪.‬‬ ‫الموتى ‪ :‬جمع ميت‪ :‬من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه‪.‬‬ ‫حشرنا ‪ :‬جمعنا‪.‬‬ ‫قبل ‪ :‬معاينة‬ ‫يجهلون ‪ :‬عظمة ال وقدرته وتدبيره وحكمته‪.‬‬ ‫شياطين ‪ :‬جمع شيطان‪ :‬وهو من خبث وتمرد من الجن والنس‪.‬‬ ‫يوحي بعضهم‪ :‬يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫زخرف القول ‪ :‬الكذب المحسن والمزين‪.‬‬ ‫غرورا‪ :‬للتغرير بالنسان‪.‬‬ ‫يفترون‪ :‬يكذبون‪.‬‬ ‫ولتصغى إليه ‪ :‬تميل إليه‪.‬‬ ‫وليقترفوا‪ :‬وليرتكبوا الذنوب والمعاصي‪.‬‬

‫( ‪)2/105‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم المطالبين باليات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها فأخبر‬ ‫تعالى في هذه اليات أنه لو نزل إليهم الملئكة من ‪ 1‬السماء وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا‬ ‫لهم ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬وحشر علمهم كل شيء ‪ 2‬أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم‬ ‫المخلوقات قبيلً بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬ما كانوا ليؤمنوا‬ ‫بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إل أن يشاء ‪ 3‬ال ذلك منهم‪ .‬ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم‬ ‫الصنام والوثان يجهلون أن الهداية بيد ال تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا‬ ‫اليات آمنوا‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية (‪ )111‬أما الية الثانية (‪ )112‬فإن ال تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا‬ ‫من هؤلء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه‬ ‫{شياطين ‪ 4‬النس والجن يوحي ‪ 5‬بعضهم إلى بعض زخرف القول} أي القول المزين بالباطل‬ ‫المحسن بالكذب {غرورا} أي للتغرير والتضليل‪{ ،‬ولو شاء ربك} أيها الرسول عدم فعل ذلك‬

‫اليحاء والوسواس {ما فعلوه} إذا {فذرهم} أي اتركهم {وما يفترون} من الكفر والكذب والباطل‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثانية أما الية الثالثة (‪ )113‬وهي قوله تعالى‪{ :‬ولتصغى إليه أفئدة الذين‬ ‫ل يؤمنون بالخرة‪ ،‬وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} هذه الية بجملها الربع معطوفة على‬ ‫قوله {زخرف القول غرورا} إذ إيحاء شياطين الجن والنس ‪ 6‬كان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فرأوهم عيانا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي شيئا سألوه وطلبوه‪.‬‬ ‫‪ 3‬الستثناء منفصل فهو بمعنى لكن إن شاء ال إيمانهم آمنوا والية تحمل التسلية والعزاء له‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬شياطين النس والجن بدل من قوله عدوّا ويصح أن يكون نعتا أيضا‪.‬‬ ‫‪ 5‬يوحي بمعنى يلقى إليه الباطل المزين بطريق الوسواس فيفهم عنه إذ اليحاء العلم السريع‬ ‫الخفي وشاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم "ما منكم من أحد إلّ قد وكل به قرينه من‬ ‫الجن‪ ،‬قيل ول أنت يا رسول ال قال ول أنا إلّ أن ال أعانني عليه فأسلم"‪.‬‬ ‫‪ 6‬روي عن مالك بن دينار أنه قال‪ :‬شياطين النس أشد من شياطين الجن‪ ،‬وذلك أني إذا تعوذت‬ ‫بال ذهب عني شيطان الجن وشيطان النس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا‪ .‬ويشهد لهذا ما‬ ‫روي عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه سمع امرأة تنشد‪:‬‬ ‫إن النساء رياحين خلقن لكم ‪ ...‬وكلكم يشتهي شم الرياحين‬ ‫فأجابها عمر رضي ال عنه قائلً‪:‬‬ ‫إن النساء شياطين خلقن لنا ‪...‬‬ ‫نعوذ بال من شر الشياطين‬

‫( ‪)2/106‬‬ ‫للغرور أي ليغتر به المشركون‪{ ،‬ولتصغى إليه } أي تميل {أفئدة الذين ل يؤمنون بالخرة} وهم‬ ‫المشركون العادلون بريهم {وليرضوه} ويقتنعوا به لنه مموه لهم مزين‪ ،‬ونتيجة لذلك التغرير‬ ‫والميل إليه وهو باطل والرضا به والقناع بفائدته فهم يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك‬ ‫والمعاصي والجرام ما يقترفون!‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ما شاء ال كان وما لم يشأ لم يكن أبدا‪ ،‬وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للولين والخرين‪.‬‬ ‫‪ -2‬تسلية الرسول صلى ال عليه وسلم وكل داع إلى ال تعالى بإعلمه أنه ما من نبي ول داع‬

‫إل وله أعداء من الجن والنس يحاربونه حتى ينصره ال عليهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلح للشياطين هو التزيين والتغرير‪.‬‬ ‫‪ -4‬القلوب الفارغة من اليمان بال ووعده وعيده في الدار الخرة أكثر القلوب ميلً إلى الباطل‬ ‫والشر والفساد‪.‬‬ ‫ح َكمًا وَ ُهوَ الّذِي أَنَ َزلَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكِتَابَ ُم َفصّلً وَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ‬ ‫َأ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ‬ ‫ل لّ مُبَ ّدلِ‬ ‫ك صِ ْدقًا وَعَ ْد ً‬ ‫مُنَ ّزلٌ مّن رّ ّبكَ بِا ْلحَقّ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ(‪ )114‬وَ َتمّتْ كَِل َمتُ رَ ّب َ‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ(‪ )115‬وَإِن ُتطِعْ َأكْثَرَ مَن فِي الَ ْرضِ ُيضِلّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتّ ِبعُونَ‬ ‫ِلكَِلمَاتِ ِه وَ ُهوَ ال ّ‬ ‫ضلّ عَن سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ(‬ ‫ن وَإِنْ هُمْ ِإلّ يَخْ ُرصُونَ(‪ )116‬إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ مَن َي ِ‬ ‫ِإلّ الظّ ّ‬ ‫‪)117‬‬

‫( ‪)2/107‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أبتغي ‪ :‬أطلب‪.‬‬ ‫حكما‪ :‬الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس‪.‬‬ ‫أنزل إليكم الكتاب‪ :‬أي أنزله لجلكم لتهتدوا به فت ْكمُلُوا عليه وتسعدوا‪.‬‬ ‫مفصلً ‪ :‬مبينا ل خفاء فيه ول غموض‪.‬‬ ‫والذين آتيناهم الكتاب‪ :‬أي علماء اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫الممترين ‪ :‬الشاكين‪ ،‬إذ المتراء الشك‪.‬‬ ‫صدقا وعدلً‪ :‬صدقا في الخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق‪ ،‬وعدلً في الحكام فليس في‬ ‫القرآن حكم جور وظلم أبدا بل كل أحكامه عادلة‪.‬‬ ‫ل مبدل لكلماته‪ :‬أي ل مغير لها ل بالزيادة والنقصان‪ ،‬ول بالتقديم والتأخير‪.‬‬ ‫السميع العليم ‪ :‬السميع لقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك‪.‬‬ ‫سبيل ال‪ :‬السلم إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان ال تعالى والكرامة في جواره‪.‬‬ ‫يخرصون ‪ :‬يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين‪.‬‬ ‫من يضل ‪ :‬بمن يضل‪.‬‬ ‫بالمهتدين‪ :‬في سيرهم إلى رضوان ال باتباع السلم الذي هو سبيل ال‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق مع العادلين بربهم الصنام والوثان لقد كان المراد في طلبهم الية الحكم بها على‬ ‫صحة دعوة النبي صلى ال عليه وسلم أنه نبي ال وأن القران كلم ال وأنه ل إله إل ال‪ ،‬ولم‬ ‫يكن هذا منهم إل من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريرا بهم وليواصلوا ذنوبهم‬

‫فل يؤمنون ول يتوبون‪ ،‬ومن هنا أنزل تعال قوله‪{ :‬أفغير ال أبتغي ‪ 1‬حكما}‪ .‬وهو تعليم لرسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير ال أطلب حكما بيني‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أفغير منصوب بأبتغي أي آبتغى غير ال؟ وكلما منصوب على الحال أو التمييز المبين لمبهم‬ ‫البتغاء‪.‬‬

‫( ‪)2/108‬‬ ‫وبينكم في دعواكم أني غير رسول وأن ما جئت به ليس وحيا من ال؟ ينكر صلى ال عليه وسلم‬ ‫تحكيم غير ربه تعالى وعلى ماذا يكون الحكم وال هو الذي أنزل إليهم الكتاب مفصلً فأي آية‬ ‫تغلب القرآن وهو آلف اليات هذا أولً وثانيا هل الكتاب من قبلهم وهم علماء اليهود والنصارى‬ ‫مقرون ومعترفون بأن ما ينفيه المشركون هو حق ل مرية فيه إذا فامض أيها الرسول في طريق‬ ‫دعوتك‪:‬ل تكونن لسن الممترين فإنك عما قريب تظهر على المشركين‪ ،‬لقد تمت كلمة ‪ 1‬ربك أي‬ ‫في هذا القرآن الذي أوحي إليك صدقا في كل ما تحمله من أخبار ومن ذلك نصرك وهزيمة‬ ‫أعدائك‪ ،‬وعدلً في أحكامها التي تحملها‪ ،‬ول يستطيع أحد تبديلها بتغيير ‪ 2‬لها بإخلف وع ٍد ول‬ ‫بإبطال حكم‪ ،‬وربك هو السميع لقوال عباده العليم بمقاصدهم وأفعالهم فما أقدره وأضعفهم فلذا لن‬ ‫يكون إل مراده ويبطل جميع إراداتهم‪ .‬واعلم يا رسولنا أنك {إن تطع أكثر من في الرض‬ ‫يضلوك عن سبيل ال} أي لو أنك تسمع لهم وتأخذ بآرائهم وتستجيب لقتراحاتهم لضلوك قطعا‬ ‫عن سبيل ال‪ ،‬والعلة أن أكثرهم ل بصيرة له ول علم حق لديه وكل ما يقولونه هو هوى نفس‪،‬‬ ‫وَوسواس شيطان‪ .‬إنهم ما يتبعون إل أقوال الظن وما هم فيما يقولون إل خارصون ‪ 3‬كاذبون‪.‬‬ ‫وحسبك علم ربك بهم فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‪:‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة وبطلن التحاكم إلى غير الوحي اللهي‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير صحة الدعوة السلمية بأمرين الول‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬الثاني‪ :‬شهادة أهل الكتاب ممن‬ ‫أسلموا كعبد ال بن سلم القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬ميزة القرآن الكريم‪ :‬أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل‪.‬‬ ‫‪ -4‬وعود ال تعالى ل تتخلف أبدا‪ ،‬ول تتبدل بتقديم ول تأخير‪.‬‬ ‫‪ -5‬اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلل فلذا ل يتبع إل أهل العلم الراسخون فيه لقوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ أهل الكوفة كلمة بالفراد وقرأها الباقون بالجمع كلمات قال ابن عباس رضي ال عنه في‬

‫كلمات ربك هي مواعيده تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬كما ل يستطيع أحد تبديل كلماتها وحروفها في القرآن الكريم كما بدلت التوراة والنجيل‬ ‫بتحريف الكلمات وتغييرها‪.‬‬ ‫‪ 3‬من هذا قيل لمن يقدر كمية التمر في النخل خراص لنه يقول بدون علم بقيني‪ -‬وإنما بالحدس‬ ‫والتخمين وأجازه الشارع للضرورة إليه‪.‬‬

‫( ‪)2/109‬‬ ‫تعالى ‪ { :‬ول تتبعان سبيل الذين ل يعلمون}‪.‬‬ ‫سمُ اللّهِ‬ ‫علَيْهِ إِن كُن ُتمْ بِآيَاتِهِ ُم ْؤمِنِينَ(‪َ )118‬ومَا َلكُمْ َألّ تَ ْأكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ ا ْ‬ ‫سمُ اللّهِ َ‬ ‫َفكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ ا ْ‬ ‫صلَ َلكُم مّا حَرّمَ عَلَ ْيكُمْ ِإلّ مَا اضْطُرِرْ ُتمْ إِلَيْ ِه وَإِنّ كَثِيرًا لّ ُيضِلّونَ بِأَ ْهوَا ِئهِم ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ‬ ‫عَلَيْ ِه َوقَدْ َف ّ‬ ‫ن الِثْمَ سَيُجْ َزوْنَ ِبمَا‬ ‫رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمعْتَدِينَ(‪ )119‬وَذَرُواْ ظَاهِ َر الِثْ ِم وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ َيكْسِبُو َ‬ ‫ق وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‬ ‫سمُ الّلهِ عَلَيْ ِه وَإِنّهُ َلفِسْ ٌ‬ ‫كَانُواْ َيقْتَ ِرفُونَ(‪َ )120‬ولَ تَ ْأكُلُواْ ِممّا لَمْ يُ ْذكَرِ ا ْ‬ ‫طعْ ُتمُو ُهمْ إِ ّنكُمْ َل ُمشْ ِركُونَ(‪)121‬‬ ‫َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُ ْم وَإِنْ َأ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مما ذكر اسم ال عليه ‪ :‬أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم ال وال أكبر‪.‬‬ ‫فصل لكم ما حرم عليكم‪ :‬أي بين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل‪.‬‬ ‫إل ما اضطررتم إليه ‪ :‬أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع‪.‬‬ ‫المعتدين‪ :‬المتجاوزين الحلل إلى الحرام‪ ،‬والحق إلى الباطل‪.‬‬ ‫ذروا ظاهر الثم‪ :‬اتركوا‪ :‬الثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح ‪.‬‬ ‫يقترفون ‪ :‬يكسبون الثام والذنوب‪.‬‬ ‫وإنه لفسق‪ :‬أي الكل مما لم يذكر اسم ال عليه‪ .‬فسق عن طاعة ال تعالى‪.‬‬ ‫إلى أوليائهم ليجادلوكم‪ :‬أي من النس ليخاصموكم في ترك الكل من الميتة‪.‬‬ ‫لمشركون‪ :‬حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم‬

‫( ‪)2/110‬‬ ‫بذلك عابديهم وعبادة غير ال تعالى شرك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين النس أن قالوا للرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫والمؤمنين‪ :‬كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله ال؟ فأنزل ال تعالى قوله‬

‫{فكلوا مما ذكر اسم ال عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ‪ .}1‬فأمر المؤمنين بعدم الستجابة لما يقوله‬ ‫المشركون‪ ،‬وقال {وما لكم ‪ 2‬أل تأكلوا مما ذكر اسم ال عليه} أي‪ :‬أي شيء يمنعكم من الكل مما‬ ‫ذكر اسم ال عليه؟ {وقد فصل ‪ 3‬لكم} أي بين لكم غاية التبيين {ما حرم عليكم} من المطاعم {إل‬ ‫ما اضطررتم إليه} أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلك من شدة الجوع فإنه‬ ‫يأكل مما حرم في حال الختيار‪ .‬ثم أعلمهم أن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم ‪ 4‬بغير‬ ‫علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لن التحريم والتحليل من حق الرب‬ ‫تعالى ل من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله‪{ :‬إن ربك هو أعلم بالمعتدين}‬ ‫ولزمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق ال‬ ‫تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم‪ .‬وقوله تعالى في الية الثالثة‪{ )120( :‬وذروا ظاهر الثم‬ ‫وباطنه} يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الثم كالزنى العلني وسائر المعاصي‪ ،‬وباطن الثم كالزنى‬ ‫السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي‬ ‫ظاهرة‪ ،‬لن الثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك‪ ،‬والزنى وغيرهما من سائر المحرمات‪.‬‬ ‫ثم توعد الذين ل يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الثم وباطنه بقوله‪{ .‬إن الذين يكسبون الثم‬ ‫سيجزون بما كانوا يقترفون} أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبه من الذنوب والثام ول ينجو إل‬ ‫من تاب منهم وصحت توبته وفي الية الخيرة في هذا السياق (‪ )121‬يقول تعالى ناهيا عباده عن‬ ‫الكل مما لم يذكر اسم ال تعالى عليه من ذبائح المشركين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية نص في مشروعية التسمية عند الذبح وعند الكل والشرب‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم؟‬ ‫‪ 3‬بين تعالى ذلك في آخر سورة النحل المكية وأمّا البيان التام فهو في سورة المائدة المتأخرة في‬ ‫النزول عن النحل والنعام معا‪.‬‬ ‫‪ 4‬إذ قال المشركون للرسول والمؤمنين ما ذبح ال بسكينه خير مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم‪.‬‬

‫( ‪)2/111‬‬ ‫والمجوس فقال‪{ :‬ول تأكلوا ‪ 1‬مما لم يذكر اسم ال عليه ‪ }2‬وأخبر أن الكل مما لم يذكر اسم ال‬ ‫تعالى عليه وهو ذبائح المشركين والمجوس فسق خروج عن طاعة الرب تعالى وهو مقتضي‬ ‫للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم اللهة التي تعبد من دون ال تعالى‪ ،‬ثم أخبرهم تعالى بأن‬ ‫الشياطين وهم المردة من الجن يوحون إلى الخباث من النس من أوليائهم الذين استجابوا لهم في‬ ‫عبادة الوثان يوحون إليهم بمثل قولهم‪ :‬كيف تحرمون ما قتل ال وتحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم‬ ‫بذلك‪ ،‬ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول {وإن أطعتموهم} فأكلتم ذبائحهم‬

‫أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم ال‪{ ،‬إنكم لمشركون ‪ }3‬لنكم استجبتم لما تأمر به‬ ‫الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫حلّ أكل من ذبائح المسلمين‪.‬‬ ‫‪ِ -1‬‬ ‫‪ -2‬وجوب ذكر اسم ال على بهيمة النعام عند تذكيتها ‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة إتباع الهواء ووجوب إتباع العلماء‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب ترك الثم ظاهرا كان أو باطنا وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة الكل من ذبائح المشركين والمجوس والملحدة البلشفة الشيوعيين‪.‬‬ ‫‪ -6‬اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بال تعالى‪.‬‬ ‫جعَلْنَا َلهُ نُورًا َيمْشِي بِهِ فِي النّاسِ َكمَن مّثَُلهُ فِي الظُّلمَاتِ لَيْسَ ِبخَارِجٍ‬ ‫َأوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَا ُه وَ َ‬ ‫مّ ْنهَا كَذَِلكَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى النسائي عن ابن عباس رضي ال عنهما في قوله تعالى {ول تأكلوا مما لم يذكر اسم ال‬ ‫عليه} قال‪ :‬خاصمهم المشركون فقالوا‪ :‬ما ذبح ال فل تأكلوه‪ ،‬وما ذبحتم أنتم أكلتموه فقال ال‬ ‫سبحانه {ول تأكلوا مما لم يذكر اسم ال عليه}‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن هذا اللفظ الوارد على سبب معين ل يمنع العموم إذ القاعدة الصولية أن العبرة بعموم اللفظ‬ ‫ل بخصوص السبب ومن هنا تعين معرفة ما يلي‪ :‬أولً‪ :‬وجوب التسمية عند الذبح والنحر‪ .‬ثانيا‪:‬‬ ‫إن ترك المسلم التسمية سهوا أكلت ذبيحته‪ ،‬ثالثا‪ :‬إن تركها عمدا لم تؤكل ذبيحته‪ ،‬رابعا‪ :‬قال‬ ‫بعض الفقهاء ترك المسلم التسمية عمدا ل يحرم ذبيحته إل أن يكون تركها مستخفا بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬الية دليل على أن من استحل شيئا مما حرم ال تعالى صار به مشركا وقد حرّم ال سبحانه‬ ‫الميتة نصا فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك‪ .‬وقال ابن العربي إنما يكون المؤمن بطاعة‬ ‫المشرك مشركا إذا أطاعه في العتقاد‪ .‬أما إن أطاعه في الفعل وعقيدته سليمة مستمر على‬ ‫التوحيد والتصديق فهو عاص غير كافر‪.‬‬

‫( ‪)2/112‬‬ ‫جعَلْنَا فِي ُكلّ قَرْيَةٍ َأكَابِرَ ُمجَ ِرمِيهَا لِ َي ْمكُرُواْ فِيهَا َومَا‬ ‫زُيّنَ لِ ْلكَافِرِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪َ )122‬وكَذَِلكَ َ‬ ‫شعُرُونَ(‪ )123‬وَإِذَا جَاء ْتهُمْ آ َيةٌ قَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ حَتّى ُنؤْتَى مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ‬ ‫سهِ ْم َومَا يَ ْ‬ ‫َي ْمكُرُونَ ِإلّ بِأَنفُ ِ‬ ‫صغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ِبمَا‬ ‫ج َعلُ رِسَالَتَهُ سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ َ‬ ‫علَمُ حَ ْيثُ َي ْ‬ ‫سلُ اللّهِ اللّهُ أَ ْ‬ ‫رُ ُ‬ ‫كَانُواْ َي ْمكُرُونَ(‪)124‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ميتا‪ :‬الميت فاقد الروح‪ ،‬والمراد روح اليمان‪.‬‬ ‫أحييناه ‪ :‬جعلناه حيا بروح اليمان‪.‬‬ ‫مثله‪ :‬صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها‪.‬‬ ‫قرية ‪ :‬مدينة كبيرة‪.‬‬ ‫ليمكروا فيها‪ :‬بفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والحتيال‪.‬‬ ‫وما يمكرون إل بأنفسهم ‪ :‬لن عاقبة المكر تعود على الماكر نفسه لية {ول يحيق المكر السيئ‬ ‫إل بأهله}‪.‬‬ ‫وإذا جاءتهم آية ‪ :‬أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق‪.‬‬ ‫صغار‪ :‬الصغار‪ :‬الذل والهران‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل ال‬ ‫وتحليل ما حرم فقال تعالى‪{ :‬أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} أي‬ ‫أطاعة هذا العبد الذي كان ميتا بالشرك والكفر فأحييناه باليمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب‬ ‫أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك‬

‫( ‪)2/113‬‬ ‫والكفر والمعاصي ليس بخارج من تلك الظلمات وهو أبو جهل ‪ 1‬والجواب ل‪ ،‬إذا كيف أطاع‬ ‫المشركون أبا جهل وعصوا عمر رضي ال عنه والجواب‪ :‬أن الكافرين لظلمة نفوسهم وإتباع‬ ‫أهوائهم ل عقول لهم زُين لهم عملهم الباطل حسب سنة ال تعالى في أن من أحب شيئا وغالى في‬ ‫حبه على غير هدى ول بصيرة يصبح في نظره زيّنا وهو شيْن وحسنا وهو قبيح‪ ،‬فلذا قال تعالى‪:‬‬ ‫{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ‪ 2‬ليمكروا فيها} فيهلكوا أيضا‪ .‬وقوله‪{ :‬وما يمكرون‬ ‫إل بأنفسهم وما يشعرون} هو كما قال‪ :‬قوله الحق وله الملك‪ ،‬فالماكر من أكابر المجرمين حيث‬ ‫أفسدوا عقائد الناس وأخلقهم وصرفوهم عن الهدى بزخرف القول والحتيال والخداع‪ ،‬هم في‬ ‫الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الخرة‪ ،‬إذ ل يحيق المكر السيئ‬ ‫إل بأهله ولكنهم ل يشعرون أي ل يدرون ‪ 3‬ول يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم‪ ،‬وقوله تعالى في‬ ‫الية الثالثة (‪{ )124‬وإذا جاءتهم ‪ 4‬آية‪ }..‬أي حجة عقلية مما تحمله آيات القرآن تدعوهم إلى‬ ‫تصديق الرسول واليمان بما جاء به ويدعو إليه من التوحيد بدل أن يؤمنوا {قالوا لن نؤمن حتى‬ ‫نؤتى ‪ 5‬مثل ما أوتي رسل ال } أي من المعجزات كعصا موسى وطير عيسى الذي نفخ فيه فكان‬ ‫طائرا بإذن ال فرد ال تعالى عليهم هذا العلو والتكبر قائلً‪{ :‬ال أعلم حيث يجعل رسالته} فإنه‬

‫يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية‪ ،‬ل في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة‪ ،‬وقوله تعالى‬ ‫{سيصيب الذين أجرموا} على أنفسهم بالشرك والمعاصي وعلى غيرهم حيث أفسدوا قلوبهم‬ ‫وعقولهم‪{ ،‬صغار ‪ :}6‬أي ذل وهوان {عند ال} يوم يلقونه {وعذاب شديد} قاس ل يطاق {بما كانوا‬ ‫يمكرون}‪ :‬أي بالناس بتضليلهم وإفساد قلوبهم وعقولهم بالشرك والمعاصي التي كانوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية عامة في كل كافر ومؤمن والموت قد يطلق أيضا على الجهل‪ .‬فالجاهل ميت وحياته‬ ‫بالعلم كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫وفي الجهل قبل الموت موت لهله ‪ ...‬فأجسامهم قبل القبور قبور‬ ‫وإن امرؤا لم يحيى بالعلم ميت ‪ ...‬فليس له حتى النشور نشور‬ ‫‪ 2‬في الية تقديم وتأخير‪ .‬الصل جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها والكابر جمع أكبر وهم‬ ‫الرؤساء والعظماء وخصوا بالذكر لنهم أقدر على الفساد والفساد من عامة الناس‪.‬‬ ‫‪ 3‬وذلك لفرط جهلهم ل يعلمون أن وبال مكرهم عائد عليهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬في الية شيء من بيان جهلهم وعملهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذه مقالة بعضهم قال الوليد بن المغيرة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬لو كانت النبوة حقا‬ ‫لكنت أولى بها منك لني أكبر سنا وأكثر منك مالً‪ .‬وقال أبو جهل‪ :‬وال ل نرضى به أبدا ول‬ ‫نتبعه إلّ أن يأتينا وحي كما يأتيه‪.‬‬ ‫‪ 6‬الصغار من الصغر ضد الكبر كأن الذل يُصغر إلى المرء نفسَه والفعل صغر يصغر من باب‬ ‫نَصر‪ ،‬وصغِر يصغر من باب علم يعلم‪ .‬والمصدر الصغر بفتح الصاد والغين معا والصغار‬ ‫السم واسم الفاعل صاغر وهو الراضي بالضيم‪.‬‬

‫( ‪)2/114‬‬ ‫يجرئونهم عليها ويغرونهم بها‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليمان حياة‪ ،‬والكفر موت‪ ،‬المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان سنة ال تعالى في تزيين العمال القبيحة‪.‬‬ ‫‪ -3‬قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها‪.‬‬ ‫‪ -4‬عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن‪.‬‬ ‫‪ -6‬الرسالة توهب ل تكتسب‪.‬‬

‫‪ -7‬بيان عقوبة أهل الجرام في الرض‬ ‫ج َعلْ صَدْ َر ُه ضَ ّيقًا حَرَجًا كَأَ ّنمَا‬ ‫صدْ َرهُ لِلِسْلَمِ َومَن يُ ِردْ أَن ُيضِلّهُ َي ْ‬ ‫ح َ‬ ‫َفمَن يُرِدِ الّلهُ أَن َيهْدِ َيهُ يَشْرَ ْ‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )125‬وَهَذَا صِرَاطُ رَ ّبكَ مُسْ َتقِيمًا‬ ‫ج َعلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِي َ‬ ‫سمَاء َكذَِلكَ يَ ْ‬ ‫صعّدُ فِي ال ّ‬ ‫َي ّ‬ ‫لمِ عِندَ رَ ّبهِ ْم وَ ُه َو وَلِ ّيهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪)127‬‬ ‫قَدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِلقَوْمٍ َي ّذكّرُونَ(‪َ )126‬لهُمْ دَارُ السّ َ‬ ‫ن الِنسِ رَبّنَا اسْ َتمْ َتعَ‬ ‫س َوقَالَ َأوْلِيَآؤُهُم مّ َ‬ ‫ن الِن ِ‬ ‫جمِيعًا يَا َمعْشَرَ ا ْلجِنّ قَدِ اسْ َتكْثَرْتُم مّ َ‬ ‫وَ َيوْمَ يِحْشُ ُرهُمْ َ‬ ‫ض وَبََلغْنَا َأجَلَنَا الّ ِذيَ َأجّ ْلتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَ ْثوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا ِإلّ مَا شَاء الّلهُ إِنّ رَ ّبكَ‬ ‫َب ْعضُنَا بِ َب ْع ٍ‬ ‫حكِيمٌ عَليمٌ(‪)128‬‬ ‫َ‬

‫( ‪)2/115‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫شرح صدره‪ :‬شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار اليمان وعلمة‬ ‫ذلك‪ :‬النابة إلى دار الخلود‪ ،‬والتجافي عن دار الغرور والستعداد للموت قبل نزوله‪.‬‬ ‫حرجا‪ :‬ضيقا ل يتسع لقبول الحق‪ ،‬ول لنور اليمان‪.‬‬ ‫كأنما يصعد ‪ :‬يصعب عليه قبول اليمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء‪.‬‬ ‫الرجس‪ :‬النجس وما ل خير فيه كالشيطان‪.‬‬ ‫فصلنا اليات‪ :‬بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح‪.‬‬ ‫يذكرون‪ :‬يذكرون فيتعظون‪.‬‬ ‫دار السلم ‪ :‬الجنة‪ ،‬والسلم اسم من أسماء ال تعالى فهي مضافة إلى ال تعالى‪.‬‬ ‫استكثرتم‪ :‬أي من إضلل النس وإغوائهم‪.‬‬ ‫استمتع بعضنا ببعض‪ :‬انتفع كل منّا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت‪.‬‬ ‫أجلنا الذي أجلت لنا ‪ :‬أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا‪.‬‬ ‫مثواكم‪ :‬مأواكم ومقر بقائكم وإقامتكم‪.‬‬ ‫حكيم عليم‪ :‬حكيم في وضع كل شيء في موضعه فل يخلد أهل اليمان في النار‪ ،‬ول يخرج أهل‬ ‫الكفر منها‪ ،‬عليم بأهل اليمان وأهل الكفران‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد ذلك البيان والتفصيل لطريق الهداية في اليات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن‬ ‫المدعوين إلى الحق العادلين به الصنام إذ قالوا‪{ :‬لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل ال}‪.‬‬ ‫أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الضلل كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء‬ ‫بعدله‪ ،‬وأن لكل من الهداية والضلل سننا تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب‬

‫( ‪)2/116‬‬ ‫فيها صادقا علم تعالى ذلك منه وسهل له طرقها وهيأ له أسبابها‪ ،‬ومن ذلك أنه يشرح ‪ 1‬صدره‬ ‫لقبول اليمان وأنواره فيؤمن ويسلم ويحسن فيكمل ويسعد‪ ،‬ومن طلب الغواية ورغب فيها صادقا‬ ‫علم ال تعالى ذلك منه فهيأ له أسبابها وفتح له بابها فجعل صدره ضيقا‪ 2‬حرجا ل يتسع لقبول‬ ‫اليمان وحلول أنواره فيه حتى لكأنه يتكلف الصعود إلى السماء وما هو بقادر هذه سنته في‬ ‫الهداية والضلل‪ ،‬وقوله تعالى {كذلك يجعل ال الرجس على الذين ل يؤمنون} أي كذلك الفعل‬ ‫في الهداية والضلل يجعل ال الرجس ‪ 3‬أي يلقي بكل ما ل خير فيه على قلوبهم من الكبر‬ ‫والحسد والشرك والكفر والشيطان لقبول المحل لكل ذلك نتيجة خلوه من اليمان بال ولقائه‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {وهذا صراط ربك مستقيما} يقول تعالى لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم مشيرا‬ ‫إلى ما بينه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيما فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك‬ ‫وجواره في جنات النعيم‪ .‬وقوله‪{ :‬قد فصلنا اليات لقوم يذكرون} يمتن تعالى وله الحمد والمنة‬ ‫بما أنعم به على هذه المة من تفصيل اليات حججا وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى‬ ‫المشار إليهم بقوله {لقوم يذكرون} فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السلم‬ ‫إذ قال تعالى {لهم ‪ 4‬دار السلم عند ربهم وهو وليهم} أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا‬ ‫والنعام والتكريم في الخرة {بما كانوا يعملون} من الصالحات‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليات الولى والثانية والثالثة أما الية الرابعة (‪ )128‬فقد تضمنت عرضا‬ ‫سريعا ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى ‪{ :‬ويوم يحشرهم‬ ‫جميعا}‪ 5‬إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى {يا معشر الجن قد استكثرتم ‪ 6‬من النس} أي في‬ ‫إغوائهم وإضللهم‪{ ،‬وقال أولياؤهم من النس} أي الذين كانوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الشرح أصله التوسعة وشرح المر بيّنه وأوضحه ومنه تشريح اللحم والشريحة منه القطعة‪.‬‬ ‫وشرح الصدر لقبول الحق توسعته لتقّبل ما يلقى إليه من الهدى وفي الحديث الصحيح "من يرد‬ ‫ال به خيرا يفقهه في الدين"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحرج والحرج بالفتح والكسر قراءتان وهو الضيق وكل ضيق حرج والحرجة الغيضة والجمع‬ ‫حروج وحرجات وقال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬الحرج موضع الشجر الملتف فقلب الكافر‬ ‫لضيقه ل تصل إليه المعرفة كما ل تصل الشاة إلى الشجر الملتف أو تدخل رأسها بين الشجر‬ ‫فيصعب عليها إخراجه فتقع في حرج‪ ،‬والحرج الثم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل الرجس في اللغة النتن وقال مجاهد‪ :‬الرجس ما ل خير فيه فكما يجعل صدر الكافر ضيقا‬ ‫ل يقبل الهدى يجعل عليه الرجس فيقبل كل خبيث نتن من القوال والعتقادات‪.‬‬

‫‪ 4‬دار السلم الجنة والسلم هو ال فدار السلم كبيت ال وهناك معنى آخر وهو أنها دار السلمة‬ ‫من كل أذى ومكروه وآفة‪.‬‬ ‫‪ 5‬نُصب الظرف بفعل محذوف تقديره يقول يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن الخ‪.‬‬ ‫‪ 6‬حذف لفظ الستمتاع إيجازا لدللة السياق وحرف الجر عليه أي قد استكثرتم من الستمتاع من‬ ‫النس‪.‬‬

‫( ‪)2/117‬‬ ‫يوالونهم على الفساد والشر والشرك والكفر {ربنا} أي يا ربنا {استمتع بعضنا ببعض} أي كل منا‬ ‫تمتع بخدمة الخر له وانتفع بها‪ ،‬يريدون أن الشياطين زينت لهم الشهوات وحسنت لهم القبائح‬ ‫وأغرتهم بالمفاسد فهذا انتفاعهم منهم وأما الجن فقد انتفعوا من النس بطاعتهم والستجابة لهم‬ ‫حيث خبثوا خبثهم وضلوا ضللهم‪ .‬وقولهم {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} أي واستمر ذلك منا إلى‬ ‫أن انتهينا إلى أجلنا الذي أجلته لنا وهو نهاية الحياة الدنيا وها نحن بين يديك‪ ،‬كأنهم يعتذرون‬ ‫بقولهم هذا فرد ال تبارك وتعالى عليهم بإصدار حكمه فيهم قائلً‪{ :‬النار مثواكم ‪ 1‬خالدين فيها إل‬ ‫ما شاء ال} ومعنى مثواكم‪ :‬مقامكم الذي تقيمون فيه أبدا‪.‬‬ ‫ومعنى قوله {إل ما شاء ال} هو استثناء ‪ 2‬لبيان إرادة ال المطلقة التي ل يقيدها شيء‪ ،‬إذ لو شاء‬ ‫أن يخرجهم من النار لخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك‪ ،‬ومن الجائز أن يكون هذا الستثناء‬ ‫المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء‬ ‫الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه‪ ،‬ويكون معنى (ما) (من) أي إل من شاء ال‪ .‬وال أعلم‬ ‫بمراده‪ ،‬وقوله في ختام الية‪{ ،‬إن ربك حكيم عليم}‪ ،‬ومن مظاهر حكمنه وعلمه إدخال أهل الكفر‬ ‫والمعاصي النار أجمعين النس والجن سواء‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪.:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في الهداية والضلل‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه اليمان‪.‬‬ ‫‪ -3‬القلوب الكافرة يلقى فيها كل ما ل خير فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقرا للشيطان‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو التعاظ فالعمل‪.‬‬ ‫‪ -5‬ثبوت التعاون بين أخباث النس والجن على الشر والفساد‪.‬‬ ‫‪ -6‬إرادة ال مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فل يؤثر فيها شيء‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المثوى المقام أي النار موضع مقامكم‪.‬‬

‫‪ 2‬ذكر المفسرون أقوالً كثيرة في هذا الستثناء وما ذكرته في التفسير أحسن ما يؤول به هذا‬ ‫الستثناء اللهي في هذه الية وفي آية هود‪.‬‬

‫( ‪)2/118‬‬ ‫سلٌ‬ ‫ن وَالِنسِ أََلمْ يَأْ ِتكُمْ ُر ُ‬ ‫َوكَذَِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َب ْعضًا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ(‪ )129‬يَا َمعْشَرَ الْجِ ّ‬ ‫علَى أَنفُسِنَا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا‬ ‫شهِدْنَا َ‬ ‫مّنكُمْ َي ُقصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُو َنكُمْ ِلقَاء َي ْو ِمكُمْ َهذَا قَالُواْ َ‬ ‫سهِمْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ(‪ )130‬ذَِلكَ أَن لّمْ َيكُن رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَى ِبظُلْ ٍم وَأَهُْلهَا‬ ‫شهِدُواْ عَلَى أَنفُ ِ‬ ‫وَ َ‬ ‫عمّا َي ْعمَلُونَ(‪)132‬‬ ‫عمِلُواْ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬ ‫غَافِلُونَ(‪ )131‬وَِل ُكلّ دَرَجَاتٌ ّممّا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫نولي بعض الظالمين بعضا ‪ :‬أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد‪.‬‬ ‫بما كانوا يكسبون ‪ :‬أي من الظلم والشر والفساد‪.‬‬ ‫ألم يأتكم رسل منكم‪ :‬الستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى ال تعالى إليه شرعه وأمره‬ ‫بإبلغه للناس‪ ،‬هذا من النس أما من الجن فهم من يتلقون عن الرسل من النس ويبلغون ذلك‬ ‫إخوانهم من الجن‪ ،‬ويقال لهم النّذُر‪.‬‬ ‫يقصون عليكم آياتي ‪ :‬يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى ل يتركوا شيئا إل بلغوكم‬ ‫إياه وعرفوكم به‪.‬‬ ‫وينذرونكم لقاء يومكم ‪ :‬أي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء‪.‬‬ ‫وأهلها غافلون‪ :‬لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربهم وطاعته‪ ،‬ومالهم عليها من جزاء‪..‬‬

‫( ‪)2/119‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} إخبار منه تعالى بسنته في‬ ‫أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتوله بالنصرة والمودة بسبب الكسب السيئ‬ ‫الذي يكسبونه على نحو موالة شياطين النس للجن فالجامع بينهم الخبث والشر وهؤلء الجامع‬ ‫بينهم الظلم والعدوان‪ ،‬ول مانع من حمل هذا اللفظ على تسليط الظالمين بعضهم على بعض على‬ ‫حد‪ :‬ول ظالم إل سيبتلى بأظلم ‪ .1‬كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقا بعد فريق‬ ‫وكل هذا حق وصالح لدللة اللفظ عليه‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬يا معشر الجن والنس} إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة ينادي الجن والنس موبخا‬ ‫لهم فيقول‪{ :‬ألم يأتكم رسل منكم ‪ 2‬يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} أي ألم يأتكم‬

‫رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم {يقصون عليكم آياتي} أي يتلونها عليكم ويخبرونكم‬ ‫بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتعبدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي‪ ،‬وينذرونكم‬ ‫أي يخوفونكم‪ ،‬لقاء يومكم هذا الذي أنتم الن فيه وهو يوم القيامة والعرض على ال تعالى‪ .‬وما‬ ‫يتم فيه من جزاء على العمال خيرها وشرها وأن الكافرين هم أصحاب النار‪ .‬فأجابوا قائلين‪:‬‬ ‫شهدنا على أنفسنا‪ -‬وقد سبق أن غرتهم ‪ 3‬الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم‪{ -‬وشهدوا‬ ‫على أنفسهم ‪ 4‬أنهم كانوا كافرين}‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية أما الثالثة (‪ )131‬فقد تضمنت الشارة إلى علة إرسال‬ ‫الرسل إلى النس والجن إذ قال تعالى {ذلك ‪ 5‬أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ‪6‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذا المعنى قول الشاعر‪:‬‬ ‫وما من يد إل يد ال فوقها ‪ ...‬ول ظالم إلّ سيبلى بظالم‬ ‫‪2‬قوله منكم فيه تغليب الثر على الجن في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث إذ الرسل من‬ ‫النس ل غير ومن الجن نذر ينذرونهم بما يتلقونه عن الرسل من النس كما قال تعالى {فلما‬ ‫قُضي ولوّا إلى قومهم منذرين} وشاهد آخر في قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} ‪،‬‬ ‫المراد البحر الملح فقط وفي وصف الرسل بلفظ منكم زيادة في إقامة الحجة عليهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬غرتهم إذ عجلت لهم طيباتهم فيها فانفردوا بزخارفها وزينتها وطول العمر فيها‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال مقاتل هذا معنى شهدت عليهم الجوارح بالشرك‪.‬‬ ‫‪ 5‬ذلك في موضع رفع أي المر ذلك وإن مخففة من الثقيلة أي المشددة واسمها ضمير الشأن‬ ‫محذوف وذلك لن هذا الخبر له شأن يجدر أن يعرف والتقدير المر ذلك لنه‪ -‬أي الشأن‪ -‬لم‬ ‫يكن ربك مهلك القرى بظلم الخ‪.‬‬ ‫‪ 6‬الباء في بظلم سببية أي بسبب ظلمهم وجملة وأهلها غافلون حالية‪.‬‬

‫( ‪)2/120‬‬ ‫وأهلها غافلون} أي ذلك الرسال كان لجل أنه تعالى لم يكن من شأنه ول مقتضى حكمته أنه‬ ‫يهلك أهل القرى بظلم منه وما ربك بظلم للعبيد ول بظلم منهم وهو الشرك والمعاصي وأهلها‬ ‫غافلون لم يؤمروا ولم ينهوا‪ ،‬ولم يعلموا بعاقبة الظلم وما يحل بأهله من عذاب‪.‬‬ ‫وفي الية الخيرة (‪ )132‬أخبر تعالى أن لكل عامل ‪ 1‬من خير أو شر درجات من عمله إن كان‬ ‫العمل صالحا فهي درجات في الجنة‪ ،‬وإن كان العمل سيئا فاسدا فهي دركات في النار‪ ،‬وهذا يتم‬ ‫حسب علم ال تعالى بعمل كل عامل وهو ما دل عليه قوله‪{ ،‬وما ربك بغافل عما يعملون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في أن العمال هي سبب الموالة بين النس والجن فذو العمل الصالح‬ ‫يوالي أهل الصلح‪ ،‬وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد‪.‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من الغترار بالحياة الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان العلة في إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس‪ ،‬وعدم إهلكهم قبل الرسال إليهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬العمال بحسبها يتم الجزاء فالصالحات تكسب الدرجات‪ ،‬والظلمات تكسب الدركات‪.‬‬ ‫حمَةِ إِن يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَسْ َتخِْلفْ مِن َبعْ ِدكُم مّا َيشَاء َكمَآ أَنشََأكُم مّن ذُرّيّةِ َقوْمٍ‬ ‫وَرَ ّبكَ ا ْلغَنِيّ ذُو الرّ ْ‬ ‫عمَلُواْ عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي‬ ‫ت َومَا أَنتُم ِب ُمعْجِزِينَ(‪ُ )134‬قلْ يَا َقوْمِ ا ْ‬ ‫آخَرِينَ(‪ )133‬إِنّ مَا تُوعَدُونَ ل ٍ‬ ‫سوْفَ َتعَْلمُونَ‬ ‫عَا ِملٌ َف َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لكل عامل أي من النس والجن‪.‬‬

‫( ‪)2/121‬‬ ‫مَن َتكُونُ َلهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ(‪)135‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الغني‪ :‬عن كل ما سواه‪ ،‬فغناه تعالى ذاتي ليس بمكتسب كغنى غيره‪.‬‬ ‫ذو الرحمة ‪ :‬صاحب الرحمة العامة التي تشمل سائر مخلوقاته والخاصة بالمؤمنين من عباده‪.‬‬ ‫ويستخلف ‪ :‬أي ينشىء خلقا آخر يخلفون الناس في الدنيا‪.‬‬ ‫إن ما توعدون لت‪ :‬إن ما وعد ال تعالى به عباده من نعيم أو جحيم لت ل محالة‪.‬‬ ‫على مكانتكم ‪ :‬أي على ما أنتم متمكنين منه من حال صالحة أو فاسدة‪.‬‬ ‫عاقبة الدار‪ :‬أي الدار الدنيا وهي سعادة الخرة القائمة على اليمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫إنه ل يفلح الظالمون‪ :‬أي ل يفوز الظالمون بالنجاة من النار ودخول الجنان لن ظلمهم يوبقهم في‬ ‫الخر‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد تلك الدعوة إلى عبادة ال تعالى وتوحيده فيها وبيان جزاء من أقام بها‪ ،‬ومن ضيعها في الدار‬ ‫الخرة‪.‬‬ ‫خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله قائلً‪{ :‬وربك الغني ‪ 1‬ذو الرحمة} أي ربك الذي أمر عباده‬ ‫بطاعته ونهاهم عن معصيته هو الغني عنهم وليس في حاجة إليهم‪ ،‬بل هم الفقراء إليه المحتاجون‬ ‫إلى فضله‪ ،‬ورحمته قد شملتهم أولهم وآخرهم ولم تضق عن أحد منهم‪ ،‬ليعلم أولئك العادلون‬ ‫بربهم الصنام والوثان أنه تعالى قادر على إذهابهم بإهلكهم بالمرة‪ ،‬والتيان بقوم آخرين أطوع‬

‫ل تعالى منهم‪ ،‬وأكثر استجابة له منهم‪{ :‬إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم‬ ‫من ذرية قوم آخرين} وليعلموا أن ما يوعدونه من البعث والحساب والجزاء لت ل محالة وما‬ ‫أنتم بمعجزين ال تعالى ول فائتينه بحال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الغني هو الذي ل يحتاج إلى غيره وكل غنى من الخلق غناه إضافي غير حقيقي أما غنى ال‬ ‫تعالى فهو حقيقي فقوله وربك الغني أي الغني المطلق الذي ل يشاركه فيه غيره ولذا كان في‬ ‫الصيغة قصر الغنى الحق عليه تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/122‬‬ ‫ولذا سوف يجزي كلً بعمله خيرا كان أو شرا وهو على ذلك قدير‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية أما الية الثالثة (‪ )135‬فقد تضمنت أمر ال تعالى‬ ‫للرسول أن يقول للمشركين من قومه وهم كفار قريش بمكة {اعملوا ‪ 1‬على مكانتكم} ما دمتم‬ ‫مصرين على الكفر والشرك {إني عامل} على مكانتي فسوف ‪ 2‬تعلمون من تكون له عاقبة دار ‪3‬‬ ‫الدنيا وهي الجنة دار السلم أنا أم أنتم مع العلم أن الظالمين ل يفلحون بالنجاة من النار ودخول‬ ‫الجنان‪ ،‬ول شك أنكم أنتم الظالمون بكفركم بال تعالى وشرككم به‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير غنى ال تعالى المطلق عن سائر خلقه‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان قدرة ال تعالى على إذهاب الخلق كلهم والتيان بآخرين غيرهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬صدق وعد ال تعالى وعدم تخلفه‪.‬‬ ‫‪ -4‬تهديد المشركين بالعذاب إن هم أصروا على الشرك والكفر والذي دل عليه قوله {اعملوا على‬ ‫مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} الدنيا {إنه ل يفلح الظالمون}‪.‬‬ ‫ع ِمهِ ْم وَ َهذَا لِشُ َركَآئِنَا َفمَا كَانَ‬ ‫جعَلُواْ لِلّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ ا ْلحَ ْرثِ وَالَ ْنعَامِ َنصِيبًا َفقَالُواْ هَذَا ِللّهِ بِزَ ْ‬ ‫وَ َ‬ ‫صلُ إِلَى اللّهِ َومَا كَانَ لِّلهِ َف ُهوَ َيصِلُ إِلَى شُ َركَآ ِئهِمْ‬ ‫لِشُ َركَآ ِئهِمْ فَلَ َي ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا المر للتهديد‪ ،‬والمكانة هي المكان كالدارة والدار والمراد بها الحال التي عليها النسان من‬ ‫قوة أو ضعف أو خير أو شر أو إصلح أو إفساد‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجملة تحمل التهديد الشديد وهي تشير إلى أن الرسول صلى ال عليه وسلم واثق من نصره‬ ‫وحسن عاقبته وهو كذلك إذ ال تعالى الذي بيده المر هو الذي أمره أن يعلن عن هذا التهديد‪.‬‬

‫‪ 3‬العاقبة لغة آخر المر وأثر عمل العامل‪ ،‬فعاقبة كل شيء هي ما ينجلي عنه الشيء من نتيجة‬ ‫وأثر وتأنيث العافية بالنظر إلى تأويلها بالحالة والحالة مؤنثة‪.‬‬

‫( ‪)2/123‬‬ ‫ح ُكمُونَ(‪َ )136‬وكَذَِلكَ زَيّنَ ِلكَثِيرٍ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ قَ ْتلَ َأ ْولَدِ ِهمْ شُ َركَآؤُهُمْ لِيُ ْردُوهُ ْم وَلِيَلْ ِبسُواْ‬ ‫سَاء مَا يَ ْ‬ ‫عَلَ ْيهِمْ دِي َنهُ ْم وََلوْ شَاء اللّهُ مَا َفعَلُوهُ فَذَرْ ُه ْم َومَا َيفْتَرُونَ(‪َ )137‬وقَالُواْ َه ِذهِ أَ ْنعَا ٌم وَحَ ْرثٌ حِجْ ٌر لّ‬ ‫ظهُورُهَا وَأَ ْنعَا ٌم لّ َي ْذكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ‬ ‫ع ِمهِ ْم وَأَ ْنعَامٌ حُ ّر َمتْ ُ‬ ‫ط َع ُمهَا ِإلّ مَن نّشَاء بِزَ ْ‬ ‫يَ ْ‬ ‫سَ َيجْزِيهِم ِبمَا كَانُواْ َيفْتَرُونَ(‪َ )138‬وقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ َه ِذهِ الَ ْنعَامِ خَاِلصَةٌ لّ ُذكُورِنَا َومُحَرّمٌ عَلَى‬ ‫حكِيمٌ عَلِيمٌ(‪ )139‬قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُواْ‬ ‫صفَهُمْ إِنّهُ ِ‬ ‫أَ ْزوَاجِنَا وَإِن َيكُن مّيْتَةً َف ُهمْ فِيهِ شُ َركَاء سَ َيجْزِيهِ ْم َو ْ‬ ‫سفَهًا ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَحَ ّرمُواْ مَا رَ َز َقهُمُ الّلهُ افْتِرَاء عَلَى الّلهِ قَ ْد ضَلّو ْا َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ(‪)140‬‬ ‫َأ ْولَدَهُمْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مما ذرأ‪ :‬ما خلق‪.‬‬ ‫من الحرث والنعام ‪ :‬الحرث كل ما يحرث له الرض من الزروع‪ ،‬والنعام‪ :‬البل والبقر‬ ‫والغنم‪.‬‬ ‫نصيبا ‪ :‬حظا وقدرا معينا‪.‬‬ ‫لشركائنا ‪ :‬شركاؤهم أوثانهم التي أشركوها في عبادة الخالق عز وجل‪.‬‬

‫( ‪)2/124‬‬ ‫ساء ما يحكمون‪ :‬قبح حكمهم في ذلك إذ آثروا أوثانهم على ال‪.‬‬ ‫ليردوهم ‪ :‬اللم لم العاقبة ومعنى يردوهم‪ :‬يهلكوهم‪.‬‬ ‫وليلبسوا ‪ :‬ليخلطوا عليهم دينهم‪.‬‬ ‫حجر‪ :‬أي ممنوعة على غير من لم يأذنوا له في أكلها‪.‬‬ ‫حرمت ظهورها ‪ :‬أي ل يركبونها ول يحملون عليها‪.‬‬ ‫افتراء على ال ‪ :‬أي كذبا على ال عز وجل‪.‬‬ ‫على أزواجنا‪ :‬أي إناثنا‪.‬‬ ‫وإن يكن ميتة‪ :‬أي إن ولد ما في بطن الحيوان ميتا فهم فيه شركاء الذكور والناث سواء‪.‬‬ ‫سفها بغير علم ‪ :‬حمقا وطيشا وعدم رشد وذلك لجهلهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في التنديد بأفعال العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فأخبر تعالى عما كانوا يبتدعونه‬

‫من البدع ويشرعون من الشرائع بدون علم ول هدى ول كتاب مبين فقال تعالى عنهم {وجعلوا ل‬ ‫مما ذرأ من الحرث والنعام نصيبا‪ }1‬أي جعل أولئك العادلون بربهم ل تعالى مما خلق من‬ ‫الزرع والنعام نصيبا أي قسما كما جعلوا لللهة التي يؤلهونها مع ال سبحانه وتعالى نصيبا‪،‬‬ ‫{فقالوا هذا ل بزعمهم ‪ ،2‬وهذا لشركائنا} ‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬بزعمهم} لنه سبحانه وتعالى ما طلب‬ ‫منهم ذلك ول شرعه لهم وإنما هم يكذبون على ال تعالى ثم إذا أنبت أو أنتج ما جعلوه ل‪ ،‬ولم‬ ‫ينبت أو ينتج ما جعلوه للشركاء حولوه إلى الشركاء بدعوى أنها فقيرة وأن ال غني‪ ،‬وإذا حصل‬ ‫العكس لم يحولوا ما جعلوه لللهة ل بنفس الحجة وهي أن الشركاء فقراء‪ ،‬وال غني‪.‬‬ ‫هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬فما كان لشركائهم فل يصل إلى ال‪ ،‬وما كان ل فهو يصل إلى شركائهم}‬ ‫وهو تحيز ممقوت وتحكم فاسد فلذا قبح تعالى ذلك عليهم فقال {ساء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الكلم أيجاز إذ حذف منه المقابل وهو وجعلوا للهتهم نصيبا وحذفه كان لدللة ما بعده‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الزعم بفتح الزاي وقد تضم وتكسر أيضا لغات والفتح أشهر والزعم الكذب قال شريح القاضي‬ ‫رحمه ال تعالى إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا وقد كذب المشركون فيما جعلوه ل تعالى‬ ‫حيث لم يشرع ذلك لهم وإنما هم مفتاتون‪.‬‬

‫( ‪)2/125‬‬ ‫ما يحكمون} أي بئس الحكم حكمهم هذا وقبح صنيعا‪ ،‬صنيعهم هذا‪ ،‬وما جعلوه ل ينفقون على‬ ‫الضيفان والفقراء‪ ،‬وما جعلوه للشركاء ينفقونه على السدنة والمقيمين على الصنام والوثان‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى أما الثانية (‪ )137‬وهي قوله تعالى {وكذلك زين لكثير من‬ ‫المشركين قتل أولدهم شركاؤهم} يريد وكذلك التحكم الباطل والدعاء الكاذب في جعل ل شيئا‬ ‫مما ذرأ من الحرث والنعام‪ ،‬ثم عدم العدل بين ال تعالى وبين شركائهم زين لكثير من المشركين‬ ‫شركاؤهم وهم شياطينهم من الجن والنس قتل أولدهم كالمؤودة من البنات خوف العار‪ ،‬وكقتل‬ ‫الولد الصغار خوف الفقر‪ ،‬أو لنذرها لللهة ‪ ،1‬وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم أي‬ ‫يهلكوهم‪ ،‬ويلبسوا عليهم دينهم ‪ 2‬الحق أن يخلطوه لهم بالشرك‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى {ليردوهم ‪3‬‬ ‫وليلبسوا عليهم دينهم} وقوله تعالى‪{ :‬ولو شاء ال ما فعلوه} هو كما قال إذ لو أراد تعالى منعهم‬ ‫من ذلك لمنعهم ‪ 4‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬إذا فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في‬ ‫هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثانية أما الثالثة (‪ )138‬وهي قوله تعالى‪{ :‬وقالوا هذه أنعام وحرث حجر‬ ‫‪ 5‬ل يطعمها إل من نشاء بزعمهم‪ ،‬وأنعام حرمت ظهورها‪ ،‬وأنعام ل يذكرون اسم ال عليها‬

‫افتراء عليه}‪.‬‬ ‫فقد تضمنت هذه الية ثلثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم‪:‬‬ ‫الول ‪ :‬تحريمهم بعض النعام والحرث وجعلها ل ولللهة التي يعبدونها مع ال‪.‬‬ ‫الثاني ‪ :‬أنعام أي إبل حرموا ركوبها كالسائبة والحام‪.‬‬ ‫الثالث ‪ :‬إبلٌ ل يذكرون اسم ال عليها فل يحجون عليها ول يذكرون اسم ال عليها إن ركبوها‬ ‫بحال ول إن حملوا عليها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كما نذر عبد المطلب ولده عبدال لللهة‪ ،‬ثم فداه بمائة من البل‪.‬‬ ‫‪ 2‬فإن قيل‪ :‬وهل كان لهم دين حق؟ الجواب‪ :‬نعم كان لهم دين حق وهو ما جاءهم به إسماعيل‬ ‫بن إبراهيم عليه السلم وبطول الزمان وفتنة الشيطان فسد عليهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬اللم هنا لم العاقبة والصيرورة‪.‬‬ ‫‪ 4‬في هذا رد على القدرية وفيه تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم وتخفيف عليه‪.‬‬ ‫‪ 5‬في لفظ حجر الفتح والضم والكسر ومعناه المنع وسمي العقل حجرا لنه يمنع من قول وفعل‬ ‫القبيح وحجر القاضي على المفلس منعه من التصرف في المال وهو مشتق من الحرج بالكسر‬ ‫وهي لغة في الحرج الذي هو الضيق والثم‪.‬‬

‫( ‪)2/126‬‬ ‫وقوله تعالى في ختام الية {افتراء عليه} أي كذبا على ال تعالى لنه تعالى ما حرم ذلك عليهم‬ ‫وإنما حرموه هم بأنفسهم وقالوا حرمه ال علينا‪ ،‬ولذا توعدهم ال تعالى على كذبهم هذا بقوله‪:‬‬ ‫{سيجزيهم بما كانوا يفترون} أي سيثيبهم الثواب الملئم لكذبهم وهو العذاب الخروي‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثالثة أما الية الرابعة (‪{ )139‬وقالوا ما في بطون هذه النعام خالصة‬ ‫لذكورنا ومحرم على أزواجنا‪ ،‬وإن يكن ميتا فهم فيه شركاء} فقد تضمنت تشريعا آخر باطلً‬ ‫اختلقوه بأنفسهم وزعموا أن ال شرعه لهم وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض النعام على‬ ‫الناث‪ ،‬وجعلوها حللً للذكور خالصة لهم دون النساء فل يشرب النساء من ألبانها ول يأكلن‬ ‫لحوم أجنتها إن ذبحوها ول ينتفعن بها بحال‪ ،‬اللهم إل أن ولد الجنين ميتا فإنهم ل يحرمونه على‬ ‫النساء ول يخصون به الذكور فيحل أكله للنساء والرجال معا‪ ،‬ولذا توعدهم تعالى بقوله‬ ‫{سيجزيهم وصفهم ‪ 1‬إنه حكيم عليم} أي سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب إنه‬ ‫حكيم في قضائه عليم ‪ 2‬بعباده‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الرابعة أما الخامسة (‪ )140‬فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين‬ ‫وضللهم وعدم هدايتهم بقوله {قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها} أي جهلً {بغير ‪ 3‬علم‪ ،‬وحرموا‬

‫ما رزقهم ال} مما سبق ذكره {افتراءً على ال} كذبا {قد ضلوا! وما كانوا مهتدين}‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة البتداع في الدين والتشريع المنافي لشرع ال تعالى وإن لم ينسب إلى ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬ما ينذره الجهال اليوم من نذور للولياء وإعطائهم شيئا من النعام والحرث والشجر هو من‬ ‫عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة قتل النفس لي سبب كان وتحديد النسل اليوم وإلزام المة به من بعض‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي كذبهم وقيل في الوصف كذب لنهم وصفوا بعض الجنة بالحرمة وبعضا آخر بالحلية وهو‬ ‫كقوله تعالى من سورة النحل {ول تقولوا لما تصف ألسنتكم هذا حلل وهذا حرام}‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال القرطبي في الية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول مخالفه وإن لم يأخذ به حتى‬ ‫يعرف فساد قوله ويعلم كيف يرد عليه لن ال تعالى علّم نبيه وأصحابه قول من خالفهم في‬ ‫زمانهم ليعرفوا فساد قولهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل واضح على حرمة القول بدون علم وكذا العتقاد والعمل فل يحل لحد أن يعتقد‬ ‫أو بقول أو يعمل بدون علم شرعي قد تمكن من معرفته‪.‬‬

‫( ‪)2/127‬‬ ‫الحكام من عمل أهل الجاهلية الذين قتلوا أولدهم سفها بغير علم كقتل البنات خشية العار والولد‬ ‫خشية الفقر‪.‬‬ ‫ن وَال ّرمّانَ‬ ‫ل وَالزّ ْرعَ مُخْتَِلفًا ُأكُلُ ُه وَالزّيْتُو َ‬ ‫خَ‬ ‫ت وَالنّ ْ‬ ‫وَ ُهوَ الّذِي أَنشَأَ جَنّاتٍ ّمعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ َمعْرُوشَا ٍ‬ ‫حبّ‬ ‫حصَا ِد ِه َولَ تُسْ ِرفُواْ إِنّهُ لَ ُي ِ‬ ‫حقّهُ َي ْومَ َ‬ ‫مُتَشَا ِبهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن َثمَ ِرهِ ِإذَا أَ ْثمَ َر وَآتُواْ َ‬ ‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ‬ ‫خُ‬ ‫حمُولَةً َوفَرْشًا كُلُواْ ِممّا رَ َز َق ُكمُ اللّ ُه َولَ تَتّ ِبعُواْ ُ‬ ‫ن الَ ْنعَامِ َ‬ ‫ا ْلمُسْ ِرفِينَ(‪َ )141‬ومِ َ‬ ‫ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ آل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنثَيَيْنِ‬ ‫ع ُدوّ مّبِينٌ(‪َ )142‬ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ‬ ‫َلكُمْ َ‬ ‫ن َومِنَ الْ َبقَرِ‬ ‫ن الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ‬ ‫َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَرْحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَ ّبؤُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ(‪َ )143‬ومِ َ‬ ‫ش َهدَاء ِإ ْذ َوصّاكُمُ اللّهُ‬ ‫علَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنثَيَيْنِ َأمْ كُنتُمْ ُ‬ ‫اثْنَيْنِ ُقلْ آل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ َ‬ ‫ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ(‬ ‫ِبهَذَا َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى الّلهِ كَذِبًا لِ ُي ِ‬ ‫‪)144‬‬

‫( ‪)2/128‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أنشأ جنات ‪ :‬خلق جنات جمع جنة وهي البستان‪.‬‬ ‫معروشات‪ :‬ما يعمل له العريش من العنب‪ ،‬وما ل يعرش له من سائر الشجار‪.‬‬ ‫مختلفا أكله‪ :‬أي ثمره الذي يأكل منه‪.‬‬ ‫متشابها‪ :‬في الورق وغير متشابه في الحب والطعم‪.‬‬ ‫حقه‪ :‬ما وجب فيه من الزكاة‪.‬‬ ‫يوم حصاده ‪ :‬يوم حصاده إن كان حبا وجذاذه إن كان نخلً‪.‬‬ ‫ول تسرفوا ‪:‬في إخراجه‪:‬أي بأن ل تبقوا لعيالكم منه شيئا‪.‬‬ ‫حمولة ‪ :‬الحمولة ما يحمل عليها من البل‪.‬‬ ‫وفرشا ‪ :‬الفرش الصغار من الحيوان‪.‬‬ ‫خطوات الشيطان ‪ :‬مسالكه في التحريم والتحليل للضلل والغواية‪.‬‬ ‫أم ما اشتملت عليه أرحام النثيين‪ :‬أنثى الضأن وأنثى الماعز ذكرا كان أو أنثى‪.‬‬ ‫نبئوني بعلم ‪ :‬خبروني بأيهما حرم بعلم صحيح ل بوسواس الشياطين‪.‬‬ ‫أم كنتم شهداء‪ :‬أي حاضرين وقت تحريمه تعالى ذلك عليهم إن كان قد حرمه كما تزعمون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا ونسبوا ذلك إليه افتراء‬ ‫عليه تعالى‪ ،‬وما فعلوه ذلك إل لجهلهم بال تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته وإل لما اتخذوا له‬ ‫أندادا من الحجار وقالوا‪ :‬شركاؤنا‪ ،‬وشفعاؤنا عند ال‪ .‬ذكر تعالى في هذه اليات الربع ظاهر‬ ‫قدرته وعلمه وحكمته وأمره ونهيه وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل ال لعباده فقال‬ ‫تعالى‪{ :‬وهو الذي أنشأ جنات ‪ }1‬أي بساتين وحدائق من العنب‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجنّات‪ :‬جمع جنة وهي البستان وسمي البستان جنة لنه لكثرة أشجاره يجن أي يستر الكائن‬ ‫فيه‪ ،‬وسمي الجنين في البطن جنينا لجتنانه واستتاره ببطن أمه‪.‬‬

‫( ‪)2/129‬‬ ‫معروشات ‪ 1‬أي محمول شجرها على العروش التي توضع للعنب ليرتفع فوقها وغير معروشات‬ ‫أي غير معرش لها‪ ،‬وأنشأ النخل والزرع مختلفا ثمره وطعمه‪ ،‬وأنشأ الزيتون والرمان متشابها‬ ‫في الورق‪ ،‬وغير متشابه في الحب والطعم أيضا‪ .‬وأذن تعالى في أكله وأباحه وهو مالكه وخالقه‬ ‫فقال‪{ :‬كلوا من ثمره إذا أثمر} أي نضج بعض النضج وأمر بإخراج الواجب فيه وهو الزكاة فقال‬ ‫{وآتوا حقه يوم ‪ 2‬حصاده} أي بعد درسه وتصفيته إذ ل يعطى السنبل‪ ،‬ونهى عن السراف وهو‬

‫تجاوز الحد في إخراج الزكاة غلوا حتى ل يبقوا لمن يعولون ما يكفيهم‪ ،‬فقال‪{ :‬ول تسرفوا إنه ل‬ ‫يحب ‪ 3‬المسرفين} وأنشأ من النعام‪ :‬البل والبقر والغنم {حمولة} وهي ما يحمل عليها لكبرها‬ ‫{وفرشا} وهي الصغار التي ل يحمل عليهما‪ ،‬وأذن مرة أخرى في الكل مما رزقهم سبحانه‬ ‫وتعالى من الحبوب والثمار واللحوم وشرب اللبان‪ ،‬فقال‪{ :‬كلوا مما رزقكم ال} ونهى عن اتباع‬ ‫مسالك الشيطان في تحريم ما أحل ال وتحليل ما حرم فقال‪{ :‬ول تتبعوا خطوات الشيطان} وعلل‬ ‫للنهي فقال‪{ :‬إنه لكم عدو مبين} ومن عرف عدوه اتقاه ولو بالبعد عنه‪ ،‬وأنشأ {ثمانية أزواج من‬ ‫الضأن اثنين}‪.‬‬ ‫وهما الكبش والنعجة‪{ ،‬ومن المعز اثنين} وهما التيس والعنزة‪ ،‬وأمر رسوله أن يحاج المفترين في‬ ‫التحريم والتحليل فقال له {قل} يا رسولنا لهم {آلذكرين ‪ 4‬حرم } ال عليكم {أم النثيين أم ما‬ ‫اشتملت عليه أرحام النثيين} أي النعجة والعنزة {نبؤني بعلم إن كنتم صادقين} فإن قلتم حرم‬ ‫الذكرين فلزم ذلك جميع الذكور حرام‪ ،‬وإن قلتم حرم النثيين‬ ‫فلزمه أن جميع الناث حرام وإن قلتم حرم ما اشتملت عليه أرحام النثيين فكل ما ولد منهما‬ ‫حرام ذكرا كان أو أنثى فكيف إذا حرمتم البعض وحللتم البعض فبأي علم أخذتم نبوئوني به إن‬ ‫كنتم صادقين وقوله تعالى {ومن البل اثنين} وهما الناقة والجمل‪{ ،‬ومن البقر اثنين} وهما الثور‬ ‫والبقرة {قل آلذكرين ‪ 5‬حرم أم النثيين أمّا اشتملت عليه أرحام ‪6‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقيل المعروشات‪ :‬ما يعني به من الشجر على اختلفه‪ ،‬وغير المعروشات وهو شجر البوادي‬ ‫والجبال وما في التفسير أولى لقوته ودللة اللفظ عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬كان قبل فريضة الزكاة يتعين على عن حصد أو جد ثمره وأتاه المساكين أن يعطيهم شيئا مما‬ ‫بين يديه قل أو كثر ولما فرضت الزكاة وحددت مقاديرها خصص هذا بها حيث بُين الحق‬ ‫المجمل هنا‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل حرمة السراف وهو محرم في كل شيء وهو الخروج عن حد العتدال‬ ‫والقصد‪.‬‬ ‫‪ 4‬الستفهام للنكار أي ينكر عليهم أن يكون ال حرم ذلك‪.‬‬ ‫‪ 5‬إبطال لما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي‪.‬‬ ‫‪ 6‬إبطال لقولهم‪ :‬ما في بطون هذه النعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا‪.‬‬

‫( ‪)2/130‬‬ ‫النثيين} ‪ ،‬فهل حرم الذكرين أو النثين هذه الزواج الربعة فإن حرم الذكرين فسائر الذكور‬ ‫محرمة‪ ،‬وإن حرم النثيين فسائر الناث محرمة‪ ،‬أم ما اشتملت عليه أرحام النثيين وحينئذ يكون‬

‫كل مولود منهما محرما ذكرا كان أو أنثى‪ ،‬وبهذا تبين أنكم كاذبون على ال مفترون فال تعالى لم‬ ‫يحرم من هذه الزواج الثمانية شيئا‪ ،‬وإنما حرم الميتة‪ ،‬وما لم يذكر اسم ال عليه‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {أم كنتم شهداء إذ وصاكم ال} بهذا التحريم فهو تبكيت لهم وتقريع‪ ،‬إذ لم يحرم ال‬ ‫تعالى هذا الذي حرموه‪ ،‬ولم يوصهم بذلك ولم يكونوا حال الوصية حضورا‪ ،‬وإنما هو الفتراء‬ ‫والكذب على ال تعالى‪.‬‬ ‫وأخيرا سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون مضلون وخيرهم بغير علم‪ ،‬وأنهم ل يستحقون الهداية فقال‬ ‫عز وجل‪{ :‬فمن أظلم ممن افترى على ال كذبا ليضل ‪ 1‬الناس بغير علم إن ال ل يهدي القوم‬ ‫الظالمين}‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق والوسق‬ ‫ستون صاعا‪ ،‬والصاع أربع حفنات‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز الكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة ‪ 2‬منه‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة السراف في المال بأن ينفقه فيما ل يعنى‪ ،‬أو ينفقه كله ولم يترك لهله شيئا‪.‬‬ ‫‪ -5‬إباحة أكل بهيمة النعام وهي ثمانية أزواج‪ ،‬ضأن ‪ 3‬وماعز‪ ،‬وإبل وبقر وكلها ذكر وأنثى‪.‬‬ ‫‪ -6‬إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل‪ ،‬فالحلل ما أحله ال ورسول والحرام‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يدخل في هذه الخطاب دخولً أوليا عمرو بن لحىّ أذ هو أول من جلب الصنام للحجاز ويدخل‬ ‫فيه كذلك أول من سيب السوائب الخ‪..‬‬ ‫‪ 2‬الضأن من ذوات الصوف والمعز من ذوات الشعر‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في زكاة التين والراجح أنه إذا بلغ خمسة أوسق بعد يبسه يزكى لنه يدخر ويقتات‬ ‫واختلف في الخرص للثمر والعنب والجمهور على جوازه للحديث الوارد في ذلك وهو "وإنما كان‬ ‫أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قل أن تؤكل الثمار وتفرق"‪.‬‬ ‫رواه الدار قطني‪.‬‬

‫( ‪)2/131‬‬ ‫ما حرمه ال رسوله‪.‬‬ ‫‪ -7‬جواز الجدال والحجاج لحقاق الحق أو إبطال الباطل‪.‬‬ ‫‪ -8‬ل أظلم ممن يكذب على ال تعالى‪ ،‬فيشرع لعباده ما لم يشرع لهم‪.‬‬

‫سفُوحًا َأوْ َلحْمَ‬ ‫ط َعمُهُ ِإلّ أَن َيكُونَ مَيْتَةً َأوْ َدمًا مّ ْ‬ ‫حيَ إَِليّ مُحَ ّرمًا عَلَى طَاعِمٍ َي ْ‬ ‫قُل لّ َأجِدُ فِي مَا ُأوْ ِ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‬ ‫سقًا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ ِبهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ َولَ عَادٍ فَإِنّ رَ ّبكَ َ‬ ‫خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ َأوْ فِ ْ‬ ‫ظفُ ٍر َومِنَ الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ شُحُو َم ُهمَا ِإلّ مَا‬ ‫‪ )145‬وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ‬ ‫ظمٍ ذَِلكَ جَزَيْنَاهُم بِ َبغْ ِيهِ ْم وِإِنّا َلصَا ِدقُونَ(‪ )146‬فَإِن‬ ‫حوَايَا َأوْ مَا اخْتََلطَ ِبعَ ْ‬ ‫ظهُورُ ُهمَا َأوِ ا ْل َ‬ ‫حمََلتْ ُ‬ ‫َ‬ ‫س َع ٍة َولَ يُ َردّ بَأْسُهُ عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ(‪)147‬‬ ‫حمَ ٍة وَا ِ‬ ‫كَذّبُوكَ َفقُل رّ ّبكُمْ ذُو رَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫محرما على طاعم يطعمه‪ :‬محظورا ممنوعا على آكل يأكله‪.‬‬ ‫ميتة أو دما مسفوحا‪ :‬الميتة‪ :‬ما مات دون تزكية‪ ،‬والدم المسفوح؟ المصبوب صبا ل المختلط‬ ‫باللحم والعظام‪.‬‬ ‫رجس‪ :‬نجس وقذر قبيح محرم‪.‬‬ ‫أو فسقا أهل لغير ال به ‪ :‬الفسق الخروج عن طاعة ال والمراد ما ذبح ولم يذكر اسم ال عليه‬ ‫وإنما ذكر عليه اسم الصنام أو غيرها‪ ،‬والهلل‬

‫( ‪)2/132‬‬ ‫رفع الصوت باسم المذبوح له‪.‬‬ ‫غ ول عاد ‪ :‬اضطر‪ :‬ألجأته الضرورة وهي خوف الهلك‪ ،‬والباغ الظالم‪،‬‬ ‫فمن اضطر غير با ٍ‬ ‫والعادي‪ :‬المعتدي المجاوز للحد‪.‬‬ ‫هادوا ‪ :‬اليهود‪.‬‬ ‫ذي ظفر ‪ :‬صاحب ظفر وهو الحيوان الذي ل يفرق ‪ 1‬أصابعه كالبل والنعام‪.‬‬ ‫ما حملت ظهورها أو الحوايا ‪ :‬أي الشحم العالق بالظهر‪ ،‬والحوايا ‪ :2‬المباعر والمصارين‬ ‫والمعاء‪.‬‬ ‫أو ما اختلط بعظم ‪ :‬أي عفى لهم عن الشحم المختلط بالعظم كما عفي عن الحوايا والعالق‬ ‫بالظهر‪.‬‬ ‫ببغيهم ‪ :‬أي بسبب ظلمهم‪.‬‬ ‫ول يرد بأسه ‪ :‬بطشه وعذابه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحجاج مع أولئك المحرمين ما لم يحرم ال ففي أولى هذه اليات يأمر ال‬ ‫تعالى رسوله أن يقول للذين يحرمون افتراءً على ال ما لم يحرم {ل أجد فيما أوحي إلي}‪ -‬وأنا‬ ‫رسول ال‪{ -‬محرما} أي شيئا محرما {على طاعم يطعمه} أي آكل يأكله اللهم {إل أن يكون ميتة}‬ ‫وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه أي لم يذك الذكاة الشرعية‪{ ،‬أو دما مسفوحا} أي مصبوبا‬

‫صبا ل الدم المختلط بالعظم واللحم كالكبد والطحال‪{ ،‬أو لحم خنزير فإنه} أي لحم الخنزير‬ ‫{رجس} أي نجس قذر حرام‪( ،‬أو فسقا‪ 3‬أهل لغير ال به} أي ما ذبح ولم يذكر اسم ال عليه أو‬ ‫ذكر اسم الصنام عليه فهو فسق أي خروج عن طاعة الرب الذي أمر من أراد ذبح بهيمة أن‬ ‫يذكر عليها اسمه ليحل له أكلها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في ذي الظفر تفاسير أرجحها ما في التفسير وهو ما ليس بمنفرج الصابع وقيل البل خاصة‪،‬‬ ‫وقيل كل ذي حافر من الدواب‪.‬‬ ‫‪ 2‬واحد الحوايا حاوية‪ .‬وحويّة والمراد بها ما تَحوّى من المعاء واستدار منها‪.‬‬ ‫‪ 3‬تقدير الكلم أو أن يكون المراد أكل ما أهل لغير ال به فصار فسقا لذلك إذ الذبح لغير ال‬ ‫شرك وخروج من الدين‪ ،‬والفسق يطلق على التفصي من طاعة ال تعالى وطاعة رسوله‪.‬‬

‫( ‪)2/133‬‬ ‫هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬قل ل أجد فيما أوحي ‪ 1‬إلي مجرما على طاعم يطعمه إل أن يكون ميتة‬ ‫أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير ال به}‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ول عاد} أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن‬ ‫يأكلها تلذذا بها ل دفعا لغائلة الموت وهو كاره لكلها {ول عاد} أي غير متجاوز القدر الذي أبيح‬ ‫له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه {فإن ربك غفور رحيم} ومن مظاهر مغفرته ورحمته‬ ‫أنه أذن للمضطر بالكل مما هو حرام في الضرورة‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )145‬أما الية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على‬ ‫المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو‬ ‫ما ليس له أصابع مفرقة مثل البل والنعام والبط والوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما‬ ‫وهو الشحم اللصق بالكرش والكلى‪ ،‬وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على‬ ‫ظهرها‪ ،‬وما كان لصقا بالماعز وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم‬ ‫اللية‪ ،‬وشحم الجانب والذن والعين وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنه قوله تعالى من الية الثانية {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر‬ ‫والغنم حرمنا عليهم شحومهما إل ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} ثم أخبر‬ ‫تعالى بأن هذا التحريم عليهم كان عقوبة لهم بسبب ظلمهم وإجرامهم فقال {ذلك جزيناهم ببغيهم ‪}2‬‬ ‫أي ذلك التحريم منا عليهم كان جزاء ظلمهم‪ ،‬وقوله {وإنا لصادقون} فيما أخبرنا به عنهم‪ ،‬وهم‬ ‫الكاذبون إذ قالوا إنما حرم هذا على إسرائيل ونحن أتباع له أما نحن فلم يحرم علينا شيء وإنهم‬ ‫لكاذبون‪ .‬وقوله تعالى {فإن كذبوك } ‪ 3‬أي اليهود فيما أخبرت به عنهم {فقل} لهم {ربكم ذو رحمة‬

‫واسعة ‪ }4‬ولذا لم يعاجلكم بالعقوبة وقد كذبتموه وكذبتم رسوله وافتريتم على رسله‪ ،‬ولكن ليس‬ ‫معنى ذلك أنكم نجوتم من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هل هذه الية منسوخة بآية المائدة؟ اختلف في ذلك والراجح أنها غير منسوخة إذ هي خبر‬ ‫والخبار ل تنسخ وآية المائدة ذكرت المنخنقة وما بعدها وهي داخلة في حكم الميتة‪ ،‬وما ذبح‬ ‫على النصب داخل في وما أهل به لغير ال إذا فالية محكمة‪.‬‬ ‫‪ 2‬من بغيهم قتلهم النبياء وأكل الربا وتبرج النساء واستحلل المحرمات بالحيل والفتاوى الفاسدة‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل إن المراد بالمكذبين المشركون‪ ،‬وقيل اليهود وكلهما مكذب وكافر واللفظ يصدق عليهما‬ ‫معا‪.‬‬ ‫‪ 4‬من مظاهر رحمته أنه يحلم على العصاة وينظرهم ويمهلهم لعلهم يتوبون فعدم تعجيله العقوبة‬ ‫هو دليل رحمته الواسعة‪.‬‬

‫( ‪)2/134‬‬ ‫العذاب فإن بأس ال ل يرد عن القوم المجرمين ‪ 1‬من أمثالكم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الميتة وأنواعها في سورة المائدة وهي المنخنقة والموقوذة‪ ،‬والمتردية والنطيحة وما‬ ‫أكل السبع‪ ،‬وحرمة الدم المسفوح‪ ،‬ولحم الخنزير‪ ،‬وما أهل لغير ال به‪ ،‬وما ذبح على النصب‬ ‫وحرم بالسنة الحمر ‪ 2‬الهلية والبغال‪ ،‬وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور‪.‬‬ ‫‪ -2‬قد يُحْرم العبد بالذنوب من كثير من الطيبات كما حصل لليهود‪.‬‬ ‫‪ -3‬إمهال ال تعالى المجرمين ل يدل على عدم عقوبتهم فإن بأس ال ل يرد عن القوم المجرمين‬ ‫شيْءٍ كَذَِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِن‬ ‫سَ َيقُولُ الّذِينَ أَشْ َركُواْ َلوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْ َركْنَا َولَ آبَاؤُنَا وَلَ حَ ّرمْنَا مِن َ‬ ‫ن وَإِنْ أَنتُمْ َإلّ‬ ‫قَبِْلهِم حَتّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ُقلْ َهلْ عِن َدكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ‬ ‫شهَدَاءكُمُ الّذِينَ‬ ‫ج َمعِينَ(‪ُ )149‬قلْ هَُلمّ ُ‬ ‫حجّةُ الْبَاِلغَةُ فََلوْ شَاء َلهَدَاكُمْ َأ ْ‬ ‫تَخْ ُرصُونَ(‪ُ )148‬قلْ فَلِلّهِ الْ ُ‬ ‫شهَدْ َم َعهُمْ وَلَ تَتّبِعْ َأ ْهوَاء الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالّذِينَ‬ ‫شهِدُواْ فَلَ تَ ْ‬ ‫شهَدُونَ أَنّ اللّهَ حَرّمَ َهذَا فَإِن َ‬ ‫يَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية وعيد وتهديد وهو صالح لن ينزل في الدنيا وفي الخرة إذ العلة هي الجرام وهو‬ ‫قائم فهم متوكلون فيه ولذا لبد من العقوبة ما لم تحصل توبة صادقة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر القرطبي أن علة تحريم الحمار قد تكون حاجة الناس للحمل عليه والركوب وذكر علة‬ ‫أخرى وهي كونه نجسا وذكر عن الترمذي في نوادر الصول أن الحمار أظهر جوهره الخبيث‬

‫حيث نزا على ذكره وتلوّط فسمى لذلك رجسا وليس في الدواب من يعمل عمل قوم لوط إل‬ ‫الحمار والخنزير‪.‬‬

‫( ‪)2/135‬‬ ‫لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َر ِة وَهُم بِرَ ّب ِهمْ َيعْدِلُونَ(‪)150‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أشركوا‪ :‬أي جعلوا ل شركاء له يعبدونهم معه‪.‬‬ ‫ول حرمنا من شيء ‪ :‬أي مما حرموه من البحائر والسوائب والوصائل والحامات‪.‬‬ ‫ذاقوا بأسنا ‪ :‬أي عذابنا‪.‬‬ ‫تخرصون‪ :‬تكذبون‪.‬‬ ‫الحجة البالغة ‪ :‬الدليل القاطع للدعاوي الباطلة‪.‬‬ ‫هلم شهداءكم ‪ :‬أي أحضروهم‪.‬‬ ‫يعدلون‪ :‬أي به غيره من الصنام وسائر المعبودات الباطلة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في رد ترهات وأباطيل العادلين بربهم المشركين في ألوهيته سواه فذكر تعالى في‬ ‫اليتين (‪ )148‬و(‪ )149‬شبهة للمشركين يتخذونها مبررا لشركهم وباطلهم وهي قولهم‪{ :‬لو شاء‬ ‫ال ما أشركنا ول آباؤنا ‪ 1‬ول حرمنا من شيء ‪ }2‬يريدون أن عدم مؤاخذة ال تعالى لنا ونحن‬ ‫نشرك به ونحرم ما نحرمه دليل على رضا ال بذلك ‪ 3‬وإل لمنعنا منه وحال دون فعلنا له‪ ،‬فرد‬ ‫ال تعالى هذه الشبهة وأبطلها بقوله‪{ :‬كذلك كذب الذين من قبلهم ‪ 4‬حتى ذاقوا بأسنا} أي مثل هذا‬ ‫التكذيب الصادر من هؤلء العادلين بربهم من كفار قريش ومشركيها كذب الذين من قبلهم من‬ ‫المم‪ ،‬وما زالوا على تكذيبهم حتى أخذهم ال أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬فلو كان تعالى راضيا بشركهم‬ ‫وشرهم وباطلهم لما أخذهم فإمهال ال تعالى للناس لعلهم يتوبون ليس دليلً على رضاه بالشرك‬ ‫والشر‪ ،‬والحجة أنه متى انتهت فترة المهال نزل بالمكذبين العذاب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إلى اليوم والغافلون من المسلمين يحتجون بما احتج به المشركون الولون ويقولون لو شاء ال‬ ‫أن نصلي لصلينا ولو شاء ال أن نترك المحرم لتركناه وهو احتجاج باطل ل وزن له‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام‪.‬‬ ‫‪ 3‬قولهم هذا دال على جهل مركب منهم بال تعالى وحكمته وتدبيره وهذا ناتج عن كفرهم وعدم‬ ‫إيمانهم بال وكتابه ورسوله‪ ،‬فال أوجد العبادة في هذه الحياة ليبتليهم يجزيهم ل أن يجبرهم على‬ ‫ما يحب نهم‪.‬‬

‫‪ 4‬في قوله كذلك كذب الذين من قبلهم دللة على أن المشركين لم يريدوا من قولهم لو شاء ال ما‬ ‫أشركنا إل رد قول الرسول وتكذيبه فيما جاء به ويدعوهم إليه حتى لكأن كلمهم هذا من باب‬ ‫كلمة حق أريد بها باطل‪.‬‬

‫( ‪)2/136‬‬ ‫وقوله تعالى {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} يأمر ال تعالى رسوله أن يقول للمذنبين‬ ‫العادلين بربهم {هل عندكم من علم فتخرجوه } أي ليس لديكم علم على ما تدعونه فتخرجوه لنا‪،‬‬ ‫{إن تتبعون ‪ 1‬إل الظن} أي ما تتبعون في دعاويكم الباطلة إل الظن‪{ ،‬وإن أنتم إل تخرصون} أي‬ ‫وما أنتم إل تخرصون أي تقولون بالحزر والخرص فتكذبون‪ ،‬وقوله تعالى {قل فلله ‪ 2‬الحجة‬ ‫البالغة} أي يعلم رسوله أن يقول لهم بعد أن دحض شبهتهم وأبطلها إن لم تكن لكم حجة فلله‬ ‫الحجة البالغة‪ ،‬ومع هذا {فلو شاء} هدايتكم {لهداكم أجمعين} وهو على ذلك قدير‪ ،‬وإنما حكمه في‬ ‫عباده وسنته فيهم أن يكلفهم اختبارا لهم ويوضح الطريق لهم ويقيم الحجة عليهم‪ ،‬فمن اهتدى‬ ‫فلنفسه‪ ،‬ومن ضل فعليها‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية وأما الية الثالثة (‪ )150‬وهي قوله تعالى‪{ :‬قل هلم‬ ‫شهداءكم ‪ 3‬الذين يشهدون أن ال حرم هذا} أي الذين حرمتموه فإنهم ل يستطيعون أن يأتوا بهم‬ ‫"{فإن شهدوا فل نشهد معهم}" وإن فرضنا أنهم يأتون بشهداء باطل يشهدون ‪ 4‬فل تقرهم أنت أبها‬ ‫الرسول على باطلهم بل بين لهم بطلن ما ادعوه‪ ،‬فإنهم ل يتبعون في دعاويهم إل الهواء‪ ،‬وعليه‬ ‫{ل تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا‪ ،‬والذين ل يؤمنون بالخرة وهم بربهم يعدلون} ‪ ،‬وقد جمع‬ ‫هؤلء المشركون كل هذه العظائم من الذنوب التكذيب بآيات ال‪ ،‬وعدم اليمان بالخرة‪ ،‬والشرك‬ ‫بربهم فكيف يجوز اتباعهم وهم مجرمون ضالون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بطلن الحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والستمرار فيها‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل حجة إل في قام على أساس العلم الصحيح‪.‬‬ ‫‪ -3‬الحكمة في عدم هداية الخلق كلهم مع قدرة ال تعالى على ذلك هو التكليف‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إن في الموضعين نافيه بمعنى (ما) كما هي في التفسير‪.‬‬ ‫‪ 2‬فال الفاء هنا هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن كلم سابق ترتب عليه ما بعدها ترتب‬ ‫الجزاء على الشرط تقديره هنا فإن كان قولكم لمجرد إتباع الظن والخرص والحزر ول علم لكم‬ ‫فلله تعالى الحجة البالغة التي تصل إلى الحقيقة وتؤكدها وتبطل ما عداها‪.‬‬

‫‪ 3‬المر هنا للتعجيز والشهداء جمع شهيد بمعنى شاهد‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي كذبهم واعلم بأنهم شهداء زور فقوله تعالى فل تشهد معهم معناه كذبهم ول تقرهم فإنهم‬ ‫شهداء زور ل غير‪.‬‬

‫( ‪)2/137‬‬ ‫والبتلء ‪.‬‬ ‫‪ – 4‬مشروعية الشهادة وحضور الشهود‪.‬‬ ‫‪ -5‬عدم إقرار شهادة الباطل وحرمة السكوت عنها‪.‬‬ ‫‪ – 6‬حرمة اتباع أصحاب الهواء الذين كذبوا بآيات ال‪.‬‬ ‫ُقلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ َألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا َولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُم مّنْ‬ ‫ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا بَطَنَ وَلَ َتقْتُلُواْ ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ‬ ‫إمْلَقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُه ْم َولَ َتقْرَبُواْ ا ْلفَوَاحِشَ مَا َ‬ ‫حسَنُ حَتّى‬ ‫اللّهُ ِإلّ بِا ْلحَقّ ذَِلكُ ْم َوصّاكُمْ ِبهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ(‪َ )151‬ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬ ‫س َعهَا وَإِذَا قُلْ ُتمْ فَاعْدِلُو ْا وََلوْ كَانَ ذَا‬ ‫ل وُ ْ‬ ‫ط لَ ُنكَّلفُ َنفْسًا ِإ ّ‬ ‫سِ‬ ‫يَبْلُغَ َأشُ ّد ُه وََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِ ْ‬ ‫قُرْبَى وَ ِب َعهْدِ اللّهِ َأ ْوفُواْ ذَِلكُمْ وَصّاكُم ِبهِ َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ(‪ )152‬وَأَنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيمًا فَاتّ ِبعُوهُ‬ ‫وَلَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِب ُكمْ عَن سَبِيِلهِ ذَِل ُك ْم َوصّاكُم بِهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ(‪)153‬‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫اتل ‪ :‬اقرأ‪.‬‬

‫( ‪)2/138‬‬ ‫من إملق ‪ :‬من فقر‪.‬‬ ‫الفواحش‪ :‬جمع فاحشة كل ما قبح واشتد قبحه كالزنى والبخل‪.‬‬ ‫حرم ال ‪ :‬أي حرم قتلها وهي كل نفس إل نفس الكافر المحارب‪.‬‬ ‫إل بالحق ‪ :‬وهو النفس بالنفس وزنى المحصن‪ ،‬والردة‪.‬‬ ‫بالتي هي أحسن‪ :‬أي بالخصلة التي هي أحسن‪.‬‬ ‫أشده‪ :‬الحتلم مع سلمة العقل‪.‬‬ ‫بالقسط‪ :‬أي بالعدل‪.‬‬ ‫إل وسعها‪ :‬طاقتها وما تتسع له‪.‬‬ ‫تذكرون‪ :‬تذكرون فتتعظون‪.‬‬ ‫السبل‪ :‬جمع سبيل وهي الطريق‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في إبطال باطل العادلين بربهم المتخذين له شركاء الذين يحرمون بأهوائهم ما لم‬ ‫يحرمه ال تعالى عليهم فقد أمر تعالى رسوله في هذه اليات الثلث أن يقول لهم‪1{ :‬تعالوا أتل ما‬ ‫حرم ربكم عليكم} ل ما حرمتموه أنتم بأهوائكم وزينه لكم شركاؤكم‪ .‬ففي الية الولى جاء تحريم‬ ‫خمسة أمور وهي‪ :‬الشرك‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقتل الولد‪ ،‬وارتكاب الفواحش‪ ،‬وقتل النفس فقال‬ ‫تعالى‪{ :‬قل تعالوا أتل ما حرم ‪ 2‬ربكم عليكم أن ل تشركوا به شيئا} فأن تفسيرية ‪ ،3‬ول ناهية‬ ‫وهذا أول محرم وهو الشرك بال تعالى‪{ ،‬وبالوالدين إحسانا}‪ ،‬وهذا أمر إذ التقدير وأحسنوا‬ ‫بالوالدين إحسانا‪ ،‬والمر بالشيء نهي عن ضده فالمر بالحسان يقتضي تحريم الساءة والساءة‬ ‫ل ضمن المحرمات المذكورة في هذه‬ ‫إلى الوالدين هي عقوقهما‪ ،‬فكان عقوق الوالدين محرما داخ ً‬ ‫اليات الثلث‪{ .‬ول تقتلوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي أقبلوا وتقدموا وما موصولة بمعنى الذي حرم ربكم عليكم وفي الية دليل على وجوب بيان‬ ‫المحرمات للمة حتى تتجنبها‪ ،‬والعلماء منوط بهم ذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه اليات الثلثة‪ :‬قل تعالوا أتل إلى قوله تتقون تضمنت عشرا من الوصايا قال ابن عباس‬ ‫هي محكمات وأجمعت الشرائع اللهية على تقريرها والعمل بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي فسرت المحرم وهو الشرك بال تعالى‪ ،‬وهو أول المحرمات وقدم لنه أخطرها وأضرها‬ ‫بالنسان‪.‬‬

‫( ‪)2/139‬‬ ‫أولدكم ‪ 1‬من إملق نحن نرزقكم وإياهم} فهذا المحرم الثالث وهو قتل الولد من الملق الذي‬ ‫هو الفقر وهذا السبب غير معتبر إذ ل يجوز قتل الولد بحال من الحوال وإنما ذكر لن‬ ‫المشركين كانوا يقتلون أطفالهم لجله وقوله تعالى {نحن نرزقكم وإياهم} تعليل للنهي عن قتل‬ ‫الولد من الفقر إذ مادام ال تعالى يرزقكم أنتم أيها الباء ويرزق ابناءكم فلم تقتلونهم؟ وفي‬ ‫الجملة بشارة للب الفقر بأن ال تعالى سيرزقه هو وأطفاله فليصبر وليرج‪ ،‬ول يقتل أطفاله‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ول تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }‪ .‬هذا المر الرابع مما حرم ال‬ ‫تعالى‪ ،‬وهو فعل الفاحشة التي هي الزنى وسواء ما كان منه ظاهرا أو باطنا والتحريم شامل لكل‬ ‫خصلة قبيحة قد اشتد قبحها وفحش فأصبح فاحشة قولً كانت أو فعلً أو اعتقادا‪ ،‬وقوله‪{ :‬ول‬ ‫تقتلوا النفس التي حرم ال إل بالحق ‪ }2‬هذا هو المحرم الخامس وهو قتل النفس التي حرم ال‬ ‫قتلها وهي كل نفس ما عدا نفس المحارب فإنها مباحة للقتل‪ ،‬والحق الذي تقتل به النفس المحرمة‬ ‫واحد من ثلثة وهي القود والقصاص فمن قتل نفسا متعمدا جاز قتله بها قصاصا‪ .‬والزنى بعد‬

‫الحصان فمن زنى وهو محصن وجب قتله رجما بالحجارة كفارة له‪ ،‬والردة عن السلم‪ ،‬وقد‬ ‫بينت هذه الحقوق السنة فقد قال صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬ل يحل دم امرىء مسلم إل‬ ‫بإحدى ثلث النفس بالنفس والثيب الزاني‪ ،‬والتارك لدينه المفارق للجماعة" وقوله تعالى في ختام‬ ‫الية {لعلكم تعقلون} أي ليعدكم بترك هذه المحرمات الخمس لن تكونوا في عداد العقلء‪ ،‬لن من‬ ‫يشرك بربه صنما أو يسيء إلى أبويه أو يقتل أولده أو يفجر بنساء الناس أو يقتلهم‪ ،‬ل يعتبر‬ ‫عاقلً أبدا إذ لو كان له عقل ما أقدم على هذه العظائم من الذنوب والثام‪.‬‬ ‫وفي الية الثانية وهي قوله تعالى {ول تقربوا مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ‪،3‬‬ ‫وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ل نكلف نفسا إل وسعها‪ ،‬وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬استدل بهذه الية من قال بتحريم العزل ومثله اليوم استعمال الحبوب لمنع الحمل والجمهور‬ ‫على الجواز للضرورة فقط لقول الرسول صلى ال عليه وسلم في العزل‪" :‬ذلك الوأد الخفي" فإنه‬ ‫ان لم يدل على التحريم دل على الكراهية‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله تعالى إل بالحق يخرج به نفس الكافر المحارب فقط فهي التي تقتل بحق الحرب والكفر‪،‬‬ ‫وما عداها فكل نفس محرمة القتل ولذا حرم رسول ال صلى ال عليه وسلم نفس الكافر المعاهد‬ ‫والذمّي بقول من قتل معاهدا في غير كنهه أي في غير الحقيقة التي توجب قتله كنقضه المعاهدة‬ ‫مثلً‪ .‬حرم ال عليه الجنة‪ ،‬والحق الذي تقتل به النفس المحرمة القتل هو قتل النفس‪ .‬وزنى‬ ‫المحصن والردة والخروج عن إمام المسلمين والمفارقة للجماعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل الشد مفرد ل جمع له بمنزلة النك أي الرصاص‪ .‬وقيل واحده شدّ نحو فلس وافلس‪ ،‬وهو‬ ‫مأخوذ من شد النهار إذا ارتفع‪.‬‬

‫( ‪)2/140‬‬ ‫ذا قربى‪ ،‬وبعهد ال أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} ففي هذه الية جاء تحريم أربعة أمور‬ ‫هي‪ :‬كل مال اليتيم‪ ،‬والتطفيف في الوزن‪ ،‬والجور في القوال والحكام‪ ،‬ونكث العهد‪ .‬فقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬ول تقربوا مال اليتيم} أي بما ينقصه أو يفسده إل بالحالة التي هي أحسن له نماءً وحفظا‬ ‫وقوله {حتى يبلغ أشده} بيان لزمن اليتم وهو من ولدته وفوت والده إلى أن يبلغ زمن الشد وهو‬ ‫البلوغ‪ ،‬والبلوغ يعرف بالحتلم أو نبات شعر العانة‪ ،‬وفي الجارية بالحيض أو الحمل‪ ،‬وببلوغ‬ ‫الثامنة عشرة من العمر وعلى شرط أن يبلغ اليتيم ‪ 1‬عاقلً فإن كان غير عاقل يبقى في كفالة‬ ‫كافله‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وأوفوا الكيل ‪ 2‬والميزان بالقسط ل نكلف نفسا إل وسعها} أمر بتوفية الكيل‬ ‫والوزن‪ ،‬والمر بالشيء نهي عن ضده‪ ،‬وبذا حرم بخس الكيل والوزن والتطفيف فيهما وقوله‬ ‫{بالقسط} أي بالعدل بحيث ل يزيد ول ينقص‪ ،‬وقوله {ل نكلف نفسا إل وسعها} أي طاقتها رفعا‬

‫للحرج عن المسلم في الكيل والوزن إذا هو نقص أو زاد بغير عمد ول تساهل‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {وإذا قلتم فاعدلوا ‪ 3‬ولو كان ذا قربى} هذا المحرم الثالث وهو قول الزور وشهادة‬ ‫الزور‪ ،‬إذ المر بالعدل في القول ولو كان المقول له أو فيه قريبا نهى عن ضده وهو الجور في‬ ‫القول‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {وبعهد ‪ 4‬ال أوفوا} متضمن للمحرم الرابع وهو نكث العهد وخلف الوعد‪ ،‬إذ المر‬ ‫بالوفاء بالعهود نهي عن نكثها وعدم الوفاء بها‪ ،‬وقوله تعالى {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}‬ ‫إشارة إلى ما تضمنته هذه الية الثانية مما حرم تعالى على عباده‪ ،‬وقوله {لعلكم تذكرون} أي‬ ‫ليعدكم بذلك لن تذكروا فتتعظوا فتجتنبوا ما حرم عليكم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وأن هذا صراطي‬ ‫مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} هذه هي الية‬ ‫الثالثة من آيات الوصايا العشر ‪ 5‬وقد تضمنت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لن الرشد ل يكون إل مع العقل وال يقول فإن آنستم منهم رشدا والرشد مقابل السفه وهو‬ ‫إساءة التصرف فيما اسند إليه من مال وغيره‪.‬‬ ‫‪ 2‬رد في التطفيف وعيد شديد قال تعالى ويل للمطففين‪ ،‬وقال الرسول صلى ال عليه وسلم "ول‬ ‫نقص قوم المكيال والميزان إل قطع عنهم الرزق‪.‬‬ ‫‪ 3‬المر بالعدل في القول يتناول الحكام والشهادات‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا الوفاء عام في كل ما عهد ال تعالى به إلى عباده من سائر الفرائض والواجبات وسائر‬ ‫التكاليف كما يتضمن العهود التي تكون بين النسان وأخيه النسان‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذه الوصايا العشر موجودة في أول التوراة ومع السف أضاعها اليهود لشقائهم‪.‬‬

‫( ‪)2/141‬‬ ‫المر بالتزام السلم عقائدا وعبادات وأحكاما وأخلقا وآدابا‪ ،‬كما تضمنت النهي عن إتباع غيره‬ ‫من سائر الملل والنحل المعبر عنها بالسبل‪ ،‬ومادام المر بالتزام السلم يتضمن النهي عن ترك‬ ‫السلم فقد تضمنت الية تحريما أل وهو ترك السلم وإتباع غيره هذا الذي حرم ال تعالى على‬ ‫عباده ل ما حرمه المشركون بأهوائهم وتزيين شركائهم وقوله تعالى ‪{ :‬ذلكم وصاكم به لعلكم‬ ‫تتقون} إشارة إلى التزام السلم وترك ما عداه ليعدكم بذلك للتقوى وهي اتقاء غضب الرب تعالى‬ ‫وعذابه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬هذه الوصايا العشر عليها مدار السلم وسعادة النسان في الدارين كان عبدال بن مسعود‬

‫يقول فيها "من سره أن ينظر إلى وصية رسول ال التي عليها خاتمه فليقرأ اليات الثلث من‬ ‫آخر سورة النعام‪{ :‬قل تعالوا‪ ....‬تتقون}‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة الشرك وحقوق الوالدين وقتل الولد والزنى واللواط وكل قبيح من قول أو عمل أو‬ ‫اعتقاد وقتل النفس إل بالحق‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وبخس الكيل والوزن‪ ،‬وقول الزور وشهادة‬ ‫الزور‪ ،‬ونكث العهد وخلف الوعد‪ .‬والردة عن السلم‪ ،‬وإتباع المذاهب الباطلة والطرق الضالة‪.‬‬ ‫‪ -3‬كمال المعقل باجتناب المحرمات الخمس الولى‪.‬‬ ‫‪ -4‬الحصول على ملكة المراقبة باجتناب المحرمات الربع الثانية‪.‬‬ ‫‪ -5‬النجاة من النار والخزي والعار في الدارين بالتزام السلم حتى الموت والبراءة من غيره من‬ ‫سائر المذاهب ‪ 1‬والملل والطرق‪.‬‬ ‫حمَةً ّلعَّلهُم بِِلقَاء‬ ‫شيْ ٍء وَهُدًى وَرَ ْ‬ ‫ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َتمَامًا عَلَى الّ ِذيَ أَحْسَنَ وَتَ ْفصِيلً ّل ُكلّ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى الدارمي عن ابن مسعود رضي ال عنه قال خط لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما‬ ‫خطا ثم قال هذا سبيل ال ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال هذه سبلٌ على كل‬ ‫سبيل منها شيطان يدعو إليها‪ .‬ثم قرأ هذه الية قل هذه سبيلي‪ .‬وهذه صورة تقريبية‪.‬‬

‫( ‪)2/142‬‬ ‫حمُونَ(‪ )155‬أَن َتقُولُواْ إِ ّنمَا‬ ‫رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )154‬وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ فَاتّ ِبعُوهُ وَاتّقُواْ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬ ‫علَى طَآ ِئفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنّا عَن دِرَاسَ ِتهِمْ َلغَافِلِينَ(‪َ )156‬أوْ َتقُولُواْ َلوْ أَنّا أُن ِزلَ‬ ‫أُن ِزلَ ا ْلكِتَابُ َ‬ ‫حمَةٌ َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّن كَ ّذبَ بِآيَاتِ‬ ‫عَلَيْنَا ا ْلكِتَابُ َلكُنّا أَ ْهدَى مِ ْنهُمْ َفقَدْ جَاءكُم بَيّنَةٌ مّن رّ ّبكُ ْم وَهُدًى وَ َر ْ‬ ‫اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا سَ َنجْزِي الّذِينَ َيصْ ِدفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ ِدفُونَ(‪)157‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الكتاب ‪ :‬التوراة‪.‬‬ ‫وتفصيلً لكل شيء ‪ :‬تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها وعباداتها وفضائلها وأحكامها‪.‬‬ ‫وهذا كتاب أنزلناه‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫مبارك‪ :‬خيريته ونفعه وبركته دائمة‪.‬‬ ‫على طائفتين من قبلنا‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫عن دراستهم ‪ :‬أي قراءتهم لكتبهم لنها بلسانهم ونحن ل نفهم ذلك‪.‬‬ ‫وصدف عنها ‪ :‬أعرض عنها ولم يلتفت إليها‪.‬‬ ‫سوء العذاب‪ :‬أي سيء العذاب وهو أشده‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫هذا الكلم متصل بما قبله‪ ،‬فثم ‪ 1‬حرف عطف والمعطوف عليه هو قل تعالوا أتل اليات أي ثم‬ ‫قل يا رسولنا آتى ربي موسي الكتاب تماما لنعمه {على الذي أحسن} طاعة ربه وهو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال الزجاج‪ :‬ثم ها هنا للعطف على معنى التلوة‪ ،‬فالمعنى اتل ما حرم ربكم عليكم‪ .‬ثم أتل‬ ‫عليكم ما آتى ال موسى الخ‪ .‬فهي إذا لعطف الجُمل وما كان لعطف الجمل فل يراعى فيه تراخي‬ ‫الزمان‪.‬‬

‫( ‪)2/143‬‬ ‫موسى عليه السلم‪{ ،‬وتفصيلً لكل شيء} مما تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها‪ ،‬وعباداتها‬ ‫وأحكامها العامة والخاصة {وهدي} يتبينون به الحق والصواب‪{ ،‬ورحمة} لهم في دنياهم لما يحمله‬ ‫من الدعوة إلى العدل والخير رجاء أن يوقنوا بلقاء ربهم‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى وهي قوله تعالى‪{ :‬ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن‬ ‫وتفصيلً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم ‪ }1‬أي بني إسرائيل {يؤمنون} فيعملون‬ ‫الصالحات ويتخلون عن المفاسد والشرور لما تجلبه لهم من غضب ال تعالى وعذابه‪.‬‬ ‫أما الية الثانية (‪ )155‬فقد أشاد ال تعالى بالقرآن الكريم ممتنا بإنزاله وما أودع فيه من البركة‬ ‫التي ينالها كل من يؤمن به ويعمل به ويتلوه تعبدا وتقربا وتعلما‪.‬‬ ‫هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وقوله {فاتبعوه ‪ }....2‬أمر للعباد بإتباع ما جاء‬ ‫في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام فإن من اتبعه قاده إلى السعادة والكمال في‬ ‫الحياتين‪ ،‬وقوله {واتقوا ‪ 3‬لعلكم ترحمون} أي اتقوا ترك العمل به ليعدكم ذلك الذي هو متابعة‬ ‫القرآن والتقوى للرحمة فترحمون في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫وأما الية الثالثة وهي قوله تعالى‪{ :‬أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن‬ ‫دراستهم لغافلين} فمعناها‪ :‬إن ال تعالى أنزل الكتاب على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫وأمره بتلوته وإبلغه الناس لئل يقول الكافرون من العرب إنما أنزل الكتاب على طائفتين من‬ ‫قبلنا اليهود والنصارى والمراد بالكتاب التوراة والنجيل‪{ ،‬وإن كنا عن دراستهم لغافلين} إذ لم‬ ‫نعرف لغتهم‪ ،‬ولم نعرف ما يقرأونه في كتابهم‪ ،‬فتقوم الحجة لكم علينا فقطعا لهذه الحجة أنزلنا‬ ‫الكتاب‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الرابعة‪{ :‬أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة‬ ‫من ربكم وهدى ورحمة} كما قطع تعالى عذرهم بإنزال كتابه الكريم لو قالوا يوم القيامة إنما أنزل‬ ‫الكتاب على اليهود والنصارى ونحن لم ينزل إلينا شيء فلذا ما عرفنا ربنا ول عرفنا محابه‬ ‫ومكارهه فنطيعه بفعل محابه وترك مكارهه‪ ،‬قطع كذلك عذرهم لو قالوا‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬أي رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي اعملوا بما فيه متتبعين ما فيه من أوامر ونوه تفعلون المر وتتركون النهي‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي اتقوا تحريفه وتبديله كما فعلت اليهود‪.‬‬

‫( ‪)2/144‬‬ ‫لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى الحق المعرف بالهدى لكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين‬ ‫أوتوا الكتاب قبلنا‪ ،‬فقال تعالى {فقد جاءكم بينة من ربكم} وهو القرآن الكريم ورسوله المبلغ له‬ ‫{وهدى ورحمة} أي وجاءكم الهدى والرحمة يحملهما القرآن الكريم‪ ،‬فأي حجة بقيت لكم تحتجون‬ ‫بها عند ال يوم القيامة إنكم إن لم تقبلوا هذه البينة وما تحمله من هدى ورحمة فقد كذبتم بآيات ال‬ ‫وصدفتم عنها ول أحد أظلم ممن كذب بآيات ال وصدف عنها‪ ،‬وسيجزيكم بما يجزي به المكذبين‬ ‫بآيات ال الصادفين عنها‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الرابعة (‪{ )157‬أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} أي‬ ‫كراهية أن تقولوا‪( .‬فقد جاءكم ‪ 1‬بينة من ربكم وهدى ‪ 2‬ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات ال‬ ‫وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان منة ال تعالى على موسى عليه السلم والثناء عليه لحسانه‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة‪.‬‬ ‫ الشادة بالقرآن الكريم‪ ،‬وما أودع ال فيه من البركة والهدى والرحمة والخير‪.‬‬‫‪ -4‬قطع حجة المشركين بإنزال ال تعالى كتابه وإرسال رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬التنديد ‪ 3‬بالظلم‪ ،‬وبيان جزاء الظالمين المكذبين بآيات ال المعرضين عنها‪.‬‬ ‫َهلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن تَأْتِيهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ‬ ‫ك لَ يَنفَعُ َنفْسًا إِيمَا ُنهَا َلمْ َتكُنْ آمَ َنتْ مِن قَ ْبلُ َأوْ كَسَ َبتْ فِي إِيمَا ِنهَا خَيْرًا ُقلِ انتَظِرُواْ‬ ‫رَ ّب َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي بطل عذركم بمجيء النبي المي صلى ال عليه وسلم لكم وهو البيّنة وسمي بينة لكماله‬ ‫الخلقي والخلقي ولما معه من العلوم والمعارف اللهية وهو أميّ ل يقرأ ول يكتب‪.‬‬ ‫‪ 2‬الهدى والرحمة المراد بهما ما في القرآن الكريم من هدى ورحمة للمؤمنين بقرينة‪ .‬فمن أظلم‬ ‫ممن كذب بآيات ال‪.‬‬

‫‪ 3‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"‪ .‬وفي آخر الظلم يذر الديار‬ ‫بل قع أي فقرا خالية‪.‬‬

‫( ‪)2/145‬‬ ‫شيْءٍ إِ ّنمَا َأمْرُ ُهمْ إِلَى الّلهِ ثُمّ‬ ‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬ ‫إِنّا مُنتَظِرُونَ(‪ )158‬إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َن ُه ْم َوكَانُواْ شِ َيعًا لّ ْ‬ ‫يُنَبّ ُئهُم ِبمَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ(‪)159‬مَن جَاء بِا ْلحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَن جَاء بِالسّيّئَةِ فَلَ ُيجْزَى ِإلّ‬ ‫مِثَْلهَا وَهُ ْم لَ يُظَْلمُونَ(‪)160‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بعض آيات ربك ‪ :‬أي علمات الساعة منها طلوع الشمس من مغربها‪.‬‬ ‫كسبت في إيمانها خيرا‪ :‬من الطاعات والقربات‪.‬‬ ‫فرقوا دينهم ‪ :.‬جعلوه طرائق ومذاهب تتعادى‪.‬‬ ‫وكانوا شيعا ‪ :‬طوائف وأحزابا‪.‬‬ ‫من جاء بالحسنة ‪ :‬أي أتى يوم القيامة بالحسنة التي هي اليمان بال والقرار بوحدانيته والعمل‬ ‫بطاعته وطاعة رسوله‪.‬‬ ‫ومن جاء بالسيئة‪ :‬أي بالشرك بال ومعاصيه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد ذكر الحجج وإنزال اليات التي هي أكبر بينة على صحة التوحيد وبطلن الشرك‪ ،‬والعادلون‬ ‫بربهم الصنام مازالوا في موقفهم المعادي للحق ودعوته ورسوله فأنزل ال تعالى قوله‪{ :‬هل‬ ‫ينظرون‪ } ....‬أ ي ما ينتظرون {إل أن تأتيهم الملئكة} لقبض أرواحهم‪{ ،‬أو يأتي ربك} يوم‬ ‫القيامة لفضل القضاء‪{ ،‬أو يأتي بعض آيات ربك} الدالة على قرب الساعة كطلوع الشمس من‬ ‫مغربها‪ ،‬إن موقف الصرار على التكذيب هو موقف المنتظر لما ذكر تعالى من الملئكة ومجيء‬ ‫الرب تعالى أو مجيء علمات الساعة للفناء‪ .‬وقوله تعالى {يوم يأتي بعض آيات ‪ 1‬ربك} الدالة‬ ‫على قرب الساعة وهي طلوع الشمس من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اليات بمعنى العلمات الدالة على قرب الساعة الكبرى منها عشر جاءت في حديث مسلم إذ‬ ‫روى عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم من غرفة‬ ‫ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات‪ .‬طلوع‬ ‫الشمس من مغربها‪ ،‬والدخان‪ ،‬والدابة‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم‪،‬‬ ‫وخروج الدجال وثلثة خسوف‪ :‬خسف بالمشرق وخسف بالمغرب‪ .‬وخسف بجزيرة العرب‪ ،‬ونار‬ ‫تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا‪.‬‬

‫( ‪)2/146‬‬ ‫مغربها إيذانا بقرب ساعة الفناء في هذه الحال يخبر تعالى أن نفسا لم تكن آمنت قبل ظهوره هذه‬ ‫الية لو آمنت بعد ظهورها ل يقبل منها إيمانها ول تنتفع به لنه أصبح إيمانا اضطراريا ل‬ ‫اختياريا‪ ،‬كما أن نفسا آمنت به قبل الية‪ ،‬ولكن لم نكسب في إيمانها خيرا وأرادت أن تكسب‬ ‫الخير فإن ذلك ل ينفعها فل تثاب عليه‪ ،‬لن باب التوبة مفتوح إلى هذا اليوم وهو يوم ‪ 1‬طلوع‬ ‫الشمس من مغربها فإنه يغلق‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {قل انتظروا إنا منتظرون} يأمر ال رسوله أن يقول لولئك العادلين بربهم المصرين‬ ‫على الشرك والتكذيب‪ :‬مادمتم منتظرين انتظروا إنا منتظرون ساعة هلككم فإنها آتية ل محالة‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى (‪ )158‬أما اليتان بعدها فإن ال تعالى أخبر رسوله بأن الذين فرقوا‬ ‫دينهم ‪ 2‬وكانوا شيعا أي طوائف وأحزابا وفرقا مختلفة كاليهود والنصارى‪ ،‬ومن يبتدع من هذه‬ ‫المة بدعا فيتابع عليها فيصبحون فرقا وجماعات ومذاهب مختلفة متطاحنة متحاربة هؤلء {لست‬ ‫منهم في شيء} أي أنت بريء منهم‪ ،‬وهم منك بريئون‪ ،‬وإنما أمرهم إلى ال تعالى هو الذي يتولى‬ ‫جزاءهم فإنه سيجمعهم يوم القيامة ثم ينبنهم بما كانوا يعملون من الشر والخير {من جاء بالحسنة‬ ‫فله عشر أمثالها‪ ،‬ومن جاء بالسيئة فل يجزى إل مثلها‪ ،‬وهم ل يظلمون} من قبلنا فل ننقص‬ ‫المحسن منهم حسنة من حسناته‪ ،‬ول نضيف إلى سيئآته سيئة ما عملها‪ ،‬هذا حكم ال فيهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إثبات صفة التيان في عرصات القيامة للرب تبارك وتعالى لفصل القضاء‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير أشراط الساعة وإن طلوع الشمس منها وأنها متى ظهرت أغلق باب التوبة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الفرقة في الدين وأن اليهود والنصارى فرقوا دينهم وأن أمة السلم أصابتها الفرقة‬ ‫كذلك بل وهي أكثر لحديث وستفترق هذه المة على ثلث وسبعين فرقة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل تقوم‬ ‫الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها فذلك {حين ل ينفع نفسا‬ ‫إيمانها لم تكن آمنت من قبل}‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرىء فارقوا دينهم أي تركوه وتخلوا عنه وقراءة الجمهور فرقوا بالتضعيف حيث أصبح لكل‬ ‫فرقة اعتقاد وعمل خاص لها ومن فرّق فقد فارق أحب أم كره‪.‬‬

‫( ‪)2/147‬‬

‫‪ -4‬براءة الرسول صلى ال عليه وسلم ممن فرقوا دينهم وترك المر ل يحكم بينهم بحكمه‬ ‫العادل‪.‬‬ ‫‪ -5‬مضاعفة الحسنات ‪ ،‬وعدم مضاعفة السيئات عدل من ال ورحمة‪.‬‬ ‫ُقلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ دِينًا قِ َيمًا مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪)161‬‬ ‫ي َو َممَاتِي لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )162‬لَ شَرِيكَ لَ ُه وَ ِبذَِلكَ ُأمِ ْرتُ وَأَنَاْ‬ ‫سكِي َومَحْيَا َ‬ ‫ن صَلَتِي وَنُ ُ‬ ‫ُقلْ إِ ّ‬ ‫سبُ ُكلّ َنفْسٍ ِإلّ عَلَ ْيهَا َولَ‬ ‫شيْ ٍء َولَ َت ْك ِ‬ ‫َأ ّولُ ا ْل ُمسِْلمِينَ(‪ُ )163‬قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِي رَبّا وَ ُهوَ َربّ ُكلّ َ‬ ‫ج ُعكُمْ فَيُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ(‪ )164‬وَ ُهوَ الّذِي‬ ‫تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَى ُثمّ إِلَى رَ ّبكُم مّرْ ِ‬ ‫ضكُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آتَا ُكمْ إِنّ رَ ّبكَ سَرِيعُ‬ ‫ف الَ ْرضِ وَ َرفَعَ َب ْع َ‬ ‫جعََلكُمْ خَلَ ِئ َ‬ ‫َ‬ ‫ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ (‪)165‬‬ ‫ا ْل ِعقَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫قيما‪ :1‬أي مستقيما‪.‬‬ ‫ملة إبراهيم ‪ :‬أي دين إبراهيم وهو السلم‪.‬‬ ‫حنيفا‪ :‬مائلً عن الضللة إلى الهدى‪.‬‬ ‫ونسكي ‪ :‬ذبحي تقربا إلى ال تعالى‪.‬‬ ‫ومحياي ‪ :‬حياتي‪.‬‬ ‫أبغي ربا‪ :‬أطلب ربا إلها معبودا أعبده‪.‬‬ ‫ول تزر وازرة ‪ :‬أي ل تحمل نفس وازرة أي آثمة‪.‬‬ ‫وزر أخرى‪ :‬أي إثم نفس أخرى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيما مصدر على وزن شِبَع وصف به المنصوب وهو دينا ومعناه مستقيما ل عوج فيه وهو‬ ‫السلم‪.‬‬

‫( ‪)2/148‬‬ ‫خلئف الرض‪ :‬أي يخلف بعضكم بعضا جيل يموت وآخر يحيا إلى نهاية الحياة‪.‬‬ ‫ليبلوكم فيما آتاكم‪ :‬أي ليختبركم فيما أعطاكم من الصحة والمرض والمال والفقر والعلم والجهل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في هذه اليات وهي خاتمة هذه السورة التي بلغت آياتها بضعا وستين ومائة آية وكانت كلها في‬ ‫الحجاج مع العادلين بربهم وبيان طريق الهدى لهم لعلهم يؤمنون فيوحدون ويسلمون‪ .‬في هذه‬ ‫اليات أمر ال رسوله أن يعلن عن مفاصلته لولئك المشركين فقال له {قل إن صلتي ونسكي ‪}1‬‬ ‫أي ما أذبحه تقربا إلى ربي‪{ ،‬ومحياي} أي ما آتيه في حياتي {ومماتي} أي ما أموت عليه من ‪2‬‬

‫الطاعات والصالحات {ل رب العالمين} وحده {ل شريك له وبذلك أمرت} أي أمرني ربي سبحانه‬ ‫وتعالى‪{ ،‬وأنا أول المسلمين} ل يسبقني أحد أبدا‪ .‬كما أمره أن ينكر على المشركين دعوتهم إليه‬ ‫صلى ال عليه وسلم لن يعبد معهم آلهتهم‪ ،‬ليعبدوا معه إلهه وقال ‪{ :‬قل أغير ال أبغي ربا} أي‬ ‫أطلب إلها‪{ ،‬وهو رب كل شيء} أي ما من كائن في هذه الحياة إل وال ربه أي خالقه ورازقه‪،‬‬ ‫وحافظه‪ ،‬وأعلمه أنه ل تكسب نفس‬ ‫من خير إل وهو لها‪ ،‬ول تكسب من شر إل عليها‪ ،‬وأنه {ول تزر وازرة وزر أخرى} أي ل‬ ‫تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى‪ ،‬وأن مرد الجميع إلى ال تعالى {ثم إلى ربكم مرجعكم‬ ‫فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي ويقضي بينكم فينجو من ينجو ويهلك من يهلك‪ ،‬كما أخبره أن‬ ‫يقول‪{ :‬وهو الذي جعلكم خلئف الرض} أي يخلف بعضكم بعضا هذا يموت فيورث‪ ،‬وهذا‬ ‫الوارث يموت فيورث‪ ،‬وقوله {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي هذا غني وهذا فقير‪ ،‬هذا‬ ‫صحيح وهذا ضرير هذا عالم وذاك جاهل‪ ،‬ثم علل تعالى لتدبيره فينا بقوله {ليبلوكم} أي يختبركم‬ ‫فيما آتاكم ليرى الشاكر ويرى الكافر ولزم البتلء النجاح أو الخيبة فلذا قال {إن ربك سريع‬ ‫العقاب وإنه لغفور رحيم} فيعذب الكافر ويغفر ويرحم الشاكر‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل المراد من الصلة هنا صلة العيد لمناسبة النسك وهو الذبح تقربا وقيل صلة نافلة‬ ‫والعموم أولى‪ .‬وكذا النسك يطلق على الذبح تقربا وهو مراد ها ويطلق على سائر العبادات من‬ ‫الفرائض والنوافل لن النسك هو التعبد‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقال القرطبي في الية وما أوصى به بعد وفاتي وهو حسن ويشهد له قوله تعالى ونكتب ما‬ ‫قدموا وآثارهم‪.‬‬

‫( ‪)2/149‬‬ ‫من هداية اليات‪.‬‬ ‫‪ -1‬ملة إبراهيم عليه السلم هي السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية قول {إن صلتي ونسكي ومحياي ومماتي ل رب العالمين} في القيام للصلة ‪.1‬‬ ‫‪ -3‬ل يصح طلب رب غير ال تعالى لنه رب كل شيء‪.‬‬ ‫‪ -4‬عدالة ال تعالى تتجلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -5‬عدالة الجزاء يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -6‬تفاوت الناس في الغنى والفقر والصحة والمرض‪ ،‬والبر والفجور وفي كل شيء مظهر من‬ ‫مظاهر تدبير ال تعالى في خلقه‪ .‬ينتفع به الذاكرون من غير أصحاب الغفلة والنسيان‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث مسلم عن عليّ بن أبي طالب عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا أقام‬ ‫الصلة قال وجهت وجهي ل فاطر السموات ‪ ...‬الخ الية وفيه دعاء ذكره القرطبي عند تفسير‬ ‫هذه الية‪.‬‬

‫( ‪)2/150‬‬ ‫سورة العراف‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة العراف‬ ‫مكية ‪1‬‬ ‫وآياتها خمس ومائتا آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫المص(‪ )1‬كِتَابٌ أُن ِزلَ ِإلَ ْيكَ فَلَ َيكُن فِي صَدْ ِركَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَ ِذكْرَى لِ ْل ُمؤْمِنِينَ(‪ )2‬اتّ ِبعُواْ مَا‬ ‫أُن ِزلَ إِلَ ْيكُم مّن رّ ّبكُمْ وَلَ تَتّ ِبعُواْ مِن دُونِهِ َأوْلِيَاء قَلِيلً مّا تَ َذكّرُونَ(‪َ )3‬وكَم مّن قَرْيَةٍ َأهَْلكْنَاهَا فَجَاءهَا‬ ‫عوَاهُمْ ِإذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا ِإلّ أَن قَالُواْ إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ(‪)5‬‬ ‫بَأْسُنَا بَيَاتًا َأوْ هُمْ قَآئِلُونَ(‪َ )4‬فمَا كَانَ دَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إلّ قوله تعالى‪{ :‬واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} إلى قوله {وإذ نتقنا الجبل فوقهم‬ ‫‪ .}.‬فإنها مدنيات‪.‬‬

‫( ‪)2/150‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المص‪ :‬هذه أحد الحروف المقطعة ويقرأ هكذا‪ :‬ألف لم ميم صَادْ‪ .‬وال أعلم بمراده بها‪.‬‬ ‫كتاب ‪ :‬أي هذا كتاب‪.‬‬ ‫حرج‪ :‬ضيق‪.‬‬ ‫وذكرى ‪ :‬تذكرة بها يذكرون ال وما عنده وما لديه فيقبلون على طاعته‪.‬‬ ‫أولياء‪ :‬رؤساؤهم في الشرك‪.‬‬ ‫ما تذكرون ‪ :‬أي تتعظون فترجعون إلى الحق‪.‬‬ ‫وكم من قرية ‪ :‬أي كثيرا من القرى‪.‬‬ ‫بأسنا بياتا‪ :‬عذابنا ليلً وهم نائمون‪.‬‬

‫أو هم قائلون ‪ :‬أي نائمون بالقيلولة وهم مستريحون‪.‬‬ ‫فما كان دعواهم ‪ :‬أي دعاؤهم إل قولهم إنا كنا ظالمين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫{المص} في هذه الحروف إشارة إلى أن هذا القرآن تألف من مثل هذه الحروف المقطعة وقد‬ ‫عجزتم عن تأليف مثله فظهر بذلك أنه كلم ال ووحيه إلى رسوله فآمنوا به وقوله {كتاب} أي‬ ‫هذا كتاب {أنزل إليك}‪ 1‬يا رسولنا {فل يكن في صدرك حرج منه} أي ضيق منه {لتنذر به }‬ ‫قومك عواقب شركهم وضللهم‪ ،‬وتذكر به المؤمنين منهم ذكرى وقل لهم {اتبعوا ما أنزل إليكم‬ ‫من ربكم} من الهدى والنور‪{ ،‬ول تتبعوا من دونه} أي من غيره {أولياء}‪ 2‬ل يأمرونهم إل‬ ‫بالشرك والشر والفساد‪ ،‬وهم رؤساء الضلل في قريش {قليلً ما يذكرون} أي تتعظون فترجعون‬ ‫إلى الحق الذي جانبتموه {وكم ‪ 3‬من قرية} أي وكثيرا من القرى أهلكنا أهلها لما جانبوا الحق‬ ‫ولزموا الباطل {فجاءها ‪ 4‬بأسنا ‪ }5‬أي عذابنا الشديد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة‪{ :‬أنزل إليك} يصح إعرابها في محل نعت لكتاب ويصح إعرابها في محل نصب حالً من‬ ‫هذا كتاب نحو ‪(:‬هذا بعلي شيخا) وإن لم يقدر لفظ هذا تعرب جملة حينئذٍ في محل رفع خبر‬ ‫كتاب‪ ،‬ويكون التنكير في كتاب للتعظيم وهو كالوصف فيسوغ البتداء به وان كان نكرة نحو‬ ‫قولهم‪ :‬شرٌ أهو ذا ناب‪.‬‬ ‫‪ 2‬قالت العلماء‪ :‬كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه‪ ،‬ومنع أولياء من الصرف لنّ فيه‬ ‫ألف التأنيث‪.‬‬ ‫‪ 3‬كم‪ :‬للتكثير كما أنّ ذلك للتقليل وهي في موضع رفع على البتداء‪ ،‬والخبر جملة أهلكناها‪،‬‬ ‫والتقدير‪ :‬وكثير من القرى أهلكناها‪.‬‬ ‫‪{ 4‬فجاءها} في حرف الفاء هنا إشكال لنّ الهلك قد تمّ فما معنى مجيء البأس حينئذ؟ وعليه‬ ‫فليكن تقدير الكلم‪ :‬وكم من قرية أردنا إهلكها فجاءها بأسنا‪.‬‬ ‫‪ 5‬البأس‪ :‬العذاب التي على النفس‪.‬‬

‫( ‪)2/151‬‬ ‫{بياتا أو هم قائلون} أي ليلً أو نهارا‪ ،‬فما كان دعاءهم ‪ 1‬يومئذ إل قولهم‪ :‬يا ويلنا إنا كنا ظالمين‬ ‫فاعترفوا بذنبهم‪ ،‬ولكن هيهات إن ينفعهم العتراف بعد معاينة العذاب‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬القرآن الكريم هو مصدر نذارة الرسول صلى ال عليه وسلم وبشارته بما حواه من الوعد‬

‫والوعيد‪ ،‬والذكرى والبشرى‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب إتباع الوحي‪ ،‬وحرمة إتباع ما يدعو إليه أصحاب الهواء والمبتدعة‪.‬‬ ‫‪ -3‬العتبار بما حل بالمم الظالمة من خراب ودمار‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل تنفع التوبة عند معاينة الموت أو العذاب‪.‬‬ ‫سلَ إِلَ ْي ِه ْم وَلَنَسْأَلَنّ ا ْلمُ ْرسَلِينَ(‪ )6‬فَلَ َن ُقصّنّ عَلَ ْيهِم ِبعِ ْل ٍم َومَا كُنّا غَآئِبِينَ(‪ )7‬وَا ْلوَزْنُ‬ ‫فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْ ِ‬ ‫خ ّفتْ َموَازِينُهُ فَُأوْلَ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُواْ‬ ‫حقّ َفمَن َثقَُلتْ َموَازِينُهُ فَُأوْلَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ(‪َ )8‬ومَنْ َ‬ ‫َي ْومَئِذٍ الْ َ‬ ‫جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِشَ قَلِيلً مّا‬ ‫ظِلمُونَ(‪ )9‬وََلقَدْ َمكّنّاكُمْ فِي الَ ْرضِ َو َ‬ ‫سهُم ِبمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِ ْ‬ ‫أَنفُ َ‬ ‫شكُرُونَ(‪)10‬‬ ‫تَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أرسل إليهم ‪ :‬هم المم والقوام‪.‬‬ ‫فلنقصن عليهم بعلم ‪ :‬فلنخبرنهم بأعمالهم متتبعين لها فل نترك منها شيئا‪.‬‬ ‫وما كنا غائبين‪ :‬أي عنهم أيام كانوا يعملون‪.‬‬ ‫الوزن يومئذ الحق‪ :‬أي العدل‪.‬‬ ‫فمن ثقلت موازينه‪ :‬أي بالحسنات فأولئك هم المفلحون بدخول الجنة‪.‬‬ ‫خسروا أنفسهم ‪ :‬بدخولهم النار والصطلء بها أبدا‪.‬‬ ‫معايش‪ :‬جمع معيشة بمعنى العيش الذي يعيشه النسان‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الدعاء والدعوى بمعنى واحد ومنه‪ :‬وآخر دعواهم أي‪ :‬دعائهم‪.‬‬

‫( ‪)2/152‬‬ ‫ل والشكر ذكر النعمة للمنعم ‪ 1‬وطاعته بفعل محابه وترك‬ ‫قليلً ما تشكرون ‪ :‬أي شكرا قلي ً‬ ‫مكارهه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬فلنسألن الذين أرسل ‪ 2‬إليهم ولنسألن المرسلين ‪ 3‬فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين}‬ ‫يخبر تعالى أنه إذا جمع الخلئق لفصل القضاء مؤكدا الخبر بالقسم أنه يسأل كل أمة أو جماعة أو‬ ‫فرد أرسل إليهم رسله يسألهم عن مدى إجابتهم دعوة رسله إليهم‪ ،‬فهل آمنوا بما جاءتهم به‬ ‫الرسل‪ ،‬وأطاعوهم فيما بلغوهم من التوحيد والعبادة والطاعة والنقياد‪ ،‬كما يسأل الرسل أيضا هل‬ ‫بلغوا ما ائتمنهم عليه من رسالته المتضمنة أمر عباده باليمان به وتوحيده وطاعته في أمره‬ ‫ونهيه‪ ،‬ثم يقصّ تعالى على الجميع بعلمه كل ما كان منهم من ظاهر العمال وباطنها‪ ،‬ول‬ ‫يستطيعون إخفاء شيء أبدا‪ ،‬ولم يكن سؤاله لهم أولً‪ ،‬إل من باب إقامة الحجة وإظهار عدالته‬

‫سبحانه وتعالى فيهم‪ ،‬ولتوبيخ من يستحق التوبيخ منهم‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪{ :‬فلنقصن عليهم‬ ‫بعلم وما كنا غائبين} عنهم حينما كانوا في الدنيا يعملون فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة له‬ ‫تعالى ول يخفي عليه منها شيء وهو السميع البصير‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )6‬والثانية (‪ )7‬أما اليتان الثالثة والرابعة فقد أخبر تعالى أنه بعد‬ ‫سؤالهم وتعريفهم بأعمالهم ينصب الميزان وتوزن ‪ 4‬لهم أعمالهم فمن ثقلت موازين حسناته أفلح‬ ‫بالنجاة من النار ودخول الجنة دار السلم ومن خفّت لقلة حسناته وكثرة سيئاته ‪ 5‬خسر نفسه‬ ‫بإلقائه في جهنم ليخلد في عذاب أبدي‪ ،‬وعلل تعالى لهذا الخسران في جهنم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وحده والثناء بها عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية دليل على أن الكفار يحاسبون وإن لم توزن أعمالهم لقوله تعالى {فل نقيم لهم يوم‬ ‫القيامة وزنا} فمحاسبتهم لظهار العدالة اللهية ل لن لهم أعمالً صالحة يجزون بها وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ويشهد لهذه المساءلة قوله صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪ " :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن‬ ‫رعيته فالمام يسأل عن رعيته‪ ،‬والرجل يسأل عن أهله‪ ،‬والمرأة تسأل عن بيت زوجها‪ ،‬والعبد‬ ‫يسأل عن مال سيده"‪.‬‬ ‫‪ 4‬هنا زلت أقدام المعتزلة فأوّلوا الوزن للعمال والميزان وقالوا‪ :‬العراض ل توزن ولو اتبعوا‬ ‫لوّلوا الميزان بالصراط والجنة والنار على ما يرد على الرواح دون الجساد‪ ،‬والشياطين والجنّ‬ ‫على الخلق المذمومة‪ ،‬والملئكة على القوى المحمودة وهكذا حتى ل يبقى للدين حقيقة والعياذ‬ ‫بال من فساد القلوب والعقول ومن الجري وراء فلسفة الغريق واليونان‪.‬‬ ‫‪ 5‬ورد في السنة الصحيحة إن العراض تحوّل إلى أجسام وتوزن كما في حديث‪ :‬أنّ البقرة وآل‬ ‫عمران يأتيان يوم القيامة وكأنهما غمامتان‪ .‬الحديث‪ ،‬كما توزن صحائف العمال لحديث‪:‬‬ ‫"فطاشت السجلت وثقلت البطاقة" وحديث‪" :‬يؤتى بالرجل السمين فل يزن عند ال جناح بعوضة"‬ ‫وبهذا تقرر أن العمال توزن وتوزن محالها وفاعلوها وال على ذلك قدير‪.‬‬

‫( ‪)2/153‬‬ ‫بقوله {بما كانوا بآياتنا يظلمون} ‪ :‬أي يكذبون ويجحدون‪ ،‬وأطلق الظلم وأريد به التكذيب والجحود‬ ‫لمرين هما‪:‬‬ ‫أولً‪ :‬اكتفاء بحرف الجر الباء إذ ل تدخل على ظلم ولكن على كذب أو جحد يقال كذب به وجحد‬ ‫به ول يقال ظلم به ولكن ظلمه وهذا من باب التضمين وهو سائغ في لغة العرب التي نزل بها‬ ‫القرآن‪.‬‬ ‫وثانيا ‪ :‬أنهم بدل أن يؤمنوا باليات وهي واضحات كذبوا بها فكانوا كأنهم ظلموا اليات ظلما‬

‫حيث لم يؤمنوا بها وهي بينات‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان أما الية الخامسة (‪ )10‬فقد تضمنت امتنان ال تعالى على عباده‪ ،‬وكان‬ ‫المفروض أن يشكروا نعمه عليهم باليمان به وتوحيده وطاعته‪ ،‬ولكن الذي حصل هو عدم الشكر‬ ‫من أكثرهم قال تعالى {ولقد مكناكم في الرض} حيث جعلهم متمكنين في الحياة عليها يتصرفون‬ ‫فيها ويمشون في مناكبها‪ ،‬وقوله {وجعلنا لكم فيها معايش} ‪ 1‬هذه نعمة أخرى وهي أن جعل لهم‬ ‫فيها معايش وأرزاقا يطلبونها فيها ويحصلون عليها وعليها قامت حياتهم‪ ،‬وقوله {قليلً ما‬ ‫تشكرون} أي ل تشكرون إل شكرا يسيرا ل يكاد يذكر‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة البعث والسؤال والحساب ووزن العمال يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -2‬صعوبة الموقف حيث تسأل المم والرسل عليهم السلم كذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬الفلح والخسران مبنيان على الكسب في الدنيا فمن كسب خيرا نجا‪ ،‬ومن كسب شرا هلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب شكر النعم باليمان والطاعة ل ورسوله‪.‬‬ ‫جدُواْ‬ ‫صوّرْنَاكُمْ ُثمّ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْ ُ‬ ‫وَلَقَدْ خََلقْنَاكُمْ ثُمّ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المعايش‪ :‬جمع معيشة‪ ،‬والمعيشة‪ :‬ما يتوصل به إلى العيش الذي هو الحياة من المطاعم‬ ‫والمشارب‪ .‬والتمكين في الرض‪ :‬معناه جعلها قارة ممهدة ل تضطرب ول تتحرك فيفسد ما‬ ‫عليها‪.‬‬

‫( ‪)2/154‬‬ ‫سجُدَ إِذْ َأمَرْ ُتكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ‬ ‫جدِينَ(‪ )11‬قَالَ مَا مَ َن َعكَ َألّ تَ ْ‬ ‫لدَمَ َفسَجَدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ لَمْ َيكُن مّنَ السّا ِ‬ ‫مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّا ٍر وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ(‪ )12‬قَالَ فَاهْبِطْ مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َتكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِ ّنكَ‬ ‫مِنَ الصّاغِرِينَ(‪ )13‬قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ(‪ )14‬قَالَ إِ ّنكَ مِنَ المُنظَرِينَ (‪ )15‬قَالَ فَ ِبمَا‬ ‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ(‪ُ )16‬ث ّم لتِيَ ّنهُم مّن بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ‬ ‫ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ‬ ‫غوَيْتَنِي َ‬ ‫أَ ْ‬ ‫جدُ َأكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(‪ )17‬قَالَ اخْرُجْ مِ ْنهَا مَ ْذؤُومًا مّدْحُورًا ّلمَن تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ‬ ‫شمَآئِِلهِ ْم َولَ تَ ِ‬ ‫وَعَن َ‬ ‫ج َمعِينَ(‪)18‬‬ ‫جهَنّمَ مِنكُمْ َأ ْ‬ ‫لمْلنّ َ‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫خلقناكم ثم صورناكم ‪ :‬أي خلقنا أباكم آدم أي قدرناه من الطين ثم صورناه على الصورة البشرية‬ ‫الكريمة التي ورثها بنوه من بعده إلى نهاية الوجود النساني‪.‬‬ ‫فسجدوا ‪ :‬أي سجود تحية لدم عليه السلم‪.‬‬

‫إبليس‪ :‬أبو الشياطين من الجن وكنيته أبو مرة‪ ،‬وهو الشيطان الرجيم‪.‬‬ ‫فاهبط منها ‪ :‬أي من الجنة‪.‬‬ ‫من الصاغرين ‪ :‬جمع صاغر الذليل المهان‪.‬‬ ‫فبما أغويتني‪ :‬أي فبسبب إضللك لي‪.‬‬ ‫مذموما مدحورا ‪ :‬ممقوتا مذموما مطرودا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في تعداد أنعم ال تعالى على عباده تلك النعم الموجبة لشكره تعالى باليمان‬

‫( ‪)2/155‬‬ ‫به وطاعته فقال تعالى {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ‪ }1‬أي خلقنا أباكم آدم من طين ثم صورناه‬ ‫بالصورة البشرية التي ورثها بنوه عنه‪{ ،‬ثم قلنا للملئكة اسجدوا لدم} وفي هذا إنعام آخر وهو‬ ‫تكريم أبيكم آدم بأمر الملئكة بالسجود له تحية له وتعظيما {فسجدوا إل إبليس ‪ 2‬لم يكن من‬ ‫الساجدين} أي أبى وامتنع أن يسجد‪ ،‬فسأله ربه تعالى قائلً ‪{ :‬ما منعك أل تسجد ‪ 3‬إذ أمرتك} أي‪:‬‬ ‫أي شيء جعلك ل تسجد فأجاب إبليس قائلً‪{ :‬أنا خير منه خلقتني من نار‪ ،‬وخلقته من طين } فأنا‬ ‫أشرف منه فكيف أسجد له‪ ،‬ولم لكن إبليس مصيبا في هذه القياس ‪ 4‬الفاسد أولً‪ :‬ليست النار‬ ‫أشرف من الطين بل الطين أكثر نفعا وأقل ضررا‪ ،‬والنار كلها ضرر‪ ،‬وما فيها من نفع ليس‬ ‫بشيء إلى جانب الضرر وثانيا‪ :‬إن الذي أمره بالسجود هو الرب الذي تجب طاعته سواء كان‬ ‫ل أو مفضولً‪ ،‬وهنا أمره الرب تعالى أن يهبط من الجنة فقال {اهبط منها فما‬ ‫المسجود له فاض ً‬ ‫يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} أي الذليلين الحقيرين‪ ،‬ولما وقع إبليس في‬ ‫ورطته‪ ،‬وعرف سبب هلكته وهو عدم سجوده لدم قال للرب تبارك وتعالى {انظرني} أي أمهلني‬ ‫ل تمتني {إلى يوم يبعثون} فأجابه الرب بقوله {إلى يوم الوقت المعلوم} وهو فناء هذه الدنيا فقط‬ ‫وذلك قبل البعث‪ ،‬جاء هذا الجواب في سورة الحجر وهنا قال {إنك من المنظرين} ومراد إبليس‬ ‫في المهال التمكن من إفساد أكبر عدد من بني آدم انتقاما منهم إذ كان آدم هو السبب في طرده‬ ‫من الرحمة‪ ،‬ولما أجابه الرب إلى طلبه قال‪{ :‬فبما أغويتني} أي أضللتني {لقعدن لهم صراطك‬ ‫المستقيم} يريد آدم وذريته‪ ،‬والمراد من الصراط السلم إذ هو الطريق المستقيم والموصل‬ ‫بالسالك له إلى رضوان ال تعالى {ثم لتينهم من بين أيديهم ‪ 5‬ومن خلفهم وعن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ويصح أن يقال‪ :‬خلقناكم نطفا ثم صورناكم‪ ،‬وما في التفسير أولى بالية وأصح بدليل قوله‪{ :‬ثم‬ ‫قلنا للملئكة اسجدوا لدم}‪.‬‬ ‫ن ولم يكن من الملئكة‪.‬‬ ‫‪ 2‬استثناء من غير الجنس إذ إبليس من الج ّ‬

‫‪{ 3‬ما منعك} ما‪ :‬في موضع رفع بالبتداء فهي اسم استفهام والتقدير أي شيء منعك من السجود‪،‬‬ ‫وأن المصدرية مدغمة في ل الزائدة بدليل عدم زيادتها في {ص} إذ قال‪{ :‬ما منعك أن تسجد}‬ ‫أي‪ :‬من السجود لدم‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن عباس والحسن‪ :‬أوّل من قاس إبليس فأخطأ القياس‪ ،‬فمن قاس الدين برأيه قرنه ال‬ ‫تعالى مع إبليس‪ .‬قال العلماء‪ :‬من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والناة ولهذا تاب آدم‪،‬‬ ‫ومن جوهر النار الخفة والحدة والطيش والرتفاع ولذا لم يتب إبليس‪.‬‬ ‫‪ 5‬معناه‪ :‬لصدنّهم عن الحق‪ ،‬وأرغبهم في الدنيا وأشككهم في الخرة وهذا غاية الضلل‪ ،‬وقال‬ ‫بعضهم‪ :‬المراد من قوله‪{ :‬من بين أيديهم} من دنياهم {ومن خلفهم} من آخرتهم‪{ ،‬وعن أيمانهم}‬ ‫يعني حسناتهم {وعن شمائلهم} يعني سيئاتهم‪.‬‬

‫( ‪)2/156‬‬ ‫أيمانهم وعن شمائلهم} يريد يحيط بهم فيمنعهم سلوك الصراط المستقيم حتى ل ينجوا ويهلكوا كما‬ ‫هلك هو زاده ال هلكا‪ ،‬وقوله {ول تجد أكثرهم شاكرين} هذا قول إبليس للرب تعالى‪ ،‬ول تجد‬ ‫أكثر أولد آدم الذي أضللتني بسببه شاكرين لك باليمان والتوحيد والطاعات‪.‬‬ ‫وهنا أعاد ال أمره بطرد اللعين فقال {اخرج منها} أي من الجنة {مذموما مدحورا} أي ممقوتا‬ ‫مطرودا (لمن تبعك ‪ 1‬منهم لملن جهنم منكم أجمعين} أي فبعزتي لملن جهنم منك وممن اتبعك‬ ‫منهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬خطر الكبر على النسان‪.‬‬ ‫‪ -2‬ضرر القياس ‪ 2‬الفاسد‪.‬‬ ‫‪ -3‬خطر إبليس وذريته على بني آدم‪ ،‬والنجاة منهم بذكر ال تعالى وشكره‪.‬‬ ‫‪ -4‬الشكر هو اليمان والطاعة ل ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫جكَ ا ْلجَنّةَ َفكُلَ مِنْ حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا َولَ َتقْرَبَا َه ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ(‬ ‫ت وَ َزوْ ُ‬ ‫سكُنْ أَن َ‬ ‫وَيَا آ َدمُ ا ْ‬ ‫سوْءَا ِت ِهمَا َوقَالَ مَا َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ‬ ‫سوَسَ َل ُهمَا الشّ ْيطَانُ لِيُبْ ِديَ َل ُهمَا مَا وُو ِريَ عَ ْن ُهمَا مِن َ‬ ‫‪َ )19‬فوَ ْ‬ ‫صحِينَ(‪)21‬‬ ‫س َم ُهمَا إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ النّا ِ‬ ‫هَ ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ َتكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ(‪َ )20‬وقَا َ‬ ‫طفِقَا‬ ‫سوْءَا ُت ُهمَا وَ َ‬ ‫فَ َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ فََلمّا ذَاقَا الشّجَ َرةَ َب َدتْ َل ُهمَا َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اللم في {لمن} موطئة للقسم‪ ،‬واللم في {لملنّ} في جواب القسم والتقدير‪ :‬وعزتي من تبعك‬ ‫منهم لملن جهنم منك ومنهم أجمعين‪.‬‬

‫‪ 2‬القياس من الكتاب والسنة وإجماع علماء المة مشروع محمود لنّه اعتصام بالكتاب والسنة‬ ‫وإجماع المة‪ ،‬وإنّما المذموم المحرّم‪ :‬القياس على غير أصل من هذه الصول الثلثة‪ :‬الكتاب‪،‬‬ ‫السنة‪ ،‬الجماع‪ ،‬وهذا علي ابن أبي طالب لما قال له أبو بكر رضي ال عنهما أقيلوني بيعتي فقال‬ ‫عليّ‪ :‬وال ل نقيلك ول نستقيلك رضيك رسول ال صلى ال عليه وسلم على دنيانا أفل نرضاك‬ ‫لديننا فقاس المامة على الصلة ل‪ ،‬وقاس أبو بكر الزكاة على الصلة‪.‬‬

‫( ‪)2/157‬‬ ‫صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِن وَرَقِ ا ْلجَنّ ِة وَنَادَا ُهمَا رَ ّب ُهمَا أََلمْ أَ ْن َه ُكمَا عَن تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وََأقُل ّل ُكمَا إِنّ‬ ‫خ ِ‬ ‫يَ ْ‬ ‫الشّ ْيطَآنَ َل ُكمَا عَ ُدوّ مّبِينٌ(‪)22‬‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫وزوجك ‪ :‬هي حواء التي خلقها ال تعالى من ضلع آدم اليسر‪.‬‬ ‫الجنة ‪ :‬دار السلم التي دخلها رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلة السراء والمعراج‪.‬‬ ‫في الظالمين ‪ :‬أي لنفسهم‪.‬‬ ‫فوسوس‪ :‬الوسوسة‪ :‬الصوت الخفي‪ ،‬وسوسة ‪ 1‬الشيطان لبن آدم إلقاء معانٍ فاسدة ضارة في‬ ‫صدره مزينة ليعتقدها أو يقول بها أو يعمل‪.‬‬ ‫ليبدي ‪ 2‬لهما ما ووري‪ :‬ليظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما‪.‬‬ ‫وقاسمهما ‪ :‬حلف لكل واحد منهما‪.‬‬ ‫فدلهما بغرور ‪ :‬أي أدناهما شيئا فشيئا بخداعه وتغريره حتى أكل من الشجرة‪.‬‬ ‫وطفقا يخصفان ‪ :‬وجعل يشدان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ولما طرد الرحمن إبليس من الجنة نادى آدم قائلً له {يا آدم اسكن أنت وزوجك} أي حواء {الجنة‬ ‫فكل من حيث شئتما} يعنى من ثمارها وخيراتها‪{ ،‬ول تقربا هذه الشجرة} أشار لهما إلى شجرة‬ ‫من أشجار الجنة معينة‪ ،‬ونهاهما عن الكل منها‪ ،‬وعلمهما أنهما إذا أكل منها كانا من الظالمين‬ ‫المستوجبين للعقاب‪ ،‬واستغل إبليس هذه الفرصة التي أتيحت له فوسوس ‪ 3‬لهما مزينا لهما الكل‬ ‫من الشجرة قائلً لهما {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إل أن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الوسواس اسم للشيطان أيضا قال تعالى‪{ :‬من شر الوسواس الخناس}‪.‬‬ ‫‪ 2‬اللم‪ :‬لم العاقبة والصيرورة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ذهب الولون مذاهب في تحديد كيفية اتصال إبليس بآدم وحوارهما في الجنة وهو خارج منها‬ ‫حتى وسوس لهما فأكل من الشجرة التي لم يأذن ال تعالى لهما في الكل منها إل أن المخترعات‬

‫الحديثة بيّنت لنا كيفية ذلك التصال وبيانه‪ :‬ان النسان في نفسه قابلية لتلقي الوسواس أشبه ما‬ ‫تكون بجهاز اللسلكي بواسطتها يتم التصال بين النسان وعدّوه إبليس وذريته‪.‬‬

‫( ‪)2/158‬‬ ‫تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} {وقاسمهما} أي حلف لهما أنه ناصح ‪ 1‬لهما وليس بغاش لهما‪،‬‬ ‫{فدلهما بغرور} وخداع حتى أكل {فلما ذاقا الشجرة بدت‪ }...‬أي ظهرت لهما سوءاتهما ‪ 2‬حيث‬ ‫انحسر النور ‪ 3‬الذي كان يغطيهما‪ ،‬فجعل يشدان من ورق الجنة على أنفسهما ليستر عوراتهما‪،‬‬ ‫وهو معنى قوله تعالى {وطفقا يخصفا عليهما من ورق الجنة} وعندئذ ناداهما ربهما سبحانه‬ ‫وتعالى‪ ،‬قائلً‪ :‬ألم أنهكما عن هذه الشجرة وهو استفهام تأديب وتأنيب‪{ ،‬وأقل لكما إن الشيطان‬ ‫لكما عدو مبين} فكيف قبلتما نصحه وهو عدوكما‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬سلح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين ل غير‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير عداوة الشيطان للنسان‪.‬‬ ‫‪ -3‬النهي يقتضي التحريم إل أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء‪.‬‬ ‫‪ -5‬جواز القسام بال تعالى‪ ،‬ولكن ل يحلف إل صادقا‪.‬‬ ‫ضكُمْ‬ ‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(‪ )23‬قَالَ اهْ ِبطُواْ َب ْع ُ‬ ‫قَالَ رَبّنَا ظََلمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ‬ ‫ن َومِ ْنهَا‬ ‫ن َوفِيهَا َتمُوتُو َ‬ ‫لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(‪ )24‬قَالَ فِيهَا َتحْ َيوْ َ‬ ‫تُخْ َرجُونَ(‪)25‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ظلمنا أنفسنا‪ :‬أي بأكلهما من الشجرة‪.‬‬ ‫الخاسرين‪ :‬الذين خسروا دخول الجنة والعيش فيها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال قتادة‪ :‬حلف لهما بال أنه خلق قبلهما وأنه أعلم منهما وحلف أنه ناصح لهما فانغرا به‪ ،‬على‬ ‫حد قول العلماء‪ :‬مَنْ خدعنا بال انخدعنا له‪.‬‬ ‫‪ 2‬سُمي الفرجان سوأتين وعورة لن السوءة مشتقة مما يسيء إلى النفس باللم والعورة هي كل‬ ‫ما استحيي من كشفه‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي عن ابن عباس رضي ال عنهما أنه قال‪ :‬تقلّص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا‬ ‫في اليدي والرجل‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫( ‪)2/159‬‬ ‫مستقر‪ :‬مكان استقرار وإقامة‪..‬‬ ‫متاع إلى حين ‪ :‬تمتع بالحياة إلى حين انقضاء آجالكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث عن آدم عليه السلم‪ ،‬أنه لما ذاق آدم وحواء الشجرة وبدت لهما‬ ‫سؤاتهما وعاتبهما ربهما على ذلك قال معلنين عن توبتهما‪{ :‬ربنا ظلمنا أنفسنا ‪ }1‬أي بذوق‬ ‫الشجرة {وإن لم تغفر لنا} أي خطيئتنا هذه {لنكونن من الخاسرين} أي الهالكين‪ ،‬وتابا فتاب ال‬ ‫تعالى عليهما وقال لهم اهبطوا إلى الرض إذ لم تعد الجنة في السماء دارا لهما بعد ارتكاب‬ ‫المعصية‪ ،‬إن إبليس عصا بامتناعه عن السجود لدم‪ ،‬وآدم وحواء بأكلهما من الشجرة وقوله‬ ‫{بعضكم لبعض عدو} أي اهبطوا إلى الرض ‪ 2‬حال كون بعضكم لبعض عدوا‪ ،‬إبليس وذريته‬ ‫عدو لدم ونبيه‪ ،‬وآدم وبنوه عدو لبليس وذريته‪{ ،‬ولكم في الرض مستقر}‪ ،‬أي مقام استقرار‪،‬‬ ‫{ومتاع إلى حين} أي تمتع بالحياة إلى حين انقضاء الجال وقوله تعالى {فيها تحيون وفيها‬ ‫تموتون ومنها تخرجون}‪ 3‬يريد من الرض التي أهبطهم إليها وهي هذه الرض التي يعيش عليها‬ ‫بنو آدم‪ ،‬والمراد من الخروج‪ ،‬الخروج من القبور إلى البعث والنشور‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬قول آدم وحواء‪{ :‬ربنا ظلمنا أنفسنا‪ } ..‬الية هو الكلمة التي ألقاها تعالى إلى آدم فتلقاها عنه‬ ‫فتاب عليه بها‪.‬‬ ‫‪ -2‬شرط التوبة العتراف بالذنب وذلك بالستغفار أي طلب المغفرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة‪ ،‬وإخراج آدم من الجنة‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل تَ ِتمّ حياةٌ للنسان على غير الرض‪ ،‬ول يدفن بعد موته في غيرها لدللة آية {فيها تَحْ َيوْن‬ ‫وفيها تموتون ومنها ُتخْرجون}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬يا ربنا‪ ،‬حذف حرف النداء لقربه منهما سبحانه وتعالى إذ يُنادى بحرف النداء البعيد‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن كثير‪ :‬لو كان في تعيين الماكن التي هبط فيها آدم وحواء وإبليس فائدة تعود على‬ ‫المكلّفين في دينهم أو دنياهم لذكرها ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬للحساب والجزاء على الكسب في الدنيا من خير وشرّ‪.‬‬

‫( ‪)2/160‬‬

‫سوْءَا ِتكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَىَ ذَِلكَ خَيْرٌ ذَِلكَ مِنْ آيَاتِ الّلهِ‬ ‫يَا بَنِي آ َدمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسًا ُيوَارِي َ‬ ‫س ُهمَا‬ ‫َلعَّلهُمْ َي ّذكّرُونَ(‪ )26‬يَا بَنِي آدَ َم لَ َيفْتِنَ ّنكُمُ الشّ ْيطَانُ َكمَا أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُم مّنَ الْجَنّةِ يَن ِزعُ عَ ْن ُهمَا لِبَا َ‬ ‫ن لَ‬ ‫جعَلْنَا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَاء لِلّذِي َ‬ ‫سوْءَا ِت ِهمَا إِنّهُ يَرَاكُمْ ُه َو َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْيثُ لَ تَ َروْ َنهُمْ إِنّا َ‬ ‫لِيُرِ َي ُهمَا َ‬ ‫جدْنَا عَلَ ْيهَا آبَاءنَا وَاللّهُ َأمَرَنَا ِبهَا ُقلْ إِنّ اللّ َه لَ يَ ْأمُرُ‬ ‫حشَةً قَالُو ْا وَ َ‬ ‫ُي ْؤمِنُونَ(‪ )27‬وَإِذَا َفعَلُواْ فَا ِ‬ ‫بِا ْلفَحْشَاء أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ(‪)28‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وريشا‪ :1‬لباس الزينة والحاجة‪.‬‬ ‫يواري سوءاتكم ‪ :‬يستر عوراتكم‪.‬‬ ‫لباس التقوى ‪ :.‬خير في حفظ العورات والجسام والعقول والخلق‪.‬‬ ‫من آيات ال ‪ :‬دلئل قدرته‪.‬‬ ‫ل يفتننكم‪ :‬أي ل يصرفنكم عن طاعة ال الموجبة لرضاه ومجاورته في الملكوت العلى‪.‬‬ ‫أبويكم ‪ :‬آدم وحواء‪.‬‬ ‫قبيله‪ :‬جنوده من الجن‪.‬‬ ‫فاحشه‪ :‬خصلة قبيحة شديدة القبح كالطواف بالبيت عراة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الريش للطائر ما يستر جسمه‪ ،‬وللنسان اللّباس وجمعه رياش وهو ما كان فاخرا من أنواع‬ ‫اللبسة‪.‬‬

‫( ‪)2/161‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى {يا بني ‪ 1‬آدم قد نزلنا ‪ 2‬عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا} هذا النداء الكريم‬ ‫المقصود منه تذكير للمشركين من قريش بنعم ال وقدرته عليهم لعلهم يذكرون فيؤمنون ويسلمون‬ ‫بترك الشرك والمعاصي‪ ،‬من نعمه عليهم أن أنزل عليهم لباسا يوارون به سوءاتهم‪{ ،‬وريشا}‬ ‫لباسا يتجملون به‪ ،‬في أعيادهم ومناسباتهم‪ ،‬ثم أخبر تعالى أن لباس التقوى خير لصاحبه من لباس‬ ‫الثياب‪ ،‬لن المتقي عبد ملتزم بطاعة ال ورسوله‪ ،‬وال ورسوله يأمران بستر العورات‪ ،‬ودفع‬ ‫الغائلت‪ ،‬والمحافظة على الكرامات‪ ،‬ويأمران بالحياء‪ ،‬والعفة وحسن السمت ونظافة الجسم‬ ‫والثياب فأين لباس الثياب مجردة عن التقوى ‪ 3‬من هذه؟؟‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {ذلك من آيات ال} أي من دلئل قدرته الموجبة لليمان به وطاعته‪ ،‬وقوله {لعلهم‬ ‫يذكرون} أي رجاء أن يذكروا هذه النعم فيشكروا باليمان والطاعة‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )26‬وفي الية الثانية (‪ )27‬ناداهم مرة ثانية فقال {يا بني آدم ل‬

‫يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما ‪ 4‬سوءاتهما} يحذرهم من‬ ‫إغواء الشيطان لهم مذكرا إياهم بما صنع مع أبويهما من إخراجهما ‪ 5‬من الجنة بعد نزعه لباسهما‬ ‫عنهما فانكشفت سوءاتهما المر الذي سبب إخراجهما من دار السلم‪ ،‬منبها لهم على خطورة‬ ‫العدو من حيث أنه يراهم هو وجنوده‪ ،‬وهم ل يرونهم‪ .‬ثم أخبر تعالى أنه جعل الشياطين أولياء‬ ‫للذين ل يؤمنون‪ ،‬وذلك حسب سنته في خلقه‪ ،‬فالشياطين يمثلون قمة الشر والخبث فالذين ل‬ ‫يؤمنون قلوبهم مظلمة لنعدام نور اليمان فيها فهي متهيئة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ابتداء الخطاب بالنداء الحكمة منه ليقع إقبال المنادين على ما بعد النداء بكل قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬إنزال اللّباس من السماء يعود لمور منها‪ :‬أن آدم أوّل من ستر عورته بورق التين من شجر‬ ‫الجنة ومنها أنّ آدم نزل مكسوّا وورث عنه أولده ذلك‪ ،‬ومنها أن الماء الذي به النبات ومنه يتخذ‬ ‫اللباس كالقطن مثلً نزل من السماء وحتى ذوات الصوف والوبر حياتها متوقفة على ماء السماء‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال الشاعر في لباس التقوى ما يلي‪:‬‬ ‫إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ‪ ...‬تقلب عريانا وإن كان كاسيا‬ ‫وخير لباس المرء طاعة ربه ‪ ...‬ول خير فيمن كان ل عاصيا‬ ‫‪4‬في هذه الية دليل على حرص الشيطان على أن يكشف الدمي عورته لما يسبق ذلك من الفسق‬ ‫والفجور الذين يرغب الشيطان في إيقاع الدمي فيهما‪.‬‬ ‫‪ 5‬تكاد تكون هذه سنة بشرية ل تتخلّف إذ ما من أمّة تبرج نساؤها فكشفن محاسنهن وأبدين‬ ‫عوراتهن إلّ أسرع إليها الهلك بزوال الملك وذهاب السلطان‪.‬‬

‫( ‪)2/162‬‬ ‫لقبول الشياطين وقبول ما يوسوسون به ويوحونه من أنواع المفاسد والشرور كالشرك والمعاصي‬ ‫على اختلفها‪ ،‬وبذلك تتم الولية بين الشياطين والكافرين‪ ،‬وكبرهان على هذا الولء بينهم أن‬ ‫المشركين إذا فعلوا فاحشة خصلة ذميمة قبيحة شديدة القبح ونهوا عنها احتجوا على فعلهم بأنهم‬ ‫وجدوا آباءهم يفعلونها‪ ،‬وأن ال تعالى أمرهم بها وهي حجة باطلة لما يلي‪:‬‬ ‫أولً‪ :‬فعل آبائهم ليس دينا ول شرعا‪.‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬حاشا ل تعالى الحكيم العليم أن يأمر بالفواحش إنما يأمر بالفواحش الذين يأتونها وهم‬ ‫الشياطين وأولياؤهم من النس ولهذا رد ال تعالى عليهم بقوله‪ { :‬إن ال ل يأمر بالفحشاء}‬ ‫ووبخهم معنفا إياهم بقوله‪{ :‬أتقولون على ال ما ل تعلمون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫‪ -1‬التذكير بنعم ال تعالى المقتضي للشكر عك ذلك باليمان والتقوى ‪.1‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من الشيطان وفتنته لسيما وأنه يرى النسان والنسان ل يراه‪.‬‬ ‫‪ -3‬القلوب الكافرة هي الثمة‪ ،‬وكذلك تتم الولية بين الشياطين والكافرين‪.‬‬ ‫‪ -4‬قبح الفواحش وحرمتها‪.‬‬ ‫‪ -5‬بطلن الحتجاج بفعل الناس إذ ل حجة إل في الوحي اللهي‪.‬‬ ‫‪ -6‬تنزه الرب تعالى عن الرضا بالفواحش فضلً عن المر بها‪.‬‬ ‫سجِ ٍد وَادْعُوهُ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ َكمَا بَدََأكُمْ‬ ‫ط وََأقِيمُواْ وُجُو َه ُكمْ عِندَ ُكلّ مَ ْ‬ ‫سِ‬ ‫ُقلْ َأمَرَ رَبّي بِا ْلقِ ْ‬ ‫حقّ عَلَ ْيهِمُ الضّلَلَةُ إِ ّنهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَاء مِن دُونِ الّلهِ‬ ‫َتعُودُونَ(‪ )29‬فَرِيقًا َهدَى َوفَرِيقًا َ‬ ‫سجِ ٍد وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا َولَ ُتسْ ِرفُواْ‬ ‫خذُواْ زِينَ َت ُكمْ عِندَ ُكلّ مَ ْ‬ ‫وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُم ّمهْتَدُونَ(‪ )30‬يَا بَنِي آدَمَ ُ‬ ‫حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ(‪)31‬‬ ‫إِنّ ُه لَ ُي ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اليمان والتقوى بهما تحصل ولية الرب للعبد‪ ،‬قال تعالى ‪{:‬أل إنّ أولياء ال ل خوف عليهم‬ ‫ول هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}‪.‬‬

‫( ‪)2/163‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫القسط ‪ : 1‬العدل في القول والحكمة والعمل‪.‬‬ ‫أقيموا وجوهكم ‪ :‬أي أخلصوا العبادة ل واستقبلوا بيته‪.‬‬ ‫كما بدأكم تعودون‪ :‬كما بدأ خلقكم أول مرة يعيدكم بعد الموت أحياء‪.‬‬ ‫أولياء من دون ال ‪ :‬يوالونهم محبة ونصرة وطاعة‪ ،‬من غير ال تعالى‪.‬‬ ‫زينتكم‪ :‬أي البسوا ثيابكم عند الدخول في الصلة‪.‬‬ ‫ول تسرفوا ‪ :‬في أكل ول شرب‪ ،‬والسراف مجاوزة الحد المطلوب في كل شيء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق قي بيان أخطاء مشركي قريش فقد قالوا في اليات السابقة محتجين على فعلهم‬ ‫الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن ال تعالى أمرهم بها وأكذبهم ال تعالى في ذلك وقال‬ ‫في هذه الية (‪{ )29‬قل} يا رسولنا {أمر ربي بالقسط} الذي هو العدل وهو اليمان بال ورسوله‬ ‫وتوحيد ال تعالى في عبادته‪ ،‬وليس هو الشرك بال وفعل الفواحش‪ ،‬والكذب على ال تعالى بأنه‬ ‫حلل كذا وهو لم يحلل‪ ،‬وحرم كذا وهو لم يحرم‪ ،‬وقوله تعالى {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد}‬ ‫أي وقل لهم يا رسولنا أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ‪ 2‬أي أخلصوا ل العبادة‪ ،‬واستقبلوا بيته‬ ‫الحرام‪{ ،‬وادعوه} سبحانه وتعالى {مخلصين له الدين} أي ادعوه وحده ول تدعوا معه أحدا قوله‪:‬‬

‫{كما بدأكم تعودون} يذكرهم بالدار الخرة والحياة الثانية‪ ،‬فإن من آمن بالحياة بعد الموت والجزاء‬ ‫على كسبه خيرا أو شرا أمكنه أن يستقيم على العدل والخير طوال الحياة وقوله {فريقا‪ 3‬هدى‪،‬‬ ‫وفريقا حق عليهم الضللة ‪ }4‬بيان لعدله وحكمته ومظاهر قدرته فهو المبديء والمعيد والهادي‬ ‫والمضل‪ ،‬له الملك المطلق والحكم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القسط‪ :‬العدل‪ ،‬وهو وسط بين الشرك واللحاد‪ .‬ولذا قال ابن عباس‪ :‬القسط‪ :‬ل إله إلّ ال أي‪:‬‬ ‫بأن يعبد ال وحده‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬في كل موضع للصلة من سائر بقاع الرض إذ موضع السجود هو المسجد وإقامة‬ ‫الرجوه بالذات معناه أن ل يلتفت بقلبه ول بوجهه إلى غير ال تعالى وهو إخلص العبادة ل عز‬ ‫وجل‪.‬‬ ‫‪{ 3‬فريقا} نصب على الحال من الضمير في تعودون أي‪ :‬حال كونكم فريقين فريقا مهديا سعيدا‪،‬‬ ‫وفريقا وجبت عليه الضللة فجاء الموقف ضالً شقيا‪ ،‬وقال القرطبي‪ :‬من ابتدأ ال خلقه للضللة‬ ‫صيّره للضللة ومن ابتدأ ال خلقه على الهدى صيّره إلى الهدى‪ ،‬وشاهد قوله هذا آدم وإبليس فآدم‬ ‫مخلوق للهداية وإبليس للضللة‪.‬‬ ‫‪ 4‬اخرج مسلم عن ابن عباس رضي ال عنهما أنه قال‪ :‬كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت‬ ‫وهي عريانة وتقول‪:‬‬ ‫من يعيرني تطوافأ تجعله على فرجها وتقول‪:‬‬ ‫اليوم يبدو بعضه أو كله ‪...‬‬ ‫وما بدا منه فل أحله‬

‫( ‪)2/164‬‬ ‫الوحد‪ ،‬فكيف يعدل به أصنام وأوثان هدى فريقا من عباده فاهتدوا‪ ،‬وأضل آخرين فضلوا ولكن‬ ‫بسبب رغبتهم عن الهداية وموالتهم لهل الغواية‪{ ،‬إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون ال}‬ ‫فضلوا ضللً بعيدا {ويحسبون} لتوغلهم في الظلم والضلل {أنهم مهتدون}‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} أي ‪ :‬البسوا ثيابكم عند الطواف ‪ 1‬بالبيت‬ ‫فل تطوفوا عراة‪ ،‬وعند الصلة فل تصلوا وأنتم مكشوفوا العورات كما يفعل المشركون المتخذون‬ ‫الشياطين أولياء فأضلتهم حتى زينت لهم الفواحش قولً وفعلً واعتقادا‪ .‬وقوله‪{ :‬كلوا واشربوا ول‬ ‫تسرفوا ‪ }2‬أي كلوا مما أحل ال لكم واشربوا‪ ،‬ول تسرفوا بتحريم ما أحل ال‪ ،‬وشرع ما لم يشرع‬ ‫لكم فالزموا العدل‪ ،‬فإنه تعالى ل يحب المسرفين فاطلبوا حبه بالعدل‪ ،‬واجتنبوا بغضه بطاعته‬ ‫وطاعة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب العدل في القول وفي الحكم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب إخلص العبادة صلةً كانت أو دعا ًء ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثبوت القدر‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب ستر العورة في الصلة‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة السراف في الكل والشرب وفي كل شيء‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية الكريمة أصل من أصول الدواء‪ ،‬إذ أمرت بالكل والشرب وهما قوام الحياة وحرمت‬ ‫السراف فيهما وهو سبب كافة المراض إذ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ما مل آدمي‬ ‫وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ل محالة فثلث لطعامه وثلث‬ ‫سهِ" وشاهد آخر أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني قال لعلي بن الحسين‪:‬‬ ‫لشرابه وثلث لنفَ ِ‬ ‫ليس في كتابكم من علم الطب شيء‪ ،‬والعلم علمان علم أديان وعلم أبدان فقال له علي‪ :‬قد جمع‬ ‫ال الطب كلّه في نصف آية من كتابنا فقال له ما هي؟ قال‪ :‬قوله عز وجل {وكلوا واشربوا ول‬ ‫تسرفوا}‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن سمرة بن جندب رضي ال عنه سأل عن ابنه فقيل له‪ :‬بشم البارحة؟ قال‪ :‬بشم؟ قالوا‪:‬‬ ‫نعم قال‪ :‬أما إنه لو مات ما صليت عليه‪ ،‬وقال العلماء‪ :‬من السراف‪ :‬الكل بعد الشبع‪ ،‬وقال‬ ‫لقمان لبنه‪ :‬يا بني ل تأكل شبعا فوق شبع فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله‪.‬‬

‫( ‪)2/165‬‬ ‫ُقلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ الّلهِ الّ ِتيَ أَخْرَجَ ِلعِبَا ِد ِه وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّ ْزقِ ُقلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا‬ ‫ظهَرَ‬ ‫حشَ مَا َ‬ ‫صلُ اليَاتِ ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ(‪ُ )32‬قلْ إِ ّنمَا حَرّمَ رَ ّبيَ ا ْلفَوَا ِ‬ ‫خَاِلصَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كَذَِلكَ ُن َف ّ‬ ‫ن وَالِثْ َم وَالْ َب ْغيَ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ وَأَن ُتشْ ِركُواْ بِاللّهِ مَا َلمْ يُنَ ّزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن َتقُولُواْ عَلَى‬ ‫مِ ْنهَا َومَا َبطَ َ‬ ‫ع ًة َولَ َيسْ َتقْ ِدمُونَ(‪)34‬‬ ‫جلٌ فَإِذَا جَاء أَجَُل ُه ْم لَ َيسْتَأْخِرُونَ سَا َ‬ ‫اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ(‪ )33‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ أَ َ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫من حرم زينة ال‪ :‬التحريم‪ :‬المنع‪ ،‬والزينة‪ .‬ما يتزين به من ثياب وغيرها‪.‬‬ ‫والطيبات ‪ :‬جمع طيب وهو الحلل غير المستخبث‪.‬‬ ‫خالصة ‪ :‬ل يشاركهم فيها الكفار لنهم في النار‪.‬‬ ‫الفواحش‪ :‬جمع فاحشة والمراد بها هنا الزنى واللواط السري كالعلني‪.‬‬ ‫والثم ‪ :‬كل ضار قبيح من الخمر وغيرها من سائر الذنوب‪.‬‬ ‫والبغي بغير الحق‪ :‬الظلم بغير قصاص ومعاقبة بالمثل‪.‬‬

‫وأن تشركوا‪ :‬أي الشرك بال وهو عبادة غير ال تعالى‪.‬‬ ‫السلطان‪ :‬الحجة التي تثبت بها الحقوق المختلف فيها أو المتنازع عليها‪.‬‬ ‫أجل ‪ :‬وقت محدد تنتهي إليه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما حرم المشركون الطواف بالبيت بالثياب وطافوا بالبيت عراة بدعوى أنهم ل يطوفون بثياب‬ ‫عصوا ال تعالى فيها‪ ،‬أنكر تعالى ذلك عليهم بقوله‪{ :‬قل من حرم ‪ 1‬زينة ال التي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الزينة‪ :‬هنا الملبس الحسن من غير ما حرّم كالذهب والحرير على الرجال ويطلق لفظ الزينة‬ ‫أيضا على مطلق اللباس ولو لم يكن حسنا‪.‬‬

‫( ‪)2/166‬‬ ‫أخرج لعباده والطيبات من الرزق ‪ }1‬كلحوم ما حرموه من السوائب‪ ،‬فالستفهام في قوله {قل من‬ ‫حرم زينة ال} للنكار‪ .‬ومعنى أخرجها‪ :‬أنه أخرج النبات من الرض كالقطن والكتان ومعادن‬ ‫الحديد لن الدروع من الحديد‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬قل هي للذين ‪ 2‬آمنوا في الحياة الدنيا} بالصالة‪،‬‬ ‫لن المؤمنين علماء فيحسنون العمل والنتاج والصناعة‪ ،‬والكفار تبع هم في ذلك لجهلهم وكسلهم‬ ‫وعدم بصيرتهم‪{ ،‬خالصة ‪ 3‬يوم القيامة} أي هي خالصة للمؤمنين يوم القيامة ل يشاركهم فيها‬ ‫الكفار ولنهم في دار الشقاء النار والعياذ بال تعالى وقوله تعالى {كذلك نفصل اليات لقوم‬ ‫يعلمون} أي كهذا التفصيل والبيان الذي بيناه وفصلناه في هذه اليات وما زلنا نفصل ونبين ما‬ ‫ننزل من آيات القرآن الكريم لقوم يعلمون أما غيرهم من أهل الجهل والضلل فإنهم ل ينتفعون‬ ‫بذلك لنهم محجوبون بظلمة الكفر والشرك ودخان الهواء والشهوات والشبهات‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )32‬أما الية الثانية (‪ )33‬فقد تضمنت بيان أصول المحرمات‬ ‫وأمهات الذنوب وهي‪ :‬الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬والثم‪ :‬وهو سائر المعاصي بترك‬ ‫الواجب أو فعل الحرام والبغي‪ :‬وهو الستطالة على الناس والعتداء عليهم بهضم حقوقهم وأخذ‬ ‫أموالهم وضرب أجسامهم وذلك بغير حق أوجب ذلك العتداء وسوغه كأن يعتدي الشخص‬ ‫فيقتص منه ويعاقب بمثل ما جنى وظلم‪ ،‬والشرك بال تعالى بعبادة غيره‪ ،‬والقول على ال تعالى‬ ‫بدون علم منه وذلك كشرع ما لم يشرع‪ ،‬بتحريم ما لم يحرم‪ ،‬وإيجاب ما لم يوجب‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثانية أما الثالثة والخيرة في هذا السياق (‪ )34‬فقد أخبر تعالى فيها أن‬ ‫لكل أمة أجلً محددا أي وقتا معينا يتم هلكها فيه ل تتقدمه بساعة ول تتأخر عنه بأخرى‪ .‬وفي‬ ‫هذا إشارة أفصح من عبارة وهي أن هلك المم والجماعات والفراد يتم بسبب‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬الطيبات‪ :‬اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما وقد أكل الرسول صلى ال عليه وسلم اللحم‬ ‫والعسل والحلوى والبطيخ والرطب‪ ،‬وإنما الذي يكره الكثار منها والتكلف في شرائها وإعدادها‪،‬‬ ‫وعمر لم ينكر الطيبات وإنما أنكر الكثرة منها‪ ،‬فكاد يرى عدم الجمع بين الطيبات ويكتفي بنوع‬ ‫واحد‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية دليل على التجمل بأحسن الثياب وخاصة في العياد والجمع وزيارة الخوان ومقابلة‬ ‫الوفود‪ ،‬وليس من السنة لبس المرقعات والفوط وليس معنى‪{ :‬ولباس التقوى}‪ :‬أنه لباس الخشن‬ ‫والمرقعات أبدا وإنما هو تقوى ال بامتثال المر واجتناب النهي‪ ،‬وقد تقدم معناها‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫الصحيح‪" :‬إن ال جميل يحب الجمال"‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرىء‪{ :‬خالصةٌ} بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره‪ :‬هي خالصة‪ ،‬وقرىء {خالصة} بالنصب‬ ‫على الحال أي‪ :‬ثابتة لهم في الدنيا حال كونها خالصة لهم يوم القيامة‪.‬‬

‫( ‪)2/167‬‬ ‫انحرافهم عن منهج الحياة‪ ،‬كالمرء يهلك بشرب السم‪ ،‬وبإلقاء نفسه من شاهق‪ ،‬أو إشعال النار في‬ ‫جسمه كذلك ارتكاب أمهات الذنوب وأصول المفاسد التي ذكر تعالى في قوله {قل إنما حرم ربي‬ ‫الفواحش‪ }.....‬من شأنها أن تودي بحياة مرتكبيها ل محالة ما لم يتوبوا منها وتصلح حالهم‬ ‫بالعودة إلى منهج الحياة الذي وضع ال في اليمان والتوحيد والطاعة ل ورسوله بفعل كل أمر‬ ‫وترك كل نهي‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫هن هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬النكار الشديد على من يحرم ما أحل ال من الطيبات كبعض المتنطعين ‪.1‬‬ ‫‪ -2‬المستلذات من الطعام والشراب والمزينات من الثياب وغيرها المؤمنون أولى بها من غيرهم‬ ‫لنهم يحسنون العمل‪ ،‬ويبذلون الجهد لستخراجها والنتفاع بها‪ .‬بخلف أهل الجهالت فإنهم عمي‬ ‫ل يبصرون ومقعدون ل يتحركون‪ .‬وإن قيل العكس هو الصحيح فإن أمم الكفر وأوربا وأمريكا‬ ‫هي التي تقدمت صناعيا وتمتعت بما يتمتع به المؤمنون؟ فالجواب‪ :‬أن المؤمنين صرفوا عن العلم‬ ‫والعمل وأقعدوا عن النتاج والختراع بإفساد أعدائهم لهم عقولهم وعقائدهم‪ ،‬فعوقوهم عن العمل‬ ‫مكرا بهم وخداعا لهم‪ .‬والدليل أن المؤمنين لما كانوا كاملين في إيمانهم كانوا أرقى المم وأكملها‬ ‫حضارة وطهارة وقوة وإنتاجا مع أن الية تقول {‪ ...‬لقوم يعلمون} فإذا حل الجهل محل العلم فل‬ ‫إنتاج ول اختراع ول حضارة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أصول المفاسد وهي الفواحش وما ذكر بعدها إلى {‪.....‬وأن تقولوا على ال ما ل‬ ‫تعلمون}‪.‬‬

‫‪ - 4‬ذكرت هذه المفاسد بطريق التدلي آخرها أخطرها وهكذا أخفها أولها‪.‬‬ ‫‪ -5‬أجل ‪ 2‬المم كأجل الفراد يتم الهلك عند انتظام المرض كامل المة أو أكثر أفرادها كما‬ ‫يهلك الفرد عندما يستشري المرض في كامل جسمه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى النسائي بسند صحيح قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير‬ ‫مخيلة ول سرف فإن ال يحب أن يرى نعمته على عبده" وقال البخاري عن ابن عباس‪" :‬كل ما‬ ‫شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان‪ ،‬سرف‪ ،‬ومخيلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجل‪ :‬هو الوقت الموقت‪ ،‬فأجل الموت هو‪ :‬وقت الموت وأجل الدّين هو وقت حلوله وكل‬ ‫شيء وقّت به شيء فهو أجل له‪.‬‬

‫( ‪)2/168‬‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ‬ ‫سلٌ مّنكُمْ َي ُقصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي َفمَنِ ا ّتقَى وََأصْلَحَ فَلَ َ‬ ‫يَا بَنِي آ َدمَ ِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ رُ ُ‬ ‫صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‪)36‬‬ ‫يَحْزَنُونَ(‪ )35‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُواْ عَ ْنهَا ُأوْلَ ِئكَ َأ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إما يأتينكم‪ :‬أصل إما إن –الشرطية‪ -‬وما زائدة لتقوية الكلم أدغمت فيها (إن) فصارت إما‪.‬‬ ‫يقصون ‪ 1‬عليكم آياتي‪ :‬يتلونها عليكم آية بعد آية مبينين لكم ما دلت عليه من أحكام ال وشرائعه‪،‬‬ ‫ووعده ووعيده‪.‬‬ ‫فمن اتقى‪ :‬أي الشرك فلم يشرك وأصلح نفسه بالعمال الصالحة‪.‬‬ ‫فل خوف عليهم ‪ :‬في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫ول يحزنون ‪ :‬على ما تركوا وراءهم أو فاتهم الحصول عليه من أمور الدنيا‪.‬‬ ‫معنى اليتين ‪:‬‬ ‫هذا النداء جائز أن يكون نداءً عاما لكل بني آدم كما هو ظاهر اللفظ وأن البشرية كلها نوديت به‬ ‫على ألسنة رسلها‪ ،‬وجائز أن يكون خاصا بمشركي العرب وأن يكون المراد من الرسل محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم ذكر بصيغة الجمع تعظيما وتكريما له‪ ،‬وما نوديت إليه البشرية أو مشركوا‬ ‫العرب هو إخبار ال تعالى لهم بأن من جاءه رسول من جنسه يتلو عليه آيات ربه وهي تحمل‬ ‫العلم بال وصفاته وبيان محابه ومساخطه‪ ،‬فمن اتقى ال فترك الشرك به‪ ،‬وأصلح ما أفسده قبل‬ ‫العلم من نفسه وخلقه وعقله وذلك باليمان والعمل الصالح فهؤلء في حكم ال أنه {ل خوف‬ ‫عليهم ول هم يحزنون} في الحياتين ‪ 2‬معا‪ ،‬أما الذين كذبوا بآيات ال التي جاءت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القصص‪ :‬هو إتباع الحديث بعضه بعضا‪.‬‬

‫‪ 2‬أمّا في البرزخ وفي يوم القيامة فالمر ظاهر ل خلف في أنهم ل يخافون ول يحزنون ولكن‬ ‫في الحياة الدنيا يصيبهم الخوف والحزن‪ ،‬ولكن خوفهم وحزنهم ل يكاد يذكر مع خوف وحزن‬ ‫أهل الكفر والشرك‪.‬‬

‫( ‪)2/169‬‬ ‫الرسل بها وقصتها عليهم واستكبروا ‪ 1‬عن العمل بها كما استكبروا عن اليمان بها‪ ،‬فأولئك‬ ‫البعداء من كل خير {أصحاب النار} أي أهلها {هم فيها خالدون} ل يخرجون منها بحال من‬ ‫الحوال‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين ‪:‬‬ ‫‪ -1‬قطع حجة بني آدم بإرسال الرسل إليهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬أول ما يبدأ به في باب التقوى الشرك بأن يتخلى عنه النسان المؤمنين أولً‪.‬‬ ‫‪ -3‬الصلح يكون بالعمال الصالحة التي شرعها ال مزكية للنفوس مطهرة لها‪.‬‬ ‫‪ -4‬التكذيب كالستكبار كلهما مانع من التقوى والعمل الصالح‪ .‬ولذا أصحابهما هم أصحاب‬ ‫النار‪.‬‬ ‫َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَاتِهِ ُأوْلَ ِئكَ يَنَاُلهُمْ َنصِي ُبهُم مّنَ ا ْلكِتَابِ حَتّى إِذَا‬ ‫سهِمْ‬ ‫شهِدُواْ عَلَى أَنفُ ِ‬ ‫جَاء ْتهُمْ رُسُلُنَا يَ َت َوفّوْ َنهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُن ُتمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُو ْا ضَلّواْ عَنّا وَ َ‬ ‫ن وَالِنسِ فِي النّارِ كُّلمَا‬ ‫أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ(‪ )37‬قَالَ ا ْدخُلُواْ فِي ُأ َممٍ قَدْ خََلتْ مِن قَبِْلكُم مّن ا ْلجِ ّ‬ ‫جمِيعًا قَاَلتْ أُخْرَاهُ ْم لُولَهُمْ رَبّنَا َهؤُلء َأضَلّونَا فَآ ِتهِمْ‬ ‫َدخََلتْ ُأمّةٌ ّلعَ َنتْ أُخْ َتهَا حَتّى إِذَا ادّا َركُواْ فِيهَا َ‬ ‫لخْرَاهُمْ َفمَا كَانَ َل ُكمْ‬ ‫ف وََلكِن لّ َتعَْلمُونَ(‪َ )38‬وقَاَلتْ أُولَهُ ْم ُ‬ ‫ض ْع ٌ‬ ‫ض ْعفًا مّنَ النّارِ قَالَ ِل ُكلّ ِ‬ ‫عَذَابًا ِ‬ ‫ضلٍ َفذُوقُواْ ا ْل َعذَابَ ِبمَا كُنتُمْ َتكْسِبُونَ(‪ )39‬إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ‬ ‫عَلَيْنَا مِن َف ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستكبار‪ :‬المبالغة في التكبّر وضمن مع الستكبار العراض‪ ،‬والمعنى‪ :‬واستكبروا فأعرضوا‬ ‫عنها‪.‬‬

‫( ‪)2/170‬‬ ‫سمّ ا ْلخِيَاطِ‬ ‫ج َملُ فِي َ‬ ‫خلُونَ الْجَنّةَ حَتّى يَلِجَ ا ْل َ‬ ‫سمَاء َولَ يَدْ ُ‬ ‫بِآيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُواْ عَ ْنهَا لَ ُتفَتّحُ َلهُمْ أَ ْبوَابُ ال ّ‬ ‫غوَاشٍ َوكَذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ(‪)41‬‬ ‫جهَنّمَ ِمهَا ٌد َومِن َف ْوقِهِمْ َ‬ ‫َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ(‪َ )40‬لهُم مّن َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫فمن أظلم ‪ :‬الظلم وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬ولذا المشرك ظالم لنه وضع العبادة في غير‬ ‫موضعها حيث عبد بها من ل يستحقها‪.‬‬ ‫نصيبهم‪ :‬ما قدر لهم في كتاب المقادير‪.‬‬ ‫رسلنا ‪ :‬المراد بهم ملك الموت وأعوانه‪.‬‬ ‫قالوا ضلوا عنا‪ :‬غابوا عنا فلم نرهم ولم نجدهم‪.‬‬ ‫في أمم ‪ :‬أي في جملة أمم‪.‬‬ ‫اداركو ‪ :‬أي تداركوا ولحق بعضهم بعضا حتى دخلوها كلهم‪.‬‬ ‫أخراهم لولهم ‪ :‬التباع قالوا للرؤساء في الضللة وهم المتبوعون‪.‬‬ ‫تكسبون ‪ :‬من الظلم والشر والفساد‪.‬‬ ‫يلج الجمل في سم الخياط‪ :‬أي يدخل الجمل في ثقب البرة‪.‬‬ ‫المجرمين ‪ :‬الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫مهاد‪ :‬فراش يمتهدونه من النار‪.‬‬ ‫غواش ‪ :‬أغشية يتغطون بها من النار كذلك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى بأنه ل أظلم ول أجهل ول أضل ممن يفترى على ال الكذب فيقول اتخذ ولدا أو أمر‬ ‫بالفواحش‪ ،‬أو حرم كذا وهو لم يحرم‪ ،‬أو كذب بآياته التي جاءت بها رسله فجحدها وعاند في ذلك‬ ‫وكابر‪ ،‬فهؤلء المفترون المكذبون يخبر تعالى أنه {ينالهم نصيبهم من الكتاب}‬

‫( ‪)2/171‬‬ ‫أي ما كتب لهم في اللوح المحفوظ من خير وشر وسعادة أو شقاء ‪{ 1‬حتى ‪ 2‬إذا جاءتهم رسلنا}‬ ‫أي ملك الموت وأعوانه {يتوفونهم} يقولون لهم {أين ما كنتم تدعون من دون ال} أي تعبدون من‬ ‫أولياء؟ فيجيبون قائلين‪{ :‬ضلوا عنا} أي غابوا فلم نرهم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وشهدوا على أنفسهم أنهم‬ ‫كانوا كافرين } ويوم القيامة يقال لهم {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والنس} في‬ ‫النار‪ ،‬فيدخلون {كلما دخلت أمة لعنت أختها} فلعن المشركون بعضهم بعضا‪ ،‬واليهود والنصارى‬ ‫كذلك‪{ ،‬حتى إذا اداركوا فيها جميعا} أي تلحقوا وتم دخولهم النار أخذوا يشتكون {قالت أخراهم‬ ‫لولهم ربنا} أي يا ربنا {هؤلء أضلونا} عن صراطك فلم نعبدك {فأتهم عذابا ضعفا} أي‬ ‫مضاعفا {من النار}‪ ،‬فأجابهم ال تعالى بقوله {لكل ضعف} لكل واحدة منكم ضعف من العذاب‬ ‫{ولكن ل تعلمون}‪ ،‬إذ الدار دار عذاب فهو يتضاعف على كل من فيها‪ ،‬وحينئذ {قالت أولهم‬ ‫لخراهم ما كان لكم علينا من ‪ 3‬فضل‪ ،‬فذوقوا ‪ 4‬العذاب بما كنتم تكسبون} أي من الشرك‬ ‫والفتراء على ال والتكذيب بآياته‪ ،‬ومجانبة طاعته وطاعة رسوله‪.‬‬

‫هذا ما دلت عليه اليات الثلث أما اليتان الرابعة والخامسة فإن الرابعة قررت حكما عظيما وهو‬ ‫أن الذين كذبوا بآيات ال واستكبروا ‪ 5‬عنها فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعاشوا عاد الشرك‬ ‫والشر والفساد هؤلء إذا مات أحدهم وعرجت الملئكة بروحه إلى السماء ل تفتح له أبوب‬ ‫السماء ‪ ،6‬ويكون مآلهم النار كما قال تعالى {ول يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}‬ ‫فعلق دخولهم الجنة على مستحيل وهو دخول الجمل في ثقب البرة‪ ،‬والمعلق عاد مستحيل‬ ‫مستحيل‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وكذلك نجزي المجرمين} على أنفسهم حيث أفسدوها بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الرابعة‪ ،‬وهي قوله تعالى‪{ :‬إن الذين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬في الدنيا ل في الخرة فهم أصحاب النار هم فيها خالدون ول سعادة مع دخول النار‪.‬‬ ‫‪ 2‬حتى هنا‪ :‬ابتدائية وليست غائية إذ هي بداية خبر المكذبين المستكبرين المعرضين‪ .‬قال سيبويه‪:‬‬ ‫حتى‪ ،‬وإمّا‪ ،‬وألّ ل ُيمَلْن لنهن حروف وكتبت حتى بالياء لنها أشبهت سكرى وحبلى‪.‬‬ ‫‪{ 3‬مِنْ} زائدة لتأكيد نفي الفضل‪.‬‬ ‫‪ 4‬الذوق هنا‪ :‬مستعمل للهانة والتشفي والباء في {بما كنتم تكسبون} سببية‪.‬‬ ‫‪ 5‬جملة‪{ :‬إنّ الدين} الخ مستأنفة استئنافا ابتدائيا سيقت لتحقيق خلود الفريقين في النار معا‬ ‫والفريقان هما أولهما وأخراهما في الية إذ كل الفريقين كان مكذبا مستكبرا‪.‬‬ ‫‪ 6‬القول بأنّ قوله تعالى‪{ :‬ل تفتح لهم أبواب السماء}‪ :‬كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الجزاءات‬ ‫اللهية قول باطل لنّه تأويل يبطل به ما أخبر تعالى به من أنّ للسماء أبواب إذ أيّ مانع إن يكون‬ ‫للسماء أبواب ل يدخل معها ملك ول جني ول إنسان إل بإذن ولكل بناء أبواب بحسبه‪.‬‬

‫( ‪)2/172‬‬ ‫كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ل تفتح لهم أبواب السماء ول يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم‬ ‫الخياط ‪ 1‬وكذلك نجزي المجرم}‪.2‬‬ ‫أما الخامسة فقد تضمنت الخبر التالي‪{ :‬لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} أمم أغطية من‬ ‫النار وكما جزى تعالى هؤلء المكذبين المستكبرين والمجرمين يجزي بعدله الظالمين لنفسهم‬ ‫حيث لوثوها وخبثوها بأوضار الذنوب والثام‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬شر الظلم ما كان كذبا على ال وتكذيباَ بشرائعه‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير فتنة القبر ‪ 3‬وعذابه‪.‬‬ ‫‪ -3‬لعن أهل النار بعضهم بعضا حنقا على بعضهم بعضا إذ كان كل واحد سببا في عذاب‬

‫الخرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان جزاء المكذبين بآيات ال والمستكبرين عنها وهو الحرمان من دخول الجنة وكذلك‬ ‫المجرمون والظالمون‪.‬‬ ‫س َعهَا ُأوْلَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‬ ‫ت لَ ُنكَّلفُ َنفْسًا ِإلّ وُ ْ‬ ‫عمِلُواْ الصّالِحَا ِ‬ ‫وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬ ‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا ِلهَذَا‬ ‫غلّ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِ ُم الَ ْنهَا ُر َوقَالُواْ الْ َ‬ ‫‪ )42‬وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ ِ‬ ‫سلُ رَبّنَا بِا ْلحَقّ وَنُودُواْ أَن ِت ْلكُمُ ا ْلجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا‬ ‫َومَا كُنّا لِ َنهْ َت ِديَ َلوْل أَنْ هَدَانَا اللّهُ َلقَدْ جَاءتْ رُ ُ‬ ‫كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ(‪)43‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخياط ‪ :‬أي المخيط‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجرام‪ :‬فعل الجرم‪ ،‬وأجرم إذا فعل الجرم وهو‪ :‬الذنب والذنب‪ :‬هو ما يفسد الروح وينجسها‪،‬‬ ‫فأجرم معناه‪ :‬أفسد‪.‬‬ ‫‪ 3‬أخرج ابن كثير في تفسيره عن أبي داود حديثا طويلً أشتمل على بيان قبض روح العبد‬ ‫والعروج بها إلى السماء ثم العودة بها إلى القبر وما يجري في القبر من فتنة وما يتم للعبد‬ ‫الصالح من سعادة وللكافر من شقاوة فليُرجع إليه‪.‬‬

‫( ‪)2/173‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إل وسعها‪ :‬طاقتها وما تتحمله وتقدر عليه من العمل‪.‬‬ ‫ونزعنا ‪ :‬أي أقلعنا وأخرجنا‪.‬‬ ‫من غل‪ :‬أي من حقد وعداوة‪.‬‬ ‫هدانا لهذا‪ :‬أي للعمل الصالح في الدنيا الذي هذا جزاؤه وهو الجنة‪.‬‬ ‫بما كنتم تعملون‪ :‬أي بسبب أعمالكم الصالحة من صلة وصيام وصدقات وجهاد‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى جزاء أهل التكذيب والستكبار عن اليمان والعمل الصالح وكان شقاءً وحرمانا‬ ‫ذكر جزاء أهل اليمان والعمل الصالح فقال ‪{ :‬والذين آمنوا وعملوا الصالحات}‪ ،‬ولما كان العمل‬ ‫منه الشاق الذي ل يطاق ومنه السهل الذي يقدر عليه قال‪{ :‬ل نكلف نفسا إل وسعها} أي ما تقدر‬ ‫عليه من العمل ويكون في استطاعتها‪ ،‬ثم أخبر عن المؤمنين العاملين للصالحات فقال {أولئك‬ ‫أصحاب الجنة هم فيها خالدون}‪ .‬كما أخبر في الية الثانية أنه طهرهم باطنا فنزع ما في‬ ‫صدورهم من غل ‪ 1‬على بعضهم بعضا‪ ،‬وأن النهار تجري من تحت قصورهم‪ ،‬وأنهم قالوا‬ ‫شاكرين نعم ال عليهم‪{ :‬الحمد ل الذي هدانا لهذا} أي لعمل صالح هذا جزاؤه أي الجنة وما فيها‬

‫من نعيم مقيم‪ ،‬وقرروا حقيقة وهي أن هدايتهم التي كان جزاؤها الجنة لم يكونوا ليحصلوا عليها‬ ‫لول أن ال تعالى هو الذي هداهم فقالوا‪{ :‬وما كنا لنهتدي لول أن هدانا ال}‪ 2‬ثم قالوا وال {لقد‬ ‫جاءت رسل ربنا بالحق} فهاهم أهل الكفر والمعاصي في النار‪ ،‬وها نحن أهل اليمان والطاعات‬ ‫في نعيم الجنة فصدقت الرسل فيما أخبرت به من وعد ووعيد‪ ،‬وناداهم ربهم سبحانه وتعالى‪{ :‬أن‬ ‫تلكم الجنة أورثتموها ‪ 3‬بما كنتم تعملون} فيزداد بذلك نعيمهم وتعظم سعادتهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الغل‪ :‬الحقد الكامن في الصدر أي‪ :‬أذهبنا‪ -‬في الجنة‪ -‬ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا‬ ‫ولذا فل يكون لهم من تحاسد في الجنة على تفاوت درجاتهم في العلو والرتفاع‪ .‬وقال علي‬ ‫رضي ال عنه‪ :‬فينا وال أهل بدر نزلت‪{ :‬ونزعنا ما في صدورهم من غل}‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬كل أهل الجنة يرى مقعده من‬ ‫النار فيقول لول أن ال هداني فيكون له شكرا‪ ،‬وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن‬ ‫ال هداني فيكون له حسرة"‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى مسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت‬ ‫يا رسول ال؟ قال‪ :‬ول أنا إل أن يتغمدني ال برحمة منه وفضل" وعليه فالباء في قوله‪{ :‬بما كنتم‬ ‫تعملون} سببية وليست باء العرض إذ أعمال العبد ل تعادل موضع سوط في الجنة فالعمل مورث‬ ‫بفضل ال تعالى ورحمته‪.‬‬

‫( ‪)2/174‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليمان والعمل الصالح موجبان لدخول الجنة مقتض للكرامة في الدارين‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل مشقة ل تحتمل في الدين الصحيح الذي جاءت به الرسل إل ما كان عقوبة‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل عداوة ول حسد في الجنة‪.‬‬ ‫‪ -4‬الهداية هبة من ال فل تطلب إل منه‪ ،‬ول يحصل عليها إل بطلبها منه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬صدقت الرسل فيما أخْبَ َرتْ به من شأن الغيب وغيره‪.‬‬ ‫حقّا‬ ‫عدَ رَ ّبكُمْ َ‬ ‫حقّا َف َهلْ وَجَدتّم مّا وَ َ‬ ‫وَنَادَى َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَن قَ ْد َوجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ‬ ‫علَى الظّاِلمِينَ(‪ )44‬الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَ ْبغُو َنهَا‬ ‫قَالُواْ َنعَمْ فَأَذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َنهُمْ أَن ّلعْ َنةُ اللّهِ َ‬ ‫حجَابٌ وَعَلَى الَعْرَافِ رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّ ِبسِيمَاهُمْ‬ ‫عوَجًا وَهُم بِالخِ َرةِ كَافِرُونَ(‪ )45‬وَبَيْ َن ُهمَا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط َمعُونَ(‪ )46‬وَإِذَا صُ ِر َفتْ أَ ْبصَارُهُمْ تِ ْلقَاء‬ ‫وَنَا َدوْاْ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ أَن سَلَمٌ عَلَ ْيكُمْ لَمْ َيدْخُلُوهَا وَ ُهمْ يَ ْ‬ ‫جعَلْنَا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)47‬‬ ‫َأصْحَابِ النّارِ قَالُواْ رَبّنَا لَ َت ْ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فأذن مؤذن‪ :‬أي أعلن بأعلى صوته أن لعنة ال على الظالمين‪.‬‬ ‫لعنة ال ‪ :‬أي أمره بطرد الظالمين من الرحمة إلى العذاب‪.‬‬ ‫يصدون عن سبيل ال‪ :‬سبيل ال هي السلم والصد‪ :‬الصرف فهم صرفوا أنفسهم وصرفوا‬ ‫غيرهم‪.‬‬ ‫ويبغونها عوجا ‪ :‬يطلبون الشريعة أن تميل مع ميولهم وشهواتهم فتخدم أغراضهم‪.‬‬ ‫وبينهما حجاب ‪ .‬أي باب أهل الجنة وأهل النار حاجز فاصل وهو سور العراف‪.‬‬ ‫وعلى العراف‪ :‬سور بين الجنة والنار قال تعالى من سورة الحديد {فضرب بينهم بسور}‪.‬‬

‫( ‪)2/175‬‬ ‫يعرفون كلً بسيماهم ‪ :‬أي كل من أهل الجنة وأهل النار بعلماتهم‪.‬‬ ‫صرفت أبصارهم ‪ :‬أي نظروا إلى الجهة التي فيها أصحاب النار‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار فيخبر تعالى أن أصحاب الجنة نادوا‬ ‫أصحاب النار قائلين لهم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به هن الجنة ونعيمها حقا‪ ،‬فهل ‪ 1‬وجدتم أنتم‬ ‫ما وعدكم ربكم من النار وعذابها حقا؟ فأجابوهم‪ :‬نعم ‪ 2‬إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا‪ ،‬وهنا أذن‬ ‫مؤذن قائلً‪ :‬لعنة ‪ 3‬ال على الظالمين الذين يصدون عن سبيل ال التي هي السلم الموصل إلى‬ ‫رضا ال تعالى والجنة‪ ،‬ويبغونها عوجا أي يريدون سبيل ال معوجة تدور معهم حيث داروا في‬ ‫شرورهم ومفاسدهم‪ ،‬وشهواتهم وأهوائهم‪ ،‬وهم بالخرة كافرون أيضا فهؤلء يلعنونهم‪ :‬لعنة ال‬ ‫على الظالمين الذين تلك صفاتهم قال تعالى في الية الثالثة‪{ :‬وبينهما} أي بين أهل الجنة وأهل‬ ‫النار {حجاب} فاصل أي حاجز وهو مكان على مرتفع‪ ،‬وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم‬ ‫وحسناتهم فحبسوا هناك حتى يقضي بين أهل الموقف فيحكم فيهم بدخولهم الجنة إن شاء ال‬ ‫تعالى‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬يعرفون كلً بسيماهم} أي يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهي بياض الوجوه ونضرة النعيم‪،‬‬ ‫ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون‪.‬‬ ‫{ونادوا أصحاب الجنة} أي نادى أصحاب العراف أصحاب الجنة قائلين‪ :‬سلم عليكم يتطمعون‬ ‫بذلك كما قال تعالى {لم يدخلوها وهم يطمعون‪ .‬وإذا صرفت أبصارهم تلقاء ‪ 4‬أصحاب النار} أي‬ ‫نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم زرق أعينهم يكتنفهم العذاب من فوقهم‬ ‫ومن تحت أرجلهم‪ ،‬رفعوا أصواتهم قائلين‪{ :‬ربنا ل تجعلنا مع القوم الظالمين} أي أهل النار لنهم‬ ‫دخلوها بظلمهم والعياذ بال‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا سؤال توبيخ وتعيير ل استفهام واستخبار‪.‬‬ ‫‪ 2‬في نعم لغات‪ :‬فتح النون والعين نعم وكسر العين للفرق بينها وبين النعم التي هي البل والبقر‬ ‫والغنم‪ ،‬وهي حرف إجابة وتكون للعدة والتصديق فمثال العدة نحو‪ :‬أيقوم زيد؟ فتقول‪ :‬نعم أي ل‬ ‫بقيامه ومثال التصديق قولك‪ :‬هل جاء زيد؟ فتقول‪ :‬نعم فتصدقه في مجيئه‪.‬‬ ‫‪ 3‬يروى أن طاووسا دخل على هشام بن عبد الملك فقال له‪ :‬اتق ال واحذر يوم الذان فقال‪ :‬وما‬ ‫يوم الذان؟ قال‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة ال على الظالمين} فصعق هشام فقال‬ ‫طاووس‪ :‬هذا ذلٌ الصفة فكيف ذل المعاينة‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال أهل اللغة‪ :‬لم يأت مصدر على تِفعال سوى حرفين‪ :‬تِلقاء وتبيان‪ .‬وما عداهما فبالفتح نحو‬ ‫تَسيار وتَذكار وتَهمام‪ ،‬أما السماء فكثرة نحو تِمثال ومِفتاح ومِصباح ومِعراج‪.‬‬

‫( ‪)2/176‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار متى أراد أحدهم ذلك بحيث إذا أراد من في‬ ‫الجنة أن ينظر إلى من في النار ويخاطبه تم له ذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬يجوز إطلق لفظ الوعد على الوعيد للمشاكلة أو التهكم كما في هذه اليات‪.‬‬ ‫‪ -3‬التنديد بالصد عن سبيل ال‪ ،‬والظلم والكفر بالخرة وهي أسباب الشقاء في الدار الخرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير مبدأ ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي‪ ،‬ومن استوت حسناته وسيئاته ينجو آخر من‬ ‫ينجو من دخول النار‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجودا‪.‬‬ ‫ج ْم ُعكُ ْم َومَا كُنتُمْ‬ ‫ب الَعْرَافِ ِرجَالً َيعْ ِرفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَن ُكمْ َ‬ ‫وَنَادَى َأصْحَا ُ‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَنتُمْ‬ ‫ح َمةٍ ا ْدخُلُواْ الْجَنّ َة لَ َ‬ ‫سمْ ُت ْم لَ يَنَاُلهُمُ الّلهُ بِرَ ْ‬ ‫تَسْ َتكْبِرُونَ(‪َ )48‬أ َهؤُلء الّذِينَ َأقْ َ‬ ‫صحَابَ الْجَنّةِ أَنْ َأفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَاء َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ‬ ‫تَحْزَنُونَ(‪ )49‬وَنَادَى َأصْحَابُ النّارِ َأ ْ‬ ‫قَالُواْ إِنّ اللّهَ حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ(‪ )50‬الّذِينَ اتّخَذُواْ دِي َن ُهمْ َل ْهوًا وََلعِبًا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْ َيوْمَ‬ ‫حدُونَ(‪)51‬‬ ‫نَنسَا ُهمْ َكمَا نَسُواْ ِلقَاء َي ْو ِمهِمْ َهذَا َومَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا َيجْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بسيماهم ‪ :‬السيما العلمة الدالة على من هي فيه‪.‬‬ ‫جمعكم‪ :‬أي للمال وللرجال كالجيوش‪.‬‬

‫( ‪)2/177‬‬ ‫أهؤلء ‪ :‬إشارة إلى ضعفاء المسلمين وهم في الجنة‪.‬‬ ‫أو مما رزقكم ال‪ :‬أي من الطعام والشراب‪.‬‬ ‫حرمهما ‪ :‬منعهما‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار قال تعالى‪{ :‬ونادى أصحاب‬ ‫العراف رجالً} أي من أهل النار يعرفونهم بسيماهم التي هي سيما أصحاب النار من سواد‬ ‫الوجوه وزرقة العيون نادوهم قائلين‪{ :‬ما أغنى عنكم جمعكم} أي للموال والرجال للحروب‬ ‫والقتال‪ ،‬كما لم يغن عنكم استكباركم عن الحق وترفعكم عن قبوله وها أنتم في أشد ألوان العذاب‪،‬‬ ‫ثم يشيرون لهم إلى ضعفة المسلمين الذين يسخرون منهم في الدنيا ويضربونهم ويهينونهم ‪1‬‬ ‫{أهؤلء الذين أقسمتم} أي حلفتم {ل ينالهم ال برحمة ‪ }2‬ثم يقال لصحاب العراف {ادخلوا ‪3‬‬ ‫الجنة ل خوف عليكم ول أنتم تحزنون }‪.‬‬ ‫وفي الية الثالثة يقول تعالى مخبرا عن أصحاب النار وأصحاب الجنة {ونادى أصحاب النار‬ ‫أصحاب ‪ 4‬الجنة أن أفيضوا علينا من الماء}‪ 5‬وذلك لشدة عطشهم {أو مما رزقكم ال} أي من‬ ‫الطعام وذلك لشدة جوعهم فيقال لهم‪{ :‬إن ال حرمهما} أي شراب الجنة وطعامها {على الكافرين}‬ ‫فل ينالوهما بحال من الحوال‪.‬‬ ‫ثم وصف الكافرين ليعرض جرائمهم التي اقتضت حرمانهم وعذابهم ليكون ذلك عظة وعبرة‬ ‫للكفار من قريش ومن سائر الناس فقال وهو ما تضمنته الية الرابعة {الذين اتخذوا دينهم لهوا‬ ‫ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون} أي‬ ‫نتركهم في عذابهم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا له من اليمان والصالحات‪ ،‬وبسبب جحودهم‬ ‫لياتنا الداعية إلى اليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كبلل وعمار وصهيب وخباب وغبرهم من سائر ضعفة المؤمنين في كل أمة من المم التي‬ ‫وجد فيها مؤمنون مستضعفون‪.‬‬ ‫‪ 2‬جعل إيواء ال تعالى إياهم بدار رحمته التي هي الجنة بمنزلة النيل الذي هو حصول المر‬ ‫المحبوب المطلوب‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في القائل‪ .‬والراجح أنه ال تعالى‪ ،‬وذلك بعد استقرار أهل الجنة فيها وأهل النار في‬ ‫النار ولم يبق إل أصحاب العراف فيقول لهم الرب تبارك وتعالى‪{ :‬ادخلوا الجنة}‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي عن ابن عباس أنه قال‪ :‬لما صار أصحاب العراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج‬

‫بعد اليأس فقالوا‪ :‬يا رب إنّ لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم‪ ،‬فنظروا إليهم‬ ‫وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم‪ ..‬فينادي الرجل أخاه أو قريبه قد احترقتُ فأغثني فيقول له إن‬ ‫ال حرّمهما على الكافرين‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية دليل على أفضلية صدقة الماء‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬أي الصدقة أعجب إليك؟ قال‪ :‬الماء"‬ ‫وليس أدل من حديث الذي سقى كلبا عطشان فشكر ال له فغفر له‪.‬‬

‫( ‪)2/178‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬عدم إغناء المال والرجال أيّ إغناء لمن مات كافرا مشركا من أهل الظلم والفساد‪.‬‬ ‫‪ -2‬بشرى الضعفة من المسلمين بدخول الجنة وسعادتهم فيها‪.‬‬ ‫‪ -3‬تحريم اتخاذ شيء من الدين لهوا ولعبا‪.‬‬ ‫‪ -4‬التحذير من الغترار بالدنيا حتى ينسى العبد آخرته فلم يعد لها ما ينفعه فيها من اليمان‬ ‫وصالح العمال‪.‬‬ ‫حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ(‪َ )52‬هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ تَ ْأوِيلَهُ َيوْمَ‬ ‫وَلَقَدْ جِئْنَاهُم ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ عَلَى عِ ْلمٍ ُهدًى وَرَ ْ‬ ‫ش َفعُواْ لَنَا َأوْ‬ ‫ش َفعَاء فَيَ ْ‬ ‫حقّ َفهَل لّنَا مِن ُ‬ ‫سلُ رَبّنَا بِالْ َ‬ ‫يَأْتِي تَ ْأوِيُلهُ َيقُولُ الّذِينَ َنسُوهُ مِن قَ ْبلُ َقدْ جَاءتْ ُر ُ‬ ‫ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ(‪ )53‬إِنّ رَ ّبكُمُ الّلهُ‬ ‫سهُمْ وَ َ‬ ‫نُرَدّ فَ َن ْع َملَ غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْع َملُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُ َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ ُيغْشِي اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ يَطْلُ ُبهُ حَثِيثًا‬ ‫الّذِي خَلَقَ ال ّ‬ ‫لمْرُ تَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪)54‬‬ ‫ق وَا َ‬ ‫سخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ َألَ َلهُ ا ْلخَلْ ُ‬ ‫س وَا ْل َقمَرَ وَالنّجُومَ مُ َ‬ ‫شمْ َ‬ ‫وَال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ولقد جئناهم ‪ :‬أي أهل أولً ثم سائر الناس‪.‬‬ ‫بكتاب‪ :‬القرآن العظيم‪.‬‬ ‫فصلناه على علم ‪ :‬بيناه على علم منّا فبيّنا حلله وحرامه ووعده ووعيده وقصصه ومواعظه‬ ‫وأمثاله‪.‬‬

‫( ‪)2/179‬‬ ‫تأويله‪ :‬تأويل ما جاء في الكتاب من وعد ووعيد أي عاقبة ما أنذروا به‪.‬‬ ‫وضل عنهم ‪ :‬أي ذهب ولم يعثروا عليه‪.‬‬ ‫في ستة أيام ‪ :‬هي الحد إلى الجمعة‪.‬‬

‫يغشي الليل النهار ‪ :‬يغطي كل واحد منهما الخر عند مجيئه‪.‬‬ ‫حثيثا‪ :‬سريعا بل انقطاع‪.‬‬ ‫مسخرات ‪ :‬مذللت‪.‬‬ ‫أل‪ :‬أداة استفتاح وتنبيه (بمنزلة ألو للهاتف)‪.‬‬ ‫له الخلق والمر ‪ :‬أي له المخلوقات والتصرف فيها وحده ل شريك له‪.‬‬ ‫تبارك‪ :‬أي عظمت قدرته‪ ،‬وجلت عن الحصر خيراته وبركاته‪.‬‬ ‫العالمين‪ :‬كل ما سوى ال تعالى فهو عالم أي علمة على خالقه وإلهه الحق‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد ذلك العرض لحوال الناس يوم القيامة ومشاهد النعيم والجحيم أخبر تعالى أنه جاء قريشا‬ ‫لجل هدايتهم بكتاب عظيم هو القرآن الكريم وفصّله تفصيلً فبين التوحيد ودلئله‪ ،‬والشرك‬ ‫وعوامله‪ ،‬والطاعة وآثارها الحسنة والمعصية وآثارها السيئة في الحال والمآل وجعل الكتاب هدى‬ ‫أي هاديا ورحمة يهتدي به المؤمنون وبه يرحمون‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى (‪ )52‬وهي قوله تعالى‪{ :‬ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم ‪ 1‬هدىً‬ ‫‪ 2‬ورحم ًة لقوم يؤمنون} وأما الية الثانية (‪ )53‬فقد استبطأ الحق تعالى فيها إيمان أهل مكة الذين‬ ‫جاءهم بالكتاب المفصّل المبيّن فقال‪{ :‬هل يَ ْنظُرون} أي ما ينظرون {إلّ تأويله} أي عاقبة ما أخبر‬ ‫به القرآن من القيامة وأهوالها‪ ،‬والنار وعذابها‪ ،‬وعندئذ يؤمنون‪ ،‬وهل ينفع يومئذ اليمان؟ وهاهم‬ ‫أولء يقولون {يوم يأتي تأويله} وينكشف الغطاء عما وعد به‪{ ،‬يقول الذين نسوه من قبل} أي قبل‬ ‫وقوعه‪ ،‬وذلك في الحياة الدنيا‪ ،‬نسوه فلم يعملوا بما ينجيهم فيه من العذاب يقولون‪{ :‬قد جاءت‬ ‫رسل ربنا بالحق} اعترفوا بما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬منا به‪ ،‬فلم يقع فيه سهو ول غلط وحاشاه تعالى أن يسهو أو يغلط‪.‬‬ ‫‪{ 2‬هدى ورحمة} منصوبان على الحال‪ ،‬ويصح فيهما الرفع والخفض فالرفع على البتداء أي‪:‬‬ ‫هو هدى ورحمة‪ ،‬والخفض على النعت لكتاب أي‪ :‬ذي هداية ورحمة‪ ،‬وخُص المؤمنون بالهدى‬ ‫والرحمة لنهم أحياء‪ ،‬وأمّا الكافرون فهم أموات‪.‬‬

‫( ‪)2/180‬‬ ‫كانوا به يجحدون ويكذبون ثم يتمنون ما ل يتحقّق لهم أبدا فيقولون‪{ :‬فهل ‪ 1‬لنا من شفعاء فيشفعوا‬ ‫لنا؟ أو نردّ} إلى الدنيا {فنعمل غير الذي كنا نعمل} من الشرك والشر والفساد‪ .‬وتذهب تمنياتهم‬ ‫عهُمْ إل العلن التالي‪{ :‬قد خسروا ‪ 2‬أنفسهم وضل عنهم ما كانوا‬ ‫أدراج الرياح‪ ،‬ولم يرُ ْ‬ ‫يفترون} ‪ ،‬خسروا أنفسهم في جهنم‪ ،‬وضاع منهم كلّ أمل وغاب عنهم ما كانوا يفترون من أنّ‬

‫آلهتهم وأولياءهم يشفعون لهم فينجونهم من النار ويدخلونهم الجنة‪.‬‬ ‫وفي الية الخيرة يقول تعالى لولئك المتباطئين في إيمانهم {إنّ ربّكم} الذي يُحبّ أن تعبدوه‬ ‫وتدعوه وتتقربوا إليه وتطيعوه {الُ الذي خلق السموات والرض في ستة أيام ثم استوى على‬ ‫العرش ُيغْشِي اللّ ْيلَ النّهار يطلبه ‪ 3‬حثيثا والشمس والقمرَ والنجّومَ مسخراتٍ بأمره} هذا هو ربكم‬ ‫الحق وإلهكم الذي ل إله لكم غيره‪ ،‬ول ربّ لكم سواه‪ ،‬أمّا الصنام والوثان فلن تكون ربّا ول‬ ‫إلها لحد أبدا لنّها مخلوقة غير خالقة وعاجزة عن نفع نفسها‪ ،‬ودفع الضّر عنها فكيف بغيرها؟‬ ‫إنّ ربّكم ومعبودكم الحقّ الذي له ‪ 4‬الخلق كلّه ملكا وتصرفا وله المر وحده يتصرف كيف يشاء‬ ‫في الملكوت كله‪ .‬علويّه وسفليّه فتبارك ال رب العالمين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل ينفع اليمان عند معاينة الموت والعذاب كما ل ينفع يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -2‬يحسن التثبت في المر والتأني عند العمل وترك العجلة‪ ،‬فال قادرٌ على خلق السمّوات‬ ‫والرض في ساعة ولكن خلقها في ستة ‪ 5‬أيام بمقدار أيام الدّنيا تعليما وإرشادا إلى التثبت في‬ ‫المور والتأني فيها‪.‬‬ ‫‪ -3‬صفة من صفات الرب تعالى التي يجب اليمان بها ويحرم تأويلها أو تكييفها وهي‬ ‫__________‬ ‫‪ { 1‬فهل لنا من شفعاء} ؟ الستفهام مشوب بالتمني‪.‬‬ ‫‪ 2‬خسران النفس أكبر خسران إذ هو آخر ما يخسر‪ ،‬فإنّ مَنْ خسر نفسه فقد خسر كل شيء قال‬ ‫تعالى ‪{ :‬قل إنّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} ومعنى‪ :‬خسران المس‪ :‬عدم‬ ‫النتفاع بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬يطلبه طلبا حثيثا أي سريعا‪ ،‬إذ الحث‪ :‬العجال والسرعة‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من لم يحمد ال على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه‬ ‫فقد كفر وحبط عمله" أخرجه ابن كثير نقلً عن ابن جرير‪ .‬وقال ابن عيينة‪ :‬فرّق ال بين الخلق‬ ‫والمر فمن جمع بينهما لقد كفر إذ قال‪ { :‬أل له الخلق والمر} فالخلق غير المر فمن قال‪ :‬المر‬ ‫مخلوق فقد كفر‪.‬‬ ‫‪ 5‬أصل ستة‪ :‬سدسة فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليها فصارت‬ ‫ستة ولذا تصغر على سديسة وتجمع على أسداس‪ ،‬والجمع والتصغير يردّان السماء إلى أصولها‪،‬‬ ‫ويقال‪ :‬جاء فلن سادس ستة‪.‬‬

‫( ‪)2/181‬‬

‫استواؤه تعالى على عرشه‪1 .‬‬ ‫‪ -4‬انحصار الخلق كلّ الخلق فيه تعالى فل خالق إل هو‪ ،‬والمر كذلك فل آمر ول ناهي غيره‪.‬‬ ‫هنا قال عمر‪ :‬من بقي له شيء فليطلبه إذ لم يبق شيء ما دام الخلق والمر كلهما ل‪.‬‬ ‫حهَا‬ ‫حبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ(‪َ )55‬ولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ‬ ‫خفْيَةً إِنّ ُه لَ يُ ِ‬ ‫ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعًا َو ُ‬ ‫حسِنِينَ(‪)56‬‬ ‫ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ ا ْلمُ ْ‬ ‫ط َمعًا إِنّ َر ْ‬ ‫خ ْوفًا وَ َ‬ ‫وَادْعُوهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ادعوا ربكم ‪ :‬سلوه حوائجكم الدنيوية والخروية فإنّه ربّكم فل تستحيوا من سؤاله‪.‬‬ ‫تضرعا وخفية ‪ :‬أي حال كونكم ضارعين متذللين مخفي الدعاء غير رافعين أصواتكم به‪.‬‬ ‫المعتدين‪ :‬أي في الدعاء وغيره والعتداء في الدعاء أن يسأل ال ما لم تجر سنته بإعطائه أو‬ ‫إيجاده أو تغييره كأن يسأل أن يكون نبيا أو أن يرد طفلً أو صغيرا‪ ،‬أو يرفع صوته بالدعاء‪.‬‬ ‫ول تفسدوا في الرض‪ :‬أي بالشرك والمعاصي بعد إصلحها بالتوحيد والطاعات‪.‬‬ ‫المحسنين ‪ :‬الذين يحسنون أعمالهم ونياتهم‪ ،‬بمراقبتهم ال تعالى في كل أحوالهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما عرّف تعالى عباده بنفسه وأنه ربهم الحق وإلههم‪ ،‬وأنه الخالق المر المتصرف بيده كل شيء‬ ‫أمرهم إرشادا لهم أن يدعوه‪ ،‬وبين لهم الحال التي يدعونه عليها‪ ،‬ليستجيب لهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أحسن ما يؤثر في مسألة الستواء قول مالك رحمه ال تعالى إذ قال‪ :‬الستواء معلوم‬ ‫والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة‪ ،‬ويروى مثله عن أم سلمة رضي ال عنها‪.‬‬

‫( ‪)2/182‬‬ ‫فقال‪{ :‬ادعوا ربكم تضرعا‪ }1‬أي تذللً وخشوعا {وخفية} ‪ 2‬أي سرا ل جهرا‪ ،‬ونهاهم عن‬ ‫العتداء في الدعاء حيث أعلمهم أنه ل يحب المعتدين‪ ،‬والعتداء في الدعاء أي يُدْعَى غير ال‬ ‫تعالى أو يدعى معه غيره‪ ،‬ومنه طلب ذوات السباب بدون إعداد أسبابها‪ ،‬أو سؤال ما لم تجر‬ ‫سنة ال به كسؤال المرء أن يكون نبيا أو يرد من كهولته إلى شبابه أو من شبابه إلى طفولته‪.‬‬ ‫ثم بعد هذا الرشاد والتوجيه إلى ما يكملهم ويسعدهم نهاهم عن الفساد في الرض بعد أن أصلحها‬ ‫تعالى والفساد في الرض يكون بالشرك والمعاصي‪ ،‬والمعاصي تشمل سائر المحرمات كقتل‬ ‫الناس وغصب أموالهم وإفساد زروعهم وإفساد عقولهم بالسحر والمخدرات وأعراضهم بالزنى‬ ‫والموبقات‪ .‬ومرة أخرى يحضهم على دعائه لن الدعاء هو العبادة وفي الحديث الصحيح "الدعاء‬ ‫هو العبادة" فقال‪ :‬ادعوا ربكم أي سلوه حاجاتكم حال كونكم في دعائكم خائفين من عذابه طامعين‬ ‫راجين رحمته وبين لهم أن رحمته قريب ‪ 3‬من المحسنين الذين يحسنون نيّاتهم وأعمالهم ومن‬

‫ذلك الدعاء فمن أحسن الدعاء ظفر بالجابة‪ ،‬فثواب المحسنين قريب الحصول بخلف المسيئين‬ ‫فإنه ل يستجاب لهم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب دعاء ال تعالى فإن الدعاء هو العبادة‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان آداب الدعاء وهو‪ :‬أن يكون الداعي ضارعا متذللً‪ ،‬وأن يخفي دعاءه فل يجهر به‪ ،‬وأن‬ ‫يكون حال الدعاء خائفا طامعا‪ ،4‬وأن ل يعتدي في الدعاء بدعاء غير ال تعالى أو سؤال ما لم‬ ‫تجر سنة ال بإعطائه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الفساد في الرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها ال تعالى بالسلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬الترغيب في الحسان مطلقا خاصا وعاما حيث أن ال تعالى يحب أهله‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في رفع اليدين في الدعاء والكثرون على استحبابه لفعله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أنه صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي"‪.‬‬ ‫‪ 3‬عدم تأنيث قريب مع أنه خبر عن مؤنث‪ ،‬تكلم فيه كثيرا وأحسن ما قيل في مثله أن لفظ قريب‬ ‫وبعيد إذا أطلق على النسب تعيّن التذكير والتأنيث بحسب المخبر عنه نحو‪ :‬زيد قريب عمر‪،‬‬ ‫وعائشة قريبة بكر مثل‪ ،‬وما كان لغير النسب جاز تذكيره وتأنيثه قال تعالى‪{ :‬وما يدريك لعل‬ ‫ن الوصف عائد‬ ‫الساعة تكون قريبا} وقال‪{ :‬وما هي من الظالمين ببعيد} فذكّر في الموضعين مع أ ّ‬ ‫على مؤنث‪.‬‬ ‫‪ 4‬ويصح نصب خوفا وطمعا مفعولين لجله أي ادعوه لجل الخوف منه والطمع فيه‪ ،‬ونصبهما‬ ‫على الحال كما في التفسير حسن أيضا‪.‬‬

‫( ‪)2/183‬‬ ‫سقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّ ّيتٍ فَأَنزَلْنَا ِبهِ‬ ‫حمَتِهِ حَتّى إِذَا َأقَّلتْ سَحَابًا ِثقَالً ُ‬ ‫سلُ الرّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ َي َديْ رَ ْ‬ ‫وَ ُهوَ الّذِي يُرْ ِ‬ ‫ا ْلمَاء فََأخْرَجْنَا ِبهِ مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َكذَِلكَ نُخْرِجُ الْموْتَى َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ(‪ )57‬وَالْبََلدُ الطّ ّيبُ َيخْرُجُ‬ ‫شكُرُونَ(‪)58‬‬ ‫ث لَ يَخْرُجُ ِإلّ َنكِدًا كَذَِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ يَ ْ‬ ‫نَبَاتُهُ بِِإذْنِ رَبّ ِه وَالّذِي خَ ُب َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الرياح‪ :‬جمع ريح وهو الهواء المتحرك‪.‬‬ ‫بشيرا‪ : 1‬جمع بشير أي مبشرات بقرب نزول المطر‪ ،‬قرىء نشرا أي تنشر السحاب للمطار‪.‬‬ ‫رحمته ‪ :‬أي رحمة ال تعالى وهي المطر‪.‬‬ ‫أقلت سحابا ثقالً ‪ :‬أي حملت سحابا ثقالً مشبعا ببخار الماء‪.‬‬

‫ميت ‪ :‬ل نبات به ول عب ول كل‪.‬‬ ‫كذلك نخرج الموتى ‪ :‬أي كذلك نحيي الموتى ونخرجهم من قبورهم أحياء‪.‬‬ ‫تذكرون‪ :‬تذكرون فتؤمنون بالبعث والجزاء‪.‬‬ ‫الطيب ‪ :‬أي الطيب التربة‪.‬‬ ‫خبث ‪ :‬أي خبثت تربته بأن كانت سبخة‪.‬‬ ‫إل َنكِدا‪ :‬أي إل عسرا‪.‬‬ ‫نصرف اليات‪ :‬أي ننوعها ونخالف بين أساليبها ونذكر في بعضها ما لم نذكره في بعضها للهداية‬ ‫والتعليم‪.‬‬ ‫لقوم يشكرون ‪ :‬لنهم هم الذين ينتفعون بالنعم بشكرها بصرفها في محاب ال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كرسل جمع رسول‪ ،‬وسكّن بشرا للتخفيف كما تسكن السين في رُسُل فيقال‪ُ :‬رسْل على وزن‬ ‫ُفعْل‪.‬‬

‫( ‪)2/184‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في بيان مظاهر القدرة الربانية والرحمة اللهية الموجبة لعبادته تعالى وحده‬ ‫دون سواه قال تعالى {وهو الذي يرسل الرياح بشرا} وهو أي ربكم الحق الذي ل إله إل هو‬ ‫وبشرا أي مبشرات ‪ 1‬ونشرا أي تنشر الرياح تحمل السحب الثقال ليسقي الرض الميتة فتحيا‬ ‫بالزروع والنباتات لتأكلوا وترعوا أنعامكم‪ ،‬وبمثل هذا التدبير ني إنزال المطر وإحياء الرض‬ ‫بعد موتها يحييكم بعد موتكم فيخرجكم من قبوركم أحياء ليحاسبكم على كسبكم في هذه الدار‬ ‫ويجزيكم به الخير بالخير والشر بمثله جزاء عادلً ل ظلم فيه وهذا الفعل الدال على القدرة‬ ‫والرحمة ولطف التدبير يُريكموه فترونه بأبصاركم لعلكم به تذكرون أن القادر على إحياء موات‬ ‫الرض قادر على إحياء موات الجسام فتؤمنوا بلقاء ربكم وتوقنوا به فتعملوا بمقتضى ما يسعدكم‬ ‫ول يشقيكم فيه‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى (‪{ )57‬وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} أي المطر‬ ‫{حتى إذا أقلّت} أي حملت {سحابا ثقالً} أي ببخار الماء {سقناه} بقدرتنا ولطف تدبيرنا {لبلد ميت‬ ‫‪ }2‬ل حياة به ل نبات ول زرع‪ ،‬ول عشب {فأنزلنا به} أي بالسحاب {الماء} العذب الفرات‪،‬‬ ‫{فأخرجنا به من كل الثمرات} المختلفة اللوان والروائح والطعوم {كذلك نخرج الموتى} كهذا‬ ‫الخراج للنبات من الرض الميتة نخرج الموتى ‪ 3‬من قبورهم وعملنا هذا نسمعكم إياه ونريكموه‬ ‫بأبصاركم رجاء أن تذكروا فتذكروا أن القادر على إحياء الرض قادر على إحياء الموتى رحمة‬

‫منا بكم وإحسانا منا إليكم‪.‬‬ ‫أما الية الثانية (‪ )58‬فقد تضمنت مثلً ضربه ال تعالى للعبد المؤمن والكافر إثر بيان قدرته على‬ ‫إحياء الناس بعد موتهم فقال تعالى‪{ :‬والبلد الطيب} أي طيب التربة {يخرج نباته بإذن ربه} وذلك‬ ‫بعد إنزال المطر به‪ ،‬وهذا مثل العبد المؤمن ذي القلب الحي الطيب إذا سمع ما ينزل من اليات‬ ‫يزداد إيمانه وتكثر أعماله الصالحة {والذي خبث} أي والبلد الذي تربته خبيثة سبخة أو حمأة‬ ‫عندما ينزل به المطر ل يخرج نباته إل نكدا‪ 4‬عسرا قليلً غير‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء {بُشرا} بضم الباء‪ ،‬وقرئ {نشرا} بالنون المضمومة‪ ،‬وهما قراءتان سبعيتان وفسرت‬ ‫الكلمتان بحسب ما تدلن عليه فتأمل‪ ،‬وفيهما قراءات أخرى من حيث الحركات كضم الباء مع‬ ‫الشين‪ ،‬وبشرى باللف المقصورة‪.‬‬ ‫‪ 2‬البلد والبلدة بمعنى ويجمع على بلد وبلدان‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى مسلم قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ثم يرسل ال أو قال‪ :‬ينزل ال مطرا كأنّه الطلّ فتنبت‬ ‫منه أجساد الناس‪ ،‬ثم قال‪:‬أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون" الحديث‪.‬‬ ‫‪ 4‬النكد‪ :‬العسر الممتنع من إعطاء الخير من الناس‪ ،‬وشبه به البلد الخبيث التربة كذات الحجارة‬ ‫أو السبخة‪.‬‬

‫( ‪)2/185‬‬ ‫صالح وهذا مثل الكافر عندما يسمع اليات القرآنية ل يقبل عليها ول ينتفع بها في خُلقه ول‬ ‫سلوكه فل يعمل خيرا ول يترك شرا‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬كذلك نصرف اليات} أي ببيان مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته‬ ‫وضرب المثال وسوق الشواهد والعبر {لقوم يشكرون} إذ هم المنتفعون بها أما الكافرون‬ ‫الجاحدون فأنى لهم النتفاع بها وهم ل يعرفون الخير ول ينكرون الشر‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء إذ هي من أهم أركان اليمان‪.‬‬ ‫‪ -2‬الستدلل بالحاضر على الغائب وهو من العلوم النافعة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حسن ضرب المثال لتقريب المعاني إلى الذهان‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة الشكر وهو صرف النعمة فيما من أجله وهبها ال تعالى للعبد‪.‬‬ ‫عذَابَ َيوْمٍ‬ ‫َلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َلكُم مّنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ إِ ّنيَ أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ‬ ‫عَظِيمٍ(‪ )59‬قَالَ ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَلٍ مّبِينٍ(‪ )60‬قَالَ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَلَ ٌة وََلكِنّي‬

‫لتِ رَبّي وَأَنصَحُ َلكُ ْم وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ(‪)62‬‬ ‫رَسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )61‬أُبَّل ُغ ُكمْ رِسَا َ‬ ‫حمُونَ(‪َ )63‬فكَذّبُوهُ‬ ‫جلٍ مّنكُمْ لِيُنذِ َركُ ْم وَلِتَ ّتقُواْ وََلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬ ‫َأوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ِذكْرٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَلَى رَ ُ‬ ‫عمِينَ(‪)64‬‬ ‫فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما َ‬

‫( ‪)2/186‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫نوحا ‪ :‬هذا أول الرسل هذا العبد الشكور هو نوح بن َلمْك بن متوشلخ بن أخنوخ أي أدريس ‪1‬‬ ‫عليهما السلم‪ ،‬أحد أولى العزم الخمسة من الرسل عاش داعيا وهاديا ومعلما ألفا ومائتين وأربعين‬ ‫سنة‪ ،‬ومدة الدعوة ألف سنة إلّ خمسين عاما‪ ،‬وما بعدها عاشها هاديا ومعلما وللمؤمنين‪.‬‬ ‫عذاب يوم عظيم ‪ :‬هو عذاب يوم القيامة‪.‬‬ ‫المل‪ :‬أشراف القوم ورؤساؤهم الذين يملون العين والمجلس‪.‬‬ ‫وأنصح لكم ‪ :‬أريد لكم الخير ل غير‪.‬‬ ‫أوَ عجبتم‪ :‬الستفهام للنكار‪ ،‬وعجبتم الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة‪ :‬هي كذبتم أي أكذبتم‬ ‫وعجبتم‪.‬‬ ‫لينذركم‪ :‬أي العذاب المترتب على الكفر والمعاصي‪.‬‬ ‫ولتتقوا‪ :‬أي ال تعالى باليمان به وتوحيده وطاعته فترحمون فل تعذبون‪.‬‬ ‫والذين معه في الفلك‪ :‬هم المؤمنون من قومه والفلك هي السفينة التي صنعها بأمر ال تعالى‬ ‫وعونه‪.‬‬ ‫عمين ‪ :‬جمع عمٍ‪ 2‬وهو أعمى البصيرة أما أعمى العينين يقال فيه أعمى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا شروع في ذكر قصص ستة من الرسل وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم‬ ‫السلم والمراد من ذكر هذا القصص هو تنويع أسلوب الدعوة ليشاهد المدعون من كفار قريش‬ ‫صورا ناطقة ومشاهد حية لمم سبقت وكيف كانت بدايتها وبم ختمت نهايتها‪ ،‬وهي ل تختلف إل‬ ‫يسيرا عما هم يعيشونه من أحداث الدعوة والصراع الدائر بينهم وبين نبيهم لعلهم يتعظون‪ ،.‬ومع‬ ‫هذا فالقصص يقرر نبوة محمد صلى ال عليه وسلم إذ لو لم يكن رسولً يوحى إليه لما تأتى له‬ ‫أن يقص من أخبار الماضين ما بهر العقول كما أن المؤمنين مع نبيهم يكتسبون من العبر ما‬ ‫يحملهم على الثبات والصبر‪ ،‬ويجنبهم القنوط واليأس من حسن العافية والظفر والنصر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الظاهر أن إدريس هنا ليس هو إدريس النبي الرسول عليه السلم‪ -‬وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬رجل عمٍ أي جاهل بكذا‪.‬‬

‫( ‪)2/187‬‬ ‫وهذا أول قصص بقوله تعالى فيه {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ‪ }1‬أي وعزتنا لقد أرسلنا نوحا إلى‬ ‫قومه كما أرسلناك أنت يا رسولنا إلى قومك من العرب والعجم‪ ،‬فقال‪ :‬أي نوح في دعوته‪{ :‬يا‬ ‫قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره ‪ }2‬أي ليس لكم على الحقيقة إله غيره‪ ،‬إذ إلله الحق من يخلق‬ ‫ويرزق ويدبر فيحيي ويميت ويعطي ويمنع‪ ،‬ويضر وينفع‪ ،‬ويسمع ويبصر فأين هذا من آلهة‬ ‫نحتموها بأيديكم‪ ،‬ووضعتموها في بيوتكم عمياء ل تبصر صماء ل تسمع بكماء ل تنطق فكيف‬ ‫يصح أن يطلق عليها اسم الله وتعبد {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} أنذرهم عذاب يوم‬ ‫القيامة إن هم أصروا على الشرك والعصيان فأجابه المل ‪ 3‬منهم وهم أهل الحل والعقد في البلد‬ ‫قائلين‪{ :‬إنا لنراك في ضلل مبين} بسبب موقفك العدائي هذا للهتنا‪ ،‬ولعبادتنا إياها فأجاب عليه‬ ‫السلم قائلً‪{ :‬يا قوم ليس بي ضللة} مجرد ضللة فكيف بالضلل كله كما تقولون‪{ ،‬ولكني‬ ‫رسول من رب العالمين} أي إليكم {أبلغكم رسالت ربي وأنصح ‪ 4‬لكم} أي بما هو خير لكم في‬ ‫حالكم ومآلكم‪ ،‬واعلموا أني {وأعلم من ال ما ل تعلمون} فأنا على علم بما عليه ربي من عظمة‬ ‫وسلطان‪ ،‬وجلل‪ ،‬وجمال‪ ،‬وما عنده من رحمة وإحسان‪ ،‬وما لديه من نكال وعذاب‪ ،‬وأنتم ل‬ ‫تعلمون فاتقوا ال إذا وأطيعوني يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى آجالكم‪ ،‬ول يعجل بفنائكم‬ ‫وواصل حديثه معهم وقد دام ألف سنة إل خمسين عاما قائلً‪ :‬أكذبتم بما دعوتكم إليه وجئتكم به‬ ‫وعجبتم ‪ 5‬أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم‪ ،‬ولتتقوا ال بتوحيده وعبادته وطاعته‬ ‫رجاء أن ترحموا فل تعذبوا أمن هذا يتعجب العقلء؟ وكانت النتيجة لهذه الدعوة المباركة الخيّرة‬ ‫أن كذبوه فأنجاه ربه والمؤمنين معه‪ ،‬وأغرق الظالمين المكذبين‪ ،‬لنهم كانوا قوما عمين فل‬ ‫يستحقون البقاء والنجاة قال تعالى {فكذبوه فأنجيناه والذين معه في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نوح‪ :‬هو أوّل الرسل من حيث أنه حارب الشرك ودعا إلى التوحيد‪ ،‬وهل إدريس من ذريته أو‬ ‫من آبائه خلف‪ ،‬أمّا شيت بن آدم فقطعا هو من آبائه‪.‬‬ ‫‪ 2‬غيره‪ :‬مرفوع على النعت لنه المرفوع تقديرا‪ ،‬إذ الصل رفعه‪ ،‬وجُرّ بحرف الجرّ الزائد الذي‬ ‫هو مِنْ‪.‬‬ ‫‪ 3‬المل‪ :‬هم أشراف القوم ورؤساؤهم الذين إذا نظر إليهم ملوا العين وإذا جلسوا ملوا المجلس‪،‬‬ ‫هذا أصل الكلمة‪.‬‬ ‫‪ 4‬النصح‪ :‬إخلص القول والعمل من شوائب الفساد‪ ،‬بمعنى تخليص القول أو العمل مما هو ضار‬ ‫أو غير نافع للمنصوح له‪ ،‬ويقال نصحه ونصح له والمعنى واحد‪ ،‬والسم النصيحة‪ ،‬والناصح‬ ‫الخالص من العسل مثل الناصح الذي ل شائبة فيه‪.‬‬

‫‪ 5‬قوله تعالى‪ { :‬أو عجبتم} الهمزة للستفهام‪ ،‬والواو عاطفة على جملة محذوفة كما هي في‬ ‫التفسير‪.‬‬

‫( ‪)2/188‬‬ ‫الفلك ‪ ،1‬وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ‪ }2‬ل يبصرون اليات ول يرون النذر‬ ‫والشواهد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير نبوة محمد صلى ال عليه وسلم كنبوة نوح عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير وتأكيد التوحيد‪ ،‬وبيان معنى ل إله إل ال‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من عذاب يوم القيامة بالتذكير به‪.‬‬ ‫‪ -4‬أصحاب المنافع من مراكز وغيرها هم الذين يردون دعوه الحق لمنافاتها للباطل‪.‬‬ ‫‪ -5‬تقرير مبدأ العاقبة للمتقين‪.‬‬ ‫‪ -6‬عمى القلوب أخطرهن عمى العيون على صاحبه‪.‬‬ ‫وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُم مّنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَ تَ ّتقُونَ(‪ )65‬قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ‬ ‫سفَاهَةٌ‬ ‫سفَاهَةٍ وِإِنّا لَنَظُ ّنكَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ(‪ )66‬قَالَ يَا َقوْمِ لَ ْيسَ بِي َ‬ ‫َكفَرُواْ مِن َق ْومِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي َ‬ ‫وََلكِنّي رَسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )67‬أُبَّل ُغكُمْ ِرسَالتِ رَبّي وَأَنَاْ َلكُمْ نَاصِحٌ َأمِينٌ(‪َ )68‬أوَعَجِبْتُمْ أَن‬ ‫جعََلكُمْ خَُلفَاء مِن َبعْدِ َقوْمِ نُوحٍ وَزَا َدكُمْ‬ ‫جلٍ مّنكُمْ لِيُنذِ َركُ ْم وَاذكُرُواْ ِإذْ َ‬ ‫جَاءكُمْ ِذكْرٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَلَى رَ ُ‬ ‫سطَةً فَا ْذكُرُواْ آلء اللّهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ(‪)69‬‬ ‫فِي الْخَ ْلقِ بَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفلك يكون واحدا وجمعا ويذكر ويؤنث‪.‬‬ ‫عمٍ بكذا أي‪ :‬جاهل‬ ‫‪{ 2‬عمين} أي‪ :‬عن الحق وعن معرفة ال وقدرته ولطفه‪ ،‬وإحسانه يقال رجلٌ َ‬ ‫به ل يعرفه‪.‬‬

‫( ‪)2/189‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإلى عاد‪ :‬أي ولقد أرسلنا إلى عاد وهم قبيلة عاد‪ ،‬وعاد أبو القبيلة وهو عاد بن عوص ابن إرم‬ ‫بن سام بن نوح عليه السلم‪.‬‬ ‫أخاهم هودا ‪ :‬أخاهم في النسب ل في الدين‪ .‬وهود هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح‬

‫عليه السلم‪.‬‬ ‫أفل تتقون‪ :‬أي أتصرّون على الشرك فل تتّقون عذاب ال باليمان به وتوحيده‪ ،‬والستفهام‬ ‫إنكاري أي ينكر عليهم عدم تقواهم ل عز وجل‪.‬‬ ‫خفّة العقل‪ ،‬وقلّة الدراك والحلم‪.‬‬ ‫سفَه وهو ِ‬ ‫في سفاهة ‪ :‬السفاهة كال ّ‬ ‫أمين‪ :‬ل أخونكم ول أغشكم ول أكْذِبُكم‪ ،‬كما أني مأمون على رسالتي ل أفرط في إبلغها‪.‬‬ ‫بسطة ‪ :‬أي طولً في الجسام‪ ،‬إذ كانوا عمالق من عظم ص أجسادهم وطولها‪.‬‬ ‫ي وإ ْلوٌ والجمع آلء‪.‬‬ ‫ى واْل ٌ‬ ‫آلء ال ‪ :‬نعمه واحدها أَلىً وإل ً‬ ‫تفلحون‪ :‬بالنجاة من النار في الخرة‪ ،‬والهلك في الدنيا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫صصُ هود عليه السلم مع قومه عاد الولى التي أهلكها ال تعالى‬ ‫هذا هو القصص الثاني‪َ ،‬ق َ‬ ‫بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام‪ .‬قوله تعالى {وإلى عاد ‪ }1‬أي وأرسلنا‬ ‫إلى قبيلة عاد أخاهم من النسب هودا فماذا قال لهم {قال يا قوم اعبدوا ال} أي وحدوه في العبادة‬ ‫ول تعبدوا معه آلهة أخرى‪ .‬وقوله‪{ :‬مالكم من إله غيره} أي ليس لكم أي إله غير ال‪ ،‬إذ ال هو‬ ‫الله الحق وما عداه فآلهة باطلة‪ ،‬لنه تعالى يخلق وهم ل يخلقون‪ .‬ويرزق وهم ل يرزقون ويدبر‬ ‫الحياة بكل ما فيها وهم مدبّرون ل يملكون نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا فكيف‬ ‫يكونون آلهة‪ .‬ثم حضهم على التقوى وأنكر عليهم تركهم لها فقال عليه السلم لهم ‪{ :‬أفل تتقون}‬ ‫أي ال ربّكم فتتركوا الشرك وتوحدوه؟ فأجاب المل الذين كفروا من قومه‪ ،‬بأسوأ إجابة وذلك‬ ‫لكبريائهم واغترارهم فقالوا‪{ :‬إنا لنراك في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عاد‪ :‬آمّة عظيمة كانوا أكثر من عشر قبائل‪ ،‬ومنازلهم كانت ببلد العرب من حضرموت‬ ‫والشّحر إلى عُمان‪ ،‬وعاد اسم القبيلة وصرف لنّه ثلثي ساكن الوسط كهند ودعد‪.‬‬

‫( ‪)2/190‬‬ ‫سفاهة} أي حمق وطيش وعدم بصيرة بالحياة وإل كيف تخرج عن إجماع قومك‪ ،‬وتواجههم بعيب‬ ‫آلهتهم وتسفيه أحلمهم‪{ ،‬وإنا لنظنك من الكاذبين} فيما جئت به أي من الرسالة‪ ،‬ودعوت إليه من‬ ‫التوحيد ونبذ اللهة غير ال تعالى‪ ،‬فأجاب هود عليه السلم رادا شبهتهم فقال‪{ :‬يا قوم ليس بي‬ ‫سفاهة ولكني رسول من رب العالمين} أي أني لست كما تزعمون أن بي سفاهة ولكني أحمل‬ ‫رسالة أبلغكموها‪ ،‬وأنا في ذلك ناصح لكم مريد لكم الخير أمين ‪ 1‬على وحي ال تعالى إلي‪ ،‬أمين‬ ‫ل أغشكم ول أخونكم فما أريد لكم إل الخير‪ .‬ثم واصل دعوته فقال {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من‬ ‫ربّكم} أي أكذبتم برسالتي وعجبتم من مجيئكم ذكر من ربكم {على رجل منكم لينذركم} أي‬

‫عواقب كفركم وشرككم‪ ،‬أمن مثل هذا يتعجب العقلء أم أنتم ل تعقلون؟‪.‬‬ ‫ثم ذكرهم بنعم ال تعالى عليهم لعلّها تُح ْدثُ لهم ذكرا في نفوسهم فيتراجعون بعد عنادهم‬ ‫وإصرارهم فقال‪{ :‬واذكروا إذ جعلكم خلفاء ‪ 2‬من بعد قوم نوح} أي بعد أن أهلكهم بالطوفان‬ ‫لصرارهم على الشرك {وزادكم في الخلق بسطة ‪ }3‬أي جعل أجسامكم قوية وقاماتكم طويلة هذه‬ ‫نعم ال عليكم {فاذكروا آلء ‪ 4‬ال لعلكم تفلحون} لنكم إن ذكرتموها بقلوبكم شكرتموها بأقوالكم‬ ‫وأعمالكم‪ ،‬وبذلك يتم الفلح لكم‪ ،‬وهو نجاتكم من المرهوب وظفركم بالمحبوب وذلك هو الفوز‬ ‫المطلوب‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الدعوة إلى عبادة ال وترك عبادة ما سواه وهو معنى ل إله إل ال‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية دفع التهام‪ ،‬وتبرئة النسان نفسه مما يتهم به من الباطل‪.‬‬ ‫‪ -3‬من وظائف الرسل عليهم السلم البلغ لما أمروا بإبلغه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المين‪ :‬هو الموصوف بالمانة‪ ،‬والمانة أعز أوصاف البشر وفي الحديث "ل إيمان لمن ل‬ ‫أمانة له" ويروى‪" :‬لمن ل أمان له"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخلفاء‪ :‬جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء أي‪ :‬يتولى العمل الذي كان يقوم به‬ ‫الخر‪ ،‬كما يجمع خليفة على خلئف‪.‬‬ ‫‪ 3‬ويجوز بصطة‪ :‬بالصاد أي طولً في الجسام قيل كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين‬ ‫ذراعا‪ ،‬فالزيادة كانت على خلق من قبلهم‪ ،‬وذكر القرطبي أمورا عجبا ل يحسن ذكرها‪.‬‬ ‫‪ 4‬اللء‪ :‬مفرده إلي ويعرف فيقال اللي وهو‪ :‬النعمة وهو على وزن عِنَب وأعناب ونظيره إن‬ ‫أي‪ :‬الوقت والجمع آناء قال تعالى‪{ :‬ومن آناء الليل فسبّح} الخ‪.‬‬

‫( ‪)2/191‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة النصح وخُلُق المانة‪.‬‬ ‫‪ -5‬استحسان التذكير بالنعم فإن ذلك موجب للشكر والطاعة‪.‬‬ ‫قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِ َنعْ ُبدَ اللّهَ وَحْ َد ُه وَنَذَرَ مَا كَانَ َيعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ(‪ )70‬قَالَ‬ ‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مّا نَ ّزلَ اللّهُ‬ ‫سمَاء َ‬ ‫ضبٌ أَ ُتجَادِلُونَنِي ‪ 1‬فِي أَ ْ‬ ‫غ َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫قَ ْد َوقَعَ عَلَ ْيكُم مّن رّ ّبكُمْ ِرجْ ٌ‬ ‫طعْنَا‬ ‫حمَةٍ مّنّا َوقَ َ‬ ‫ِبهَا مِن سُ ْلطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنّي َم َعكُم مّنَ ا ْلمُن َتظِرِينَ(‪ )71‬فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ بِ َر ْ‬ ‫دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا َومَا كَانُواْ ُم ْؤمِنِينَ(‪)72‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫ونذر ‪ :‬أي نترك‪.‬‬ ‫بما تعدنا ‪ :‬أي من العذاب‪.‬‬ ‫رجس ‪ :‬سخطٌ موجبٌ للعذاب‪.‬‬ ‫أتجادلونني‪ :‬أي أتخاصمونني‪.‬‬ ‫من سلطان‪ :‬أي من حجّة ول برهان يثبت أنها تستحق العبادة‪.‬‬ ‫دابر‪ :‬دابر القوم آخرهم‪ ،‬لنه إذا هلك آخر القوم هلك أولهم بل ريب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أتجادلونني في أسماء } أي‪ :‬في الصنام التي أطلقوا عليها أسماء كاللّت‪ ،‬والعزّى ومناة عند‬ ‫قريش ومشركي العرب‪ ،‬فأطلق السم وأريد به المسمّى‪.‬‬

‫( ‪)2/192‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في قصص هود عليه السلم‪ ،‬فهاهم أولء يردّون على دعوة هود بقول المل منهم‬ ‫{أجئتنا ‪ 1‬لنعبد ال وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا} وتهددنا إن نحن لم نترك عبادة آلهتنا‪{ ،‬فأتنا بما‬ ‫تعدنا} به من العذاب ‪{ 2‬إن كنت من الصّادقين} في دعواك فرد هود عليه السلم على قولهم هذا‬ ‫قائلً قد وقع ‪ 3‬عليكم رجس ‪ 4‬أي سخط وغضب من ال تعالى وأن عذابكم لذلك أصبح متوقعا في‬ ‫حلّ بكم {إني معكم من المنتظرين} قال تعالى {فأنجيناه ‪ 5‬والذين معه‬ ‫كل يوم فاضطروا ما سَ َي ِ‬ ‫برحمة منّا} أي بعد إنزال العذاب‪ ،‬ومن معه من المؤمنين برحمة منا خاصة ل تتم إل لمثلهم‪،‬‬ ‫{وقطعنا دابر القوم الذين كذبوا بآياتنا‪ ،‬وما كانوا مؤمنين} أهلكناهم بخارقة ريح تدمر كل شيء‬ ‫بأمر بها فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم‪ ،‬وكذلك جزاء الظالمين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬احتجاج المشركين على صحّة باطلهم بفعل آبائهم وأجدادهم يكاد يكون سنّةً مطّردةً في المم‬ ‫والشعوب‪ ،‬وهو التقليد المذموم‪.‬‬ ‫‪ -2‬من حمق الكافرين استعجالهم بالعذاب‪ ،‬ومطالبتهم به‪.‬‬ ‫‪ -3‬آلهة الوثنيين مجرّد أسماء ل حقائق لها إذ إطلق المرء اسم إله على حجر ل يجعله إلها ينفع‬ ‫ويضر‪ ،‬ويحيى ويميت‪.‬‬ ‫‪ -4‬قدرة ال تعالى ولطفه تتجلّى في إهلك عاد وإنجاء هود والمؤمنين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام هنا إنكاري أنكروا على نبي ال هود دعوته إيّاهم إلى التوحيد وكان جوابهم هذا أقل‬

‫جفوة من السابق الذي اتهموه فيه بالسفاهة والكذب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر العذاب في سورة الحقاف إذ قال تعالى‪ { :‬واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالحقاف وقد‬ ‫خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألّ تعبدوا إلّ ال إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}‪.‬‬ ‫‪{ 3‬قد وقع} بمعنى‪ :‬وجب‪ ،‬يقال‪ :‬وقع الحكم أو القول إذا وجب‪.‬‬ ‫‪ 4‬وفسّر الرجس بالعذاب أو الرّين على القلوب بزيادة الكفر‪.‬‬ ‫‪ 5‬روي أنّ هودا ومن معه من المؤمنين نزحوا إلى مكة وأقاموا بها بعد هلك قومهم‪.‬‬

‫( ‪)2/193‬‬ ‫وَإِلَى َثمُودَ َأخَا ُه ْم صَالِحًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َلكُم مّنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَاء ْتكُم بَيّنَةٌ مّن رّ ّبكُمْ هَ ِذهِ‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )73‬وَا ْذكُرُواْ‬ ‫خ َذكُمْ َ‬ ‫سوَءٍ فَيَأْ ُ‬ ‫نَاقَةُ الّلهِ َلكُمْ آيَةً َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ الّل ِه َولَ َتمَسّوهَا ِب ُ‬ ‫سهُوِلهَا ُقصُورًا وَتَنْحِتُونَ ا ْلجِبَالَ بُيُوتًا‬ ‫خذُونَ مِن ُ‬ ‫جعََلكُمْ خَُلفَاء مِن َبعْدِ عَا ٍد وَ َبوَّأكُمْ فِي الَ ْرضِ تَتّ ِ‬ ‫إِذْ َ‬ ‫سدِينَ(‪ )74‬قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ مِن َق ْومِهِ لِلّذِينَ‬ ‫فَا ْذكُرُواْ آلء اللّ ِه َولَ َتعْ َثوْا فِي الَ ْرضِ ُمفْ ِ‬ ‫سلَ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ(‪)75‬‬ ‫سلٌ مّن رّبّهِ قَالُواْ إِنّا ِبمَا أُرْ ِ‬ ‫ن صَالِحًا مّرْ َ‬ ‫ض ِعفُواْ ِلمَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ أَ َتعَْلمُونَ أَ ّ‬ ‫اسْ ُت ْ‬ ‫قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ إِنّا بِالّ ِذيَ آمَن ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ(‪)76‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإلى ثمود‪ :‬أي أرسلنا إلى ثمود‪ ،‬وثمود قبيلة سميت باسم جدها وهو ثمود ‪ 1‬بن عابر بن إرم بن‬ ‫سام بن نوح‪.‬‬ ‫أخاهم صالحا‪ :‬أي في النسب وصالح هو صالح بن عبيد بن آسف كاشح بن عبيد بن حاذر بن‬ ‫ثمود‪.‬‬ ‫آية ‪ :‬علمة على صدقي في أني رسول ال إليكم‪.‬‬ ‫وبوأكم في الرض ‪ :‬أنزلكم فيها منازل تحبون فيها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ثمود‪ :‬هو أخو جديس‪.‬‬

‫( ‪)2/194‬‬ ‫وتنحتون ‪ :‬تنجرون الحجارة في الجبال لتتخذوا منازل لكم لتسكنوها‪.‬‬ ‫آلء ال ‪ :‬نعم ال تعالى وهي كثيرة‪.‬‬ ‫ول تعثوا‪ :‬أي ل تفسدوا في الرض مفسدين‪.‬‬ ‫استكبروا‪ :‬عتوا وطغوا وتكبروا فلم يقبلوا الحق ولم يعترفوا به‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا القصص الثالث قصص نبي ال صالح عليه السلم قال تعالى {وإلى ثمود أخاهم صالحا} أي‬ ‫وأرسلنا إل قبيلة ثمود ‪ 1‬أخاهم صالحا نبيا أرسلناه بما أرسلنا به رسلنا من قبله ومن بعده بكلمة‬ ‫التوحيد {قال يا قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره} وهذا مدلول كلمة الخلص التي جاء بها خاتم‬ ‫النبياء "ل إله إل ال "{ قد جاءتكم بينة من ربكم} تشهد بأنه ل إله إل هو‪ ،‬وأني رسوله إليكم‪،‬‬ ‫هذه البينة ‪ 2‬ناقة تخرج من صخرة في جبل‪{ ،‬هذه ناقة ‪ 3‬ال لكم آية} علمة وأية علمة على‬ ‫صدقي في إرسال ال تعالى لي رسولً إليكم لتعبدوه وحده ول تشركوا به شيئا‪ ،‬فذروا هذه الناقة‬ ‫تأكل في أرض ‪ 4‬ال {ول تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} ‪ ،‬فكانت الناقة ترعى في المرج‪،‬‬ ‫وتأتي إلى ماء القوم فتشربه كله‪ ،‬ويتحول في بطنها إلى لبن خالص فيَحْلِبون ما شاءوا وقال لهم‬ ‫يوما هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم‪ ،‬ول تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم‪،‬‬ ‫ووعظهم عليه السلم بقوله‪{ :‬واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد} أي بعد هلكهم‪ ،‬وكانت ديار‬ ‫عاد بحضرموت جنوب الجزيرة العربية وديار ثمود بالحجر شمال الجزيرة بين الحجاز والشام‪.‬‬ ‫حجْر تتخذون من سهولها قصورا‪ 5‬تسكنونها في الصيف‪،‬‬ ‫وقوله {وبوأكم في الرض} أرض ال ِ‬ ‫وتنحتون من الجبال بيوتا تسكنونها في الشتاء‪{ ،‬فاذكروا آلء ال} أي نعمه العظيمة لتشكروها‬ ‫بعبادته وحده دون ما أتخذتم من أصنام‪ ،‬وحذّرهم من عاقبة الفساد فقال {ول َتعْ َثوْا في الرض‬ ‫مفسدين} أي ل تنشروا الفساد في الرض بالشرك وارتكاب المعاصي وإزاء هذه الدعوة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ثمود‪ :‬يصرف ول يصرف فمن صرفه‪ :‬على أنه اسم للحي‪ ،‬ومن منعه‪ :‬على أنه علم على‬ ‫القبيلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الناقة هم الذين طالبوا بها لتكون آية على صدق نبوّة صالح‪ ،‬ولمّا جاءتهم كفروا بها‪.‬‬ ‫‪ 3‬إضافة الناقة إلى ال تعالى للتشريف والتخصيص إذ كل ما في الكون هو ل عزّ وجلّ‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬ليس عليكم رزقها ومؤونتها‪.‬‬ ‫‪ 5‬استدل بعضهم على جواز بناء القصور للسكن بهذه الية وبحديث‪" :‬إنّ ال إذا أنعم علي عبد‬ ‫أحب أن يرى أثر النعمة عليه" وكره ذلك بعض‪ ،‬لحديث‪" :‬وما أنفق المؤمنين من نفقة فإنّ خلفها‬ ‫ل إلّ ما كان في بنيان أو معصيّة" رواه الدار قطني‪.‬‬ ‫على ال عزّ وج ّ‬

‫( ‪)2/195‬‬ ‫الصادقة الهادفة إلى هداية القوم وإصلحهم لينجوا من عاقبة الشرك والشر والفساد {قال المل‬ ‫الذين استكبروا من قومه} أي قوم صالح‪ ،‬قالوا {للذين استضعفوا لمن آمن ‪ 1‬منهم} أي لمن آمن‬ ‫من ضعفاء القوم‪{ :‬أتعلمون أن صالحا مرسلٌ من ربه}‪ ،‬وهو استفهام سخرية واستهزاء دال على‬

‫صلف القوم وكبريائهم‪ ،‬فأجاب المؤمنون من ضعفة القوم قائلين {إنا بما أرسل به مؤمنون} قالوها‬ ‫واضحةً صريحةً ُمعْلنةً عن إيمانهم بما جاء به رسول ال صالح غير خائفين‪ ،‬وهنا ردٌ‬ ‫المستكبرون قائلين‪{ :‬إنا بالذي آمنتم به كافرون} وإمعانا منهم في الجحود والتكبّر‪ ،‬لم يقولوا إنا‬ ‫بما أرسل به كافرون حتى ل يعترفوا بالرسالة ولو في جواب رد الكلم فقالوا {إنا بالذي آمنتم به‬ ‫كافرون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬اتحاد دعوة الرسل في اليمان بال والكفر بالطاغوت أي في عبادة ال وحده‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير إرسال الرسل باليات وهي المعجزات وآية صالح أعجب آية وهي الناقة‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب التذكير بنعم ال إذ هو الباعث على الشكر‪ ،‬والشكر هو الطاعة‪.‬‬ ‫‪ -4‬النهي عن الفساد في الرض والشرك وارتكاب المعاصي‪.‬‬ ‫‪ -5‬الضعفة هم غالبا أتباع النبياء‪ :‬وذلك لخلوهم من الموانع كالمحافظة على المنصب أو الجاه‬ ‫أو المال‪ ،‬وعدم إنغماسهم في الملذ والشهوات‪.‬‬ ‫َفعَقَرُواْ النّاقَ َة وَعَ َتوْاْ عَنْ َأمْرِ رَ ّب ِه ْم َوقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ(‪)77‬‬ ‫جفَةُ فََأصْبَحُواْ فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ(‪ )78‬فَ َتوَلّى عَ ْنهُمْ َوقَالَ يَا َقوْمِ َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ رِسَاَلةَ رَبّي‬ ‫خذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬ ‫فَأَ َ‬ ‫حتُ َلكُ ْم وََلكِن لّ ُتحِبّونَ النّاصِحِينَ(‪)79‬‬ ‫وَ َنصَ ْ‬ ‫__________‬ ‫ض من كلّ‪.‬‬ ‫‪{ 1‬لمن آمن} بدل من (الذين استضعفوا) بدل بع ٍ‬

‫( ‪)2/196‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فعقروا الناقة ‪ :‬نحروها بعد أن عقروا قوائمها أي قطعوها‪ ،‬والناقة هي الية‪.‬‬ ‫وعتوا عن أمر ربهم ‪ :‬تمردوا عن المر وعصوا فلم يطيعوا‪.‬‬ ‫الرجفة ‪ :‬المرة من رجف إذا اضطرب‪ ،‬وذلك لما سمعوا الصيحة أخذتهم الرجفة‪.‬‬ ‫جاثمين ‪ : 1‬باركين على الركب كما يجثم الطير أي هلكى على ركبهم‪.‬‬ ‫فتولى عنهم ‪ :‬بعد أن هلكوا نظر إليهم صالح وهم جاثمون وقال راثيا لحالهم {يا قوم لقد أبلغتكم‬ ‫رسالة ربي} إلى قوله {ولكن ل تحبون الناصحين} ثم أعرض عنهم وانصرف‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في قصص صالح عليه السلم فإنه بعد تلك الدعوة الطويلة العريضة والمستكبرون‬ ‫يردونها بصلف وكبرياء‪ ،‬وطالبوا بالية لتدل على صدقه وأنه من المرسلين وأوتوا الناقة آية‬

‫مبصرة ولجوا في الجدال والعناد وأخيرا تمالؤوا على قتل الناقة وعقروها {فدمدم عليهم ربهم‬ ‫بذنبهم فسواها ول يخاف عقباها}‪.‬‬ ‫قوله تعالى في الية الولى (‪{ )77‬فعقروا ‪ 2‬الناقة وعتوا عن أمر ربهم} يخبر تعالى أن قوم‬ ‫صالح عقروا الناقة قطعوا أرجلها ثم نحروها وهو العقر‪ ،‬وعتوا بذلك وتكبروا متمردين عن أمر‬ ‫ال تعالى حيث أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض ال ول يمسوها بسوء فإذا بهم يعقرونها تحديا‬ ‫وعنادا‪{ ،‬وقالوا يا صالح} بدل أن يقولوا يا رسول ال أو يا نبي ال {ائتنا بما تعدنا} أي من‬ ‫العذاب إن مسسنا الناقة بسوء فقد نحرناها فأتنا بالعذاب إن كنت كما تزعم من المرسلين قال‬ ‫تعالى {فأخذتهم الرجفة} وهي هزة عنيفة اضطربت لها القلوب والنفوس نتيجة صيحة لملك عظيم‬ ‫صاح فيهم صباح السبت ‪ 3‬كما قال تعالى {فأخذتهم الصيحة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل الجثوم للرانب وما شابهها وموضع الجثوم يقال لهم‪ :‬مجثم‪ .‬قال زهير‪:‬‬ ‫بها العين والرام يمشين خلفه ‪ ...‬وأطلؤها ينهضن من كل مجثم‬ ‫‪ 2‬العقر‪ :‬الجرح أو قطع عضو يؤثر في النفس‪ ،‬يقال‪ :‬عقر الفرس إذا ضرب قوائمه بالسيف‪،‬‬ ‫وقيل للنحر عقر‪ :‬لنّه بسبب النحر غالبا‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو بداية اليوم الرابع‪ ،‬إذ قال لهم‪{ :‬تمتعوا في داركم ثلثة أيام} فكانت الربعاء والخميس‬ ‫والجمعة والسبت أهلكهم ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/197‬‬ ‫مشرقين} ولما هلكوا وقف عليهم صالح كالمودع كما وقف رسول ال صلى ال عليه وسلم على‬ ‫أهل القليب ببدرٍ فناداهم يا فلن يا فلن كذلك صالح عليه وعلى نبينا الصلة والسلم وقف عليهم‬ ‫وهم خامدون وقال كالراثي المتحسر {يا قوم لقد أبلغتكم ‪ 1‬رسالة ربي ونصحت لكم ولكن ل‬ ‫تحبون الناصحين} وتولى عنهم وانصرف‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حلول نقمة ال تعالى بكل من عتا عن أمره سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية الرثاء لمن مات أو أصيب بمصاب عظيم‪.‬‬ ‫‪ -3‬علمة قرب ساعة الهلك إذا أصبح الناس يكرهون النصح ول يحبون الناصحين‪.‬‬ ‫شةَ مَا سَ َب َقكُم ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )80‬إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ‬ ‫وَلُوطًا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬ ‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ َأخْرِجُوهُم مّن‬ ‫ش ْه َوةً مّن دُونِ النّسَاء َبلْ أَنتُمْ َقوْمٌ مّسْ ِرفُونَ(‪َ )81‬ومَا كَانَ َ‬ ‫َ‬ ‫طهّرُونَ(‪ )82‬فَأَنجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ(‪ )83‬وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِم‬ ‫قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬

‫مّطَرًا فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ(‪)84‬‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫ولوطا ‪ :‬أي وأرسلنا لوطا ولوط هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلم‪ .‬ولد في بابل‬ ‫العراق‪.‬‬ ‫الفاحشة ‪ :‬هي الخصلة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من الجائز أن يكون قد قال هذا وهم أحياء قبل موتهم كاليس منهم وكونه قاله بعد موتهم أقرب‬ ‫كما في التفسير‪.‬‬

‫( ‪)2/198‬‬ ‫من العالمين ‪ :‬أي من الناس‪.‬‬ ‫من الغابرين ‪ :‬الباقين في العذاب‪.‬‬ ‫وأمطرنا‪ .‬أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهكتهم‪.‬‬ ‫المجرمين‪ :‬أي المفسدين للعقائد والخلق والعراض‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا هو القصص الرابع قصص نبي ال تعالى لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلم فقوله‬ ‫تعالى {ولوطا‪ }...1‬أي وأرسلنا لوطا إلى قومه من أهل سذوم‪ ،‬ولم يكن لوط منهم لنه من أرض‬ ‫بابل العراق هاجر مع عمه إبراهيم وأرسله ال تعالى إلى أهل سذوم ‪ 2‬وعمورة قرب ‪ 3‬بحيرة‬ ‫لُوطٍ بالردن‪.‬‬ ‫وقوله إذ قال لقومه الذين أرسل إليهم منكرا عليهم فعلتهم المنكرة‪{ :‬أتأتون الفاحشة} وهي إتيان‬ ‫الرجال في أدبارهم {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} أي لم يسبقكم إليها أحد من الناس قاطبة‪،‬‬ ‫وواصل إنكاره هذا المنكر موبخا هؤلء الذين هبطت أخلقهم إلى درك لم يهبط إليه أحد غيرهم‬ ‫فقال‪{ :‬إنكم لتأتون الرجال شهوة ‪ 4‬من دون النساء‪ ،‬بل أنتم قوم مسرفون} وإل فالشهوة من النساء‬ ‫هي المفطور عليها النسان‪ ،‬ل أدبار الرجال‪ ،‬ولكنه الجرام والتوغل في الشر والفساد والسراف‬ ‫في ذلك‪ ،‬والسراف صاحبه ل يقف عند حد‪.‬‬ ‫وبعد هذا الوعظ والرشاد إلى سبيل النجاة‪ ،‬والخروج من هذه الورطة التي وقع فيها هؤلء القوم‬ ‫المسرفون ما كان ردهم {إل أن قالوا أخرجوهم} أي لوطا والمؤمنين معه {من قريتكم} أي مدينتكم‬ ‫سدوم‪ ،‬معللين المر بإخراجهم من البلد بأنهم أناس يتطهرون من الخبث الذي هم منغمسون فيه‬ ‫قال تعالى بعد أن بلغ الوضع هذا الحد {فأنجيناه وأهله} من بناته وبعض نسائه {إل امرأته كانت‬ ‫من الغابرين} حيث أمرهم بالخروج من‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا العطف على إرسال نوح كما هو مع هود وصالح من قبل لوط‪ ،‬ولوط‪ :‬اسم عجمي وليس‬ ‫مشتقا من لطت الحوض أو من قولهم‪ :‬هذا أليط بقلبي من هذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الرض هي أرضى الكنعانيين وسكانها خليط جلّهم كنعانيون‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو المعروف بالبحر الميت ويقال له بحيرة لوط‪.‬‬ ‫‪{ 4‬شهوة} منصوب على أنّه مفعول لجله‪.‬‬

‫( ‪)2/199‬‬ ‫البلد ليلً قبل حلول العذاب بالقوم فخرجوا‪ ،‬وما إن غادروا المنطقة حتى جعل ال تعالى عاليها‬ ‫سافلها وأمطر عليها حجارة من سجين فأهلكوا أجمعين‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في ختام هذا القصص {فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} فإنه خطاب عام لكل من‬ ‫يسمع هذا القصص ليعتبر به حيث شاهد عاقبة المجرمين دمارا كاملً وعذابا أليما‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬شدة قبح جريمة اللواط‪.‬‬ ‫‪ -2‬أول من عرف هذه الجريمة القذرة هم قوم لوط ‪ 1‬عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬السراف وعدم العتدال في القوال والفعال يتولد عنه كل شر وفساد‪.‬‬ ‫‪ -4‬الكفر والجرام يحل رابطة الخوة والقرابة بين أصحابه والبُراءة منه‪.‬‬ ‫‪ -5‬من أتى هذه الفاحشة من المحصنين يرجم ‪ 2‬بالحجارة حتى الموت‪.‬‬ ‫شعَيْبًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ الّلهَ مَا َلكُم مّنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَاء ْتكُم بَيّنَةٌ مّن رّ ّبكُمْ فََأ ْوفُواْ‬ ‫وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ‬ ‫حهَا ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن‬ ‫خسُواْ النّاسَ َأشْيَاء ُه ْم وَلَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ‬ ‫ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ َولَ تَبْ َ‬ ‫ل صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ َتصُدّونَ‬ ‫كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ(‪َ )85‬ولَ َت ْقعُدُواْ ِب ُك ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أنّ إبليس هو الذي علّمهم إيّاها في نفسه بعد أن تشكّل بشكل إنسان‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجمهور على أن من أتى هذه الفاحشة من الذكران البالغين أنه يقتل وغير البالغ يضرب‪،‬‬ ‫وخالف أبو حنيفة الجمهور وقال بعدم القتل واكتفى بالتعزير وهو محجوج بعمل الصحابة فقد‬ ‫عمَل قوم لوط على عهد أبي بكر بإجماع رأي الصحابة على ذلك لحديث أبي‬ ‫عمِل َ‬ ‫أحرقوا مَنْ َ‬ ‫داود والنسائي وابن ماجه والترمذي أي رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬من وجدتموه يعمل‬ ‫عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وعند الترمذي "أحصنا أو لم يحصنا" واختلف في‬

‫الفاعل في البهيمة هل يقتل أو يعزّر؟ فالراجح‪ :‬القتل لحديث‪" :‬من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا‬ ‫البهيمة معه"‪.‬‬

‫( ‪)2/200‬‬ ‫عوَجًا وَا ْذكُرُواْ ِإذْ كُنتُمْ قَلِيلً َفكَثّ َركُ ْم وَانظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ‬ ‫عَن سَبِيلِ الّلهِ مَنْ آمَنَ ِب ِه وَتَ ْبغُو َنهَا ِ‬ ‫حكُمَ‬ ‫ا ْل ُمفْسِدِينَ(‪ )86‬وَإِن كَانَ طَآ ِئفَةٌ مّنكُمْ آمَنُواْ بِالّذِي أُ ْرسِ ْلتُ ِب ِه وَطَآ ِئفَةٌ لّمْ ْي ْؤمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتّى َي ْ‬ ‫اللّهُ بَيْنَنَا وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ(‪)87‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإلى مدين آخاهم شعيبا ‪ :‬مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم الخليل وشعيب من أبناء القبيلة‬ ‫فهو أخوهم في النسب حقيقة إذ هو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين‪.‬‬ ‫ول تبخسوا الناس أشياءهم ‪ :‬أي ل تنقصوا الناس قيم سلعهم وبضائعهم‪ ،‬إذ كانوا يفعلون ذلك‪.‬‬ ‫صراط توعدون ‪ :‬طريق وتوعدون تخيفون المارة وتأخذون عليهم المكوس أو تسلبونهم أمتعتهم‪.‬‬ ‫وتبغونها عوجا‪ :‬أي تريدون سبيل ال ‪-‬وهي شريعته‪ -‬معوجةً حتى توافق ميولكم‪.‬‬ ‫المفسدين‪ :‬هم الذين يعملون بالمعاصي في البلد‪.‬‬ ‫يحكم بيننا‪ :‬يفصل بيننا فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا هو القصص الخامس في سورة العراف وهو قصص نبي ال شعيب مع قومه أهل مدين‪،‬‬ ‫فقوله تعالى‪{ :‬وإلى مدين أخاهم شعيبا‪ }1‬أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا‪ .‬فماذا قال لهم‬ ‫لما أرسل إليهم؟ { قال يا قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره} أي قولوا ل إله إل ال‪ ،‬ولزم ذلك‬ ‫أن يصدقوا برسول ال شعيب حتى يمكنهم أن يعبدوا ال بما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شعيب‪ :‬تصغير شعب أو شِعب ويقال له خطيب النبياء لحسن مراجعته قومه‪.‬‬

‫( ‪)2/201‬‬ ‫يحب أن يعبد به وبما من شأنه أن يكملهم ويسعدهم في الدارين وقوله {قد جاءتكم ‪ 1‬بينة من‬ ‫ربكم} أي آية واضحة تشهد لي بالرسالة وبما أن ما آمركم به وأنهاكم عنه هو من عند ال تعالى‬ ‫إذا {فأوفوا الكيل والميزان} أي بالقسط الذي هو العدل‪{ ،‬ول تبخسوا الناس أشياءهم} بل أعطوهم‬ ‫ما تستحقه بضائعهم من الثمن بحسب جودتها ورداءتها {ول تفسدوا في الرض بعد إصلحها}‬ ‫أي في البلد بعد إصلحها‪ ،‬وذلك بترك الشرك والذنوب ومن ذلك ترك التلصص وقطع الطرق‪،‬‬

‫وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدم بخس سلع الناس وبضائعهم ذلكم الذي دعوتكم إليه من‬ ‫ل ومالً إن كنتم مؤمنين وقوله‪{ :‬ول تقعدوا بكل صراط ‪2‬‬ ‫الطاعة وترك المعصية خير لكم حا ً‬ ‫توعدون وتصدون عن سبيل ال من آمن به وتبغونها عوجا‪ }3‬ينهاهم عليه السلم عن أبشع‬ ‫الجرام وهو أنهم يجلسون في مداخل البلد‪ ،‬وعلى أفواه السكك‪ ،‬ويتوعدون ‪ 4‬المارة بالعذاب إن‬ ‫هم اتصلوا بالنبي شعيب وجلسوا إليه صرفا للناس عن اليمان والستقامة‪ ،‬كما أنهم يقطعون‬ ‫الطرق ويسلبون الناس ثيابهم وأمتعتهم أو يدفعون إليهم ضريبة خاصة‪.‬‬ ‫وقوله {واذكروا إذ كنتم قليلً فكثركم} يذكرهم عليه السلم بنعمة ال تعالى عليهم وهي أنهم‬ ‫أصبحوا شعبا كبيرا بعدما كانوا شعبا صغيرا ل قيمة له ول وزن بين الشعوب وقوله‪{ :‬وانظروا‬ ‫كيف كان عاقبة المفسدين} يعظهم ببيان مصير الظلمة المفسدين من المم المجاورة والشعوب‬ ‫حيث حلت بهم نقمة ال ونزل بهم عذابه فهلكوا يعظهم لعلهم يذكرون فيتركوا الشرك والمعاصي‪،‬‬ ‫ويعملوا بالتوحيد والطاعة‪.‬‬ ‫وأخيرا يخوفهم بال تعالى ويهددهم بأن حكما عدلً هو ال سيحكم بينهم وعندها يعلمون من هو‬ ‫المحق ومن هو المبطل فقال‪{ :‬وإن كان طائفة منكم} أي جماعة {آمنوا بالذي أرسلت به} من‬ ‫التوحيد والطاعة وترك الشرك والمعاصي‪{ ،‬وطائفة} أخرى {لم يؤمنوا} وبهذا كنا متخاصمين‬ ‫نحتاج إلى من يحكم بيننا إذا {فاصبروا حتى يحكم ال بيننا وهو خير‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من الجائز أن يكون ال تعالى قد أعطى نبيّه شعيبا آية ولم تذكر في القرآن‪ ،‬والراجح أنّها حجة‬ ‫قوية قهرهم بها ولم يتمكنوا من ردّها‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن عباس ومجاهد وقتادة‪ :‬كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعّدون من‬ ‫أراد المجيىء إليه ويصدّونه عنه ويقولون‪ :‬إنّه كذّاب فل تذهب إليه‪ ،‬كما كانت قريش تفعله مع‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫عوَجا في الجرام والذوات‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال أبو عبيدة والزجاج‪ :‬كسر العين عوجا في المعاني‪ ،‬والفتح َ‬ ‫‪ 4‬قال أبو هريرة رضي ال عنه هذا نهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم‪.‬‬

‫( ‪)2/202‬‬ ‫الجزء التاسع‬ ‫الحاكمين}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬دعوة الرسل واحدة في باب العقيدة إذ كلها تقوم على أساس التوحيد والطاعة‪.‬‬

‫‪ -2‬حرمة التطفيف في الكيل والميزان‪ ،‬وبخس الناس أشياءهم‪ ،‬ويدخل في ذلك الصناعات‬ ‫وحرف المهن وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الفساد في الرض بالمعاصي لسيما البلد التي طهرها ال بالسلم وأصلحها‬ ‫بشرائعه‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة التلصص وقطع ‪ 1‬الطرق وتخويف المارة‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة الصد عن سبيل ال بمنع الناس من التدين واللتزام بالشريعة ظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫شعَ ْيبُ وَالّذِينَ آمَنُواْ َم َعكَ مِن قَرْيَتِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي‬ ‫قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ مِن َق ْومِهِ لَ ُنخْرِجَ ّنكَ يَا ُ‬ ‫عدْنَا فِي مِلّ ِتكُم َبعْدَ ِإذْ نَجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا‬ ‫مِلّتِنَا قَالَ َأوََلوْ كُنّا كَارِهِينَ(‪َ )88‬قدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ ُ‬ ‫شيْءٍ عِ ْلمًا عَلَى الّلهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا‬ ‫سعَ رَبّنَا ُكلّ َ‬ ‫َومَا َيكُونُ لَنَا أَن ّنعُودَ فِيهَا ِإلّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبّنَا وَ ِ‬ ‫ق وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ(‪)89‬‬ ‫حّ‬ ‫افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِالْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المل‪ :‬أشراف القوم الذين يملؤون المجلس إذا جلسوا‪ ،‬والعين إذا نظر إليهم‪.‬‬ ‫استكبروا ‪ :‬تكلفوا الكبر وهم حقيرون‪ ،‬حتى ل يقبلوا الحق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ومثله الضرائب الفادحة التي تضرب على المسلمين في بلدهم والمكوس التي في السواق‬ ‫وغيرها مما اقتدى فيه المسلمون بالكافرين‪.‬‬

‫( ‪)2/203‬‬ ‫من قريتنا‪ :‬مدينتنا‪.‬‬ ‫في ملتكم ‪ :‬في دينكم‪.‬‬ ‫على ال توكلنا ‪ :‬أي فوضنا أمرنا واعتمدنا في حمايتنا عليه‪.‬‬ ‫ربنا افتح بيننا ‪ :‬أي يا ربنا احكم بيننا‪.‬‬ ‫وأنت خير الفاتحين ‪ :‬أي وأنت خير الحاكمين‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في قصص شعيب مع قومه أهل مدين فبعد أن أمرهم ونهاهم وذكرهم‬ ‫ووعظهم {قال المل الذين استكبروا من قومه} مهددين موعدين مقسمين {لنخرجنك يا شعيب‬ ‫والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}‪ .‬هكذا سنة الطغاة الظلمة إذا غلبوا بالحجج‬ ‫والبراهين يفزعون إلى القوة فلما أفحمهم شعيب خطيب النبياء عليهم السلم‪ ،‬وقطع الطريق‬ ‫عليهم شهروا السلح في وجهه‪ ،‬وهو النفي والخراج من البلد أو العودة إلى دينهم الباطل‪:‬‬ ‫{لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن ‪ 1‬في ملتنا} ورد شعيب على هذا‬

‫التهديد بقوله‪{ :‬أو لو كنا كارهين ‪ }2‬أي أنعود في ملتكم ولو كنا كارهين لها { قد افترينا على ال‬ ‫كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا ال منها ‪ }3‬ووجه الكذب على ال إن عادوا إلى ملة الباطل‬ ‫هو أن شعيبا أخبرهم أن ال تعالى أمرهم بعبادته وحده وترك عبادة غيره‪ ،‬وأنه تعالى أرسله إليهم‬ ‫رسولً وأمرهم بطاعته إنقاذا لهم من الباطل الذي هم فيه فإذا أرتد وعاد هو ومن معه من‬ ‫المؤمنين إلى ملة الشرك كان موقفهم موقف من كذب على ال تعالى بأنه قال كذا وكذا وال عز‬ ‫وجل لم يقل‪ .‬هذا ثم قال شعيب {وما يكون لنا أن نعود فيها} ليس من الممكن ول من المتهيء لنا‬ ‫العودة في ملتكم أبدا‪ ،‬اللهم إل أن يشاء ‪ 4‬ربنا شيئا فإن مشيئته نافذة في خلقه‪ ،‬وقوله‪{ :‬وسع ربنا‬ ‫كل شيء علما} فإذا كان قد علم أنا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا ال‪ ،‬فسوف يكون ما علمه كما‬ ‫علمه وهو الغالب على أمره‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أو لتعودّنّ}‪ :‬إمّا أن يراد به أتباع شعيب المؤمنون إذ كانوا قبل إيمانهم على دين قومهم وإمّا‬ ‫أن يراد بكلمة {لتعودّنّ}‪ :‬لتصيرن إذ تكون عاد بمعنى‪ :‬صار‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام للتعجب والستبعاد‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا أسلوب الياس لهم من العودة إلى دينهم الباطل‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا الستثناء كان من شعيب تأدبا مع ال تعالى بتفويض المر إلى مشيئته وعودة غيره من‬ ‫أمته ممكنة ولكن عودته هو مستحيلة‪.‬‬

‫( ‪)2/204‬‬ ‫ثم قال عليه السلم بعد أن أعلمهم أن العودة إلى دينهم غير واردة ول ممكنة بحال من الحوال‬ ‫إلّ في حال مشيئة ال ذلك‪ ،‬وهذا مما ل يشاءه ال تعالى قال‪{ :‬على ال توكلنا} في الثبات على‬ ‫دينه الحق‪ ،‬والبراءة من الباطل ثم سأل ربه قائلً‪{ :‬ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} أي احكم‬ ‫بيننا وبينهم بالحق {وأنت خير ‪ 1‬الفاتحين} أي الحاكمين‪ ،‬وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة بشرية وهي أن الظلمة والمتكبرين يجادلون بالباطل حتى إذا أعياهم الجدال وأفحموا‬ ‫بالحجج بدل أن يسلموا بالحق ويعترفوا به ويقبلوه‪ ،‬فيستريحوا ويريحوا يفزعون إلى القوة بطرد‬ ‫أهل الحق ونفيهم أو إكراههم على قبول الباطل بالعذاب والنكال‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل يصح من أهل الحق بعد أن عرفوه ودعوا إليه أن يتنكروا ويقبلوا الباطل بدله‪.‬‬ ‫‪ -3‬يستحب الستثناء في كل ما عزم عليه المؤمن مستقبلً وإن لم يرده أو حتى يفكر فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب التوكل على ال عند تهديد العدو وتخويفه‪ ،‬والمضي في سبيل الحق‪.‬‬

‫‪ -5‬مشروعية الدعاء وسؤال ال تعالى الحكم بين أهل الحق وأهل الباطل‪ ،‬لن ال تعالى يحكم‬ ‫بالحق وهو خير الحاكمين‪.‬‬ ‫جفَةُ‬ ‫خذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬ ‫شعَيْبا إِ ّن ُكمْ إِذا لّخَاسِرُونَ(‪ )90‬فَأَ َ‬ ‫َوقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن َق ْومِهِ لَئِنِ اتّ َبعْ ُتمْ ُ‬ ‫شعَيْبًا كَانُواْ ُهمُ‬ ‫شعَيْبًا كَأَن لّمْ َيغْ َنوْاْ فِيهَا الّذِينَ كَذّبُواْ ُ‬ ‫فََأصْبَحُواْ فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ(‪ )91‬الّذِينَ كَذّبُواْ ُ‬ ‫الْخَاسِرِينَ(‪ )92‬فَ َتوَلّى عَ ْنهُمْ َوقَالَ يَا َقوْمِ َلقَدْ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬إلّ أن يشاء ال ربنا} هذا الستثناء منقطع بمعنى لكن أي‪ :‬ما يقع منّا العودة إلى الكفر لكن إن‬ ‫شاء ال ذلك كان‪ ،‬وال ل يشاء ذلك فهو إذا كقولك‪" :‬ل أكلمك حتى يبيَض الغراب" أو {حتى يلج‬ ‫الجمل في سمّ الخياط}‪.‬‬ ‫‪ 2‬الفتح بمعنى القضاء والحكم وهو لغة‪ :‬أزد عمان من اليمن أي‪ :‬أحكم بيننا وبينهم وهي مأخوذة‬ ‫من الفتح بمعنى النصر إذ كانوا ل يتحاكمون لغير السيف ويرون أن النصر حكم ال للغالب على‬ ‫المغلوب‪.‬‬

‫( ‪)2/205‬‬ ‫حتُ َل ُكمْ َفكَ ْيفَ آسَى عَلَى َقوْمٍ كَافِرِينَ(‪)93‬‬ ‫لتِ رَبّي وَ َنصَ ْ‬ ‫أَبَْلغْ ُتكُمْ رِسَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫لئن اتبعتم شعيبا ‪ :‬أي على ما جاء به من الدين والهدى‪.‬‬ ‫الرجفة ‪ :‬الحركة العنيفة كالزلزلة‪.‬‬ ‫جاثمين ‪ :‬باركين على ركبهم ميتين‪.‬‬ ‫كأن لم يغنوا فيها ‪ :‬أي كأن لم يعمروها ويقيموا فيها زمنا طويلً‪.‬‬ ‫الخاسرين ‪ :‬إذ هلكوا في الدنيا وادخلوا النار في الخرة‪.‬‬ ‫آسى ‪ :1‬أي أحزن أو آسف شديد السف‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في قصص شعيب مع أهل مدين فإنه بعد أن هدد الظالمون شعيبا بالبعاد من‬ ‫مدينتهم هو والمؤمنون معه أو أن يعودوا إلى ملتهم فرد شعيب على التهديد بما أيأسهم من العودة‬ ‫إلى دينهم‪ ،‬وفزع إلى ال يعلن توكله عليه ويطلب حكمه العادل بينه وبين قومه المشركين‬ ‫الظالمين كأن الناس اضطربوا وأن بعضا قال اتركوا الرجل وما هو عليه‪ ،‬ول تتعرضوا لما ل‬ ‫تطيقونه من البلء‪ .‬هنا قال المل الذين استكبروا من قومه مقسمين بآلهة الباطل‪{ :‬لئن اتبعتم‬ ‫شعيبا} أي على دينه وما جاء به وما يدعو إليه من التوحيد والعدل ورفع الظلم {إنكم إذا‬ ‫لخاسرون} قال تعالى‪{ :‬فأخذتهم الرجفة} استجابة لدعوة شعيب فأصبحوا ‪ 2‬هلكى جاثمين على‬

‫الركب‪ .‬قال تعالى‪{ :‬الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها ‪}3‬‬ ‫__________‬ ‫س وآسى في الية مضارع أسى‬ ‫سيَ كرضي يأسى كيرضي يقال‪ :‬أسيت على كذا أسىً فأنا آ ٍ‬ ‫‪1‬أِ‬ ‫دخلت عليه همزة المتكلم فصارت آسى بهمزتين‪.‬‬ ‫‪ 2‬في سورة هود‪{ :‬فأخذتهم الصيحة} وفي سورة الشعراء‪{ :‬أخذهم عذاب يوم الظّلة} وطريقة‬ ‫الجمع‪ .‬أنهم لمّا اجتمعوا تحت الظلة وهي سحابة أظلتهم‪ ،‬فَزَعُوا إليها من شدّة الحر الذي أصابهم‬ ‫يومئذٍ فلمّا استقروا تحتها زُلزلوا من تحتهم وهي الرجفة ونزلت عليهم من الظلة صاعقة وهي‬ ‫الصيحة فأحرقتهم هذا إن قلنا إنّ مدين وأصحاب اليكة هما أمة واحدة‪ ،‬وإل فأصحاب اليكة‬ ‫أُخذوا بعذاب الظلة وأصحاب مدين أُخذوا بالرجفة من تحتهم‪ ،‬والصيحة من فوفهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬وفسّر القرطبي الغنى‪ :‬بالمقام يقال‪ :‬غنى القوم في دارهم أي‪ :‬طال مقامهم‪ ،‬والمغني‪ :‬المنزل‬ ‫والجمع المغاني‪ ،‬قال لبيد‪:‬‬ ‫وغنيت ستّا قبل مجرى داحسٍ ‪ ...‬لو كان للنفس اللجوج خلود‬ ‫ومعنى غنيت‪ :‬أقمت وهو الشاهد‪.‬‬

‫( ‪)2/206‬‬ ‫أي كأن لم يعمروا تلك الديار ويقيموا بها زمنا طويلً‪ ،‬وأكد هذا الخبر وهو حكمه في المكذبين‬ ‫الظالمين فقال‪{ :‬الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} أما الذين صدقوا شعيبا فهم المفلحون‬ ‫الفائزون وودعهم شعيب كما ودع صالح قومه قال تعالى‪{ :‬فتولى عنهم} وهم جاثمون هلكى فقال‬ ‫{يا قوم لقد أبلغتكم رسالت ربي ونصحت لكم} فأبيتم إل تكذيبي ورد قولي والصرار على‬ ‫الشرك والفساد حتى هلكتم {فكيف آسَى على قوم كافرين ‪ }1‬أي ل معنى للحزن والسف على‬ ‫مثلكم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫هن هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ثمرة الصبر والثبات النصر العاجل أو الجل‪.‬‬ ‫‪ -2‬نهاية الظلم والطغيان والدمار والخسران‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل أسىً ول حزنا على من أهلكه ال تعالى بظلمه وفساده في الرض‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية توبيخ الظالمين بعد هلكهم كما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم بأهل القليب‬ ‫وكما فعل صالح وشعيب عليهما السلم‪.‬‬ ‫خذْنَا أَهَْلهَا بِالْبَ ْأسَاء وَالضّرّاء َلعَّل ُهمْ َيضّرّعُونَ(‪ُ )94‬ثمّ بَدّلْنَا َمكَانَ‬ ‫َومَا أَ ْرسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّ ِبيّ ِإلّ أَ َ‬ ‫شعُرُونَ(‬ ‫عفَو ْا ّوقَالُواْ َقدْ مَسّ آبَاءنَا الضّرّاء وَالسّرّاء فََأخَذْنَاهُم َبغْتَ ًة وَ ُه ْم لَ يَ ْ‬ ‫حسَنَةَ حَتّى َ‬ ‫السّيّ َئةِ الْ َ‬

‫‪)95‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫في قرية ‪ :‬القرية‪ :‬المدينة الجامعة لعيان البلد ورؤسائها وهي المدينة‪.‬‬ ‫بالبأساء ‪ :‬بالشدة كالقحط والجوع والحروب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام إنكاري وهو موجه في الظاهر إلى نفس شعيب‪ ،‬والمقصود نهي من معه من‬ ‫المؤمنين الناجين من العذاب برحمة ال تعالى نهيهم عن الحزن عن قومهم وأقاربهم كأنه لحظ‬ ‫ذلك فيهم‪.‬‬

‫( ‪)2/207‬‬ ‫والضراء‪ :‬الحالة المضرة كالمراض والغلء وشدة المؤونة‪.‬‬ ‫يضرعون ‪ :‬يدعون ال تعالى ويتضرعون إليه ليكشف عنهم السوء‪.‬‬ ‫مكان السيئة الحسنة‪ :‬أي بدل الغلء الرخاء‪ ،‬وبدل الخوف المن‪ ،‬وبدل المرض الصحة‪.‬‬ ‫حتى عفوا ‪ :‬كثرت خيراتهم ونمت أموالهم‪ ،‬وأصبحت حالهم كلها حسنة‪.‬‬ ‫أخذناهم بغتة ‪ :‬أنزلنا بهم العقوبة فجأة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫على إثر بيان قصص خمسة أنبياء ذكر تعالى سنته في المم السابقة ليكون ذلك عظه لكفار‬ ‫قريش‪ ،‬وذكرى للمؤمنين فقال تعالى‪{ :‬وما أرسلنا في قرية ‪ }1‬أي في أهل قرية والمراد بالقرية‬ ‫الحاضرة والعاصمة من كبريات المدن حيث الكبراء والرؤساء من نبي من النبياء والمرسلين‬ ‫فكذبوه قومه وردوا دعوته مصرين على الشرك والضلل إل أخذ ال تعالى أهل تلك المدينة‬ ‫بألوان من العذاب التأديبي كالقحط والجوع وشظف العيش‪ ،‬والمراض والحروب المعبر عنه‬ ‫بالبأساء والضراء‪ .‬رجاء أن يرجعوا إلى الحق بعد النفور منه‪ ،‬وقبوله بعد العراض عنه ثم يغير‬ ‫تعالى ما بهم من بأساء وضراء إلى يسر ورخاء‪ ،‬وعافية وهناء فتكثر أموالهم وأولدهم ويعظم‬ ‫سلطانهم‪ ،‬ويقولون عندما يوعظون ويذكرون ليتوبوا فيؤمنوا ويتقوا‪{ :‬قد مس آباءنا الضراء‬ ‫والسراء ‪ }2‬أي الخير والشر وما هناك ما تخوفوننا به إنما هي اليام هكذا دول يوم عسر وآخر‬ ‫يسر وبذلك يحق عليهم العذاب فيأخذهم الجبار عز وجل فجأة ‪{3‬وهم ل يشعرون } فيتم هلكهم‬ ‫ويمسون حديث عبرة لمن بعدهم عذاب في الدنيا‪ ،‬وعذاب في الخرة وعذاب الخرة أشد وأبقى‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في المم السابقة‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬في الجملة إضمار تقديره‪ :‬وما أرسلنا في قرية من نبي فكذب أهلّها إلّ أخذناهم وهو مبسوط‬ ‫في التفسير مبيّن غاية البيان والجملة معطوفة على جملة‪{ :‬وإلى مدين آخاهم شعيبا}‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬فنحن مثلهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬بغتة ليكون أكثر حسرة‪.‬‬

‫( ‪)2/208‬‬ ‫‪ -2‬تخويف كفار قريش بما دلت عليه هذه السنة من أخذ ال تعالى المصرين على الكفر‬ ‫المتمردين على الحق‪.‬‬ ‫‪ -3‬التذكير والوعظ بتاريخ المم السابقة المنبىء عن أسباب هلكهم وخسرانهم ليتجنبها العقلء‪،‬‬ ‫كما قال تعالى‪{ :‬لقد كان في قصصهم عبرة لولي اللباب}‪.‬‬ ‫سمَاء وَالَ ْرضِ وََلكِن كَذّبُواْ فََأخَذْنَاهُم ِبمَا‬ ‫وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلقُرَى آمَنُواْ وَاتّقَواْ َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِم بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ‬ ‫كَانُواْ َي ْكسِبُونَ(‪َ )96‬أفََأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَى أَن يَأْتِ َي ُهمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ(‪َ )97‬أوَ َأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَى أَن‬ ‫يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَ ْلعَبُونَ(‪َ )98‬أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ فَلَ يَ ْأمَنُ َمكْرَ الّلهِ ِإلّ ا ْلقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(‪)99‬‬ ‫ن الَ ْرضَ مِن َبعْدِ أَ ْهِلهَا أَن ّلوْ نَشَاء َأصَبْنَاهُم ِبذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ‬ ‫َأوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ‬ ‫س َمعُونَ(‪)100‬‬ ‫لَ َي ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آمنوا واتقوا ‪:‬أي آمنوا بال ورسوله ووعد ال ووعيده واتقوه تعالى بطاعته وعدم معصيته‪.‬‬ ‫بركات من السماء والرض ‪ :‬جمع بركة وهي دوام الخير وبقاؤه والعلم واللهام والمطر من‬ ‫بركات السماء والنبات والخصب والرخاء والمن والعافية من بركات الرض‪.‬‬ ‫يكسبون ‪ :‬من الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫ل وهم نائمون‪.‬‬ ‫بياتا ‪ :‬أي لي ً‬ ‫مكر ال ‪:‬استدراجه تعالى لهم بإغداق النعم عليهم من صحة‬

‫( ‪)2/209‬‬ ‫البدان ورخاء العيش حتى إذا آمنوا مكره تعالى بهم أخذهم بغتة‪.‬‬ ‫أولم يهد لهم ‪ :‬أي أولم يبين لهم بمعنى يتبين لهم‪.‬‬ ‫بذنوبهم‪ :‬أي بسبب ذنوبهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫بعدما بين تعالى سنته في المم السابقة‪ ،‬وهي أخذ المة بعد تكذيبها وعصيانها بالبأساء والضراء‪،‬‬ ‫ثم إذا هي لم تتب واستمرت على كفرها وعصيانها أغدق عليها الخيرات حتى عفت بكثرة ما لها‬ ‫وصلح حالها أخذها بغتة فأهلكها‪ ،‬وتم خسرانها في الدارين‪ ،‬فتح تعالى باب التوبة والرجاء‬ ‫لعباده فقال‪{ :‬ولو ‪ 1‬أن أهل القرى ‪ }2‬المكذبين ككفار مكة والطائف وغيرهما من المدن {آمنوا}‬ ‫أي بال ورسوله وبلقاء ال ووعده ووعيده‪{ ،‬واتقوا} ال تعالى في الشرك وفي معصيته ومعصية‬ ‫رسوله لفتح عليهم أبواب السماء بالرحمات والبركات‪ ،‬وفتح عليهم كنوز الرض ورزقهم من‬ ‫الطيبات ولكن أهل القرى الولين كذبوا فأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون‪ ،‬وأهل القرى اليوم‬ ‫وهم مكذبون فإما أن يعتبروا بما أصاب أهل القرى الولين فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا‪ ،‬وإما أن‬ ‫يصروا على الشرك والتكذيب فينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من عذاب البادة والستئصال‪ ،‬هذا ما‬ ‫دلت عليه الية الولى (‪ )96‬وهي قوله تعالى {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم‬ ‫بركات ‪ 3‬من السماء والرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} أما اليات الثلث بعدها‬ ‫فإن ال تعالى ينكر على أهل القرى غفلتهم موبخا لهم على تماديهم وإصرارهم على الباطل معجبا‬ ‫من حالهم فيقول‪{ :‬أفأمن ‪ 4‬أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون؟} أي أجهلوا ما نزل بمن‬ ‫قبلهم فأمنوا أن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لو‪ :‬حرف امتناع ل متناع‪ ،‬امتنع شرطها فامتنع جوابها‪ ،‬وشرطها هنا‪ :‬اليمان والتقوى‬ ‫وجوابها فتح البركات على أهل القرى‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال للمدينة‪ :‬قرية لجتماع الناس فيها مأخوذ من التقرّى الذي هو التجمع يقال‪ :‬قريت الماء في‬ ‫الحوض‪ :‬إذا جمعته‪ ،‬وسمي القرآن قرآنا لجتماع الحروف والكلمات والجمل واليات فيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬البركات‪ :‬جمع بركة‪ ،‬وهي الخير الدائم الصالح الذي ل تبعة فيه في الدنيا ول في الخرة‪.‬‬ ‫وتكون في العمر والمال وفي كل ما هو خير ونافع غير ضار للنسان‪.‬‬ ‫‪ 4‬الستفهام للنكار والتعجب معا‪ ،‬ومكر ال تعالى‪ :‬إمهالهم وإغداق الخير عليهم مع شركهم‬ ‫وكفرهم‪ ،‬إذ المكر‪ :‬أن يظهر المرء الحسان لمن يمكر به ليأخذه فجأة‪ .‬والمن من مكر ال تعالى‬ ‫زيادة على أنه كبيرة من كبائر الذنوب فإنه يؤدي بالمن إلى هلكه دنيا وأخرى‪.‬‬

‫( ‪)2/210‬‬ ‫يأتيهم عذابنا ليلً وهم نائمون؟ {أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا} أي عذابنا {ضحى وهم‬ ‫يلعبون؟} أي أو غفل أهل القرى وأمنوا أن يأتيهم عذابنا ضحى وهم في أعمالهم التي ل تعود‬ ‫عليهم بخير كأنها لعب أطفال يلعبون بها {أفأمنوا مكر ال}؟ أي أغرهم إمهالنا لهم واستدراجنا‬ ‫إياهم فأمنوا مكر ال؟ إنهم في ذلك خاسرون إذ ل يأمن مكر ال إل القوم الخاسرون‪ .‬وقوله تعالى‬

‫في الية الخامسة (‪{ )100‬أو لم يهد للذين يرثون الرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم‬ ‫بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم ل يسمعون} أي عمى الذين يرثون الرض من بعد أهلها ولم‬ ‫يتبين لهم بعد ولم يعلموا أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا الذين ورثوا ديارهم بذنوبهم‬ ‫{ونطبع على قلوبهم فهم ل يسمعون} أي ونجعل على قلوبهم غشاوة حتى ل يعوا ما يقال لهم ول‬ ‫يفهموا ما يراد بهم حتى يهلكوا كما هلك الذين من قبلهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عرض الرحمن تبارك وتعالى رحمته على عباده ولم يطلب منهم أكثر من اليمان والتقوى‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرّمة الغفلة ووجوب الذكر واليقظة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة المن من مكر ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬إذا أمنت المة مكر ال تهيأت للخسران وحل بها ل محالة‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب العتبار بما أصاب الولين‪ ،‬وذلك بترك ما كان سببا لهلكهم‪.‬‬ ‫سُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِبمَا كَذّبُواْ مِن قَ ْبلُ‬ ‫تِ ْلكَ ا ْلقُرَى َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنبَآ ِئهَا وََلقَدْ جَاء ْتهُمْ رُ ُ‬ ‫جدْنَا َأكْثَرَ ُهمْ‬ ‫عهْ ٍد وَإِن وَ َ‬ ‫لكْثَرِهِم مّنْ َ‬ ‫جدْنَا َ‬ ‫كَذَِلكَ َيطْبَعُ الّلهُ عََلىَ قُلُوبِ ا ْلكَافِرِينَ(‪َ )101‬ومَا وَ َ‬ ‫سقِينَ(‪)102‬‬ ‫َلفَا ِ‬

‫( ‪)2/211‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تلك القرى ‪ :‬الشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب‪.‬‬ ‫من أنبائها ‪ :‬أي من أخبارها‪.‬‬ ‫بالبينات‪ :‬بالحجج والبراهين الدالة عل توحيد ال وصدق رسله‪.‬‬ ‫من قبل ‪ :‬أي من قبل خلقهم ووجودهم‪ ،‬إذ علم ال تعالى تكذيبهم عليهم في كتاب المقادير‪.‬‬ ‫وما وجدنا لكثرهم من عهد ‪ :‬أي لم نجد لكثرهم وفاء بعهودهم التي أخذت عليهم يوم أخذ‬ ‫الميثاق‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخاطب الرب تعالى ‪ 1‬رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم قائلً {تلك القرى نقص عليك من‬ ‫أنبائها} أي من أخبارها مع أنبيائها كيف دعتهم رسلهم إلى اليمان والتوحيد والطاعة‪ ،‬وكيف‬ ‫ردت تلك المم دعوة ال واستكبرت على عبادته‪ ،‬وكيف كان حكمنا فيهم لعل قومك يذكرون‬ ‫فيؤمنوا ويوحدوا‪ .‬وقوله تعالى {ولقد جاءتهم رسلهم بالبنيات} أي بالحجج الواضحات على صدق‬ ‫دعوتهم‪ ،‬وما جاءتهم به رسلهم من أمر ونهي من ربهم‪ .‬وقوله {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من ‪2‬‬

‫قبل} أي لم يكن أولئك الهالكون من أهل القرى ليؤمنوا بما كذبوا به في علم ال وقدره إذ علم ال‬ ‫أنهم ل يؤمنون فكتب ذلك عليهم فلذا هم ل يؤمنون‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬كذلك يطبع ال على قلوب‬ ‫الكافرين} أي كما كتب على الهالكين من أهل القرى أنهم ل يؤمنون ولم يؤمنوا فعلً فأهلكهم‪،‬‬ ‫يطبع كذلك على قلوب الكافرين فل يؤمنون حتى يأخذهم العذاب وهم ظالمون بكفرهم‪ .‬وهذا‬ ‫الحكم اللهي قائم على مبدأ أن ال علم من كل إنسان قبل خلقه ما يرغب فيه وما يؤثره على‬ ‫غيره ويعمله باختياره وإرادته فكتب ذلك عليه فهو عند خروجه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سرّ هذا الخطاب زيادة على التعليم لكمال الهداية فإنه تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم مما‬ ‫يلقى من صلف المشركين وعنادهم وجحودهم‪ ،‬وهو تسلية لكل مؤمن ومؤمنة يعاني من صلف‬ ‫المشركين وأذاهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في المضاف إليه المحذوف في قوله‪{ :‬بما كذبوا من قبل} هل المراد‪ :‬من قبل خروجهم‬ ‫للحياة الدنيا وهم في عالم الرواح حيث أمروا باليمان فكذبّوا فكتب ال عليهم ذلك فلن يكون إل‬ ‫هو أو لو أحييناهم بعد إهلكهم بذنوبهم لمّا آمنوا بما كذّبوا به فكان سبب هلكهم‪ ،‬أو سألوا‬ ‫المعجزات ليؤمنوا فلمّا رأوها لم يؤمنوا بما كذّبوا من قبل رؤيتهم المعجزات‪ ،‬والراجح من هذه‬ ‫المقولت ما هو في التفسير إذ هو قول ابن جرير إمام المفسرين‪.‬‬

‫( ‪)2/212‬‬ ‫إلى الدنيا ل يعمل إل به ليصل إلى ما كتب عليه‪ ،‬وقدر له أزلً قبل خلق السموات والرض‪،‬‬ ‫وقوله تعالى {وما وجدنا لكثرهم من عهد ‪ }1‬أي لم نجد لتلك المم التي أهلكنا وهم قوم نوح‬ ‫وهود وصالح ولوط وشعيب‪ .‬لم نجد لكثرهم وفاء بعهدهم الذي أخذناه عليهم قبل خلقهم من‬ ‫اليمان بنا وعبادتنا وطاعتنا وطاعة رسلنا‪ ،‬وما وجدنا ‪ 2‬أكثرهم إل فاسقين عن أمرنا خارجين‬ ‫عن طاعتنا وطاعة رسلنا‪ ،‬وكذلك أحللنا بهم نقمتنا وأنزلنا بهم عذابنا فأهلكناهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير الوحي اللهي وإثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لنه ما ُقصّ من أنباء الولين ل‬ ‫يُتََلقّى إل بوحي إلهي ول يتلقى عن ال تعالى إل رسول أَعِدّ لذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجود البينات مهما كانت قوية واضحة غير كاف في إيمان من لم يشأ ال هدايته‪.‬‬ ‫‪ -3‬المؤمن من آمن في الزل‪ ،‬والكافر من كفر فيه‪.‬‬ ‫‪ -4‬الطبع على قلوب الكافرين سببه اختيارهم للكفر والشر والفساد وإصرارهم على ذلك كيفما‬ ‫كانت الحال‪.‬‬

‫ن َومَلَئِهِ فَظََلمُواْ ِبهَا فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمفْسِدِينَ(‬ ‫عوْ َ‬ ‫ثُمّ َبعَثْنَا مِن َب ْعدِهِم مّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْ َ‬ ‫حقِيقٌ‪ 3‬عَلَى أَن لّ َأقُولَ عَلَى‬ ‫عوْنُ إِنّي رَسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪َ )104‬‬ ‫‪َ )103‬وقَالَ مُوسَى يَا فِرْ َ‬ ‫سلْ َم ِعيَ بَنِي ِإسْرَائِيلَ(‪ )105‬قَالَ إِن كُنتَ‬ ‫اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ قَدْ جِئْ ُتكُم بِبَيّنَةٍ مّن رّ ّبكُمْ فَأَرْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬من عهد} من زائدة لتقوية النفي والدللة على الجنس أي‪ :‬جنس العهد‪ ،‬والعهد من الجائز أن‬ ‫يكون ما أخذ عليهم في عالم الذرّ وهو صحيح قاله ابن عباس وأن يكون ما أخذ عليهم من قِبل‬ ‫النبياء أن يعبدوا ال وحده ويطيعوه ول يعصوه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الية‪{ :‬وإن وجدنا} وإن‪ :‬بمعنى ما النافية فلذا اكتفينا في التفسير بما ولم نذكر إن اختصارا‬ ‫وتقريبا للفهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرأ نافع‪( :‬حقيق عليّ) بياء الضمير المشدّدة وهي بمعنى‪ :‬واجب علىّ خبر ثانٍ لنّ في قوله‪:‬‬ ‫{إنّي رسول من ربّ العالمين} وقرأ غيره (على) حرف جرّ أي‪ :‬محقوق بأن ل أقول على ال إلّ‬ ‫الحق‪ ،‬فحقيق‪ :‬فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول‪.‬‬

‫( ‪)2/213‬‬ ‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ(‪ )107‬وَنَ َزعَ َي َدهُ‬ ‫جِ ْئتَ بِآيَةٍ فَ ْأتِ ِبهَا إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ(‪ )106‬فَأَ ْلقَى َ‬ ‫فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَاء لِلنّاظِرِينَ(‪)108‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ثم بعثنا من بعدهم موسى‪ :‬أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب‪.‬‬ ‫موسى ‪ :‬هو موسى بن عمران من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلم‪.‬‬ ‫بآياتنا‪ :‬هي تسع آيات‪ :‬العصا‪ ،‬واليد‪ ،‬والسنون المجدبة‪ ،‬والدم‪ ،‬والطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل‪،‬‬ ‫والضفادع‪ ،‬والطمس على أموال فرعون‪.‬‬ ‫إلى فرعون‪ :‬أي بعث موسى الرسول إلى فرعون وهو الوليد لق مصعب بن الريان‪ ،‬ملك مصر‪.‬‬ ‫وملئه ‪ :‬أي أشراف قومه وأعيانهم من رؤساء وكبراء‪.‬‬ ‫فظلموا بها ‪ :‬أي ظلموا أنفسهم باليات وما تحمله من هدى حيث كفروا بها‪.‬‬ ‫بينة من ربكم ‪ :‬حجة قاطعة وبرهان ساطع على أني رسول ال إليكم‪.‬‬ ‫ونزع يده ‪ :‬أخرجها بسرعة من جيبه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى {ثم بعثنا من بعدهم موسى} هذا شروع في ذكر القصص السادس مما اشتملت عليه‬ ‫سورة العراف‪ ،‬وهي قصص موسى عليه السلم مع فرعون وملئه‪ .‬قال تعالى وهو يقص على‬ ‫نبيه ليثبت به فؤاده‪ ،‬ويقرر به نبوته‪ ،‬ويعظ أمته‪ ،‬ويذكر به قومه {ثم بعثنا من بعدهم} أي من بعد‬

‫نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران إلى فرعون وملئه من رجالت ملكه ودولته‪،‬‬ ‫وقوله بآياتنا‪ .‬هي تسع آيات لتكون حجة على صدق‬

‫( ‪)2/214‬‬ ‫رسالته وأحقية دعوته‪ .‬وقوله تعالى {فظلموا ‪ 1‬بها} أي جحدوها ولم يعترفوا بها فكفروا بها وبذلك‬ ‫ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم بها‪ ،‬واستمروا على كفرهم وفسادهم حتى أهلكهم ال تعالى بإغراقهم‪،‬‬ ‫ثم قال لرسوله {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي دمارا وهلكا وهى عاقبة كل مفسد في‬ ‫الرض بالشرك والكفر والمعاصي‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )103‬وأما اليات بعدها فإنها‬ ‫في تفصيل أحداث هذا القصص العجيب‪ .‬وأتى موسى فرعون وقال {يا فرعون ‪ 2‬إني رسول من‬ ‫رب العالمين‪ ،‬حقيق} أي جدير وخليق بي {أن ل أقول على ال إل الحق‪ ،‬قد جئتكم ببينة من‬ ‫ربكم} دالة على صدقي شاهدة بصحة ما أقول {فأرسل ‪ 3‬معي بني إسرائيل} لذهب بهم إلى‬ ‫أرض الشام التي كتب ال لهم وقد كانت دار آبائهم‪ .‬وهنا تكلم فرعون وطالب موسى بالية التي‬ ‫ذكر أنه جاء بها فقال {إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين} أي فيما تدعيه وتقول‬ ‫به وتدعوا إليه‪ .‬وهنا ألقى موسى عصاه أي أمام فرعون المطالب بالية {فإذا هي ثعبان مبين} أي‬ ‫حية عظيمة تهتز أمام فرعون وملئه كأنها جان ‪ ،4‬هذه آية وزاده أخرى فأدخل يده في جيبه كما‬ ‫علمه ربه ونزعها {فإذا هي بيضاء للناظرين} بيضاء بياضا غير معهود مثله في أيدي الناس‪ .‬هذا‬ ‫ما تضمنته هذه اليات الخمس في هذا السياق‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سوء عاقبة المفسدين بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -2‬تذكير موسى فرعون بأسلوب لطيف بأنه ليس ربا بل هناك رب العالمين وهو ال رب موسى‬ ‫وهارون والناس أجمعين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬فظلموا بها} أي‪ :‬ظلموا أنفسهم بالتكذيب باليات‪ ،‬وجائز أن يكون ظلموا بسببها غيرهم ممن‬ ‫منعوهم من اليمان بها إذ هدّدوهم بالقتل وجائز أن يضمّن الظلم هنا معنى الكفر أي كفروا بها‬ ‫وهو صحيح المعنى‪.‬‬ ‫‪ 2‬فرعون‪ :‬علم جنس لمن يملك مصر في القديم ككسرى‪ :‬لكل من يملك فارسا وقيصر‪ :‬لكل من‬ ‫يملك الروم ونمرود‪ :‬لمن ملك الكنعانيين‪ ،‬والنجاشي‪ :‬للحباش‪ ،‬وتبع‪ ،‬لحمير ونداء موسى له‬ ‫بقوله يا فرعون‪ :‬فيه نوع احترام‪ ،‬إذ ناداه بعنوان الملك والسلطان‪.‬‬

‫‪ 3‬الفاء تفريعية أي‪ :‬ما بعدها متفرّع عمّا قبلها‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجانّ‪ :‬هنا حية أكحل العينين تسكن البيوت ل تؤذى كثيرة التقلّب والهتزاز‪.‬‬

‫( ‪)2/215‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ الصدق لدى الرسل عليهم السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬ظهور آيتين لموسى ال َعصَا واليد‪.‬‬ ‫ضكُمْ َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ(‬ ‫جكُم مّنْ أَ ْر ِ‬ ‫عوْنَ إِنّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(‪ )109‬يُرِيدُ أَن يُخْ ِر َ‬ ‫قَالَ ا ْلمَلُ مِن َقوْمِ فِرْ َ‬ ‫سلْ فِي ا ْل َمدَآئِنِ حَاشِرِينَ(‪ )111‬يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(‪)112‬‬ ‫‪ )110‬قَالُواْ أَ ْرجِ ْه وََأخَاهُ وَأَرْ ِ‬ ‫شرح الكلمات‬ ‫ساحر عليم ‪ :‬أي ذو علم بالسحر خبير به ليس مجرد مدّع‪.‬‬ ‫من أرضكم‪ :‬أي من بلدكم ليستولى عليها ويحكمكم‪.‬‬ ‫فماذا تأمرون ‪ :‬أي أشيروا بما ترون الصواب في حل هذا المشكل‪.‬‬ ‫أرجه ‪ :‬أي أمهله وأخاه ل تعجل عليهما قبل اتخاذ ما يلزم من الحتياطات‪.‬‬ ‫في المدائن ‪ :‬مدن المملكة الفرعونية‪.‬‬ ‫حاشرين ‪ :‬رجالً يجمعون السحرة الخبراء في فن السحر للمناظرة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تفصيل قصص موسى مع فرعون فبعد أن تقدم موسى بما طلب فرعون منه‬ ‫من الية فأراه آية العصا‪ ،‬واليد‪ ،‬وشاهد المل من قوم فرعون اليتين العظيمتين قالوا {إن هذا‬ ‫لساحر عليم} وذلك لما بهرتهم اليتان تحول العصا إلى حية عظيمة واليد بيضاء من غير سوء‬ ‫كالبرص بل بياضها عجب ‪ 1‬حتى لكأنها فلقة قمر أي قطعة منه‪ ،‬واتهموا موسى فورا بالسياسة‬ ‫وأنه يريد بهذا إخراجكم من بلدكم ليستولي عليها هو وقومه من بني إسرائيل‪ ،‬وهنا تكلم فرعون‬ ‫وقال‪{ :‬فماذا تأمرون ‪ }2‬أي بم تشيرون عليّ أيها المل والحال كما ذكرتم؟ فأجابوه قائلين {أرجه‬ ‫‪ 3‬وأخاه} أي أوقفهما عندك {وأرسل في المدائن حاشرين ‪}4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬كان ليد موسى نور ساطع يضيء ما بين السماء والرض‪.‬‬ ‫‪ 2‬يرى بعضهم أنّ المستفهم غير فرعون‪ ،‬الصحيح أنه فرعون لنهزامه معنويا‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرأ ورش‪{ :‬أرجه} بإشباع كسر الهاء‪ ،‬وقرأ الجمهور {أرجه} بإسكان الهاء‪ ،‬وقرأ بضّ بكسر‬ ‫الهاء بدون مدّ‪.‬‬ ‫‪ 4‬قيل هي صعيد مصر إذ هو مقرّ العلماء بالسحر‪ ،‬والمدائن جمع مدينة وتجمع على مدن واصل‬ ‫اشتقاقها من مدن بالمكان إذا أقام به‪.‬‬

‫( ‪)2/216‬‬ ‫أي رجالً من الشرط يحشرون أي يجمعون أهل الفن من السحرة من كافة أنحاء اليالة أي القليم‬ ‫المصري‪ ،‬وأجر معه مناظرة فإذا انهزم انتهى أمره وأمنا من خطره على بلدنا وأوضاعنا‪ .‬هذا‬ ‫ما دلت عليه اليات الربع في هذا السياق‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫هن هداية اليات‬ ‫‪ -1‬جهل المل باليات أدى بهم إلى أن قالوا إن موسى ساحر عليم‪.‬‬ ‫‪ -2‬مكر المل وخبثهم إذ اتهموا موسى سياسيا بأنه يريد الملك وهو كذب بحت وإنما يريد إخراج‬ ‫بني إسرائيل من مصر حيث طال استعبادهم وامتهانهم من قبل القباط وهم أبناء النبياء وأحفاد‬ ‫إسرائيل واسحق وإبراهيم عليهم السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيحة فرعون حيث نسي دعواه الربوبية‪ ،‬فاستشار المل في شأنه‪ ،‬إذ الرب الحق ل يستشير‬ ‫عباده فيما يريد فعله لنه ل يجهل ما يحدث مستقبلً‪.‬‬ ‫‪ -4‬السحر صناعة من الصناعات يتعلم ويبرع فيها المرء‪ ،‬ويتقدم حتى يتفوق على غيره‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة السحر وحرمة تعلمه‪ ،‬ووجوب إقامة الحد على من ظهر عليه وعرف به‪.‬‬ ‫عوْنَ قَالْواْ إِنّ لَنَا لَجْرًا إِن كُنّا َنحْنُ ا ْلغَالِبِينَ(‪ )113‬قَالَ َنعَ ْم وَإَ ّنكُمْ َلمِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ(‬ ‫وَجَاء السّحَ َرةُ فِرْ َ‬ ‫سحَرُواْ‬ ‫‪ )114‬قَالُواْ يَا مُوسَى ِإمّا أَن تُ ْل ِقيَ وَِإمّا أَن ّنكُونَ َنحْنُ ا ْلمُ ْلقِينَ(‪ )115‬قَالَ أَ ْلقُوْاْ فََلمّا أَ ْل َقوْاْ َ‬ ‫سحْرٍ عَظِيمٍ(‪)116‬‬ ‫س وَاسْتَرْهَبُوهُ ْم وَجَاءوا بِ ِ‬ ‫أَعْيُنَ النّا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫السحرة ‪ :‬جمع ساحر وهو من يتقن فن السحر ويؤثر في أعين الناس بسحره‪.‬‬ ‫إن لنا لجرا ‪ :‬أي ثوابا من عندك أي أجرا تعطيناه إن نحن غلبنا‪.‬‬

‫( ‪)2/217‬‬ ‫نحن الملقين ‪ :‬لعصيّنا‪.‬‬ ‫سحروا أعين الناس ‪ :‬حيث صار النظارة في الميدان يشاهدون عصي السحر وحبالهم يشاهدونها‬ ‫حيات وثعابين تمل الساحة‪.‬‬ ‫واسترهبوهم ‪ :‬أي خلوا الرهب والرعب في قلوب الناس من قوة أثر السحر في عيونهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلم من جهة وبين فرعون وملئه من جهة‬

‫أخرى‪ ،‬فقد جاء في اليات السابقة أن المل أشاروا على فرعون بأن يحبس موسى وأخاه هارون‬ ‫ويرسل شرطة في المدن يأتون بالخبراء في فن السحر لمناظرة موسى عسى أن يغلبوه‪ ،‬وفعلً‬ ‫أرسل فرعون في مدنه حاشرين يجمعون خبراء السحر‪ ،‬وها هم أولء قد وصلوا قال تعالى‬ ‫{وجاء السحرة فرعون ‪ }1‬وعرفوا أن الموقف جد صعب على فرعون فطالبوه بالجر العظيم إن‬ ‫هم غلبوا موسى وأخاه فوافق فرعون على طلبهم‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬وجاء السحرة فرعون‬ ‫قالوا إن ‪ 2‬لنا لجرا إن كنا نحن الغالبين؟ قال نعم} وزادهم أيضا أن يجعلهم من خواصه ورجال‬ ‫قصره فقال {وإنكم لمن المقربين} أي لدينا‪ .‬وهنا تقدموا لموسى وكأنهم على ثقة في قوتهم‬ ‫السحرية وأن الجولة ستكون لهم‪ ،‬تقدموا بإلقاء آلتهم السحرية أو تقدم موسى عليهم فقالوا {يا‬ ‫موسى ‪ 3‬إما أن تلقي‪ ،‬وإما أن نكون نحن الملقين} أي ألق عصاك أو نلقي نحن عصينا فقال لهم‬ ‫موسى {ألقوا} ‪ 4‬فألقوا فعلً فسحروا أعين ‪ 5‬الناس وجاءوا بسحر عظيم كما أخبر تعالى المر‬ ‫الذي استرهب النظارة حتى إن موسى عليه السلم أوجس في نفسه خيفة فنهاه ربه تعالى عن ذلك‬ ‫وأعلمه أنه الغالب بإذن ال تعالى جاء هذا الخبر في سورة طه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقد ذكر القرطبي في عدد السحرة أخبارا مثلها ل يصح‪ ،‬إذ جاء في بعضهم أن عددهم كان‬ ‫سبعين ألف ساحر‪ ،‬والقرب إلى أن يكونوا سبعين رجلً‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرىء في السبع بهمزة الستفهام {أئن لنا لجرا} وقرىء بدونها {إنّ لنا لجرا}‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال القرطبي‪ :‬تأدّبوا مع موسى إذ استشاروه فيمن يبدأ باللقاء فنفعهم ال بأدبهم مع نبيّه‬ ‫فأسلموا وسعدوا برضوان ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 4‬في إذنه لهم باللقاء توفيق ربّاني عظيم إذ معناه أنه احتفظ بالضربة الخيرة وصاحبها يغلب‬ ‫بإذن ال دائما‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬خيّلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة‬ ‫وخفة اليد‪.‬‬

‫( ‪)2/218‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية طلب الجرة على العمل الذي يقوم به النسان خارجا عن نطاق العبادة‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية الترقيات الحكومية لذي الخدمة الجُلى للدولة‪.‬‬ ‫‪ -3‬تأثير السحر على أعين الناس حقيقة بحيث يرون الشيء على خلف ما هو عليه إذ العصي‬ ‫والحبال استحالت في أعين الناس إلى حيات وثعابين‪.‬‬

‫طلَ مَا كَانُواْ‬ ‫ق وَبَ َ‬ ‫حّ‬ ‫عصَاكَ فَإِذَا ِهيَ تَ ْلقَفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ(‪َ )117‬ف َوقَعَ الْ َ‬ ‫وََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ َ‬ ‫جدِينَ(‪ )120‬قَالُواْ آمَنّا بِ ِربّ‬ ‫ك وَانقَلَبُو ْا صَاغِرِينَ(‪ )119‬وَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ سَا ِ‬ ‫َي ْعمَلُونَ(‪َ )118‬فغُلِبُواْ هُنَاِل َ‬ ‫ا ْلعَاَلمِينَ(‪َ )121‬ربّ مُوسَى وَهَارُونَ(‪)122‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تلقف‪ :‬تأخذ بسرعة فائقة وحذق عجيب‪.‬‬ ‫ما يأفكون‪ :‬ما يقلبون بسحرهم وتمويههم‪.‬‬ ‫فوقع الحق ‪ :‬ثبت وظهر‪.‬‬ ‫صاغرين ‪ :‬ذليلين‪.‬‬ ‫ساجدين ‪ :‬ساقطين على وجوههم سجدا لربهم رب العالمين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في المناظرة أو المباراة بين موسى عليه السلم وسحرة فرعون‪ ،‬فبعد أن ألقى‬ ‫السحرة حبالهم وعصيهم في الساحة وانقلبت بالتمويه السحري حيات وثعابين ورهب الناس من‬ ‫الموقف وظن فرعون ومله أنهم غالبون أوحى ال تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه فألقاها {فإذا‬ ‫هي تلقف ‪ 1‬ما يأفكون} أي تأخذه وتبتلعه وبذلك وقع الحق أي ظهر وثبت‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء (تَ ْلقَف) و(تلَقّف) بتضعيف القاف‪ ،‬والصل‪ :‬تتلقف فحذف إحدى التاءين تخفيفا‪ ،‬وقرىء‬ ‫في الشاذ‪ :‬تلقّم بالميم بدل الفاء‪ ،‬ومعنى الكلّ تبتلع بسرعة وتزدرده‪ ،‬وصيغة المضارع في الفعلين‬ ‫لستحضار الماضي كأنّه حاضر ليكون أوقع في النفس‪.‬‬

‫( ‪)2/219‬‬ ‫واستقر {وبطل ما كانوا يعملون} أي السحر والتمويه وقوله تعالى {فغلبوا} أي فرعون ومله‬ ‫وقومه {هنالك} أي في ساحة المباراة والمناظرة {وانقلبوا} إلى ديارهم {صاغرين} أي ذليلين‬ ‫مهزومين‪ .‬وقوله تعالى {وألقي السحرة ساجدين} أي إنهم بعد أن شاهدوا الية الكبرى بهرتهم‬ ‫فخروا ساجدين كأنما ألقاهم ‪ 1‬أحد على وجه الرض ل حراك لهم وهم يقولون ‪{ 2‬آمنا برب‬ ‫العالمين رب موسى وهارون} وضمن ذلك فقد كفروا بربوبية فرعون الباطلة‪ ،‬لن اليمان بال‬ ‫سيلزم الكفر بما عداه‪ ،‬ولذا قالوا {آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} تلويحا بكفرهم بفرعون‬ ‫الطاغية وبكل إله غير ال‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنته تعالى في أن الحق والباطل إذا التقيا في أي ميدان فالغلبة للحق دائما‪.‬‬

‫‪ -2‬بطلن السحر وعدم فلح أهله ولقوله تعالى من سورة طه {ول يفلح الساحر حيث أتى}‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل العلم وأنه سبب الهداية فإيمان السحرة كان ثمرة العلم‪ ،‬إذ عرفوا أن ما جاء به موسى‬ ‫ليس سحرا وإنما هو آية له من ال فآمنوا‪.‬‬ ‫‪ -4‬مظهر من مظاهر القضاء والقدر فالسحرة أصبحوا كافرين وأمسوا مسلمين‪.‬‬ ‫س ْوفَ‬ ‫عوْنُ آمَنتُم بِهِ قَ ْبلَ أَن آذَنَ َلكُمْ إِنّ هَذَا َل َمكْرٌ ّمكَرْ ُتمُوهُ فِي ا ْلمَدِي َنةِ لِ ُتخْرِجُواْ مِ ْنهَا أَهَْلهَا فَ َ‬ ‫قَالَ فِرْ َ‬ ‫ج َمعِينَ(‪ )124‬قَالُواْ إِنّا إِلَى رَبّنَا‬ ‫لصَلّبَ ّنكُمْ َأ ْ‬ ‫لفٍ ثُ ّم ُ‬ ‫طعَنّ أَيْدِ َي ُك ْم وَأَرْجَُلكُم مّنْ خِ َ‬ ‫لقَ ّ‬ ‫َتعَْلمُونَ(‪ُ )123‬‬ ‫مُنقَلِبُونَ(‪َ )125‬ومَا تَنقِمُ مِنّا ِإلّ أَنْ آمَنّا بِآيَاتِ رَبّنَا َلمّا جَاءتْنَا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَ َت َوفّنَا‬ ‫مُسِْلمِينَ(‪)126‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬ألقوا أنفسهم على الرض‪ ،‬وبني الفعل للمجهول لظهور الفاعل وهو أنفسهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬قالوا آمنّا بربّ العالمين حال هو يهم للسجود إعلما منهم إنهم ما سجدوا لفرعون كما يفعل‬ ‫ب موسى وهارون‪.‬‬ ‫القباط‪ ،‬وإنّما سجدوا ل رب العالمين ر ّ‬

‫( ‪)2/220‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آمنتم به‪ :‬أي صدقتموه فيما جاء به ودعا إليه‪.‬‬ ‫مكر مكرتموه ‪ :‬أي حيلة احتلتموها وتواطأتم مع موسى على ذلك‪.‬‬ ‫من خلف‪ :‬بأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس‪.‬‬ ‫ثم لصلبنكم ‪ :‬التصليب‪ :‬الشد على خشبة حتى الموت‪.‬‬ ‫منقلبون ‪ :‬أي راجعون‪.‬‬ ‫وما تنقم منا‪ :‬أي وما تكره منا وتنكر علينا إل إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا‪.‬‬ ‫أفرغ علينا صبرا‪ :‬أي أفض علينا صبرا قويا حتى نثبت على ما توعدنا فرعون من العذاب ول‬ ‫نرتد بعد إيماننا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون ففي اليات قبل هذه تمت المناظرة بين موسى‬ ‫والسحرة بنصر موسى عليه السلم وهزيمة فرعون النكراء حيث سحرته بعد ظهور الحق لهم‬ ‫واضحا مكشوفا آمنوا وأسلموا وسجدوا ل رب العالمين‪ .‬وفي هذه اليات يخبر تعالى عن محاكمة‬ ‫فرعون للسحرة فقال عز من قائل {قال فرعون} أي للسحرة {آمنتم ‪ 1‬به} أي بموسى {قبل أن آذن‬ ‫لكم} أي في اليمان به‪ ،‬وهي عبارة فيها رائحة الهزيمة والحمق‪ ،‬وإل فهل اليمان يتأتي فيه‬ ‫الذن وعدمه‪ ،‬اليمان إذعان باطني ل علقة له بالذن إل من ال تعالى‪ ،‬ثم قال لهم {إن هذا‬

‫لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} أي إن هذا الذي قمتم به من ادعاء الغلب لموسى‬ ‫بعدما أظهرتم الحماس في بداية المباراة ما هو إل مكرا وتدبير خفي تم بينكم وبين موسى في‬ ‫المدينة قبل الخروج إلى ساحة المباراة‪ ،‬والهدف منه إخراجكم الناس ‪ 2‬من المدينة واستيلئكم‬ ‫عليها‪ .‬ثم تهددهم وتوعدهم بقوله {فسوف تعلمون} ما أنا صانع بكم‪ .‬وذكر ما عزم عليه فقال‬ ‫مقسما {لقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف} يريد بقطع من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله‬ ‫اليسرى‪ ،‬ثم يربطهم على أخشاب في ساحة معينة ليموتوا كذلك نكالً وعبرة لغيرهم‪ .‬هذا ما أعلنه‬ ‫فرعون وصرح به‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام هنا للنكار والتهديد أي‪ :‬ينكر على السحرة إيمانهم ويهددهم بالبطش بهم والتنكيل‪.‬‬ ‫‪ 2‬قد يكون المراد بعض الناس وهم بنو إسرائيل إذ موسى جاء يطالب بهم ليخرج بهم إلى أرض‬ ‫القدس‪.‬‬

‫( ‪)2/221‬‬ ‫للسحرة المؤمنين فما كان جواب السحرة {قالوا إنا إلى ربنا منقلبون} أي راجعون فقتلك إيانا لم‬ ‫يزد على أن قربنا من ربنا وردنا إليه ونحن في شوق إلى لقاء ربنا‪ ،‬وعليه فحكمك بقتلنا ما هو‬ ‫بضائرنا‪ ،‬وشيء آخر هو أنك {ما تنقم ‪ 1‬منا} يا فرعون أي ما تكره منا ول تنكر علينا إجراما‬ ‫أجرمناه أو فسادا في الرض اشعناه إنما تنقم منا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا وهذا شيء ل مذمة‬ ‫فيه علينا‪ ،‬ول عارا يلحقنا‪ ،‬فلذا {اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} ثم أقبلوا على‬ ‫ال ورفعوا أيديهم إليه وقالوا ضارعين سائلين {ربنا أفرغ علينا صبرا} حتى نتحمل العذاب في‬ ‫ذاتك {وتوفنا مسلمين ‪ ،}2‬ونفذ فرعون جريمته ‪ 3‬ولكن أحدث ذلك اضطرابا في البلد ولم يكن‬ ‫فرعون ول مله يتوقعون دل عليه اليات التالية‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬القلوب المظلمة بالكفر ولجرائم أصحابها ل يتورعون عن الكذب واتهام البرياء‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضيلة السترجاع أن يقول {إنا ل وإنا إليه راجعون} حيث فزع إليها السحرة لما هددهم‬ ‫فرعون إذ قالوا {إنا إل ربنا منقلبون} أي راجعون فهان عديهم ما تهددوا به‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية سؤال الصبر على البلء للثبات على اليمان‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل الوفاة على السلم وأنه مطلب عال لهل اليمان‪.‬‬ ‫َوقَالَ ا ْلمَلُ مِن َقوْمِ فِرْعَونَ أَ َتذَرُ مُوسَى َو َق ْومَهُ لِ ُيفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ وَ َيذَ َركَ وَآِلهَ َتكَ قَالَ سَ ُنقَتّلُ‬ ‫أَبْنَاء ُه ْم وَنَسْتَحْيِي ِنسَاء ُه ْم وَإِنّا َف ْوقَهُمْ قَاهِرُونَ(‪ )127‬قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال‪ :‬نقَم ينقم من باب ضرب‪ ،‬نقْما ونقَما على أنه من باب تعِب تعبا إذا أنكر الفعل وكره‬ ‫صدوره وحقد على فاعله‪ ،‬ويكون بالقول والفعل‪.‬‬ ‫‪ 2‬كلمة السلم معروفة في كل زمان ومكان بين المؤمنين ويعبر عنها كل قوم بلغتهم إذ معناها‬ ‫النقياد ل مع حبّه تعالى وتعظيمه والشوق إليه‪.‬‬ ‫‪ 3‬لم يرد في القرآن ما يدل على أنّ فرعون نفّد وعيده في السحرة أو لم ينفذه‪ ،‬وعدم ذكر القرآن‬ ‫له لنه خالٍ من الفائدة‪ ،‬وذكر القرطبي بصيغة التمريض فقال‪ :‬قيل إنّ فرعون أخذ السحر‬ ‫وقطعهم على شاطىء النهر وأنّه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف وال أعلم‪.‬‬ ‫??‬

‫( ‪)2/222‬‬ ‫ن الَ ْرضَ لِلّهِ يُورِ ُثهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَا ِد ِه وَا ْلعَاقِبَةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ(‪ )128‬قَالُواْ‬ ‫اسْ َتعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِ ّ‬ ‫ع ُد ّوكُ ْم وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ‬ ‫أُوذِينَا مِن قَ ْبلِ أَن تَأْتِينَا َومِن َبعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ َ‬ ‫فَيَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ(‪)129‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫قال المل‪ :‬أي لفرعون‪.‬‬ ‫أتذر‪ :‬أي أتترك‪.‬‬ ‫وقومه ‪ :‬أي بني إسرائيل‪.‬‬ ‫ليفسدوا في الرض ‪ :‬أي في البلد بالدعوة إلى مخالفتك‪ ،‬وترك طاعتك‪.‬‬ ‫وآلهتك‪ :‬أصناما صغارا وضعها ليعبدها الناس وقال أنا ربكم العلى وربها‪.‬‬ ‫نستحيي نساءهم ‪ :‬نبقي على نسائهم ل تذبحهن كما تذبح الطفال الذكور‪.‬‬ ‫ويستخلفكم في الرض ‪ :‬أي يجعلكم خلفاء فيها تخلفون الظالمين بعد هلكهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون أنه بعد انتصار موسى في المباراة وإيمان‬ ‫السحرة ظهر أمر موسى واتبعه ستمائة ألف من بني إسرائيل‪ ،‬وخاف قوم فرعون من إيمان‬ ‫الناس بموسى ولما جاء به من الحق قالوا لفرعون على وجه التحريض والتحريك له {أتذر موسى‬ ‫وقومه } يريدون بني إسرائيل {ليفسدوا في الرض} أي أرض مصر بإفساد خدمك ‪ 1‬أو عبيدك‬ ‫{ويذرك وآلهتك ‪ }2‬أي ويتركك فل يخدمك ول يطيعك ويترك آلهتك فل‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬وإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل أيضا‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقرىء {وإلهتك} أي‪ :‬عبادتك وعلى هذا فإنه كان َيعْبُد ول يُعبد والوجه الوّل أظهر‪.‬‬

‫( ‪)2/223‬‬ ‫يعبدها إذ كان لفرعون أصنام يدعو الناس لعبادتها لتقربهم إليه وهو الرب العلى للكل‪.‬‬ ‫وبعد هذا التحريش والغراء من رجال فرعون ليبطش بموسى وقومه قال فرعون {سنقتل ‪1‬‬ ‫أبناءهم ونستحيي نساءهم} كما كان يفعل قبل عندما أخبر بأن سقوط ملكه سيكون على يد بني‬ ‫إسرائيل {وإنا فوقهم قاهرون} هذه الكلمة من فرعون في هذا الظرف بالذات ل تعد وأن تكون‬ ‫تعويضا عما فقد من جبروت ورهبوت كان له قبل هزيمته في المباراة وإيمان السحرة برب‬ ‫العالمين رب موسى وهارون‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )127‬وهي قوله تعالى {وقال المل‬ ‫من قوم فرعون‪ :‬أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الرض‪ ،‬ويذرك وآلهتك‪ .‬قال سنقتل أبناءهم‬ ‫ونستحيي نساءهم‪ ،‬وإنا فوقهم قاهرون} وكان رد موسى عليه السلم على هذا التهديد والوعيد‬ ‫الذي أرعب بني إسرائيل وأخافهم ما جاء في الية الثانية (‪{ )128‬وقال موسى لقومه} أي من بني‬ ‫إسرائيل {استعينوا بال} على ما قد ينالكم من ظلم فرعون‪ ،‬وما قد يصيبكم من أذى انتقاما لما فقد‬ ‫من علوه وكبريائه {واصبروا} على ذلك‪ ،‬واعلموا {ان الرض ل يورثها من يشاء من عباده‬ ‫والعاقبة للمتقين} فمتى صبرتم على ما يصيبكم فلم تجزعوا فترتدوا‪ ،‬واتقيتم ال ربكم فلم تتركوا‬ ‫طاعته وطاعة رسوله أهلك عدوكم وأورثكم أرضه ودياره‪ ،‬وسبحان ال هذا الذي ذكره موسى‬ ‫لبني إسرائيل قد تم حرفيا بعد فترة صبر فيها بنو إسرائيل واتقوا كما سيأتي في هذا السياق بعد‬ ‫كذا آية‪ ،‬وهنا قال بنو إسرائيل ما تضمنته الية الخيرة (‪{ )129‬قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا} بما‬ ‫أتيتنا به من الدين واليات‪ ،‬وذلك عندما كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم للخدمة {ومن‬ ‫بعدما جئتنا} وهذه منهم كلمة اليس المهزوم نفسيا لطول ما عانوا من الضطهاد والعذاب من‬ ‫فرعون وقومه القباط‪ .‬فأجابهم موسى عليه السلم قائلً‪ :‬محييا المل في نفوسهم وإيصالهم بقوة‬ ‫ال التي ل تقهر {عسى ‪ 2‬ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الرض فينظر كيف ‪ 3‬تعملون}‬ ‫وهذا الذي رجاه موسى ورجاه بني إسرائيل قد تم كاملً بل نقصان والحمد ل الكريم المنان‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬آنس قومه بهذه الجملة من الكلم وأذهب عنهم روح الهزيمة‪ ،‬ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه‬ ‫ل يقدر عليه ولما أصابه من الرّعب منه حتى قيل‪ :‬إنه كان إذا رآه يبول من شدّة الخوف منه‬ ‫وهي آية موسى عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬عسى من ال واجب أي ليست للرجاء فقط بل ما يذكر جمعها يقع ل ب ّد ول يتخلّف‪ ،‬ولذا قد‬ ‫تحقق ما ذكر معها هنا كاملً ل نقص فيه‪.‬‬

‫‪ 3‬كيف‪ :‬ليست للستفهام هنا وإنّما هي دالة على مجرّد كيفية أعمالهم هل هي أعمال صالحة أو‬ ‫فاسدة أي‪ :‬هل يشكرون؟‬

‫( ‪)2/224‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪-1‬خطر بطانة السوء على الملوك والرؤساء تجلت في إثارة فرعون ودفعه إلى البطش بقولهم‬ ‫{أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الرض‪ ...‬الخ}‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان فضيلة الصبر والتقوى وأنها مفتاح النصر وإكسير الكمال البشري‪.‬‬ ‫‪ -3‬النفوس المريضة علجها عسير ولكن بالصبر والمثابرة تشفى إن شاء ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان صدق ما رجاه موسى من ربه حيث تحقق بحذافيره‪.‬‬ ‫‪ -5‬استحسان رفع معنويات المؤمنين بذكر حسن العاقبة والتبشير بوعد ال لوليائه أهل اليمان‬ ‫والتقوى‪.‬‬ ‫ن وَ َن ْقصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ َلعَّل ُهمْ يَ ّذكّرُونَ(‪ )130‬فَِإذَا جَاء ْتهُمُ ا ْلحَسَنَةُ قَالُواْ‬ ‫خذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِي َ‬ ‫وَلَقَدْ أَ َ‬ ‫لَنَا َه ِذ ِه وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ يَطّيّرُواْ ِبمُوسَى َومَن ّمعَهُ أَل إِ ّنمَا طَائِرُ ُهمْ عِندَ اللّ ُه وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَ‬ ‫سحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ(‪ )132‬فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ‬ ‫َيعَْلمُونَ(‪َ )131‬وقَالُواْ َم ْهمَا تَأْتِنَا ِبهِ مِن آيَةٍ لّتَ ْ‬ ‫لتٍ فَاسْ َتكْبَرُواْ َوكَانُواْ َق ْومًا مّجْ ِرمِينَ(‪)133‬‬ ‫ضفَا ِدعَ وَالدّمَ آيَاتٍ ّم َفصّ َ‬ ‫ل وَال ّ‬ ‫ن وَالْجَرَا َد وَا ْل ُقمّ َ‬ ‫الطّوفَا َ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫أخذنا آل فرعون بالسنين ‪ : 1‬أي عاقبناهم بِسِنِيى الجدب والقحط‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال ‪ :‬أصابتهم سنة أي ‪ :‬جدب وتقديره‪ :‬جدب سنة وفي الحديث‪" :‬اللّهم اجعلها عليهم سنين‬ ‫كسني يوسف" دعاء على قريش‪.‬‬

‫( ‪)2/225‬‬ ‫ونقص من الثمرات‪ :.‬بالحوائج تصيبها‪ ،‬وبعدم صلحيتها‪.‬‬ ‫الحسنة ‪ :‬ما يحسن من خصب ورخاء وكثرة رزق وعافية‪.‬‬ ‫سيئة ‪ :‬ضد الحسنة وهي الجدب والغلء والمرض‪.‬‬ ‫يطيروا بموسى ‪ :1‬أن يتشاءمون بموسى وقومه‪.‬‬ ‫الطوفان والجراد والقمل والضفادع ‪ :‬الطوفان الفيضانات المغرقة‪ ،‬والجراد معروف بأكل الزرع‬

‫والثمار‪ ،‬والقمل جائز أن يكون القمل المعروف وجائز أن يكون السوس في الحبوب‪ ،‬والضفادع‬ ‫جمع ضفدعة‪ .‬حيوان يوجد في المياه والمستنقعات‪.‬‬ ‫والدم‪ :‬والدم معروف قد يكون دم رعاف أو نزيف‪ ،‬أو تحول الماء ماء الشرب إلى دم عبيط في‬ ‫أوانيهم وأفواههم آية لموسى عليه السلم‪.‬‬ ‫فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‪ :‬حيث لم يؤمنوا بهذه اليات‪ .‬أي مفسدين حيث حكم بإهلكهم‪.‬‬ ‫معنى اليات ‪:‬‬ ‫ما زال السياق في قصص موسى مع آل فرعون انه لما شاهد فرعون وآله آية العصا وانهزام‬ ‫السحر أمامهم وإيمان السحرة حملهم الكبر على مواصلة الكفر والعناد فأصابهم الرب تعالى‬ ‫بجفاف وقحط سنوات لعلهم يذكرون‪ ،‬ولم يذكروا فحول ال تعالى جدبهم إلى خصب‪ ،‬وبلءهم إلى‬ ‫عافية فلم يرجعوا وقالوا في الرخاء هذه لنا نحن مستحقوها وجديرون بها‪ ،‬وقالوا في القحط‬ ‫والبلء قالوا هذه من شؤم موسى وبنى إسرائيل‪ ،‬قال تعالى {أل أنما طائرهم عند ال} وذلك لنه‬ ‫مدبر المر وخالق كل شيء وجاعل للحسنة أسبابها وللسيئة أسبابها ولكن أكثرهم ل يعلمون فلذلك‬ ‫قالوا اطيرنا بموسى ومن معه وأصروا على الكفر ولجوا في المكابرة والعناد حتى قالوا لموسى‬ ‫{مهما ‪ 2‬تأتنا به من آية‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل الكلمة‪ :‬يتطيّروا فأدغمت التاء في الطاء لنّ مخرجهما واحد‪ ،‬والطير والتطير مأخوذ من‬ ‫زجر الطير‪ .‬إذ كانوا إذا أرادوا عمل ما سفرا ونحوه يزجرون الطير فإن تيامن في طيرانه‬ ‫أقدموا على العمل‪ ،‬وإن تشاءم تركوا فهذا أصل اليمن والشؤم كان في الجاهلية وأبطله السلم‪.‬‬ ‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬الطيرة شرك ثلثا" وما منا إل‪ ،‬ولكن ال يذهبه بالتوكل‬ ‫وعلمهم أن يقولوا‪" :‬اللهم ل طير إلّ طيرك ول خير إل خيرك ول إله غيرك"‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل مهما‪ :‬ما‪ .‬ما الولى شرطية والثانية زائدة توكيدا للجزاء فكرهوا حرفين من جنس واحد‬ ‫متجاورين فأبدلوا اللف هاء ففصلت بين الميمين‪.‬‬

‫( ‪)2/226‬‬ ‫لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} ولو علموا ما أصروا على الكفر ولما قالوا ما قالوا فأسباب‬ ‫الحسنة اليمان والتقوى‪ ،‬وأسباب السيئة الكفر والمعاصي‪ ،‬إذ المراد بالحسنة والسيئة هنا‪ :‬الخير‬ ‫والشر‪ .‬وهنا وبعد هذا الصرار والعناد والمكابرة رفع موسى يديه إلى ربه يدعوه فقال‪ :‬يا رب‬ ‫إن عبدك فرعون عل في الرض وبغا وعتا‪ ،‬وأن قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها‬ ‫عليهم نقمة‪ ،‬ولقومي عظة‪ ،‬ولمن بعدهم آية‪ ،‬فاستجاب ال تعالى دعاءه فأرسل عليهم الطوفان‬ ‫ل فكادوا يهلكون بالغرق فجاءوا موسى‬ ‫والجراد والقمل والضفادع ‪ 1‬والدم فأخذهم الطوفان أو ً‬

‫وطلبوا منه أن يدعو ربه ليرفع عنهم هذا العذاب فإن رفعه عنهم آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل‬ ‫فدعا ربه واستجاب ال تعالى فأخذوا شهرا في عافية فطلب منهم موسى ما وعدوه به فتنكروا‬ ‫لوعدهم وأصروا على كفرهم فأرسل ال تعالى عليهم الجراد ‪ 2‬فأكل زروعهم وأشجارهم وثمارهم‬ ‫حتى ضجوا وصاحوا وأتوا موسى وأعطوه وعودهم إن رفع ال عنهم هذا العذاب آمنوا وأرسلوا‬ ‫معه بني إسرائيل فرفع ال عنهم ذلك فلبثوا مدة آمنين من هذه العاهة وطالبهم موسى بوعدهم‬ ‫فتنكروا له‪ ،‬وهكذا حتى تمت اليات الخمس مفصلت ما بين كل آية وأخرى مدة تقصر وتطول‬ ‫فاستكبروا عن اليمان والطاعة وكانوا قوما مجرمين مفسدين ل خير فيهم ول عهد لهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬من تدبير ال تعالى أخذه عباده بالشدائد لعلهم يذكرون فيتعظون ويتوبون‪.‬‬ ‫‪ -2‬بطلن التطير مطلقا‪ ،‬وإنما الشؤم في المعاصي بمخالفة شرع ال فيترتب على الفسق‬ ‫والعصيان البلء والعذاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬الجهل سبب الكفر والمعاصي وسوء الخلق وفساد الحوال‪.‬‬ ‫‪ -4‬عدم إيمان آل فرعون مع توارد اليات عليهم دال على أن إيمانهم لم يسبق به القدر‪ .‬كما هو‬ ‫دال على أن اليات المعجزات ل تستلزم اليمان بالضرورة‪.‬‬ ‫‪ -5‬التنديد بالجرام وهو إفساد النفس بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صح النهي عن النبي صلى ال عليه وسلم "عن قتل الصّرد والضفدع والنملة والهدهد" من‬ ‫رواية أبي داود وأحمد وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في قتل الجراد‪ ،‬وأجمعوا أنه إذا أفسد جاز قتله‪ .‬وأجمعوا على جواز أكله بأكل الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم منه هو وأصحابه في بعض الغزوات‪.‬‬ ‫??‬

‫( ‪)2/227‬‬ ‫ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ لَ ُن ْؤمِنَنّ‬ ‫عهِدَ عِن َدكَ لَئِن كَ َ‬ ‫علَ ْيهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ‬ ‫وََلمّا َوقَعَ َ‬ ‫جلٍ هُم بَاِلغُوهُ ِإذَا ُهمْ يَنكُثُونَ(‬ ‫شفْنَا عَ ْنهُمُ الرّجْزَ ِإلَى َأ َ‬ ‫ك وَلَنُرْسِلَنّ َم َعكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ(‪ )134‬فََلمّا كَ َ‬ ‫َل َ‬ ‫‪ )135‬فَان َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ فِي الْ َيمّ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ عَ ْنهَا غَافِلِينَ(‪ )136‬وََأوْرَثْنَا ا ْلقَوْمَ‬ ‫ض َو َمغَارِ َبهَا الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا وَ َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ ا ْلحُسْنَى عَلَى‬ ‫ق الَ ْر ِ‬ ‫ضعَفُونَ َمشَارِ َ‬ ‫الّذِينَ كَانُواْ ُيسْ َت ْ‬ ‫ن َو َقوْمُ ُه َومَا كَانُواْ َيعْرِشُونَ(‪)137‬‬ ‫عوْ ُ‬ ‫بَنِي إِسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُو ْا وَ َدمّرْنَا مَا كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫الرجز ‪ :‬العذاب وهو الخمسة المذكورة في آية (‪ )133‬النفة الذكر‪.‬‬ ‫إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ‪ :‬المراد من الجل أنهم كانوا إذا سألوا موسى أن يدعو ربه‬ ‫ليرفع عنهم العذاب ويعدونه باليمان وإرسال بني إسرائيل معه فيرفع ال عنهم العذاب فيمكثون‬ ‫زمنا ثم يطالبهم موسى باليمان وإرسال بني إسرائيل فيأبون عليه ذلك وينكثون عهدهم‪.‬‬ ‫فانتقمنا منهم‪ :‬أي أنزلنا بهم نقمتنا فأغرقناهم في اليم الذي هو البحر‪.‬‬

‫( ‪)2/228‬‬ ‫الذين كانوا يستضعفون ‪ :.‬هم بنو إسرائيل‪.‬‬ ‫مشارق الرض ومغاربها ‪ :‬هي أرض مصر والشام‪.‬‬ ‫وتمت كلمة ربك الحسنى ‪ :‬هي وعده تعالى لهم في قوله {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في‬ ‫الرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} من سورة القصص‪.‬‬ ‫وما كانوا يعرشون ‪ :1‬أي يرفعون من مباني الدور والقصور العالية‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون وقومه‪ ،‬وهذه هي اليات الخيرة في هذا القصص‬ ‫إنه لما وقع عليهم الرجز وهو العذاب المفصل ‪ 2‬الطوفان فالجراد‪ ،‬فالقمل‪ ،‬فالضفادع‪ ،‬فالدم {قالوا‬ ‫يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك} ‪ 3‬أي من كشف العذاب عنا إن نحن آمنا بك وبما جئت به‬ ‫وبما تطالب به من إرسال بني إسرائيل معك وحلفوا وقالوا {لئن كشفت عنا الرجز} {لنؤمن لك‬ ‫ولنرسلن معك بني إسرائيل} قال تعالى‪{ :‬فلما كشف عنهم الرجز} أي العذاب {إلى أجل هم بالغوه}‬ ‫إلى وقت ينتهون إليه {إذ هم ينكثون ‪ }4‬عهودهم ولم يؤمنوا ولم يرسلوا بني إسرائيل وكان هذا ما‬ ‫بين كل آية وآية حتى كانت الخمس اليات‪ ،‬ودقت ساعة هلكهم قال تعالى {فأغرقناهم في اليم}‬ ‫وهو البحر الملح أي أغرق فرعون وجنده ورجال دولته وأشراف بلده‪ ،‬ثم ذكر تعالى علة هذا‬ ‫الهلك الذي حاق بهم ليكون عبرة لغيرهم وخاصة قريش التي ما زالت مصرة على الشرك‬ ‫والتكذيب‪ ،‬فقال تعالى {بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} كما هي الحال في‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ما عهد عندك} الباء لتعدية فعل الدعاء‪ ،‬وما موصولة مبهم أي‪ :‬ادعه بما علمك ربك من‬ ‫وسائل إجابة دعائك عنده ليكشف عنا الرّجز‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل النكث‪ :‬هو نقض المقول من حبل وغزل واستعير لعدم الوفاء بالعهد‪.‬‬ ‫‪ 3‬شبّه البناء العالي الرفيع بالعرش يقال‪ :‬عرش يعرش عرشا‪ :‬إذا رفع البناء أو السرير والعنب‬ ‫والدوالي يعرش لها بناء من خشب ليرفعها عليه‪.‬‬

‫‪ 4‬وقيل إنه طاعون قتل منهم سبعين ألف نسمة إذ لفظ الرجز دالّ على مرض الطاعون لقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}‪.‬‬

‫( ‪)2/229‬‬ ‫قريش ومشركي العرب وكفارهم‪ .‬وختم تعالى هذا القصص قصص موسى مع فرعون بقوله‬ ‫{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} وهم بنو إسرائيل حيث استعبدهم فرعون الظالم وآله زمنا‬ ‫غير قصير {مشارق الرض ومغاربها ‪ }1‬وهي أرض مصر والشام إذ الكل مما بارك ال تعالى‬ ‫فيه إل أن أرض الشام أولً ثم أرض مصر ثانيا‪ ،‬إذ دخل بنو إسرائيل أرض فلسطين بعد وفاة‬ ‫موسى وهارون حيث غزا بهم يوشع بن نون العمالقة في أرض فلسطين وفتح البلد وسكنها بنو‬ ‫إسرائيل وقوله تعالى {وتمت كلمة ربك الحسني على بنى إسرائيل بما صبروا} والمراد من كلمة‬ ‫ال قوله في سورة القصص {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الرض ونجعلهم أئمة‬ ‫ونجعلهم الوارثين‪ ،‬ونمكن لهم في الرض‪ ،‬ونرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون}‬ ‫وقوله تعالى {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه} من سلح وعتاد ومبان شداد‪ ،‬وقصور رفيعة‬ ‫البنيان‪{ ،‬وما كانوا يعرشون} ويرفعون ويعلون من صروح عالية‪ ،‬وحدائق أعناب زاهية زاهرة‬ ‫وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قوما آخرين غيرهم‪ ،‬وال يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‪ .‬إلى‬ ‫هنا انتهى قصص موسى عليه السلم مع فرعون وملئه وكانت العاقبة له والحمد ل‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ضعف النسان يظهر عند نزول البلء به حيث يفزع إلى ال تعالى يدعوه ويضرع إليه وعند‬ ‫رفعه حيث ينسى ما نزل به ويعود إلى عاداته وما كان عليه من الشرك والمعاصي إل من آمن‬ ‫وعمل صالحا فأنه يخرج من دائرة الضعف حيث يصبر عند البلء ويشكر عند النعماء‪.‬‬ ‫‪ -2‬سبب العذاب في الدنيا والخرة التكذيب بآيات ال بعدم اليمان والعمل بها‪ ،‬والغفلة عنها حيث‬ ‫ل يتدبّر ول يفكر فيها وفي ما نزلت لجله‪.‬‬ ‫‪ -3‬مظاهر قدرة ال‪ ،‬وصادق وعده‪ ،‬وعظيم منته على خلقه‪ ،‬وحسن تدبيره فيهم فسبحانه من إله‬ ‫عليم حكيم رؤوف رحيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كما يصدق هذا على أرض الشام إذلها مشارق ومغارب‪ ،‬ومن بينها الرض المقدّسة أرض‬ ‫فلسطين يصدق أيضا على أرض مصر وغيرها إذ مملكة بني إسرائيل على عهد سليمان كانت قد‬ ‫انتظمت المعمورة كلّها‪.‬‬

‫( ‪)2/230‬‬ ‫جعَل لّنَا إَِلهًا‬ ‫وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْ َبحْرَ فَأَ َتوْاْ عَلَى َقوْمٍ َي ْعكُفُونَ عَلَى َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى ا ْ‬ ‫طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪)139‬‬ ‫جهَلُونَ(‪ )138‬إِنّ َهؤُلء مُتَبّرٌ مّا ُهمْ فِي ِه وَبَا ِ‬ ‫َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ قَالَ إِ ّنكُمْ َقوْمٌ َت ْ‬ ‫قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِيكُمْ إَِلهًا وَ ُهوَ َفضَّلكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )140‬وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ‬ ‫عظِيمٌ(‪)141‬‬ ‫سوَءَ ا ْل َعذَابِ ُيقَتّلُونَ أَبْنَاء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُ ْم َوفِي ذَِلكُم بَلء مّن رّ ّبكُمْ َ‬ ‫ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‪ :‬أي قطعنا بهم فاجتازوه إلى ساحله‪.‬‬ ‫يعكفون على أصنام لهم‪ :‬يجلسون إلى تماثيل بقر منحوتة من حجر‪.‬‬ ‫اجعل لنا إلها‪ :‬أي معبودا يريدون تمثالً كالذي شاهدوا‪.‬‬ ‫تجهلون‪ :‬أي أنّ العبادة ل تكون إل ل تعالى‪.‬‬ ‫متبرما هم فيه‪ :‬هالك خاسر ل يكسبهم خيرا ول يدفع عنهم شرا‪.‬‬ ‫وإذ نجيناكم‪ :‬أي واذكروا نعم ال عليكم بإنجائه إياكم من آل فرعون‪.‬‬ ‫يسومونكم سوء العذاب ‪ :‬يوردونكم موارد الردى والهلك بما يصيبونكم به من عذاب‪.‬‬ ‫بلء من ربكم‪ :‬أي اختبار وامتحان قاسٍ شديد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا بداية قصص جديد لنبي ال تعالى موسى مع قومه من بني إسرائيل إنه بعد هلك فرعون‬ ‫وجنوده في اليم‪ ،‬انتهى الكلم على دعوة موسى لفرعون وملئه‪ ،‬وبذلك استقبل موسى وأخوه‬ ‫هارون مشاكل جديدة مع قومهما أنه بعد أن جاوز تعالى ببني إسرائيل البحر‬

‫( ‪)2/231‬‬ ‫ونزلوا على شاطئه سالمين مرّوا بأناس يعكفون ‪ 1‬على تماثيل لهم وهي عبارة عن أبقار حجرية‬ ‫منحوتة نحتا يعبدونها وهم عاكفون عليها وما إن رأى بنو إسرائيل هؤلء العاكفين على الصنام‬ ‫حتى قالوا لموسى يا موسى اجعل لنا إلها كما لهؤلء آلهة‪ ،‬وهي كلمة دالة على جهلٍ بال تعالى‬ ‫وآياته‪ ،‬فما كان من موسى عليه السلم حتى جابههم بقوله‪{ :‬إنكم قوم تجهلون} وواصل تأنيبه لهم‬ ‫وإنكاره الشديد عليهم فقال {إن هؤلء} أي العاكفين على الصنام والذين غرتكم حالهم {متبر ‪ 2‬ما‬ ‫هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} أي إنهم وما هم عليه من حال في هلك وخسار‪ ،‬ثم قال لهم‬ ‫منكرا متعجبا {أغير ال أبغيكم إلها} أي غير ربي عز وجل أطلب لكم إلها تعبدونه دون ال ما‬ ‫لكم أين يذهب بعقولكم‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى فضلكم على العالمين وشرفكم على سائر سكان‬

‫المعمورة ‪ 3‬أهكذا يكون شكركم له بطلب إلى غيره‪ ،‬وهل هناك من يستحق العبادة غيره؟ وقوله‬ ‫تعالى في الية الخيرة (‪{ )141‬وإذ أنجيناكم ‪ 4‬من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} أي‬ ‫واذكروا يا من قلتم اجعل لنا إلها كما للمشركين آلهة اذكروا فضل ال عليكم بإنجائه إياكم من‬ ‫فرعون وآله وهم الذين كانوا على منهجه في الظلم والكفر من رجال حكمه وأفراد شرطه‬ ‫وجيوشه {يسومونكم سوء العذاب‪ :‬يقتلون أبناءكم} حتى ل تكثروا‪{ ،‬ويستحيون نساءكم} للمتهان‬ ‫والخدمة‪ ،‬وفي هذا التعذيب والنجاء منه {بلء من ربكم عظيم} يتطلب شكركم ل كفركم‪ ،‬فكيف‬ ‫تريدون أن تعبدوا غيره‪ ،‬وتشركوا به أصناما ل تنفع ول تضر‪ ،‬إن أمركم لجد مستغرب وعجب‬ ‫فاتقوا ال وتوبوا إليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلم أن يجعل لهم إلها يعبدونه دال على جهل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء {يعكُفون} بكسر الكاف وضمها سبعيتان‪ ،‬والعكوف‪ :‬القامة على الشيء وملزمته‪ ،‬ومنه‬ ‫العكوف في المساجد وهو القامة بها وملزمتها مدّه للعبادة‪.‬‬ ‫‪ 2‬متبّر‪ :‬مهلك‪ ،‬والتبار‪ :‬الهلك‪ ،‬وكل إناء منكسر فهو متبّر‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا التفضيل خاص بزمانهم الذي كانوا فيه مع أنبيائهم وهم صالحون‪.‬‬ ‫‪ 4‬بعد أن أنكر عليهم طلبهم إلها غير ال في قوله {أغير ال أبغيكم إلها} ذكرهم بنعمة ال عليهم‬ ‫وهي‪ :‬إنجاؤهم من آل فرعون فهل يليق بمن ينعم ال عليه بنعمة عظيمة أن ينساه ويطلب إلها‬ ‫غيره يعبده بدله أو معه؟‬

‫( ‪)2/232‬‬ ‫تام في بني إسرائيل ولذا قال لهم موسى {إنكم قوم تجهلون} فالعلة في هذا الطلب العجيب هي‬ ‫الجهل بال تعالى وأسمائه وصفاته‪ ،‬يشهد لهذا أن مسلمة الفتح لما خرج بهم رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم إلى حنين مروا بسدرة قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم أجعلها لنا ذات أنواط ننيط بها‬ ‫أسلحتنا‪ ،‬كما للمشركين نظيرها ينيطون بها أسلحتهم لينتصروا في القتال على أعدائهم فعجب‬ ‫الرسول من قولهم وقال "سبحان ال ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى‪ :‬اجعل لنا إلها‬ ‫كما لهم آلهة" فجهل القائلين هو الذي سهل عليهم أن يقولوا مثل هذا القول‪ ،‬ويشهد لذلك أن آلف‬ ‫الشجار والمزارات في بلد المسلمين تزار ويتبرك بها وتقدم لها القرابين ول علة لذلك سوى‬ ‫جهل المسلمين بربهم عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -2‬إنكار المنكر عند وجوده والعثور عليه بالسلوب الذي يغيره‪.‬‬

‫‪ -3‬استحباب التذكير بأيام ال خيرها وشرها لستجلب الموعظة للناس لعلهم يتوبون‪.‬‬ ‫‪ -4‬الرب تعالى يبتلى بالخير والغير‪ ،‬وفي كل ذلك خير لمن صبر وشكر‪.‬‬ ‫َووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَ ْيلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ فَ َتمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْ َبعِينَ لَيْلَ ًة َوقَالَ مُوسَى لَخِيهِ هَارُونَ‬ ‫ح َولَ تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ(‪ )142‬وََلمّا جَاء مُوسَى ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ قَالَ‬ ‫اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِ ْ‬ ‫سوْفَ تَرَانِي فََلمّا‬ ‫َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَن تَرَانِي وََلكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ َف َ‬ ‫ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‬ ‫ص ِعقًا فََلمّا َأفَاقَ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ‬ ‫جعَلَهُ َدكّا َوخَرّ موسَى َ‬ ‫تَجَلّى رَبّهُ لِلْجَ َبلِ َ‬ ‫ك َوكُن مّنَ‬ ‫لمِي َفخُذْ مَا آتَيْ ُت َ‬ ‫علَى النّاسِ بِرِسَالَتِي وَ ِبكَ َ‬ ‫طفَيْ ُتكَ َ‬ ‫‪ )143‬قَالَ يَا مُوسَى إِنّي اصْ َ‬ ‫الشّاكِرِينَ(‪َ )144‬وكَتَبْنَا‬

‫( ‪)2/233‬‬ ‫حسَ ِنهَا‬ ‫شيْءٍ َفخُذْهَا ِبقُ ّو ٍة وَ ْأمُرْ َق ْومَكَ يَ ْأخُذُواْ بِأَ ْ‬ ‫شيْءٍ ّموْعِظَ ًة وَ َت ْفصِيلً ّل ُكلّ َ‬ ‫لَهُ فِي الَ ْلوَاحِ مِن ُكلّ َ‬ ‫سقِينَ(‪)145‬‬ ‫سَأُرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ميقات‪ :‬الميقات الوقت المعين‪.‬‬ ‫أخلفني في قومي ‪ :‬أي كن خليفتي فيهم‪.‬‬ ‫المفسدين ‪ :‬الذين يعملون بالمعاصي‪.‬‬ ‫استقر مكانه‪ :‬ثبت ولم يتحول‪.‬‬ ‫خرّ ‪ :‬سقط على الرض‪.‬‬ ‫أفاق ‪ :‬ذهب عنه الغماء وعاد إليه ‪ 1‬وعيه‪.‬‬ ‫اصطفيتك ‪ :‬أخترتك ‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل انه لما نجى ال تعالى بني إسرائيل من‬ ‫فرعون وملئه‪ ،‬وحدثت حادثة طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلها كما للمشركين إلها‬ ‫وقد أنبأهم موسى وأدبهم عن قولهم الباطل واعد ال تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور وجعل‬ ‫له الموعد الذي يلقاه فيه شهرا ثلثين يوما وكانت شهر القعدة وزادها عشرا من أول الحجة فتم‬ ‫الميقات أربعين ‪ 2‬ليلة‪ .‬وعند خروجه عليه السلم استخلف في بني إسرائيل أخاه هارون ‪3‬‬ ‫وأوصاه بالصلح‪ ،‬ونهاه عن إتباع آراء المفسدين هذا معنى قوله تعالى {وواعدنا موسى ثلثين‬ ‫ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لخيه هارون اخلفني في قومي‬ ‫وأصلح ول تتبع سبيل المفسدين} وكان‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬في الحديث الصحيح أنّ النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬ل تخيروا بين النبياء فإنّ الناس‬ ‫يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فل أدري أصعق‬ ‫فيمن صعق فأفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور"‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر ابن عباس ومجاهد ومسروق في سبب زيادة العشرة أيام‪ :‬أن موسى لمّا أكمل صيام‬ ‫الثلثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك‪ .‬فقالت له الملئكة‪" :‬إنّا كّنا نستنشق من فيك رائحة المسك‬ ‫فأفسدته بالسواك فزيد فيه عشر ليال فتم له بذلك أربعون يوما‪ .‬في الحديث الصحيح " خلوف فم‬ ‫الصائم أطيب عند ال من ريح المسك"‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على استخلف المرء أخاه لينوب عنه في حفظ ورعاية ما كلّفه به‪ ،‬ومن العجب‬ ‫أن الروافض استدلوا بقول الرسول صلى ال عليه وسلم لعلي وقد استخلفه في إحدى غزواته "أما‬ ‫ن الصحاب كفروا لتركهم‬ ‫ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّ أنّه ل نبي بعدي" إ ّ‬ ‫النّص في خلفة علي واجتهدوا واستخلفوا أبا بكر‪ ،‬ومنهم من كفّر عليا لنه لم يطالب بالخلفة‬ ‫وما دروا أنّ الرسول استخلف غير واحد ومنهم ابن أمّ مكتوم فهل دلّ ذلك على استخلفه على‬ ‫أمته بعد موته؟ فما أضل القوم وأعظم جهلهم!‬

‫( ‪)2/234‬‬ ‫ذلك من أجل أن يأتي بني إسرائيل بكتاب من ربهم يتضمن شريعة كاملة يساسون بها وتحكمهم‬ ‫ليكملوا وشحعدوا عليها‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {ولما جاء موسى لميقاتنا ‪ }1‬أي في الموعد الذي واعدنا والوقت الذي حددنا وكلمه‬ ‫ربه بل واسطة بينهما بل كان يسمع كلمه ول يرى ذاته‪ ،‬تاقت نفس موسى لرؤية ربه تعالى‪،‬‬ ‫فطلب ذلك فقال {رب أرني أنظر إليك} فأجابه ربه تعالى بقوله إنك لن تراني أي رؤيتك لي غير‬ ‫ممكنة لك‪ ،‬ولكن إذا أردت أن تتأكد من أن رؤيتك لي في هذه الحياة غير ممكنة فانظر إلى الجبل‬ ‫"جبل الطور"فإن استقر مكانه بعد أن أتجلى له‪ ،‬فسوف لراني {فلما تجلى ‪ 2‬للجبل جعله دكا وخر‬ ‫موسى} عند رؤية الجبل {صعقا} أي مغشيا عليه {فلما أفاق} مما اعتراه من الصعق {قال‬ ‫سبحانك} أي تنزيها لك وتقديسا {تبت إليك ‪ }3‬فلم أسألك بعد مثل هذا السؤال {وأنا أول المؤمنين}‬ ‫بك وبجللك وعظيم سلطانك وأنا عبدك عاجز عن رؤيتك في هذه الدار دار التكليف والعمل‪.‬‬ ‫وهنا أجابه ربه تعالى قائل {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلمي فخذ ما آتيتك}‬ ‫من هذا الكمال ‪ 4‬والخير العظيم {وكن من الشاكرين} أي على إنعامي لزيدك وذلك بطاعتي‬ ‫والتقرب إلى بفعل محابي وترك مكارهي‪ .‬وقوله تعالى {وكتبنا له في اللواح ‪ 5‬من كل شيء‬ ‫موعظة وتفصيلً لكل شيء} أي كتبت له في ألواحه من كل شيء‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬في الية دليل على مشروعية الموادعة والتوقيت وأن التاريخ يكون باللّيالي ل باليام‪ ،‬قال ابن‬ ‫العربي‪ :‬حساب الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك‪.‬‬ ‫‪ 2‬تجلّى معناه ظهر‪ ،‬واندكاك الجبل على قوة بنيته وعظيم جسمه كان لعجزه عن رؤية الربّ‬ ‫تبارك وتعالى وهذا كقوله تعالى‪{ :‬ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من‬ ‫خشية ال}‪.‬‬ ‫‪ 3‬الجماع على أنّ توبة موسى هذه لم تكن من ذنب وإنما هي بمعنى النابة إلى ال تعالى وعدم‬ ‫طلب مثل هذا الذي طلب‪.‬‬ ‫‪ 4‬فيه الدعوة إلى القناعة وهي خير ما يؤتى المرء في الحياة‪.‬‬ ‫‪ 5‬اختلف في أيهما كان أوّل اللواح أو التوراة‪ ،‬والظاهر أن اللواح كانت أ ّولً ثم أوحيت التوراة‬ ‫عليها فصارت كتابا واحدا هو التوراة‪.‬‬

‫( ‪)2/235‬‬ ‫من أمور الدين والدنيا موعظة لقومه من أمر ونهي وترغيب وترهيب‪ ،‬وتفصيلً لكل شيء‬ ‫يحتاجون إلى بيانه وتفصيله‪ .‬وقوله {فخذها بقوة} أي وقلنا له خذها بقوة أي بعزم وجد وذلك‬ ‫ل وتركا‪{ ،‬وأمر قومك} أيضا {يأخذوا بأحسنها} أي بما هو عزائم فيها‬ ‫بالعمل بحللها وحرامها فع ً‬ ‫وليس برخص تربية لهم وتعويدا لهم على تحمل العظائم لما لزمهم من الضعف والخور دهرا‬ ‫طويلً‪ .‬وقوله تعالى {سأريكم دار الفاسقين ‪ } 1‬يتضمن النهي لبني إسرائيل عن ترك ما جاء في‬ ‫اللواح من الشرائع والحكام فإنهم متى تركوا ذلك أو شيئا منه يعتبرون فاسقين‪ ،‬وللفاسقين نار‬ ‫جهنم هي جزاؤهم يوم يلقون ربهم‪ ،‬وسيريهم إياها‪ ،‬فهذه الجملة تحمل غاية الوعيد والتهديد للذين‬ ‫يفسقون عن شرائع ال تعالى بإهمالها وعدم العمل بها‪ ،‬فليحذر المؤمنون هذا فإنه أمر عظيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬المحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه وهو من سمات الصادقين‪.‬‬ ‫‪ -2‬جواز الستخلف في الرض في مهام المور فضلً عما هو دون ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية الوصية للخلفاء بما هو خير‪.‬‬ ‫‪ -4‬امكان رؤية ال تعالى وهي ثابتة في الخرة لهل الجنة‪.‬‬ ‫‪ -5‬استحالة رؤية ال تعالى في الدنيا لضعف النسان على ذلك‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجود المة القابلة لحكام ال قبل وجود الشرع الذي يحكمها‪.‬‬ ‫ق وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَ ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا وَإِن‬ ‫حّ‬ ‫سََأصْ ِرفُ عَنْ آيَا ِتيَ الّذِينَ يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬ ‫ل وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ ا ْل َغيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا‬ ‫خذُوهُ سَبِي ً‬ ‫ش ِد لَ يَتّ ِ‬ ‫يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّ ْ‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬وجائز أن يُراد بدار الفاسقين‪ :‬بلد القدس والشام إذ سكانها كانوا فاسقين فواعد ال بني‬ ‫إسرائيل بدخول تلك البلد والنتصار على أهلها الفاسقين‪.‬‬

‫( ‪)2/236‬‬ ‫عمَاُل ُهمْ َهلْ يُجْ َزوْنَ ِإلّ مَا‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫َوكَانُواْ عَ ْنهَا غَافِلِينَ(‪ )146‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الخِ َرةِ حَ ِب َ‬ ‫كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪)147‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سأصرف ‪ :‬سأبعد‪.‬‬ ‫يتكبرون‪ :‬يعلون ويترفعون فيمنعون الحقوق ويحتقرون الناس‪.‬‬ ‫سبيل الرشد‪ :‬طريق الحق القائم على اليمان والتقوى‪.‬‬ ‫سبيل الغي ‪ :‬طريق الضلل القائم على الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫وكانوا عنها غافلين‪ :‬ل يلتفتون إليها ول ينظرون فيها ول يتفكرون فيما تدل عليه وتهدي إليه‪.‬‬ ‫حبطت أعمالهم‪ :‬فسدت فل ينتفعون بها لنها أعمال مشرك والشرك محبط للعمل‪.‬‬ ‫معنى اليتين الكريمتين‪:‬‬ ‫هاتان اليتان تحملن تعليلً صحيحا صائبا لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الرض ويقع‬ ‫إلى نهاية هذه الحياة وهذا التعليل الصحيح هو التكذيب بآيات ال والغفلة عنها‪ ،‬وسواء كان‬ ‫الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم‪ ،‬أو التقليد أو العناد‪ ،‬إل أن الكبر أقوى عوامل الصرف عن‬ ‫آيات ال تعالى لقوله عز وجل في مطلع الية الولى (‪{ )146‬سأصرف ‪ 1‬عن آياتي الذين‬ ‫يتكبرون في الرض بغير الحق} ومن صرفه ال حسب سنته في صرف العباد ل يقبل ول يرجع‬ ‫أبداً‪ ،‬وقوله {وإن يروا سبيل الرشد ‪ 2‬ل يتخذوه سبيلً‪ ،‬وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلً} هذا‬ ‫بيان لعامل من عوامل الصرف عن آيات ال‪ .‬وهو أن يعرض على العبد سبيل الرشد فيرفضه‪،‬‬ ‫ويرى سبيل الغي فيتبعه ويتخذه سبيلً‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال قتادة‪ :‬سأمنعهم فهم كتابي وقال سفيان‪ :‬سأصرفهم عن اليمان بها وذلك مجازاة لهم على‬ ‫تكبّرهم‪ .‬وما ذكرناه في التفسير ل يتنافى مع هذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬الرشد‪ :‬ضد السفه والخيبة وقرىء بالضم وقرىء بفتح الراء والشين الرّشد‪ ،‬وقرىء يُروا بضم‬ ‫الياء‪.‬‬

‫( ‪)2/237‬‬

‫وقوله تعالى {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} التي جاءت بها رسلنا {وكانوا عنها غافلين} غير مبالين بها‬ ‫ول ملتفتين ‪ 1‬إليها هذا هو التعليل الصحيح الذي نبهنا إليه فليتأمل‪ ،‬وقوله تعالى في الية الثانية (‬ ‫‪{ )147‬والذين كذبوا بآياتنا ‪ 2‬ولقاء الخرة حبطت أعمالهم} تقرير المراد به تأكيد سران أولئك‬ ‫المصروفين عن آيات ال تعالى‪ ،‬إذ أعمالهم لم تقم على أساس العدل والحق بل قامت على أساس‬ ‫الظلم والباطل فلذا هي باطلة من جهة فل تكسبهم خيرا‪ ،‬ومن جهة أخرى فهي أعمال سوء سوف‬ ‫يجزون بها سوءا في دار الجزاء وهو عذاب الجحيم‪ ،‬ولذا قال تعالى {هل يجزون إل ما كانوا‬ ‫يعملون} أي ما يجزون إل ما كانوا يعملون من السوء‪ ،‬وعدالة ال تعالى أن من جاء بالسيئة فل‬ ‫يجزى إل مثلها وهم ل يظلمون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في صرف العباد عن آيات ال حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله‪.‬‬ ‫‪ -2‬من أقوى عوامل الصرف عن آيات ال الكبر‪.‬‬ ‫‪ -3‬التكذيب بآيات ال والغفلة عنها هما سبب كل ضلل وشر وظلم وفساد‪.‬‬ ‫‪ -4‬بطلن كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد التي هي سبيل ال التي تحدد اليات‬ ‫القرآنية وتبين معالمها‪ ،‬وترفع أعلمها‪.‬‬ ‫خوَارٌ أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُ ْم َولَ َي ْهدِيهِمْ‬ ‫وَاتّخَذَ َقوْمُ مُوسَى مِن َب ْع ِدهِ مِنْ حُلِ ّيهِمْ عِجْلً جَسَدًا لّهُ ُ‬ ‫حمْنَا‬ ‫سقِطَ فَي أَ ْيدِيهِ ْم وَرََأوْاْ أَ ّنهُمْ َق ْد ضَلّواْ قَالُواْ لَئِن لّمْ يَ ْر َ‬ ‫سَبِيلً اتّخَذُو ُه َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ(‪ )148‬وََلمّا ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مع ما تحمله من الوعد والوعيد‪ ،‬وبيان الهدى والضلل‪ ،‬والخير والشر والحق والباطل فغفلتهم‬ ‫الناشئة عن مرض قلوبهم بسبب الكبر والتكذيب هي التي حالت دون تذكرهم وتدبرّهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬اليات في الية السابقة عامة في المعجزات الكونية في النفس والفاق‪ ،‬والتنزيلة القرآنية‪،‬‬ ‫وفي هذه الية المراد بها‪ :‬القرآنية بقرينة التكذيب بها ويوم القيامة‪.‬‬

‫( ‪)2/238‬‬ ‫رَبّنَا وَ َيغْفِرْ لَنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ(‪)149‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من حليهم ‪ :‬جمع حلى ‪ 1‬وهو ما تتحلى به المرأة لزوجها من أساور ونحوها من ذهب‪.‬‬ ‫عجلً جسدا‪ :‬العجل ولد البقرة والجسد أي ذاتا ل مجرد صورة على ورق أو جدار‪.‬‬ ‫له خوار ‪ :‬الخوار صوت البقر كالرغاء ‪ 2‬صوت البل‪.‬‬

‫ولما سقط في أيديهم ‪ :‬أي ندموا على عبادته لنها عبادة باطلة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا عود إلى قصص موسى عليه السلم مع قومه من بني إسرائيل‪ ،‬فقد كان السياق مع موسى‬ ‫في جبل الطور وطلبه الرؤية وتوبته من ذلك ثم اعترض السياق ببيان القاعدة العظيمة في تعليل‬ ‫هلك العباد وبيان سببه وهو التكذيب بآيات ال المنزلة والغفلة عنها‪ ،‬ثم عاد السياق لقصص‬ ‫موسى مع بني إسرائيل فقال تعالى {واتخذ قوم موسى من بعده} أي من بعد غيبته في جبل الطور‬ ‫لمناجاة ربه وليأتي بالكتاب الحاوي للشريعة التي سيسوسهم بها موسى ويحكمهم بموجبها‬ ‫ومقتضى قوانينها اتخذوا {من حليهم} أي حلي نسائهم {عجلً جسدا له خوار ‪ }3‬وذلك أن السامري‬ ‫‪ 4‬طلب من نسائهم حليهم بحجة واهية‪ :‬أن هذا الحلي مستعار من نساء القباط ول يحل تملكه‬ ‫فاحتال عليهم وكان صائغا فصهره وأخرج لهم منه {عجلً‪ 5‬جسدا} أي ذاتا {له خوار} أي صوت‬ ‫كصوت البقر‪ ،‬وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ولم يقل وإله هارون لن هارون كان‬ ‫معهم خليفة‬ ‫__________‬ ‫ي وَحِلي كثدي يجمع على ثُدي بضم الياء وثِدي بكسرها‪.‬‬ ‫‪ 1‬الحلي‪ :‬يجمع على حُل ّ‬ ‫‪ 2‬والثغاء‪ .‬صوت الشاة‪ ،‬والمواء‪ :‬صوت القط‪ ،‬والعراء‪ :‬صوت الذئب‪ ،‬واليعار‪ :‬صوت المعز‪.‬‬ ‫‪ 3‬الخوار‪ :‬صوت العجل‪ ،‬والجؤار‪ :‬مثله‪ ،‬وفعل الخوار خار يخور خوارا‪ ،‬وفعل الجؤار جأر‬ ‫يجأر جؤرا‪ ،‬وأما خور يخور خورا فمعناه‪ :‬جبن وضعف‪.‬‬ ‫‪ 4‬نسبة إلى قرية نسمى‪ :‬سامرة‪ ،‬واسمه‪ :‬موسى بن ظفر‪ ،‬ولد عام قتل البناء كموسى عليه‬ ‫السلم‪.‬‬ ‫‪ 5‬العجل ولد البقرة كالحوار‪ :‬ولدُ الناقة والمهر‪ :‬ولدُ الفرس‪ ،‬والجحش‪ :‬ولد التان والحمل‪ :‬ولدُ‬ ‫الشاة‪ ،‬والجسد‪ :‬الجثة‪.‬‬

‫( ‪)2/239‬‬ ‫فخاف أن يكذبه هارون فلم ينسبه إليه‪ ،‬وقوله تعالى {ألم يروا أنه ل يكلمهم ‪ 1‬ول يهديهم سبيلً}‬ ‫توبيخ لهم وتقريع على غباوتهم وجهلهم‪ ،‬وإل كيف يعتقدون إلها وهو ل يتكلم فيكلمهم ول يُعقل‬ ‫فيهديهم سبيل الرشد إن ضلوا وقد ضلوا بالفعل ثم قال تعالى {اتخذوه} أي إلها {وكانوا ظالمين}‬ ‫ل ول مخلوقا كائنا من كان فما أجهل‬ ‫في ذلك‪ ،‬لن ال رب موسى وهارون والعالمين لم يكن عج ً‬ ‫القوم وما أسوأ فهمهم وحالهم‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )148‬وأما الية الثانية (‪ )149‬فقد‬ ‫أخبر تعالى عن حالهم بعد انكشاف المر لهم‪ ،‬وبيان خطئهم فقال تعالى {ولما سقط ‪ 2‬في أيديهم}‬ ‫أي ندموا ندما شديدا ورأوا أنهم بشركهم هذا قد ضلوا الطريق الحق والرشد‪ ،‬صاحوا معلنين‬

‫توبتهم {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر ‪ 3‬لنا} أي هذا الذنب العظيم {لنكونن من الخاسرين} في الدار‬ ‫الخرة فنكون من أصحاب الجحيم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة من سنن الكون وهي أن المرء يتأثر بما يرى ويسمع‪ ،‬والرؤية أكثر تأثيرا في النفس‬ ‫من السماع فإن بني إسرائيل رؤيتهم للبقار اللهة التي مروا بأهل قرية يعكفون عليها وطلبوا من‬ ‫موسى أن يجعل لهم إلها مثلها هو الذي جعلهم يقبلون عجل السامري الذي صنعه لهم‪ ،‬ومن هذا‬ ‫كان منظر الشياء في التلفاز وشاشات الفيديو مؤثرا جدا وكم أفسد من عقول ولوث من نفوس‪،‬‬ ‫وأفسد من أخلق‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقبيح الغباء والجمود في الفكر‪ ،‬وذلك لقول ال تعالى {ألم يروا أنه ل يكلمهم}‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا أراد ال بعبده خيرا ألهمه التوبة بعد المعصية فندم واستغفر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ الربّ وهو المربي والمصلح والمعبود المشرّع للعبادات يجب أن يكون متكلّما يهديهم سبل‬ ‫كمالهم وسعادتهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬سُقط بضم السين‪ ،‬وأسقط بضم الهمزة بالبناء للمفعول‪ ،‬يقال للنادم المتحيّر‪ :‬سقط في يده وأسقط‬ ‫في يده‪ ،‬وقرىء‪ :‬سقط بالبناء للفاعل‪ ،‬أي‪ :‬سقط الندم في يده‪ ،‬والندم يكون في القلب‪ ،‬وإنما ذكروا‬ ‫اليد هنا تشبيها بمن سقط شيء في يده وهو مثل‪ :‬عض يده من الندم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬عادوا إلى الحق فتضرعوا إلى ال تعالى ودعوه معترفين بخطئهم مستنفرين ربّهم رجاء‬ ‫أن ينجيهم من الخسران‪.‬‬

‫( ‪)2/240‬‬ ‫سمَا خََلفْ ُتمُونِي مِن َبعْ ِديَ أَعَجِلْ ُتمْ َأمْرَ رَ ّبكُ ْم وَأَ ْلقَى‬ ‫سفًا قَالَ بِئْ َ‬ ‫غضْبَانَ أَ ِ‬ ‫وََلمّا َرجَعَ مُوسَى إِلَى َق ْومِهِ َ‬ ‫ش ِمتْ‬ ‫ض َعفُونِي َوكَادُواْ َيقْتُلُونَنِي فَلَ تُ ْ‬ ‫ال ْلوَاحَ وََأخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُ ّرهُ إِلَ ْيهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْل َقوْمَ اسْ َت ْ‬ ‫حمَ ِتكَ‬ ‫غفِرْ لِي َولَخِي وََأدْخِلْنَا فِي َر ْ‬ ‫جعَلْنِي مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ(‪ )150‬قَالَ َربّ ا ْ‬ ‫عدَاء َولَ تَ ْ‬ ‫ِبيَ ال ْ‬ ‫ضبٌ مّن رّ ّبهِ ْم وَ ِذلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا‬ ‫غ َ‬ ‫جلَ سَيَنَاُلهُمْ َ‬ ‫حمِينَ(‪ )151‬إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ ا ْل ِع ْ‬ ‫وَأَنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬ ‫عمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن َب ْعدِهَا وَآمَنُواْ إِنّ رَ ّبكَ مِن َبعْ ِدهَا‬ ‫َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ(‪ )152‬وَالّذِينَ َ‬ ‫حمَةٌ لّلّذِينَ‬ ‫ح َوفِي نُسْخَ ِتهَا هُدًى وَرَ ْ‬ ‫ضبُ َأخَذَ الَلْوَا َ‬ ‫س َكتَ عَن مّوسَى ا ْل َغ َ‬ ‫َل َغفُورٌ رّحِيمٌ(‪ )153‬وََلمّا َ‬ ‫هُمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ(‪)154‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ولما رجع موسى ‪ :‬أي من جبل الطور بعد مرور أكثر من أربعين يوما‪.‬‬

‫أسفا ‪ :‬أي حزينا شديد الحزن والغضب‪.‬‬ ‫أعجلتم أمر ربكم ‪ :‬أي استعجلتم‪.‬‬ ‫برأس أخيه ‪ :‬أي هارون شقيقه‪.‬‬ ‫قال ابن أم ‪ :‬أصلها يا ابن أمي فقلبت الياء ألفا نحو يا غلما‪ ،‬ثم حذفت وهارون شقيق موسى‬ ‫وإنما ناداه بأمه لنه أكثر عطفا وحنانا‪.‬‬

‫( ‪)2/241‬‬ ‫فل تشمت بي العداء ‪ :‬أي ل تجعل العداء يفرحون بإهانتك أو ضربك لي‪.‬‬ ‫اتخذوا العجل ‪ :.‬أي إلها عبدوه‪.‬‬ ‫المفترين ‪ :‬الكاذبين على ال تعالى بالشرك به أي يجعل شريك له‪.‬‬ ‫ولما سكت عن موسى الغضب‪ :‬زال غضبه وسكنت نفسه من القلق والضطراب‪.‬‬ ‫أخذ اللواح ‪ :‬أي من الرض بعد أن طرحها فتكسرت‪.‬‬ ‫وفي نسختها ‪ :‬أي وفي ما نسخه منها بعد تكسرها نسخة فيها هدى ورحمة‪.‬‬ ‫يرهبون ‪ :‬يخافون ربهم ويخشون عقابه فل يعصونه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في أحداث قصص موسى مع بني إسرائيل ففي هذا السياق الكريم يخبر تعالى أن‬ ‫موسى عليه السلم لما رجع إلى قومه من مناجاته وقد أخبره ربه تعالى أنه قد فتن قومه من بعده‬ ‫وأن السامري قد أضلهم فلذا رجع {غضبان أسفا‪ }1‬أي شديد الغضب ‪ 2‬والحزن‪ ،‬وما إن واجههم‬ ‫حتى قال {بئسما خلفتموني من بعدي‪ ،‬أعجلتم أمر ربكم؟} أي استعجلتم فلم تتموا ميعاد ربكم‬ ‫أربعين يوما فقلتم مات موسى وبدلتم دينه فعبدتم العجل {وألقى اللواح} أي طرحها فتكسرت‬ ‫{وأخذ بلحية} هارون ورأسه يؤنبه على تفريطه في مهام الخلفة فاعتذر هارون فقال يا ابن أم ل‬ ‫تأخذ بلحيتي ول برأسي‪ ،‬إني خشيث أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي هذا وارد‬ ‫في سورة طه وأما السياق هنا فقد قال {يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ‪ 3‬فل‬ ‫تشمت بي العداء ول تجعلني مع القوم الظالمين} وهم الذين ظلموا بعبادة العجل‪ ،‬ومعنى {ل‬ ‫تشمت بي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬غضبان شديد الغضب ومؤنثه غضبى غير مصروف لزيادة اللف والنون‪ ،‬وأسفا‪ :‬معناه شديد‬ ‫الغضب قال أبو الدرداء‪ ،‬السف منزلة وراء الغضب أشدّ منه والسيف‪ :‬الحزين‪.‬‬ ‫‪ 2‬الغضب من طباع البشر وقد أرشد الرسول صلى ال عليه وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس‬ ‫فإن ذهب عنه الغضب وإلّ اضطجع فقد روى أبو داود أنه صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬وإنّ‬

‫الغضب من الشيطان‪ ،‬وإن الشيطان خلق من نار وإنّما تطفأ النار بالماء‪ ،‬فإذا غضب أحدكم‬ ‫فليتوضأ"‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على أن من خاف على نفسه القتل أن يسكت عن المنكر ول يغيره بيده ول‬ ‫بلسانه ولكن بقلبه‪.‬‬

‫( ‪)2/242‬‬ ‫العداء } ل تؤذني بضرب ول بغيره إذ ذاك يفرح أعدانا من هؤلء الجهلة الظالمين‪ ،‬وهنا رق‬ ‫له موسى وعطف عليه فقال {رب اغفر لي ولخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين}‬ ‫توسل إلى ال تعالى في قبول دعائه بقوله {وأنت أرحم الراحمين} هذا ما تضمنته اليتان الولى (‬ ‫‪ )150‬والثانية (‪ )151‬أما الية الثالثة فقد أخبر تعالى بأن الذين اتخذوا العجل أي إلها {سينالهم‬ ‫غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا} وكما جزاهم بالغضب المستوجب للعذاب والذلة المستلزمة‬ ‫للهانة يجزي تعالى المفترين عليه الكاذبين باتخاذ الشريك له وهو بريء من الشركاء‬ ‫والمشركين‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الثالثة (‪ )151‬أما الية الرابعة فقد تضمنت فتح باب ال تعالى‬ ‫لمن أراد أن يتوب إليه إذ قال تعالى {والذين عملوا السيئات} جمع سيئة وهي هنا سيئة الشرك {ثم‬ ‫تابوا من بعدها} أي تركوا عبادة غير ال تعالى وآمنوا إيمانا صادقا فإن ال تعالى يقبل توبتهم‬ ‫ويغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم فيدخلهم جنته مع الصالحين من عباده‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الرابعة‬ ‫(‪ )153‬أما الية الخامسة (‪ )154‬فقد تضمنت الخبار عن موسى عليه السلم‬ ‫وانه لما سكت عنه الغضب أي ذهب أخذ اللواح التي ألقاها من شدة الغضب وأخبر تعالى أن في‬ ‫نسخة ‪ 1‬تلك اللواح {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وهم المؤمنون المتقون وخصوا‬ ‫بالذكر لنهم الذين يجدون الهدى والرحمة في نسخة اللواح‪ ،‬لنهم يقرأون ويفهمون ويعلمون‬ ‫وذلك ليمانهم وتقواهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬الغضب من طباع البشر فل يلم عليه المرء ومهما بلغ من الكمال كالنبياء‪ ،‬ولكن أهل‬ ‫الكمال ل يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلح‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية العتذار وقبول العذر من أهل المروءات‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية التوسل بأسماء ال وصفاته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النسخة‪ :‬بمعنى المنوسخ‪ ،‬والنسخ‪ :‬النقل للمكتوب في لوح أو غيره‪ ،‬ويسمى المنوسخ نسخة‪.‬‬

‫( ‪)2/243‬‬ ‫‪ -4‬كل وعيد ل تعالى توعد به عبدا من عباده مقيد بعدم توبة المتوعد‪.‬‬ ‫‪ -5‬كل رحمة وهدى ونور في كتاب ال ل ينتفع به إل أهل اليمان والتقوى‪.‬‬ ‫جفَةُ قَالَ َربّ َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َتهُم مّن قَ ْبلُ‬ ‫وَاخْتَارَ مُوسَى َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ رَجُلً ّلمِيقَاتِنَا فََلمّا َأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬ ‫ضلّ ِبهَا مَن تَشَاء وَ َتهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيّنَا‬ ‫سفَهَاء مِنّا إِنْ ِهيَ ِإلّ فِتْنَ ُتكَ ُت ِ‬ ‫وَإِيّايَ أَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ال ّ‬ ‫حمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلغَافِرِينَ(‪ )155‬وَاكْ ُتبْ لَنَا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا حَسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ إِنّا هُدْنَا‬ ‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬ ‫فَا ْ‬ ‫شيْءٍ َفسََأكْتُ ُبهَا لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ وَيُؤْتُونَ‬ ‫س َعتْ ُكلّ َ‬ ‫حمَتِي وَ ِ‬ ‫إِلَ ْيكَ قَالَ عَذَابِي ُأصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَ ْ‬ ‫جدُونَهُ َمكْتُوبًا‬ ‫ل ّميّ الّذِي يَ ِ‬ ‫ياُ‬ ‫ال ّزكَا َة وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا ُي ْؤمِنُونَ(‪ )156‬الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ‬ ‫حلّ َلهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ‬ ‫ف وَيَ ْنهَاهُمْ عَنِ ا ْلمُنكَرِ وَيُ ِ‬ ‫عِندَ ُهمْ فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنْجِيلِ يَ ْأمُرُهُم بِا ْل َمعْرُو ِ‬ ‫للَ الّتِي كَا َنتْ عَلَ ْي ِهمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِ ِه وَعَزّرُوهُ وَ َنصَرُوهُ‬ ‫ث وَ َيضَعُ عَ ْنهُمْ ِإصْرَهُمْ وَالَغْ َ‬ ‫عَلَ ْيهِمُ ا ْلخَبَآ ِئ َ‬ ‫وَاتّ َبعُواْ النّورَ الّ ِذيَ أُن ِزلَ َمعَهُ ُأوْلَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ(‪)157‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫واختار موسى قومه سبعين رجلً ‪ :‬أي أخذ خيار قومه وهم سبعون رجلً‪.‬‬

‫( ‪)2/244‬‬ ‫لميقاتنا‪ :‬أي للوقت الذي حددناه له ليأتينا مع سبعين رجلً‪.‬‬ ‫أخذتهم الرجفة‪ :‬الصاعقة التي رجفت لها القلوب‪.‬‬ ‫السفهاء ‪ :‬جمع سفيه‪ :‬وهو الذي ل رشد له في سائر تصرفاته‪.‬‬ ‫إن هي إل فتنتك ‪ :‬أي ما هي إل فتنتك أي اختبارك لهل الطاعة من عبادك‪.‬‬ ‫أنت ولينا‪ :‬أي المتولي أمرنا وليس لنا من ولي سواك‪.‬‬ ‫هدنا إليك‪ :‬أي رجعنا إليك وتبنا‪.‬‬ ‫المي‪ :‬الذي ل يقرأ ول يكتب‪.‬‬ ‫المعروف‪ ،‬والمنكر‪ :‬ما عرفه الشرع والمنكر‪ :‬ما أنكره الشرع‪.‬‬ ‫ويحرم عليهم الخبائث‪ :‬أي بإذن ال والخبائث جمع خبيثة‪ :‬كالميتة مثلً‪.‬‬ ‫ويضع عنهم إصرهم والغلل ‪ :‬الصر‪ :‬العهد والغلل‪ :‬الشدائد في الدين‪.‬‬ ‫عزروه ‪ :‬أي وقروه وعظموه‪.‬‬ ‫واتبعوا النور الذي أنزل معه ‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫هم المفلحون ‪ :‬الفائزون أي الناجون من النار الداخلون الجنة‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث موسى مع بني إسرائيل فإنه بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة‬ ‫موسى وذلك هو عبادة جل بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلها فإن ال تعالى وقت لموسى وقتا‬ ‫يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من ال سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫قال تعالى {واختار ‪ 1‬موسى قومه سبعين رجلً} ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل‬ ‫غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختار مزيد من خار‪ :‬إذا طلب ما هو خير من غيره‪ ،‬وقومه منصوب على نزع الخافض إذ‬ ‫الصل من قومه‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫اخترتك الناس إذ رثت خلئقهم ‪ ...‬واختل من كان يُرجى عنده السّولُ‬ ‫السّول بمعنى السؤل أي الطلب‬

‫( ‪)2/245‬‬ ‫الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى ال جهرة أي عيانا وهنا غضب ال تعالى عليهم فأخذتهم‬ ‫صيحة رجفت لها قلوبهم والرض من تحتهم فماتوا كلهم‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى {فأخذتهم‬ ‫الرجفة} وهنا أسف موسى عليه السلم لموت السبعين رجلً وقد اختارهم الخير فالخير فإذا بهم‬ ‫يموتون أجمعون فخاطب ربه قائلً {رب لو شئت أهلكتهم من قبل} أي من قبل مجيئنا إليك‬ ‫{وإياي} وذلك في منزل بني إسرائيل حيث عبدوا العجل {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ‪ }1‬أي بسبب‬ ‫فعل السفهاء الذين ل رشد لهم‪ ،‬وهم من عبدوا العجل كمن سألوا رؤية ال تعالى‪ ،‬وقوله عليه‬ ‫السلم {إن هي إل فتنتك} أي إل اختبارك وبليتك {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء‪ ،‬أنت ولينا}‬ ‫فليس لنا سواك {فاغفر لنا} أي ذنوبنا {وارحمنا} برفع العذاب عنا {وأنت خير الغافرين} {واكتب‬ ‫لنا في هذه الدنيا حسنة} بأن توفقنا لعمل الصالحات وتتقبلها منا‪{ ،‬وفي الخرة} تغفر ذنوبنا‬ ‫وتدخلنا جنتك مع سائر عبادك الصالحين‪ ،‬وقوله {إنا هدنا إليك} أي إنا قد تبنا إليك فأجابه الرب‬ ‫تعالى بقوله {عذابي أصيب به من أشاء} أي من عبادي وهم الذين يفسقون عن أمري ويخرجون‬ ‫عن طاعتي {ورحمتي وسعت ‪ 2‬كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا‬ ‫يؤمنون} وبهذا القيد الوصفي‪ ،‬وبما بعده خرج إبليس واليهود وسائر أهل الملل ودخلت أمة‬ ‫السلم وحدها إل من آمن من أهل الكتاب واستقام على دين ال وهو السلم‪ .‬وقوله {الذين‬ ‫يتبعون الرسول النبي المي} هو محمد صلى ال عليه وسلم {الذي يجدونه ‪ 3‬مكتوبا عندهم في‬ ‫التوراة والنجيل} وذلك بذكر صفاته والثناء عليه وعلى أمته‪ ،‬وقوله {يأمرهم بالمعروف وينهاهم‬ ‫عن المنكر ويحل لهم الطيبات} أي التي كانت قد حرمت عليهم بظلمهم {ويحرم عليهم الخبائث}‬

‫الخمر ولحم الخنزير والربا وسائر المحرمات في السلم‪ ،‬وقوله {ويضع عنهم إصرهم} أي‬ ‫ويحط عنهم تبعة العهد الذي أخذ عليهم بالعمل فيما في التوراة والنجيل بأن يعملوا بكل ما جاء‬ ‫في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام هنا للتحجج والجحد إي إنك ل تفعل ذلك‪ ،‬وهو كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫ألستم خير من ركب المطايا ‪ ...‬وأندى العالمين بطون راح‬ ‫‪ 2‬أي لم تضق عن مخلوق من المخلوقات التيّ أراد ال رحمتها‪ .‬يحكى أن إبليس عليه لعائن ال‬ ‫لمّا سمع هذه الية قال‪ :‬أنا شيء فقال ال تعالى‪ :‬سأكتبها للذين يتقون فقالت اليهود والنصارى‬ ‫نحن‪ :‬متقون فقال تعالى‪ :‬الذين يتبعون الرسول النبي صلى ال عليه وسلم فخرجوا وبقيت لهذه‬ ‫المة وحدها‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال كعب في ذكر صفاته صلى ال عليه وسلم في التوراة‪ :‬مولده مكة وهجرته بطابة وملكه‬ ‫بالشام‪ ،‬وأمته الحمّادون يحمدون ال على كل حال‪ ..‬إلى أن قال‪ :‬يصلّون حيثما أدركتهم الصلة‪،‬‬ ‫صفهم في الصلة كصفهم في القتال‪.‬‬

‫( ‪)2/246‬‬ ‫التوراة والنجيل‪ ،‬وقوله {والغلل ‪ 1‬التي كانت عليهم} أي الشدائد المفروض عليهم القيام بها‬ ‫وذلك كقتل النفس بالنفس إذ ل عفو ول دية وكقطع الثوب للنجاسة تصيبه وغير ذلك من التكاليف‬ ‫الشاقة كل هذا يوضع عليهم إذا أسلموا بدخولهم في السلم وقوله تعالى {فالذين آمنوا به} أي‬ ‫بمحمد صلى ال عليه وسلم {وعزروه ‪ }2‬أي وقروه وعظموه {ونصروه} على أعدائه من‬ ‫المشركين والكافرين والمنافقين {واتبعوا النور الذي أنزل معه} وهو القرآن الكريم {أولئك هم‬ ‫المفلحون} أي وحدهم دون سواهم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب التوبة من كل ذنب‪ ،‬ومشروعية صلة ركعتين وسؤال ال تعالى عقبها أن يقبل توبة‬ ‫التائب ويغفر ذنبه‪.‬‬ ‫‪ -2‬كل سلوك ينافي الشرع فهو من السفه المذموم‪ ،‬وصاحبه قد يوصف بأنه سقيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬الهداية والضلل كلهما بيد ال تعالى فعلى العبد أن يطلب الهداية من ال تعالى ويسأله أن‬ ‫ل يضله‪.‬‬ ‫‪ -4‬رحمة ال تعالى بأمة محمد صلى ال عليه وسلم فل تنال اليهود ول النصارى ول غيرهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان شرف النبي محمد صلى ال عليه وسلم وأمته‪.‬‬

‫‪ -6‬بيان فضل تزكية النفس بعمل الصالحات وإبعادها عن المدسيات من الذنوب‪.‬‬ ‫‪ -7‬بيان فضل التقوى والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫‪ -8‬وجوب توقير النبي صلى ال عليه وسلم وتعظيمه ونصرته وإتباع الكتاب الذي جاء به‬ ‫والسنن التي سنها لمته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدّم لفظ الصر وهو دال على جمع لته مصدر يقع على الواحد والجمع ولذا عطف عليه‬ ‫الغلل‪ ،‬وجمع الصر‪ :‬آصار‪ ،‬ومعناه الثقل الذي يصعب معه التحرك والغلل جمع غلّ‪ ،‬وهو‬ ‫إطار من حديد يجعل في عنق السير‪ ،‬والمراد من الصار والغلل التكاليف الشرعية الشاقة‬ ‫التي اشتملت عليها التوراة منها‪ :‬ترك العمل يوم السبت قيل‪ :‬ومن أشدّها عدم مشروعية التوبة‬ ‫من الذنوب‪ ،‬وعدم استتابة المجرم‪.‬‬ ‫‪ 2‬عزّروه‪ :‬أيّدوه مع توقيره وتعظيمه‪.‬‬

‫( ‪)2/247‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ ل إِلَهَ ِإلّ ُهوَ ُيحْيِي‬ ‫جمِيعًا الّذِي َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ‬ ‫لمّيّ الّذِي ُي ْؤمِنُ بِالّل ِه َوكَِلمَاتِهِ وَاتّ ِبعُوهُ َلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ(‪)158‬‬ ‫ياُ‬ ‫وَ ُيمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ النّ ِب ّ‬ ‫طعْنَا ُهمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ َأسْبَاطًا ُأ َممًا وََأوْحَيْنَا‬ ‫ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ(‪َ )159‬وقَ ّ‬ ‫حّ‬ ‫َومِن َقوْمِ مُوسَى ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬ ‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنًا قَدْ عَِلمَ ُكلّ‬ ‫جَ‬ ‫حجَرَ فَانبَ َ‬ ‫سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َ‬ ‫إِلَى مُوسَى ِإذِ اسْ َت ْ‬ ‫ن وَالسّ ْلوَى كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم َومَا‬ ‫أُنَاسٍ مّشْرَ َب ُه ْم وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنزَلْنَا عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَ ّ‬ ‫سكُنُواْ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَ َة َوكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ‬ ‫سهُمْ يَظِْلمُونَ(‪ )160‬وَإِذْ قِيلَ َل ُهمُ ا ْ‬ ‫ظََلمُونَا وََلكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬ ‫حسِنِينَ(‪ )161‬فَ َب ّدلَ الّذِينَ ظََلمُواْ‬ ‫خطِيئَا ِتكُمْ سَنَزِيدُ ا ْلمُ ْ‬ ‫سجّدًا ّنغْفِرْ َلكُمْ َ‬ ‫حطّ ٌة وَادْخُلُواْ الْبَابَ ُ‬ ‫َوقُولُواْ ِ‬ ‫سمَاء ِبمَا كَانُواْ يَظِْلمُونَ(‪)162‬‬ ‫مِ ْنهُمْ َق ْولً غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ ِرجْزًا مّنَ ال ّ‬

‫( ‪)2/248‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل إله إل هو ‪ :‬أي ل معبود بحق إل ال‪.‬‬ ‫النبي المي‪ :‬المنبئ عن ال والمنبأ من قبل ال تعالى‪ ،‬والمي الذي لم يقرأ ولم يكتب‪ .‬نسبة إلى‬ ‫الم كأنه ما زال لم يفارق أمه فلم يتعلم بعد‪.‬‬ ‫يؤمن بال وكلماته ‪ :‬الذي يؤمن بال ربا وإلها‪ ،‬وبكلماته التشريعية والكونية القدريه‪.‬‬ ‫تهتدون‪ :‬ترشدون إلى طريق كمالكم وسعادتكم في الحياتين‪.‬‬

‫أمة يهدون بالحق‪ :‬أي جماعة يهدون أنفسهم وغيرهم بالدين الحق وبه يعدلون في قضائهم‬ ‫وحكمهم على أنفسهم وعلى غيرهم إنصافا وعدلً ل جور ول ظلم‪.‬‬ ‫أسباطا ‪ :‬جمع سبط‪ :‬وهو بمعنى القبيلة عند العرب‪.‬‬ ‫استسقاه قومه ‪ :‬أي طلبوا منه الماء لعطشهم‪.‬‬ ‫فانبجست‪ :‬فانفجرت‪.‬‬ ‫المن والسلوى‪ :‬المن‪ :‬حلوى كالعسل تنزل على أوراق الشجار‪ ،‬والسلوى‪ :‬طائر لذيذ لحمه‪.‬‬ ‫اسكنوا هذه القرية ‪ :‬هي حاضرة فلسطين‪.‬‬ ‫وقولوا حطة"‪ ::‬أي احطط عنا خطايانا بمعنى العلن عن توبتهم‪.‬‬ ‫رجزا من السماء ‪ :‬أي عذابا من عند ال تعالى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد الشادة بالنبي المي وبأمته‪ ،‬وقصر الفلح في الدارين على الذين آمنوا به وعزروه ونصروه‬ ‫واتبعوا النور الذي أنزل معه قد يظن ظان أن هذا النبي شأنه شأن سائر النبياء قبله هو نبي‬ ‫قومه خاصة وما ذكر من الكمال ل يتعدى قومه فرفع هذا الوهم بهذه الية (‪ )158‬حيث أمر ال‬ ‫تعالى رسوله أن يعلن عن عموم رسالته بما ل مجال للشك فيه فقال‬

‫( ‪)2/249‬‬ ‫{قل يا أيها الناس إني رسول ال إليكم جميعا} وقوله {الذي له ملك السموات والرض} وصف ل‬ ‫تعالى وقوله {ل إله إل هو} تقرير للوهية ال تعالى بعد ذكر قدرته وسلطانه وملكه وتدبيره لذا‬ ‫وجب أن ل يكون معبود إل هو وهو كذلك إذ كل معبود غيره هو معبود عن جهل وعناد وظلم‪.‬‬ ‫وقوله {فآمنوا بال ورسوله النبي المي} أمر الله الحق إلى الناس كافة باليمان به تعالى ربا‬ ‫وإلها‪ ،‬وبرسوله النبي المي نبيا ورسولً‪ ،‬وقوله {الذي يؤمن بال وكلماته} صفة للنبي المي إذ‬ ‫من صفات النبي المي محمد صلى ال عليه وسلم أنه يؤمن بال حق اليمان وأوفاه ويؤمن‬ ‫بكلماته أي بكلمات الرب التشريعية ‪ 1‬وهي آيات القرآن الكريم‪ ،‬والكونية التي يُكوّن ال بها ما‬ ‫شاء من الكوان إذ بها يقول للشيء كن فيكون كما قال لعيسى بتلك الكلمة كن فكان عيسى عليه‬ ‫السلم وقوله {واتبعوه لعلكم تهتدون} هذا أمر ال إلى الناس كافة بعد المر باليمان به وبرسوله‬ ‫النبي المي أمر بإتباع نبيه محمد صلى ال عليه وسلم رجاء هداية ‪ 2‬من يتبعه فيما جاء به‬ ‫فيهتدي إلى سبيل الفوز في الدارين هذا ما تضمنته الية الولى (‪ )158‬أما الية الثانية (‪)159‬‬ ‫فقد تضمنت الخبار اللهي بأن قوم موسى وإن ضلوا أو أجرموا وفسقوا ليس معنى ذلك أنه لم‬ ‫يكن فيهم أو بينهم من هم على هدى ال فهذه الية كانت كالحتراس من مثل هذا الفهم‪ ،‬إذ أخبر‬ ‫تعالى أن {من قوم موسى أمة} أي جماعة تكثر أو تقل {يهدون بالحق ‪ }3‬أي يعملون بالحق في‬

‫عقائدهم وعباداتهم ويدعون إلى ذلك وبالحق يعدلون فيما بينهم وبين غيرهم فهم يعيشون على‬ ‫النصاف والعدل‪ ،‬ولم يذكر تعالى أين هم ول متى كانوا هم؟ فل يبحث ذلك‪ ،‬إذ ل فائدة فيه‪ ،‬ثم‬ ‫عاد السياق إلى قوم موسي يذكر أحداثهم للعظة والعتبار وتقرير الحق في توحيد ال تعالى‬ ‫وإثبات نبوة رسوله وتقرير عقيدة البعث والجزاء أو اليوم الخر‪.‬‬ ‫فقال تعالى في الية الثالثة (‪{ )160‬وقطعناهم ‪ }4‬أي بني إسرائيل {اثنتى عشرة أسباطا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وبكلماته التنزيلية كالتوراة والنجيل والزبور‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الرجاء بالنسبة إلى المأمورين بالتباع ل إلى ال تعالى‪ ،‬لنه بكل شيء عليم وعلى كل‬ ‫شيء قدير‪.‬‬ ‫‪ 3‬يهدون إلى ال تعالى عباده بواسطة ما شرع لهم وهداهم به من الوحي الذي أنزل على رسله‬ ‫وأنزل به كتبه‪.‬‬ ‫‪ 4‬التقطيع‪ :‬الشدة في القطع والمراد به التقسيم إلى اثنتى عشرة فرقة كل فرقة بمنزلة القبيلة‬ ‫العربية حيث تنتسب إلى أبيها العلى أي الوّل‪.‬‬

‫( ‪)2/250‬‬ ‫أمما}‪ 1‬أصل السبط ابن البنت وأريد به هنا أولد كل سبط من أولد يعقوب عليه السلم‪ .‬فالسباط‬ ‫في بني إسرائيل كالقبائل في العرب كل قبيلة تنتسب إلى أبيها الول‪ ،‬وأتت لفظ اثنتي عشرة لن‬ ‫معنى السباط الفرق والفرقة مؤنثة‪ ،‬وقوله‪ { :‬وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه} أعلمناه‬ ‫بطريق الوحي وهو العلم الخفي السريع‪ ،‬ومعنى {استسقاه} طلبوا منه السقيا لنهم عطشوا لقلة‬ ‫الماء في صحراء سينا‪{ .‬أن اضرب بعصاك الحجر} هذا الموحى به‪ ،‬فضرب {فانبجست ‪ }2‬أي‬ ‫انفجرت {منه اثنتا عشرة عينا} ليشرب كل سبط من عينه الخاصة حتى ل يقع اصطدام أو تدافع‬ ‫فينجم عنه الذى وقوله تعالى {قد علم كل أناس مشربهم} يريد عرف كل جماعة ماءهم الخاص‬ ‫بهم وقوله تعالى {وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى} هذا ذكر لنعامه تعالى على‬ ‫بني إسرائيل وهم في معية موسى وهارون في حادثة التيه‪ ،‬حيث أرسل تعالى الغمام وهو سحاب‬ ‫أبيض بارد يظلهم من الشمس حتى ل تلفحهم‪ ،‬وأنزل عليهم المن ‪ 3‬وهي حلوى كالعسل سقط ليلً‬ ‫كالطل على الشجار‪ ،‬وسخر لهم طائرا لذيذ اللحم يقال له السلوى وهو طائر السمانى المعروف‬ ‫وقلنا لهم {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وقوله تعالى {وما ظلمونا} بتمردهم على أنبيائهم وعدم‬ ‫طاعتهم ‪ 4‬لربهم حتى نزل بهم ما نزل من البلء‪{ ،‬ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}‪ 5‬هذا ما دلت‬ ‫عليه الية الثانية أما الية الثالثة (‪ )161‬فقد تضمنت حادثة بعد أحداث التيه في صحراء سيناء‬ ‫وذلك أن يوشع بن نون بعد أن تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون وانقضاء مدة‬

‫التيه وكانت أربعين سنة غزا يوشع ببني إسرائيل العمالقة في أرض القدس وفتح ال تعالى عليه‬ ‫فقال لبني إسرائيل ادخلوا باب المدينة ساجدين أي منحنين خضوعا ل وشكرا على نعمة الفتح بعد‬ ‫النصر والنجاة من‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أمما} بدل من {أسباطا} وفائدته‪ :‬الخبار بأنهم باركهم ال تعالى فأصبح أهل كل سط أمة كاملة‬ ‫والسبط أصله شجر يقال له السبط تعلفه البل‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل الفعل بجس يقال‪ :‬بجسته أي‪ :‬شققته فانبجس مطاوع بجس الشيء إذا شقّة‪.‬‬ ‫‪ 3‬المنّ‪ :‬مادة بيضاء تنزل من السماء كالطل حلوة الطعم تشبه العسل‪ ،‬وإذ جفّت كانت الصمغ‪،‬‬ ‫سمَانى بضم السين وفتح النون على وزن حُبَارى‪.‬‬ ‫والسلوى‪ :‬طائر معروف يقال له ال ُ‬ ‫‪ 4‬وبعدم شكرهم لهذه النعم أيضا إذا كفران النعم يسبب زوالها بعقوية تنزل بمن لم يشكر نعم ال‬ ‫تعالى عليه‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي ظلموا أنفسهم فعرضوها للبلء‪ ،‬أمّا ال تعالى فمحال أن يبلغ العبد ظلمه أو ضرّه‪ .‬روى‬ ‫مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم قوله ‪ ":‬إنّ ال تعالى قال‪ :‬يا عبادي إني حرّمت الظلم على‬ ‫نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرما فل تظالموا‪ ..‬يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني‪ ،‬ولن تبلغوا‬ ‫نفعي فتنفعوني‪.‬‬

‫( ‪)2/251‬‬ ‫التيه‪ ،‬وقوله إثناء دخولكم الباب كلمة {حطة} الدالة على توبتكم واستغفاركم ربكم لذنوبكم فإن ال‬ ‫تعالى يغفر لكم خطئياتكم‪ ،‬وسيزيد ال المحسنين منكم النعام والخير الكثير مع رضاه عنكم‬ ‫وإدخالكم الجنة‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} أي مدينة فلسطين ‪{ 1‬وكلوا‬ ‫منها حيث شئتم} لما فيها من الخيرات {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم‬ ‫سنزيد المحسنين}‪ .‬أما الية الرابعة (‪ )162‬فهي قد تضمنت الخبار عن الذين ظلموا من بني‬ ‫إسرائيل الذين أمروا بدخول القرية ودخول الباب سجدا‪ .‬حيث بدلوا {قولً غير الذي قيل لهم} فبدل‬ ‫حطة قالوا حنطة‪ ،‬وبدل الدخول منحنين ساجدين دخلوا يزحفون على أستاههم‪ ،‬فلما رأى تعالى‬ ‫ذلك التمرد والعصيان وعدم الشكران أنزل عليهم وباء من السماء كاد يقضي على آخرهم هذا‬ ‫معنى قوله تعالى {فبدل الذين ظلموا منهم قولً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء‬ ‫بما كانوا يظلمون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عموم رسالة النبي محمد صلى ال عليه وسلم لكافه الناس عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم‬

‫‪.2‬‬ ‫‪ -2‬هداية النسان فردا أو جماعة أو أمة إلى الكمال والسعاد متوقفة على إتباع النبي محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬إنصاف القرآن للمم والجماعات فقد صرح أن في بني إسرائيل أمة قائمة على الحق‪ ،‬وذلك‬ ‫بعد فساد بني إسرائيل‪ ،‬وقبل مبعث النبي الخاتم أما بعد البعثة المحمدية فلم يبق أحد على الحق‪،‬‬ ‫إل من آمن به واتبعه لنسخ سائر الشرائع بشريعته‪.‬‬ ‫‪ 4‬إذا أنعم ال على عبد أو أمة نعمة ثم لم يشكرها تسلب منه أحب أم كره وكائنا من كان‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اسم القرية‪ :‬أريحا‪ ،‬وكلمة فلسطين عامة في القطر كلّه‪.‬‬ ‫‪ 2‬عموم الرسالة المحمدية يستوجب القيام بها ودعوة الناس إليها‪ ،‬والمسلمون هم المطالبون بذلك‬ ‫وإلّ فهم آثمون بتفريطهم وتقصيرهم‪.‬‬

‫( ‪)2/252‬‬ ‫واَسْأَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْرِ ِإذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ ِإذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ‬ ‫سقُونَ(‪ )163‬وَإِذَ قَاَلتْ ُأمّةٌ مّ ْنهُمْ ِلمَ‬ ‫ن لَ تَأْتِيهِمْ كَ َذِلكَ نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬ ‫شُرّعا وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ‬ ‫َتعِظُونَ َق ْومًا اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَذّ ُبهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ َمعْذِ َرةً إِلَى رَ ّبكُ ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ(‪ )164‬فََلمّا‬ ‫نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَ ْن َهوْنَ عَنِ السّوءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظََلمُواْ ِبعَذَابٍ بَئِيسٍ ِبمَا كَانُواْ‬ ‫سقُونَ(‪ )165‬فََلمّا عَ َتوْاْ عَن مّا ُنهُواْ عَنْهُ قُلْنَا َلهُمْ كُونُواْ قِرَ َدةً خَاسِئِينَ(‪)166‬‬ ‫َيفْ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حاضرة البحر ‪ :‬أي على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس‪.‬‬ ‫يعدون في السبت ‪ :‬أي يعتدون وذلك بالصيد المحرم عليهم فيه‪.‬‬ ‫يوم سبتهم ‪ :‬أي يوم راحتهم من أعمال الدنيا وهو يوم السبت‪.‬‬ ‫شرعا ‪ :‬جمع شارع أي ظاهرة بارزة تغريهم بنفسها‪.‬‬ ‫كذلك نبلوهم ‪ :‬أي نمتحنهم ونختبرهم‪.‬‬ ‫بما كانوا يفسقون‪ :‬أي بسبب ما أعلنوه من الفسق وهو العصيان‪.‬‬ ‫م عذرة إلى ربكم ‪ :‬أي ننهاهم فإن انتهوا فذاك وإل فنهينا يكون عذرا لنا عند ربنا‪.‬‬ ‫فلما نسوا ما ذكروا به ‪ :‬أي أهملوه وتركوه فلم يمتثلوا ما أمروا به ول ما نهوا عنه‪.‬‬ ‫عن السوء ‪ :‬السوء هو كل ما يسيء إلى النفس من سائر الذنوب والثام‪.‬‬ ‫بعذاب بئيس ‪ :‬أي ذا بأس شديد‪.‬‬

‫( ‪)2/253‬‬ ‫فلما عتوا عما نهوا عنه ‪ :‬أي ترفعوا وطغوا فلم يبالوا بالنهي‪.‬‬ ‫قردة خاسئين‪ :‬القردة جمع قرد معروف وخاسئين ذليلين حقيرين اخساء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بني إسرائيل إل أنه هنا مع رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم ويهود‬ ‫المدينة فال تعالى يقول لنبيه محمد عليه الصلة والسلم أسألهم ‪ 1‬أي اليهود {عن القرية ‪ 2‬التي‬ ‫كانت حاضرة البحر} أي قريبة منه على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس والشام ‪ ،3‬أي‬ ‫أسألهم عن أهلها كيف كان عاقبة أمرهم‪ ،‬أنهم مسخوا قردة وخنازير جزاء فسقهم عن أمر ربهم‪،‬‬ ‫ل للعبرة والتعاظ فقال {إذ يعدون في السبت ‪ }4‬أي يعتدون ما أذن لهم‬ ‫وفصل له الحادث تفصي ً‬ ‫فيه إلى ما حرم عليهم‪ ،‬أذن لهم أن يصيدوا ما شاءوا إل يوم السبت فإنه يوم عبادة ليس يوم لهو‬ ‫وصيد وطرب‪{ ،‬إذ تأتيهم حيتانهم} أي أسماكهم {يوم سبتهم شرعا} ظاهرة على سطح الماء‬ ‫تغريهم بنفسها {ويوم ل يسبتون} أي في باقي أيام السبوع {ل تأتيهم} إذا هم مبتلون‪ ،‬قال تعالى‬ ‫{كذلك} أي كهذا البتلء والختبار {نبلوهم بما كانوا يفسقون} أي بسبب فسقهم عن طاعة ربهم‬ ‫ورسله‪ ،‬إذ ما من معصية إل بذنب هكذا سنة ال تعالى في الناس‪ .‬هذا ما تضمنته الية الولى (‬ ‫‪ )163‬وهي قوله تعالى {وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ‬ ‫تأتيهم ‪ 5‬حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم ل يسبتون ل تأتيهم‪ ،‬كذلك نبلوهم ‪ 6‬بما كانوا يفسقون}‪.‬‬ ‫وأما الية الثانية (‪ )164‬فال تعالى يقول لرسوله اذكر لهم أيضا إذ قالت طائفة منهم أي من أهل‬ ‫القرية لطائفة أخرى كانت تعظ المعتدين في السبت أي تنهاهم عنه لنه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا سؤال توبيخ وتقرير‪ ،‬إذ كانوا يتبخحون بأنهم أبناء ال وأحباؤه وأنهم من سبط خليل‬ ‫الرحمن إبراهيم‪ ،‬ومن سبط إسرائيل‪ ،‬فالسؤال عن القرية السؤال عن أهلها‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه القرية هي أيلة‪ ،‬والمسماة اليوم بالعقبة وهي مدينة على ساحل البحر الحمر‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر‪.‬‬ ‫‪ 4‬السبت‪ :‬اليوم الذي بين الجمعة والحد‪ ،‬ويجمع السبت على أسبت وسبوت وأسبات‪.‬‬ ‫‪ 5‬قيل للحسين بن الفضل‪ :‬هل تجد في كتاب ال تعالى أن الحلل ل يأتيك إل قوتا إن الحرام‬ ‫يأتيك جزفا جزفا يعنى‪ :‬بكثرة كاثرة قال‪ :‬نعم في قصة داود وأيلة {إذ تأتيهم حيتانهم ‪ }....‬الية‪.‬‬ ‫‪{ 6‬نبلوهم}‪ :‬أي بالتشديد عليهم فبما يشرع لهم عقوبة لهم‪.‬‬

‫( ‪)2/254‬‬

‫معصية وتحذرهم من مغبة العتداء على شرع ال تعالى قالت {لم تعظون قوما ال مهلكهم أو‬ ‫معذبهم عذابا شديدا} وهذا القول من هذه الطائفة دال على يأسهم من رجوع إخوانهم عن فسقهم‬ ‫وباطلهم‪ ،‬فأجابتهم الطائفة الواعظة {معذرة ‪ 1‬إلى ربكم ولعلهم يتقون} أي وعظنا لهم هو معذرة‬ ‫لنا عند ال تعالى من جهة ومن جهة أخرى {لعلهم يتقون} فيتوبوا ويتركوا هذا العتداء‪ ،‬قال‬ ‫تعالى {فلما نسوا ما ذكروا به} وخوفوا منه وهو تحريم ال تعالى عليهم الصيد يوم السبت‪ ،‬ومعنى‬ ‫نسوا تركوا ولم يلتفتوا إلى وعظ إخوانهم لهم وواصلوا اعتداءهم وفسقهم‪ ،‬قال تعالى {أنجينا الذين‬ ‫ينهون عن السوء} وهم الواعظون لهم من ملّوا ويئسوا فتركوا وعظهم‪ ،‬وممن واصلوا نهيهم‬ ‫ووعظهم {وأخذنا الذين ظلموا ‪ 2‬بعذاب بئيس} أي شديد البأس {بما كانوا يفسقون} عن طاعة ال‬ ‫ربهم‪ ،‬إذ قال تعالى لهم {كونوا قردة خاسئين ‪ }3‬فكانوا قردة خاسئين ذليلين صاغرين حقيرين‪ ،‬ثم‬ ‫لم يلبثوا (مسخا) ‪ 4‬إل ثلثة أيام وماتوا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير الوحي والنبوة لرسول ال محمد صلى ال عليه وسلم إذ مثل هذا القصص الذي يذكر‬ ‫لبني إسرائيل لن يتم إل عن طريق الوحي‪ ،‬وإل فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله‪ ،‬وقد‬ ‫مضى عليه زمن طويل‪.‬‬ ‫‪ -2‬إذا أنعم ال على أمة نعمة ثم أعرضت عن شكرها تعرضت للبلء أولً ثم العذاب ثانيا‪.‬‬ ‫‪ -3‬جدوى المر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نجى ال تعالى الناهين عن المنكر وأهلك‬ ‫الذين باشروه ولم ينتهوا منه دون غيرهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المعذرة‪ :‬مصدر ميمي فعله اعتذر على غير قياس‪ ،‬والعذر‪ :‬السبب الذي تبطل به المؤاخذة‬ ‫بسبب ذنب أو تقصير‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في هل الفرقة القائلة‪ :‬لم تعظونا قوما‪ ..‬الخ نجت من العذاب أولً؟ وقد روي أن ابن‬ ‫عباس كان يرى أنها لم ننج حتى أقنعه تلميذه عكرمة فقال بنجاتها مع الفرقة الناهية‪ ،‬لنّ ترك‬ ‫النهي من الفرقة التي لم تنه كان ليأسهم من استجابة الظالمين‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال‪ :‬خسأته فخسا أي‪ ،‬باعدته وطردته‪ ،‬وفي هذا دليل على أنّ المعاصي سبب النقم كما أن‬ ‫الطاعات سبب النعم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي لم يلبثوا ممسوخين حتى هلكوا والعياذ بال‪.‬‬

‫( ‪)2/255‬‬

‫‪ – 4‬إطلق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في‬ ‫نفس فاعلها‪.‬‬ ‫ب وَإِنّهُ‬ ‫وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن َيسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ إِنّ رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ‬ ‫ك وَبََلوْنَا ُهمْ‬ ‫ن َومِ ْنهُمْ دُونَ ذَِل َ‬ ‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأ َممًا مّ ْنهُمُ الصّالِحُو َ‬ ‫َل َغفُورٌ رّحِيمٌ(‪َ )167‬وقَ ّ‬ ‫ف وَرِثُواْ ا ْلكِتَابَ يَ ْأخُذُونَ عَ َرضَ‬ ‫جعُونَ(‪َ )168‬فخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْل ٌ‬ ‫حسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬ ‫بِالْ َ‬ ‫خذُوهُ أَلَمْ ُي ْؤخَذْ عَلَ ْيهِم مّيثَاقُ ا ْلكِتَابِ أَن لّ‬ ‫هَذَا الدْنَى وَ َيقُولُونَ سَ ُيغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْ ِتهِمْ عَ َرضٌ مّثْلُهُ يَأْ ُ‬ ‫ِيقُولُواْ عَلَى اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ وَدَرَسُواْ مَا فِي ِه وَالدّارُ الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ(‪ )169‬وَالّذِينَ‬ ‫لةَ إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمصْلِحِينَ(‪)170‬‬ ‫سكُونَ بِا ْلكِتَابِ وََأقَامُواْ الصّ َ‬ ‫ُيمَ ّ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫تأذن ‪ : 1‬أعلم وأعلن‪.‬‬ ‫ليبعثن ‪ :‬أي ليسلطن‪.‬‬ ‫من يسومهم سوء العذاب ‪ :‬أي يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالذلة والمسكنة‪.‬‬ ‫وقطعناهم ‪ :‬أي فرقناهم جماعات جماعات‪.‬‬ ‫بلوناهم بالحسنات والسيئات ‪ :‬اختبرناهم بالخير والشر أو النعم والنقم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬آذن وأذن بمعنى واحد‪ ،‬وهو أَعلم ومنه قول الشاعر‪:‬‬ ‫فقلت تعلّم إنّ للصيد غرّة ‪...‬‬ ‫فَإلّ تضيّعها فإنك قاتله‬

‫( ‪)2/256‬‬ ‫فخلف من بعدهم خلف ‪ :‬الخلف بإسكان اللم خلف سوء وبالتحريك خلف خير‪.‬‬ ‫ورثوا الكتاب ‪ :‬أي التوراة‪.‬‬ ‫عرض هذا الدنى‪ :‬أي حطام الدنيا الفاني وهو المال‪.‬‬ ‫يمسكون بالكتاب ‪ :‬أي يتمسكون بما في التوراة فيحلون ما أحل ال فيها ويحرمون ما حرم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في شأن اليهود فقد أمر تعالى رسوله أن يذكر إعلمه تعالى بأنه سيبعث بكل تأكيد‬ ‫على اليهود إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم عقوبة منه تعالى لهم على خبث طواياهم وسوء‬ ‫أفعالهم‪ ،‬وهذا الطلق في هذا الوعيد الشديد يقيد بأحد أمرين الول بتوبة من تاب منهم ويدل‬ ‫على هذا القيد قوله تعالى في آخر هذه الية {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} أي لمن‬ ‫تاب والثاني بجوار دولة قوية لهم وحمايتها وهذا مفهوم قوله تعالى من سورة آل عمران {ضربت‬

‫عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا إل بحبل من ال} وهو السلم {وحبل من الناس}‪ ،‬وهو ما ذكرناه‬ ‫آنفا‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى في هذا السياق (‪ )167‬وهي قوله تعالى {وإذ تأذن ربك ليبعثن‬ ‫عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم ‪ 1‬سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وأما‬ ‫الية الثانية (‪ )168‬فقد تضمنت بيان فضل ال تعالى على اليهود وهو أن ال تعالى قد فرقهم في‬ ‫الرض جماعات جماعات‪ ،‬وأن منهم الصالحين‪ ،‬وأن منهم دون ذلك وأنه اختبرهم بالحسنات‬ ‫وهي النعم‪ ،‬والسيئات وهي النقم تهيئة لهم وإعدادا للتوبة إن آثروا التوبة على الستمرار في‬ ‫الجرام والشر والفساد‪ .‬هذا ما تضمنته الية الثانية وهي قوله تعالى {وقطعناهم في الرض أمما‬ ‫منهم الصالحون ‪ 2‬ومن دون ذلك‪ ،‬وبلوناهم بالحسنات‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يسومهم سوء العذاب‪ :‬يجعل أسوأ العذاب وأشدّه كالقيمة لهم إذ هو حظهم المفروض عليهم‪،‬‬ ‫أوّل من تسلط عليهم فسامهم سوء العذاب بختنصر البابلي‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي شتتناهم في البلد بعد تسلط البابليين عليهم وتمزيق ملكهم فعاشوا مشتتين فلم ينتظم ملكهم‬ ‫مدّة طويلة وهم إذ ذاك ما بين صالح وفاسد وانتظم أمرهم مرة أخرى ث ّم فسقوا فسلّط عليهم‬ ‫أطيطوس الروماني فتفرقوا مرّة أخرى وما زالوا مفرقين إلى هذه اليام‪ ،‬باجتماعهم في فلسطين‬ ‫وتكوينهم دولة إسرائيل وعمّا قريب تزول‪.‬‬

‫( ‪)2/257‬‬ ‫والسيئات لعلهم يرجعون} وأما الية الثالثة (‪ )169‬فقد أخبر تعالى أنه فد خلف من بعد تلك المة‬ ‫خلف سوء ‪ 1‬ورثوا الكتاب الذي هو التوراة ورثوه عن أسلفهم ولم يتلزموا بما أخذ عليهم فيه من‬ ‫عهود على الرغم من قراءتهم له فقد آثروا الدنيا على الخرة فاستباحوا الربا والرشا وسائر‬ ‫المحرمات‪ ،‬ويدعون أنهم سيغفر لهم‪ ،‬وكلما أتاهم مال حرام أخذوه ومنوا أنفسهم بالمغفرة ‪ 2‬كذبا‬ ‫على ال تعالى قال تعالى موبخا لهم {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن ل يقولوا على ال إل الحق}‬ ‫وقد قرأوا هذا في الكتاب وفهموه ومع هذا يجترئون على ال ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم‪ ،‬ثم‬ ‫يواجههم تعالى بالخطاب مذكرا لهم واعظا فيقول {والدار الخرة خير للذين يتقون أفل‬ ‫تعقلون؟}ويفتح ال تعالى باب الرجاء لهم في الية الرابعة في هذا السياق فيقول {والذين يمسكون‬ ‫بالكتاب ‪ }3‬أي يعملون بحرص وشدة بما فيه من الحكام والشرائع ول يفرطون في شيء من ذلك‬ ‫{وأقاموا الصلة إنا ل نضيع أجر المصلحين}‪ ،‬ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب‬ ‫وأقاموا الصلة‪ ،‬وان ال تعالى سيجزيهم على إصلحهم لنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره‪،‬‬ ‫لنه تعالى ل يضيع أجر المصلحين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان موجز لتوبيخ اليهود في هذه اليات الربع‪.‬‬ ‫‪ -2‬من أهل الكتاب الصالحون‪ ،‬ومنهم دون ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬التنديد بإيثار الدنيا على الخرة‪ ،‬وبتمني المغفرة مع الصرار على الجرام‪.‬‬ ‫‪ -4‬تفضيل الخرة على الدنيا بالنسبة للمتقين‪.‬‬ ‫‪ -5‬الحث على التمسك بالكتاب قراءة وتعلما وعملً بإحلل حلله وتحريم حرامه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخلف بسكون اللّم‪ :‬الولد‪ ،‬الواحد والجمع فيه سواء والخلَف‪ :‬لفتح اللم الْ َبدَل ولدا كان أو‬ ‫غيره‪ ،‬وقيل الخلف بالفتح‪ :‬الصالح وبالجزم‪ :‬الطالح قال لبيد‪:‬‬ ‫ذهب الذين يعاش في أكنافهم ‪ ...‬وبقيت في خلف كجلد الجرب‬ ‫‪ 2‬روى الدارمي عن معاذ بن جبل رضي ال عنه الرواية التالية وهي منطبقة على واقعنا اليوم‬ ‫ومن قبل اليوم قال‪ :‬سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه ل يجدون له‬ ‫شهوة ول لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع ل يخالطه خوف‪ ،‬إن قصّروا‬ ‫قالوا سنبلغ وإن أساءوا قالوا‪ :‬سيغفر لنا إنّا ل نشرك بال شيئا‪.‬‬ ‫‪ 3‬مسك وتمسّك بمعنى واحد‪.‬‬

‫( ‪)2/258‬‬ ‫‪ -6‬فضل اقام الصلة‪.‬‬ ‫خذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ‬ ‫وَإِذ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّواْ أَنّ ُه وَاقِعٌ ِب ِهمْ ُ‬ ‫ستَ بِرَ ّب ُكمْ‬ ‫سهِمْ أَلَ ْ‬ ‫شهَدَ ُهمْ عَلَى أَنفُ ِ‬ ‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬ ‫خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي آ َدمَ مِن ُ‬ ‫تَ ّتقُونَ(‪ )171‬وَإِذْ أَ َ‬ ‫شهِدْنَا أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(‪َ )172‬أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَا أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن‬ ‫قَالُواْ بَلَى َ‬ ‫جعُونَ(‬ ‫ت وََلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬ ‫صلُ اليَا ِ‬ ‫قَ ْبلُ َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْ ِدهِمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ(‪َ )173‬وكَذَِلكَ ُن َف ّ‬ ‫‪)174‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإذ نتقنا الجبل ‪ :‬أي رفعناه من أصله فوق رؤوسهم‪.‬‬ ‫واقع بهم ‪ :‬أي ساقط عليهم‪.‬‬ ‫خذوا ما آتيناكم بقوة ‪ :‬أي التزموا بالقيام بما عهد إليكم من أحكام التوراة بقوة‪.‬‬ ‫واذكروا ما فيه‪ :‬أي ل تنسوا ما التزمتم به من النهوض بأحكام التوراة ‪.‬‬ ‫من ظهورهم ذريتهم‪ :‬أي أخذهم من ظهر آدم عليه السلم بأرض نعمان ‪ 1‬من عرفات‪.‬‬ ‫أشهدهم على أنفسهم ‪ :‬أي بال تعالى ربهم وإلههم ول رب لهم غيره ول إله لهم سوأه‪.‬‬

‫المبطلون‪ :‬العاملون بالشرك والمعاصي إذ كلها باطل ل حق فيه‪.‬‬ ‫نفصل اليات‪ :‬نبينها ونوضحها بتنويع الساليب وتكرار الحجج وضرب المثال وذكر القصص‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس‪ :‬ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة‪.‬‬

‫( ‪)2/259‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫الية الولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود إذ قال تعالى لرسوله {وإذ نتقنا الجبل‬ ‫فوقهم كأنه ظلة ‪ }1‬أي اذكر لهم أيها الرسول إذ نتقنا أي رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله‬ ‫وصار فوقهم كأنه ظلة {وظنوا أنه واقع بهم} أي ساقط عليهم وقلنا لهم {خذوا ما آتيناكم بقوة ‪}2‬‬ ‫والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع وأخذها العمل بها واللتزام بكل ما أمرت‬ ‫به ونهت عنه وقوله تعالى {واذكروا ما فيه} أي في الذي آتيناكم من الوامر والنواهي‪ ،‬ول تنسوه‬ ‫فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى ال عز وجل‪ ،‬هذا ما دلت عليه‬ ‫الية الولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود‪.‬‬ ‫أما الية الثانية (‪ )172‬وهي قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني ‪ 3‬آدم من ظهورهم ذريتهم}‪ 4‬فإنها‬ ‫حادثة جديرة بالذكر والهتمام لما فيها من العتبار‪ ،‬إن ال تعالى أخرج من صلب آدم ذريته‬ ‫فأنطقها بقدرته التي ل يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت‪ ،‬وخاطبها‬ ‫ففهمت وأمرها فالتزمت وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم‪ ،‬وسوف يطالبون به يوم القيامة‪،‬‬ ‫وهو معنى قوله تعالى {وأشهدهم على أنفسهم‪ :‬ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا} أي أنك ربنا {أن‬ ‫تقولوا} يوم القيامة {إنا كنا عن هذا غافلين‪ ،‬أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من‬ ‫بعدهم ‪ ،5‬أفتهلكنا بما فعل المبطلون} والعبرة من هذا أن النسان سرعان ما ينسى‪ ،‬ويعاهد ول‬ ‫يفي‪ ،‬وما وجد من بني إسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل النسان‪ ،‬وهناك عبرة أعظم‬ ‫وهى أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي‪ ،‬ومع السف أكثر بني آدم ينكرونه‪ ،‬ويشركون‬ ‫بربهم وقوله تعالى {وكذلك نفصل اليات لعلهم يرجعون} وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة‬ ‫وهذا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬كأنّه لرتفاعه سحابة تظلّ‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬بجدّ وعزم‪.‬‬ ‫‪ 3‬الثار والحاديث المثبتة لستخراج الرب تعالى الذريّة من ظهر آدم كثيرة منها في الموطأ‬ ‫والسنن ونكتفي برواية الشيخين التية‪ :‬قال صلى ال عليه وسلم‪ :‬يقال للرجل من أهل النار يوم‬

‫القيامة‪ :‬أرأيت لو كان لك ما على الرض من شيء أكنت مفديا؟ فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬قد أردتُ‬ ‫منك أهون من ذلك‪ ،‬قد أخذت عليك في ظهر آدم أن ل نشرك بي شيئا فأبيت إلّ أن تشرك"‪.‬‬ ‫‪ُ 4‬وجّه نظم الية هكذا‪:‬وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم ولم يذكر ظهر آدم عليه السلم‬ ‫لنه من المعلوم أن كل بني آدم منه وأخرجوا يوم الميثاق من ظهره‪ .‬وقوله‪ :‬ظهورهم‪ :‬بدل‬ ‫اشتمال من بين آدم‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية دليل على أنه ل عذر لحد في تقليده آباءه وأجداده وآهل بلده في الشرك والمعاصي‬ ‫كما ل عذر بالجهل أيضا‪.‬‬

‫( ‪)2/260‬‬ ‫السياق وهو تفصيل عجيب نفصل اليات تذكيرا للناس وتعليما ولعلهم يرجعون إلى الحق بعد‬ ‫إعراضهم عنه‪ ،‬والى اليمان والتوحيد بعد انصرافهم عنهما تقليدا وإتباعا لشياطين الجن والنس‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان نفسيات اليهود وأنها نفسية غريبة وإل كيف وهم بين يدي ال يتمردون عليه ويعصونه‬ ‫برفضهم اللتزام بما عهد إليهم من أحكام حتى يرفع فوقهم الطور تهديدا لهم‪ ،‬وعندئذ التزموا ولم‬ ‫يلبثوا إل قليلً حتى نقضوا عهدهم وعصوا ربهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬عجيب تدبير ال تعالى في خلقه‪.‬‬ ‫‪ -3‬الكافر كفر مرتين كفر بالعهد الذي أخذ عليه وهو في عالم الذّر ‪ 1‬وكفر بال وهو في عالم‬ ‫الشهادة‪ ،‬والمؤمن آمن مرتين‪ ،‬فلذا يضاعف للول العذاب ويضاعف للثاني الثواب‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير مبدأ الخليقة‪ ،‬ومبدأ المعاد الخر‪.‬‬ ‫وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ الّ ِذيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِ ْنهَا فَأَتْ َبعَهُ الشّيْطَانُ َفكَانَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ(‪ )175‬وََلوْ شِئْنَا‬ ‫ح ِملْ عَلَيْهِ َي ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ‬ ‫لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وََلكِنّهُ أَخَْلدَ إِلَى الَ ْرضِ وَاتّبَعَ َهوَاهُ َفمَثَلُهُ َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ‬ ‫صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ(‪ )176‬سَاء مَثَلً ا ْل َقوْمُ‬ ‫يَ ْلهَث ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَا ْقصُصِ ا ْل َق َ‬ ‫الّذِينَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقد حاول كثيرون التخلص من قضية أخذ الرب تعالى من ظهر آدم ذريته وإشهادهم على‬ ‫أنفسهم‪ ،‬ونطق الرواح وشهادتها‪ ،‬ول داعي لهذا أبدا ما دامت الحاديث والثار كثيرة وقدرة ال‬ ‫صالحة لكل شيء ول يعجزها شيء ما هي النملة؟ وقد أنطقها ال فنطقت وأفصحت‪ .‬إن الحيوان‬ ‫المنوي الذي منه تكون الذرية قال العلماء لو جمعت الحيوانات المنوية كلها من آدم إلى اليوم‬

‫ووضعت في فنجان ما ملته‪ .‬أمع هذا يحاول إبطال الحاديث وتأويل الية على غير ظاهرها‬ ‫رجل من أهل العلم؟‬

‫( ‪)2/261‬‬ ‫سهُمْ كَانُواْ يَظِْلمُونَ(‪ )177‬مَن َي ْهدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَن ُيضِْللْ فَُأوْلَ ِئكَ هُمُ‬ ‫كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُ َ‬ ‫الْخَاسِرُونَ(‪)178‬‬ ‫شرح الكلمات‬ ‫واتل عليهم نبأ‪ :‬إقرأ عليهم‪.‬‬ ‫فانسلخ منها ‪ :‬كفر بها وتركها وراء ظهره مبتعدا عنها‪.‬‬ ‫فأتبعه الشيطان‪ :‬لحقه وأدركه‪.‬‬ ‫من الغاوين‪ :‬من الضالين غير المهتدين الهالكين غير الناجين‪.‬‬ ‫أخلد إلى الرض ‪ :‬مال إلى الدنيا وركن إليها وأصبح ل هم له إل الدنيا‪.‬‬ ‫يلهث ‪ :‬اللهث‪ :‬التنفس الشديد مع إخراج اللسان من التعب والعياء‪.‬‬ ‫ساء ‪:‬قبح‪.‬‬ ‫مثلً‪ :‬أي صفة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقول تعالى لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم {واتل عليهم} أي اقرأ على قومك وعلى كل من‬ ‫يبلغه هذا الكتاب من سائر الناس {نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} أي خبر الرجل ‪ 1‬الذي‬ ‫أعطيناه آيتنا تحمل الدلة والحجج والشرائع والحكام والداب فتركها وابتعد عنها فلم يَتُْلهَا ولم‬ ‫يفكر فيها ولم يعمل بها ل استدلل ول تطبيقا {فأتبعه الشيطان } أي لحقه وأدركه وتمكن منه‬ ‫إبليس‪ ،‬لنه بتخليه عن اليات وجد الشيطان له طريقا إليه {فكان من الغاوين} أي الضالين‬ ‫الفاسدين الهالكين {ولو شئنا لرفعناه بها ‪ }2‬أي باليات إلى قمم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر أهل التفسير ثلثة رجال قيل إنها نزلت في واحد منهم وهم‪ :‬بلعم بن باعوراء الكنعاني‬ ‫وكان على زمن موسى‪ ،‬وقيل إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثقفي‪ ،‬وقيل في أبي عامر بن‬ ‫صيفي‪ ،‬وأقرب القوال إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت إذ هو الذي قال فيه الرسول صلى ال‬ ‫شعْ ُر ُه وكفر قلبه" إذ شعره كان يفيض باليمانيات من عقيدة البعث والجزاء‪،‬‬ ‫عليه وسلم‪" :‬آمن ِ‬ ‫والتوحيد‪ ،‬والعدل والرحمة ومن شعره قوله‪:‬‬ ‫كل دين يوم القيامة عند ال ‪ ...‬إل دين الحنيفية زور‬ ‫‪ 2‬أي أنّ تلك اليات التي أعطاه ال إياها من شأنها أن تكون سببا للهداية‪ ،‬وهذا شأن آيات ال‬

‫فإنها ترفع كل من يؤمن بها ويعمل بما فيها ترفعه في الدنيا والخرة فهي آلة الرفع الحقيقية ل‬ ‫المذاهب والنظريات المادية‪.‬‬

‫( ‪)2/262‬‬ ‫المجد والكمال‪ ،‬وإلى الدرجات العل في الدار الخرة‪{ ،‬ولكنه أخلد إلى الرض} أي مال إليها‬ ‫وركن فأكب على الشهوات والسرف في الملذات‪ ،‬وأصبح ل هم له إل تحصيل ذلك {واتبع هواه}‬ ‫وترك عقله ووحي ربه عنده‪ ،‬فصار مثله أي صفته الملئمة له {كمثل الكلب} أي في اللهث‬ ‫والعياء‪ ،‬والتبعية وعدم الستقلل الذاتي {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} فحيرته وتعبه ل‬ ‫ينقطعان أبدا‪ .‬وقوله تعالى {ذلك مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا} أي هذا المثل الذي ضربناه لذلك‬ ‫الرجل الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها وكان من أمره ما قصصنا عليك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا‬ ‫في كل زمان ومكان‪ ،‬وعليه {فاقصص} يا رسولنا {القصص لعلهم يتفكرون} أي لعل قريشا تتفكر‬ ‫فتعتبر وترجع إلى الحق فتكمل وتسعد‪ ،‬وقوله تعالى {ساء مثلً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم‬ ‫كانوا يظلمون} أي قبح مثلً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى ل يوحدوا ال تعالى‬ ‫ول يسلموا إليه‪{ ،‬وأنفسهم كانوا يظلمون} بتدنيسها بآثار الشرك والمعاصي وقوله تعالى {من يهد‬ ‫ال فهو المهتدي} أي من وفقه ال تعالى للهداية ‪ 1‬فآمن وأسلم واستقام على منهاج الحق فهو‬ ‫المهتدي بحق ومن خذله ال لشدة إعراضه عن الحق وتكبره عنه فضل بإضلل ال تعالى له‬ ‫فأولئك هم الخاسرون الخسران الحق المبين‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس‪.‬‬ ‫‪ -2‬ترك القرآن الكريم بعدم تلوته والتدبر فيه‪ ،‬وترك العمل به مفض بالعبد إلى أن يكون هو‬ ‫صاحب المثل في هذه الية‪ ،‬فأولً يتمكن منه الشيطان فيصبح من الغواة وثانيا يخلد إلى الرض‬ ‫كما هو حال الكثيرين فل يكون لحدهم هم إل الدنيا‪ .‬ثم يتبع هواه ل عقله ول شرع ال‪ ،‬فإذا به‬ ‫صورة لكلب يلهث ل تنقطع حيرته وإتباعه لغيره كالكلب سواء بسواءء وهذه حال من أعرضوا‬ ‫عن كتاب ال تعالى في هذه الية فليتأملها العاقل‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل رفعةَ ول سعادة ول كمال إل بالعمل بالقرآن فهي الية الرافعة لقوله تعالى {ولو شئنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الهداية‪ :‬هي إبانة الطريق الموصل إلى السعادة والكمال‪.‬‬

‫( ‪)2/263‬‬

‫لرفعناه بها} أي باليات ‪ 1‬التي انسلخ منها والعياذ بال‪.‬‬ ‫‪ -4‬الهداية بيد ال أل فليطلبها من أرادها من ال بصدق القلب وإخلص النية فإن ال تعالى ل‬ ‫يحرمه منها‪ ،‬ومن أعرض عن ال أعرض ال عنه‪.‬‬ ‫ب لّ َيفْ َقهُونَ ِبهَا وََلهُمْ أَعْيُنٌ لّ يُ ْبصِرُونَ ِبهَا وََلهُمْ‬ ‫ن وَالِنسِ َلهُمْ قُلُو ٌ‬ ‫جهَنّمَ كَثِيرًا مّنَ ا ْلجِ ّ‬ ‫وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ‬ ‫سمَاء ا ْلحُسْنَى‬ ‫ضلّ ُأوْلَ ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ(‪ )179‬وَلِلّهِ الَ ْ‬ ‫س َمعُونَ ِبهَا ُأوْلَ ِئكَ كَالَ ْنعَامِ َبلْ ُهمْ َأ َ‬ ‫ن لّ يَ ْ‬ ‫آذَا ٌ‬ ‫سمَآ ِئهِ سَ ُيجْ َزوْنَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪َ )180‬و ِممّنْ خََلقْنَا ُأمّةٌ‬ ‫حدُونَ فِي أَ ْ‬ ‫فَادْعُوهُ ِبهَا وَذَرُواْ الّذِينَ يُلْ ِ‬ ‫ق وَبِهِ َيعْ ِدلُونَ(‪)181‬‬ ‫حّ‬ ‫َيهْدُونَ بِالْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ذرأنا لجهنم‪ :‬خلقنا لجهنم أي للتعذيب بها والستقرار فيها‪.‬‬ ‫ل يفقهون بها ‪ :‬كلم ال ول كلم رسوله‪.‬‬ ‫ل يبصرون بها‪ :‬آيات ال في الكون‪.‬‬ ‫ل يسمعون بها‪ :‬الحق والمعروف‪.‬‬ ‫كالنعام ‪ :‬البهائم في عدم النتفاع بقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم‪.‬‬ ‫الغافلون‪ :‬أي عن آيات ال‪ ،‬وما خُلقوا له وما يراد لهم وبهم‪.‬‬ ‫ول السماء الحسنى‪ :‬السماء جمع اسم والحسنى مؤنث الحسن‪ ،‬والسماء الحسنى ل خاصة‬ ‫دون غيره فل يشاركه فيها أحد من مخلوقاته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقد جرب أتباع أتاتورك العثماني العلمانية وجرّب العرب القومية ثم جربوا الشتراكية حتى‬ ‫قال قائلهم‪ :‬اشتراكيتنا نوالي‪ ،‬من يواليها ونعادي من يعاديها‪ ،‬وجرّب بعضهم الشيوعية فهل غنوا‬ ‫هل عزّوا هل كملوا هل شبعوا؟ اللهم ل‪ ،‬ل‪ ،‬ل فلم إذن ل يعملون بالقرآن‪.‬‬

‫( ‪)2/264‬‬ ‫وذروا ‪ :‬اتركوا‪.‬‬ ‫يلحدون ‪ :‬يميلون بها إلى الباطل‪.‬‬ ‫وممن خلقنا ‪ :‬أي من الناس‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫على إثر ذكر الهدى والضلل وإن المهتدى من هداه ال‪ ،‬والضال من أضله ال أخبر تعالى أنه قد‬ ‫خلق لجهنم كثيرا من الجن والنس‪ ،‬علما منه تعالى بأنهم يرفضون هدايته ويتكبرون عن عبادته‪،‬‬ ‫ويحاربون أنبياءه ورسله‪ ،‬وإن رفضهم للهداية وتكبرهم عن العبادة عطل حواسهم فل القلب يفقه‬

‫ما يقال له‪ ،‬ول العين تبصر ما تراه‪ ،‬ول الذن تسمع ما تخبر به وتحدث عنه فأصبحوا كالنعام‬ ‫‪ 1‬بل هم أضل لن النعام ما خرجت عن الطريق الذي سيقت له وخلقت لجله ‪ ،2‬وأما أولئك فقد‬ ‫خرجوا عن الطريق الذي امروا بسلوكه‪ ،‬وخلقوا له أل وهو عبادة ال تعالى وحده ل شريك له‬ ‫لينجوا من العذاب ويسعدوا في دار النعيم‪ ،‬وقوله تعالى {أولئك هم الغافلون} تقرير لحقيقة وهي‬ ‫أن استمرارهم في الضلل كان نتيجة غفلتهم عن آيات ال الكونية فل يتأملوها فيعرفوا أن‬ ‫المعبود الحق هو ال وحده ويعبدوه وعن آيات ال التنزيلية فل يتدبروها فيعلموا أن ال هو الحق‬ ‫المبين فيعبدوه وحده بما شرع لهم في كتابه وسنة نبيه‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )179‬وأما‬ ‫الية الثانية في هذا السياق (‪ )180‬وهي قوله تعالى {ول السماء الحنسى فادعوه ‪ 3‬بها وذروا‬ ‫الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} فقد أخبر تعالى فيها بأن السماء الحسنى له‬ ‫تعالى خاصة ل يشاركه فيها أحد من خلقه‪ ،‬وقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أنها مائة اسم ‪4‬‬ ‫إل اسما أي تسعة وتسعون إسما ًووردت مفرقة في القرآن الكريم‪ ،‬وأمر تعالى عباده أن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال عطاء‪ :‬النعام تعرف ال والكافر ل يعرفه‪ ،‬وقيل‪ :‬النعام مطيعة ل‪ ،‬والكافر غير مطيع‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ل همّة لهم إل الكل والشرب واللباس والنكاح‪ ،‬وهم أضل من النعام لن النعام تبصر‬ ‫مضارها ومنافعها وتتبع مالكها وهم على خلف ذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى أحمد رحمه ال عن ابن مسعود رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬ ‫"ما أصاب أحداٌ قط ه ٌم ول حزم فقال‪ :‬اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ‬ ‫فيّ حكمك‪ ،‬عدل فيّ قضاؤك‪ ،‬أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته في كتابك أو‬ ‫علّمته أحدا من خلقّك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي‬ ‫ونور صدري وجلء حزني وذهاب همّي إلّ أذهب ال حزنه وهمّه وأبدل مكانه فرحا"‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬إن ل تسعة وتسعين اسما‬ ‫مائة إل واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحبّ الوتر"‪.‬‬

‫( ‪)2/265‬‬ ‫يدعوه ‪ 1‬بها يا ال‪ ،‬يا رحمن يا رحيم يا رب‪ ،‬يا حي يا قيوم‪ ،‬وذلك عند سؤالهم إياه وطلبهم منه‬ ‫ما ل يقدرون عليه ‪ ،2‬كما أمرهم أن يتركوا أهل الزيغ والضلل الذين يلحدون في أسماء ال‬ ‫فيؤلونها‪ ،‬أو يعطلونها‪ ،‬أو يشبهونها‪ ،‬أمر عباده المؤمنين به أن يتركوا هؤلء له ليجزيهم الجزاء‬ ‫العادل على ما كانوا يقولون ويعملون‪ .‬لن جدالهم غير نافع فيهم ول مجد للمؤمنين ول لهم‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الثانية أما الثالثة (‪ )181‬وهي قوله تعالى {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق‬ ‫وبه يعدلون} إنه لما ذكر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والنس ذكر هنا أنه خلق للجنة خلقا آخر‬

‫من النس والجن فذكر صفاتهم التي يستوجبون بها الجنة كما ذكر صفات أهل جهنم التي‬ ‫استوجبوا بها جهنم‪ ،‬فقال {وممن خلقنا} من الناس {أمة} كبيرة {يهدون} أنفسهم وغيرهم {بالحق}‬ ‫الذي هو هدى ال ورسوله وبالحق يعدلون في قضائهم وأحكامهم فينصفون ويعدلون ول‬ ‫يجورون‪ ،‬ومن هذه المة كل صالح في أمة السلم يعيش على الكتاب والسنة اعتقادا وقولً‬ ‫وعملً وحكما وقضاءً وأدبا وخلقا جعلنا الذي منهم وحشرنا في زمرتهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ أن السعادة والشقاء سبق بها قلم القضاء والقدر فكل ميسر لما خلق له‪.‬‬ ‫‪ -2‬هبوط الدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان‪ ،‬وذلك عندما يكفر بربه ويعطل حواسه عن‬ ‫النتفاع بها‪ ،‬ويقصر همه على الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن البلء كامن في الغفلة عن آيات ال والعراض عنها‪.‬‬ ‫‪ -4‬المر بدعاء ال تعالى بأسمائه الحسنى نحو يا رب يا رحمن‪ ،‬يا عزيز يا جبار‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر أهل العلم كيفية الدعاء بها وهي؛‪ :‬أن يسأل باسم ال ما يناسب حاجته فيقول مثل‪ :‬يا‬ ‫رحمن ارحمني‪ ،‬يا رزاق ارزقني‪ ،‬يا حكيم احكم لي‪ ،‬يا قوي يا قدير‪ .‬قوّني واقدرني على كذا‪..‬‬ ‫يا لطيف ألطف بي‪ ،‬يا عليم علّمني وانفعني بما تعلمني وهكذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال مقاتل وغيره في سبب نزول هذه الية {ول السماء الحسنى} الخ أنً مشركا سمع مسلما‬ ‫يدعو‪ :‬يا رحمن يا رحيم فقال‪ :‬أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا؟ فما بال هذا‬ ‫يدعو ربين اثنين‪ ،‬فأنزل ال تعالى {ول السماء الحسنى} الخ‪.‬‬

‫( ‪)2/266‬‬ ‫‪ -5‬حرمة تأويل أسماء ال وصفاته وتحريفها كما قال المشركون في ال‪ ،‬اللت‪ ،‬وفي العزيز‬ ‫العزى سموا بها آلهتهم الباطلة‪ ،‬وهو اللحاد ‪ 1‬الذي توعد ال أهله بالجزاء عليه‪.‬‬ ‫‪ -6‬أهل الجنة الذين خلقوا لها هم الذين يهدون بالكتاب والسنة ويقضون بهما‪.‬‬ ‫ث لَ َيعَْلمُونَ(‪ )182‬وَُأمْلِي َلهُمْ إِنّ كَ ْيدِي مَتِينٌ(‪َ )183‬أوَلَمْ‬ ‫جهُم مّنْ حَ ْي ُ‬ ‫وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْ َتدْرِ ُ‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫يَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبهِم مّن جِنّةٍ إِنْ ُهوَ ِإلّ نَذِيرٌ مّبِينٌ(‪َ )184‬أوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ‬ ‫شيْ ٍء وَأَنْ عَسَى أَن َيكُونَ قَدِ اقْتَ َربَ َأجَُلهُمْ فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ(‬ ‫ض َومَا خََلقَ اللّهُ مِن َ‬ ‫وَالَرْ ِ‬ ‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ(‪)186‬‬ ‫‪ )185‬مَن ُيضِْللِ الّلهُ فَلَ هَا ِديَ َل ُه وَيَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كذبوا بآياتنا‪ : :‬أي بآيات القرآن الكريم‪.‬‬

‫سنستدرجهم ‪ : :2‬أي نستميلهم وهم هابطون إلى هوة العذاب درجة بعد درجة حتى ينتهوا إلى‬ ‫العذاب‪ ،‬وذلك بإدرار النعم عليهم مع تماديهم في التكذيب والعصيان حتى يبلغوا الجل المحدد لهم‬ ‫ثم يؤخذوا أخذة واحدة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اللحاد لغة‪ :‬الميل عن وسط الشيء إلى جانبه واللحاد للميت دفنه في جانب القبر وكان من‬ ‫إلحاد العرب في أسماء ال تعالى أن اشتقوا العزّى من العزيز واللت من ال‪ ،‬ومناة من المنان‬ ‫فألحدوا في أسماء ال تعالى‪ ،‬ومن اللحاد في أسماء ال تعالى ما يفعله جهال المتصوّفة من وضع‬ ‫أسماء ل تعالى ل توجد في كتاب ول سنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستدراج‪ :‬هو الخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة‪ ،‬والدُرْج‪ :‬لف الشيء ومنه إدراج الميت في‬ ‫كفنه أي‪ :‬لفه فيه‪ .‬واستدراج ال تعالى لهل الغواية كلّما جددوا ل معصية جدد لهم نعمة حتى‬ ‫يأخذهم بذنوبهم وهم ل يشعرون وأحسن من أنشد‪:‬‬ ‫حسُنت ‪ ...‬ولم تخف سوء ما يأتي به القدر‬ ‫أحسنت ظنك باليام إذ َ‬ ‫وسالمتك الليالي فاغتررت بها ‪...‬‬ ‫وعند صفر الليالي يحدث الكدر‬

‫( ‪)2/267‬‬ ‫وأملي لهم إن كيدي متين ‪ :‬أي أمهلهم فل أعجل بعقوبتهم حتى ينتهوا إليها بأعمالهم الباطلة وهذا‬ ‫هو الكيد لهم وهو كيد متين شديد‪.‬‬ ‫ما بصاحبهم من جنة‪ :‬صاحبهم هو محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والجنة الجنون والمتحدث عنهم‬ ‫كفار قريش‪.‬‬ ‫ملكوت السموات‪ :‬أي ملك السموات إل أن لفظ الملكوت أعظم من لفظة الملك‪.‬‬ ‫فبأي حديث بعده‪ :‬أي بعد القرآن العظيم‪.‬‬ ‫ونذرهم في طغيانهم ‪ :‬أي نتركهم في كفرهم وظلمهم‪.‬‬ ‫يعمهون ‪ :‬حيارى يترددون ل يعرفون مخرجا ول سبيلً للنجاة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أن الذين كذبوا بآياته التي أرسل بها رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم فلم يؤمنوا بها‬ ‫وأصروا على الشرك والضلل معرضين عن التوحيد والهدى يخبر تعالى أنه سيستدرجهم بالخذ‬ ‫شيئا فشيئا ودرجة بعد درجة حتى يحق عليهم العذاب فينزله بهم فيهلكون ويخبر أنه يملى لهم‬ ‫أيضا كيدا بهم ومكرا‪ ،‬أي يزيدهم في الوقت ويطول لهم زمن كفرهم وضللهم فل يعاجلهم‬ ‫بالعقوبة بل إنه يزيد في إرزاقهم وأموالهم حتى يفقدوا الستعداد للتوبة ثم يأخذهم أخذ عزيز‬

‫مقتدر‪ ،‬ولذا قال {وأملي ‪ 1‬لهم إن كيدي متين ‪ }2‬أي قوي شديد‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‬ ‫‪ )183‬أما الثانية فإنه تعالى يوبخهم على إعراضهم عن التفكير والتعقل فيقول {أو لم يتفكروا} في‬ ‫سلوك الرسول ‪ 3‬صلى ال عليه وسلم وتصرفاته الرشيدة الحكيمة فيعلموا أنه ما به من جنة‬ ‫وجنون كما يزعمون‪ ،‬وإنما هو نذير لهم من عذاب يوم أليم إن هم استمروا على سلوك درب‬ ‫الباطل والشر من الشرك والمعاصي‪ ،‬ونذارته بينه ل لبس فيها ول غموض لو كانوا يتفكرون‪.‬‬ ‫وفي الية الثالثة (‪ )185‬يوبخهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل نزلت هذه الية‪{ :‬سنستدرجهم} إلى قوله‪{ :‬متين} نزلت في المستهزئين من قريش وقد‬ ‫أخذوا بعد الملء لهم زمنا زاد على العشر سنين‪ ،‬أخذهم في بدر وألقوا في القليب ووبخهم صلى‬ ‫ال عليه وسلم بما هم أهله من الخزي والهوان‪.‬‬ ‫‪ 2‬المتين‪ :‬مأخوذ من المتن وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب أي‪ :‬الظهر‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو المراد بالصاحب في قوله‪{ :‬ما بصاحبكم من جنّة} وهي الجنون‪ ،‬دعا ال تعالى قريشا‬ ‫للتفكر‪.‬‬

‫( ‪)2/268‬‬ ‫على عدم نظرهم ‪ 1‬في ملكوت السموات والرض وفي ما خلق ال من شيء وفي أن عسى أن‬ ‫يكون قد اقترب أجلهم‪ ،‬إذ لو نظروا في ملكوت السموات والرض وما في ذلك من مظاهر القدرة‬ ‫والعلم والحكمة لعلموا أن المستحق للعبادة هو خالق هذا الملكوت‪ ،‬ل الصنام والتماثيل‪ ،‬كما أنهم‬ ‫لو نظروا فيما خلق ال من شيء من النملة إلى النخلة ومن الحبة إلى القبة لدركوا أن ال هو‬ ‫الحق وأن ما يدعون هو الباطل كما أنه حرى بهم أن ينظروا في ما مضى من أعمارهم فيدركوا‬ ‫أنه من الجائز أن يكون قد اقترب أجلهم‪ ،‬وقد اقترب فعل فليعجلوا بالتوبة حتى ل يؤخذوا وهم‬ ‫كفار أشرار فيهلكون ويخسرون خسرانا ًكاملً‪ .‬ثم قال تعالى في ختام الية {فبأي حديث ‪ }2‬بعد‬ ‫القرآن يؤمنون فالذي ل يؤمن بالقرآن وكله حجج وشواهد وبراهين وأدلة واضحة على وجوب‬ ‫توحيد ال واليمان بكتابه ورسوله ولقائه ووعده ووعيده فبأي كلم يؤمن‪ ،‬اللهم ل شيء‪ ،‬فالقوم‬ ‫إذا أضلهم ال‪ ،‬ومن أضله ال فل هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون حيارى يترددون ل‬ ‫يدرون ما يقولون‪ ،‬ول أين يتجهون حتى يهلكوا كما هلك من قبلهم‪ .‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم حتى أن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو ل يعلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬أكبر موعظة وهي أن على النسان أن يذكر دائما أن أجله قد يكون قريبا وهو ل يدري فيأخذ‬

‫بالحذر والحيطة حتى ل يؤخذ على غير توبة فيخسر‪.‬‬ ‫‪ -3‬من ل يتعظ بالقرآن وبما فيه من الزواجر‪ ،‬والعظات والعبر‪ ،‬ل يتعظ بغيره‪.‬‬ ‫‪ -4‬من أعرض عن كتاب ال مكذبا بما فيه من الهدى فضل‪ ،‬ل ترجى له هداية أبدا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬استدل العلماء بهذه الية‪{ :‬أو لم ينظروا في ملكوت السموات والرض} ونظائر هذه الية وهي‬ ‫كثيرة على وجوب النظر في اليات والعتبار بالمخلوقات وهو كذلك‪ ،‬واختلف العلماء في‪ :‬هل‬ ‫اليمان يثبت بالتقليد أو لبد من النظر حتى يؤمن‪ ،‬والصحيح‪ :‬أنّ اليمان يصح بالتقليد المفيد‬ ‫لليقين كإيمان عوام المسلمين‪ ،‬وأفضل منه ما كان عن نظر واستدلل وهو إيمان العالمين‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله‪{ :‬فبأي حديث} الخ‪ :‬الستفهام لتوقيفهم على ما يجب أن يفكروا فيه وينظروا إليه وتوبيخهم‬ ‫على ترك ذلك‪.‬‬

‫( ‪)2/269‬‬ ‫‪َ 1‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ رَبّي لَ ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا ِإلّ ُهوَ َثقَُلتْ فِي‬ ‫حفِيّ عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ الّل ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ‬ ‫ض لَ تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً َيسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬ ‫ال ّ‬ ‫ل ضَرّا ِإلّ مَا شَاء اللّ ُه وََلوْ كُنتُ أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ‬ ‫س لَ َيعَْلمُونَ(‪ )187‬قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َن ْفعًا َو َ‬ ‫النّا ِ‬ ‫لَسْ َتكْثَ ْرتُ مِنَ ا ْلخَيْ ِر َومَا مَسّ ِنيَ السّوءُ إِنْ أَنَاْ ِإلّ نَذِي ٌر وَبَشِيرٌ ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ(‪)188‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الساعة‪ :‬أي الساعة بمعنى الوقت الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا بالفناء التام‪.‬‬ ‫أيان مرساها ‪ :2‬أي متى وقت قيامها‪.‬‬ ‫ل يجلها لوقتها‪ :‬أي ل يظهرها في وقتها المحدد لها إل هو سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫بغتة‪ :‬أي فجأة بدون توقع أو انتظار‪.‬‬ ‫حفي عنها‪ :‬أي ملحف مبالغ في السؤال عنها حتى أصبحت تعرف وقت مجيئها‪.‬‬ ‫الغيب ‪ :‬الغيب ما غاب عن حواسنا وعن عقولنا فلم يدرك بحاسة ول بعقل‪ .‬والمراد به هنا ما‬ ‫سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد‪.‬‬ ‫السوء‪ :‬كل ما يسوء العبد في روحه أو بدنه‪.‬‬ ‫إن أنا إل نذير ‪ :‬أي ما أنا إل نذير وبشير فلست بإله يدبر المر ويعلم الغيب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السائلون النبي صلى ال عليه وسلم عن الساعة كثيرون بعضهم مشركون يسألون للتعجيز‬ ‫وبعضهم يهود يسألون اختبارا وامتحانا‪.‬‬ ‫‪ 2‬اسم يسأل به عن الزمان ل غير‪ ،‬قال الراجز‪:‬‬

‫أيّان تقضي حاجتي أيّان ‪...‬‬ ‫جحِها أرانا‬ ‫أما ترى لنُ ْ‬

‫( ‪)2/270‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ل شك أن أفرادا من قريش أو من غيرهم سألوا النبي صلى ال عليه وسلم عن الساعة متى قيامها‬ ‫فأخبره تعالى بسؤالهم وعلمه الجواب فقال عز وجل وهو يخاطب رسوله صلى ال عليه وسلم‬ ‫{يسألونك عن الساعة أيان مرساها ‪ }1‬أي متى وقت وقعوها وقيامها؟ قل لهم {إنما علمها عند‬ ‫ربى} أي علم وقت قيامها عند ربي خاصة {ل يجليها لوقتها} أي ل يظهرها لول وقتها إل هو‬ ‫{ثقلت في السموات والرض} أي ثقل أمر علمها عند أهل السموات والرض {ل تأتيكم إل بغتة}‬ ‫أي فجأة‪ ،‬ثم قال له يسألونك هؤلء الجهال عن الساعة {كأنك حفي عنها} أي كأنك ملحف في‬ ‫السؤال مبالغ في طلب معرفتها حتى عرفتها‪ ،‬قل لهم {إنما علمها ‪ 2‬عند ال} خاصة‪{ ،‬ولكن أكثر‬ ‫الناس ل يعلمون}‪ ،‬ولذا هم يسألونه‪ ،‬إذ إخفاؤه لحكم عالية لو عرفها الناس ما سألوا ولن يسألوا‬ ‫ولكن الجهل هو الذي ورطهم في مثل هذه السئلة وهذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )187‬أما‬ ‫الية الثانية (‪ )188‬فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لولئك السائلين عن الساعة متى وقت مجيئها‬ ‫{ل أملك لنفسي نفعا ول ضرا} خيرا ول شرا {إل ما شاء ال} شيئا من ذلك فإنه يُعينني على‬ ‫جلبه أو على دفعه فكيف إذا أعلم وقت مجيء الساعة حتى تسألوني عنها {ولو كنت أعلم الغيب‬ ‫‪ }3‬كما تظنون لستكثرت من الخيرات وما مسني السوء‪ .‬وذلك أني إذا عرفت متى الخصب‬ ‫ومتى الجدب‪ ،‬ومتى الغلء ومتى الرخاء يمكنني بسهولة أن استكثر من الخير عند وجوده‪،‬‬ ‫وأتوقى الشر وأدفعه قبل حصوله‪ ،‬يا قوم إنما أنا نذير بعواقب الشرك والمعاصي بشير بنتائج‬ ‫اليمان والتوحيد والعمل الصالح فلست بإله أعلم الغيب‪ ،‬ووظيفتي هذه صراحة هي البشارة‬ ‫والنذارة ينتفع بها المؤمنون خاصة وهو معنى قوله تعالى {إن أنا إل نذير وبشير لقوم يؤمنون}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أيان مرساها}‪ :‬مرساها مبتدأ‪ ،‬والخبر أيّان‪ ،‬وقدّم لنه اسم استفهام له الصدارة ومعنى‬ ‫مرساها‪ :‬مثبتها‪ ،‬من قولهم أرسى كذا إذا أثبته‪ ،‬أي‪ :‬متى وقوعها‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي علم الساعة إذ إخفاء علم الساعة كان لحكم عالية لو عرفها السائلون عن الساعة ما سألوا‬ ‫ولكنهم لجهلهم يسألون‪.‬‬ ‫‪ 3‬الغيب‪ :‬قسمان‪ ،‬حقيقي‪ :‬وهو ما استأثر ال تعالى به ومن علّمه تعالى منه شيئا علمه‪ .‬وإضافي‪:‬‬ ‫يعلمه بعض ويخفي عن بعض‪ ،‬ومن ادعى علم الغيب فقد كذّب ال ونازعه فيما استأثر به فهو‬ ‫بذلك كافر‪.‬‬

‫( ‪)2/271‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مرد علم الساعة إلى ال وحده فكل مسؤول عنها غير ال ليس أعلم من السائل ‪.1‬‬ ‫‪ -2‬للساعة أشراط بعضها في الكتاب وبعضها في السنة وليس معنى ذلك أنه تحديد لوقتها وإنما‬ ‫هي مقدمات تدل على قربها فقط‪.‬‬ ‫‪ -3‬استأثر ال بعلم الغيب فل يعلم الغيب إل ال‪ ،‬ومَنْ علّمه ال شيئا منه علم كما علم نبيه صلى‬ ‫ال عليه وسلم بعض المغيبات‪ ،‬والمعلم بالشيء ل يقال فيه يعلم الغيب وإنما يقال علّمه ربه غيب‬ ‫كذا وكذا فعلمه‪:‬‬ ‫‪ -4‬إذا كان الرسول ل يملك لنفسه نفعا ول ضرا فكيف يطلب منه ذلك وإذ كان الرسول ل يملك‬ ‫فهل من دونه من العباد يملك؟ إذا عرفت هذا ظهر لك ضلل أقوام يدعون الموتى سائلين‬ ‫ضارعين عند قبورهم ويقولون أنهم ل يدعونهم ولكن يتوسلون بهم فقط‪.‬‬ ‫خفِيفًا‬ ‫حمْلً َ‬ ‫حمََلتْ َ‬ ‫سكُنَ إِلَ ْيهَا فََلمّا َتغَشّاهَا َ‬ ‫جهَا لِ َي ْ‬ ‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬ ‫س وَاحِ َد ٍة َو َ‬ ‫ُهوَ الّذِي خََل َقكُم مّن ّنفْ ٍ‬ ‫عوَا اللّهَ رَ ّب ُهمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحا لّ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ(‪ )189‬فََلمّا آتَا ُهمَا‬ ‫َفمَ ّرتْ ِبهِ فََلمّا أَ ْثقَلَت دّ َ‬ ‫عمّا يُشْ ِركُونَ(‪ )190‬أَ ُيشْ ِركُونَ مَا لَ َيخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ‬ ‫جعَلَ لَهُ شُ َركَاء فِيمَا آتَا ُهمَا فَ َتعَالَى الّلهُ َ‬ ‫صَالِحا َ‬ ‫سهُمْ يَنصُرُونَ(‪ )192‬وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى لَ‬ ‫يُخَْلقُونَ(‪َ )191‬ولَ َيسْتَطِيعُونَ َلهُمْ َنصْرًا َولَ أَنفُ َ‬ ‫عوْ ُتمُوهُمْ َأمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ(‪)193‬‬ ‫سوَاء عَلَ ْي ُكمْ أَدَ َ‬ ‫يَتّ ِبعُوكُمْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لحديث مسلم‪ :‬فقد سأله جبريل عن السلم واليمان والحسان فبيّن له ذلك فصدقه جبريل‬ ‫وسأله عن الساعة فقال له‪ :‬ما المسؤول عنها بأعلم من السائل‪.‬‬

‫( ‪)2/272‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من نفس واحدة‪ :‬هي نفس آدم عليه السلم‪.‬‬ ‫وجعل منها زوجها‪ :‬أي خلق منها زوجها وهي حواء خلقها من ضلع آدم اليسر‪.‬‬ ‫ليسكن إليها ‪ :‬أي ليألفها ويأنس بها لكونها من جنسه‪.‬‬ ‫فلما تغشاها‪ :‬أي وطئها‪.‬‬ ‫فمرت به‪ :‬أي ذاهبة جائية تقضى حوائجها لخفت الحمل في الشهر الولى‪.‬‬

‫فلما أثقلت ‪ : 1‬أي أصبح الحمل ثقيلً في بطنها‪.‬‬ ‫لئن أتيتنا صالحا ‪ :‬أي ولدا صالحا ليس حيوانا بل إنسانا‪.‬‬ ‫جعل له شركاء ‪ :‬أي سموه عبد الحارث وهو عبدال جل جلله‪.‬‬ ‫فتعالى ال عما يشركون ‪ :‬أي أهل مكة حيث أشركوا في عبادة ال أصناما‪.‬‬ ‫وإن تدعوهم إلى الهدى ‪ :‬أي الصنام ل يتبعوكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقول تعالى لولئك السائلين عن الساعة عنادا ومكابرة من أهل الشرك هو أي ال {الذي خلقكم من‬ ‫نفس واحدة وخلق منها زوجها} الله المستحق للعبادة ل الصنام والوثان‪ ،‬فالخالق لكم من نفس‬ ‫واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها حواء هو المستحق للتأليه والعبادة‪ .‬دون غيره من سائر خلقه‪.‬‬ ‫وقوله {ليسكن إليها}‪ :‬علة لخلقه زوجها منها‪ ،‬إذ لو كانت من جنس آخر لما حصلت اللفة والنس‬ ‫بينهما وقوله {فلما تغشاها} أي للوطء ووطئها {حملت ‪ 2‬حملً خفيفا فمرت ‪ 3‬به} لخفته {فلما‬ ‫أثقلت} أي أثقلها الحمل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال الفقهاء كمالك‪ :‬إذا بلغ الحمل ستة أشهر أصبحت الحامل مريضة فل يصح لها أن تهب من‬ ‫مالها أكثر من الثلث‪ ،‬ومثلها من دخل معركة القتال‪ ،‬وكذا المريض الشديد المرض‪ ،‬والمحبوس‬ ‫للقتل ليس لهم من هبة إلّ ما كان الثلث فأقل‪.‬‬ ‫‪ 2‬كل ما كان في البطن أو على رأس النخلة أو الشجرة فهو حمل بفتح الحاء وكل ما كان على‬ ‫رأس أو ظهر إنسان أو حيوان فهو حمل بكسر الحاء‪.‬‬ ‫‪ 3‬فمرت به لخفّته فلم نتفطّن له ولم تفكر في شأنه ومعنى أثقلت أي صارت ذات ثقل من أثقل‬ ‫المريض فهو مثقل فأثقلت صارت مثقلة‪.‬‬

‫( ‪)2/273‬‬ ‫{دعوا ال} أي آدم ‪ 1‬وحواء ربهما تعالى أي سأله قائلين {لئن آتيتنا صالحا} أي غلما صالحا‬ ‫{لنكونن من الشاكرين} أي لك‪ .‬واستجاب الرب تعالى لهما وآتاهما صالحا‪ .‬وقوله تعالى {فلما‬ ‫آتاهما صالحا جعل له شركاء فيما آتاهما} حيث سمته حواء عبدالحارث بتغرير من إبليس‪ ،‬إذ‬ ‫اقترح عليهما هذه التسمية‪ ،‬وهي من الشرك الخفي المعفو عنه نحو لول الطبيب هلك فلن‪ ،‬وقوله‬ ‫{فتعالى ال عما يشركون} عائد إلى كفار قريش الذين يشركون في عبادة ال أصنامهم وأوثانهم‪،‬‬ ‫بدليل قوله بعد {أيشركون ما ل يخلق شيئا} أي من المخلوقات {وهم} أي الوثان وعبادها‬ ‫{يخلقون‪ ،‬ول يستطيعون لهم نصرا} إذا طلبوا منهم ذلك‪{ .‬ول أنفسهم ينصرون} لنهم جمادات ل‬ ‫حياة بها ول قدرة لها وقوله {وإن تدعوهم} أي وإن تدعوا أولئك الصنام {إلى الهدى} وقد ضلوا‬

‫الطريق {ل يتبعوكم ‪ }2‬لنهم ل يعقلون الرشد من الضلل ولذا فسواء عليكم {أدعوتموهم أم أنتم‬ ‫صامتون} أي لم تدعوهم فإنهم ل يتبعونكم ومن هذه حاله وهذا واقعه فهل يصح أن يعبد فتقرب‬ ‫له القرابين ويحلف به‪ ،‬ويعكف عنده‪ ،‬وينادى ويستغاث به؟؟ اللهم ل‪ ،‬ولكن المشركين ل يعقلون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أصل خلق البشر وهو آدم وحواء عليهما السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان السر في كون الزوج من جنس الزوج وهو اللفة والنس والتعاون‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان خداع إبليس وتضليله للنسان حيث زين لحواء تسمية ولدها بعبد الحارث وهو عبد ال‪.‬‬ ‫‪ -4‬الشرك في التسمية ‪ 3‬شرك خفي معفو عنه وتركه أولى‪.‬‬ ‫‪ -5‬التنديد بالشرك والمشركين‪ ،‬وبيان جهل المشركين وسفههم إذ يعبدون ما ل يسمع ول يبصر‬ ‫ول يجيب ول يتبع‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ما ذهبت إليه في التفسير هو ما ذا إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري وهو مؤيد بقراءة‬ ‫تشركون بالتاء وبحديث خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الرض وذهب آخرون‬ ‫إلى أن الكلم على جنس الدميين تبينا لحال المشركين من ذرية آدم ودل على قولهم قراءة‬ ‫يشركون بالياء وال أعلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقول بعضهم‪ :‬اتبعه‪ :‬إذا شيء وراءه ولم يدركه‪ ،‬واتّبعه مشددا إذا مشى وراءه وأدركه‪.‬‬ ‫‪ 3‬نحو‪ :‬عبد النبي‪ ،‬وعبد الرسول‪ ،‬وعبد الضيف كما قال حاتم الطائي‪:‬‬ ‫وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ‪...‬‬ ‫وما في إل تيك من شيمة العبد‬

‫( ‪)2/274‬‬ ‫إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الّلهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ فَادْعُو ُهمْ فَلْيَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ(‪ )194‬أََل ُهمْ‬ ‫س َمعُونَ ِبهَا ُقلِ‬ ‫طشُونَ ِبهَا أَمْ َل ُهمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَا أَمْ َل ُهمْ آذَانٌ يَ ْ‬ ‫جلٌ َيمْشُونَ ِبهَا َأمْ َلهُمْ أَ ْيدٍ يَبْ ِ‬ ‫أَرْ ُ‬ ‫ب وَ ُهوَ يَ َتوَلّى‬ ‫ادْعُواْ شُ َركَاءكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ(‪ )195‬إِنّ وَلِيّيَ الّلهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَا َ‬ ‫سهُمْ يَ ْنصُرُونَ(‪ )197‬وَإِن‬ ‫الصّالِحِينَ(‪ )196‬وَالّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ ِه لَ يَسْ َتطِيعُونَ َنصْ َركُ ْم وَل أَنفُ َ‬ ‫ك وَهُ ْم لَ يُ ْبصِرُونَ(‪)198‬‬ ‫س َمعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَ ْي َ‬ ‫تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى لَ يَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عباد أمثالكم‪ :‬أي مملوكون مخلوقون أمثالكم لمالك واحد هو ال رب العالمين‪.‬‬ ‫شركاءكم‪ :‬أصنامكم التي تشركون بها‪.‬‬

‫ثم كيدون‪ :‬بما استطعتم من أنواع الكيد‪.‬‬ ‫فل تنظرون‪ :‬أي فل تمهلون لني ل أبالي بكم‪.‬‬ ‫إن وليي ال ‪ :‬أي المتولي أموري وحمايتي ونصرتي ال الذي نزل القرآن‪.‬‬ ‫وتراهم ينظرون ‪ :‬أي وترى الصنام المنحوتة على شكل رجال ينظرون إليك وهم ل يبصرون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات الخمس في سياق ما قبلها جاءت مقررة لمبدأ التوحيد مؤكدة له منددة‬

‫( ‪)2/275‬‬ ‫بالشرك مقبحة له‪ ،‬ولهله فقوله تعالى {إن الذين تدعون ‪ }1‬أي دعاء عبادة أيها المشركين هم‬ ‫{عباد أمثالكم ‪ }2‬أي مملوكون ل‪ ،‬ال مالكهم كما أنتم مملوكون ل مربوبون‪ .‬فكيف يصح منكم‬ ‫عبادتهم وهم مملكون مثلكم ل يملكون لكم ول لنفسهم نفعا ول ضرا‪ ،‬وإن شككتم في صحة هذا‬ ‫فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم آلهة يستحقون العبادة‪ .‬إنكم لو‬ ‫دعوتموهم ما استجابوا‪ ،‬وكيف يستجيبون وهم جماد ول حياة لهم {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم‬ ‫أيد ‪ 3‬يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها‪ ،‬أم لهم آذان يسمعون بها} إنه ل شيء لهم من ذلك‬ ‫فكيف إذا يستجيبون‪ ،‬وبأي حق يعبدون فيدعون ويرجون وهم فاقدوا آثار القدرة والحياة بالمرة‪.‬‬ ‫ثم أمر ال تعالى رسوله أن يعلن لهم أنه ل يخافهم ول يعدهم شيئا إذا كانوا هم يعبدونهم‬ ‫ويخافونهم فقال له قل لهؤلء المشركين {ادعوا شركاءكم ثم كيدون ‪ }4‬أنتم وإياهم {فل تنظرون}‬ ‫أي ل تمهلوني ساعة‪ ،‬وذلك لن {وليى ‪ 5‬ال الذي نزل الكتاب} أي القرآن {وهو يتولى‬ ‫ي المؤمنين‪ .‬أما أنتم {والذين‬ ‫الصالحين} فهو ينصرني منكم ويحميني من كيدكم إنه ولي وول ّ‬ ‫تدعون من دونه} أي من دون ال من هذه الوثان {ل يستطيعون نصركم ول أنفسهم ينصرون}‬ ‫وشيء آخر وهو أنكم {إن تدعوهم إلى الهدى ل يسمعوا} فضلً عن إن تدعوهم إلى الضلل‬ ‫فكيف تصح عبادة من ل يجيب داعية في الرخاء ول في الشدة‪ .‬وأخيرا يقول تعالى لرسوله صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪{ ،‬وتراهم} أي ترى أولئك اللهة وهي تماثيل من حجارة {ينظرون إليك ‪ }6‬إذا‬ ‫قابلتهم لن أعينهم مفتوحة دائما‪ ،‬والحال أنهم ل يبصرون‪ ،‬وهل تبصر الصور والتماثيل؟‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تدعون‪ :‬بمعنى تعبدون لن الدعاء هو العبادة أو تدعون‪ :‬بمعنى تدعونها عبادة فحذف المفعول‬ ‫ليشمل التعبير المعنيين وهو من بلغة القرآن‪.‬‬ ‫‪ 2‬أطلق لفظ عباد على الوثان لنها مملوكة ل تعالى كعابديها مخلوقة كما هم مخلوقون‪ ،‬ولما‬ ‫اعتقد المشركون أنّ أصنامهم تنفع وتضر عاملها معاملة المقلء فقال‪ :‬عباد أمثالكم وقال‪:‬‬ ‫{فادعوهم} بدل فادعوهن‪.‬‬

‫‪ 3‬اليد والرجل والذن مؤنثات ولذا يصغّرن بالهاء ويقال‪ :‬يُدية ورُجلية وأذينة وشدّدت الهاء من‪:‬‬ ‫يدية لنّ الياء المحذوفة من يد‪ ،‬ردّت في التصغير‪.‬‬ ‫‪ 4‬أصل كيدون‪ :‬كيدوني بالياء فحذفت تخفيفا‪ ،‬والكيد‪ .:‬المكر‪ ،‬والحرب أيضا يقال‪ :‬غزا فلم يلق‬ ‫كيدا أي‪ :‬حربا‪.‬‬ ‫‪ 5‬وليّ الشيء‪ :‬هو الذي يحفظه ويمنع الضرر عنه وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال‪:‬‬ ‫سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬أل إن آل فلن ليسوا لي بأولياء إنما وليي ال‬ ‫وصالح المؤمنين"‪.‬‬ ‫‪ 6‬النظر‪ :‬فتح العينين إلى المنظور إليه‪ ،‬وجملة وتراهم مستأنفة وينظرون في محل نصب على‬ ‫الحال وجائز أن يكون المراد بـ تراهم ينظرون إليك المشركون أنفسهم وكونهم ل يبصرون‬ ‫لنهم لم ينتفعوا بأبصارهم‪.‬‬

‫( ‪)2/276‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إقامة الحجة على المشركين بالكشف عن حقيقة ما يدعون أنها آلهة فإذا بها أصنام ل تسمع‬ ‫ول تجيب ل أيد لها ول أرجل ول آذان ول أعين‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب التوكل على ال تعالى‪ ،‬وطرد الخوف من النفس والوقوف أمام الباطل وأهله في‬ ‫شجاعة وصبر وثبات اعتمادا على ال تعالى ووليته إذ هو يتولى الصالحين‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز المبلغة في التنفير من الباطل والشر بذكر العيوب والنقائص‪.‬‬ ‫خذِ ا ْل َعفْ َو وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْرفِ وَأَعْ ِرضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(‪ )199‬وَِإمّا يَنزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِالّلهِ‬ ‫ُ‬ ‫سهُمْ طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ تَ َذكّرُواْ فَِإذَا هُم مّ ْبصِرُونَ(‪)201‬‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪ )200‬إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ‬ ‫إِنّهُ َ‬ ‫خوَا ُنهُمْ َيمُدّو َنهُمْ فِي ا ْل َغيّ ثُ ّم لَ ُي ْقصِرُونَ(‪)202‬‬ ‫وَإِ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫العفو‪ :‬ما كان سهلً ل كلفة فيه وهو ما يأتي بدون تكلف‪.‬‬ ‫بالعرف‪ :‬أي المعروف في الشرع بالمر به أو الندب إليه‪.‬‬ ‫وأعرض عن الجاهلين ‪ :‬الجاهلون‪ :‬هم الذين لم تستنر قلوبهم بنور العلم والتقوى‪ ،‬والعراض‬ ‫عنهم بعدم مؤاخذتهم على سوء قولهم أو فعلهم‪.‬‬ ‫نزغ الشيطان‪ :‬أي وسوسته بالشر‪.‬‬ ‫فاستعذ بال ‪ :‬أي قل أعوذ بال يدفعه عنك إنه أي ال سميع عليم‪.‬‬ ‫اتقوا‪ :‬أي الشرك والمعاصي‪.‬‬

‫( ‪)2/277‬‬ ‫طائف من الشيطان ‪ :‬أي ألم بهم شيء من وسوسته‪.‬‬ ‫وإخوانهم يمدونهم في الغي ‪ :‬أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي يمدونهم في الغي‪.‬‬ ‫ثم ل يقصرون ‪ :‬أي ل يكفون عن الغي الذي هو الضلل والشر والفساد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما علّم تعالى رسوله كيف يحاج المشركين لبطال باطلهم في عبادة غير ال تعالى والشراك به‬ ‫عز وجل علمه في هذه الية أسمى الداب وأرفعها‪ ،‬وأفضل الخلق وأكملها فقال له‪{ :‬خذ العفو‬ ‫‪ 1‬وأمر بالعرف ‪ 2‬وأعرض عن الجاهلين} أي خذ من أخلق الناس ما سهل عليهم قوله وتيسر‬ ‫لهم فعله‪ ،‬ول تطالبهم بما ل يملكون أو بما ل يعلمون وأمرهم بالمعروف‪ ،‬وأعرض ‪ 3‬عن‬ ‫الجاهلين منهم فل تعنفهم ول تغلظ القول لهم فقد سأل صلى ال عليه وسلم عن معنى هذه الية‬ ‫جبريل عليه السلم فقال له‪" :‬تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك ‪ "4‬وقوله‬ ‫{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ‪ }5‬أي أثار غضبك حتى ل تلتزم بهذا الدب الذي أمرت به‬ ‫{فاستعذ بال} بدفعه عنك إنه سميع لقوالك عليم بأحوالك‪ .‬ثم قال تعالى مقررا حكم الستعاذة مبينا‬ ‫جدواها ونفعها لمن يأخذ بها‪{ .‬إن الذين اتقوا} أي ربهم فلم يشركوا به أحدا ولم يفرطوا في‬ ‫الواجبات ولم يغشوا المحرمات هؤلء {إذا مسهم طائف ‪ 6‬من الشيطان} بأن نزغهم بإثارة الغضب‬ ‫أو الشهوة فيهم تذكروا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن الزبير هذه الية‪{ :‬خذ العفو‪ }..‬الخ ما أنزلها ال تعالى إلّ في أخلق الناس‪ ،‬وقال‬ ‫جعفر الصادق أمر ال رسوله بمكارم الخلق في هذه الية‪ ،‬وليس في القرآن أجمع لمكارم‬ ‫الخلق من هذه الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬العرف‪ :‬المعروف وقرىء العرف‪ :‬العُرُف بضم العين والراء مثل‪ :‬الحُلُم والعرف‪ :‬كل خصلة‬ ‫حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس‪ :‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫من يفعل الخير ل يعدم جوازيه ‪ ...‬ل يذهب العُرف بين ال والناس‬ ‫‪3‬العراض عن الجاهلين يكون بعد دعوتهم إلى الحق وإقامة الحجة عليهم فان لم يستجيبوا‬ ‫يعرض عنهم آذوه أو لم يؤذوه‪.‬‬ ‫‪ 4‬من أحاديث مكارم الخلق قوله صلى ال عليه وسلم "إنكم ل تسعون الناس بأموالكم ولكن‬ ‫يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"‪.‬‬ ‫‪ 5‬النزغ‪ ،‬والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد‪ ،‬والنزغ‪ :‬الفساد والغراء والغراء وعلج‬

‫الوسوسة‪ ،‬الستعاذة بال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 6‬الطيف‪ ،‬والطائف‪ ،‬بمعنى‪ ،‬وقيل‪ :‬الطيف‪ :‬الخيال‪ ،‬والطائف‪ :‬الشيطان‪ .‬وهو صحيح أيضا‪.‬‬

‫( ‪)2/278‬‬ ‫أمر ال ونهيه ووعده ووعيده {فإذا هم مبصرون} يرون قبح المعصية وسوء عاقبة فاعلها فكفوا‬ ‫عنها ولم يرتكبوها‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإخوانهم} أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي‬ ‫{يمدونهم} أي الشياطين {في الغي} أي في المعاصي والضللت ويزيدونهم في تزيينها لهم‬ ‫وحملهم عليها‪{ ،‬ثم ل يقصرون} عن فعلها ويكفون عن ارتكابها‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬المر بالتزام الداب والتحلي بأكمل ‪ 1‬الخلق ومن أرقاها العفو عمن ظلم وإعطاء من حرم‪،‬‬ ‫وصلة من قطع‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الستعاذة بال عند ‪ 2‬الشعور بالوسوسة أو الغضب أو تزيين الباطل ‪.3‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة التقوى وهي فعل الفرائض وترك المحرمات‪.‬‬ ‫‪ -4‬شؤم أخوة الشياطين حيث ل يقصر صاحبها بمد الشياطين له عن الغي الذي هو الشر‬ ‫والفساد‪.‬‬ ‫وَإِذَا َلمْ تَأْ ِتهِم بِآ َيةٍ قَالُواْ َلوْلَ اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَا أَتّبِعُ مَا يوحَى إَِليّ مِن رّبّي هَذَا َبصَآئِرُ مِن رّ ّب ُكمْ‬ ‫حمُونَ(‪)204‬‬ ‫حمَةٌ ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )203‬وَإِذَا قُرِئ ا ْلقُرْآنُ فَاسْ َت ِمعُواْ َل ُه وَأَنصِتُواْ َلعَّلكُمْ تُرْ َ‬ ‫وَهُدًى وَرَ ْ‬ ‫وَا ْذكُر رّ ّبكَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أنّ النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬أمرني ربي بتسع‪ :‬الخلص في السر والعلنية‬ ‫والعدل في الرضا والغضب‪ ،‬والقصد في الغنى والفقر‪ ،‬وأن أعفو عمّن ظلمني وأصل من‬ ‫قطعني‪ ،‬وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬يأتي‬ ‫الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له‪ :‬من خلق ربّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ‬ ‫بال ولينته" فقوله‪ :‬فليستعذ‪ :‬المر للوجوب إذ ل يدفع الشيطان إل ال تعالى فهو الذي ينجي منه‬ ‫ويجير‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي أن النبي صلى ال عليه وسلم لما نزلت آية {خذ العفو} الية قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬ ‫كيف يا رب والغضب" فنزلت‪{ :‬وإمّا ينزغنك ‪ }...‬الخ‪.‬‬

‫( ‪)2/279‬‬ ‫ل َولَ َتكُن مّنَ ا ْلغَافِلِينَ(‪ )205‬إِنّ‬ ‫جهْرِ مِنَ ا ْل َقوْلِ بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَا ِ‬ ‫سكَ َتضَرّعا وَخِيفَ ًة وَدُونَ ا ْل َ‬ ‫فِي َنفْ ِ‬ ‫سجُدُونَ(‪)206‬‬ ‫ك لَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَ ْ‬ ‫الّذِينَ عِندَ رَ ّب َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫قالوا لول اجتبيتها‪ :‬أي اخترعتها واختلقتها من نفسك وأتيتنا بها‪.‬‬ ‫هذا بصائر من ربكم‪ :‬أي هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة على ما جئت به وادعوكم إليه فهو‬ ‫أقوى حجة من الية التي تطالبون بها‪.‬‬ ‫فاستمعوا له وانصتوا‪ :‬أي اطلبوا سماعه وتكلفوا له‪ ،‬وانصتوا عند ذلك أي اسكتوا حتى تسمعوا‬ ‫سماعا ينفعكم‪.‬‬ ‫وخيفة ‪ :‬أي خوفا‪.‬‬ ‫بالغدو والصال ‪ :‬الغدو‪ :‬أول النهار‪ ،‬والصال‪ :‬أواخره‪.‬‬ ‫من الغافلين ‪ :‬أي عن ذكر ال تعالى‪.‬‬ ‫إن الذين عند ربك ‪ :‬أي الملئكة‪.‬‬ ‫يسبحونه‪ :‬ينزهونه بألسنهم بنحو سبحان ال وبحمده‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في توجيه الرسول صلى ال عليه وسلم وتعليمه الرد على المشركين خصومه فقال‬ ‫تعالى عن المشركين من أهل مكة {وإذا لم تأتيهم} يا رسولنا {بآية} ‪ 1‬كما طلبوا {قالوا} لك {لول}‬ ‫أي هل {اجتبيتها} أي اخترعتها وأنشأتها من نفسك ما دام ربك لم يعطها قل لهم إنما أنا عبد ال‬ ‫ورسوله ل أفتات عليه {وإنما اتبع ما يوحى إليّ من ربي} وهذا القرآن الذي يوحى إلي بصائر ‪2‬‬ ‫من حجج وبراهين على صدق دعواي وإثبات رسالتي‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وجائز أن يكون المراد من الية‪ :‬آية قرآنية يمدحهم فيها ويمدح أصنامهم ولول هنا أداة‬ ‫ل ول يليها إل الفعل ظاهرا أو مضمرا‪.‬‬ ‫تحضيض مثل ه ّ‬ ‫‪ 2‬البصائر‪ :‬جمع بصيرة وهي ما به يتضح الحق‪ ،‬وفي هذا تنويه بشأن القرآن العظيم وأنه‪ :‬أعظم‬ ‫من اليات أي‪ :‬الخوارق التي يطالبون بها في الدللة على الحق الذي ضلّوا عنه‪.‬‬

‫( ‪)2/280‬‬

‫وصحة ما أدعوكم إليه من اليمان والتوحيد وترك الشرك والمعاصي‪ ،‬فهل آمنتم واتبعتم أم الية‬ ‫الواحدة تؤمنون عليها واليات الكثيرة ل تؤمنون عليها أين يذهب بعقولكم؟ وعلى ذكر بيان حجج‬ ‫القرآن وأنواره أمر ال تعالى عباده المؤمنين إذا قرىء عليهم القرآن أن يستمعوا وينصتوا وسواء‬ ‫كان يوم الجمعة على المنبر أو كان في غير ذلك ‪ 1‬فقال تعالى {فإذا قرىء القرآن فاستمعوا له}‬ ‫أي تكلفوا السماع وتعمدوه {وانصتوا} بترك الكلم {لعلكم ترحمون} أي رجاء أن ينالكم من هدى‬ ‫القرآن رحمته فتهتدوا وترحموا لن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين‪.‬‬ ‫ثم أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له في هذا الكمال فقال تعالى {واذكر ربك في نفسك} أي سرا‬ ‫ل وخشوعا‪{ ،‬وخيفة ‪ }2‬أي وخوفا وخشية {ودون الجهر من القول} وهو السر‬ ‫{تضرعا} أي تذل ً‬ ‫بأن يسمع نفسه فقط أو من يليه ل غير وقوله {بالغدو والصال} أي أوائل النهار وأواخره‪ ،‬ونهاه‬ ‫عن ترك الذكر وهو الغفلة فقال {ول تكن من الغافلين} وذكر له تسبيح ‪ 3‬الملئكة وعبادتهم‬ ‫ليتأسى بهم‪ ،‬فيواصل العبادة والذكر ليل نهار فقال {إن الذين عند ربك} وهم الملئكة في الملكوت‬ ‫العلى {ل يستكبرون عن عبادته} أي طاعته بما كلفهم به ووظفهم فيه {ويسبحونه وله يسجدون‬ ‫‪ }4‬فتأس بهم ول تكن من الغافلين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬القرآن أكبر آية بل هو أعظم من كل اليات التي أعطيها الرسل عليهم السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب النصات عند تلوة القرآن وخاصة في خطبة الجمعة على المنبر وعند قراءة المام‬ ‫في الصلة الجهرية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬كيومي العيدين مثل‪ ،‬وهذا المر بالستماع والنصات للقرآن عام يشمل المشركين إذ‬ ‫كانوا يأمرون بعدم الستماع إليه كما قال تعالى‪{ :‬وقال الذين كفروا ل تسمعوا لهذا القرآن‪}...‬‬ ‫كما يشمل المؤمنين‪ ،‬إذ سماع القرآن سبيل الهداية‪ ،‬والنصات‪ :‬سماع مع عدم التكلم حال‬ ‫الستماع‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخيفة‪ :‬أصلها خوفة فقلبت الواو ياءُ لنكسار ما قبلها‪ ،‬وهي مصدر خاف المرء يخاف خوفا‬ ‫وخيفة ومخافة فهو خائف‪.‬‬ ‫‪ 3‬تسبيح الملئكة معناه‪ :‬تعظيمهم ل تعالى وتنزيههم له عزّ وجلّ عن الشريك والولد‪.‬‬ ‫‪ 4‬صيغة المضارع في {يسبحون} و{يسجدون} لحصر السجود في ال تعالى وعدم جوازه لغيره‬ ‫عز وجل‪.‬‬

‫( ‪)2/281‬‬

‫‪ -3‬وجوب ذكر ال بالغدو والصال‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان آداب الذكر وهي‪:‬‬ ‫‪-1‬السرية‪.‬‬ ‫‪ -2‬التضرع والتذلل‪.‬‬ ‫‪ -3‬الخوف والخشية‪.‬‬ ‫‪ -4‬السرار به وعدم رفع الصوت به‪ ،‬ل كما يفعل المتصوفة‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية الئتساء بالصالحين والقتداء بهم في فعل الخيرات وترك المنكرات‪.‬‬ ‫‪ -6‬عزيمة السجود عند قوله {وله يسجدون ‪ }1‬وهذه أول سجدات القرآن ويسجد القارىء‬ ‫والمستمع له‪ ،‬أما السامع فليس عليه سجود‪ ،‬ويستقبل بها القبلة ويكبر عند السجود وعند الرفع منه‬ ‫ول يسلم وكونه متوضأً أفضل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ولو سلم منها في غير الصلة جاز فقد روي عن بعض السلف‪ ،‬ويستحب لمن سجد أن يقول‪:‬‬ ‫"اللهم احطط عني بها وزرا واكتب لي بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا" رواه ابن ماجه عن ابن‬ ‫عباس عن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/282‬‬ ‫سورة النفال‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة النفال‬ ‫مدنية‬ ‫وآياتها خمس وسبعون آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫ل الَنفَالُ لِلّ ِه وَالرّسُولِ فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِن ُك ْم وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ‬ ‫ن الَنفَالِ ُق ِ‬ ‫يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬ ‫إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ(‪ )1‬إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه َوجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ وَإِذَا تُلِ َيتْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتُهُ زَادَ ْتهُمْ‬ ‫إِيمَانًا وَعَلَى رَ ّب ِهمْ‬

‫( ‪)2/282‬‬ ‫حقّا ّلهُمْ دَ َرجَاتٌ‬ ‫ل َة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُن ِفقُونَ(‪ُ )3‬أوْلَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ‬ ‫يَ َت َوكّلُونَ(‪ )2‬الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّ َ‬ ‫عِندَ رَ ّب ِه ْم َو َمغْفِ َرةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(‪)4‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫النفال‪ :‬جمع نفل ‪ 1‬بتحريك الفاء‪ :‬ما يعطيه المام لفراد الجيش تشجيعا لهم‪.‬‬ ‫ذات بينكم‪ :‬أي حقيقة بينكم‪ ،‬والبين الوصلة والرابطة التي تربط بعضكم ببعض من المودة‬ ‫والخاء ‪.‬‬ ‫إنما المؤمنون‪ :‬أي الكاملون في إيمانهم‪.‬‬ ‫وجلت قلوبهم‪ :‬أي خافت إذ الوجل ‪ :2‬هو الخوف لسيما عند ذكر وعيده ووعده‪.‬‬ ‫وعلى ربهم يتوكلون‪ :‬على ال وحده يعتمدون وله أمرهم يفوضون‪.‬‬ ‫ومما رزقناهم ‪ :‬أي أعطيناهم‪.‬‬ ‫أولئك‪ :‬أي الموصوفون بالصفات الخمس السابقة‪.‬‬ ‫لهم درجات‪ :‬منازل عالية في الجنة‪.‬‬ ‫ورزق كريم‪ :‬أي عطاء عظيم من سائر وجوه النعيم في الجنة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات نزلت في غزوة بدر وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد نفل ‪ 3‬بعض المجاهدين‬ ‫لبلئهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النفل‪ :‬بسكون الفاء‪ :‬اليمين وفي الحديث‪" :‬فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم" وهو أيضا النتفاء‬ ‫من الشيء وفي الحديث‪" :‬فانتفل من ولدها" والنفل‪ :‬نبت معروف‪ ،‬والنفل‪ :‬الزيادة على الفرائض‬ ‫في الصلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل لبعضهم‪ :‬متى تعرف أنه استجيب دعاؤك؟ قال‪ :‬إذا اقشعرّ جلدي ووجل قلبي‪ ،‬وفاضت‬ ‫عيناي بالدموع‪ ،‬وقالت عائشة رضي ال عنها‪ :‬ما الوجل في القلب إل كضَ َرمَة السَعفَة‪ ،‬فإذا وجل‬ ‫أحدكم فليدع عند ذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا ما ذهب إليه ابن جرير ورجحه محتجا عليه بشواهد اللغة والتاريخ والجمهور على أن‬ ‫المراد بالنفال هنا غنائم بدر‪ ،‬والكل محتمل إذ حصل النفل‪ ،‬وحصلت الغنيمة‪ ،‬ولما اختلفوا ردت‬ ‫إلى ال ورسوله ثم حكم ال تعالى فيها بقوله‪{ :‬واعلموا أنما غنمتم من شيء ‪ }...‬الية‪.‬‬

‫( ‪)2/283‬‬ ‫وتخلف آخرون فحصلت تساؤلت بين المجاهدين لم يعطي هذا ولم ل يعطي ذاك فسألوا الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم فأنزل ال تعالى {يسألونك ‪ 1‬عن النفال؟} ‪ 2‬فأخبرهم أنها {ل والرسول} فال‬ ‫يحكم فيها بما يشاء والرسول يقسمها بينكم كما يأمره ربه ‪ 3‬وعليه فاتقوا ال تعالى بترك النزاع‬ ‫والشقاق‪{ ،‬وأصلحوا} ذات بينكم بتوثيق عرى المحبة بينكم وتصفية قلوبكم من كل ضغن أو حقد‬

‫نشأ من جراء هذه النفال واختلفكم في قسمتها‪{ ،‬وأطيعوا ال ورسوله} في كل ما يأمرانكم به‬ ‫وينهيانكم عنه {إن كنتم مؤمنين} حقا فامتثلوا المر واجتنبوا النهي‪ .‬وقوله تعالى {إنما المؤمنون}‬ ‫أي الكاملون في إيمانهم الذين يستحقون هذا الوصف وصف المؤمنين هم {الذين إذا ذكر ال} أي‬ ‫اسمه أو وعده أو وعيده {وجلت قلوبهم ‪ }4‬أي خافت فأقلعت عن المعصية‪ ،‬وأسرعت إلى الطاعة‪،‬‬ ‫{وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} أي قوي إيمانهم وعظم يقينهم‪{ ،‬وعلى ربهم} ل على غيره‬ ‫{يتوكلون} وفيه تعالى يثقون‪ .‬وإليه تعالى أمورهم يفوضون‪{ ،‬الذين يقيمون الصلة} بأدائها بكامل‬ ‫شروطها وكافة أركانها وسائر سننها وآدابها‪{ ،‬ومما رزقناهم} أي أعطيناهم {ينفقون} من مال‬ ‫وعلم‪ ،‬وجاه وصحة بدن من كل هذا ينفقون في سبيل ال {أولئك} الموصوفون بهذه الصفات‬ ‫الخمس {هم المؤمنون حقاُ} وصدقا‪{ ،‬لهم درجات عند ربهم} أي منازل عالية متفاوتة العلو‬ ‫والرتفاع في الجنة‪ ،‬ولهم قبل ذلك {مغفرة} كاملة لذنوبهم‪{ ،‬ورزق كريم} ‪ 5‬طيب واسع ل‬ ‫تنقيص فيه ول تكدير‪ ،‬وذلك في الجنة دار المتقين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السؤال معناه‪ :‬الطلب فإن عدي بعن‪ :‬كان لطلب معرفة شيء نحو‪{ :‬يسألونك عن النفال} وإن‬ ‫عدي بنفسه نحو‪" :‬سأله مال فهو‪ :‬لطلب إعطاء الشيء المطلوب"‪.‬‬ ‫‪ 2‬النفال‪ :‬جمع نفلٌ بفتح النون والفاء معا ك َعمَلٌ وهو مشتق من النافلة التي هي الزيادة في‬ ‫العطاء‪ ،‬وقد أطلق العرب لفظ النفل على الغنائم في الحرب اعتبارا منهم لها على أنها زيادة عن‬ ‫المقصود الهم الذي هو إبادة العدو‪ ،‬ولذا كان بعض صناديدهم ل يأخذونها وهذا عنترة يقول‪:‬‬ ‫يخبرك من شهد الوقيعة أنني ‪ ...‬أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم‬ ‫‪ 3‬اختلف في النفل هل يكون من الخمس أو هو خمس الخمس من الغنيمة؟ والصحيح أنه ما‬ ‫يعطيه المام من شاء من المقاتلين لبلئه من الخمس‪.‬‬ ‫‪ 4‬وجل‪ :‬كضرب‪ ،‬يوجل كيضرب ويجل كيلد بإسقاط فاء الكلمة والمصدر‪ :‬الوجل كالعسل‪،‬‬ ‫وموجل كموعد‪.‬‬ ‫‪ 5‬لفظ (الكريم) يصف به العرب كل شيء حسن في بابه ل قبح فيه ول شكوى منه‪.‬‬

‫( ‪)2/284‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬المر بتقوى ال عز وجل وإصلح ذات البين‪.‬‬ ‫‪ -2‬اليمان يزيد ‪ 1‬بالطاعة وينقص بالعصيان‪.‬‬ ‫‪ -3‬من المؤمنين من هو كامل اليمان‪ ،‬ومنهم من هو ناقصه‪.‬‬

‫‪ -4‬من صفات أهل اليمان الكامل ما ورد في الية الثانية من هذه السورة ‪ 2‬وما بعدها‪.‬‬ ‫حقّ‪ 3‬وَإِنّ فَرِيقا مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َلكَارِهُونَ(‪ )5‬يُجَادِلُو َنكَ فِي ا ْلحَقّ َب ْع َدمَا‬ ‫جكَ رَ ّبكَ مِن بَيْ ِتكَ بِالْ َ‬ ‫َكمَا أَخْ َر َ‬ ‫تَبَيّنَ كَأَ ّنمَا يُسَاقُونَ إِلَى ا ْل َم ْوتِ وَ ُهمْ يَنظُرُونَ(‪ )6‬وَإِذْ َيعِ ُدكُمُ اللّهُ ِإحْدَى الطّا ِئفَتِيْنِ أَ ّنهَا َلكُ ْم وَ َتوَدّونَ‬ ‫حقّ ِبكَِلمَاتِ ِه وَ َيقْطَعَ دَابِرَ ا ْلكَافِرِينَ(‪ )7‬لِ ُيحِقّ‬ ‫ش ْوكَةِ َتكُونُ َلكُ ْم وَيُرِيدُ اللّهُ أَن ُيحِقّ ال َ‬ ‫أَنّ غَيْرَ ذَاتِ ال ّ‬ ‫طلَ وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ(‪)8‬‬ ‫طلَ الْبَا ِ‬ ‫ق وَيُبْ ِ‬ ‫حّ‬ ‫الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من بيتك‪ :‬أي المدينة المنورة‪.‬‬ ‫لكارهون‪ :‬أي الخروج للقتال‪.‬‬ ‫إحدى الطائفتين ‪ :‬العير "القافلة" أو النفير‪ :‬نفير قريش وجيشها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪1‬سئل الحسن البصري فقيل له‪ :‬يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال‪ :‬اليمان إيمانان‪ ،‬فإن كنت تسألني‬ ‫عن اليمان بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر والقدر فأنا به مؤمن‪ ،‬وإن كنت تسألني عن‬ ‫قول ال تعالى‪{ :‬إنما المؤمنون الذين ذكر ال وجلت قلوبهم} إلى قوله‪{ :‬أولئك هم المؤمنون حقا}‬ ‫فوال ما أدري أنا منهم أم ل؟‬ ‫‪ 2‬وهما الية الثالثة والرابعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬الباء للمصاحبة أي‪ :‬أخرجه إخراجا مصاحبا للحق ليس فيه من الباطل شيء قط‪.‬‬

‫( ‪)2/285‬‬ ‫الشوكة ‪ : 1‬السلح في الحرب‪.‬‬ ‫يبطل الباطل‪ :‬أي يظهر بطلنه بقمع أهله وكسر شوكتهم وهزيمتهم‪.‬‬ ‫ولو كره المجرمون ‪ :‬كفار قريش المشركون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى {كما أخرجك ربك} أيها الرسول {من بيتك} بالمدينة {بالحق} متلبسا به حيث خرجت‬ ‫بإذن ال {وان فريقا‪ 2‬من المؤمنين لكارهون} لما علموا بخروج قريش لقتالهم‪ ،‬وكانت العاقبة‬ ‫خيرا عظيما‪ ،‬هذه الحال مثل حالهم لما كرهوا نزع الغنائم من أيديهم وتوليك قسمتها بإذننا‪ ،‬على‬ ‫أعدل قسمة وأصحها وأنفعها فهذا الكلم في هذه الية (‪ )5‬تضمنت تشبيه حال حاضرة بحال‬ ‫ماضيه حصلت في كل واحدة كراهة بعض المؤمنين‪ ،‬وكانت العاقبة في كل منهما خيرا والحمد‬ ‫ل‪ ،‬وقوله تعالى {يجادلونك في الحق بعدما تبين} أي يجادلونك في القتال بعدما أتضح لهم أن‬ ‫العير ‪ 3‬نجت وأنه لم يبق إل النفير ‪ 4‬ول بد من قتالها‪ .‬وقوله تعالى {كأنما يساقون إلى الموت‬ ‫وهم ينظرون} أي إلى الموت عيانا يشاهدونه أمامهم وذلك من شدة كراهيتهم لقتال لم يستعدوا له‬

‫ولم يوطنوا أنفسهم لخوض معاركه‪ .‬وقوله تعالى {وإذ يعدكم ال إحدى الطائفتين} أي اذكر يا‬ ‫رسولنا لهم الوقت الذي يعدكم ال تعالى فيه إحدى الطائفتين العير والنفير‪ ،‬وهذا في المدينة وعند‬ ‫السير أيضا {أنها لكم} أي تظفرون بها‪{ ،‬وتودون} أي تحبون أن تكون {غير ذات الشوكة} وهي‬ ‫عير أبي سفيان {تكون لكم}‪ ،‬وذلك لنها مغنم بل مغرم لقلة عددها وعددها‪ ،‬وال يريد {أن يحق‬ ‫الحق} أي يظهره بنصر أوليائه وهزيمة أعدائه‪ ،‬وقوله {بكلماته} أي التي تتضمن أمره تعالى إياكم‬ ‫بقتال الكافرين‪ ،‬وأمره الملئكة بالقتال معكم‪ ،‬وقوله {ويقطع دابر الكافرين} أي بتسليطكم عليهم‬ ‫فتقتلوهم حتى ل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وكلّ نبت له ح ّد يقال له‪ :‬شرك واحده‪ :‬شوكة‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الجملة حالية‪ :‬والعامل فيها‪ :‬أخرجك ربّك‪.‬‬ ‫‪ 3‬هي قافلة أبي سفيان التجارية التي يصحبها زهاء ثلثين رجلً من قريش‪.‬‬ ‫‪ 4‬النفير‪ :‬جيش قوى الذي استنفرت فيه قرابة ألف مقاتل‪.‬‬

‫( ‪)2/286‬‬ ‫تبقوا منهم غير من فر وهرب‪ ،‬وقوله {ليحق الحق} أي لينصره ويقرره وهو السلم {ويبطل‬ ‫الباطل} وهو الشرك {ولو كره} ذلك {المجرمون} أي المشركون الذين أجرموا على أنفسهم‬ ‫فأفسدوها بالشرك‪ ،‬وعلى غيرهم أيضا حيث منعوهم من قبول السلم وصرفوهم عنه بشتى‬ ‫الوسائل‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير قاعدة {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} وذكر نبذة عن غزوة بدر الكبرى وبيان‬ ‫ذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم بلغه أن عيرا لقريش تحمل تجارة قادمة من الشام في طريقها‬ ‫إلى مكة وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب فانتدب النبي صلى ال عليه وسلم بعض أصحابه‬ ‫للخروج إليها عسى ال تعالى أن يغنمهم إياها‪ ،‬لن قريشا صادرت أموال بعضهم وبعضهم ترك‬ ‫ماله بمكة وهاجر‪ .‬فلما خرج النبي صلى ال عليه وسلم وأثناء مسيره أخبرهم أن ال تعالى‬ ‫وعدهم إحدى الطائفتين‪ ،‬ل على التعيين جائز أن تكون العير‪ ،‬وجائز أن تكون النفير الذي خرج‬ ‫من مكة للذب عن العير ودفع الرسول وأصحابه عنها حتى ل يستولوا عليها‪ ،‬فلما بلغ الرسول نبأ‬ ‫نجاة العير ‪ 1‬وقدوم النفير استشار أصحابه فوافقوا على قتال المشركين ببدر وكره بعضهم ذلك‪،‬‬ ‫وقالوا‪ :‬إنا لم نستعد للقتال فأنزل ال تعالى هذه اليات {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} إلى قوله‬ ‫{‪ ...‬ولو كره المجرمون}‪.‬‬

‫‪ -2‬بيان ضعف النسان في رغبته في كل مال كلفة فيه ول مشقة‪.‬‬ ‫‪ -3‬إنجاز ال تعالى وعده للمؤمنين إذ أغنمهم طائفة النفير وأعزهم بنصر لم يكونوا مستعدين له‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لنّ أبا سفيان لما بلغه بواسطة بعض الركبان أنّ محمدا قد خرج برجاله يطلب عيره استأجر‬ ‫ضمضم الغفاري فبعثه إلى أهل مكة يخبرهم بخروج الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمرهم أن‬ ‫ينفروا لنقاذ قافلتهم‪ ،‬وأما الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه فإنهم لما بلغوا في مسيرهم‬ ‫وادي ذفران وخرجوا منه أتاهم نبأ خروج قريش ليمنعوا قافلتهم فاستشار النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم أصحابه فقام أبو بكر وقال فأحسن ثم قال عمر فقال فأحسن‪ ،‬ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا‬ ‫رسول ال‪ :‬امض لما أمرك ال به فنحن معك‪ ،‬وال ل نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى‪:‬‬ ‫{اذهب أنت وربك فقاتل إنا ها هنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون‬ ‫فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دون حتى نبلغه فقال له الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال‪ :‬أشيروا عليّ أيها الناس‪ ،‬وهو يريد النصار فقال‬ ‫له سعد بن معاذ‪ :‬كأنك تعنينا يا رسول ال قال‪ :‬أجل‪ ،‬فقال سعد كلمة سرت النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم وعندها قال‪ :‬سيروا على بركة ال وأبشروا فإن ال قد وعدني إحدى الطائفتين‪.‬‬

‫( ‪)2/287‬‬ ‫‪ -4‬ذكر نبذة عن وقعة بدر وهي من أشهر الوقائع وأفضلها وأهلها من أفضل الصحابة وخيارهم‬ ‫إذ كانت في حال ضعف المسلمين حيث وقعت في السنة الثانية من الهجرة وهم أقلية والعرب‬ ‫كلهم أعداء لهم وخصوم‪.‬‬ ‫جعَلَهُ اللّهُ ِإلّ بُشْرَى‬ ‫إِذْ َتسْ َتغِيثُونَ رَ ّب ُكمْ فَاسْ َتجَابَ َل ُكمْ أَنّي ُممِ ّدكُم بِأَ ْلفٍ مّنَ ا ْلمَل ِئكَةِ مُ ْر ِدفِينَ(‪َ )9‬ومَا َ‬ ‫حكِيمٌ(‪ِ )10‬إذْ ُيغَشّيكُمُ الّنعَاسَ َأمَنَةً‬ ‫طمَئِنّ بِهِ قُلُو ُبكُمْ َومَا ال ّنصْرُ ِإلّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬ ‫وَلِتَ ْ‬ ‫ن وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُو ِبكُمْ‬ ‫طهّ َركُم بِهِ وَيُذْ ِهبَ عَنكُمْ ِرجْزَ الشّ ْيطَا ِ‬ ‫سمَاء مَاء لّ ُي َ‬ ‫مّنْ ُه وَيُنَ ّزلُ عَلَ ْيكُم مّن ال ّ‬ ‫لقْدَامَ(‪ِ )11‬إذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُ ْلقِي فِي قُلُوبِ‬ ‫وَيُثَ ّبتَ ِب ِه ا َ‬ ‫ق وَاضْرِبُواْ مِ ْنهُمْ ُكلّ بَنَانٍ(‪ )12‬ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ شَآقّواْ اللّهَ‬ ‫عبَ فَاضْرِبُواْ َفوْقَ الَعْنَا ِ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُواْ الرّ ْ‬ ‫عذَابَ‬ ‫وَرَسُولَ ُه َومَن يُشَاقِقِ اللّ َه وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪ )13‬ذَِل ُكمْ فَذُوقُوهُ وَأَنّ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫النّارِ(‪)14‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تستغيثون ‪ :1‬أي تطلبون الغوث من ال تعالى وهو النصر على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى مسلم عن عمر رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يوم بدر نظر إلى‬

‫المشركين وهم ألف‪ ،‬وأصحابه ثلثمائة وبضعة عشر‪ ،‬فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف‬ ‫بربه‪" :‬اللهم أنجز لي ما وعدتني‪ ،‬اللهم ائتني ما وعدتني‪ ،‬اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل‬ ‫السلم ل تعبد في الرض" فما زال يهتف بربّه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن‬ ‫منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه وقال يا نبي ال كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز‬ ‫لك ما وعدك فأنزل ال تعالى‪{ :‬إذ تستغيثون ربكم ‪ }...‬الية‪.‬‬

‫( ‪)2/288‬‬ ‫أعدائكم‬ ‫مردفين‪ :‬أي متتابعين بعضهم ردف بعض أي متلحقين‪.‬‬ ‫وما جعله ال إل بشرى ‪ :‬أي المداد بالملئكة إل بشرى لكم بالنصر‪.‬‬ ‫إذ يغشيكم النعاس‪ :‬أي يغطيكم به والنعاس‪ :‬نوم خفيف جدا‪.‬‬ ‫أمنة‪ :.‬أي أمنا من الخوف الذي أصابكم لقلتكم وكثرة عدوكم‪.‬‬ ‫منه ‪ :‬أي من ال تعالى‪.‬‬ ‫رجز الشيطان‪ :‬وسواسه لكم بما يؤلمكم ويحزنكم‪.‬‬ ‫وليربط على قلوبكم‪ :‬أي يشد عليها بالصبر واليقين‪.‬‬ ‫ويثبت به القدام ‪ :‬أي بالمطر أقدامكم حتى ل تسوخ في الرمال‪.‬‬ ‫الرعب‪ :‬الخوف والفزع‪.‬‬ ‫فاضربوا كل بنان ‪ :‬أي أطراف اليدين والرجلين حتى يعوقهم عن الضرب والمشي‪.‬‬ ‫شاقوا ال ورسوله ‪ :‬أي خالفوه في مراده منهم فلم يطيعوه وخالفوا رسوله‪.‬‬ ‫ذلكم فذوقوه‪ :‬أي العذاب فذوقوه‪.‬‬ ‫عذاب النار‪ :‬أي في الخرة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث غزوة بدر‪ ،‬وبيان منن ال تعالى على رسوله والمؤمنين إذ يقول تعالى‬ ‫لرسوله {إذ تستغيثون ربكم} أي اذكر يا رسولنا حالكم لما كنتم خائفين لقلتكم وكثرة عدوكم‬ ‫فاستغثتم ربكم قائلين‪ :‬اللهم نصرك‪ ،‬اللهم أنجز لي ما وعدتني {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من‬ ‫الملئكة مردفين} أي متتالين يتبع بعضهم بعضا {وما جعله ال إل بشرى} أي لم يجعل ذلك‬ ‫المداد إل مجرد بشرى لكم بالنصر على عدوكم {ولتطمئن به قلوبكم} أي تسكن ويذهب منها‬ ‫القلق والضطراب‪ ،‬أما النصر فمن عند ال‪{ ،‬إن ال عزيز حكيم} عزيز غالب ل يحال بينه وبين‬ ‫ما يريده‪ ،‬حكيم بنصر من هو أهل للنصر‪ ،‬هذه نعمة‪ ،‬وثانية‪ :‬اذكروا {إذ يغشيكم} ربكم‬

‫( ‪)2/289‬‬ ‫{النعاس أمنة منه ‪ }1‬أي أمانا منه تعالى لكم فإن العبد إذا خامره النعاس هدأ وسكن وذهب الخوف‬ ‫محنه‪ ،‬وثبت في ميدان المعركة ل يفر ول يرهب ول يهرب‪{ ،‬وينزل عليكم من السماء ماء‬ ‫ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان} وهذه نعمة أخرى‪ ،‬فقد كانت الرض رملية تسوح فيها‬ ‫أقدامهم ل يستطيعون عليها كرا ول فرا‪ ،‬وقل ماؤهم فصاروا ظماءً عطاشا‪ ،‬محدثين‪ ،‬ل يجدون‬ ‫ما يشربون ول ما يتطهرون به من أحداثهم ووسوس الشيطان لبعضهم بمثل قوله‪ :‬تقاتلون‬ ‫محدثين كيف تنصرون‪ ،‬تقاتلون وأنتم عطاش وعدوكم ريان إلى أمثال هذه الوسوسة‪ ،‬فأنزل ال‬ ‫تعالى على معسكرهم خاصة مطرا غزيرا شربوا وتطهروا وتلبدت به التربة فأصبحت صالحة‬ ‫للقتال عليها‪ ،‬هذا معنى قوله تعالى {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز‬ ‫الشيطان} أي وسواسه {وليربط على قلوبكم} أي يشد عليها بما أفرغ عليها من الصبر وما جعل‬ ‫فيها من اليقين لها {ويثبت ‪2‬به القدام} ونعمة أخرى واذكر {إذ يوحي ربك إلى الملئكة أني‬ ‫معكم} بتأييدي ونصري {فثبتوا الذين آمنوا} أي قولوا لهم من الكلم تشجيعا لهم ما يجعلهم يثبتون‬ ‫في المعركة {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} أي الخوف أيها المؤمنون {فاضربوا فوق ‪3‬‬ ‫العناق} أي اضربوا المذابح {واضربوا منهم كل بنان ‪ }4‬أي أطراف اليدين والرجلين حتى ل‬ ‫يستطيعوا ضربا بالسيف‪ ،‬ول فرارا بالرجل وقوله تعالى {ذلك ‪5‬بأنهم شاقوا ال ورسوله} أي‬ ‫عادوهما وحاربوهما {ومن يشاقق ال ورسوله} ينتقم منه ويبطش به {فإن ال شديد العقاب} ‪،‬‬ ‫وقوله تعالى {ذلكم فذوقوه} أي ذلكم العذاب القتل والهزيمة فذوقوه في الدنيا وأما الخرة فلكم فيها‬ ‫عذاب النار‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أمنة‪ :‬مصدر أمن أمنة وأمنا وأمانا وهو منصوب على الحال‪ ،‬أو المصدرية‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا عائد على الماء الذي شدّ دهس أرض الوادي‪ ،‬ويصح أن يكون عائدا إلى ربط القلوب‪،‬‬ ‫فيكون تثبيت القدام عبارة عن النصر والمعونة في الحرب‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا المر إرشادي للملئكة وللمؤمنين معا‪.‬‬ ‫‪ 4‬واحد البنان‪ :‬بنانة‪ ،‬والمراد بها هتا الصابع الممسكة بالسيف والرمح حتى تعجز عن قتال‬ ‫المسلمين وضربهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬ذلك‪ :‬مبتدأ والخبر محذوف تقدير الكلم‪ :‬المر ذلك‪ ،‬والجملة تعليلية لنّ الباء في قوله‪{ :‬بأنهم}‬ ‫سببية‪.‬‬

‫( ‪)2/290‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية الستغاثة بال تعالى وهي عبادة فل يصح أن يستغاث بغير ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير عقيدة أن الملئكة عباد ل يسخرهم في فعل ما يشاء‪ ،‬وقد سخرهم للقتال مع المؤمنين‬ ‫فقاتلوا‪ ،‬ونصروا وثبتوا وذلك بأمر ال تعالى لهم بذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬تعداد نعم ال تعالى على المؤمنين في غزوة بدر وهي كثيرة‪.‬‬ ‫‪-4‬مشاقة ‪ 1‬ال ورسوله كفر يستوجب صاحبها عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪.‬‬ ‫‪ -5‬تعليم ال تعالى عباده كيف يقاتلون ويضربون أعداءهم‪ ،‬وهذا شرف كبير للمؤمنين‪.‬‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا َلقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفا فَلَ ُتوَلّوهُ ُم الَدْبَارَ(‪َ )15‬ومَن ُيوَّلهِمْ َي ْومَئِذٍ دُبُ َرهُ ِإلّ‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ(‪ )16‬فَلَمْ‬ ‫ضبٍ مّنَ اللّ ِه َومَ ْأوَاهُ َ‬ ‫مُتَحَرّفا ّلقِتَالٍ َأوْ مُ َتحَيّزا إِلَى فِئَةٍ َفقَدْ بَاء ِب َغ َ‬ ‫َتقْتُلُو ُه ْم وََلكِنّ اللّهَ قَتََل ُه ْم َومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ وََلكِنّ الّلهَ َرمَى وَلِيُبِْليَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْهُ بَلء حَسَنا إِنّ‬ ‫ح وَإِن‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪ )17‬ذَِلكُ ْم وَأَنّ الّلهَ مُوهِنُ كَيْدِ ا ْلكَافِرِينَ(‪ )18‬إِن تَسْ َتفْتِحُواْ َفقَدْ جَاءكُمُ ا ْلفَتْ ُ‬ ‫اللّهَ َ‬ ‫تَن َتهُواْ َف ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَإِن َتعُودُواْ َنعُ ْد وَلَن ُتغْ ِنيَ عَنكُمْ فِئَ ُتكُمْ شَيْئًا وََلوْ كَثُ َرتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‬ ‫‪)19‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫زحفا‪ :2‬أي زاحفين لكثرتهم ولبطىء سيرهم كأنهم يزحفون على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل المشاقة‪ :‬العداوة بعصيان وعناد‪ ،‬مشتقة من الشق بكسر السين الذي هو الجانب‪ ،‬فالمشاق‬ ‫يقف عن مشاقه موقف العداء والعصيان‪ ،‬والتمرد في جانب ل يلتقي معه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الزّحف‪ :‬الدنوّ قليلً قليلً‪ ،‬وأصله‪ ،‬الندفاع على اللية‪ ،‬ثم سمي كل ماشٍ إلى حرب آخر‬ ‫زاحفا‪ ،‬وازدحف القوم‪ :‬إذا مشى بعضهم إلى بعض والزحاف‪ :‬من علل الشعر وهو‪ :‬أن يسقط من‬ ‫الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الخر‪.‬‬

‫( ‪)2/291‬‬ ‫الرض‪.‬‬ ‫ل تولوا الدبار‪ :‬أي ل تنهزموا فتفروا أمامهم فتولونهم أدباركم‪.‬‬ ‫متحرفا لقتال‪ :‬أي مائلً من جهة إلى أخرى ليتمكن من ضرب العدو وقتاله‪.‬‬ ‫أو متحيزا إلى فئة ‪ :‬أي يريد النحياز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل‪.‬‬ ‫فقد باء بغضب‪ :‬أي رجع من المعركة مصحوبا بغضب من ال تعالى لمعصيته إياه‪.‬‬

‫وليبلي‪ :‬أي لينعم عليهم بنعمة النصر والظفر على قلة عددهم فيشكروا‪.‬‬ ‫فئتكم‪ :‬مقاتلتكم من رجالكم الكثيرين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن غزوة بدر وما فيها من جلئل النعم وخفى الحكم ففي أولى هذه‬ ‫اليات ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول {يا أيها الذين آمنوا إذا ‪ 1‬لقيتم الذين‬ ‫كفروا زحفا} أي وأنتم وإياهم زاحفون إلى بعضكم البعض {فل تولوهم الدبار ‪ }2‬أي ل تنهزموا‬ ‫أمامهم فتعطوهم أدباركم فتمكنوهم من قتلكم‪ ،‬إنكم أحق بالنصر منهم‪ ،‬وأولى بالظفر والغلب إنكم‬ ‫مؤمنون وهم كافرون فل يصح منكم انهزام أبدا {ومن يولهم يومئذ دبره} اللهم {إل متحرفا لقتال}‬ ‫أي مائلً من جهة إلى أخرى ليكون ذلك أمكن له في القتال {أو متحيزا إلى فئة} أي منحازا إلى‬ ‫جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها ليقويها أو يقوى بها‪ ،‬من ولى الكافرين دبره في غير هاتين‬ ‫الحالتين {فقد باء بغضب من ال} أي رجع من جهاده مصحوبا بغضب من ال {ومأواه جهنم‬ ‫وبئس المصير}‪3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الجملة اعتراضية بين قوله تعالى‪{ :‬إذ يوحي ربك} وبين قوله‪{ :‬فلم تقتلوهم} ومن فوائدها‬ ‫تدريب المؤمنين على الشجاعة‪ ،‬والقدام والثبات عند اللقاء‪ ،‬وهي خطة محمودة عند العرب‬ ‫فزادها السلم تقوية‪ ،‬قال شاعرهم وهو الحصين بن الحمام‪:‬‬ ‫تأخرت أستبقي الحياة فلم ‪ ...‬أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما‬ ‫‪{ 3‬فل تولوهم الدبار} فيه استبشاع الهزيمة بذكر لفظ الدبر‪ ،‬وهو كذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬الحمد ل أنه لم يقل خالدا فيها بل قال‪{ :‬مأواه جهنم} ولذا ورد أنه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫"من قال‪ :‬استغفر ال الذي ل إله إل هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فرّ من‬ ‫الزحف"‪.‬‬

‫( ‪)2/292‬‬ ‫وذلك بعد موته وانتقاله إلى الخرة‪ ،‬وقوله تعالى {فلم تقتلوهم ولكن ال قتلهم} يخبر تعالى عباده‬ ‫المؤمنين الذين حرم عليهم التولي ساعة الزحف وتوعدهم بالغضب وعذاب النار يوم القيامة أنهم‬ ‫لم يقتلوا المشركين على الحقيقة وإنما الذي قتلهم هو ال فهو الذي أمرهم وقدرهم وأعانهم‪ ،‬ولوله‬ ‫ما قتل أحد ول مات فليعرفوا هذا حتى ل يخطر ببالهم أنهم هم المقاتلون وحدهم‪ .‬وحتى رمي‬ ‫رسوله المشركين بتلك التي وصلت إلى جل أعين المشركين في المعركة فأذهلتهم وحيرتهم بل‬ ‫وعوقتهم عن القتال وسببت هزيمتهم كان ال تعالى هو الرامي الذي أوصل التراب إلى أعين‬ ‫المشركين‪ ،‬إذ لو ترك الرسول صلى ال عليه وسلم ل لقوته لما وصلت حثية التراب إلى أعين‬

‫الصف الول من المقاتلين المشركين‪ ،‬ولذا قال تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن ال رمى ‪}1‬‬ ‫وقوله تعالى {وليبلي المؤمنين منه بلء حسنا} أي فعل تعالى ذلك القتل بالمشركين والرمي‬ ‫بإيصال التراب إلى أعينهم ليذل الكافرين ويكسر شوكتهم {وليبلي ‪ 2‬المؤمنين} أي ولينعم عليهم‬ ‫النعام الحسن بنصرهم وتأييدهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في الخرة‪ .‬وقوله تعالى {إن ال سميع‬ ‫عليم} بمقتضى هاتين الصفتين كان البلء الحسن‪ ،‬فقد سمع تعالى أقوال المؤمنين واستغاثتهم به‪،‬‬ ‫وعلم ضعفهم وحاجتهم فأيدهم ونصرهم فكان ذلك منه إبلء حسنا‪ ،‬وقوله تعالى {ذلكم وأن ال‬ ‫موهن كيد الكافرين} أي ذلكم القتل والرمي والبلء كله حق واقع بقدرة ال تعالى {وأن ال‬ ‫موهن} أي مضعف {كيد الكافرين} فكلما كادوا كيدا بأوليائه وأهل طاعته أضعفه وأبطل مفعوله‪،‬‬ ‫وله الحمد والمنة‪ .‬وقوله تعالى {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح‪ ،‬وإن تنتهوا فهو خير لكم} هذا‬ ‫خطاب للمشركين حيث قال أبو جهل وغيره من رؤساء المشركين ‪" 3‬اللهم أينا كان أفجر لك‬ ‫واقطع للرحم فأحنه اليوم‪ ،‬اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما ل نعرف فأحنه الغداة" أي أهلكه الغداة‬ ‫يوم بدر فأنزل ال تعالى {إن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حصل الرمي من الرسول صلى ال عليه وسلم عدّة مرات منها يوم حنين ومنها يوم أحد ومنها‬ ‫يوم خيبر إذ رمى سهما في حصن فسقط السهم على ابن أبي الحقيق فقتله وهو نائم في فراشه‪،‬‬ ‫ومنها يوم بدر‪ ،‬وهو المراد هنا إذ السورة مدنية ولم يسبق هذا الرمي إلّ الذي رمى به الواقفين‬ ‫على بابه في مكة يريدون انفاذ القتل الذي حكمت به قريش عليه صلى ال عليه وسلم فقد روي‬ ‫أنه رماهم بحثية من تراب‪ ،‬فاشتغلوا بمسح أعينهم من التراب حتى نجا منهم صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫‪{ 2‬وليبلي}‪ ،‬الجملة متعلقة بمحذوف تقديره‪ :‬فعل ذلك أي النصر‪ ،‬والهزيمة للكفار ليبلي‬ ‫المؤمنين‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قالوا هذا وهم يتجهّزون للقتال في مكة‪ ،‬وقالوه في ساحة بدر قبل القتال‪.‬‬

‫( ‪)2/293‬‬ ‫تستفتحوا} أي تطلبوا الفتح وهو القضاء بينكم وبين نبينا محمد {فقد جاءكم الفتح} وهي هزيمتهم‬ ‫في بدر {وإن تنتهوا} تكفوا عن الحرب والقتال وتنقادوا لحكم ال تعالى فتسلموا {فهو خير لكم وإن‬ ‫تعودوا} للحرب والكفر {نعد} فنسلط عليكم رسولنا والمؤمنين لنذيقكم على أيديهم الذل والهزيمة‬ ‫{ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت} وبلغ تعداد المقاتلين منكم عشرات اللف‪ ،‬هذا وأن ال‬ ‫دوما مع المؤمنين فلن يتخلى عن تأييدهم ونصرتهم ما استقاموا على طاعة ربهم ظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫هن هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الفرار من العدو الكافر عند ‪ 1‬اللقاء لما توعد ال تعالى عليه من الغضب والعذاب ولعد‬ ‫الرسول له من الموبقات السبع في حديث مسلم "والتولي يوم الزحف"‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ أن ال تعالى خالق كل شيء وأنه خلق العبد وخلق فعله‪ ،‬إذ لما كان العبد مخلوقا‬ ‫وقدرته مخلوقة‪ ،‬ومأمورا ومنهيا ول يصدر منه فعل ول قول إل بإقدار ال تعالى له كان الفاعل‬ ‫الحقيقي هو ال‪ ،‬وما للعبد إل الكسب بجوارحه ‪ 2‬وبذلك يجزى الخير بالخير والشر بمثله‪ .‬عدل‬ ‫ال ورحمته‪.‬‬ ‫‪-3‬آية وصول حثية التراب من كف الرسول صلى ال عليه وسلم إلى أغلب عيون المشركين في‬ ‫المعركة‪.‬‬ ‫‪ -4‬إكرام ال تعالى وإبلؤه لولياءه البلء الحسن فله الحمد وله المنة‪.‬‬ ‫‪ -5‬ولية ال للمؤمنين الصادقين هي أسباب نصرهم وكمالهم وإسعادهم‬ ‫س َمعُونَ(‪َ )20‬ولَ َتكُونُواْ كَالّذِينَ قَالُوا‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الّل َه وَرَسُولَ ُه َولَ َتوَّلوْا عَ ْن ُه وَأَنتُمْ تَ ْ‬ ‫ن لَ َيعْقِلُونَ(‪ )22‬وََلوْ عَِلمَ الّلهُ‬ ‫س َمعُونَ(‪ )21‬إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ عِندَ اللّهِ الصّمّ الْ ُبكْمُ الّذِي َ‬ ‫س ِمعْنَا وَهُ ْم لَ يَ ْ‬ ‫َ‬ ‫س َم َعهُمْ‬ ‫فِيهِمْ خَيْرًا ل ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا التحريم مقيّد بما في آخر السورة من أنّ ما زاد على المثلين يجوز الفرار معه كالواحد مع‬ ‫أكثر من اثنين‪ ،‬والمائة مع أكثر من مائتين‪ ،‬وألفين مع أكثر من أربعة آلف‪.‬‬ ‫‪ 2‬مع ما وهبه ال من حرية الرادة والقدرة على الختيار ومع هذا فإنه ل يريد إل ما أراده ال‬ ‫ول يقع اختياره إل على ما كتبه ال له أو عليه وقضى به أزل وهنا تتجلى عظمة الرب تبارك‬ ‫وتعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/294‬‬ ‫س َم َعهُمْ لَ َتوَلّواْ وّهُم ّمعْ ِرضُونَ(‪)23‬‬ ‫وََلوْ َأ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ول تولوا عنه ‪ :‬أي ل تعرضوا عن طاعته إذا أمركم أو نهاكم كأنكم ل تسمعون‪.‬‬ ‫إن شر الدواب‪ :‬أي شر ما يدب على الرض الكافرون‪.‬‬ ‫لسمعهم‪ :‬لجعلهم يسمعون أو لرفع المانع عنهم فسمعوا واستجابوا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينادي ال تعالى عباده المؤمنين ‪ 1‬الذين آمنوا به وبرسوله وصدقوا بوعده ووعيده يوم لقائه‬ ‫فيأمرهم بطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وينهاهم عن العراض عنه وهم يسمعون اليات تتلى والعظات‬

‫تتوالى في كتاب ال وعلى لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم لن نصركم وتأييدكم كان ثمرة‬ ‫ليمانكم وطاعتكم فإن أنتم أعرضتم وعصيتم فتركتم كل ولية ل تعالى لكم أصبحتم كغيركم من‬ ‫أهل الكفر والعصيان هذا معنى قوله {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال ورسوله‪ ،‬ول تولوا عنه وأنتم‬ ‫تسمعون} وقوله {ول تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم ل يسمعون} ينهاهم عز وجل أن يسلكوا‬ ‫مسلك الكافرين المشركين ‪ 2‬في التصامم عن سماع اليات الحاملة للحق والداعية إليه‪ ،‬والتعامي‬ ‫عن رؤية آيات ال الدالة على توحيده الذين قالوا إنا عما يقوله محمد في صمم‪ ،‬وفيما يذكر‬ ‫ويشير إليه في عمى‪ ،‬فهم يقولون سمعنا بآذاننا وهم ل يسمعون بقلوبهم لنهم ل يتدبرون ول‬ ‫يفكرون فلذا هم في سماعهم كمن لم يسمع إذ العبرة بالسماع النتفاع ‪ 3‬به ل مجرد سماع صوت‬ ‫وقوله تعالى {إن شرّ‪ 4‬الدواب عند ال الصم البكم الذين ل يعقلون} يعني بهم المشركين وكانوا‬ ‫شر الدواب لنهم كفروا بربهم وأشركوا به فعبدوا غيره‪ ،‬وضلوا عن سبيله ففسقوا وظلموا‬ ‫وأجرموا المر الذي جعلهم حقا شر الدواب في الرض فهذا تنديد بالمشركين‪ ،‬وفي نفس الوقت‬ ‫هو تحذير للمؤمنين من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل يجب اللتفات لمن قال‪ :‬هذا الخطاب هو للمنافقين كأنما قال‪ :‬يا من آمنتم بألسنتكم ولم تؤمن‬ ‫قلوبكم‪ ،‬إذ الية في المؤمنين الصادقين بل شك ول ريب‪.‬‬ ‫‪ 2‬واليهود والمنافقين أيضا‪ ،‬إذ الكل كان هذا موقفهم مما يدعوهم إليه الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على أن المؤمن إذ أمر أو نهي فقال سمعا وطاعةً أي‪ :‬سمعت وأطعت ولم يفعل‬ ‫ولم يترك ل وزن ول عبرة بقوله بل لبد من الفعل والترك‪.‬‬ ‫‪ 4‬شرّ أصلها‪ :‬أشر اسم تفضيل‪ ،‬ولكثرة الستعمال اكتفوا بلفظ شّر لنه أخف على اللسان بنقص‬ ‫حرف الهمزة‪.‬‬

‫( ‪)2/295‬‬ ‫معصية ال ورسوله والعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى ال عليه وسلم وقوله تعالى {ولو علم‬ ‫ال فيهم خيرا لسمعهم} أي لجعلهم يسمعون آيات ال وما تحمله من بشارة ونذارة وهذا من باب‬ ‫الفرض لقوله تعالى {ولو أسمعهم لتولوا عنه وهم معرضون} هؤلء طائفة من المشركين ‪1‬؟‬ ‫توغلوا في الشر والفساد والظلم والكبر والعناد فحرموا لذلك هداية ال تعالى فقد هلك بعضهم في‬ ‫بدر وبعض في أحد ولم يؤمنوا لعلم ال تعالى أنه ل خير فيهم وكيف ل وهو خالقهم وخالق‬ ‫طباعهم‪{ ،‬أل يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب طاعة ال ورسوله في أمرهما ونهيهما‪ ،‬وحرمة معصيتهما‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة التشبه بالمشركين والكافرين وسائر أهل الضلل وفي كل شيء من سلوكهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن من الناس من هو شر من الكلب والخنازير فضلً عن البل والبقر والغنم أولئك‬ ‫البعض كفروا وظلموا لم يكن ال ليغفر لهم ول ليهديهم سبيلً‪.‬‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ لِلّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِيكُمْ وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ‬ ‫حشَرُونَ(‪ )24‬وَا ّتقُواْ فِتْ َن ًة لّ ُتصِيبَنّ الّذِينَ ظََلمُواْ مِنكُمْ خَآصّةً وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ‬ ‫َوقَلْبِ ِه وَأَنّهُ إِلَ ْيهِ تُ ْ‬ ‫ط َفكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ‬ ‫ضعَفُونَ فِي الَ ْرضِ تَخَافُونَ أَن يَ َتخَ ّ‬ ‫شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪ )25‬وَا ْذكُرُواْ ِإذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْ َت ْ‬ ‫شكُرُونَ(‪)26‬‬ ‫وَأَيّ َدكُم بِ َنصْ ِر ِه وَرَ َز َقكُم مّنَ الطّيّبَاتِ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في البخاري عن ابن عباس رضي ال عنهما ‪ { :‬إنّ شرّ الدواب عند ال الصم البكم الذين ل‬ ‫يعقلون} قال‪ :‬هم نفر من بني عبد الدار‪ ،‬والية عامة في مَنْ تلك حالهم‪.‬‬

‫( ‪)2/296‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫استجيبوا ‪ :1‬اسمعوا وأطيعوا‪.‬‬ ‫لما يحييكم ‪ : 2‬أي لما فيه حياتكم ولما هو سبب في حياتكم كاليمان والعمل الصالح والجهاد‪.‬‬ ‫فتنة‪ :‬أي عذابا تفتنون به كالقحط أو المرض أو تسلط عدو‪.‬‬ ‫مستضعفون‪ :‬أي ضعفاء أمام أعدائكم يرونكم ضعفاء فينالون منكم‪.‬‬ ‫ورزقكم من الطيبات‪ :‬جمع طيب من سائر المحللت من المطاعم والمشارب وغيرها‪.‬‬ ‫لعلكم تشكرون ‪ :‬رجاء أن تشكروه تعالى بصرف النعمة في مرضاته‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا هو النداء الثالث بالكرامة للمؤمنين الرب تعالى يشرفهم بندائه ليكرمهم بما يأمرهم به أو‬ ‫ينهاهم عنه تربية لهم وإعدادا لهم لسعادة الدارين وكرامتهما فيقول {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا‬ ‫ل وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وهو بمعنى النداء الول أطيعوا ال ورسوله‪ .‬وقوله {لما‬ ‫يحييكم} إشعار بأن أوامر ال تعالى ورسوله كنواهيهما ل تخلوا أبدا مما يحيي المؤمنين ‪ 3‬أو يزيد‬ ‫في حياتهم أو يحفظها عليهم‪ ،‬ولذا وجب أن يطاع ال ورسوله ما أمكنت طاعتهما‪ .‬وقوله‬ ‫{واعلموا أن ال يحول بين المرء وقلبه} تنبيه عظيم للمؤمنين إذا سنحت لهم فرصة للخير ينبغي‬ ‫أن يفترصوها قبل الفوات لسيما إذا كانت دعوة من ال أو رسوله‪ ،‬لن ال تعالى قادر على أن‬ ‫يحول بين المرء وما يشتهي وبين المرء وقلبه ‪ 4‬فيقلب القلب ويوجهه إلى وجهة أخرى فيكره فيها‬

‫الخير ويرغب في الشر قوله {وأنه إليه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا بمعنى أجيبوا‪ :‬الجابة معناها‪ :‬إعطاء المطلوب‪ ،‬وإن كانت أمرا ونهيا فهو الطاعة بفعل‬ ‫المر وترك النهي‪ ،‬ويعبر عنهما بالسمع والطاعة‪ ،‬وفعل استجاب‪ :‬يُعدّى باللّم يقال‪ :‬استجاب له‪،‬‬ ‫وفعل أجاب‪ :‬يتعدى بنفسه‪ ،‬يقال‪ :‬أجابه‪ ،‬إلّ أنّ استجاب قد يتعدى بنفسه ولكن بقلة ومنه قول‬ ‫الشاعر‪:‬‬ ‫وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ‪ ...‬فلم يستجبه عند ذاك مجيب‬ ‫‪{ 2‬يحييكم} أصلها يحييُكم بضم الياء الثانية إلّ أن حركتها حذفت فسكنت تخفيفا‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على أن الكفر والجهل موت معنوي للنسان‪ ،‬إذ باليمان والعلم تكون الحياة‬ ‫وبضدهما تكون الممات‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى غير واحد عنه صلى ال عليه وسلم قوله‪" :‬اللهم يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك"‬ ‫وروى مسلم عنه صلى ال عليه وسلم قوله‪ " :‬اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا إلى طاعتك"‪.‬‬

‫( ‪)2/297‬‬ ‫تحشرون} فالذي يعلم أنه سيحشر رغم أنفه إلى ال تعالى كيف يسرع له عقله أن يسمع نداءه‬ ‫بأمره فيه أو ينهاه فيعرض عنه‪ ،‬وقوله {واتقوا فتنة ‪ 1‬ل تصيبن ‪ 2‬الذين ظلموا منكم خاصة}‬ ‫تحذير آخر عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة ال ورسوله‪ ،‬ويتركوا المر بالمعروف والنهي‬ ‫عن المنكر فينتشر الشر ويعم الفساد‪ ،‬وينزل البلء فيعم الصالح والطالح‪ ،‬والبار والفاجر ‪،3‬‬ ‫والظالم والعادل‪ ،‬وقوله {واعلموا أن ال شديد العقاب}‪ .‬وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذا عاقب‬ ‫بالذنب والمعصية فعقابه قاس شديد ل يطاق فليحذر المؤمنون ذلك بلزوم طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم‬ ‫وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} هذه موعظة ربانية لولئك المؤمنين الذين‬ ‫عايشوا الدعوة السلمية من أيامها الولى بذكرهم ربهم بما كانوا عليه من قلة وضعف يخافون‬ ‫أن يتخطفهم الناس لقلتهم وضعفهم‪ ،‬فآواهم عز وجل إلى مدينة نبيه المنورة ونصرهم بجنده فعزوا‬ ‫بعد ذلة واستغنوا بعد عيلة وفاقة‪ ،‬ورزقهم من الطيبات من مطعم ومشرب وملبس ومركب‪،‬‬ ‫ورزقهم من الطيبات إكراما لهم‪ ،‬ليعدهم بذلك للشكر إذ يشكر النعمة من عاشها ولبسها‪ ،‬والشكر‬ ‫حمد المنعم والثناء عليه وطاعته ومحبته وصرف النعمة في سبيل مرضاته‪ ،‬وال يعلم أنهم قد‬ ‫شكروا فرضي ال عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم صابرين شاكرين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس في هذه الية أمر ال تعالى المؤمنين أن ل يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم‬ ‫العذاب‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫فقالت‪ :‬يا رسول ال‪ :‬أنهلك وفينا الصالحون قال‪ :‬نعم إذا كثر الخبث"‪.‬‬ ‫‪ 2‬إعراب هذه الجملة مشكل نكتفي بعرض صورتين‪ :‬الولى أنها كقوله‪{ :‬ادخلوا مساكنكم ل‬ ‫يحطمنّكم} أي‪ :‬إن تدخلوا ل يحطمنّكم فيكون معنى الية‪ :‬إن تتقوا‪ ...‬ل تصيبنّ فدخلت نون‬ ‫التوكيد لما في التركيب من معنى الجزاء‪ ،‬والثانية‪ :‬تكون على حذف القول أي‪ :‬اتقوا فتنة مقول‬ ‫فيها‪ :‬ل تصيبنّ الذين ظلموا‪ ...‬كقول الشاعر‪:‬‬ ‫حتى إذا جنّ الظلم واختلط ‪ ...‬جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط‬ ‫أي مقول فيه‪ :‬هل رأيت‪ ..‬الخ فقوله فتنة موصوف بجملة مقول فيها‪ :‬ل تصيبنّ‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى أحمد عن أم سلمة قالت سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬إذا ظهرت‬ ‫المعاصي في أمتي عمهم ال بعذاب من عنده قالت‪ .‬قلت‪ :‬يا رسول ال أما فيهم أناس صالحون؟‬ ‫قال بلى‪ .‬قالت‪ :‬كيف يصنع أولئك؟ قال‪ :‬يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من ال‬ ‫ورضوان"‪.‬‬

‫( ‪)2/298‬‬ ‫‪ -1‬وجب الستجابة‪ .‬لندا ال ورسوله ‪ 1‬بفعل المر وترك النهي لما في ذلك من حياة الفرد‬ ‫المسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬تعين اغتنام فرصة الخير قبل فواتها فمتى سنحت للمؤمن تعين عليه اغتنامها‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب المر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء للفتن العامة التي يهلك فيها العادل والظالم‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب ذكر النعم لشكرها بطاعة ال ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب شكر النعم بحمد ال تعالى والثناء عليه والعتراف بالنعمة له والتصرف فيها حسب‬ ‫مرضاته‪.‬‬ ‫ل وَتَخُونُواْ َأمَانَا ِتكُ ْم وَأَنتُمْ َتعَْلمُونَ(‪ )27‬وَاعَْلمُواْ أَ ّنمَا‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَخُونُواْ اللّ َه وَالرّسُو َ‬ ‫جعَل ّلكُمْ‬ ‫عظِيمٌ(‪ )28‬يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إَن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ‬ ‫َأ ْموَاُلكُ ْم وََأوْلَ ُد ُكمْ فِتْنَ ٌة وَأَنّ الّلهَ عِن َدهُ َأجْرٌ َ‬ ‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ(‪)29‬‬ ‫فُ ْرقَانا وَ ُيكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَا ِتكُ ْم وَ َي ْغفِرْ َل ُك ْم وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل تخونوا ال والرسول‪ :‬أي بإظهار اليمان والطاعة ومخالفتهما في الباطن‪.‬‬ ‫وتخونوا أماناتكم ‪ :‬أي ول تخونوا أماناتكم التي يأتمن عليها بعضكم بعضا‪.‬‬ ‫إنما أموالكم وأولدكم فتنة ‪ :‬أي الشتغال بذلك يفتنكم عن طاعة ال ورسوله‪.‬‬

‫إن تتقوا ال‪ :‬أي بامتثال أمره واجتناب نهيه في المعتقد والقول والعمل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال‪ :‬كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول ال إني كنت أصلي فقال ألم يقل ال عز وجل‬ ‫{استجيبوا ل وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}؟ وذكر الحديث‪ .‬قال العلماء‪ .‬في هذا دليل على أن‬ ‫الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتى به في الصلة ل تبطل‪.‬‬

‫( ‪)2/299‬‬ ‫يجعل لكم فرقانا ‪ :‬نورا في بصائركم تفرقون به بين النافع والضار والصالح والفاسد‪.‬‬ ‫ويكفر عنكم سيآتكم ‪ :‬أي يمحوا عنكم ما سلف من ذنوبكم التي بينكم وبينه‪.‬‬ ‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ :‬أي يغطيها فيسترها عليكم فل يفضحكم بها ول يؤاخذكم عليها‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا نداء رباني آخر يوجه إلى المؤمنين {يا أيها الذين آمنوا} أي يا من آمنتم بال ربا وبمحمد‬ ‫رسولً وبالسلم دينا‪{ .‬ل تخونوا ال والرسول} بأن يظهر أحدكم الطاعة ل ورسوله‪ ،‬ويستسر‬ ‫المعصية‪ ،‬ول تخونوا أماناتكم التي يأتمن بعضكم بعضا عليها {وأنتم تعلمون} عظيم جريمة‬ ‫الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى في هذا السياق {يا‬ ‫أيها الذين آمنوا ل تخونوا ‪ 1‬ال والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وقوله تعالى {واعلموا‬ ‫إنما ‪ 2‬أموالكم وأولدكم فتنة وأن ال عنده أجر عظيم} فيه إشارة إلى السبب الحامل على الخيانة‬ ‫غالبا وهو المال والولد فأخبرهم تعالى أن أموالهم وأولدهم فتنة تصرفهم عن المانة والطاعة‪،‬‬ ‫وأن ما يرجوه من مال أو ولد ليس بشيء بالنسبة إلى ما عند ال تعالى إن ال تعالى عنده أجر‬ ‫عظيم لمن أطاعه واتقاه وحافظ على أمانته مع ال ورسوله ومع عباد ال وقوله تعالى في الية‬ ‫الثالثة { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا ال ‪ 3‬يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئآتكم ويغفر لكم} هذا‬ ‫حض على التقوى وترغيب فيها بذكر أعظم النتائج لها وهي أولً إعطاء الفرقان وهو النصر‬ ‫والفصل بين كل مشتبه‪ ،‬والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع‪ ،‬والصحيح والفاسد‪ ،‬وثانيا‬ ‫تكفير السيئآت‪ ،‬وثالثا مغفرة الذنوب ورابعا الجر العظيم الذي هو الجنة ونعيمها إذ قال تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الية عام في كل ذنب صغير وكبير‪ ،‬وما روي أنها نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ل ينافيه‪.‬‬ ‫‪ 2‬وهذه الية عامّة أيضا وإن قيل إنها نزلت في أبي لبابة إذ كان له مال وولد في بني قريظة فل‬

‫يُتهم لجل ذلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال بعضهم واصفا للتقوى المورثة للفرقان فقال‪ :‬هي امتثال الوامر واجتناب المناهي‪ ،‬وترك‬ ‫الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وشحن القلب بالنية الخالصة‪ ،‬والجوارح بالعمال الصالحة‪،‬‬ ‫والتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر‪.‬‬

‫( ‪)2/300‬‬ ‫في ختام الية {وال ذو الفضل العظيم} إشارة إلى ما يعطيه ال تعالى أهل التقوى في الخرة وهو‬ ‫الجنة ورضوانه على أهلها‪ ،‬ولنعم الجر الذي من أجله يعمل العاملون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تحريم الخيانة مطلقا وأسوأها ما كان خيانة ل ورسوله‪.‬‬ ‫‪ -2‬في المال والولد فتنة قد تحمل على خيانة ال ورسوله‪ ،‬فيلحذرها المؤمن‪.‬‬ ‫‪ -3‬من ثمرات التقوى تكفير السيآت وغفران الذنوب‪ ،‬والفرقان وهو نور في القلب يفرق به‬ ‫المتقى بين المور المتشابهات والتي خفي فيها وجه الحق والخير‪.‬‬ ‫وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ َيقْتُلُوكَ َأوْ يُخْ ِرجُوكَ وَ َي ْمكُرُونَ وَ َيمْكُرُ الّل ُه وَاللّهُ خَيْرُ‬ ‫س ِمعْنَا َلوْ نَشَاء َلقُلْنَا مِ ْثلَ هَذَا إِنْ هَذَا ِإلّ َأسَاطِيرُ‬ ‫ا ْلمَاكِرِينَ(‪ )30‬وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ َ‬ ‫الوّلِينَ(‪)31‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإذ يمكر بك ‪ :‬أي يبيتون لك ما يضرك‪.‬‬ ‫ليثبتوك‪ :‬أي ليحبسوك مثبتا بوثاق حتى ل تفر من الحبس‪.‬‬ ‫أو يخرجوك ‪ :‬أي ينفوك بعيدا عن ديارهم‪.‬‬ ‫ويمكرون ويمكر ال‪ :‬أي يدبرون لك السوء ويبيتون لك المكروه‪ ،‬وال تعالى يدبر لهم ما يضرهم‬ ‫أيضا ويبيت لهم ما يسوءهم‪.‬‬ ‫آياتنا‪ :‬آيات القرآن الكريم‪.‬‬ ‫أساطير الولين‪ :‬الساطير جمع أسطورة ما يدرن ويسطر من أخبار الولين‪.‬‬

‫( ‪)2/301‬‬ ‫معنى اليات ‪:‬‬ ‫يذكر تعالى رسوله والمؤمنين بنعمة من نعمه تعالى عليهم فيقول لرسوله واذكر إذ يمكر بك الذين‬

‫كفروا {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} إذا اجتمعت قريش في دار الندوة وأتمرت في شأن النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم وفكرت ومكرت فأصدروا ‪ 1‬حكما بقتله صلى ال عليه وسلم وبعثوا من ينفذ‬ ‫جريمة القتل فطوقوا منزلة فخرج النبي ‪ 2‬صلى ال عليه وسلم بعد أن رماهم بحثية من تراب‬ ‫قائلً شاهت الوجوه‪ ،‬فلم يره أحد ونفذ وهاجر إلى المدينة وهذا معنى {ويمكرون ويمكر ال وال‬ ‫خير الماكرين} فكان في نجاته صلى ال عليه وسلم من يد قريش نعمة عظمى على رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم وعلى سائر المؤمنين والحمد ل رب العالمين‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا ‪ 3‬مثل هذا إن‬ ‫هذا إل أساطير الولين} هذا الخبر تنديد بموقف المشركين ذكر بعد ذكر مؤامراتهم الدنية ومكرهم‬ ‫الخبيث حيث قرروا قتله صلى ال عليه وسلم يخبر تعالى أنهم إذا قرأ عليهم الرسول آيات ال‬ ‫المبينة للحق والمقررة لليمان به ورسالته بذكر قصص الولين قالوا {سمعنا} ما تقرأ علينا‪،‬‬ ‫{ ولو شئنا لقلنا مثل هذا} أي الذي تقول { إن هذا إل أساطير الولين} أي أخبار السابقين من‬ ‫المم سطرت وكتبت فهي تملى عليك فتحفظها وتقرأها علينا وكان قائل هذه المقالة الكاذبة النضر‬ ‫بن الحارث عليه لعائن ال إذ مات كافرا‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬التذكير بنعم ال تعالى على البعد ليجد العبد في نفسه داعية الشكر فيشكر‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان مدى ما قاومت به قريش دعوة السلم حتى إنها أصدرت حكمها بقتل الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان موقف المشركين من الدعوة السلمية‪ ،‬وأنهم بذلوا كل جهد في سبيل إنهائها والقضاء‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كان حكم القتل باقتراح إبليس إذ جاءهم وهم يتشاورون في أمر النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫فأشار عليهم وهو في صورة شيخ نجدي فقبلوا ما أشار به عليهم من القتل فأخذوا برأيه وتركوا‬ ‫ما أشار به بعضهم من النفي والحبس‪.‬‬ ‫‪ 2‬بعد أن ترك عليا نائما على فراشه مسجىً ببرد أخضر للنبي صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬ ‫‪ 3‬من بين القائلين‪ :‬النضر بن الحارث إذ كان قد خرج إلى الحيرة في تجارة فاشترى أحاديث‬ ‫كليلة ودمنة وكسرى‪ ،‬وقيصر‪ ،‬وأخذ يقصّ تلك الخبار ويقول‪ :‬هذه مثل الذي يقصّ محمد من‬ ‫أخبار الماضين‪ .‬وكذب فأين ما يقصه القرآن وما يوسوس به الشيطان‪.‬‬

‫( ‪)2/302‬‬

‫سمَاء َأوِ ائْتِنَا ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ‬ ‫وَإِذْ قَالُواْ الّلهُمّ إِن كَانَ َهذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ‬ ‫(‪َ )32‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُي َعذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ اللّهُ ُمعَذّ َب ُه ْم وَهُمْ َيسْ َتغْفِرُونَ (‪َ )33‬ومَا َلهُمْ َألّ‬ ‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ َومَا كَانُواْ َأوْلِيَاءهُ إِنْ َأوْلِيَآ ُؤهُ ِإلّ ا ْلمُ ّتقُونَ وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ‬ ‫ُيعَذّ َبهُمُ اللّ ُه وَهُمْ َيصُدّونَ عَنِ ا ْلمَ ْ‬ ‫ن صَلَ ُتهُمْ عِندَ الْبَ ْيتِ ِإلّ ُمكَاء وَ َتصْدِيَةً َفذُوقُواْ ا ْل َعذَابَ ِبمَا كُنتُمْ َت ْكفُرُونَ(‬ ‫لَ َيعَْلمُونَ(‪َ )34‬ومَا كَا َ‬ ‫‪)35‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫اللهم‪ :‬أي يا ال حذفت ياء النداء من أوله وعوض عنها الميم من آخره‪.‬‬ ‫إن كان هذا ‪ :‬أي الذي جاء به محمد ويخبر به‪.‬‬ ‫فأمطر‪ :‬أنزل علينا حجارة‪.‬‬ ‫يصدون عن المسجد الحرام‪ :‬يمنعون الناس من الدخول إليه للعتمار‪.‬‬ ‫مكاء وتصدية ‪ :‬المكاء‪ :‬التصفير‪ ،‬والتصدية‪ :‬التصفيق‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في التنديد ببعض أقوال المشركين وأفعالهم فهذا النضر ‪ 1‬بن الحارث القائل في‬ ‫اليات السابقة {لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إل أساطير الولين} يخبر تعالى عنه أنه قال {اللهم‬ ‫إن كان هذا} أي القرآن {هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقاله أيضا أبو جهل وهو دال على مدى عناد المشركين في مكة ومكابرتهم وحسدهم أيضا‪.‬‬

‫( ‪)2/303‬‬ ‫السماء} فنهلك بها‪ ،‬ول نرى محمدا ينتصر ‪ 1‬دينه بيننا‪{ .‬أو ائتنا بعذاب أليم} حتى نتخلص من‬ ‫وجودنا‪ .‬فقال تعالى {وما كان ال ليعذبهم ‪ 2‬وأنت فيهم ‪ }3‬فوجودك بينهم أمان لهم {وما كان ال‬ ‫معذبهم وهم يستغفرون} إذ كانوا إذا طافوا يقول بعضهم غفرانك ربنا غفرانك‪ ،‬ثم قال تعالى {وما‬ ‫لهم أل يعذبهم ال وهم يصدون عن المسجد الحرام} أي أيّ شيء يصرف العذاب عنهم وهم‬ ‫يرتكبون أبشع جريمة وهي صدهم الناس عن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت الحرام‪ ،‬فقد‬ ‫كانوا يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت والصلة في المسجد الحرام ‪ .4‬وقوله تعالى {وما كانوا‬ ‫أولياءه} رد على مزاعمهم بأنهم ولة الحرم والقائمون عليه فلذا لهم أن يمنعوا من شاءوا ويأذنوا‬ ‫لمن شاءوا فقال تعالى ردا عليهم {وما كانوا أولياءه} أي أولياء المسجد الحرام‪ ،‬كما لم يكونوا‬ ‫أيضا أولياء ال إنّما أولياء ال والمسجد الحرام المتقون الذين يتقون الشرك والمعاصي {ولكن‬ ‫أكثرهم ل يعلمون} هذا لجهل بعضهم وعناد آخرين‪ .‬وقوله {وما كان صلتهم عند البيت إل مكاء‬ ‫وتصدية} إذ كان بعضهم إذا طافوا يصفقون ويصفرون كما يفعل بعض دعاة التصوف حيث‬

‫يرقصون وهم يصفقون ويصفرون ويعدون هذا حضرة أولياء ال‪ ،‬والعياذ بال من الجهل‬ ‫والضلل وقوله تعالى {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أذاقهموه يوم بدر إذ أذلهم فيه وأخزاهم‬ ‫وقتل رؤساءهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للحق وكراهية له حتى سألوا العذاب العام ول‬ ‫يرون راية الحق تظهر ودين ال ينتصر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر القرطبي الحكاية التالية قال‪ :‬حكي أن ابن عباس لقيه يهودي فقال له من أنت؟ قال‪ :‬من‬ ‫قريش‪ .‬فقال أنت من القوم الذين قالوا‪{ :‬اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة‬ ‫من السماء ‪ }...‬الية فهلّ عليهم أن يقولوا‪ :‬إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له إنّ هؤلء‬ ‫قوم يجهلون قال ابن عباس‪ :‬وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر‬ ‫الذي أغرق فيه فرعون وقومه‪ ،‬وانجى موسى وقومه حتى قالوا‪ {:‬اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال‬ ‫لهم موسى أنكم قوم تجهلون} فأطرق اليهودي ملجما‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم انه لما قال أبو جهل‪ .‬اللهم إن كان هذا هو الحق‪ ..‬الية نزلت هذه الية‪{ :‬وما كان‬ ‫ال ليعذبهم وأنت فيهم}‪.‬‬ ‫‪ 3‬دليله إنهم لما خرج من بينهم صلى ال عليه وسلم عذبهم ال بالقتل في بدر وسني القحط‬ ‫الجدب‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي أنهم مستحقون العذاب ولكن لكل أجل كتاب فإذا حان أوانه عذّبوا‪.‬‬

‫( ‪)2/304‬‬ ‫‪ -2‬النبي صلى ال عليه وسلم أمان أمته من العذاب فلم تُصب هذه المة بعذاب الستئصال‬ ‫والبادة الشاملة‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة الستغفار وأنه ينجى من عذاب الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان عظم جرم من يصد عن المسجد الحرام للعبادة الشرعية فيه‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان أولياء ال تعالى والذين يحق لهم أن يلوا المسجد الحرام وهو المتقون‪.‬‬ ‫‪ -6‬كراهية الصفير ‪ 1‬والتصفيق‪ ،‬وبطلن الرقص في التعبد‪.‬‬ ‫حسْ َرةً ثُمّ ُيغْلَبُونَ‬ ‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ يُنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ لِ َيصُدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُن ِفقُونَهَا ُثمّ َتكُونُ عَلَ ْي ِهمْ َ‬ ‫ج َعلَ الْخَبِيثَ َب ْعضَهُ عََلىَ‬ ‫جهَنّمَ ُيحْشَرُونَ (‪ )36‬لِ َيمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّ ّيبِ وَيَ ْ‬ ‫وَالّذِينَ َكفَرُواْ ِإلَى َ‬ ‫جهَنّمَ ُأوْلَ ِئكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ(‪)37‬‬ ‫جعََلهُ فِي َ‬ ‫جمِيعا فَيَ ْ‬ ‫َب ْعضٍ فَيَ ْر ُكمَهُ َ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن الذين كفروا‪ :‬أي كذبوا بآيات ال ورسالة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم من قريش‬ ‫ثم تكون عليهم حسرة ‪ :‬أي شدة ندامة‪.‬‬ ‫ثم يغلبون ‪ :‬أي يهزمون‪.‬‬ ‫ليميز ‪ :‬أي ليميز كل صنف من الصنف الخر‪.‬‬ ‫الخبيث‪ :‬هم أهل الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫من الطيب‪ :‬هم أهل التوحيد والعمال الصالحة‪.‬‬ ‫فيركمه‪ :‬أي يجعل بعضه فوق بعض في جهنم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصفير‪ :‬تفسير للمكاء في الية وهو مأخوذ من صوت طائر يسمى المكاء قال الشاعر‪:‬‬ ‫إذا غرّد المكاء في غير روضة ‪...‬‬ ‫حمُرات‬ ‫فويل لهل الشاء وال ُ‬

‫( ‪)2/305‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫ما زال السياق في التنديد بالمشركين وأعمالهم الخاسرة يخبر تعالى {إن الذين كفروا} وهم أهل‬ ‫مكة من زعماء قريش {ينفقون أموالهم} في ‪ 1‬حرب رسول ال والمؤمنين للصد عن السلم‬ ‫المعبر عنه بسبيل ال يقول تعالى (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ‪ }2‬أي ندامة شديدة لسوء‬ ‫العاقبة التي كانت لهم في بدر وأحد والخندق إذ أنفقوا على هذه الحملت الثلث من الموال ما‬ ‫ال به عليم‪ ،‬ثم خابوا فيها وخسروا وبالتالي غلبوا وانتهى سلطانهم الكافر وفتح ال على رسوله‬ ‫والمؤمنين مكة وقوله تعالى {والذين كفروا} أي من مات منهم على الكفر {إلى جهنم يحشرون}‬ ‫أي يجمعون‪ ،‬وعلة هذا الجمع أن يميز ال تعالى الخبيث من الطيب فالطيبون وهم المؤمنون‬ ‫الصالحون يعبرون الصراط إلى الجنة دار النعيم‪ ،‬وأما الخبيث وهم فريق المشركين فيجعل بعضه‬ ‫إلى بعض فيركمه جميعا كوما واحدا فيجعله في جهنم‪ .‬وقوله تعالى {أولئك هم الخاسرون} إشارة‬ ‫إلى الذين أنفقوا أموالهم للصد عن سبيل ال وماتوا على الكفر فحشروا إلى جهنم وجعل بعضهم‬ ‫إلى بعض ثم صيروا كوما واحدا ثم جعلوا في نار جهنم هم الخاسرون بحق حيث خسروا أنفسهم‬ ‫وأموالهم وأهليهم وكل شيء وأمسوا في قعر جهنم مبلسين والعياذ بال من الخسران المبين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كل نفقة ينفقها العبد للصد عن سبيل ال بأي وجه من الوجوه تكون عليه حسرة عظيمة يوم‬

‫القيامة‪.‬‬ ‫‪ -2‬كل كافر خبيث وكل مؤمن طيب‪.‬‬ ‫‪ -3‬صدق وعد ال تعالى لرسوله والمؤمنين بهزيمة المشركين وغلبتهم وحسرتهم على ما أنفقوا‬ ‫في حرب السلم وضياع ذلك كله وخيبتهم فيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لمّا هزمت قريش في بدر قام أبو سفيان بحملة جمع فيها الموال لحرب رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم والنتقام لمن مات من صناديد قريش فجمع المال وشنّ حرب أحد إلّ أنه خاب وخسر‬ ‫كما أخبر تعالى‪ :‬ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون‪.‬‬ ‫‪ 2‬والية يدخل فيها المطعمون ببدر إذ كانوا اثني عشر رجلً فكان الواحد منهم يطعم جيش‬ ‫قريش عشرة من البل يوميا طيلة ما هم في بدر‪ ،‬فخابوا في نفقاتهم وهلكوا‪.‬‬

‫( ‪)2/306‬‬ ‫لوّلِينِ(‪َ )38‬وقَاتِلُوهُمْ‬ ‫ضتْ سُنّ ُة ا َ‬ ‫ف وَإِنْ َيعُودُواْ َفقَدْ َم َ‬ ‫قُل لِلّذِينَ َكفَرُواْ إِن يَن َتهُواْ ُي َغفَرْ َلهُم مّا َقدْ سََل َ‬ ‫حَتّى لَ َتكُونَ فِتْ َن ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّه فَإِنِ ان َت َهوْاْ فَإِنّ الّلهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‪ )39‬وَإِن َتوَّلوْاْ‬ ‫لكُمْ ِنعْمَ ا ْل َموْلَى وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ(‪)40‬‬ ‫فَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َم ْو َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن ينتهوا‪ :‬عن الكفر بال ورسوله وحرب الرسول والمؤمنين‪.‬‬ ‫ما قد سلف‪ :‬أي مضى من ذنوبهم من الشرك وحرب الرسول والمؤمنين‪.‬‬ ‫مضت سنة الولين‪ :‬في إهلك الظالمين‪.‬‬ ‫ل تكون فتنة ‪ :‬أي شرك بال واضطهاد وتعذيب في سبيل ال‪.‬‬ ‫ويكون الدين كله ل ‪ :‬أي حتى ل يعبد غير ال‪.‬‬ ‫مولكم‪ :‬متولي أمركم بالنصر والتأييد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في بيان الجراءات الواجب اتخاذها إزاء الكافرين فيقول تعالى لرسوله‬ ‫صلى ال عليه وسلم {قل للذين كفروا} ‪ 1‬مبلغا عنا {إن ينتهوا} أي عن الشرك والكفر والعصيان‬ ‫وترك حرب السلم وأهله {يغفر لهم ما قد سلف} يغفر ال لهم ما قد مضى ‪ 2‬من ذنوبهم العظام‬ ‫وهي الشرك والظلم‪ ،‬وهذا وعد صدق ممن ل يخلف الوعد سبحانه وتعالى‪{ .‬وإن يعودوا} إلى‬ ‫الظلم والضطهاد والحرب فسوف يحل بهم ما حل بالمم السابقة قبلهم لما ظلموا فكذبوا الرسل‬ ‫وآذوا المؤمنين وهو معنى قوله تعالى {فقد مضت سنة‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬نزلت في أبي سفيان ورجاله المشركين في مكة قبل الفتح‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الصحيح‪" :‬السلم يجبّ ما قبله‪ ،‬والتوبة تجبّ ما قبلها"‪.‬‬

‫( ‪)2/307‬‬ ‫الولين} أي سنة ال والطريقة المتبعة فيهم وهي أخذهم ‪ 1‬بعد النذار والعذار‪ .‬ثم في الية‬ ‫الثانية من هذا السياق يأمر ال تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين قتالً يتواصل بل انقطاع‬ ‫إلى غاية هي‪ :‬أن ل تبقى فتنة أي شرك ول اضطهاد لمؤمن ‪ 2‬أو مؤمنة من أجل دينه ‪ ،‬وحتى‬ ‫يكون الدين كله ل فل يعبد ‪ 3‬مع ال أحد سواه {فإن انتهوا } أي عن الشرك والظلم فكفوا عنهم‬ ‫وإن انتهوا في الظاهر ولم ينتهوا في الباطل فل يضركم ذلك {فإن ال بما يعملون بصير}‬ ‫وسيظهرهم لكم ويسلطكم عليهم‪ .‬وقوله في ختام السياق {وإن تولوا} أي نكثوا العهد وعادوا إلى‬ ‫حربكم بعد الكف عنهم فقاتلوهم ينصركم ال عليهم واعلموا أن ال مولكم فل يسلطهم عليكم‪ ،‬بل‬ ‫ينصركم عليهم إنه {نعم المولى} لمن يتولى {ونعم النصير} لمن ينصر‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سعة فضل ال ورحمته‪.‬‬ ‫‪ -2‬السلم يجبّ أي يقطع ما قبله‪ ،‬فيغفر لمن أسلم كل ذنب قارفه من الكفر وغيره‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان سنة ال في الظالمين وهي إهلكهم وإن طالت مدة الملء والِنظار‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب قتال المشركين على المسلمين ما بقي في الرض مشرك‪.‬‬ ‫‪ -5‬نعم المولى ال جل جلله لمن توله‪ ،‬ونعم النصير لمن نصره‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخذهم‪ :‬أي بالعذاب العاجل والعقوبة الشديدة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الضطهاد‪ :‬هو فتنة قريش للمؤمنين حيث فتنوهم حتى هاجروا إلى الحبشة وفتنوهم حتى‬ ‫هاجروا إلى المدينة ومعنى‪ :‬فتنوهم‪ .‬عذّبوهم ليردّوهم إلى الشرك والكفر‪.‬‬ ‫‪ 3‬يشهد له قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل اله إلّ ال فإذا قالوها‬ ‫عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّ بحقّها‪ ،‬وحسابهم على ال عز وجل" في الصحيحين‪.‬‬

‫( ‪)2/308‬‬ ‫الجزء العاشر‬ ‫ن وَابْنِ‬ ‫ل وَلِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬ ‫خ ُمسَ ُه وَلِلرّسُو ِ‬ ‫شيْءٍ فَأَنّ لِّلهِ ُ‬ ‫وَاعَْلمُواْ أَ ّنمَا غَ ِنمْتُم مّن َ‬

‫ن وَاللّهُ عَلَى ُكلّ‬ ‫ج ْمعَا ِ‬ ‫السّبِيلِ إِن كُن ُتمْ آمَنتُمْ بِاللّ ِه َومَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا َيوْمَ ا ْلفُ ْرقَانِ َيوْمَ الْ َتقَى ا ْل َ‬ ‫س َفلَ مِنكُمْ وََلوْ َتوَاعَدتّمْ‬ ‫صوَى وَال ّر ْكبُ أَ ْ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪ِ )41‬إذْ أَنتُم بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا وَهُم بِا ْلعُ ْد َوةِ ا ْل ُق ْ‬ ‫َ‬ ‫حيّ‬ ‫لَخْتََلفْتُمْ فِي ا ْلمِيعَا ِد وََلكِن لّ َي ْقضِيَ اللّهُ َأمْرا كَانَ َمفْعُولً لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَ َيحْيَى مَنْ َ‬ ‫ل وََلوْ أَرَا َكهُمْ كَثِيرًا ّلفَشِلْتُمْ‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‪ِ )42‬إذْ يُرِي َكهُمُ الّلهُ فِي مَنَا ِمكَ قَلِي ً‬ ‫عَن بَيّنَ ٍة وَإِنّ اللّهَ لَ َ‬ ‫علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ(‪ )43‬وَإِذْ يُرِي ُكمُو ُهمْ إِذِ الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِن ُكمْ‬ ‫لمْرِ وََلكِنّ الّلهَ سَلّمَ إِنّهُ َ‬ ‫وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ‬ ‫ل وَيُقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِن ِهمْ لِ َي ْقضِيَ اللّهُ َأمْرًا كَانَ َمفْعُولً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ المُورُ(‪)44‬‬ ‫قَلِي ً‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫أنما غنمتم من شيء ‪ :‬أي ما أخذتموه من مال الكافر قهرا لهم وغلبة قليلً كان أو كثيرا‪.‬‬ ‫فأن ل خمسه ‪ :‬أي خمس الخمسة أقسام‪ ،‬يكون ل والرسول ومن ذكر بعدهما‪.‬‬ ‫ولذى القربى ‪ :‬هم قرابة الرسول صلى ال عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب‪.‬‬ ‫وما أنزلنا على عبدنا ‪ :‬أي من الملئكة واليات‪.‬‬

‫( ‪)2/309‬‬ ‫يوم الفرقان ‪ :‬أي يوم بدر وهو السابع عشر من رمضان‪ ،‬إذ فرق ال فيه بين الحق والباطل‪.‬‬ ‫التقى الجمعان‪ :.‬جمع المؤمنين وجمع الكافرين ببدر‪.‬‬ ‫العدوة الدنيا‪ :‬العدوة حافة الوادي‪ ،‬وجانبه والدنيا أي القريبة إلى المدينة‪.‬‬ ‫بالعدوة القصوى ‪ :‬أي البعيد من المدينة إذ هي حافة الوادي من الجهة الخرى‪.‬‬ ‫والركب أسفل منكم ‪ :‬أي ركب أبى سفيان وهي العير التي خرجوا من أجلها‪ .‬أسفل منكم مما يلي‬ ‫البحر‪.‬‬ ‫عن بينة‪ :‬أي حجة ظاهرة‪.‬‬ ‫لتنازعتم في المر ‪:‬أي اختلفتم‪.‬‬ ‫ويقللكم في أعينهم ‪ :‬هذا قبل اللتحام أما بعد فقد رأوهم مثليهم حتى تتم الهزيمة لهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات ل شك أنها نزلت في بيان قسمة الغنائم بعدما حصل فيها من نزاع فافتكها ال تعالى‬ ‫منهم ثم قسمها عليهم فقال النفال ل وللرسول في أول الية ثم قال هنا {واعلموا} أيها المسلمون‬ ‫{أنما غنمتم ‪ 1‬من شيء ‪ }2‬حتى الخيط والمخيط‪ ،‬ومعنى غنمتم أخذتموه من المال من أيدي الكفار‬ ‫المحاربين لكم غلبة وقهرا لهم فقسمته هي أن {ل خمسه وللرسول ولذي القربى ‪ 3‬واليتامى‬ ‫والمساكين وابن السبيل} والربعة أخماس ‪ 4‬الباقية هي لكم أيها المجاهدون للراجل قسمة وللفارس‬ ‫قسمان لما له من تأثير‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬الغنيمة‪ :‬ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي وهو قتال الكافرين لغرض هدايتهم إلى السلم‬ ‫ليكملوا ويسعدوا‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫وقد طوّفت في الفاق حتى ‪ ...‬رضيت من الغنيمة بالياب‬ ‫‪2‬الجماع على أن هذا الحكم ليس على عمومه بل هو مخصص بقول المام‪ :‬مَن قتل قتيلً فله‬ ‫سَلَبه‪ ،‬وكذا الرقاب‪ ،‬فالمام مخيّر فيها بين القتل والفداء والمنّ وليس هذا للغانمين‪ ،‬وكذا السلب‬ ‫فإن من سلب مقاتلً شيئا كسلحه وفرسه فهو له أيضا‪.‬‬ ‫‪ 3‬المراد بذي القربى‪ :‬قرابة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم بنو هاشم‪ ،‬وهو مذهب مالك‪،‬‬ ‫وزاد الشافعي وأحمد‪ :‬بني المطلب لن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد‪ ،‬ولن الرسول صلى‬ ‫ال عليه وسلم لما قسم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبين عبدالمطلب قال‪" :‬إنهم لم يفارقوني في‬ ‫جاهلية ول إسلم‪ ،‬إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه" رواه البخاري‪.‬‬ ‫ن بعضا قال‪ :‬الغنيمة خمسها ل والربعة أخماس للمام إن‬ ‫‪ 4‬من باب الطلع ل غير أذكر أ ّ‬ ‫شاء حبسها وإن شاء قسمها على الغانمين وهو قول مخالف لما عليه جمهور الفقهاء‪.‬‬

‫( ‪)2/310‬‬ ‫في الحرب‪ ،‬ولن فرسه يحتاج إلى نفقة علف‪ .‬والمراد من قسمة ال أنها تنفق في المصالح العامة‬ ‫ولو أنفقت على بيوته لكان أولى وهي الكعبة وسائر المساجد‪ ،‬وما للرسول فإنه ينفقه على عائلته‪،‬‬ ‫وما لذي القربى فإنه ينفق على قرابة الرسول الذين يحرم عليهم أخذ الزكاة لشرفهم وهم بنو هاشم‬ ‫وبنو المطلب‪ ،‬وما لليتامى ينفق على فقراء المسلمين‪ ،‬وما لبن السبيل ينفق على المسافرين‬ ‫المنقطعين عن بلدهم إذا كانوا محتاجين إلى ذلك في سفرهم وقوله تعالى {إن كنتم آمنتم بال} أي‬ ‫ربا {وما أنزلنا على عبدنا} أي محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم {يوم الفرقان يوم التقى‬ ‫الجمعان} وهو يوم بدر حيث التقى المسلمون بالمشركين‪ ،‬والمراد بما أنزل تعالى على عبده‬ ‫ورسوله الملئكة واليات منها الرمية التي رمى بها المشركين فوصلت إلى أكثرهم فسببت‬ ‫هزيمتهم‪ .‬وقوله {وال على كل شيء قدير} أي كما قدر على نصركم على قلتكم وقدر على‬ ‫هزيمة عدوكم على كثرتهم هو قادر على كل شيء يريده وقوله تعالى {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم‬ ‫بالعدوة القصوى والركب ‪ 1‬أسفل منكم} تذكير لهم بساحة المعركة التي تجلت فيها آيات ال وظهر‬ ‫فيها إنعامه عليهم ليتهيئوا للشكر‪ .‬وقوله تعالى {ولو تواعدتم لختلفتم في الميعاد} أي لو تواعدتم‬ ‫أنتم والمشركون على اللقاء في بدر للقتال لختلفتم لسباب تقتضي ذلك منها أنكم قلة وهم كثرة‬ ‫{ولكن ليقضي ال أمرا كان مفعولً} أي محكوما به في قضاء ال وقدره‪ ،‬وهو نصركم وهزيمة‬ ‫عدوكم‪ .‬وجمعكم من غير تواعد ول اتفاق سابق‪ .‬وقوله تعالى {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى‬ ‫حيّ عن بينة} هذا تعليل لفعل ال تعالى يجمعكم في وادي بدر للقتال وهو فعل ذلك ليحيا‬ ‫من َ‬

‫باليمان من حيى على بينة وعلم أن ال حق والسلم حق والرسول حق والدار الخرة حق حيث‬ ‫أراهم ال اليات الدالة على ذلك‪ ،‬ويهلك من هلك بالكفر على بينة إذ أتضح له أن ما عليه‬ ‫المشركون كفر وباطل وضلل ثم رضي به واستمر عليه‪ .‬وقوله تعالى {وإن ال لسميع عليم}‬ ‫تقرير لما سبق وتأكيد له حيث أخبر تعالى أنه سميع لقوال عباده عليم بأفعالهم فما أخبر به‬ ‫وقرره هو كما أخبر وقرر‪ .‬وقوله تعالى {وإذ يريكهم ال في منامك قليلً} أي فأخبرت أصحابك‬ ‫ففرحوا بذلك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ركب أبي سفيان‪ ،‬ولفظ الركب ل يطلق إلّ على الراكبين‪ ،‬والركب مبتدأ‪ ،‬والخبر متعلّق أسفل‬ ‫الظرف أي‪ :‬كائن أسفل منكم‪.‬‬

‫( ‪)2/311‬‬ ‫وسرّوا ووطنوا أنفسهم للقتال‪ ،‬وقوله‪{ :‬ولو أراكهم كثيرا} أي في منامك وأخبرت به أصحابك‬ ‫لفشلتم أي جبنتم عن قتالهم‪ ،‬ولتنازعتم في أمر قتالهم {ولكن ال سلّم} من ذلك فلم يريكهم كثيرا إنه‬ ‫تعالى عليم بذات الصدور ففعل ذلك لعلمه بما يترتب عليه من خير وشر‪ .‬وقوله تعالى {وإذ‬ ‫يريكموهم} أي اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكم ال الكافرين عند التقائكم بهم قليلً في أعينكم كأنهم‬ ‫سبعون رجلً أو مائة مثلً ويقللكم سبحانه وتعالى في أعينهم حتى ‪ 1‬ل يهابوكم‪ .‬وهذا كان عند‬ ‫المواجهة وقبل اللتحام أما بعد اللتحام فقد أرى ال تعالى الكافرين أراهم المؤمنين ضعفيهم في‬ ‫الكثرة وبذلك انهزموا كما جاء ذلك في سورة آل عمران في قوله {يرونهم مثليهم} وقوله تعالى‬ ‫{ليقضي ال أمرا كان مفعولً} تعليل لتلك التدابير اللهية لوليائه لنصرتهم وإعزازهم وهزيمة‬ ‫أعدائهم وإذللهم وقوله تعالى {إلى ال ترجع المور} إخبار منه تعالى بأن المور كلها تصير إليه‬ ‫فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن خبرا كان أو غيرا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان قسمة الغنائم على الوجه الذي رضيه ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬التذكير باليمان‪ ،‬إذ هو الطاقة الموجهة باعتبار أن المؤمن حي بإيمانه يقدر على الفعل‬ ‫والترك‪ ،‬والكافر ميت فل يكلف‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة غزوة بدر وفضل أهلها‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان تدبير ال تعالى في نصر أوليائه وهزيمة أعدائه‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان أن مرد المور نجاحا وخيبة ل تعالى ليس لحد فيها تأثير إل بإذنه‪.‬‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا َلقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُو ْا وَا ْذكُرُواْ الّلهَ كَثِيرًا ّلعَّلكُمْ ُتفْلَحُونَ(‪)45‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬قال أبو جهل‪ :‬إنهم أكلة جزور خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال فلمّا أخذوا في القتال عظم‬ ‫المسلمون في أعين الكفار وكثروا حتى أنهم يرونهم مثليهم‪.‬‬

‫( ‪)2/312‬‬ ‫ح ُك ْم وَاصْبِرُواْ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ(‪)46‬‬ ‫وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُوَل ُه وَلَ تَنَازَعُواْ فَ َتفْشَلُو ْا وَتَذْ َهبَ رِي ُ‬ ‫وَلَ َتكُونُواْ كَالّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَا ِرهِم َبطَرًا وَرِئَاء النّاسِ وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَالّلهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ‬ ‫س وَإِنّي جَارٌ ّلكُمْ فََلمّا‬ ‫عمَاَلهُ ْم َوقَالَ لَ غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّا ِ‬ ‫مُحِيطٌ(‪ )47‬وَإِذْ زَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬ ‫عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَ تَ َروْنَ إِ ّنيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ‬ ‫تَرَاءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَى َ‬ ‫شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪ِ )48‬إذْ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ غَرّ َهؤُلء دِي ُنهُ ْم َومَن يَ َت َوكّلْ عَلَى‬ ‫حكِيمٌ(‪)49‬‬ ‫اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فئة‪ :‬طائفة مقاتلة‪.‬‬ ‫فاثبتوا ‪ :‬لقتالها واصمدوا‪.‬‬ ‫واذكروا ل كثيرا ‪ :‬مهللين مكبرين راجين النصر طامعين فيه سائلين ال تعالى ذلك‪.‬‬ ‫تفلحون‪ :‬تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الخرة بعد النجاة من الهزيمة في الدنيا والنار في‬ ‫الخرة‪.‬‬ ‫ول تنازعوا‪ :.‬أي ل تختلفوا وأنتم في مواجهة العدو أبدا‪.‬‬ ‫وتذهب ريحكم ‪ : 1‬أي قوتكم بسبب الخلف‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يرى بعضهم أن الريح ريح الصبا التي قال فيها الرسول صلى ال عليه وسلم "نصرت بالصبا‪،‬‬ ‫واهلكت عاد بالدبور" يريد أنهم بعدم طاعتهم يحرمون الريح التي بها نصرهم وهو معنى ل بأس‬ ‫به‪.‬‬

‫( ‪)2/313‬‬ ‫خرجوا من ديارهم بطرا ‪ :‬أي للبطر الذي هو دفع الحق ومنعه‪.‬‬ ‫وقال إني جار لكم ‪ :‬أي مجير لكم ومعين على عدوكم‪.‬‬ ‫تراءت الفئتان ‪ :‬أي التقتا ورأت كل منهما عدوها‪.‬‬ ‫نكص على عقبيه‪ :‬أي رجع إلى الوراء هاربا‪ ،‬لنه جاءهم في صورة سراقة بن مالك‪.‬‬

‫إني أرى ما ل ترون ‪ :‬من الملئكة‪.‬‬ ‫والذين في قلوبهم مرض‪ :‬أي ضعف في إيمانهم وخلل في اعتقادهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا النداء الكريم موجه إلى المؤمنين وقد أذن لهم في قتال الكافرين‪ ،‬وبدأ بسرية عبد ال بن‬ ‫جحش رضي ال عنه وثنى بهذه الغزوة غزوة بدر الكبرى فلذا هم في حاجة إلى تعليم رباني‬ ‫وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها وفي هذه اليات الربع‬ ‫تعليم عال جدا لخوض المعارك والنتصار فيها وهذا بيانها‪:‬‬ ‫‪ -1‬الثبات في وجه العدو والصمود في القتال حتى لكان المجاهدين جبل شامخ ل يتحرك {يا أيها‬ ‫الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} أي جماعة مقاتلة {فاثبتوا}‪.‬‬ ‫‪ -2‬ذكر ال تعالى تهليلً وتكبيرا وتسبيحا ودعاء ‪ 1‬وضراعة ووعدا ووعيدا‪{ .‬واذكروا ال كثيرا‬ ‫لعلكم تفلحون} أي تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في‬ ‫الدنيا‪ ،‬والنار والعذاب في الخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬طاعة ال ورسوله في أمرهما ونهيهما ومنه طاعة قائد المعركة ومديرها وهذا من أكبر‬ ‫عوامل النصر حسب سنة ال تعالى في الكون {وأطيعوا ال ورسوله}‪.‬‬ ‫‪ -4‬عدم التنازع والخلف عند التدبير للمعركة وعند دخولها وأثناء خوضها‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان نتائج التنازع والخلف وإنها‪ :‬الفشل الذريع‪ ،‬وذهاب القوة المعبر عنها بالريح‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الذكر المطلوب هو‪ :‬ما كان باللسان والقلب معا‪ ،‬في الية دليل على أنّ ذكر ال تعالى ل يترك‬ ‫في حال إلّ في حال التغوّط‪ ،‬قال محمد القرطبي‪ :‬لو رخّص لحد في ترك الذكر لرخّص لزكريا‬ ‫إذ قال له تعالى‪{ :‬ألّ تكلم الناس ثلثة أيام إل رمزا واذكر ربك كثيرا} ولرخص لرجل في‬ ‫الحرب لقوله تعالى‪{ :‬إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا ال كثيرا} وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا إل أن‬ ‫يكون في بداية الحملة بصوت واحد‪ :‬ال أكبر فإن ذلك محمود لنه يرعب العدو ويفتّ في‬ ‫أعضاده‪.‬‬

‫( ‪)2/314‬‬ ‫{ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} ‪.1‬‬ ‫‪ -6‬الصبر على مواصلة القتال والعداد له وتوطين النفس وإعدادها لذلك‪{ .‬واصبروا إن ال مع‬ ‫الصابرين}‪.‬‬ ‫‪ -7‬الخلص في القتال والخروج له ل تعالى فل ينبغي أن يكون لي اعتبار سرى مرضاة ال‬ ‫تعالى {ول تكونوا كالذين ‪ 2‬خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل ال وال‬

‫بما يعملون محيط}‪.‬‬ ‫هذه عوامل النصر وشروط الجهاد في سبيل ال تضمنتها ثلث آيات من هذه اليات الخمس‬ ‫وقوله تعالى في الية الرابعة (‪{ )48‬وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال‪ :‬ل غالب لكم اليوم من‬ ‫الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما ل‬ ‫ترون إني أخاف ال وال شديد العقاب} يذكّر تعالى المؤمنين بحادثة حدثت يوم بدر من أغرب‬ ‫الحوادث لتكون عبرة وموعظة للمؤمنين فيقول عز وجل واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين‬ ‫الذين نهيتكم أن تتشبهوا بهم في سيرهم وقتالهم وفي كل حياتهم‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أقدموا على قتال محمد‬ ‫والمؤمنين‪ ،‬ول ترهبوا ول تخافوا إنه ل غالب لكم اليوم من الناس‪ ،‬وإني جار لكم أي مجير لكم‬ ‫وناصر ومعين‪ .‬وكان الشيطان في هذه الساعة في صورة رجل من أشراف قبيلته يقال له سراقة‬ ‫بن مالك ‪ 3‬فلما تراءت الفئتان لبعضهما البعض وتقدموا للقتال رأى الشيطان جبريل في صفوف‬ ‫الملئكة‪ ،‬فنكص على عقبيه‪ ،‬وكان آخذا بيد الحارث بن هشام يحدثه يعده ويمنيه بعد ما زين لهم‬ ‫خوض المعركة وشجعهم على ذلك‪ ،‬وولى هاربا فقال له الحارث‪ :‬ما بك ما أصابك تعال فقال‬ ‫وهو هارب { إني أرى ما ل ترون} يعني الملئكة {إني أخاف ‪ 4‬ال وال شديد العقاب}‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالريح هنا‪ :‬القوة والنصر‪ ،‬كما يقال‪ .‬الريح لفلن إذا كان غالبا في أمره ومنه قول‬ ‫الشاعر‪:‬‬ ‫إذا هبّت رياحك فاغتنمها ‪ ...‬فإنّ لكل خافتة سكون‬ ‫جملة‪ :‬لكل خافتة سكون‪ :‬خبر إن واسمها‪ :‬ضمير شأن‪.‬‬ ‫‪ 2‬هم أبو جهل وأصحابه الخارجون يوم بدر لنصرة العير حيث خرجوا بالقينات والمغنيات‬ ‫والمعازف‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو سراقة بن مالك بن جعشم من بني بكر بن كنانة‪ ،‬وكانت قريش تخاف س بني بكر أن‬ ‫يأتوهم من ورائهم لنهم قتلوا رجلً منهم فلّما تمثل لهم الشيطان في صورة سراقة سكنوا لذلك‪.‬‬ ‫‪ 4‬قيل‪ :‬إن الشيطان خاف أن يكون يوم بدر هو اليوم الذي انظر إليه‪ ،‬وقيل‪ :‬كذب وهو كذوب‪.‬‬

‫( ‪)2/315‬‬ ‫وصدق وهو كذوب وقوله تعالى في نهاية الية (‪{ )49‬إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‬ ‫غر هؤلء دينهم} أي واذكروا أيها المؤمنون للعبرة والتعاظ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم‬ ‫‪ 1‬مرض أي ضعف في اليمان وتخلخل في العقيدة‪ :‬غر هؤلء دينهم وإل لما خرجوا لقتال‬ ‫قريش وهي تفوقهم عددا وعدة‪ ،‬ومثل هذا الكلم يعتبر عاديا من ضعاف اليمان والمنافقين‬ ‫المستترين بزيف إيمانهم‪ ،‬فاذكروا هذا‪ ،‬ول يفت في اعضادكم مثل هذا الكلم‪ ،‬وتوكلوا على ال‬

‫واثقين في نصره فإنه ينصركم لنه عزيز ل يغالب ول يمانع في ما يريده أبدا‪ .‬حكيم يضع‬ ‫النصر في المتأهلين له باليمان والصبر والطاعة له ولرسوله‪ ،‬والخلص له في العمل والطاعة‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الخذ بها في كل معركة وهي‪ :‬الثبات وذكر ال تعالى‪،‬‬ ‫وطاعة ال ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلف والصبر والخلص‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والختلف والبطر والرياء والغترار‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان حال المنافقين وضعفة اليمان عند وجود ‪ 2‬القتال ونشوب الحروب‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب التوكل على ال والعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين‪.‬‬ ‫عذَابَ الْحَرِيقِ(‪)50‬‬ ‫ن وُجُو َههُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ َ‬ ‫وََلوْ تَرَى ِإذْ يَ َت َوفّى الّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلمَل ِئكَةُ َيضْرِبُو َ‬ ‫ذَِلكَ ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيكُ ْم وَأَنّ الّلهَ لَيْسَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ(‪)51‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لقد اختلف في المراد بالمنافقين هنا‪ ،‬وكذا الذين في قلوبهم مرض إذ يبعد أن يكون في‬ ‫المشركين منافقون‪ ،‬كما يبعد أن يكون في أهل بدر منافقون‪ ،‬والذي يدو أنّه الراجح‪ :‬أنّ القائلين‬ ‫هذه المقالة هم منافقون وضعفة إيمان بالمدينة لما رأوا خروج الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫وأصحابه إلى بدر قالوا هذه القولة القبيحة ويكون الظرف "إذ" متعلّق بشديد العقاب ل بزين"‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل يتعارض هذا القول مع ما رجحناه من أن القائلين هذه المقولة هم منافقون وضعاف إيمان‬ ‫بالمدينة‪ ،‬إذ هذه الحال تنطبق عليهم‪.‬‬

‫( ‪)2/316‬‬ ‫شدِيدُ ا ْلعِقَابِ(‬ ‫ن وَالّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ َكفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَ َذهُمُ الّلهُ بِذُنُو ِبهِمْ إِنّ اللّهَ َق ِويّ َ‬ ‫عوْ َ‬ ‫كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‬ ‫سهِ ْم وَأَنّ اللّهَ َ‬ ‫‪ )52‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ َلمْ َيكُ ُمغَيّرًا ّن ْعمَةً أَ ْن َع َمهَا عَلَى َقوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُواْ مَا بِأَنفُ ِ‬ ‫ن وَالّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ كَذّبُواْ بآيَاتِ رَ ّبهِمْ فَأَهَْلكْنَاهُم ِبذُنُو ِبهِمْ وَأَغْ َرقْنَا آلَ فِرْعَونَ‬ ‫عوْ َ‬ ‫‪ )53‬كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ‬ ‫َوكُلّ كَانُواْ ظَاِلمِينَ(‪)54‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إذ يتوفى‪ :.‬أي يقبض أرواحهم لماتتهم‪.‬‬ ‫وجوههم وأدبارهم ‪ :‬أي يضربونهم من أمامهم ومن خلفهم‪.‬‬ ‫بظلم للعبيد‪ :‬أي ليس بذي ظلم للعبيد كقوله {ول يظلم ربك أحدا}‪.‬‬ ‫كدأب آل فرعون ‪ :‬أي دأب كفار قريش كدأب آل فرعون في الكفر والتكذيب والدأب العادة‪.‬‬

‫لم يك مغيرا نعمة‪ :‬تغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها‪.‬‬ ‫آل فرعون‪ :‬هم كل من كان على دينه من القباط مشاركا له في ظلمه وكفره‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق مع كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس فيقول تعالى لرسوله‬ ‫{ولو ترى إذ يتوفى الذين ‪ 1‬كفروا الملئكة يضربون وجوههم وأدبارهم ‪ }2‬وهم يقولون لهم‬ ‫{وذوقوا عذاب ‪ 3‬الحريق} وجواب لول محذوف تقديره (لرأيت أمرا فظيعا) وقوله تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جائز أن يكون المراد من هؤلء قتلى بدر المشركين وجائز أن يكونوا ممن لم يقتلوا ببدر‪،‬‬ ‫وماتوا بمكة وغيرها‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال الحس البصري‪ :‬المراد من أدبارهم‪ :‬ظهورهم وقال‪" :‬إن رجلً قال لرسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪ :‬يا رسول ال‪ :‬إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك "أي‪ :‬سير النعل"؟ قال‪ :‬ذلك‬ ‫ضرب الملئكة"‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال لهم عند قبض أرواحهم‪ ،‬إذ بمجرد أن تقبض الروح يلقى بها في جهنم‪ ،‬كما يقال لهم يوم‬ ‫القيامة ذلك من قبل الملئكة‪.‬‬

‫( ‪)2/317‬‬ ‫{ذلك بما قدمت أيديكم وأن ال ليس بظلم للعبيد} هو قول الملئكة لمن يتوفونهم من الذين كفروا‪.‬‬ ‫أي ذلكم الضرب والتعذيب بسبب ما قدمت أيديكم من الكفر والظلم والشر والفساد وأن ال تعالى‬ ‫ليس بظالم لكم فإنه تعالى ل يظلم أحدا وقوله تعالى {كدأب آل فرعون ‪ 1‬والذين من قبلهم} أي‬ ‫دأب هؤلء المشركين من كفار قريش في كفرهم وتكذيبهم كدأب آل فرعون والذين هن قبلهم‬ ‫{كفروا بآيات ال فأخذهم ال بذنوبهم} وكفر هؤلء فأخذهم ال بذنوبهم‪ ،‬وقوله {إن ال قوي شديد‬ ‫العقاب} يشهد له فعله بآل فرعون والذين من قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين‬ ‫والمؤتفكات وأخيرا أخذه تعالى كفار قريش في بدر أخذ العزيز المقتدر‪ ،‬وقوله تعالى {ذلك بأن ال‬ ‫‪ 2‬لم يك ‪ 3‬مغيرا نعمة أنعهما على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} إشارة إلى ما أنزله من عذاب‬ ‫على المم المكذبة الكافرة الظالمة‪ ،‬وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن‬ ‫يغير نعمة أنعمها على قوم كالمن والرخاء‪ ،‬أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن‬ ‫يكفروا ويكذبوا‪ ،‬ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا‪ ،‬وعندئذ يغير تلك النعم بنقم فيحل محل المن‬ ‫والرخاء الخوف والغلء ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد‪ .‬هذا إن لم يأخذهم بالبادة‬ ‫الشاملة والستئصال التام‪ .‬وقوله تعالى {وأن ال سميع عليم} أي لقوال عباده وأفعالهم فلذا بتم‬ ‫الجزاء عادلً ل ظلم فيه‪ .‬وقوله تعالى {كدأب آل ‪ 4‬فرعون والذين من قبلهم كذبوا ‪ 5‬بآيات ربهم‬

‫فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين} هذه الية تشبه الية السابقة إل أنها‬ ‫تخالفها فيما يلي‪ :‬في الولى الذنب الذي أخذ به الهالكون كان الكفر‪ ،‬وفي هذه‪ :‬كان التكذيب‪ ،‬في‬ ‫الولى‪ :‬لم يذكر نوع العذاب‪ ،‬وفي الثانية انه الغراق‪ ،‬في الولى لم يسجل عليهم سوى الكفر‬ ‫فهو ذنبهم ل غير وفي الثانية سجل على الكل ذنباَ آخر وهو الظلم إذ قال {وكل كانوا ظالمين} أي‬ ‫بكفرهم وتكذيبهم‪ ،‬وصدهم عن سبيل ال وفسقهم عن طاعة ال ورسوله مع زيادة التأكيد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الباء في قوله‪{ :‬ذلك بأنّ ال} سببية والجملة مسوقة للتعليل‪.‬‬ ‫‪{ 2‬لم يك} أي‪ :‬لم ينبغ له‪ ،‬ولم يصحّ منه لبالغ حكمته وعدله ورحمته‪.‬‬ ‫‪{ 3‬كدأب} خبر لمبتدأ محذوف تقديره‪ :‬دأب هؤلء كدأب آل فرعون‪ ،‬والدأب‪ :‬العادة المستمرة‪.‬‬ ‫‪{ 4‬كذبوا} الخ‪ ..‬تفسير دأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬وجائز أن يكون المراد‪ :‬كدأب آل فرعون أي‪ :‬في تعذيبهم عند قبض أرواحهم‪ ،‬وفي قبورهم‬ ‫ويوم القيامة‪.‬‬

‫( ‪)2/318‬‬ ‫والتقرير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عذاب القبر بتقرير العذاب عند النزع‪.‬‬ ‫‪ -2‬هذه الية نظيرها آية النعام {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا‬ ‫أيديهم} أي بالضرب‪.‬‬ ‫‪ -3‬تنزه الخالق عز وجل عن الظلم لحد ‪.1‬‬ ‫‪ -4‬سنة ال تعالى في أخذ الظالمين وإبدال النعم بالنقم‪.‬‬ ‫‪ -5‬لم يكن من سنة ال تعالى في الخلق تغيير ما عليه الناس من خير أو شر حتى يكونوا هم‬ ‫البادئين‪.‬‬ ‫‪ -6‬التنديد بالظلم وأهله‪ ،‬وأنه الذنب الذي يطلق على سائر الذنوب‪.‬‬ ‫ع ْهدَهُمْ‬ ‫إِنّ شَرّ ال ّدوَابّ عِندَ الّلهِ الّذِينَ َكفَرُواْ َفهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )55‬الّذِينَ عَاهَدتّ مِ ْنهُمْ ثُمّ يَن ُقضُونَ َ‬ ‫فِي ُكلّ مَ ّر ٍة وَهُ ْم لَ يَ ّتقُونَ(‪ )56‬فَِإمّا تَ ْث َقفَ ّنهُمْ فِي ا ْلحَ ْربِ فَشَرّدْ ِبهِم مّنْ خَ ْلفَهُمْ َلعَّلهُمْ يَ ّذكّرُونَ(‪)57‬‬ ‫حسَبَنّ الّذِينَ‬ ‫حبّ الخَائِنِينَ(‪َ )58‬ولَ يَ ْ‬ ‫سوَاء إِنّ الّل َه لَ ُي ِ‬ ‫وَِإمّا َتخَافَنّ مِن َقوْمٍ خِيَانَةً فَان ِبذْ إِلَ ْيهِمْ عَلَى َ‬ ‫َكفَرُواْ سَ َبقُواْ إِ ّنهُ ْم لَ ُيعْجِزُونَ(‪)59‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫شر الدواب ‪ :2‬من إنسان أو حيوان الذين ذكر ال وصفهم وهم بنو قريظة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده حديث مسلم عن أبي ذر عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ال تعالى يقول‪" :‬يا‬ ‫عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فل تظالموا‪ ،‬يا عبادي إنما هي أعمالكم‬ ‫أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد ال ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الدواب‪ :‬كل ما يدب على وجه الرض من حيوان‪ ،‬و{عند ال}‪ :‬أي‪ :‬في علمه وحكمه‪.‬‬

‫( ‪)2/319‬‬ ‫فهم ل يؤمنون‪ :‬لما علم ال تعالى من حالهم أخبر أنهم يموتون على الكفر‪.‬‬ ‫ينقضون عهدهم‪ :‬أي يحلونه ويخرجون منه فل يلتزموا بما فيه‪.‬‬ ‫في كل مرة‪ :‬أي عاهدوا فيها‪.‬‬ ‫فإما تثقفنّهم ‪ :‬أي أن تجدنّهم‪ ،‬وما مزيدة أدغمت في إن الشرطية‪.‬‬ ‫فشرد‪ :‬أي فرق وشتت‪.‬‬ ‫يذكرون ‪ :‬أي يتعظون‪.‬‬ ‫فانبذ إليهم ‪ :‬أي اطرح عهدهم‪.‬‬ ‫على سواء ‪ :1‬أي على حال من العلم تكون أنت وإياهم فيها سواء‪ ،‬أي كل منكم عالم بنقض‬ ‫المعاهدة‪.‬‬ ‫الخائنين ‪ :‬الغادرين بعهودهم‪.‬‬ ‫سبقوا‪ :‬أي فاتوا ال ولم يتمكن منهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بمناسبة ذكر خصوم الدعوة السلمية والقائم عليها وهو النبي صلى ال عليه وسلم ذكر تعالى‬ ‫خصوما لها آخرين غير المشركين من كفار قريش وهم بنو ‪ 2‬قريظة من اليهود‪ .‬فأخبر تعالى‬ ‫عنهم أنهم شر الدواب من النسان والحيوان ووصفهم محددا لهم ليعرفوا‪ ،‬وأخبر أنهم ل يؤمنون‬ ‫لتوغلهم في الشر والفساد‪ ،‬فقال‪{ :‬إن شر الدواب عند ال} أي في حكمه وعلمه‪{ .‬الذين كفروا فهم‬ ‫ل يؤمنون} وخصصهم بوصف آخر خاص بهم فقال‪{ :‬الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في‬ ‫كل مرة وهم ل يتقون} وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم عاهدهم أول مرة على أن ل يحاربوه‬ ‫ول يعينوا أحدا على حربه فإذا بهم يعينون قريشا بالسلح‪ ،‬ولما انكشف أمرهم اعتذروا معترفين‬ ‫بخطإهم‪ ،‬وعاهدوا مرة أخرى على أن ل يحاربوا الرسول ول يعينوا من يحاربه فإذا بهم‬ ‫ينقضون عهدهم مرة أخرى ويدخلون في حرب ضده حيث انضموا إلى الحزاب في غزوة‬ ‫الخندق هذا ما دل عليه قوله تعالى {إن شر‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬جهرا ل سرا حتى يكونوا وأنتم بالعلم بنبذ المعاهدة على حد سواء‪.‬‬ ‫‪ 2‬وبنو النضير كذلك إذ أعانوا قريشا بالسلح ثم لمّا انكشف أمرهم اعتذروا‪ ،‬وأما قريظة‪ ،‬فقد‬ ‫نقضوا عهدهم مرتين إذ انضموا إلى الحزاب في حربهم على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫والمؤمنين‪.‬‬

‫( ‪)2/320‬‬ ‫الدواب عند ال الذين كفروا فهم ل يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل ‪ 1‬مرة}‬ ‫أي يعاهدون فيها‪{ .‬وهم ل يتقون} أي ل يخافون عاقبة نقض المعاهدات والتلعب بها حسب‬ ‫أهوائهم‪ .‬وقوله تعالى‪{ .‬فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم ‪ 2‬من خلفهم لعلهم يذكرون} يرشد‬ ‫رسوله آمرا إياه بما يجب أن يتخذه إزاء هؤلء الناكثين للعهود المنغمسين في الكفر‪ .‬بحيث ل‬ ‫يخرجون منه بحال من الحوال‪ ،‬ويشهد لهذه الحقيقة أنهم لما حوصروا في حصونهم ونزلوا منها‬ ‫مستسلمين كان يعرض على أحدهم السلم حتى ل يقتل فيؤثر باختياره القتل على السلم وماتوا‬ ‫كافرين وصدق ال إذ قال {فهم ل يؤمنون} فهؤلء إن ثقفتهم في حرب أي وجدتهم متمكنا منهم‬ ‫فاضربهم بعنف وشدة وبل هوادة حتى تشرد أي تفرق بهم من خلفهم من أعداء السلم‬ ‫المتربصين بك الدوائر من كفار قريش وغيرهم لعلهم يذكرون أي يتعظون فل يفكروا في حربك‬ ‫وقتالك بعد‪ ،‬وقوله {وإما تخافن من قوم خيانة فأنبذ ‪ 3‬إليهم على سواء إن ال ل يحب الخائنين}‬ ‫هذا إرشاد آخر للرسول صلى ال عليه وسلم يتعلق بالخطط الحربية الناجحة وهو أنه صلى ال‬ ‫عليه وسلم إن خاف من قوم معاهدين له خيانة ظهرت أماراتها وتأكد لديك علماتها فاطرح تلك‬ ‫المعاهدة ملغيا لها معلنا ذلك لتكون وإياهم على علم تام بإلغائها‪ ،‬وذلك حتى ل يتهموك بالغدر‬ ‫والخيانة‪ ،‬وال ل يحب الخائنين‪ .‬وقاتلهم مستعينا بال عليهم وستكون الدائرة على الناكث الخائن‪،‬‬ ‫وهذا ضرب من الحزم وصحة العزم إذ ما دام قد عزم العدو على النقض فقد نقص فليبادر‬ ‫لفتكاك عنصر المباغتة من يده‪ ،‬وهو عنصر مهم في الحروب‪ .‬وقوله تعالى {ول يحسبن الذين‬ ‫كفروا} وهم من هرب من بدر من كفار قريش {سبقوا ‪ }4‬أي فاتوا فلم يقدر ال تعالى عليهم {إنهم‬ ‫ل يعجزون} أي إنهم ل يعجزون ال بحال فإنه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سبحان ال‪ ،‬هذا الوصف الخسيس ما زال ملزما لليهود إلى اليوم فل يوفون بعهد ول ذمّة‬ ‫أبدا‪ ،‬وصدق ال العظيم إذ قال عنهم‪{ .‬كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم}‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬شرد البعير أو الدابة إن فارقت صاحبها‪ ،‬وشرّده إذا عمل على تشريده بسبب‪ ،‬وشردت‬ ‫بني فلن‪ :‬إذا حملتهم على مفارقة منازلهم قال الشاعر‪:‬‬

‫أطوّف ني الباطح كل يوم ‪ ...‬مخافة أن يُشرّد بي حكيم‬ ‫‪3‬غشا ونقضا للعهد والية عامة‪ ،‬فهي مبدأ حربي يأخذ به المسلمون إلى يوم القيامة‪ ،‬ول وجه‬ ‫لذكر الخلف هل هي في بني قريظة أو بني النضير؟ وخوف الخيانة ها معناه‪ :‬الظن الغالب‬ ‫وذلك بظهور علمات خيانة العدو واضحة‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إنهم ل يعجزون} أي‪ :‬في الدنيا‬ ‫حتى يظفرك ال بهم‪.‬‬

‫( ‪)2/321‬‬ ‫تعالى ل يفوته هارب‪ ،‬ول يغلبه غالب‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أن شر الدواب هم الكفار من أهل الكتاب والمشركين بل هم شر البرية‪.‬‬ ‫‪ -2‬سنة ال فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يُحرم التوبة فل يموت إل كافرا‪.‬‬ ‫‪ -3‬من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالً لغيره من‬ ‫العداء‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة الغدر والخيانة‪.‬‬ ‫‪ -5‬جواز إعلن إلغاء المعاهدة وضرب العدو فورا إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على‬ ‫نقض المعاهدة ‪ 1‬وذلك لتفويت عنصر المباغتة عليه‪.‬‬ ‫طعْتُم مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ عَ ْدوّ الّل ِه وَعَ ُد ّوكُ ْم وَآخَرِينَ مِن دُو ِنهِمْ‬ ‫وَأَعِدّواْ َلهُم مّا اسْتَ َ‬ ‫شيْءٍ فِي سَبِيلِ الّلهِ ُي َوفّ إِلَ ْي ُك ْم وَأَنتُ ْم لَ تُظَْلمُونَ(‪ )60‬وَإِن‬ ‫لَ َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُ ْم َومَا تُنفِقُواْ مِن َ‬ ‫خدَعُوكَ فَإِنّ‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪ )61‬وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَ ْ‬ ‫علَى اللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬ ‫جَ َنحُواْ لِلسّ ْلمِ فَاجْنَحْ َلهَا وَ َت َو ّكلْ َ‬ ‫حسْ َبكَ اللّهُ ُهوَ الّ ِذيَ أَيّ َدكَ بِ َنصْ ِر ِه وَبِا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ )62‬وَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبهِمْ َلوْ أَن َفقْتَ مَا فِي الَ ْرضِ‬ ‫َ‬ ‫حكِيمٌ(‪)63‬‬ ‫جمِيعا مّا أَّل َفتْ بَيْنَ قُلُو ِبهِ ْم وََلكِنّ اللّهَ أَّلفَ بَيْ َنهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬لكل غادر لواء‬ ‫يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته أل ول غادر أعظم غدرا من أمير عامة" وروى أبو داود‬ ‫والترمذي أن معاوية رضي ال عنه كان بينه وبين الروم عهد‪ ،‬فلما قارب تاريخ العهد النقضاء‬ ‫سار إليهم بجيشه فجاء عمرو بن عنبسة فقال له سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫"من كان بينه وبين قوم عهد فل يشدّ عقدة ول يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء"‬ ‫فرجع معاوية بالناس‪.‬‬

‫( ‪)2/322‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أعدوا ‪ :‬هيئوا وأحضروا‪.‬‬ ‫ما استطعتم‪ :‬ما قدرتم عليه‪.‬‬ ‫من قوة ‪ :‬أي حربية من سلح على اختلف أنواعه‪.‬‬ ‫يوفّ إليكم ‪ :‬أي أجره وثوابه‪.‬‬ ‫وإن جنحوا للسلم ‪ :‬أي مالوا إلى عدم الحرب ورغبوا في ذلك‪.‬‬ ‫فإن حسبك ال ‪ :‬أي يكفيك شرهم‪ ،‬وينصرك عليهم‪.‬‬ ‫ألف بين قلوبهم ‪ :‬أي جمع بين قلوب النصار بعدما كانت متنافرة مختلفة‪.‬‬ ‫إنه عزيز حكيم‪ :‬أي غالب على أمره‪ ،‬حكيم في فعله وتدبير أمور خلقه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بمناسبة انتهاء معركة بدر وهزيمة المشركين فيها‪ ،‬وعودتهم إلى مكة وكلهم تغيظ على المؤمنين‬ ‫وفعلً أخذ أبو سفيان يعد العدة للنتقام‪ .‬وما كانت غزوة أحد إل نتيجة لذلك هنا أمر ال تعالى‬ ‫رسوله والمؤمنين بإعداد القوة وبذل ما في الوسع والطاقة لذلك فقال تعالى {واعدوا لهم ‪ 1‬ما‬ ‫استطعتم من قوة} وقد فسر النبي صلى ال عليه وسلم القوة بالرمي بقوله "أل إن القوة ‪ 2‬الرمي"‬ ‫قالها ثلثا وقوله تعالى {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو ال وعدوكم وآخرين من دونهم ل‬ ‫تعلمونهم ال يعلمهم} يخبر تعالى عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بإعداد القوة على اختلفها بأن‬ ‫رباطهم للخيل وحبسها أمام دورهم معدة للغزو والجهاد عليها يرهب أعداء ال من الكافرين‬ ‫والمنافقين أي يخوفهم حتى ل يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم‪ ،‬وهذا ما يعرف بالسلم المسلح‪،‬‬ ‫وهو أن المة إذا كانت مسلحة قادرة على القتال يرهبها أعداؤها فل يحاربونها‪ ،‬وإن رأوها ل‬ ‫عدة لها ول عتاد ول قدرة على رد أعدائها أغراهم ذلك بقتالها فقاتلوها‪ .‬وقوله تعالى {وآخرين‬ ‫من دونهم} أي من دون كفار‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو على المنبر‬ ‫يقول‪" :‬واعدوا لهم ما استطعتم من قوة أل إن القوة الرمي‪ ،‬أل إن القوة الرمي أل إن القوة الرمي"‬ ‫وعن عقبة أيضا قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم‬ ‫ال فل يعجزه أحدكم آن يلهو بأسهمه" وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬كل شيء يلهو به الرجل باطل‬ ‫إل رميه بقوسه وتأديبه فرسه‪ ..‬وملعبته أهله فإنه من الحق"‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومما يدل على فضل الرمي في سبيل ال قوله صلى ال عليه وسلم في حديث أبي داود‬

‫والترمذي والنسائي‪" :‬إن ال يدخل ثلثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير‬ ‫والرامي ومُنبْلُه"‪.‬‬

‫( ‪)2/323‬‬ ‫قريش‪ ،‬وقوله {ل تعلمونهم ال يعلهم} من الجائز أن يكونوا اليهود أو المجوس أو المنافقين‪ ،‬وأن‬ ‫يكونوا الجن أيضا‪ ،‬وما دام ال عز وجل لم يُسمهم فل يجوز أن يقال هم كذا‪ ..‬بصيغة الجزم‪،‬‬ ‫غير أنا نعلم أن أعداء المسلمين كل أهل الرض من أهل الشرك والكفر من النس والجن‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى {وما تنفقوا من شيء في سبيل ال يوفّ إليكم وأنتم ل تظلمون} إخبار منه تعالى أن ما ينفقه‬ ‫المسلمون من نفقة قلت أو كثرت في سبيل ال التي هي الجهاد يوفّيهم ال تعالى إياها كاملة ول‬ ‫ينقصهم منها شيئا فجملة {وأنتم ل تظلمون} جملة خالية ومعناها ل يظلمكم ال تعالى بنقص ثواب‬ ‫نفقاتكم في سبيله هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )60‬أما الية الثانية وهي قوله تعالى {وإن‬ ‫جنحوا ‪ 1‬للسلم فاجنح لها وتوكل على ال إنه هو السميع العليم} فإن ال تعالى يأمر رسوله وهو‬ ‫قائد الجهاد يومئذ بقبول السلم متى طلبها ‪ 2‬أعداؤه ومالوا إليها ورغبوا بصدق فيها‪ ،‬لنه صلى ال‬ ‫عليه وسلم رسول رحمة ل رسول عذاب‪ ،‬وأمره أن يتوكل على ال في ذلك أي يطيعه في قبول‬ ‫السلم ويفوض أمره إليه ويعتمد عليه فإنه تعالى يكفيه شرّ أعدائه لنه سميع لقوالهم عليم بأفعالهم‬ ‫وأحوالهم ل يخفى عليه من أمرهم شيء فلذا سوف يكفي رسوله شر خداعهم إن أرادوا خداعه‬ ‫بطلب السلم والمسالمة‪ ،‬وهذا معنى توله تعالى في اليتين (‪ )62‬و (‪{ )63‬وإن يريدوا أن‬ ‫يخدعوك} أي بالميل إلى السلم والجنوح ‪ 3‬إليها {فإن حسبك ال } أي كافيك إنه {هو الذي أيدك‬ ‫بنصره} أي في بدر {وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} أي جمع بين تلك القلوب المتنافرة المنطوية‬ ‫على الحن والعداوات ولقل السباب وأتفهها‪ ،‬لقد كان النصار يعيشون على عداوة عظيمة فيما‬ ‫بينهم حتى إن حربا وقعت بينهم مائة وعشرين سنة فلما دخلوا في السلم اصطلحوا وزالت كل‬ ‫آثار العداوة والبغضاء وأصبحوا جسما واحدا مَنْ فعل هذا سوى ال تعالى؟ اللهم ل أحد‪ ،‬ولذا قال‬ ‫تعالى لرسوله {لو أنفقت ما في الرض جميعا} أي من مال‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬جنحوا}‪ :‬مالوا‪ ،‬والجنوح‪ :‬الميل أي‪ :‬إذا مالوا إلى المسالمة التي هي الصلح فمِل إليها‪ ،‬اختلف‬ ‫هل هذه الية منسوخة بآية‪{ :‬فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} والصحيح‪ ،‬والذي به العمل أن‬ ‫الية محكمة غير منسوخة‪ ،‬وأن المسلمين إذا كانوا في حالة ضعف يحتاجون فيها إلى تقوية بعقد‬ ‫هدنة أو مصالحة لدفع ضرر أو تحصيل نفع ظاهر وهم في حاجة إلى ذلك فإن لهم أن يجنحوا‬ ‫للسلم وإن كانوا أقوياء قادرين فل يحلّ لهم إلّ إنفاذ أمر ال تعالى بقتال العدو حتى يسلم أو‬ ‫يستسلم لحكم السلم‪.‬‬

‫‪ 2‬السلم‪ :‬مؤنثه ولذا عاد الضمير إليها مؤنثا في قوله‪{ :‬فاجنح لها}‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهم يضمرون في نفوسهم نية الغدر بك والمكر ليخدعوك بذلك فامض في صلحك وال حسبك‪.‬‬

‫( ‪)2/324‬‬ ‫صامت وناطق {ما ألفت بين قلوبهم ولكن ال ألف بينهم إنه عزيز حكيم}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب إعداد القوة وهي في كل زمان بحسبه إن كانت في الماضي الرمح والسيف ورباط‬ ‫الخيل فهي اليوم النفاثة المقاتلة والصاروخ‪ ،‬والهدروجين والدبابة والغواصة‪ ،‬والبارجة‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ‪ :‬السلم المسلح‪ ،‬إرجع إلى شرح اليات‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل يخلو المسلمون من أعداء ما داموا بحق مسلمين‪ ،‬لن قوى الشر من إنس وجن كلها عدو‬ ‫لهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬نفقة الجهاد خير نفقة وهي مضمونة التضعيف‪.‬‬ ‫‪ -5‬جواز قبول ‪ 1‬السلم في ظروف معينه‪ ،‬وعدم قبوله في أخرى وذلك بحسب حال المسلمين قوة‬ ‫وضعفا‪.‬‬ ‫حسْ ُبكَ اللّ ُه َومَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ )64‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ إِن‬ ‫ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ َ‬ ‫ن صَابِرُونَ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن َيكُن مّنكُم مّئَةٌ َيغْلِبُواْ أَ ْلفًا مّنَ الّذِينَ َكفَرُواْ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ‬ ‫َيكُن مّنكُمْ عِشْرُو َ‬ ‫ض ْعفًا فَإِن َيكُن مّنكُم مّئَ ٌة صَابِ َرةٌ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ‬ ‫خ ّففَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُ ْم َ‬ ‫لّ َي ْف َقهُونَ(‪ )65‬النَ َ‬ ‫وَإِن َيكُن مّنكُمْ أَ ْلفٌ َيغْلِبُواْ أَ ْلفَيْنِ بِِإذْنِ الّل ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ(‪)66‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالسلم‪ :‬المهادنة‪ ،‬والموادعة‪ ،‬والصلح المؤقت‪ ،‬وقد تقدم بيانه‪ ،‬والمام الشافعي يرى أن‬ ‫ل تزيد مدّة المسالمة على عشر سنين قياسا على صلح الحديبية إذ كانت المدة عشر سنين ل‬ ‫غير‪.‬‬

‫( ‪)2/325‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫حسبك ال ‪ : 1‬أي كافيك ال كل ما يهمك من شأن أعدائك وغيرهم‪.‬‬ ‫ومن اتبعك من المؤمنين ‪ :‬أي ال حسبهم كذلك أي كافيهم ما يهمهم من أمر أعدائهم‪.‬‬ ‫حرض المؤمنين على القتال ‪ :‬أي حثهم على القتال مرغبا لهم مرهبا‪.‬‬

‫صابرون‪ :‬أي على القتال فل يضعفون ول ينهزمون بل يثبتون ويقاتلون‪.‬‬ ‫ل يفقهون‪ :.‬أي ل يعرفون أسرار القتال ونتائجه بعد فنونه وحذق أساليبه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله بعنوان النبوة التي شرفه ال بها على سائر الناس فيقول {يا أيها‬ ‫النبي} ويخبره بنعم الخبر مطمئنا إياه وأتباعه من المؤمنين بأنه كافيهم أمر أعدائهم فما عليهم إل‬ ‫أن يقاتلوهم ما دام ال تعالى ناصرهم ومؤيدهم عليهم‪ ،‬فيقول‪{ :‬حسبك ال ومن اتبعك من‬ ‫المؤمنين} ثم يُنَاديه ثانية قائلً {يا أيها النبي} ليأمره بالخذ بالسباب الموجبة للنصر بإذن ال‬ ‫تعالى وهي تحريض المؤمنين على القتال وحثهم عليه وترغيبهم فيه فيقول {حرض ‪ 2‬المؤمنين‬ ‫على القتال} ويخبره آمرا له ولتباعه المؤمنين بأنه {إن يكن} أي يوجد منهم في المعركة‬ ‫{عشرون ‪ 3‬صابرون يغلبوا مائتين}‪ ،‬وإن يكن منهم مائة صابرة يغلبوا ألفا من الكافرين‪ ،‬ويعلل‬ ‫لذلك فيقول {بأنهم قوم ل يفقهون} أي ل يفقهون أسرار القتال وهي أن يعبد ال تعالى ويرفع الظلم‬ ‫من الرض ويتخذ ال من المؤمنين شهداء فينزلهم منازل الشهداء عنده‪ ،‬فالكافرون ل يفقهون هذا‬ ‫فلذا‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬حسبك} خبر مقدم ولفظ الجللة مبتدأ أي‪ :‬ال حسبك بمعنى كافيك‪{ :‬ومن اتبعك} يصح أن‬ ‫يكون في موضع نصب عطفا على الكاف في (حسبك)‪ ،‬والصواب أنها في موضع رفع علّى‬ ‫البتداء والخبر محذوف والتقدير‪ :‬ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم ال أيضا‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال‪ :‬حرّضه على كذا‪ :‬حثه وحضّه وحارض على المر وواظب وواصب وأكب بمعنى‪،‬‬ ‫والحارض‪ :‬الذي أشرف على الهلك ومنه‪ ( :‬حتى تكون حرضا) أي‪ :‬تذوب عمّا فتقارب الهلك‬ ‫فتكون من الهالكين‪.‬‬ ‫‪{ 3‬إن يكن منكم عشرون صابرون ‪ }...‬الخ لفظ مضمّن وعدا إلهيا مشروط بشرط الصبر‪ ،‬إذ‬ ‫تقدير الكلم‪ :‬إن يصبر منكم عشرون صابرون الخ‪.‬‬

‫( ‪)2/326‬‬ ‫هم ل يصبرون على القتال لنهم يقاتلون لجل حياتهم فقط فإذا خافوا عنها تركوا القتال طلبا‬ ‫للحياة زيادة على ذلك أنهم جهال ل يعرفون أساليب الحرب ول وسائلها الناجعة بخلف المؤمنين‬ ‫ضعُفِ اليمان ضعف تبعا له الفقه والعلم‬ ‫فإنهم علماء‪ ،‬علماء بكل شيء هذا هو المفروض‪ ،‬وإن َ‬ ‫وحل الجهل والضعف كما هو مشاهد اليوم في المسلمين وقوله تعالى {الن خفف ‪ 1‬ال عنكم‬ ‫وعلم أن فيكم ضعفا‪ 2‬فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين‪ ،‬وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين‬ ‫بإذن ال وال مع الصابرين} الن بعد علمه تعالى بضعفكم حيث ل يقوى الواحد على قتال‬

‫عشرة‪ ،‬ول العشرة على قتال مائة ول المائة على قتال اللف خفف تعالى رحمة بكم ومنة عليكم‪،‬‬ ‫فنسخ ‪ 3‬الحكم الول بالثاني الذي هو قتال الواحد للثنين‪ ،‬والعشرة للعشرين والمائة للمائتين‪،‬‬ ‫واللف لللفين‪ ،‬ومفاده أن المؤمن ل يجوز له أن يفر من وجه اثنين ولكن يجوز له أن يفر إذا‬ ‫كانوا أكثر من اثنين وهكذا سائر النِسب فالعشرة يحرم عليهم أن يفروا من عشرين ولكن يجوز‬ ‫لهم أن يفروا من ثلثين أو أربعين مثلً‪ .‬وهذا من باب رفع الحرج فقط وإل فإنه يجوز للمؤمن‬ ‫أن يقاتل عشرة أو أكثر‪ ،‬فقد قاتل ثلثة آلف صحابي يوم مؤتة مائة وخمسين ألفا من الروم‬ ‫والعرب المتنصرة وقوله تعالى {بإذن ال} أي بمعونته وتأييده إذ ل نصر بدون عون من ال‬ ‫تعالى وإذن‪ ،‬وقوله {وال مع الصابرين} أي بالتأييد والنصر والصبر شرط في تأييد ال وعونه‬ ‫فمن لم يصبر على القتال فليس له على ال وعد في نصره وتأييده‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل كافي إل ال تعالى‪ ،‬ومن زعم أن هناك من يكفي سوى ال تعالى فقد أشرك‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب تحريض‪ .‬المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة هزيمة الواحد من الواحد والواحد من الثنين‪ ،‬ويجوز ما فوق ذلك‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لما شق على المؤمنين ثبات العشرة للمائة والعشرين للمائتين وثبات المائة لللف‪ ،‬خفّف ال‬ ‫تعالى عنهم وأنزل قوله‪{ :‬الن حففّ ال عنكم‪ }..‬فرخّص للواحد أن يفر من أكثر من اثنين وهكذا‬ ‫إن شاء فإنّه ل حرج‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرىء ضعفا بفتح الضاد وضمها‪ ،‬وقيل إن الفتح في ضعف العقول والضم في ضعف الجسام‪،‬‬ ‫والصحيح أنهما لغتان فصيحتان‪.‬‬ ‫‪ 3‬ل بأس أن يسمى هذا نسخا لنه حكم جديد غاير الوّل ويسمى تخفيفا وهو حسن أيضا‪.‬‬

‫( ‪)2/327‬‬ ‫‪ -4‬وجوب تثقيف المجاهدين عقلً وروحا وصناعة‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب الصبر في ساحة المعارك ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثنى عشر ألف مقاتل‬ ‫أو أكثر إذ هذا العدد ل يغلب ‪ 1‬من قلة بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -6‬معية ال بالعلم والتأييد والنصر للصابرين دون الجزعين‪.‬‬ ‫مَا كَانَ لِنَ ِبيّ أَن َيكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِي الَ ْرضِ تُرِيدُونَ عَ َرضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الخِ َرةَ‬ ‫عظِيمٌ (‪َ )68‬فكُلُواْ ِممّا‬ ‫سكُمْ فِيمَا َأخَذْ ُتمْ عَذَابٌ َ‬ ‫حكِيمٌ(‪ّ )67‬ل ْولَ كِتَابٌ مّنَ الّلهِ سَ َبقَ َلمَ ّ‬ ‫وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪)69‬‬ ‫للً طَيّبًا وَا ّتقُواْ الّلهَ إِنّ الّلهَ َ‬ ‫غَ ِنمْتُمْ حَ َ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أسرى‪ :‬جمع أسير وهو من أخذ في الحرب يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فأطلق لفظ السير ‪2‬‬ ‫على كل من أخذ في الحرب‪.‬‬ ‫حتى يثخن في الرض‪ :‬أي تكون له قوة وشدة يرهب بها العدو‪.‬‬ ‫عرض الدنيا‪ :‬أي المال لنه عارض ويزول فل يبقى‪.‬‬ ‫لول كتاب من ال سبق ‪ :‬وهو كتاب المقادير بأن ال تعالى أحل لنبّي هذه المة الغنائم‪.‬‬ ‫فيما أخذتم ‪ :‬أي بسبب ما أخذتم من فداء أسرى بدر‪.‬‬ ‫حللً طيبا‪ :.‬الحلل هو الطيب فكلمة طيبا تأكيد لحليّة اقتضاها المقام‪.‬‬ ‫واتقوا ال ‪ :‬أي بطاعته وطاعة رسوله في المر والنهي‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في أحداث غزوة بدر من ذلك أن أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم إل عمر‬ ‫وسعد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى احمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ ،‬قال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم ‪" :‬لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة" والمراد أن يغلب إن حصل لن يكون سببه قلة العدد‬ ‫وإنما يكون لمر آخر كعدم الصبر أو عدم الخذ بأسباب النصر التي يتم بها النصر حسب سنّة‬ ‫ال‪.‬‬ ‫‪ 2‬أسير‪ :‬كقتيل وجريح‪ ،‬ويجمع على أسرى كقتلى وجرحى‪ ،‬وعلى أُسارى بضم الهمزة وفتحها‪،‬‬ ‫والضم أشهر‪.‬‬

‫( ‪)2/328‬‬ ‫بن معاذ رضي ال عنهما رغبوا في مفاداة السرى بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا‬ ‫يعيشونها‪ ،‬وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من ال تعالى بإحللها أو تحريمها أما عمر فكان ل‬ ‫يعثر على أسير إل قتله وأما سعد فقد قال (الثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال) ولما تم‬ ‫الفداء نزلت هذه الية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب فيقول تعالى {ما كان لنبّي ‪ }1‬أي ما صح منه‬ ‫ول كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجانا {حتى يثخن ‪ 2‬في‬ ‫الرض} أرض العدو قتلً وتشريدا فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه العداء جاز له السر أي‬ ‫البقاء على السرى أحياء ليمن عليهم بل مقابل أو ليفاديهم بالمال‪ ،‬وقوله تعالى {تريدون عرض‬ ‫الدنيا} هذا من ‪ 3‬عتابه تعالى لهم‪ ،‬إذ ما فادوا السرى إل لنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال‪،‬‬ ‫وقوله {وال يريد الخرة} فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم تريدون العرض الفاني وال يريد‬

‫لكم النعيم الباقي‪ ،‬وقوله تعالى {وال عزيز حكيم} أي غالب على أمره ينصر من توكل عليه‬ ‫وفوّض أمره إليه‪ ،‬حكيم في تصرفاته فل يخذل أولياءه وينصر أعداءه فعليكم أيها المؤمنون بطلب‬ ‫مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى‪ ،‬وقوله تعالى {لول كتاب ‪ 4‬من ال سبق‬ ‫لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} أي لول أنه مضى علم ال تعالى بحلية الغنائم لهذه المة وكتب‬ ‫ذلك في اللوح المحفوظ لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {فكلو مما غنمتم ‪ 5‬حللً طيبا} إذن منه تعالى لهل بدر أن يأكلوا مما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية دلت يوم بدر عتابا من ال تعالى لصحاب نبيّه محمد صلى ال عليه وسلم إذ لم‬ ‫يثخنوا في قتل المشركين حتى يوجد منهم أسرى رغبوا في مفاداتهم منا بالمال‪.‬‬ ‫‪ 2‬الثخان في الشيء‪ :‬المبالغة فيه والكثار منه والمراد به هنا‪ :‬المبالغة في قتل المشركين حتى‬ ‫ل يبقى منهم أسير في ساحة المعركة‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى مسلم أن الني صلى ال عليه وسلم قال لبعض أصحابه ومن بينهم أبو بكر وعمر ( ما‬ ‫ترون في هؤلء السرى؟ فقال أبو بكر يا رسول ال هم بنو العم والعشيرة أرى أن يؤخذ منهم‬ ‫فدية فنكون لنا قوة على الكفار فعسى ال أن يهديهم للسلم فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال‪ .‬ل وال يا رسول ال ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن‬ ‫تمكنا فنضرب أعناقهم‪ ،‬فتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلن فأضرب عنقه فإن‬ ‫هؤلء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول ال صلى ال عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت‬ ‫فلما كان من الغد جئت وإذا رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان‪ ..‬إلى أن‬ ‫قال‪ :‬وأنزل ال عزّ وجلّ‪{ :‬ما كان لنبي} إلى قوله‪{ :‬حللً طييا}‪.‬‬ ‫‪ 4‬من ذلك أن ال تعالى ل يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذا الذن واقع بعد تخميس الغنيمة ل على إطلقه‪.‬‬

‫( ‪)2/329‬‬ ‫غنموا‪ ،‬وحتى ما فادوا به السرى وهي منة منه سبحانه وتعالى‪ ،‬وقوله تعالى {واتقوا ال} أمر‬ ‫منه عز وجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما‪ ،‬وقوله {إن ال غفور رحيم}‬ ‫إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده رحيم بالمؤمنين منهم‪ ،‬وتجلى ذلك في رفع العذاب‬ ‫عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه‪ .‬وفي الحديث‪" :‬لعل ال قد اطلع على أهل‬ ‫بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم"‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬

‫‪ -1‬إرشاد ال تعالى لقادة المة السلمية في الجهاد أن ل يفادوا السرى وأن ل يمنوا عليهما‬ ‫بإطلقهم إل بعد أن يخنثوا في أرض العدو قتلً وتشريدا فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم‬ ‫أن يفادوا السرى أو يمنوا عليهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها‪ ،‬والترغيب في الخرة لعظم أجرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬إباحة الغنائم‪.‬‬ ‫‪ 4‬ب وجوب تقوى ال تعالى بطاعته وطاعة رسوله في المر والنهي‪.‬‬ ‫ن الَسْرَى إِن َيعْلَمِ الّلهُ فِي قُلُو ِبكُمْ خَيْرًا ُيؤْ ِتكُمْ خَيْرًا ّممّا ُأخِذَ مِنكُمْ‬ ‫يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ قُل ّلمَن فِي أَ ْيدِيكُم مّ َ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ (‪ )70‬وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَ َتكَ َفقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَ ْبلُ فََأ ْمكَنَ مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ‬ ‫وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَالّلهُ َ‬ ‫حكِيمٌ(‪)71‬‬ ‫عَلِيمٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من السرى ‪ :‬أسرى بدر الذين أخذ منهم الفداء كالعباس بن عبد المطلب رضي ال عنه‪.‬‬ ‫إن يعلم ال في قلوبكم خيرا ‪ :‬أي إيمانا صادقا وإخلصا تاما‪.‬‬ ‫مما أخذ منكم ‪ :‬من مال الفداء‪.‬‬

‫( ‪)2/330‬‬ ‫وإن يريدوا خيانتك‪ :.‬أي السرى‪.‬‬ ‫فقد خانوا ال من قبل‪ :‬أي من قبل وقوعهم في السر وذلك بكفرهم في مكة‪.‬‬ ‫فأمكن منهم‪ :‬أي أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم‪.‬‬ ‫وال عليم حكيم ‪ :‬عليم بخلقه حكيم في صنعه وتدبيره‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫هذه الية الكريمة نزلت في العباس بن عبدالمطلب رضي ال عنه إذ كان يقول هذه الية نزلت‬ ‫في وذلك أنه بعد أن وقع في السر ‪ 1‬أسلم وأظهر إسلمه وطلب من الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم أن يرد عليه ما أخذ منه من فدية فأبى عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك فأنزل ال‬ ‫تعالى قوله {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من السرى إن يعلم ال في قلوبكم خيرا} أي إسلما‬ ‫حقيقيا {يؤتكم خيرا} أي مالً خيرا {مما أخذ منكم ‪ ،2‬ويغفر لكم} ذنوبكم التي كانت كفرا بال‬ ‫ورسوله‪ ،‬ثم حربا على ال ورسوله‪{ ،‬وال غفور} يغفر ذنوب عباده التائبين {رحيم} بعباده‬ ‫المؤمنين فل يؤاخذهم بعد التوبة عليها بل يرحمهم برحمته في الدنيا والخرة‪ .‬وقوله تعالى {وإن‬ ‫يريدوا ‪ 3‬خيانتك} أي وإن يُرد هؤلء السرى الذين أخذ منهم الفداء ونطقوا بالشهادتين مظهرين‬ ‫إسلمهم خيانتك والغدر بك بإظهار إسلمهم ثم إذا عادوا إلى ديارهم عادوا إلى كفرهم‪ ،‬فل تبال‬ ‫‪ 4‬بهم ول ترهب جانبهم فإنهم قد خانوا ال من قبل بكفرهم وشركهم {فأمكن منهم} المؤمنين‬

‫وجعلهم في قبضتهم وتحت إمْرَتِهم‪ ،‬ولو عادوا لعاد ال تعالى فسلطكم عليهم وأمكنكم منهم وقوله‬ ‫تعالى {وال عليم حكيم} أي عليم بنيات القوم وتحركاتهم حكيم فيما يحكم به عليهم أل فليتقوه عزّ‬ ‫وجل وليحسنوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أسره رضي ال عنه أبو اليسر كعب بن عمرو أخر بني سلمة‪ ،‬وكان رجلً قصيرا والعباس‬ ‫رضي ال عنه ضخما طويل فلما جاء به إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قال له‪" :‬لقد أعانك‬ ‫عليه ملك" وقال الرسول صلى ال عليه وسلم للعباس‪" :‬افد نفسك فقال‪ :‬لقد كنت مسلما يا رسول‬ ‫ال فقال له الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬وال أعلم بإسلمك فإن تكن كما تقول فال يجزيك‬ ‫بذلك‪ ،‬فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل وعقيل" ففعل وفيه نزلت هذه‬ ‫الية {يا أيها النبي قل‪ " ...‬الخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى مسلم أنه لما قدم على النبي صلى ال عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس إني‬ ‫فاديت نفسي وفاديت عقيل فقال له الرسول صلى ال عليه وسلم "خذ فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع‬ ‫أن يحمله‪ ،‬وقال‪ :‬هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر ال لي"‪.‬‬ ‫‪ 3‬في هذه الية تطمين لنفس الرسول صلى ال عليه وسلم وليبلغ مضمونه إلى السرى فيعلموا‬ ‫أنهم ل يغلبون ال ورسوله‪ .‬والخيانة ‪ :‬نقض العهد‪ ،‬وما في معنى العهد كالمانة ونحوها‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا هو جواب إن الشرطية المحذوف‪ ،‬وقد دلّ عليه؟ ‪{ :‬فقد خانوا ال من قبل}‪.‬‬

‫( ‪)2/331‬‬ ‫إسلمهم ويصدقوا في إيمانهم فذلك خير لهم‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل العباس عم رسول ال صلى ال عليه وسلم لنزول الية في حقه وشأنه‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل إضمار الخير والنيات الصالحة‪.‬‬ ‫‪ -3‬إطلق لفظ الخير على السلم والقرآن وحقا هما الخير والخير كله‪.‬‬ ‫‪ -4‬ماترك عبدٌ شيئا ل إل عوضه خيرا منه‪.‬‬ ‫‪ -5‬ال جل جلله‪ :‬ل يغلبه غالب ول يفوته هارب أل فليتق وليتوكل عليه‪.‬‬ ‫سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَو ْا وّ َنصَرُواْ ُأوْلَ ِئكَ‬ ‫إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَهَاجَرُو ْا وَجَاهَدُواْ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَنفُ ِ‬ ‫شيْءٍ حَتّى ُيهَاجِرُو ْا وَإِنِ‬ ‫ض وَالّذِينَ آمَنُو ْا وََلمْ ُيهَاجِرُواْ مَا َلكُم مّن َولَيَ ِتهِم مّن َ‬ ‫ضهُمْ َأوْلِيَاء َب ْع ٍ‬ ‫َب ْع ُ‬ ‫اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ َفعَلَ ْيكُمُ ال ّنصْرُ ِإلّ عَلَى َقوْمٍ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُم مّيثَاقٌ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ(‪)72‬‬ ‫ض َوفَسَادٌ كَبِيرٌ(‪ )73‬وَالّذِينَ آمَنُواْ‬ ‫ضهُمْ َأوْلِيَاء َب ْعضٍ ِإلّ َت ْفعَلُوهُ َتكُن فِتْ َنةٌ فِي الَرْ ِ‬ ‫وَالّذينَ َكفَرُواْ َب ْع ُ‬

‫حقّا ّلهُم ّمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ‬ ‫وَهَاجَرُو ْا وَجَا َهدُواْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَالّذِينَ آوَو ْا وّ َنصَرُواْ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ‬ ‫ضهُمْ‬ ‫كَرِيمٌ(‪ )74‬وَالّذِينَ آمَنُواْ مِن َب ْع ُد وَهَاجَرُو ْا وَجَاهَدُواْ َم َعكُمْ فَُأوْلَ ِئكَ مِنكُ ْم وَُأوْلُواْ الَرْحَامِ َب ْع ُ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪)75‬‬ ‫َأوْلَى بِ َب ْعضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬

‫( ‪)2/332‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آمنوا‪ :‬صدقوا ال ورسوله وآمنوا بلقاء ال وصدقوا بوعده ووعيده‪.‬‬ ‫وهاجروا ‪ :‬أي تركوا ديارهم والتحقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم بالمدينة المنورة‪.‬‬ ‫في سبيل ال‪ :‬أي من أجل أن يعبد ال ول يعبد معه غيره وهو السلم‪.‬‬ ‫آووا‪ :‬أي آووا المهاجرين فضموهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم‪.‬‬ ‫وإن استنصروكم‪ :‬أي طلبوا منكم نصرتهم على أعدائهم‪.‬‬ ‫ميثاق ‪ :‬عهد أي معاهدة سلم وعدم اعتداء‪.‬‬ ‫إلّ تفعلوه ‪ :‬أي إن لم توالوا المسلمين‪ ،‬وتقاطعوا الكافرين تكن فتنة ‪.1‬‬ ‫أولوا الرحام‪ :‬أي القارب من ذوي النسب‪.‬‬ ‫بعضهم أولى ببعض ‪ :‬في التوارث أي يرث بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بمناسبة انتهاء الحديث عن أحداث غزوة بدر الكبرى ذكر تعالى حال المؤمنين في تلك الفترة من‬ ‫الزمن وأنهم مختلفون في الكمال‪ ،‬فقال وقوله الحق {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم‬ ‫وأنفسهم} فهذا صنف‪ :‬جمع أهله بين اليمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس‪ ،‬والصنف الثاني في‬ ‫قوله تعالى {والذين آووا ونصروا ‪ }2‬أي آووا الرسول صلى ال عليه وسلم والمهاجرين في‬ ‫ديارهم ونصروهم‪ .‬فهذان صنفا المهاجرين والنصار وهما أكمل المؤمنين وأعلهم درجة‪،‬‬ ‫وسيذكرون في آخر السياق مرة أخرى ليذكر لهم جزاؤهم عند ربهم‪ ،‬وقوله تعالى فيهم {أولئك‬ ‫بعضهم أولياء بعض} أي في النصرة والموالة والتوارث إل أن التوارث نسخ بقوله تعالى في‬ ‫آخر آية من هذا السياق {وأولوا الرحام بعضهم أولى ببعض} والصنف الثالث من أصناف‬ ‫المؤمنين المذكور في قوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا} أي آمنوا بال ورسوله والدار‬ ‫الخرة ثم رضوا بالبقاء بين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬محنة الحرب وما يتبع ذلك من الغارات والجلء والسر‪ ،‬وما إلى ذلك من ويلت الحروب‪،‬‬ ‫والفساد الكبير‪ :‬هو ظهور الشرك‪.‬‬

‫‪ 2‬قوله‪{ :‬والذين آووا ونصروا} معطوف على اسم إنّ والخبر‪ :‬جملة {أولئك بعضهم أولياء‬ ‫بعض}‪.‬‬

‫( ‪)2/333‬‬ ‫ظهراني الكافرين فلم يهجروا ديارهم وأموالهم ويلتحقوا بدار الهجرة بالمدينة النبوية‪ ،‬فهؤلء‬ ‫الناقصون في إيمانهم بتركهم الهجرة‪ ،‬يقول تعالى فيهم لرسوله والمؤمنين {مالكم من وليتهم من‬ ‫شيء}‪ 1‬فل توارث ول موالة تقتضي النصرة والمحبة حتى يهاجروا إليكم ويلتحقوا بكم‪ ،‬ويستثني‬ ‫تعالى حالة خاصة لهم وهي أنهم إذا طلبوا نصرة المؤمنين في دينهم فإن على المؤمنين أن‬ ‫ينصروهم وبشرط أن ل يكون الذي اعتدى عليهم وآذاهم فطلبوا النصرة لجله أن ل يكون بينه‬ ‫وبين المؤمنين معاهدة سلم وترك الحرب ففي هذه الحال على المؤمنين أن يوفوا بعهدهم ول‬ ‫يغدروا فينصروا أولئك القاعدين عن الهجرة هذا ما دل عليه قوله تعالى { وإن استنصروكم في‬ ‫الدين فعليكم النصر إل على قوم بينكم وبينهم ميثاق وال بما تعملون بصير} ذيل الكلم بهذه‬ ‫الجملة لعلم المؤمنين الكاملين كالناقصين بأن ال مطلع على سلوكهم خبير بأعمالهم وأحوالهم‬ ‫فليراقبوه في ذلك حتى ل يخرجوا عن طاعته وقوله تعالى في الية (‪{ )73‬والذين كفروا بعضهم‬ ‫أولياء بعض}‪ 2‬يتناصرون ويتوارثون‪ .‬وبناء على هذا يقول تعالى {إل تفعلوه تكن فتنة في‬ ‫الرض وفساد كبير} أي إن ل تفعلوا ما أمرتم به من مولة المؤمنين محبة ونصرة وولء‪ ،‬ومن‬ ‫معاداة الكافرين بغضا وخذلنا لهم وحربا عليهم تكن فتنة عظيمة ل يقادر قدرها وفساد كبير ل‬ ‫يعرف مداه‪ ،‬والفتنة الشرك والفساد المعاصي وقوله تعالي في الية (‪{ )74‬والذين آمنوا وهاجروا‬ ‫وجاهدوا في سبيل ال والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا} هذا هو الصنف الول أعيد‬ ‫ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده فقال تعالى فيهم {أولئك هم المؤمنون حقا‬ ‫لهم مغفرة} أي لذنوبهم بسترها وعدم المؤاخذة عليها {ورزق كريم} أل وهو نعيم الجنة في جوار‬ ‫ربهم سبحانه وتعالى والصنف الرابع من أصناف المؤمنين ذكره تعالى بقوله {والذين آمنوا من‬ ‫بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الول‬ ‫والثاني‪ ،‬إذ الول والثاني فازوا بالسبق‪ ،‬وهؤلء جاءوا من بعدهم ولكن ليمانهم وهجرتهم‬ ‫وجهادهم ألحقهم ال تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الولية‪ :‬بكسر الواو وفتحها لغتان‪ ،‬وقرىء بهما معا وهي هنا بمعنى النسب والنصرة‪ ،‬وتكون‬ ‫الولية بالكسرة والفتح أيضا بمعنى المارة وفي الية دليل على أن المسلم ل يلي عقد نكاح أخته‬ ‫الكافرة لنعدام الموالة بينهما‪ ،‬والكافر ل يلي عقد نكاح أخته المسلمة‪.‬‬

‫‪ 2‬روى الترمذي أنّ النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه‪،‬‬ ‫إلّ تفعلوا تكن فتنة في الرض وفساد كبير قالها ثلثا) وقال الترمذي هو حديث غريب‪.‬‬

‫( ‪)2/334‬‬ ‫بالسابقين فقال {فأولئك منكم} وقوله تعالى {وأولوا ‪ 1‬الرحام بعضهم أولى ببعض} أي في الرث‬ ‫وبها نسخ التوارث بالهجرة والمعاقدة‪ ،‬واستقر الرث بالمصاهرة والولء‪ ،‬والنسب إلى يوم‬ ‫القيامة‪ ،‬وقوله تعالى {في كتاب ال} أي في حكمه وقضائه المدون في اللوح المحفوظ‪ ،‬وقوله {إن‬ ‫ال بكل شيء عليم} هذه الجملة تحمل الوعد والوعيد الوعد لهل اليمان والطاعة‪ ،‬والوعيد لهل‬ ‫الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان تفاوت المؤمنين في كمالتهم وعلو درجاتهم عند ربهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين اليمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون‬ ‫الولون والذين جمعوا بين اليمان واليواء والنصرة والجهاد وهم النصار‪.‬‬ ‫‪ -3‬دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا ولكن بعد صلح الحدبيبة‪.‬‬ ‫‪ -4‬وأدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلء على خطر عظيم‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب نصرة المؤمنين بموالتهم ومحبتهم ووجوب معاداة الكافرين وخذلنهم وبغضهم‪.‬‬ ‫‪ -6‬نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولء‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أولوا‪ :‬واحدها ذو‪ ،‬والرحم مؤنثة والجمع أرحام وهي مقر الولد في البطن والمراد بأولي‬ ‫الرحام هنا‪ :‬العصبات كالباء والبناء والخوة والعمام وأصحاب الفروض وهم الجد والب‬ ‫والم والبنت والخت والزوجة يشهد لهذا قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ألحقوا الفرائض بأهلها فما‬ ‫بقي فلولي رجل ذكر" أما أولوا الرحام المختلف في إرثهم فهم‪ :‬أولد البنات وأولد الخوات‬ ‫وبنات الخ‪ ،‬والعمة والخالة والعم أخو الب لم والجد أبر الم والجدة أم الم‪ .‬هذا ومن أهل العلم‬ ‫كابن كثير وغيره من أبقى اللفظ على ظاهره فجعل المراد من أولي الرحام‪ :‬القرابة الناشئة عن‬ ‫المومة على خلف ما قدّمناه عن القرطبي من أنّ المراد بأولي الرحام العصبات دون المولودين‬ ‫بالرحم‪ ،‬وعلى رأي ابن كثير أن الية ليست واردة في التوارث كما هو رأي مالك وإنما هي في‬ ‫الموالة والنصرة‪.‬‬

‫( ‪)2/335‬‬

‫سورة التوبة‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة التوبة‬ ‫مدنية‬ ‫وآياتها مائة وثلثون آية‬ ‫بَرَاءةٌ مّنَ الّل ِه وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ(‪)1‬‬

‫( ‪)2/335‬‬ ‫شهُ ٍر وَاعَْلمُواْ أَ ّنكُمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ ُمخْزِي ا ْلكَافِرِينَ(‪)2‬‬ ‫فَسِيحُواْ فِي الَ ْرضِ أَرْ َبعَةَ أَ ْ‬ ‫ن وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْ ُتمْ‬ ‫لكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِي َ‬ ‫وَأَذَانٌ مّنَ الّل ِه وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ َيوْمَ الْحَجّ ا َ‬ ‫َف ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَإِن َتوَلّيْ ُتمْ فَاعَْلمُواْ أَ ّنكُمْ غَيْرُ ُمعْجِزِي اللّ ِه وَبَشّرِ الّذِينَ َكفَرُواْ ِبعَذَابٍ َألِيمٍ(‪ِ )3‬إلّ الّذِينَ‬ ‫ع ْهدَهُمْ إِلَى ُمدّ ِتهِمْ‬ ‫حدًا فَأَ ِتمّواْ إِلَ ْيهِمْ َ‬ ‫عَاهَدتّم مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ُثمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وََلمْ يُظَاهِرُواْ عَلَ ْي ُكمْ أَ َ‬ ‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ(‪)4‬‬ ‫إِنّ الّلهَ يُ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫براءة ‪ : 1‬أي هذه براءة بمعنى تبرؤ وتباعد وتخلص‪.‬‬ ‫عاهدتم‪ :‬أي جعلتم بينكم وبينهم عهدا وميثاقا‪.‬‬ ‫فسيحوا في الرض ‪ : 2‬أي سيروا في الرض طالبين لكم الخلص‪.‬‬ ‫مخزي الكافرين ‪ :‬مذل الكافرين ومهينهم‪.‬‬ ‫وأذان من ال ‪ :‬إعلم منه تعالى‪.‬‬ ‫يوم الحج الكبر‪ :‬أي يوم عيد النحر‪.‬‬ ‫لم ينقصوكم شيئا ‪ :‬أي من شروط المعاهدة وبنود التفاقية‪.‬‬ ‫ولم يظاهروا عليكم أحدا ‪ :‬أي لم يعينوا عليكم أحدا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يقال‪ :‬برئت من الشيء ابرأ براءة فأنا بريء منه إذا أزلته عن نفسي وقطعت سبب ما بيني‬ ‫وبينه‪ .‬وبراءة هنا‪ :‬مبتدأ‪ ،‬وجوّز البتداء به وهو نكرة‪ :‬الوصف‪ .‬والخبر {إلى الذين} ويصح أن‬ ‫تكون براءة خبر‪ ،‬والمبتدأ محذوف تقديره‪ :‬هذه براءة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي قل لهم‪ :‬سيحوا في الرض أي‪ :‬سيروا في الرض آمنين غير خائفين‪ ،‬يقال‪ :‬ساح يسيح‬ ‫سياحة‪ ،‬وسيوحا وسيحانا ومنه السّيح في الماء الجاري المنبسط‪.‬‬

‫( ‪)2/336‬‬ ‫معنى اليات‪:.‬‬ ‫هذه السورة القرآنية الوحيدة التي خلت ‪ 1‬من البسملة لنها مفتتحة بآيات عذاب فتنافى معها ذكر‬ ‫الرحمة‪ ،‬وهذه السورة من آخر ما نزل من سور القرآن الكريم وقد بعث رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم عليا وبعض الصحابة في حج سنة تسع يقرأون هذه اليات في الموسم‪ ،‬وهي تعلم‬ ‫المشركين أن من كان له عهد مطلق بل حد شهر أو سنة مثلً أو كان له عهد دون أربعة أشهر‪،‬‬ ‫أو كان له عهد فوق أربعة أشهر ونقضه ُتعِْل ُمهُم بأن عليهم أن يسيحوا في الرض بأمان كامل مدة‬ ‫أربعة أشهر فإن أسلموا فهو خير لهم وإن خرجوا من الجزيرة فإن لهم ذلك وإن بقوا كافرين‬ ‫فسوف يؤخذون ويقتلون حيثما وجدوا في ديار الجزيرة التي أصبحت دار إسلم بفتح مكة ودخول‬ ‫أهل الطائف في السلم هذا معنى قوله تعالى {براءة من ال ورسوله} أي واصلة {إلى الذين‬ ‫عاهدتم ‪ 2‬من المشركين فسيحوا في الرض أربعة أشهر} تبدأ من يوم العلن عن ذلك وهو يوم‬ ‫العيد عيد الضحى‪ .‬وقوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي ال } أي غير فائتيه ول هاربين من‬ ‫قهره وسلطانه عليكم هذا أولً‪ ،‬وثانيا (وأن ال مخزي الكافرين} أي مذلهم وقوله تعالى {وأذان من‬ ‫ال ورسوله } أي محمد صلى ال عليه وسلم والذان العلن والعلم‪{ ،‬إلى الناس} وهم‬ ‫المشركون {يوم الحج ‪ 3‬الكبر ‪ }4‬أي يوم عيد الضحى حيث تفرّغ الحجاج للقامة بمنى للراحة‬ ‫والستجمام قبل العودة إلى ديارهم‪ ،‬وصورة العلن عن تلك البراءة هي قوله تعالى‪{ ،‬أن ال‬ ‫بريء ‪ 5‬من المشركين ورسوله} أي كذلك بريء من المشركين وعليه {فإن تبتم} أيها المشركون‬ ‫إلى ال تعالى بتوحيده واليمان برسوله وطاعته وطاعة رسوله {فهو خير لكم} من الصرار على‬ ‫الشرك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬سألت عليا رضي ال عنه‪ِ :‬لمَ َلمْ يكتب في براءة‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم قال‪ :‬لن بسم ال الرحمن الرحيم أمان‪ ،‬وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها‬ ‫أمان‪ .‬هذا أحد خمسة أوجه في عدم كتابة البسملة في براءة وهو أوجهها‪ ،‬وهو ما ذكرناه في‬ ‫التفسير‪.‬‬ ‫‪ 2‬نسبت المعاهدة إلى المؤمنين كافة‪ ،‬والمعاهد هو الرسول صلى ال عليه وسلم لنه المتولي لها‬ ‫ولسائر العقود‪ .‬وكان رضاهم لها واجبا عليهم فلذا نسبت إليهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬وقيل إنه يوم عرفة‪ ،‬والصحيح ما ذكرناه في التفسير وأنه يوم النحر لحديث ابن عمر عن أبي‬ ‫ج فيها فقال‪ :‬أي يوم‬ ‫داود إذ قال‪" :‬وقف النبي صلى ال عليه وسلم يوم النحر في الحجة التي ح ّ‬ ‫هذا؟ فقالوا‪ :‬يوم النحر فقال‪ :‬هذا يوم الحج الكبر"‪.‬‬

‫‪ 4‬اختلف في العلة في تسمية الحج بالكبر‪ ،‬وأحسن القوال أنه قيل فيه الكبر‪ :‬لنه حج حضره‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم وحضرت فيه أمة السلم التي وجدت في تلك السنة فحجّ أكبر عدد‬ ‫في ذلك العام‪.‬‬ ‫‪ 5‬قالت العلماء‪ :‬في الية بيان جواز تطع المعاهدة بين المسلمين والكافرين لحد أمرين‪ :‬الول‪:‬‬ ‫أن تنقضي المدة المعاهد عليها فنعلمهم بانقضائها وبالحرب عليهم‪ .‬والثاني‪ :‬أن نخاف غدرهم‬ ‫لظهور علمات تدلّ عليه‪.‬‬

‫( ‪)2/337‬‬ ‫والكفر والعصيان‪{ ،‬وإن توليتم} أي أعرضتم عن اليمان والطاعة {فاعلموا أنكم غير معجزي‬ ‫ال} بحال من الحوال فلن تفوتوه ولن تهربوا من سلطانه فإن ال تعالى ل يغلبه غالب‪ ،‬ول يفوته‬ ‫هارب ثم قال تعالى لرسوله {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي أخبرهم به فإنه واقع بهم ل محالة‬ ‫إل أن يتوبوا وقوله تعالى في الية الرابعة (‪{ )4‬إل الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم}‬ ‫من شروط المعاهدة {شيئا ولم يظاهروا} أي لم يعاونوا {عليكم أحدا} ل برجال ول بسلح ول‬ ‫حتى بمشورة ورأي فهؤلء لم يبرأ ال تعالى منهم ول رسوله‪ ،‬وعليه {فأتموا إليهم عهدهم ‪ 1‬إلى‬ ‫مدتهم} أي مدة أجلهم المحدد بزمن معين فوفوا لهم ول تنقضوا لهم عهدا إلى أن ينقضوه هم‬ ‫بأنفسهم‪ ،‬أو تنتهي مدتهم وحينئذ إما السلم وإما السيف إذ لم يبق مجال لبقاء الشرك في دار‬ ‫السلم وقبته‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين‪،‬‬ ‫أو جلب نفع للسلم والمسلمين محققا كذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬تحريم الغدر والخيانة‪ ،‬ولذا كان إلغاء المعاهدات علنيا وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون‬ ‫في أمرهم ويطلبون الصلح لهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الجال إلى أجلها إل أن ينقضها المعاهدون‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل التقوى وأهلها وهو اتقاء سخط ال بفعل المحبوب له تعالى وترك المكروه‪.‬‬ ‫حصُرُوهُ ْم وَا ْقعُدُواْ َلهُمْ ُكلّ‬ ‫ث وَجَدّتمُوهُمْ وَخُذُو ُه ْم وَا ْ‬ ‫شهُرُ ا ْلحُرُمُ فَاقْتُلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْي ُ‬ ‫خ الَ ْ‬ ‫فَإِذَا انسَلَ َ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪)5‬‬ ‫ل َة وَآ َتوُاْ ال ّزكَاةَ َفخَلّواْ سَبِيَلهُمْ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫مَ ْرصَدٍ فَإِن تَابُو ْا وََأقَامُواْ الصّ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية إشارة أن هناك من خاس بعهده أي ‪ :‬نقضه ‪ ،‬ومنهم من ثبت عليه‪.‬‬

‫( ‪)2/338‬‬ ‫لمَ اللّهِ ُثمّ أَبِْلغْهُ مَ ْأمَنَهُ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْ ٌم لّ‬ ‫سمَعَ كَ َ‬ ‫حدٌ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْتَجَا َركَ فَأَجِ ْرهُ حَتّى يَ ْ‬ ‫وَإِنْ أَ َ‬ ‫جدِ الْحَرَامِ‬ ‫ع ْهدٌ عِندَ اللّ ِه وَعِندَ َرسُولِهِ ِإلّ الّذِينَ عَاهَدتّمْ عِندَ ا ْلمَسْ ِ‬ ‫َيعَْلمُونَ(‪ )6‬كَ ْيفَ َيكُونُ لِ ْلمُشْ ِركِينَ َ‬ ‫ظهَرُوا عَلَ ْيكُ ْم لَ يَ ْرقُبُواْ فِيكُمْ ِإلّ‬ ‫ف وَإِن يَ ْ‬ ‫حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ(‪)7‬كَ ْي َ‬ ‫َفمَا اسْ َتقَامُواْ َل ُكمْ فَاسْ َتقِيمُواْ َل ُهمْ إِنّ الّلهَ يُ ِ‬ ‫سقُونَ‬ ‫وَلَ ِذمّةً يُ ْرضُو َنكُم بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَتَأْبَى قُلُو ُبهُمْ وََأكْثَرُهُمْ فَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فإذا انسلخ الشهر ‪ 1‬الحرم ‪ :‬انقضت وخرجت الشهر الربعة التي أمنتم فيها المشركين‪.‬‬ ‫حيث وجدتموهم‪ :‬أي في أي مكان لقيتموهم في الحل أو الحرم‪.‬‬ ‫وخذوهم ‪ :‬أي أسرى‪.‬‬ ‫وأحصروهم ‪ :‬أي حاصروهم حتى يسلموا أنفسهم‪.‬‬ ‫واقعدوا لهم كل مرصد ‪ :2‬أي اقعدوا لهم في طرقاتهم وارصدوا تحركاتهم‪.‬‬ ‫فإن تابوا ‪ :‬أي آمنوا بال ورسوله‪.‬‬ ‫فخلوا سبيلهم ‪ :‬أي اتركوهم فل حصار ول مطاردة ول قتال‪.‬‬ ‫استجارك‪ :‬أي طلب جوارك أي حمايتك‪.‬‬ ‫مأمنه ‪ :‬أي المكان الذي يأمن فيه‪.‬‬ ‫فما استقاموا لكم ‪ :‬أي لم ينقضوا عهدهم ولم يخلوا بالتفاقية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬انسلخ‪ :‬مطاوع سلخ‪ ،‬وهو مأخوذ من سلخ الجلد‪ :‬إذا أزاله عن لحم الحيوان‪.‬‬ ‫‪ 2‬المرصد‪ :‬مكان الرصد والرصد‪ :‬المراقبة وتتبع النظر‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫ولقد علمت وما إخالك ناسيا ‪...‬‬ ‫أن المنيّة للفتى بالمرصد‬

‫( ‪)2/339‬‬ ‫وإن يظهروا عليكم ‪ :‬أي يغلبوكم‪.‬‬ ‫ل يرقبوا فيكم ‪ :‬أي ل يراعوا فيكم ول يحترموا‪.‬‬ ‫إلّ ول ذمة ‪ :‬أي ل قرابة‪ ،‬ول عهدا فاللّ‪ :‬القرابة والذمة‪ :‬العهد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في إعلن الحرب العامة على المشركين تطهيرا لرض الجزيرة التي هي دار‬

‫السلم وحوزته من بقايا الشرك والمشركين‪ ،‬فقال تعالى لرسوله والمؤمنين {فإذا انسلخ الشهر‬ ‫الحرم ‪ }1‬أي إذا انقضت وخرجت الشهر الحرم التي أمنتم فيها المشركين الذين ل عهد لهم أو‬ ‫لهم عهد ولكن دون أربعة أشهر أو فوقها وبدون حد محدود {فاقتلوا المشركين ‪ 2‬حيث وجدتموهم}‬ ‫في الحل والحرم سواء {وخذوهم} أسرى {واحصروهم} حتى يستسلموا‪{ ،‬واقعدوا لهم كل مرصد}‬ ‫أي سدوا عليهم الطرق حتى يقدموا أنفسهم مسلمين أو مستسلمين وقوله تعالى {فإن تابوا} أي من‬ ‫الشرك وحربكم {وأقاموا الصلة ‪ 3‬وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ‪ }4‬إذ أصبحوا مسلمين مثلكم‪ .‬وقوله‬ ‫{إن ال غفور رحيم} أي أن ال سيغفر لهم ويرحمهم بعد إسلمهم‪ ،‬لنه تعالى غفور رحيم‪ ،‬هذا‬ ‫ما دلت عليه الية الولى (‪ )5‬أما الية الثانية (‪ )6‬فقد أمر تعالى رسوله أن يجير من طلب‬ ‫جواره من المشركين حتى يسمع كلم ال منه صلى ال عليه وسلم ويتفهم دعوة السلم ثم هو‬ ‫بالخيار إن شاء أسلم وذلك خير له وإن لم يسلم رده ‪ 5‬رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى مكان‬ ‫يأمن فيه من المسلمين أن يقتلوه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ليس المراد بالشهر الحرم الثلثة السرد‪ ،‬والواحد الفرد التي هي القعدة والحجة والمحرم‬ ‫ورجب بل المراد منها ما هو مبين في التفسير ومعنى كونها حرما أنه يحرم قتال المشركين فيها‬ ‫والتعرض لهم بالسوء والذى‪.‬‬ ‫‪ 2‬لفظ المشركين عام في كل مشرك وهو مخصوص بالسنة إذ نهى رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم عن قتل المرأة والصبي والراهب‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده حديث الصحاح‪" :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول‬ ‫ال ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها وحسابهم‬ ‫على ال" وقال أبو بكر‪" :‬وال لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة فإن الزكاة حق المال"‪.‬‬ ‫‪ 4‬مالك والشافعي وأحمد على أن تارك الصلة استحللً لها أو غير استحلل يؤخر إلى أن يبقى‬ ‫من الوقت الضروري قدر ما يصلي ركعة قبل خروج الوقت ويقتل‪ ،‬وأبو حنيفة والظاهرية‬ ‫يقولون‪ :‬يسجن ويضرب حتى يصلي ول يقتل‪.‬‬ ‫‪ 5‬إمام المسلمين هو الذي يتولى أمر التأمين لمن طلب ذلك من المشركين إذ هو نائب عن سائر‬ ‫المسلمين‪ ،‬ويجوز للمسلم ذكرا كان أو أنثى أن يؤمن شخصا ما لما له من حرمة لقول الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم ‪" :‬المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد واحدة على من‬ ‫سواهم"‪ .‬وخالف بعضهم في المرأة فقالوا‪ :‬لبد من موافقة المام لها على تأمينها وخالف أبو‬ ‫حنيفة في العبد‪.‬‬

‫( ‪)2/340‬‬

‫وهو معنى قوله تعالى {وإن أحد من ‪ 1‬المشركين استجارك فأجره حتى يسمع ‪ 2‬كلم ال‪ ،‬ثم أبلغه‬ ‫مأمنه‪ ،‬ذلك بأنهم قوم ل يعلمون} فلذا قبل منهم ما طلبوه من الجوار حتى يسمعوا كلم ال تعالى‬ ‫إذ لو علموا ما رغبوا عن التوحيد إلى الشرك‪ .‬وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )7‬كيف ‪ 3‬يكون‬ ‫للمشركين عهد عند ال وعند رسوله} هذا الستفهام للنفي مع التعجب أي ليس لهم عهد أبدا وهم‬ ‫كافرون غادرون‪ ،‬وقوله تعالى {إل الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا‬ ‫لهم إن ال يحب المتقين} هؤلء بعض بني بكر بن كنانة عاهدهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫عام صلح الحديبية وهم عند الحرم فهؤلء لهم عهد وذمة ما استقاموا على عهدهم فلم ينقضوه‪.‬‬ ‫فإن استقاموا استقام لهم المسلمون ولم يقتلوهم وفاء بعهدهم وتقوى ل تعالى لنه تعالى يكره الغدر‬ ‫ل ول ذمة} الستفهام‬ ‫ويحب المتقين لذلك‪ .‬وقوله تعالى {كيف وإن يظهروا عليكم ل يرقبوا فيكم إ ّ‬ ‫للتعجب أي كيف يكون للمشركين عهد يفون به لكم وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم في معركة‪،‬‬ ‫{ل يرقبوا فيكم} أي ل يراعوا ال تعالى ول القرابة ول الذمة بل يقتلوكم قتلً ذريعا‪ ،‬وقوله تعالى‬ ‫{يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} إخبار من ال تعالى عن أولئك المشركين الناكثين للعهد‬ ‫الغادرين بأنهم يحاولون إرضاء المؤمنين بالكذب بأفواههم‪ ،‬وقلوبهم الكافرة تأبى ذلك الذي يقولون‬ ‫بألسنتهم أي فل تعتقده ول تقره‪{ ،‬وأكثرهم فاسقون} ل يعرفون الطاعة ول اللتزام ل بعهد ول‬ ‫دين‪ ،‬والجملة فيها تهييج للمسلمين على قتال المشركين ومحاصرتهم وأخذهم تطهيرا لرض‬ ‫الجزيرة منهم قبل وفاة الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الوفاء بالعهود ما لم ينقضها المعاهدون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أحد‪ ،‬مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده والتقدير‪ :‬وإن استجارك أحد المشركين فأجره‪.‬‬ ‫‪ 2‬الية دليل على أن ما يسمع من صوت القارىء للقرآن هو كلم ال تعالى فيقول العبد‪ :‬سمعت‬ ‫كلم ال حقا وصدقا‪.‬‬ ‫‪{ 3‬كيف يكون} الخ كيف‪ :‬للتعجب نحو قولك‪ :‬كيف يسبقني فلن؟! في الية إضمار كلمة غدر‬ ‫أي كيف يكون لهم عهد مع إضمارهم الغدر بكم‪.‬‬

‫( ‪)2/341‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ الحزم في القتال والضرب بشدة‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب تطهير الجزيرة من كل شرك وكفر لنها دار السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬إقام الصلة شرط في صحة اليمان فمن تركها فهو كافر غير مؤمن‪.‬‬

‫‪ -5‬احترام الجوار‪ ،‬والقرار به‪ ،‬وتأمين السفراء والممثلين لدولة كافرة‪.‬‬ ‫‪ -6‬قبول طلب كل من طلب من الكافرين الذن له بدخول بلد السلم ليتعلم الدين السلمي‪.‬‬ ‫‪ -7‬القرآن كلم ال تعالى حقا بحروفه ومعانيه لقوله {حتى يسمع كلم ال} الذي يتلوه عليه صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -8‬وجوب مراقبة ال تعالى ومراعاة القرابة واحترام العهود‪.‬‬ ‫اشْتَ َروْاْ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلً َفصَدّواْ عَن سَبِيِلهِ إِ ّنهُمْ سَاء مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪ )9‬لَ يَ ْرقُبُونَ فِي ُم ْؤمِنٍ‬ ‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ‬ ‫ل َة وَآ َتوُاْ ال ّزكَاةَ فَِإ ْ‬ ‫ل وَلَ ِذمّ ًة وَُأوْلَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمعْتَدُونَ(‪ )10‬فَإِن تَابُو ْا وََأقَامُواْ الصّ َ‬ ‫ِإ ّ‬ ‫طعَنُواْ فِي دِي ِنكُمْ َفقَاتِلُواْ أَ ِئمّةَ‬ ‫عهْدِ ِه ْم وَ َ‬ ‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ(‪ )11‬وَإِن ّنكَثُواْ أَ ْيمَا َنهُم مّن َب ْعدِ َ‬ ‫وَنُ َف ّ‬ ‫ا ْل ُكفْرِ إِ ّن ُه ْم لَ أَ ْيمَانَ َلهُمْ َلعَّلهُمْ يَن َتهُونَ (‪)12‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫اشتروا بآيات ال ‪ : 1‬أي باعوا آيات ال وأخذوا بدلها الكفر‪.‬‬ ‫فصدوا عن سبيله ‪ :‬أي أعرضوا عن سبيل ال التي هي السلم كما صدوا غيرهم أيضا ‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أنهم نقضوا عهدهم من أجل أكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان ومالٍ صرفه لهم ليقفوا معه‬ ‫ضد الرسول صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪.‬‬

‫( ‪)2/342‬‬ ‫ساء ‪ :‬أي قبح‪.‬‬ ‫ل يرقبون‪ :‬أي ل يراعون‪.‬‬ ‫إلً‪ :‬الل‪ :‬ال‪ ،‬والقرابة والعهد وكلها صالحة هنا‪.‬‬ ‫فإن تابوا‪ :‬أي من الشرك والمحاربة‪.‬‬ ‫نكثوا ‪ :‬أي نقضوا وغدروا‪.‬‬ ‫وطعنوا في دينكم ‪ : 1‬أي انتقدوا السلم في عقائده أو عاداته ومعاملته‪.‬‬ ‫أئمة الكفر ‪ :‬أي رؤساء الكفر المتبعين والمقلدين في الشرك والشر والفساد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن المشركين‪ ،‬وبيان ما يلزم اتخاذه حيالهم فأخبر تعالى عنهم بقوله‬ ‫في الية (‪{ )9‬اشتروا بآيات ال ثمنا قليلً} أي باعوا اليمان بالكفر فصدوا أنفسهم كما صدوا‬ ‫غيرهم من أتباعهم عن السلم الذي هو منهج حياتهم وطريق سعادتهم وكمالهم‪ .‬فلذا قال تعالى‬ ‫مُقبحا سلوكهم {إنهم ساء ما كانوا يعملون} كما أخبر تعالى عنهم بأنهم ل يراعون في أي مؤمن‬ ‫يتمكنون منه ال عز وجل ول قرابة بينه وبينهم‪ ،‬ول معاهدة تربطهم مع قومه‪ ،‬فقال تعالى {ل‬

‫يرقبون في مؤمن إلً ول ذمة‪ ،‬وأولئك هم المعتدون} ووصفه تعالى إياهم بالعتداء دال على أنهم‬ ‫ل يحترمون عهودا ول يتقون ال تعالى في شيء‪ ،‬وذلك لظلمة نفوسهم من جراء الكفر‬ ‫والعصيان‪ ،‬فلذا على المسلمين قتلهم حيث وجدوهم وأخذهم أسرى وحصارهم وسد الطرق عنهم‬ ‫حتى يلقوا السلح ويسلموا ل‪ ،‬أو يستسلموا للمؤمنين اللهم إل أن يتوبوا باليمان والدخول في‬ ‫السلم كما قال تعالى {فإن ‪ 2‬تابوا وأقاموا الصلة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} وقوله تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الطعن في الدين هو‪ :‬استنقاصه‪ ،‬وأصل الطعن‪ :‬الضرب في الجسم بالرمح لفساده‪ ،‬واستعمل‬ ‫في النتقاص للشخص والدين لفساده‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لما طُعن في إمارة‬ ‫أسامة لصغر سنه‪" :‬إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل‪ ،‬وأيم ال إن كان‬ ‫لخليقا للمارة" في الصحيح والطاعنون‪ :‬المنافقون‪ ،‬واستدل بهذه الية على كفر من طعن في‬ ‫الدين‪ ،‬ووجوب قتله وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد‪ ،‬وأنّ الذمي إذا طعن في الدين انتقضَ‬ ‫عهده ووجب قتله هذا مذهب الجمهور‪ ،‬وأبو حنيفة يرى استتابته فإن تاب وإلّ قُتل‪.‬‬ ‫‪ 2‬من فرّق بين ثلثة فرّق ال بينه وبين رحمته يوم القيامة‪ .‬من قال أطيع ال ول أطيع الرسول‬ ‫فإن ال تعالى قال‪{ :‬أطيعوا ال وأطيعوا الرسول} ومن قال‪ :‬أقيم الصلة ول أوتي الزكاة وال‬ ‫يقول‪{ :‬أقيموا الصلة وآتوا الزكاة} ومن قال‪ :‬أشكر ال ول أشكر لوالدي فإن ال قال‪{ :‬أن اشكر‬ ‫لي ولوالديك}‪.‬‬

‫( ‪)2/343‬‬ ‫{ونفصل ليات لقوم يعلمون} أي نبين !اليات القرآنية المشتملة على الحجج والبراهين على‬ ‫توحيد ال تعالى وتقرير نبوة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعلى الحكام الشرعية في الحرب‬ ‫والسلم كما في هذا السياق وقوله {لقوم يعلمون} لن الذين ل يعلمون من أهل الجهالت ل ينتفعون‬ ‫بها لظلمة نفوسهم وفساد عقولهم بضلل الشرك والهواء وقوله تعالى في الية الرابعة (‪)12‬‬ ‫{وإن نكثوا أيمانهم ‪ 1‬من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم} يريد تعالى أولئك المعاهدين من المشركين‬ ‫إذ هم نكثوا أيمانهم التي أكدوا بها عهودهم فحلوا ما أبرموا ونقضوا ما أحكموا من عهد وميثاق‬ ‫وعابوا السلم وطعنوا فيه فهم إذا أئمة الكفر ورؤساء الكافرين فقاتلوهم بل هوادة‪ ،‬ول تراعوا‬ ‫لهم أيمانا حلفوها لكم فإنهم ل أيمان لهم‪ .‬قاتلوهم رجاء أن ينتهوا من الكفر والخيانة والغدر‬ ‫فيوحدوا ويسلموا ويصبحوا ‪ 2‬مثلكم أولياء ال ل أعداءه‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ذم سلوك الكافرين وتصرفاتهم في الحياة وحسبهم أن باعوا الحق س بالباطل‪ ،‬واشتروا‬

‫الضللة بالهدى‪.‬‬ ‫‪ -2‬من كان العتداء وصفا له ل يُؤمن على شيء‪ ،‬ول يوثق فيه في شيء‪ ،‬لفساد ملكته النفسية‪.‬‬ ‫‪ -3‬أخوة السلم تثبت بثلثة أمور التوحيد وإقام الصلة وإيتاء الزكاة ‪.3‬‬ ‫‪ -4‬الطعن في الدين ردة وكفر موجب للقتل والقتال‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النكث‪ :‬النقض وأصله في كل ما فتل أو أبرم ثم حل‪ ،‬واستعملت في اليمان والعهود‪ ،‬قال‬ ‫الشاعر‪:‬‬ ‫وإن حلفت ل ينقض النأي عهدها‬ ‫فليس لمخضوب البنان يمين‬ ‫‪ 2‬نعم ما مات رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلّ ثلثة‪ ،‬ولم يبق من المنافقين‬ ‫إل أربعة‪ :‬روى البخاري عن زيد بن وهب قال‪ :‬كنا عند حذيفة فقال‪ :‬ما بقي من أصحاب هذه‬ ‫الية يعني‪{ :‬فقاتلوا أئمة الكفر‪ }..‬إل ثلثة ول يبقى من ا المناقفين إل أربعة فقال أعرابي‪ :‬إنكم‬ ‫أصحاب محمد تخبرون أخبارا ل ندري ما هي؟ تزعمون إلّ منافق إلّ أربعة‪ ،‬فما بال هؤلء‬ ‫الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلفنا‪ -‬نفائس أموالنا‪ -‬قال حذيفة رضي ال عنه‪ :‬أولئك الفساق‪،‬‬ ‫أجل لم يبق منهم إل أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده‪ ،‬أي‪ :‬لذهاب‬ ‫شهوته وفساد معدته‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما هذه الية حرّمت دماء أهل القبلة يعني قوله تعالى {فإن تابوا‬ ‫وأقاموا الصلة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}‪.‬‬

‫( ‪)2/344‬‬ ‫حقّ‬ ‫شوْ َنهُمْ فَالّلهُ أَ َ‬ ‫ل وَهُم بَ َدؤُوكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ أَ َتخْ َ‬ ‫َألَ ُتقَاتِلُونَ َق ْومًا ّنكَثُواْ أَ ْيمَا َنهُمْ وَ َهمّواْ بِِإخْرَاجِ الرّسُو ِ‬ ‫شفِ‬ ‫ش ْوهُ إِن كُنتُم ّم ُؤمِنِينَ(‪ )13‬قَاتِلُو ُهمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَ ْيدِيكُ ْم وَيُخْزِ ِه ْم وَيَنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِ ْم وَيَ ْ‬ ‫خَ‬ ‫أَن تَ ْ‬ ‫حكِيمٌ(‪ )15‬أَمْ‬ ‫صُدُورَ َقوْمٍ ّم ْؤمِنِينَ(‪ )14‬وَيُ ْذ ِهبْ غَ ْيظَ قُلُو ِبهِ ْم وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬ ‫حسِبْتُمْ أَن تُتْ َركُو ْا وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُ ْم وَلَمْ يَتّخِذُواْ مِن دُونِ اللّ ِه َولَ رَسُولِ ِه َولَ‬ ‫َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَلِيجَ ًة وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ(‪)16‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أل‪ : :‬أداة تحضيض‪.‬‬ ‫نكثوا أيمانهم ‪ :‬نقضوها وحلوها فلم يلتزموا بها‪.‬‬ ‫هموا بإخراج الرسول ‪ :‬من دار الندوة إذ عزموا على واحدة من ثلث الحبس أو النفي أو القتل‪.‬‬ ‫أول مرة ‪ :‬أي في بدر أو في ماء الهجير ‪ 1‬حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة‪.‬‬

‫ويخزهم‪ :‬أي يذلهم ويهينهم‪.‬‬ ‫ويشف صدور‪ :‬أي يذهب الغيظ الذي كان بها على المشركين الظالمين‪.‬‬ ‫ان تتركوا‪ :‬أي بدون امتحان بالتكاليف كالجهاد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حوض من ماء واسع كبير يسقون منه تقاتلت عنده خزاعة حلفاء النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫وبنو بكر حلفاء قريش وأعانت قريش حلفاءها بني بكر وبذلك نقضت عهدها مع رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪ ،‬وفي هذا يقول الخزاعي وافد الرسول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬ ‫إن قريشا أخلفوك الموعدا ‪ ...‬ونقضوا ميثاقك المؤكدا‬ ‫هم بيّتونا بالهجيرهجّدا ‪...‬‬ ‫وقتلونا ركعا وسجدا‬

‫( ‪)2/345‬‬ ‫وليجه ‪ :‬أي دخيله وهي الرجل يدخل في القوم وهو ليس منهم ويطلعونه على أسرارهم وبواطن‬ ‫أمورهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن المشركين وما يلزم إزاءهم من إجراءات فإنه بعد أن أعطاهم المدة‬ ‫المذكورة وأمنهم فيها وهى أربعة أشهر‪ ،‬وقد انسلخت فلم يبق إل قتالهم وأخذهم وإنهاء عصبة‬ ‫المشركين وآثارها في ديار ال فقال تعالى حاضا المؤمنين مهيجا لهم {أل تقاتلون قوما نكثوا‬ ‫أيمانهم} وهذه خطيئة كافية في وجوب قتالهم‪ ،‬وثانية همهم بإخراج الرسول من بين أظهرهم من‬ ‫مكة وثالثة بدؤهم إياكم بالقتال في بدر‪ ،‬إذ عيرهم نجت وأبوا إل أن يقاتلوكم‪ ،‬إذا فلم ل تقاتلونهم؟‬ ‫أتتركون قتالهم خشية منهم وخوفا إن كان هذا {فال أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}‪ ،‬لن ما لدى‬ ‫ال تعالى من العذاب ليس لدى المشركين فال أحق أن يخشى‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الولى (‪)13‬‬ ‫وهي قوله تعالى {أل تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج ‪ 1‬الرسول وهم بدؤوكم أول مرة‬ ‫أتخشونهم فال أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} وفي الية الثانية (‪ )14‬يقول تعالى‪{ :‬قاتلوهم}‬ ‫وهو أمر صريح بالقتال‪ ،‬وبذكر الجزاء المترتب على قتالهم فيقول {يعذّبهم ال بأيدكم ويخزهم‬ ‫وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} وهم خزاعة تشفى صدورهم من الغيظ على بني بكر‬ ‫الذين قاتلوهم وأعانتهم قريش عليهم بعد صلح الحديبية ‪ ،2‬وقوله تعالى‪{ :‬ويتوب ال على من‬ ‫يشاء} هذه وإن لم تكن جزاء للمر بالقتال كالربعة التي قبلها‪ .‬ولكن سنة ال تعالى أن الناس إذا‬ ‫رأوا انتصار أعدائهم عليهم في كل معركة يميلون إليهم ويقبلون دينهم وما هم عليه من صفات‬ ‫فقتال المؤمنين للكافرين وانتصارهم عليهم يتيح الفرصة لكثير من الكافرين فيسلمون وهو معنى‬

‫قوله تعالى {ويتوب ال على من يشاء} ‪ ،‬وقوله {وال عليم حكيم} تقرير للمر بالقتال والنتائج‬ ‫الطيبة المترتبة عليه آخرها أن يتوب ال عدى من يشاء‪ .‬وقوله تعالى في الية (‪ )16‬الخيرة {أم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ كانوا السبب في خروجه من مكة مهاجرا كما أخرجوه من المدينة لقتالهم في بدر ولفتح مكة‬ ‫كما همّوا بإخراجه من المدينة هو وأصحابه في أحد والخندق وغير ذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ قريش أعانت بني بكر على خزاعة التي هي حلفاء رسول ال صلى ال عليه وسلم وذلك أنّ‬ ‫رجل من بني بكر أنشد شعرا في هجاء الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له بعض رجال‬ ‫خزاعة لئن أعدته لكسرنّ فمك فأعاده فكسم فمه‪ ،‬واندلعت الحرب بينهم فأعانت قريش بني بكر‬ ‫فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى ال عليه وسلم يطلب النصرة فخرج رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم برجاله وكان فتح مكة‪.‬‬

‫( ‪)2/346‬‬ ‫حسبتم ‪ 1‬أن تتركوا} أي بدون امتحان‪ .‬وأنتم خليط منكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق الكاذب‪،‬‬ ‫من جملة ما كان يوحى به المنافقون التثبيط عن القتال بحجة ان مكة فتحت وأن السلم عز فما‬ ‫هناك حاجة إلى مطاردة فلول المشركين‪ ،‬وهم يعلمون أن تكتلت يقودها الساخطون على السلم‬ ‫حتى من رجالت قريش يريدون النقضاض على المسلمين وإهدار كل نصر تحقق لهم‪ ،‬وهذا‬ ‫المعنى ظاهر من سياق الية {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا‬ ‫من دون ال ول رسوله ول المؤمنين وليجة}‪ 2‬إذ هناك من اتخذوا من دون ال ورسوله‬ ‫والمؤمنين وليجة يطلعونها على أمور المسلمين‪ ،‬ويسترون عليهم وهي بينهم دخلية‪ ،‬ويقرر هذه‬ ‫الجملة التي ختمت بها الية وهي قوله تعالى {وال خبير بما تعملون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية استعمال أسلوب التهييج والثارة للجهاد‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب خشية ال تعالى بطاعته وترك معصيته‪.‬‬ ‫‪ -3‬لزم اليمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه‪.‬‬ ‫‪ -4‬من ثمرات القتال دخول الناس في دين ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضا‪.‬‬ ‫عمَاُلهُ ْم َوفِي‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫سهِمْ بِا ْلكُفْرِ ُأوْلَ ِئكَ حَ ِب َ‬ ‫مَا كَانَ لِ ْلمُشْ ِركِينَ أَن َي ْعمُرُواْ مَسَاجِدَ ال شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُ ِ‬ ‫النّارِ ُهمْ خَاِلدُونَ(‪)17‬‬ ‫__________‬

‫‪{ 1‬أم حسبتم} أم ‪ :‬هي المنقطعة بمعنى بل إضرابا عما سبق من الكلم وانتقال إلى آخر‪،‬‬ ‫والستفهام للِنكار‪ ،‬والحسبان بمعنى الظن والمعنى كيف تظنون أنكم تتركون بعد فتح مكة دون‬ ‫جهاد لعداء ال ورسوله‪ ،‬وهم ما زالوا يتآمرون ويتجمعون لقتالكم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الوليجة‪ :‬البطانة من الولوج في الشيء وهو الدخول فيه‪ ،‬والمراد من هذا الرجل يتخذ من‬ ‫أعداء السلم صديقا يدخل عليه ويدخله عليه فيطلعه على أسرار المسلمين للنكاية بهم والتسلط‬ ‫عليهم لضرارهم وإفسادهم وهلكهم‪.‬‬

‫( ‪)2/347‬‬ ‫لةَ وَآتَى ال ّزكَا َة وَلَمْ يَخْشَ ِإلّ الّلهَ‬ ‫جدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِالّل ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وََأقَامَ الصّ َ‬ ‫إِ ّنمَا َي ْعمُرُ مَسَا ِ‬ ‫َفعَسَى ُأوْلَ ِئكَ أَن َيكُونُواْ مِنَ ا ْل ُمهْتَدِينَ (‪)18‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ما كان للمشركين ‪ :‬أي ليس من شأنهم أو مما يتأتى لهم‪.‬‬ ‫حبطت أعمالهم ‪ :‬أي بطلت فل يثابون عليها ول ينجحون فيها‪.‬‬ ‫يعمروا مساجد ال ‪ :‬أي بالعبادة فيها‪ ،‬وصيانتها وتطهيرها‪.‬‬ ‫ولم يخش إل ال‪ :‬أي لم يخف أحدا غير ال تعالى‪.‬‬ ‫فعسى ‪ :‬عسى من ال تعالى كما هي هنا تفيد التحقيق أي هدايتهم محققة‪.‬‬ ‫المهتدين‪ :‬أي إلى سبيل النجاة من الخسران والظفر بالجنان‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ل شك أن هناك من المشركين من ادعى أنه يعمر المسجد الحرام بالسدانة والحجابة والسقاية‬ ‫وسواء كان المدعى هذا العباس يوم بدر أو كان غيره فإن ال تعالى أبطل هذا الدعاء وقال {ما‬ ‫كان للمشركين أن يعمروا مساجد ال}‪ 1‬أي ل ينبغي لهم ذلك ول يصح منهم‪ ،‬وكيف وهم كفار‬ ‫شاهدون ‪ 2‬على أنفسهم بالكفر‪ ،‬وهل الكافر بال يعمر بيته وبماذا يعمره؟ وإذا سألت اليهودي ما‬ ‫أنت؟ يقول يهودي‪ ،‬وإذا سألت النصراني‪ ،‬ما أنت؟ يقول نصراني‪ ،‬وإذا سألت الوثني ما أنت؟‬ ‫يقول مشرك فهذه شهادتهم على أنفسهم ‪ 3‬بالكفر‪ ،‬وقوله تعالى {أولئك} أي البعداء في الكفر‬ ‫والضلل {حبطت أعمالهم} ‪ ،‬أي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬إنّ العباس لما أسر في بدر عُيّر بالكفر وقطيعة الرحم قال لمن عيّره‪ ،‬تذكرون مساوئنا‬ ‫ول تذكرون محاسننا! فقال علي‪ :‬ألكم محاسن؟ قال‪ :‬نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة‬ ‫ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الية ردّا عليه‪ .‬فوجب على المسلمين تولي أحكام المساجد‪.‬‬

‫‪ 2‬قيل الصل‪ :‬وهم شاهدون فحذف {وهم} فنصب {شاهدين} على الحال‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس‪ :‬شهادتهم بالكفر هي‪ :‬سجودهم للصنام مع إقرارهم بأنها مخلوقة وال خالقها‪.‬‬

‫( ‪)2/348‬‬ ‫بطلت وضاعت لفقدها الخلص فيها ل تعالى {وفي النار هم خالدون} ل يخرجون منها متى‬ ‫دخولها أبدا‪ ،‬إذ ليس لهم من العمل ما يشفع لهم بالخروج منها‪ .‬ثم قرر تعالى الحقيقة وهي أن‬ ‫الذين يعمرون ‪ 1‬مساجد ال حقا وصدقا هم المؤمنون الموحدون الذين يقيمون الصلة ويؤتون‬ ‫الزكاة ويخشون ال تعالى ول يخشون سواه هؤلء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلة والذكر‬ ‫والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلء جديرون بالهداية لكل‬ ‫كمال وخير يشهد لهذا قوله تعالى {فعسى ‪ 2‬أولئك أن يكونوا من المهتدين} إلى ما هو الحق‬ ‫والصواب‪ ،‬وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة دخول الكافر المساجد إل لحاجة وبإذن من المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضيلة عمارة المساجد بالعبادة فيها وتطهيرها وصيانتها‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة المسلم وشرفه‪ ،‬إذ كل من يسأل عن دينه يجيب بجواب هو الكفر إل المسلم فإنه يقول‪:‬‬ ‫مسلم أي ل تعالى فهو إذا المؤمن وغيره الكافر‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب اليمان بال واليوم الخر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة والخشية من ‪ 3‬ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬أهل المن والنجاة من النار هم أصحاب الصفات الربع المذكورة في الية‪.‬‬ ‫جدِ ا ْلحَرَامِ َكمَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ‬ ‫عمَا َرةَ ا ْلمَسْ ِ‬ ‫ج وَ ِ‬ ‫سقَايَةَ ا ْلحَا ّ‬ ‫جعَلْ ُتمْ ِ‬ ‫أَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وردت أحاديث في فضل عمارة المساجد منها القوي ومنها الضعيف مجموعها يدل على المراد‬ ‫منها وهو حسن الظن بمن يعمر مساجد ال وأظهر حديث "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا‬ ‫له باليمان"‪.‬‬ ‫‪ 2‬قالت العلماء‪" :‬عسى من ال واجبة أي‪ :‬ما يرجى بها واجب الوقوع‪ ،‬وقيل‪ :‬هي هنا بمعنى‪:‬‬ ‫خليق أي‪ :‬فخليق أن يكونوا من المهتدين‪.‬‬ ‫‪ 3‬تساءل البعض وقالوا‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬ولم يخش إلّ ال} دال على أن المؤمن الكامل اليمان ل‬ ‫يخشى إل ال وإذا بالواقع أن النبياء يخشون العداء فضل عن غيرهم فقال بعضهم معناه‪ :‬أنهم‬ ‫ل يخشون إلّ ال مما يُعبد‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬ ‫أي لم يخف إل ال في باب الدين‪ .‬والجواب الصحيح أنّ النسان نبيا كان أو غيره من المؤمنين‬

‫العاملين ل يخشون إل ال تعالى فإذا خافوا عدوا‪ ،‬ليس معناه أنهم خافوه لذاته وإنما خافوا من ال‬ ‫أن يكون سلطة عليهم فخوفهم عائد في الحقيقة إلى ال تعالى فهو الذي بيده المر‪ ،‬والخوف منه‬ ‫ل من غيره‪.‬‬

‫( ‪)2/349‬‬ ‫وَجَا َهدَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه لَ يَسْ َتوُونَ عِندَ اللّ ِه وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ (‪ )19‬الّذِينَ آمَنُو ْا وَهَاجَرُواْ‬ ‫جةً عِندَ اللّ ِه وَُأوْلَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ(‪ )20‬يُبَشّرُ ُهمْ‬ ‫عظَمُ دَرَ َ‬ ‫سهِمْ أَ ْ‬ ‫وَجَا َهدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَنفُ ِ‬ ‫ضوَانٍ وَجَنّاتٍ ّلهُمْ فِيهَا َنعِيمٌ ّمقِيمٌ (‪ )21‬خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا إِنّ اللّهَ عِن َدهُ أَجْرٌ‬ ‫حمَةٍ مّنْ ُه وَ ِر ْ‬ ‫رَ ّبهُم بِ َر ْ‬ ‫عَظِيمٌ (‪)22‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سقاية الحاج‪ :‬مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرام ويسقى منه الحجاج مجانا‪.‬‬ ‫وعمارة المسجد الحرام ‪ :‬هنا عبارة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه‪.‬‬ ‫ل يستوون عند ال‪ :‬إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر ل تساوى شيئا‪.‬‬ ‫وال ل يهدي القوم الظالمين‪ :‬أي المشركين ل يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم‪.‬‬ ‫ورضوان ‪ :‬أي رضا ال عز وجل عنهم‪.‬‬ ‫نعيم مقيم‪ :‬أي دائم ل يزول ول ينقطع‪.‬‬ ‫معاني اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد ‪ 1‬الحرام بالسقاية والحجابة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي عن السدي أنه قال‪ :‬افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلي بالسلم والجهاد فصدق‬ ‫ال عليا وكذبهما أي بهذه الية‪{ :‬أجعلتم سقاية الحاج‪ } ...‬الخ فأخبر أن العمارة ل تكون بالكفر‬ ‫وإنما تكون باليمان والعبادة وأداء الطاعة‪.‬‬ ‫وقيل أيضا‪ :‬إن المشركين سألوا اليهود وقالوا‪ :‬نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام أفنحن‬ ‫أفضل أم محمد وأصحابه؟‬ ‫فقالت لهم اليهود مكرا وعنادا‪ :‬أنتم أفضل وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال‪ :‬كنت عند منبر‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال رجل‪ :‬ما أبالي أل أعمل بعد السلم إل أن أسقي الحاج‪،‬‬ ‫وقال آخر ما أبالي أل أعمل بعد السلم إل أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر‪ :‬الجهاد في سبيل‬ ‫ال أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال‪ :‬ل ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته عما اختلفتم فيه‪ .‬فأنزل ال عز وجل‪{ :‬أجعلتم ‪}..‬‬ ‫الية‪ .‬وحل الشكال في هذه الخبار‪ :‬أن الية تذكر دليلً ل أنها نزلت في ذلك الوقت‪.‬‬

‫( ‪)2/350‬‬ ‫والسدانة على اليمان والفجرة والجهاد فقال تعالى موبخا لهم {أجعلتم ‪ 1‬سقاية الحاج ‪ 2‬وعمارة ‪3‬‬ ‫المسجد الحرام كمن آمن بال واليوم الخر وجاهد في سبيل ال ل يستوون} في حكم ال وقضائه‬ ‫بحال من الحوال‪ ،‬والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر‬ ‫{وال ل يهدي القوم الظالمين} بعد هذا التوبيخ والبيان للحال أخبر تعالى أن {الذين آمنوا وهاجروا‬ ‫وجاهدوا في سبيل ال بأموالهم وأنفسهم } هم {أعظم درجة} ممن آمنوا ولم يستكملوا هذه الصفات‬ ‫الربع‪ ،‬وأخبر تعالى أنهم هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة‪ ،‬وأعظم من هذا‪ ،‬جاء في‬ ‫قوله {يبشرهم ربهم برحمة منه} وهي الجنة {ورضوان} منه تعالى وهو أكبر نعيم {وجنات} أي‬ ‫بساتين في الملكوت العلى {لهم فيها نعيم مقيم} ل يحول ول يزول وأنهم خالدون فيها ل‬ ‫يخرجون منها أبدا‪{ ،‬وإن ال عنده أجر عظيم} ل يقادر قدره جعلنا ال تعالى منهم وحشرنا في‬ ‫زمرتهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬أكمل المؤمنين وأعلهم درجة‪ ،‬لح وأقربهم من ال منزلة من جمع الصفات الثلث المذكورة‬ ‫في الية (‪ )20‬وهي اليمان والهجرة والجهاد في سبيل ال بالمال والنفس‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الهجرة والجهاد‪.‬‬ ‫‪ -3‬تفاوت أهل الجنة في علو درجاتهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمان الظالمين المتوغلين في الظلم من هداية ال تعالى‪.‬‬ ‫خوَا َنكُمْ َأوْلِيَاء إَنِ اسْ َتحَبّواْ ا ْلكُفْرَ عَلَى الِيمَانِ‬ ‫خذُواْ آبَاءكُمْ وَإِ ْ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَتّ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬أجعلتم أهل سقاية الحاج‪ ،‬أو أصحاب سقاية الحاج‪ ،‬إذ حذف المضاف وهو‪ :‬أهل أو‬ ‫أصحاب وبقي المضاف إليه وهو‪ :‬سقاية فنصب انتصابه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحاج‪ :‬اسم جنس ناب مناب الحجاج جمع حاج‪.‬‬ ‫ق وعمرة‪ :‬جمع عامر ككتبة جمع كاتب‪.‬‬ ‫‪ 3‬وقرىء‪ :‬سُقاة بضم السين جمع سا ٍ‬

‫( ‪)2/351‬‬ ‫جكُمْ‬ ‫خوَا ُنكُ ْم وَأَ ْزوَا ُ‬ ‫َومَن يَ َتوَّلهُم مّنكُمْ فَُأوْلَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ(‪ُ )23‬قلْ إِن كَانَ آبَا ُؤكُ ْم وَأَبْنَآ ُؤكُمْ وَإِ ْ‬ ‫حبّ إِلَ ْيكُم مّنَ اللّهِ‬ ‫ضوْ َنهَا َأ َ‬ ‫شوْنَ كَسَادَهَا َومَسَاكِنُ تَ ْر َ‬ ‫وَعَشِيرَ ُتكُ ْم وََأ ْموَالٌ اقْتَ َرفْ ُتمُوهَا وَتِجَا َرةٌ َتخْ َ‬

‫سقِينَ(‪)24‬‬ ‫جهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَ ّبصُواْ حَتّى يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِر ِه وَالّل ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬ ‫وَرَسُولِ ِه وَ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أولياء‪ :‬جمع وليّ وهو من تتوله بالمحبة والنصرة ويتولك بمثل ذلك‪.‬‬ ‫استحبوا‪ :‬أي أحبوا الكفر على اليمان‪.‬‬ ‫الظالمون‪ :‬الظلم وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬ومن أحب من ل تجوز محبته فقد وضع شيئا في‬ ‫غير موضعه فهو ظالم‪.‬‬ ‫وعشيرتكم ‪ :‬أي قرابتكم من النسب كالعمام الباعد وأبنائهم‪.‬‬ ‫اقترفتموها‪ :‬أي اكتسبتموها‪.‬‬ ‫كسادها‪ :‬بوارها وعدم رواجها‪.‬‬ ‫فتربصوا‪ :‬أي انتظروا‪.‬‬ ‫حتى يأتي ال بأمره ‪ :‬أي بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫هذا إنذار ال تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم‬ ‫يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم‪ .‬فيقول تعالى‪{ :‬يا أيها‬ ‫الذين امنوا} أي بال ورسوله ولقاء ال ووعده ووعيده {ل تتخذوا آباءكم ‪1‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية ما تضمنته من حكم حرمة موالة الكافرين ولو كانوا من اقرب القرباء وهو عام في‬ ‫المة إلى يوم القيامة؟ وإن فهم منها بعضهم أنها للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها يدعوهم إلى‬ ‫الهجرة والتخلي عن بلد الكفر‪.‬‬

‫( ‪)2/352‬‬ ‫وإخوانكم ‪ 1‬أولياء إن استحبوا ‪ 2‬الكفر على اليمان} أي اثروا الكفر والصرار عليه على اليمان‬ ‫بال ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على‬ ‫اليمان فيقول {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ‪ }3‬ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا‬ ‫المحبة موضع البغضاء‪ ،‬والنصرة موضع الخذلن‪ .‬والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه‪ .‬ثم‬ ‫أمر تعالى رسوله أن يقول لهم‪ ،‬وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر‬ ‫بالغضب وعدم الرضى‪ ،‬والتهديد والوعيد {قل إن كان ‪ 4‬آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم‬ ‫وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من ال‬ ‫ورسوله وجهاد في سبيله} فتركتم الهجرة والجهاد لذلك {فتربصوا حتى يأتي ال بأمره} أي‬ ‫انتظروا أمر ال وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم‪{ ،‬وال ل لهدي القوم الفاسقين} أي ل‬

‫يوفقهم لسبل نجاتهم وسعادتهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يُوادون ولو كانوا من أقرب القرباء كالب والبن والخ‪.‬‬ ‫‪ -2‬من الظلم الفظيع موالة من عادى ال ورسوله والمؤمنين‪.‬‬ ‫‪ -3‬فرضية محبة ال ورسوله والجهاد في سبيله‪ ،‬ومحبة سائر محاب ال تعالى وكره سائر مكاره‬ ‫ال تعالى من العقائد والحوال والعمال والذوات والصفات‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية ال تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم‪.‬‬ ‫َلقَدْ َنصَ َركُمُ الّلهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ِإذْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ كَثْرَ ُتكُمْ فََلمْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لم يذكر البناء لنّ العادة أنّ البناء تبع لبائهم وذكر الباء والخوان ذكر لقوى القرابة‪.‬‬ ‫‪ 2‬استحبوا‪ :‬بمعنى أحبوا نحو‪ :‬استجاب بمعنى‪ :‬أجاب‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس‪ :‬من تولهم هو مشرك مثلهم لنّ الرضا بالشرك شرك ويستثنى من هذه‬ ‫المقاطعة الحسان والهبة للقارب الكفرة لحديث أسماء إذ قالت‪ :‬يا رسول ال إنّ أمي قدمت عليّ‬ ‫راغبة وهي شركة أفأصلها؟ قال‪ :‬صلي أمك‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذه الية نزلت في الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة إيثارا لما ذكر تعالى على حب ال‬ ‫ورسوله والجهاد في سبيل ال تعالى إذ توعدهم تعالى بقوله‪{ :‬فتربصوا} أي انتظروا ما سيحل‬ ‫بكم إن لم تتوبوا فتهاجروا وتجاهدوا‪.‬‬

‫( ‪)2/353‬‬ ‫سكِينَتَهُ عَلَى‬ ‫ُتغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا َوضَا َقتْ عَلَ ْيكُ ُم الَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َبتْ ُث ّم وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ(‪ُ )25‬ثمّ أَنَزلَ اللّهُ َ‬ ‫رَسُولِ ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَأَن َزلَ جُنُودًا لّمْ تَ َروْهَا وَع ّذبَ الّذِينَ َكفَرُواْ وَذَِلكَ جَزَاء ا ْلكَافِرِينَ(‪ )26‬ثُمّ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪ )27‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ‬ ‫يَتُوبُ الّلهُ مِن َبعْدِ ذَِلكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ َ‬ ‫سوْفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ إِن‬ ‫خفْتُمْ عَيْلَةً َف َ‬ ‫سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا وَإِنْ ِ‬ ‫نَجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَ ْ‬ ‫حكِيمٌ(‪)28‬‬ ‫شَاء إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫في مواطن ‪ :‬المواطن جمع موطن بمعنى الوطن وهو محل إقامة النسان‪.‬‬ ‫حنين ‪ :‬وادٍ على بعد أميال يسيرة من الطائف‪.‬‬ ‫إذ أعجبتكم كثرتكم‪ :‬أي كثرة عددكم حتى قال من قال‪ :‬لن نغلب اليوم من قلة‪.‬‬ ‫فلم تغن عنكم شيئا‪ :‬أي لم تجز عنكم شيئا من الجزاء إذ انهزمتم في أول اللقاء‪.‬‬

‫وضاقت عليكم الرض ‪ :‬أي لم تعرفوا أين تذهبون‪ ،‬وكيف تتصرفون كأنكم محصورون في‬ ‫مكان ضيق‪.‬‬ ‫بما رحبت‪ :‬أي على رحابتها وسعتها‪.‬‬ ‫أنزل ال سكينته ‪ :‬أي الطمأنينة في نفوسهم‪ ،‬فذهب القلق والضطراب‪.‬‬ ‫وأنزل جنودا‪ :.‬أي من الملئكة‪.‬‬ ‫نجس‪ :‬أي ذوو نجس وذلك لخبث أرواحهم بالشرك‪.‬‬ ‫بعد عامهم هذا ‪ :‬عام تسعة من الهجرة‪.‬‬

‫( ‪)2/354‬‬ ‫عيلة‪ :‬أي فقرا وفاقه وحاجة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما حرم ال على المؤمنين موالة الكافرين ولو كانوا أقرباءهم وحذرهم من القعود عن الهجرة‬ ‫والجهاد‪ ،‬وكان الغالب فيمن يقعد عن ذلك إنما كان لجبنه وخوفه أخبرهم تعالى في هذه اليات‬ ‫الثلث أنه ناصرهم ومؤيدهم فل يقعد بهم الجبن والخوف عن أداء الواجب من الهجرة والجهاد‬ ‫فقال تعالى {لقد نصركم ال في مواطن كثيرة ‪ }1‬ك ْبدَر والنضير وقريظة والفتح وغيرها {ويوم‬ ‫حنين} ‪ 2‬حين قاتلوا قبيلة هوازن مذكرا إياهم بهزيمة أصابت المؤمنين نتيجة خطأ من بعضهم‬ ‫وهو الغترار بكثرة العدد إذ قال من قال منهم‪ :‬لن نغلب اليوم عن قلة إذ كانوا اثني عشر ‪ 3‬ألفا‬ ‫وكان عدوهم أربعة آلف فقط‪ ،‬إنهم ما إن توغلوا بين جنبتي الوادي حتى رماهم العدو بوابل من‬ ‫النبل والسهام فلم يعرفوا كيف يتصرفون حتى ضاقت عليهم الرض على سعتها وولوا مدبرين‬ ‫هاربين ولم يثبت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان على بغلته البيضاء المسماة (بالدُلْدُل)‬ ‫والعباس إلى جنبه وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عمه‪ ،‬ثم نادى منادي رسول ال‪ :‬أن‬ ‫يا أصحاب سورة البقرة هلموا أصحاب السمرة (شجره بيعة الرضوان) هلموا‪ .‬فتراجعوا إلى‬ ‫المعركة ودارت رحاها و {أنزل ال سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا} تلمس‬ ‫القلوب وتنفخ فيها روح الشجاعة والصبر والثبات‪ ،‬فصبروا وقاتلوا وما هي إل ساعة وإذا بالعدو‬ ‫سبي بين أيديهم ولم يحصل لهم أن غنموا يوما مثل ما غنموا هذا اليوم إذ بلغ عدد البل اثني‬ ‫عشر ألف بعير‪ ،‬ومن الغنم مال يحصى ول يعد‪ .‬بهذا جاء قوله تعالى‪{ :‬ويوم حنين إذ أعجبتكم‬ ‫كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ‪ }4‬أي هاربين من‬ ‫العدو {ثم أنزل ال سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا} أي من الملئكة {لم تروها}‬ ‫{وعذب الذين كفروا} أي هوازن {وذلك} أي القتل والسبي {جزاء الكافرين} بال ورسوله‪.‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬المواطن‪ :‬جمع موطن وهو مكان التوطّن أي‪ :‬القامة ويطلق على موضع الحرب وموقعها‪.‬‬ ‫‪ 2‬خص يوم حنين بالذكر لما وقع فيه من الهزيمة في أول المعركة‪.‬‬ ‫‪ 3‬عشرة آلف من المهاجرين والنصار وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء وهزموا من أجل‬ ‫قول بعضهم‪ :‬لن نغلب اليوم عن قلة وهو ما يسمى بالعجب وهو محبط للعمل‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى مسلم عن ابن اسحق قال‪ :‬جاء رجل إلى البراء فقال‪ :‬أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟‬ ‫فقال‪ :‬أشهد على نبي ال صلى ال عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفّاء من الناس وحسّر إلى‬ ‫هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل‬ ‫القوم إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو‬ ‫يقول‪" :‬أنا النبي ل كذب أنا ابن عبدالمطلب اللهم نزل نصرك" قال البراء‪ :‬كنا وال إذا احمّر‬ ‫البأس نتقي به‪.‬‬

‫( ‪)2/355‬‬ ‫وقوله تعالى {ثم يتوب ال على من يشاء}‪ 1‬أي بعد قتالكم للكافرين وقتلكم من تقتلون يتوب ال‬ ‫على من يشاء ممن بقوا أحياء بعد الحرب {وال غفور رحيم} فيغفر لمن يتوب عليه من‬ ‫المشركين ماضي ذنوبه من الشرك وسائر الذنوب ويرحمه بأن يدخله الجنة مع من يشاء من‬ ‫المؤمنين الصادقين في إيمانهم هذا ما دلت عليه اليات الثلث‪ .‬أما الية الرابعة {يا أيها الذين‬ ‫آمنوا إنما المشركون نجس ‪ 2‬فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} ‪ 3‬فإنه تعالى أمر‬ ‫المؤمنين بأن يمنعوا من دخول المسجد الحرم كل مشرك ومشركة لن المشرك نجس الظاهر‬ ‫والباطن فل يحل دخولهم إلى المسجد الحرام كل مشرك ومشركة لن المشرك نجس الظاهر‬ ‫والباطن فل يحل دخولهم إلى المسجد الحرام وهو مكة والحرم حولها‪ ،‬ومن يومئذ لم يدخل مكة‬ ‫مشرك‪ ،‬وقوله تعالى {وإن خفتم علية ‪ }4‬أي فقرا لجل انقطاع ‪ 5‬المشركين عن الموسم حيث‬ ‫كانوا يحلبون التجارة يبيعون ويشترون فيحصل نفع للمسلمين {فسوف يغنيكم ال من فضله}‬ ‫فامنعوا المشركين ول تخافوا الفقر وقوله تعالى {إن شاء إن ال عليم حكيم} استثناء منه تعالى‬ ‫حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة غافلة‪ ،‬وكونه تعالى‬ ‫عليما حكيما يرشح المعنى المذكور فإن ذا العلم والحكمة ل يضع شيئا إل في موضعه فل بد لمن‬ ‫أراد رحمة ال أو فضل ال أن يجتهد أن يكون أهلً لذلك‪ ،‬باليمان والطاعة العامة والخاصة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة العجب بالنفس والعمل إذ هو أي العجب من العوائق الكبيرة عن النجاح‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان إفضال ال تعالى وإكرامه لعباده المؤمنين‪.‬‬

‫‪ -3‬بيان الحكمة من القتال في سبيل ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير نجاسة الكافر المعنوية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬وصف المشرك بالنجس‪ :‬لنه جنب ل يغتسل من جنابة غسلً شرعيا فهو لذلك نجس‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬الشرك هو الذي جعله نجسا إذ لو أسلم زال عنه الوصف‪.‬‬ ‫‪ 3‬هو عام حجة الوداع وليس عام تسعة كما قال بعضهم ‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫وما يدري الفقير متى غناه ‪ ...‬وما يدري الغني متى يعيل‬ ‫يقال ‪ :‬عال يعيل عيلة ‪ :‬إذا افتقر‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية على مشروعية الخذ بالسباب إذ قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬اعقلها وتوكل" قال‬ ‫بعضهم‪ :‬السباب التي يطلب بها الرزق هي الجهاد وأكل الرجل من عمل يده التجارة‪ ،‬الحرث‪،‬‬ ‫والغرس‪ ،‬التعليم للعلوم بالجرة‪ ،‬الستدانة بنيّة رد الدين‪.‬‬

‫( ‪)2/356‬‬ ‫‪ -5‬منع دخول المشرك الحرم المكي كائنا من كان بخلف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر‬ ‫لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -6‬ل يمنع المؤمن من امتثال أمر ربّه الخوف من الفاقة والفقر فإن ال تعالى تعهد بالغناء إن‬ ‫شاء ‪.‬‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه َولَ بِالْ َيوْمِ الخِ ِر َولَ يُحَ ّرمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُ ُه َولَ َيدِينُونَ دِينَ‬ ‫قَاتِلُواْ الّذِي َ‬ ‫حقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ حَتّى ُيعْطُواْ الْجِزْ َيةَ عَن َي ٍد وَهُ ْم صَاغِرُونَ(‪)29‬‬ ‫الْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل يؤمنون بال ول باليوم الخر‪ :‬أي إيمانا صحيحا يرضاه ال تعالى لموافقة الحق والواقع‪.‬‬ ‫ول يحرمون ما حرم ال ورسوله ‪ :‬أي كالخمر والربا وسائر المحرمات‪.‬‬ ‫ول يدينون دين الحق‪ :‬أي السلم إذ هو الدين الذي ل يقبل دينا سواه‪.‬‬ ‫من الذين أوتوا الكتاب‪ :‬أي اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫الجزية ‪ :‬أي الخراج المعلوم الذي يدفعه الذمي كل سنة‪.‬‬ ‫عن يد وهم صاغرون ‪ : 1‬أي يقدمونه بأيديهم ل ينيبون فيه غيرهم‪ ،‬وهم صاغرون‪ :‬أي أذلء‬ ‫منقادون لحكم السلم هذا‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬

‫لما أمر ال تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا ال‬ ‫تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وفسّر قوله‪{ :‬عن يد} بالقوة على دفع الجزية بأن يكون المطالب بها قادرا على أدائها لغناه‬ ‫وعدم فقره‪ .‬وهو تفسير حق لنّ الفقير منهم ل يطالب بالجزية في حال فقره‪ ،‬وما في التفسير‬ ‫أصحّ‪.‬‬

‫( ‪)2/357‬‬ ‫اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‪ ،‬وجعل إعطاء الجزية‬ ‫غايةً لنهاية القتال‪ ،‬ل السلم‪ ،‬لن السلم يعرض أولً على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن‬ ‫رفضوه يطلب منهم الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على‬ ‫قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع ال تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحافظوا أموالهم‪،‬‬ ‫وأمنوا في حياتهم المادية والروحية‪ ،‬هذا ما تضمنته الية الكريمة‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون ‪ 1‬بال‬ ‫ول باليوم الخر ول يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ‪2‬‬ ‫حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وإن قيل اليهود والنصارى يؤمنون بال وباليوم الخر‬ ‫فكيف نفت الية عنهم ذلك؟ والجواب أن اليهود في إيمانهم بال مشبهة مجسمة يصفون ال تعالى‬ ‫بصفات تعالى ال عنها علوا كبيرا‪ ،‬والنصارى يعتقدون أن ال حلّ في المسيح‪ ،‬وإن ال ثالث‬ ‫ثلثة وال ليس كذلك فهم إذا ل يؤمنون بال تعالى كما هو ال الله الحق‪ ،‬فلذا إيمانهم باطل‬ ‫وليس بإيمان يضاف إلى ذلك أنهم لو آمنوا بال لمنوا برسوله محمد صلى ال عليه وسلم ولو‬ ‫آمنوا باليوم الخر لطاعوا ال ورسوله لينجوا من عذاب اليوم الخر وليسعدوا فيه بدخول الجنة‬ ‫فلما لم يؤمنوا ولم يعملوا كانوا حقا كافرين غير مؤمنين‪ ،‬وصدق ال العظيم حيث نفى عنهم‬ ‫اليمان به وباليوم الخر‪ ،‬وال أعلم بخلقه من أنفسهم‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪-1‬وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم السلم وذلك من أجل إعدادهم‬ ‫للسلم ليكملوا عليه ويسعدوا به‪.‬‬ ‫‪ -2‬اليمان غير الصحيح ل يعتبر إيمانا منجيا ول مسعدا‪.‬‬ ‫‪ -3‬استباحة ما حرم ال من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية صريحة في عدم اعتبار إيمان اليهود والنصارى بال واليوم الخر إيمانا صحيحا يزكى‬

‫النفس ويؤهل لدخول الجنة‪ ،‬وهذا لمرين‪ :‬الول‪ :‬لما داخل إيمانهم من التحريف والتغيير فلم يكن‬ ‫إيمانهم بركني اليمان العظيمين اليمان بال واليوم الخر إيمانا صحيحا مقبولً شرعا فلذا عُد كل‬ ‫إيمان‪ .‬والثاني‪ :‬لنهم لو آمنوا بال ولقائه حق اليمان لمنوا برسوله محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫وبما جاء به من الهدى‪ ،‬ولستقاموا على شرع ال فأحلوا ما أحل وحرموا ما حرم‪.‬‬ ‫‪ 2‬المجوس والصابئة لم يذكرا في الية‪ ،‬والذي به العمل عند عامة الفقهاء أنهم يسنّ بهم سنة أهل‬ ‫الكتاب في قبول الجزية منهم وإدخالهم في ذمة المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)2/358‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدّرة ‪ 1‬في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى‬ ‫المرء وفقره وسعته وضيقه‪.‬‬ ‫َوقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ َوقَالَتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَِلكَ َقوُْلهُم بَِأ ْفوَا ِههِمْ ُيضَا ِهؤُونَ َق ْولَ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُواْ مِن قَ ْبلُ قَاتََل ُهمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ(‪ )30‬اتّخَذُواْ َأحْبَارَهُمْ وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابًا مّن دُونِ اللّهِ‬ ‫عمّا يُشْ ِركُونَ(‪)31‬‬ ‫وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ َومَا ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ إَِلهًا وَاحِدًا لّ إِلَهَ ِإلّ ُهوَ سُبْحَا َنهُ َ‬ ‫طفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِه ِه ْم وَيَأْبَى الّلهُ ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َرهُ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ(‪ُ )32‬هوَ الّذِي‬ ‫يُرِيدُونَ أَن ُي ْ‬ ‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ(‪)33‬‬ ‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْلهُدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِيُ ْ‬ ‫أَرْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عُزير‪ :‬هو الذي أماته ال مائة عام ثم بعتثه‪ ،‬واليهود يسمونه‪ :‬عِزْرا‪.‬‬ ‫المسيح‪ :‬هو عيسى بن مريم عليهما السلم‪.‬‬ ‫يضاهئون‪ :‬أي يشابهون‪.‬‬ ‫قول الذين كفروا‪ :‬أي من آبائهم وأجدادهم الماضين‪.‬‬ ‫قاتلهم ال ‪ :‬أي لعنهم ال لجل كفرهم‪.‬‬ ‫أنى يؤفكون‪ :.‬أي كيف يصرفون عن الحق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدّر بدينار من الذهب‪ ،‬وإن صالحهم المام عن أكثر فهم على ما صالحهم عليه‪.‬‬

‫( ‪)2/359‬‬ ‫أحبارهم ورهبانهم‪ :‬الحبار جمع حبر‪ :‬علماء واليهود‪ ،‬والرهبان جمع راهب عابد النصارى‪.‬‬ ‫أربابا من دون ال ‪ :‬أي آلهة يشرعون لهم فيعملون بشرائعهم من حلل وحرام‪.‬‬ ‫نور ال ‪ :‬أي السلم لنه هاد إلى السعاد والكمال في الدارين‪.‬‬

‫بأفواههم‪ :‬أي بالكذب عليه والطعن فيه وصرف الناس عنه‪.‬‬ ‫رسوله‪ :‬محمدا صلى ال علمه وسلم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب لكفرهم وعدم إيمانهم اليمان الحق المنجي من النار ذكر في هذه‬ ‫اليات الثلث ما هو مقرر لكفرهم ومؤكد له فقال {وقالت اليهود عزير ‪ 1‬ابن ال} ونسبة الولد‬ ‫إلى ال تعالى كفر بجلله وكماله {وقالت النصارى المسيح ابن ‪ 2‬ال} ونسبه الولد إليه تعالى كفر‬ ‫به عز وجل وبماله من جلل وكمال وقوله تعالى‪{ :‬ذلك قولهم بأفواههم} أي ليس له من الواقع‬ ‫شيء إذ ليس ل تعالى ولد‪ ،‬وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة‪ ،‬وإنما ذلك قولهم بأفواههم فقط‬ ‫{يضاهئون به ‪ }3‬أي يشابهون به {قول الذين كفروا من قبل} ‪ 4‬وهم اليهود الولون وغيرهم‬ ‫وقوله تعالى {قاتلهم ال أنى يؤفكون} دعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة ال تعالى وقوله {أنى‬ ‫يؤفكون} أي كيف يصرفون عن الحق ويبعدون عنه بهذه الصورة العجيبة وقوله {اتخذوا أحبارهم‬ ‫‪ 5‬ورهبانهم أربابا من دون ال}‪ 6‬هذا دليل آخر على كفرهم وشركهم إذ قبولهم قول علمائهم‬ ‫وعبادهم والذعان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ عاصم {عزير} بالتنوين‪ ،‬وقرأ نافع بغير تنوين‪ ،‬وقوله تعالى {وقالت اليهود} هو كقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬الذين قال لهم الناس‪ } ..‬فهو لفظ عام‪ ،‬والمراد به الخصوص إذ ما كلٌ اليهود قالوا بهذه‬ ‫القولة ول كل الناس وإنما بعضهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية دليل على أن حاكي الكفر‪ ،‬وهو منكر له بقلبه ولسانه ل يكفر‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال‪ :‬امرأة ضهيا‪ :‬للتي ل تحيض ول ثدي لها كأنها أشبهت الرجل‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬شابه قولهم قول الكافرين من قبلهم وهم أسلفهم الذين قلدوهم أو قول العرب الذين قالوا‪:‬‬ ‫الملئكة بنات ال‪ .‬تعالى ال عن البنت والولد علوا كبيرا‪.‬‬ ‫‪ 5‬الحِبر بكسر الحاء‪ .‬المداد‪ ،‬وبفتحها العالم‪ ،‬والرهبان‪ :‬جمع راهب مأخوذ من الرهبة‪ ،‬والراهب‬ ‫الحق‪ .‬هو من حمله خوف ال على أن يخلص له النية في القول والعمل ويجعل زمانه له وعمله‬ ‫له وأنسه به‪.‬‬ ‫‪ 6‬روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال‪ :‬أتيت النبي صلى ال عليه وسلم وفي عنقي صليب من‬ ‫ذهب فقال‪" :‬ما هذا يا عديّ أطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا‬ ‫من دون ال والمسيح بن مريم} وسئل حذيفة رضي ال عنه عن قول ال تعالى‪{ :‬اتخذوا أحبارهم‬ ‫ورهباناهم أربابا مر دون ال} هل عبدوهم؟ قال‪ :‬ل ولكن أحلّوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا‬ ‫عليهم الحلل فحرموه‪.‬‬

‫( ‪)2/360‬‬

‫له والتسليم به حتى أنهم ليحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلل فيحرمونه‪ ،‬شرك‬ ‫وكفر والعياذ بال‪ .‬وقوله {والمسيح ‪ 1‬ابن مريم} أي اتخذه النصارى ربا وإلها‪ ،‬وقوله تعالى {وما‬ ‫أمروا إل ليبعدوا إلها واحدا} أي لم يأمرهم أنبياؤهم كموسى وعيسى وغيرهما إل بعبادة ال تعالى‬ ‫وحده ل إله إل هو ول رب سواه وقوله {سبحانه عما يشركون} نزه تعالى نفسه عن شركهم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {يريدون ليطفئوا نور ال بأفواههم} أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور ال‬ ‫الذي هو السلم بأفواههم بالكذب والفتراء‪ ،‬والعيب والنتقاص‪{ ،‬ويأبى ال إل أن يتم نوره ولو‬ ‫كره الكافرون} ‪ ،2‬وقد فعل فله الحمد وله المنة‪ ،‬وأصبح السلم الظاهر على الديان كلها‪ ،‬هذا‬ ‫ما دلت عليه اليات الثلث أما الية الرابعة (‪ )33‬فقد أخبر تعالى أنه {هو الذي أرسل رسوله}‬ ‫أي محمدا {بالهدى} وهو القرآن {ودين الحق} الذي هو السلم‪ .‬وقوله {ليظهره} أي الدين الحق‬ ‫الذي هو السلم {على الدين كله ولو كره المشركون}‪ 3‬وقد فعل فالسلم ظاهر في الرض كلها‬ ‫سمع به أهل الشرق والغرب ودان به أهل الشرق والغرب وسيأتي يوم يسود فيه المسلمون أهل‬ ‫الدنيا قاطبة بإذن ال تعالى‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير كفر اليهود والنصارى بذكر عقائدهم الكفرية‪.‬‬ ‫‪ -2‬طاعة العلماء ورجال الدين طاعة عمياء حتى يحلوا ويحرموا فيتبعوا شرك‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان عداء اليهود والنصارى للسلم وتعاونهم على إفساده وإفساد أهله‪.‬‬ ‫‪ -4‬بشرى المسلمين بأنهم سيسودون العالم في يوم من اليام ويصبح السلم هو الدين الذي يعبد‬ ‫ال به في الرض ل غيره‪ ،‬ويشهد لهذا آية {ويكون الدين كله ل} فلو لم يعلم ال أن ذلك كائن لم‬ ‫يجعله غاية وطالب بالوصول إليها‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يطلق لفظ المسيح على العرق لنه إذا سال يُمسح من الجبين قال أحدهم شعرا‪:‬‬ ‫افرح فسوف تألف الحزانا ‪ ...‬إذا شهدت الحشر والميزانا‬ ‫وسال من جبينك المسيح ‪ ...‬كأنّه جداول تسيح‬ ‫‪ 2‬صحّ دخول "إلّ" على الثبات هنا لنّ أبى يحذف معها الكلم فيقال‪ :‬يأبي فلن كل شيء إل أن‬ ‫يطاع مثل‪ .‬فمعنى الية‪ :‬يأبى ال كل شيء إل أن يتم نوره‪.‬‬ ‫‪ 3‬شاهده‪ :‬رواية أحمد‪ :‬عن المقداد بن السود قال‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫"ل يبقى على ظهر الرض بيت مدر ول وبر إل دخلته كلمة السلم بعزّ عزيز أو بذل ذليل إمّا‬ ‫يعزّهم ال فيجعلهم من أهلها وإمّا يذلهم فيدينون لها"‪.‬‬

‫( ‪)2/361‬‬ ‫ل وَ َيصُدّونَ عَن‬ ‫طِ‬ ‫ن الَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيرًا مّ َ‬ ‫سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َهبَ وَا ْل ِفضّ َة َولَ يُن ِفقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُم ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ(‪َ )34‬يوْمَ‬ ‫سكُمْ فَذُوقُواْ مَا‬ ‫ظهُورُهُمْ َهذَا مَا كَنَزْتُ ْم لَنفُ ِ‬ ‫جهَنّمَ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم وَجُنو ُبهُ ْم َو ُ‬ ‫حمَى عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ‬ ‫يُ ْ‬ ‫كُنتُمْ َتكْنِزُونَ(‪)35‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بالباطل‪ :‬أي بدون حق أباح لهم أكلها‪.‬‬ ‫ويصدون عن سبيل ال ‪ :‬أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن السلم الذي هو السبيل؟ المفضي‬ ‫بالعبد إلى رضوان ال تعالى‪.‬‬ ‫يكنزون ‪ :‬يجمعون المال ويدفنونه حفاظا عليه ول يؤدون حقه‪.‬‬ ‫الذهب والفضة‪ :‬هما النقدان المعروفان‪.‬‬ ‫في سبيل ال‪ :‬أي حيث رضا ال كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين‪.‬‬ ‫فبشرهم ‪ :‬أي أخبرهم بعذاب أليم‪ :‬أي موجع‪.‬‬ ‫يحمى عليها ‪ :‬لنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم‪.‬‬ ‫هذا ما كنزتم‪ :‬أي يقال لهم عند كيهم بها‪ :‬هذا ما كنزتم لنفسكم توبيخا لهم وتقريعا‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للسلم والمسلمين‪ ،‬وأنهم يريدون دوما وأبدا‬

‫( ‪)2/362‬‬ ‫إطفاء نور ال بأفواههم‪ ،‬ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون ل همّ لهم إل المال‬ ‫والرئاسة فأخبر المسلمين فقال {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الحبار} ‪ 1‬وهم علماء اليهود‬ ‫{والرهبان} وهم رجال الكنائس من النصارى {ليأكلون أموال الناس بالباطل} كالرشوة‪ ،‬وكتابة‬ ‫صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم‪ ،‬إلى غير ذلك من الحيل باسم ‪ 2‬الدين‪ ،‬وقوله تعالى عنهم‬ ‫{ويصدون عن ‪ 3‬سبيل ال} دليل واضح على أنهم يحاربون السلم باستمرار للبقاء على‬ ‫مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة}‪ 4‬لفظ ‪ 5‬عام يشمل الحبار والرهبان وغيرهم من سائر‬ ‫الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إل أن الرهبان والحبار يتناولهم اللفظ أولً‪ ،‬لن من يأكل‬ ‫أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل ال أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ول ينفقها في سبيل‬

‫ال‪ ،‬وقوله تعالى لرسوله {فبشرهم بعذاب أليم} أي أخبرهم معجلً لهم الخبر في صورة بشارة‪،‬‬ ‫وبين نوع العذاب الليم بقوله {يوم يحمى عليها} أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى‬ ‫صفائح {في نار جهنم} فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} أي من كل الجهات الربع من‬ ‫أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكما بهم وازدراء لهم وهو نوع عذاب أشد‬ ‫على النفس من عذاب الجسم (هذا ما كنزتم لنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية نزلت في أهل الكتاب كشفا عن عوراتهم المادية‪ ،‬وأما قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب‬ ‫والفضة ‪ }..‬الخ فهو حكم عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل كانوا يأخذون من غلت أتباعهم ومن أموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع‪،‬‬ ‫وقلدهم الروافض‪ ،‬فإن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا‬ ‫الدخل أخبرني بهذا أحد رجالهم في الكويت‪.‬‬ ‫‪ 3‬من صدّهم عن سبيل ال إنهم كانوا يمنعون أتباعهم من الدخول في السلم ومن أتباع محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬دلت الية على زكاة العين‪ :‬الذهب والفضة وهي تجب بأربعة شروط الحرية‪ ،‬والسلم‪،‬‬ ‫والحول‪ ،‬والنصاب السليم من الدين‪ ،‬والنصاب مائتا درهم فضة أو عشرون دينارا من الذهب‪،‬‬ ‫ويكمل أحدهما من الخر‪ ،‬ومن السنة قوله صلى ال عليه وسلم "ليس في مال زكاة حتى يحول‬ ‫عليه الحول" رواه أبو داود‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ليس في أقل من مائتي درهم زكاة‪،‬‬ ‫وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة" في الصحيح‪.‬‬ ‫‪ 5‬روى أبو داود عن ابن عباس قال‪ :‬لما نزلت هذه الية {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال‬ ‫كبر ذلك على المسلمين فقال عمر‪ :‬أنا أفرج عنكم فانطلق قال‪ :‬يا نبي ال إنه كبُر على أصحابك‬ ‫هذه الية‪ ،‬فقال‪" :‬إن ال لم يفرض الزكاة إل ليطيّب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث في‬ ‫أموالكم لتكون لمن بعدكم فكبّر عمر فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أل أخبرك بخير ما‬ ‫يكنز المرء‪ :‬المرأة الصالحة‪ :‬إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته"‪.‬‬

‫( ‪)2/363‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين ‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى‪ ،‬وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون‬ ‫السلم ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللكل على حساب السلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة أكل أموال الناس بالباطل‪.‬‬

‫‪ -3‬حرمة جمع المال وكنزه وعدم النفاق منه‪.‬‬ ‫‪ -4‬المال الذي تؤدى زكاته كل حول ل يقال له كنز ولو دفن تحت الرض‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان عقوبة من يكنز المال ول ينفق منه في سبيل ال وهي عقوبة شديدة‪.‬‬ ‫سمَاوَات وَالَ ْرضَ مِ ْنهَا أَرْ َبعَةٌ‬ ‫شهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ َيوْمَ خََلقَ ال ّ‬ ‫عشَرَ َ‬ ‫شهُورِ عِندَ الّلهِ اثْنَا َ‬ ‫إِنّ عِ ّدةَ ال ّ‬ ‫سكُ ْم َوقَاتِلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ كَآفّةً َكمَا ُيقَاتِلُونَكُمْ كَآفّ ًة وَاعَْلمُواْ أَنّ‬ ‫حُ ُرمٌ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَلَ َتظِْلمُواْ فِيهِنّ أَنفُ َ‬ ‫ضلّ ِبهِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَ ّرمُونَهُ‬ ‫اللّهَ َمعَ ا ْلمُ ّتقِينَ(‪ )36‬إِ ّنمَا النّسِيءُ زِيَا َدةٌ فِي ا ْل ُكفْرِ ُي َ‬ ‫عمَاِل ِه ْم وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ‬ ‫طؤُواْ عِ ّدةَ مَا حَرّمَ الّلهُ فَيُحِلّواْ مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ َل ُهمْ سُوءُ أَ ْ‬ ‫عَامًا لّ ُيوَا ِ‬ ‫ا ْلكَافِرِينَ(‪)37‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عدة ‪ :‬أي عدد‪.‬‬

‫( ‪)2/364‬‬ ‫الشهور ‪ : 1‬جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوما‪ ،‬أو ثلثون يوما‬ ‫في كتاب ال ‪ :‬أي كتاب المقادير‪ :‬اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫أربعة حرم ‪ :‬هي رجب‪ ،‬والقعدة‪ ،‬والحجة‪ ،‬ومحرم‪ ،‬الواحد منها حرام والجمع حرم‪.‬‬ ‫الدين القيم ‪ :2‬أي الشرع المستقيم الذي ل اعوجاج فيه‪.‬‬ ‫فل تظلموا فيهن أنفسكم‪ :‬أي ل ترتكبوا في الشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة‪.‬‬ ‫كافة ‪ :‬أي جميعا وفي كل الشهور حللها وحرامها‪.‬‬ ‫مع المتقين‪ :‬أي بالتأييد والنصّر‪ ،‬والمتقون هم الذين ل يعصون ال تعالى‪.‬‬ ‫إنما النسيء‪ :‬أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر‪.‬‬ ‫يحلونه عاما ويحرمونه عاما ‪ :‬أي النسيء عاما يحلونه وعاما يحرمونه‪.‬‬ ‫ليواطئوا عدة ما حرم ال‪ :‬أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة‪.‬‬ ‫زين لهم سوء عملهم‪ :‬أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لنه إفتيات‬ ‫على الشارع واحتيال على تحليل الحرام‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك العتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال‬ ‫تعالى {إن عدة الشهور عند ال اثنا عشر شهرا} ل تزيد ول تنقص‪ ،‬وأنها هكذا في اللوح‬ ‫المحفوظ {يوم خلق السموات والرض}‪ . 3‬وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب‪،‬‬ ‫والقعدة والحجة ومحرم‪ ،‬وحرمها ال تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها‬ ‫من السفر للتجارة وللحج والعمرة ول يخافون أحدا‪ ،‬ولما‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالشهور‪ :‬ما تتألف منه السنة القمرية‪ ،‬واحدها‪ :‬شهر‪ ،‬مشتق من الشهرة سميت به اليام‬ ‫من أوّل ظهور الهلل إلى سراره‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬الصحيح‪ ،‬والشارة في قوله‪{ :‬ذاك الدين القيّم} إلى عدة الشهور‪ ،‬وتقسيمها إلى حُرم‬ ‫وغيرها وإلى عدم ارتكاب الذنوب فيها‪.‬‬ ‫‪ 3‬قوله‪{ :‬يوم خلق السموات والرض‪ } ..‬قاله ليبيّن أن قضاء وقدره كان قبل ذلك وأنه سبحانه‬ ‫وتعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والرض‪.‬‬

‫( ‪)2/365‬‬ ‫جاء السلم وأعز ال أهله‪ ،‬نسخ حرمة القتال فيها‪ .‬وقوله تعالى (ذلك الدين القيّم} أي تحريم هذه‬ ‫الشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى {فل تظلموا فيهن أنفسكم} أي‬ ‫ل ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب ال تعالى وسخطه عليكم‬ ‫فل تعرضوا أنفسكم له‪ ،‬وقوله تعالى {وقاتلوا المشركين} هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال‬ ‫المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله {كافة}‪ 1‬أي جميعا ل يتأخر‬ ‫منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتعموا أنتم على قتالهم‪ ،‬وقوله {واعلموا أن ال‬ ‫مع المتقين} وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن ال معكم بنصره وتأييده على المشركين‬ ‫العصاة وقوله عز وجل {إنما النسيء ‪ 2‬زيادة في الكفر} أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر‬ ‫كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفُتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة‬ ‫في كفر الكافرين ‪ ،3‬لنه محاربة لشرع ال وهي كفر قطعا لقوله تعالى {يضل به الذين كفروا}‬ ‫آي بالنسيء يزدادون ضللً فوق ضللهم‪ .‬وقوله {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} يعني النسيء‬ ‫وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر‬ ‫الحرام‪ ،‬فعاما يحلون وعاما يحرمون حتى يوافقوا عدة الشهر الحُرُم‪ ،‬بل زيادة ول نقصان‪ ،‬ظنا‬ ‫منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا البليسية كما قال تعالى {زين لهم سوء أعمالهم} والمزين‬ ‫للباطل قطعا هو الشيطان‪ .‬وقوله تعالى {وال ل يهدى القوم الكافرين} يخبر تعالى أنه عز وجل ل‬ ‫يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله‪ ،‬وإصرارهم‬ ‫على ذلك‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كافة‪ :‬معناه جميعا‪ ،‬وهو مصدر في موضع الحال أي‪ :‬محيطين بهم ومجتمعين‪ .‬قالوا‪ :‬نظير‬ ‫كافة‪ :‬في كونه ل يبني ول يجمع‪ :‬عاقبة وعامة وخاصة‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ الجمهور‪{ :‬النسيء} مهموزا وقرأ ورش‪{ :‬النسيّ} بالياء المشددة‪ ،‬وهو فعيل بمعنى مفعول‬

‫في قولك‪ :‬نسأت الشيء أنسأه إذا أخّرته‪ ،‬فنقل من منسوء إلى نسيء كما نقل مفتول إلى فتيل لنّه‬ ‫أخف‪ ،‬وأصل هذا التشريع الجاهلي‪ :‬أنّ العرب قبل السلم كانوا أهل حروب فإذا احتاجوا إلى‬ ‫القتال في الشهر الحرام طلبوا من زعيمهم أن ينسيء المحرّم أي‪ :‬يؤخره إلى صفر حتى يمكنهم‬ ‫الحرب في المحرم بعد الحج وما زالوا يؤخرون ويقدمون حتى اختلطت الشهور وأصبح رجب‬ ‫جمادى ورمضان شوال وهكذا‪ ،‬ودارت الشهور دورتها‪ ،‬وفي عام حجة الوداع أعلن الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم عن ذلك بقوله‪" :‬إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق ال السموات‬ ‫والرض" يريد أن الشهور قد رجعت إلى مواضعها‪ ،‬وأصبح كل شهر في موضعه فوقع حجّ‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم في موضعه‪.‬‬ ‫‪ 3‬إذ كفروا بالشرك وإنكار المعاد وتكذيب الرسل‪ ،‬ونسبة الولد ل تعالى ثم بالنسيء ازدادوا كفرا‪.‬‬

‫( ‪)2/366‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهرا‪ 1‬وأيامها ثلثمائة ‪ 2‬وخمسة وخمسون يوما‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن الشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صلى ال عليه وسلم وهي رجب‪ ،‬والقعدة‬ ‫والحجة ومحرم‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الشهر ا الحرم‪ ،‬ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها‪.‬‬ ‫‪ -4‬صفة المعيّة ل تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لهل تقواه‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة الحتيال على ‪ 3‬الشرع بالفتاوى الباطلة لحلل الحرام‪ ،‬وأن هذا الحتيال ما هو إل‬ ‫زيادة في الثم‪.‬‬ ‫‪ -6‬تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان‪.‬‬ ‫ل ومآلً‪.‬‬ ‫‪ -7‬حرمان أهل الكفر والفسق من هداية ال تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حا ً‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا َلكُمْ ِإذَا قِيلَ َلكُ ُم انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الَ ْرضِ أَ َرضِيتُم بِا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا‬ ‫مِنَ الخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الخِ َرةِ ِإلّ قَلِيلٌ(‪)38‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وهي‪ :‬محرم ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم‪ ،‬وصفر ويجمع على أصفار وربيع الول‬ ‫ويجمع على أربعاء وأربعة وربيع الثاني وجمادى الولى ويجمع على جُماديات وتذكر وتؤنث‬ ‫فيقال‪ :‬الولى والول‪ ،‬وجمادى الخرة والخر‪ ،‬ورجب ويجمع على أرجاب ورجاب‪ ،‬وشعبان‬ ‫ويجمع على شعابين وشعبانات‪ ،‬ورمضان ويجمع على رمضانات‪ ،‬ورماضين وأرمضة وشوال‬ ‫ويجمع على شواول وشواويل وشوالت‪ ،‬القعدة ويجمع على ذوات القعدة والحِجة بكسر الحاء‬

‫وفتحها ويجمع على ذوات الحجة‪.‬‬ ‫‪ 2‬وهي‪ :‬الحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود‪ ،‬والثنين ويجمع على أثانين‪ ،‬والثلثاء يذكر‬ ‫ويؤنث ويجمع على ثلثاوات وأثالث والربعاء ويجمع على أربعاوات وأرابيع‪ ،‬والخميس ويجمع‬ ‫على أخمسة وأخامس‪ ،‬والجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها ويجمع على جمع وجمعات‪ ،‬والسبت‬ ‫ويجمع على سبوت كفتح وفتوح وأسبات كقمع وأقماع‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف فيمن كان أوّل من نسأ فقيل عمرو بن لحي‪ ،‬وقيل‪ :‬رجل من كنانة يقال له القلمّس قال‬ ‫شاعرهم‪:‬‬ ‫ومنا ناسىء الشهر القلمّس‬ ‫وقال الكميت‪:‬‬ ‫ألسنا الناسئين على معد ‪...‬‬ ‫شهور الحل نجعلها حراما‬

‫( ‪)2/367‬‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‬ ‫ِإلّ تَنفِرُواْ ُيعَذّ ْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَ ْب ِدلْ َق ْومًا غَيْ َر ُك ْم وَلَ َتضُرّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫جهُ الّذِينَ َكفَرُواْ ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ إِذْ َيقُولُ‬ ‫‪ِ )39‬إلّ تَنصُرُوهُ َفقَدْ َنصَ َرهُ الّلهُ إِذْ َأخْرَ َ‬ ‫ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ‬ ‫سكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّ َدهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَ َروْهَا وَ َ‬ ‫ِلصَاحِبِهِ لَ َتحْزَنْ إِنّ الّلهَ َمعَنَا فَأَن َزلَ اللّهُ َ‬ ‫حكِيمٌ(‪)40‬‬ ‫سفْلَى َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬ ‫َكفَرُواْ ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مالكم؟‪ : 1‬أي أي شيء ثبت لكم من العذار‪.‬‬ ‫انفروا ‪ :‬أي اخرجوا مستعجلين مندفعين‪.‬‬ ‫اثاقلتم‪ :‬أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالً‪.‬‬ ‫إل تنصروه ‪ :.‬أي الرسول محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ثاني اثنين‪ :‬أي هو وأبو بكر رضي ال عنه‪.‬‬ ‫في الغار‪ :‬غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة‪.‬‬ ‫لصاحبه‪ :‬هو أبو بكر الصديق رضي ال عنه‪.‬‬ ‫سكينتهُ‪ :‬أي طمأنينته‪.‬‬ ‫كلمة الذين كفروا‪ :‬هي الدعوة إلى الشرك‪.‬‬ ‫السفلى ‪ :‬أي مغلوبة هابطة ل يسمع لها صوت‪.‬‬ ‫وكلمة ال هي العليا‪ :‬أي دعوة التوحيد "ل إله إل ال محمد رسول ال" هي العليا الغالبة الظاهرة‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪( 1‬ما)‪ :‬حرف استفهام ومعناه التقرير والتوبيخ‪.‬‬

‫( ‪)2/368‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صلى ال عليه وسلم أن هرقل ملك الروم قد جمع‬ ‫جموعه لحرب الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأعلن النبي صلى ال عليه وسلم التعبئة العامة‪،‬‬ ‫وكان الزمن صيفا حارا وبالبلد جدب ومجاعة‪ ،‬وكان ذلك في شوال من سنة تسع‪ ،‬وسميت هذه‬ ‫الغزوة بغزوة العسرة فاستحثّ الربّ تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين‬ ‫عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا‬ ‫في سبيل ال} والقائل هو رسول ال صلى ال عليه وسلم {انفروا في سبيل ال} أي اخرجوا‬ ‫للجهاد {في سبيل ال} أي لجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم‪ .‬وقوله {مالكم} أي‬ ‫أي شيء يجعلكم ل تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلب الكمال والسعاد في الدارين‪ .‬وقوله {اثاقلتم‬ ‫إلى الرض} ‪ 1‬أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلدكم‪{ .‬أرضيتم بالحياة‬ ‫الدنيا من ‪ 2‬الخرة؟} ينكر تعالى على من هذه حاله منهم‪ ،‬ثم يقول لهم {فما متاع الحياة الدنيا} أي‬ ‫ما كل ما يوجد فيها من متع على اختلفها بالنسبة إلى ما في الخرة من نعيم مقيم في جوار رب‬ ‫العالمين {إل قليل} تافه ل قيمة له؛ فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي‪ .‬ثم قال‬ ‫لهم {إلّ تنفروا} أي إن تخليتم عن نصرته صلى ال عليه وسلم وتركتموه يخرج إلى قتال الروم‬ ‫وحده {يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ‪ 3‬ول تضروه شيئا وال على كل شيء قدير}‪ .‬وفي‬ ‫هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {إل تنصروه} ‪ 4‬أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره‬ ‫ال تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا {ثاني اثنين} ‪ 5‬أي هو‬ ‫وأبو بكر ل غير‪{ ،‬إذ هما في الغار} أي غار ثور‪{ ،‬إذ يقول‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل {اثاقلتم}‪ :‬تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء لقرب مخرجهما وزيدت همزة الوصل للتوصل‬ ‫إلى النطق بالساكن ومثله‪ :‬اداركوا وادّارأتم‪ ،‬واطيرنا‪ ،‬وازينت‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬أرضيتم بنعيم الدنيا وراحتها بدلً من نعيم الخرة وسعادتها‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬ل يقعدون عند استنفارهم للجهاد والخروج معه‪ ،‬وأنتم بتخلفكم ل تضرونه شيئا‪ ،‬في الية‬ ‫دليل على حرمة التثاقل عن الجهاد إذا كان مع كراهته ول حرمة مع عدم الكراهة إلّ أن يعيّنه‬ ‫المام فيجب‪.‬‬

‫‪ 4‬أصلها إن الشرطية أدغمت فيها ل النافية‪ ،‬والية تحمل عتابا شديدا‪ ،‬ومعنى الية‪ :‬إن تركتم‬ ‫نصرته فقد تكفل ال بها‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬أحد اثنين كثالث ثلثة ورابع أربعة‪.‬‬

‫( ‪)2/369‬‬ ‫لصاحبه}‪ :‬لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول ال‪{ ،‬ل تحزن إن ال معنا فأنزل ال‬ ‫سكينته عليه} فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه ‪{ ،1‬وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة‬ ‫الذين كفروا} وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها {السفلى} مغلوبة هابطة {وكلمة ال} كلمة ل إله إل‬ ‫ال محمد رسول ال {هي العليا} الغالبة الظاهرة {وال عزيز} غالب ‪ 2‬ل يغالب {حكيم} في‬ ‫تصرفه وتدبيره‪ ،‬ينصر من أراد نصره بل ممانع ويهزم من أراد هزيمته بل مغالب‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا المام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو‬ ‫النفير العام‪.‬‬ ‫‪ -2‬يجب أن يكون النفير في سبيل ال ل في سبيلٍ غير سبيله تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الخرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب نصرة رسول ال صلى ال عليه وسلم في دينه في أمته في سنته‪.‬‬ ‫‪ -5‬شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله‪.‬‬ ‫‪ -6‬السلم يعلو ول يعلى عليه‪.‬‬ ‫سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ(‪َ )41‬لوْ‬ ‫خفَافًا وَ ِثقَالً وَجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَنفُ ِ‬ ‫ا ْنفِرُواْ ِ‬ ‫طعْنَا‬ ‫شقّ ُة وَسَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ َلوِ اسْتَ َ‬ ‫ك وََلكِن َبعُ َدتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬ ‫صدًا لّتّ َبعُو َ‬ ‫سفَرًا قَا ِ‬ ‫كَانَ عَ َرضًا قَرِيبًا وَ َ‬ ‫عفَا الّلهُ عَنكَ لِمَ َأذِنتَ َلهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ‬ ‫سهُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ(‪َ )42‬‬ ‫لَخَ َرجْنَا َم َعكُمْ ُيهِْلكُونَ أَنفُ َ‬ ‫َلكَ الّذِينَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬قلب أبي بكر رضي ال عنه‪.‬‬ ‫‪ 2‬إذ أحبط تعالى أعمال قريش في طلبها الرسول صلى ال عليه وسلم لتقتله حيث جعلت مائة‬ ‫ناقة لمن يأتيها برأسه وأنجى ال رسوله منهم وانتهى إلى المدينة ونصره عليهم‪.‬‬

‫( ‪)2/370‬‬

‫صَ َدقُو ْا وَ َتعْلَمَ ا ْلكَاذِبِينَ(‪)43‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫خفافا وثقالً‪ :‬الخفاف جمع خفيف‪ :‬وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب‪ .‬والثقال‬ ‫جمع ثقيل‪ :‬وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي ل جدة عنده‪.‬‬ ‫ذلكم ‪ :‬أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الرض وترك الجهاد حالً ومآلً‪.‬‬ ‫عرضا قريبا‪ :‬غنيمة في مكان قريب غير بعيد‪.‬‬ ‫أو سفرا قاصدا‪ :‬أيما معتدلً ل مشقة فيه‪.‬‬ ‫الشقة ‪ :‬الطريق الطويل الذي ل يقطع إل بمشقة وعناء‪.‬‬ ‫عفا ال عنك ‪ :‬لم يؤاخذك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه اليات يأمر تعالى المؤمنين‬ ‫بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوي كالكبير‬ ‫العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى {انفروا خفافا وثقالً وجاهدوا ‪ 1‬بأموالكم وأنفسكم}‬ ‫أعداء ال الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في السلم أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام السلم‬ ‫{ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى النتهاء بهم إلى إحدى‬ ‫الغايتين خير لكم من الخلود إلى الرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل‪ ،‬إن كنتم تعلمون‬ ‫ذلك‪ ،‬وقوله تعالى {لو كان عرضا‪ 2‬قريبا وسفرا قاصدا لتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة}‪ 3‬يقول‬ ‫تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم لو كان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الية محكمة ولم تنسخ‪ ،‬والمراد منها‪ :‬أن المام إذا أعلن عن النفير العام‪ ،‬وجب السراع إلى‬ ‫الخروج معه على أي حال من كبر وصغر وغنى وفقر‪.‬‬ ‫‪ 2‬العرض‪ :‬ما يعرض من منافع الدنيا‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬الغنيمة أي‪ :‬لو كان الذي دعوا إليه‬ ‫عرضا قريبا أو كان الذي دعوا إليه سفرا قاصدا أي‪ :‬سهل معلوم الطرق لتبعوك‪.‬‬ ‫‪ 3‬الشقة‪ :‬بالضم‪ :‬السفر إلى أرض بعيدة وهي هنا تبوك‪ ،‬نظير هذه الية من السنة قوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬لو يعلم أحدهم أنه يحد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء‪ "..‬المرماة‪:‬‬ ‫ظلف الشاة‪.‬‬

‫( ‪)2/371‬‬ ‫أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة اليمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة‬ ‫حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لتبعوك وخرجوا معك‪ ،‬ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي‬

‫زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا العذار إليك وتخلفوا‪ .‬وقوله تعالى {وسيحلفون‬ ‫بال} أي لكم قائلين‪ :‬لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم‪.‬‬ ‫قال تعالى {يهلكون أنفسهم} حيث يجلبون لها سخط ‪ 1‬ال وعقابه {وال يعلم إنهم لكاذبون} في كل‬ ‫ما اعتذروا به‪ .‬هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية (‪ )42 -41‬وأما الية الثالثة فقد تضمنت‬ ‫عتاب ال تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض‬ ‫إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الذن لحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال‬ ‫تعالى {عفا ال عنك} ‪ 2‬أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه‬ ‫الستفهام {لم أذنت لهم} تعجيلً للمسرة للنبي صلى ال عليه وسلم إذ لو أخر عن جملة العتاب‬ ‫لوجد خوفا وحزنا‪ ،‬وقوله تعالى {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} علة للعتاب على‬ ‫الذن للمنافقين ‪ 3‬بالتخلف عن الخروج إلى تبوك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إذا أعلن المام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ول يقعد أحد‪ ،‬إل بإذن لجل علة‬ ‫قامت به فاستأذن فأذن له‪.‬‬ ‫‪ -2‬الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خيرٌ من تركه حالً ومآلً‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليمان الكاذبة لبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط ال تعالى وعذابه‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية العتاب للمحب‪.‬‬ ‫‪ -5‬جواز مخالفة الولى على النبي صلى ال عليه وسلم لعدم علمه ما لم يعلّمه ال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بسبب كذبهم ونفاقهم وأيمانهم الكاذبة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أخبره بالعفو قبل العتاب رحمة به وإكراما له‪ ،‬إذ لو قال له ِلمَ أذنت لهم أوّل لكان يطير قلبه‬ ‫صلى ال عليه وسلم من الفرق أي‪ :‬الخوف‪.‬‬ ‫‪ 3‬هؤلء قوم منافقون قالوا نستأذنه في القعود فإن أذن لنا قعدنا‪ ،‬وان لم يأذن لنا قعدنا‪ .‬أمّا غير‬ ‫هؤلء فقد رخّص له في الذن لمن شاء في قوله‪{ :‬فأذن لمن شئت منهم} من سورة النور‪.‬‬

‫( ‪)2/372‬‬ ‫سهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ(‪)44‬‬ ‫لَ َيسْتَأْذِ ُنكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالّل ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ أَن يُجَا ِهدُواْ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَنفُ ِ‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ َفهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَرَدّدُونَ(‪ )45‬وََلوْ‬ ‫إِ ّنمَا يَسْتَ ْأذِ ُنكَ الّذِي َ‬ ‫طهُ ْم َوقِيلَ ا ْقعُدُواْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ(‪)46‬‬ ‫ع ّد ًة وََلكِن كَ ِرهَ اللّهُ ان ِبعَا َثهُمْ فَثَبّ َ‬ ‫ج لَعَدّواْ لَهُ ُ‬ ‫أَرَادُواْ ا ْلخُرُو َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫ل يستأذنك ‪ :‬أي ل يطلبون منك إذنا بالتخلف عن الجهاد‪.‬‬ ‫وارتابت قلوبهم‪ :‬أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق‪.‬‬ ‫في ريبهم ‪ :‬أي في شكهم‪.‬‬ ‫يترددون ‪ :‬حيارى ل يثبتون على شيء‪.‬‬ ‫لعدّوا له عدّة‪ :‬لهيأوا له ما يلزم من سلح وزاد ومركوب‪.‬‬ ‫انبعاثهم‪ :‬أي خروجهم معكم‪.‬‬ ‫فثبطهم‪ :‬ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب ال‬ ‫تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه ل يستأذنه ‪ 1‬المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن‬ ‫الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه {الذين ل يؤمنون بال واليوم الخر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل يستأذنه المؤمنون ل في القعود ول في الخروج وإنما هم مع مراده صلى ال عليه وسلم فإذا‬ ‫أمر بأمر ابتدروه طاعة ومحبة ورغبة في رضا ال ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/373‬‬ ‫وارتابت قلوبهم} في اليمان بال ورسوله ووعده ووعيده‪ ،‬فهم حيارى مترددون ل يدرون أين‬ ‫يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين‪ ،‬وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذارا تهم‬ ‫إذ لو أرادوا الخروج لعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا‬ ‫عازمين على عدم الخروج بحال من الحوال‪ ،‬ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك‬ ‫متحدين أمرك‪ .‬وهذا عائد إلى أن ال تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما‬ ‫ألقى في قلوبهم من الفشل رفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين هذا ما دلت‬ ‫عليه الية (‪{ )44‬ولو أرادوا الخروج لعدوا له عدته ولكن كره ال انبعاثهم ‪ 1‬فثبطهم وقيل‬ ‫اقعدوا مع القاعدين ‪ }2‬وقوله تعالى في ختام الية الولى (‪{ )44‬وال عليم بالمتقين}‪ 3‬فيه تقرير‬ ‫لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع‪ ،‬فالمؤمنون الصادقون ل يطلبون‬ ‫التخلف عن الجهاد ليمانهم وتقواهم‪ ،‬والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم وال‬ ‫أعلم بهم‪ ،‬ول ينبئك مثل خبير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضيلة اليمان والتقوى إذ صاحبهما ل يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال‪.‬‬

‫‪ -2‬خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد‪ ،‬وصاحبه ل يقدر على أن يجاهد بمال ول‬ ‫نفس‪.‬‬ ‫‪ -3‬سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬انبعاثهم}‪ :‬أي‪ :‬خروجهم معك‪ ،‬ومعنى ثبَطهم‪ :‬حبسهم عنك وخذلهم لنهم قالوا‪ :‬إن لم يأذن لنا‬ ‫في القعود أفسدنا بين صفوف المؤمنين‪.‬‬ ‫‪ 2‬القاعدون‪ :‬هم أولو الضرر‪ ،‬والعميان والزمنى‪ ،‬والنساء والطفال‪ .‬والقائل لهم اقعدوا هو‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم لما طلبوا منه الذن بالقعود وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض أو‬ ‫قاله الرسول صلى ال عليه وسلم حال غضبه عليهم‪ ،‬أو هو تمثيل لخلق ال تعالى داعية القعود‬ ‫في قلوبهم حتى ل يخرجوا فيفسدوا‪.‬‬ ‫‪ 3‬فيه شهادة للمؤمنين الصادقين بالتقوى وهي دعامة الولية الحقة ل تعالى‪ ،‬فاليمان والتقوى‬ ‫بهما تثبت ولية ال للعبد ومن واله ال فل خوف عليه ول حزن‪.‬‬

‫( ‪)2/374‬‬ ‫سمّاعُونَ َلهُ ْم وَالّلهُ‬ ‫ضعُواْ خِلََل ُكمْ يَ ْبغُو َنكُمُ ا ْلفِتْنَ َة َوفِيكُمْ َ‬ ‫ل ْو َ‬ ‫َلوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ خَبَالً و َ‬ ‫ظهَرَ َأمْرُ اللّهِ‬ ‫ق وَ َ‬ ‫لمُورَ حَتّى جَاء ا ْلحَ ّ‬ ‫كاُ‬ ‫ل َوقَلّبُواْ َل َ‬ ‫عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ(‪َ )47‬لقَدِ ابْ َت َغوُاْ ا ْلفِتْنَةَ مِن قَ ْب ُ‬ ‫وَهُمْ كَارِهُونَ(‪) 48‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫لو خرجوا فيكم‪ :‬أي مندسين بين رجالكم‪.‬‬ ‫إل خبالً ‪ :‬الفساد في الرأي والتدبير‪.‬‬ ‫ولوضعوا خللكم ‪ :‬أي لسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والثارة لبقائكم في الفتنة‪.‬‬ ‫وفيكم سماعون لهم‪ :‬أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة‪.‬‬ ‫من قبل ‪ :‬أي عند مجئيك المدينة مهاجرا‪.‬‬ ‫وقلّبوا لك المور‪ :‬بالكيد والمكر والتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم‪.‬‬ ‫وظهر أمر ال ‪ :‬بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين ال أفواجا‪.‬‬ ‫وهم كارهون‪ :‬أي لمجيء الحق وظهور أمر ال بانتصار دينه‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى {لو خرجوا فيكم}‪1‬‬ ‫أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك {ما زادوكم إل خبالً}‪ 2‬أي ضررا وفسادا وبلبلة‬ ‫لفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل‪،‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬في هذا الخبار اللهي تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم والمؤمنين من أجل تخلف المنافقين‬ ‫عنهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستثناء منقطع أي‪ :‬ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال لكم‪ .‬والعادة‪ :‬أن الستثناء المنقطع‬ ‫يكون‪ :‬بمعنى لكن إذ ليس هو جزء من المستثنى منه‪.‬‬

‫( ‪)2/375‬‬ ‫{ولوضعوا}‪ 1‬أي أسرعوا ركائبهم {خللكم} أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط {يبغونكم}‬ ‫بذلك {الفتنة} وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان‬ ‫من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى {وفيكم سماعون لهم} أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف‬ ‫اليمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا‬ ‫وغيره كره ال انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والطفال والعجز والمرضى‪،‬‬ ‫وقوله تعالى {وال عليم بالظالمين} الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه‪ .‬فلذا صرفهم‬ ‫عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام‪ .‬وقوله تعالى في الية‬ ‫الثانية (‪{ )48‬لقد ابتغوا الفتنة من قبل} بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها السلم وهم‬ ‫يثيرون الفتن بين أصحابك لليقاع بهم‪ ،‬وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو‬ ‫حارثة بالرجوع عن القتال لول أن ال سلم {وقلبوا لك المور} ‪ 2‬وصرفوها في وجوه شتى بقصد‬ ‫القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم {حتى جاء‬ ‫الحق} بفتح مكة {وظهر أمر ال} بدخول أكثر العرب في دين ال {وهم كارهون} لذلك بل أسفون‬ ‫حزنون‪ ،‬ولذا فل تأسفوا على عدم خروجهم معكم‪ ،‬ول تحفلوا به أو تهتموا له‪ ،‬فإن ال رحمة بكم‬ ‫ونصرا لكم صرفهم عن الخروج معكم‪ .‬فاحمدوا ال وأثنوا عليه بما هو أهله‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي أن ل يُشركوا‬ ‫في أمر‪ ،‬وأن ل يعول عليهم في مهمة‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الخذ بالحيطة في المور ذات البال والثر على حياة السلم والمسلمين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اليضاع‪ :‬سرعة السير‪ ،‬يقال‪ :‬أوضع يوضع إيضاعا إذا أسرع في سيره‪ .‬قال دريد بن الصمة‪:‬‬ ‫يا ليتني فيها جذع ‪ ...‬أخبّ فيها وأضع‬ ‫‪ 2‬المور‪ :‬جمع أمر وهو اسم مبهم كشيء‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬

‫*ولكن مقادير جرت وأمور*‬ ‫واللف واللم للجنس‪ :‬أي‪ :‬أمور تعرفونها وأمور تنكرونها‪ ،‬وحتى‪ :‬غائية لتقليبهم المور‪.‬‬

‫( ‪)2/376‬‬ ‫‪ -3‬المنافق يسوءه عزة السلم والمسلمين ويحزن لذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬تدبير ال تعالى لوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء ال وقدره والتسليم به‪.‬‬ ‫طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ(‪ )49‬إِن‬ ‫جهَنّمَ َلمُحِي َ‬ ‫سقَطُو ْا وَإِنّ َ‬ ‫َومِ ْنهُم مّن َيقُولُ ائْذَن لّي َولَ َتفْتِنّي َألَ فِي ا ْلفِتْنَةِ َ‬ ‫ل وَيَ َتوَلّواْ وّ ُهمْ فَرِحُونَ(‪)50‬‬ ‫سؤْهُمْ وَإِن ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ َيقُولُواْ قَدْ َأخَذْنَا َأمْرَنَا مِن قَ ْب ُ‬ ‫ُتصِ ْبكَ حَسَ َنةٌ تَ ُ‬ ‫قُل لّن ُيصِيبَنَا ِإلّ مَا كَ َتبَ الّلهُ لَنَا ُهوَ َم ْولَنَا وَعَلَى الّلهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ(‪ُ )51‬قلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ‬ ‫ن وَنَحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُمُ الّلهُ ِبعَذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ َأوْ بِأَ ْيدِينَا فَتَرَ ّبصُواْ إِنّا‬ ‫حسْنَيَيْ ِ‬ ‫حدَى الْ ُ‬ ‫بِنَا ِإلّ إِ ْ‬ ‫َم َعكُم مّتَرَ ّبصُونَ(‪)52‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ومنهم ‪ :‬أي من المنافقين وهو الجد بن قيس‪.‬‬ ‫إئذن لي ‪ :‬أي في التخلف عن الجهاد‪.‬‬ ‫ول تفتني ‪ :‬أي ل توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأي نساء الروم ل يملك نفسه‪.‬‬ ‫حسنة تسؤهم‪ :‬الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها‬ ‫ويحزنون‪.‬‬ ‫قد أخذنا أمرنا من قبل ‪ :‬أي احتطنا للمر ولذا لم نخرج معهم‪.‬‬ ‫إحدى الحسنين‪ :‬الولى الظفر بالعدو والنتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة‪.‬‬

‫( ‪)2/377‬‬ ‫فتربصوا ‪ :‬أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى {ومنهم من يقول‬ ‫ائذن لي} أي في التخلف عن الجهاد‪{ ،‬ول تفتني} بإلزامك لي بالخروج أي ل توقعني في الفتنة‪،‬‬ ‫فقد روى أن النبي صلى ال عليه وسلم قال له‪ .‬هل لك في ‪ 1‬بلد بني الصفر؟ فقال إني مغرم‬ ‫بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الصفر ‪( 2‬وهم الروم) ل أصبر عنهن فأفتن‪ ،‬والقائل هذا هو‬ ‫الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه وردا لباطله‪{ :‬أل في الفتنة‬ ‫سقطوا} وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} به وبأمثاله من أهل‬

‫الكفر والنفاق‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى أما الية الثانية (‪ )50‬فقد تضمنت الكشف عما يقوله‬ ‫المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة‬ ‫يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم‪ ،‬وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم {قد‬ ‫أخذنا أمرنا} أي احتطنا للمر فلم نخرج معهم {ويتولوا} راجعين إلى بيوتهم وأهليهم {وهم‬ ‫فرحون}‪ .‬هذا ما تضمنته الية التي هي قوله تعالى {إن تصبك حسنة ‪ 3‬تسؤهم‪ ،‬وان تصبك‬ ‫مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون}‪ 4‬أما اليتان الثالثة والرابعة (‪-51‬‬ ‫‪ )52‬فقد علم ال سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لولئك المنافقين وإخبارا لهم بما يسؤهم‬ ‫فقال {قل لن يصيبنا} أي من حسنة أو سيئة إل ما كتب ال ‪ 5‬لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إل‬ ‫خيرا لنه مولنا {وعلى ال فيلتوكل المؤمنون} ونحن مؤمنون وعلى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في رواية ياجَدّ هل لك في جلد بني الصفر لتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال الجد الخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬سمي الروم بني الصفر‪ :‬لن الحبشة غزتهم وسبتهم فنشأ جيل أصفر اللون بين البياض‬ ‫والسواد‪ ،‬وهو اللون الصفر‪.‬‬ ‫‪{ 3‬إن تصبك حسنة} جملة شرطية وجملة {تسؤهم} جواب وجزاء لها كما أن جملة {وإن تصبهم}‬ ‫شرط‪ ،‬والجزاء {يقولوا} الخ‪.‬‬ ‫‪{ 4‬ويتولوا} أي‪ :‬راجعين إلى بيوتهم ومجالسهم وهم كافرون‪ ،‬فهم متولون في الحقيقة عن اليمان‬ ‫{فرحون} أي‪ :‬معجبون بنجاحهم المؤقت‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬في اللوح المحفوظ الذي هو كتاب المقادير‪ ،‬أو هو ما أخبرنا به كتابه القرآن الكريم مِن أنّا‬ ‫إمّا نظفر فيكون الظفر حسنى لنا وإمّا أن نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا‪.‬‬

‫( ‪)2/378‬‬ ‫ربنا متوكلون‪ ،‬وقال له‪{ :‬قل هل تربصون بنا} ‪ 1‬أي هل تنتظرون بنا إل إحدى الحسنيين‪2 :‬‬ ‫النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الستشهاد في سبيل ال‪ ،‬ثم النعيم المقيم في‬ ‫جوار رب العالمين وعليه {فتربصوا إنا معكم متربصون} ‪ ،3‬وسوف ل نشاهد إل ما يسرنا‬ ‫ويسوءكم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين‪ ،‬وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي‬ ‫علمة النفاق البارزة في كل منافق‪.‬‬

‫‪ -3‬وجوب التوكل على ال وعدم الهتمام بأقوال المنافقين‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم‪ :‬النصر أو الشهادة‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه‪.‬‬ ‫سقِينَ(‪َ )53‬ومَا مَ َن َعهُمْ أَن ُتقْبَلَ مِ ْنهُمْ‬ ‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا لّن يُ َتقَ ّبلَ مِنكُمْ إِ ّنكُمْ كُن ُتمْ َق ْومًا فَا ِ‬ ‫ُقلْ أَنفِقُواْ َ‬ ‫ل وَ ُهمْ‬ ‫ل وَهُمْ كُسَالَى َولَ يُنفِقُونَ ِإ ّ‬ ‫لةَ ِإ ّ‬ ‫َنفَقَا ُتهُمْ ِإلّ أَ ّنهُمْ َكفَرُواْ بِاللّ ِه وَبِرَسُولِهِ وَلَ يَأْتُونَ الصّ َ‬ ‫كَارِهُونَ(‪ )54‬فَلَ ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُ ُهمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُي َعذّ َبهُم ِبهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْ َهقَ‬ ‫سهُ ْم وَهُمْ كَافِرُونَ(‪)55‬‬ ‫أَنفُ ُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬التربص ‪ :‬النتظار‪ ،‬والستفهام للتوبيخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحسنيان‪ :‬هما الغنيمة والشهادة‪.‬‬ ‫‪{ 3‬فتربصوا} هذا المر للتهديد والوعيد‪ ،‬كأنما يقول لهم‪ :‬انتظروا مواعد الشيطان فإنا مُنتظرون‬ ‫مواعد الرحمن‪ ،‬وشتان بين ما ننتظر وما تنتظرون!!‬

‫( ‪)2/379‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫طوعا أو كرها ‪ :.‬أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على النفاق‪.‬‬ ‫إنكم كنتم قوما فاسقين‪ :‬الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم‪.‬‬ ‫كسالى‪ :‬متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلة‪.‬‬ ‫فل تعجبك أموالهم‪ :‬أي ل تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد‪.‬‬ ‫وتزهق أنفسهم‪ :‬أي تفيض وتخرج من أجسامهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تعليم ال تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم كيف يرد على المنافقين فقال له قل‬ ‫لهم أيها الرسول {انفقوا}‪ 1‬حال كونكم طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم}‪ ،‬أي أخبرهم أن ما‬ ‫ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن‬ ‫يتقبله ال منهم لنهم ‪ 2‬كانوا قوما فاسقين بكفرهم بال وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما‪ .‬هذا ما‬ ‫دلت عليه الية الولى (‪ )53‬أما الية الثانية (‪ )54‬فقد أخبر تعالى عن السباب الرئيسية التي‬ ‫حالت دون قبول نفقاتهم وهى أولً الكفر بال وبرسوله‪ ،‬وثانيا إتيانهم الصلة وهم كسالى‬ ‫كارهون‪ ،‬وثالثا كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى {وما منعهم ‪ 3‬أن تقبل منهم نفقاتهم إل أنهم‬ ‫كفروا بال وبرسوله ول يأتون الصلة إل وهم كسالى ‪ 4‬ول ينفقون إل وهم كارهون}‪ 5‬هذا ما‬ ‫تضمنته الية الثانية أما الية الثالثة (‪ )55‬فإن ال تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم‬

‫أموالهم وأولدهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول {فل تعجبك أموالهم ول أولدهم} أي ل‬ ‫تستحسنوها ول تخبروهم بذلك‪ .‬وبين تعالى لرسوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن هذه الية نزلت في الجد بن قيس إذ هو الذي قال للرسول صلى ال عليه وسلم إئذن‬ ‫لي في القعود عن الخروج إلى قتال الروم وهذا مالي أعينك به والمر في قوله‪{ :‬انفقوا} للتسوية‬ ‫أي‪ :‬انفقوا أول تنفقوا فكل المرين سواء‪ ،‬في عدم قبول ما تنفقون‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجملة تعليلية أي‪ :‬قوله‪{ :‬لن يتقبل منكم} الخ ذكرت تعليلً لعدم قبول ما ينفقون‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا بيان للتعليل السابق في عدم قبول نفقاتهم مع ذكر أسباب أخرى حالت دون قبول ما‬ ‫ينفقون‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬إذا كان في جماعة صلى وإذا انفرد لم يصل‪ .‬أي‪ :‬المنافق‬ ‫لنه ل يرجو على الصلة ثوابا‪ ،‬ول يخشى على تركها عقابا وهذا منشأ الكسل في الصلة‬ ‫وغيرها من سائر العبادات‪.‬‬ ‫ن من مات على الكفر ل ينفعه ما عمله في الدنيا من خير إلّ انه يخفف‬ ‫‪ 5‬هنا مسألتان‪ :‬الولى‪ :‬أ ّ‬ ‫عنه العذاب لحديث أبي طالب‪ ،‬وأنه في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه‪ .‬كما أنه‬ ‫قد يكون سببا في سعة رزقه في الدنيا للحديث‪ ،‬وأما الكافر فيطعم‪ .‬الثانية أن من أسلم منهم يثاب‬ ‫على ما عمله من الخير أيام كفره‪.‬‬

‫( ‪)2/380‬‬ ‫علة إعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال {إنما يريد ال ليعذبهم ‪ 1‬بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم‬ ‫وهم كافرون} ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد‬ ‫يشعرون معه بألم ل نظير له لنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم إذ ل يريدون نصر‬ ‫السلم ول ظهوره‪ ،‬وأما أولدهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في السلم ويعملون‬ ‫به ول يستطيعون أن يردوهم عن ذلك‪ ،‬أيّ أَلمٌ نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين‬ ‫بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أبا أو أما أو أخا أو أختا أو أقرب قريب؟ وزيادة‬ ‫على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد‪ ،‬وبهذا سلى الرب تعالى رسوله‬ ‫والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك ل ليسعدهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل ‪.2‬‬ ‫‪ -2‬إطلق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الطلق‪.‬‬

‫‪ -3‬حرمة التكاسل في الصلة وأن ذلك من صفات المنافقين‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل ال زكاة أو غيرها‪.‬‬ ‫‪ -5‬كراهية استحسان المسلم ِلمَا عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع‪.‬‬ ‫جدُونَ مَ ْلجَأً َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ‬ ‫وَيَحِْلفُونَ بِالّلهِ إِ ّنهُمْ َلمِنكُ ْم َومَا هُم مّنكُمْ وََلكِنّهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ(‪َ )56‬لوْ يَ ِ‬ ‫جمَحُونَ(‪َ )57‬ومِ ْنهُم مّن يَ ْلمِ ُزكَ‬ ‫مُدّخَلً ّلوَّلوْاْ إِلَ ْي ِه وَهُمْ َي ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فعل الرادة يعني بنفسه تقول‪ :‬أردت خيرا‪ ،‬وعدي هنا بللم لجل التعليل كقول الشاعر‪:‬‬ ‫أريد لنسي حبها فكأنما ‪ ...‬تمثل لي ليلي بكل مكان‬ ‫‪ 2‬لقوله تعالى‪{ :‬لئن أشركت ليحبطن عملك} الية‪ ،‬وقول الرسول صلى ال عليه وسلم في عبدال‬ ‫بن جدعان وقد قالت له عائشة رضي ال عنها يا رسول ال أن ابن جدعان كان في الجاهلية‬ ‫يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال ‪":‬ل ينفعه لنه لم يقل يوما رب اغفر لي‬ ‫خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/381‬‬ ‫ضوْاْ مَا‬ ‫سخَطُونَ(‪ )58‬وََلوْ أَ ّن ُهمْ َر ُ‬ ‫طوْاْ مِنهَا ِإذَا ُهمْ يَ ْ‬ ‫فِي الصّ َدقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِ ْنهَا َرضُواْ وَإِن لّمْ ُيعْ َ‬ ‫آتَا ُهمُ الّل ُه وَرَسُولُ ُه َوقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِن َفضْلِ ِه وَرَسُوُلهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ(‪)59‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وما هم منكم‪ :‬أي في باطن المر لنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين‪.‬‬ ‫يفرقون ‪ :‬أي يخافون خوفا شديدا منكم‪.‬‬ ‫ملجأ ‪ :‬أي مكانا ًحصينا يلجأون إليه‪.‬‬ ‫أو مغارات‪ :‬جمع مغارة وهي الغار في الجبل‪.‬‬ ‫أو مدخلً‪ :‬أي سربا في الرض يستتر فيه الخائف الهارب‪.‬‬ ‫يجمحون‪ :‬يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها‪.‬‬ ‫يلمزك ‪ :‬أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك‪.‬‬ ‫إذا هم يسخطون ‪ :‬أي غير راضين‪.‬‬ ‫حسبنا ال ‪ :‬أي كافينا ال كل ما يهمنا‪.‬‬ ‫إلى ال راغبون‪ :‬إلى ال وحده راغبون أي طامعون راجون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من‬ ‫أكرمه ال بالتوبة فقال تعالى عنهم {ويحلفون بال إنهم لمنكم}‪ 1‬أي من أهل ملتكم ودينكم‪{ ،‬وما هم‬

‫منكم} أي في واقع المر إذ هم كفار منافقون {ولكنهم قوم يفرقون} أي يخافون منكم خوفا شديدا‬ ‫فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم‪ ،‬ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من‬ ‫سيوفكم قال تعالى‪{ :‬لو يجدون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لنهم يتخذون أيمانهم الكاذبة وقاية يتقون بها ما يخافونه من بطش المؤمنين بهم إذا عرفوا أنهم‬ ‫كافرون كما قال تعالى من سورتهم {اتخذوا أيمانهم جنّة}‪.‬‬

‫( ‪)2/382‬‬ ‫ملجأ}‪ 1‬أي حصنا {أو مغارات} أي غيرانا في جبال {أو مدخلً}‪ 2‬أي سربا في الرض {لولوا}‬ ‫أي أدبروا إليها {وهم يجمحون}‪ 3‬أي مسرعين ليتمنعوا منكم‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى‬ ‫والثانية أما الية الثالثة والرابعة (‪ )59 -58‬فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صلى‬ ‫ال عليه وسلم بأنه ل يعدل في القسمة فقال تعالى {ومنهم من يلمزك ‪ 4‬في الصدقات فإن أعطوا‬ ‫منها رضوا} أ ي عن الرسول وقسمته {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} هذا ما تضمنته الية‬ ‫(‪ )58‬وأما الية الخيرة (‪ )59‬فقد أرشدهم ال تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عز‬ ‫وجل {ولو أنهم رضوا ‪ 5‬ما أتاهم ال ورسوله}‪ ،‬أي من الصدقات {وقالوا حسبنا ال} أي كافينا ال‬ ‫{سيؤتينا ال من فضله} الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا {إنا إلى ال} وحده‬ ‫{راغبون} طامعون راجعون أي لكان خيرا لهم وأدْ َركَ لحاجتهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪.:‬‬ ‫‪ -1‬الَيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث آية المنافق ثلث‪( :‬إذا حدث كذب وإذا وعد‬ ‫أخلف وإذا أتمن خان)‪.‬‬ ‫‪ -2‬الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق‪.‬‬ ‫‪ -3‬عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬مظاهر الرحمة اللهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الملجأ مكان اللجأ يقال لجأت إلى كذا‪ :‬إذا أويت إليه واعتصمت به وألجأت أمري إليه أي‪:‬‬ ‫أسندته‪.‬‬ ‫‪ 2‬المدخل‪ :‬مفتعل اسم كان للدّخال الذي هو افتعال من الدخول قلبت فيه تاء الفتعال دالً‬ ‫لوقوعها بعد الدال فصارت مدخلً بدل متدخل‪ ،‬ونظيره‪ .‬إدّان أصلها إتدان‪ ،‬وقرأها يعقوب وحده‬

‫أو مدخلً بفتح الميم وإسكان الدال اسم مكان هي دخل‪.‬‬ ‫‪ 3‬الجموح‪ :‬نفور في إسراع‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي أن النبي صلى ال عليه وسلم أعطى بعض رعاة الغنم شيئا لفقرهم فطعن أبو الحواظ‬ ‫المنافق فقال‪ :‬ما هو بالعدل كيف يضع صدقاتكم في رعاء الغنم إعانة لهم‪ .‬كما أنّ ذا الخويصرة‬ ‫التميمي واسمه حرفوص بن زهير وهو أصل الخوارج قال للرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬اعدل‬ ‫يا رسول ال فقال له‪" :‬ويلك ومَن يعدل إذا لم اعدل" فنزلت الية وقال عمر دعني أضرب عنقه يا‬ ‫رسول ال فقال رسول ال‪" :‬معاذ ال أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"‪.‬‬ ‫‪ 5‬جواب لو محذوف تقديره‪ :‬لكان خيرا لهم‪ ،‬وهو مذكور في التسفير في آخر الحديث‪.‬‬

‫( ‪)2/383‬‬ ‫ويسعدوا في الدارين‪.‬‬ ‫‪ -5‬ل كافي إل ال‪ ،‬ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه‪.‬‬ ‫ن َوفِي‬ ‫ب وَا ْلغَا ِرمِي َ‬ ‫إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْل ُفقَرَاء وَا ْلمَسَاكِينِ وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا وَا ْل ُمؤَّلفَةِ قُلُو ُبهُ ْم َوفِي ال ّرقَا ِ‬ ‫حكِيمٌ(‪)60‬‬ ‫سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ الّل ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الصدقات‪ :‬جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الموال‪.‬‬ ‫للفقراء ‪ :‬جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ول يسأل الناس‪.‬‬ ‫والمساكين‪ :‬جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه السؤال‪.‬‬ ‫والعاملين عليها‪ :‬أي على جمعها وجابتها وهم الموظفون لها‪.‬‬ ‫والمؤلفة قلوبهم ‪ :‬هم أناس يرجى إسلمهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن‬ ‫وخطر ينفع ال بهم إن أسلموا وحسن إسلمهم‪.‬‬ ‫وفي الرقاب ‪ :‬أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق‪ ،‬فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم‬ ‫أو أقساط كتابتهم‪.‬‬ ‫وفي سبيل ال‪ :‬أي الجهاد لعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة‪.‬‬ ‫وابن السبيل ‪ :‬أي المسافر المنقطع عن بلده ولو كان غنيا ببلده‪.‬‬ ‫فريضة من ال‪ :‬أي فرضها أدته تعالى فريضة على عباده المؤمنين‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫بمناسبة لمز المنافقين الرسول صلى ال عليه وسلم والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في‬ ‫هذه الية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع‬

‫( ‪)2/384‬‬ ‫فقال عز وجل {إنما الصدقات} محصورة في الصناف الثمانية التي تذكر وهم‪:‬‬ ‫(‪ )1‬الفقراء ‪ 1‬وهم المؤمنون الذين ل يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء‬ ‫ومأوى‪.‬‬ ‫(‪ )2‬المساكين ‪ 2‬وهم الفقراء الذين ل يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا ‪ 3‬فكانوا يسألون الناس‬ ‫ويظهرون المسكنة ‪ 4‬لهم والحاجة‪.‬‬ ‫(‪ )3‬الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم‬ ‫في العمل الحكومي‪.‬‬ ‫(‪ )4‬المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للسلم والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم‪،‬‬ ‫فيعطون من الزكاة تأليفا أي جمعا لقلوبهم على السلم ومحبته ونصرته ونصرة أهله‪ ،‬وقد يكون‬ ‫أحدهم يسلم بعد فيعطى ترغيبا له في السلم‪ ،‬وقد يكون مسلما لكنه ضعيف السلم فيعطى تثبيتا‬ ‫له وتقوية على السلم‪.‬‬ ‫(‪ )5‬في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة‬ ‫وتحريره فل يجوز لنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لن ولء المعتوق له‪.‬‬ ‫(‪ )6‬الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة ال تعالى على نفسه‬ ‫وعائلته‪ ،‬ولم يكن لديه مال ل نقد ول عرض يسدد به ديونه‪.‬‬ ‫(‪ )7‬في سبيل ال وهو تجهيز الغزاة والنفاق عليهم تسليحا وإركابا وطعاما ولباسا‪.‬‬ ‫(‪ )8‬ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬الفقير هو صفة مشبهة من الفقر أي المتصف بالفقر وهو‪ :‬عدم امتلك ما به الكفافة‬ ‫لحاجته المعاشية وضده الغنى‪ ،‬والمسكين‪ :‬ذو المسكنة وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر‪،‬‬ ‫والفقير والمسكين يغني ذكر أحدهما عن الخر‪ ،‬أمّا إذا ذكرا معا فلكلّ واحد حقيقة كما تقدم‪ ،‬وفي‬ ‫أيّهما أشدّ فقرا خلف‪ ،‬وأحسن ما قيل هو أن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه‪،‬‬ ‫والمسكين‪ :‬الذي ل شيء له‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال القرطبي‪ :‬فائدة الخلف في الفقراء والمساكين تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلن وللفقراء‬ ‫والمساكين فمن قال هما صنف واحد يكون الثلث الموصى به نصفه لفلن ونصفه الخر للفقراء‪،‬‬ ‫ومن قال‪ :‬هما صنفان يقسم الثلث الموصى به بينهم أثلثا‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في حالة الفقر التي يصح للفقير أن يأخذ معها الزكاة‪ ،‬فمن قائل إن لم يكن له مائتا درهم‬ ‫جاز له أخذ الزكاة‪ ،‬ومن قائل‪ :‬خمسون درهما ومن قائل‪ :‬أربعون درهما‪ .‬ومن قائل‪ :‬من كان‬

‫قويا على الكسب لقوة بدنه فل يعطى الزكاة لحديث‪" :‬ل تحل الصدقة لغني ول لذي مرّة سوي"‪.‬‬ ‫‪ 4‬ورد الوعيد الشديد فيمن يطلب الصدقة وهو غني عنها من ذلك قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من‬ ‫سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" رواه أبو داود‪ .‬قالت العلماء‪ :‬إن الذي له شبع يوم‬ ‫وليلة ل يحل له أن يسأل‪ .‬اختلف في نقل الزكاة من بلد إلى بلد‪ ،‬والراجح‪ :‬الجواز لضرورة الفقر‬ ‫وشدته‪.‬‬

‫( ‪)2/385‬‬ ‫ولو كانوا أغنياء ببلدهم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {فريضة من ال }‪ 1‬أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله ال تعالى‬ ‫فريضة لزمة على عباده المؤمنين‪ .‬وقوله {وال عليم} أي بخلقه وأحوالهم {حكيم} في شرعه‬ ‫وقسمته‪ ،‬فلذا ل يجوز أبدا مخالفة هذه القسمة فل يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور‬ ‫في هذه الية وليس شرطا أن يعطى كل الصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في‬ ‫الفقراء والمساكين‪ ،‬أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الولى أن يقسمها بين الصناف‬ ‫المذكورة من وجد منها‪ ،‬إذ قد ل توجد كلها في وقت واحد‪.‬‬ ‫هداية الية‬ ‫من هداية الية‪:.‬‬ ‫‪ -1‬تقرير فرضية الزكاة‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان مصارف الزكاة‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب التسليم ل تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها‪.‬‬ ‫‪ -4‬إثبات صفات ال تعالى وهي هنا‪ :‬العلم والحكمة‪ ،‬ومتى كان ال تعالى عليما بخلقه وحاجاتهم‬ ‫حكيما في تصرفه وشرعه وجب التسليم لمره والخضوع له بالطاعة والنقياد‪.‬‬ ‫حمَةٌ‬ ‫ي وَ ِيقُولُونَ ُهوَ ُأذُنٌ ُقلْ أُذُنُ خَيْرٍ ّلكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَيُ ْؤمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَرَ ْ‬ ‫َومِ ْنهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِب ّ‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪َ )61‬يحِْلفُونَ بِالّلهِ َلكُمْ لِيُ ْرضُوكُ ْم وَالّلهُ‬ ‫لّلّذِينَ آمَنُواْ مِنكُ ْم وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ َرسُولَ الّلهِ َلهُمْ َ‬ ‫وَرَسُولُهُ َأحَقّ أَن يُ ْرضُوهُ إِن كَانُواْ ُم ْؤمِنِينَ(‪ )62‬أََلمْ َيعَْلمُواْ أَنّهُ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬فريضة} منصوب على المصدر المؤكد إذ تقدير الكلم‪ :‬إنما فرض ال الصدقات للفقراء‬ ‫والمساكين الخ‪ ..‬فريضة منه تعالى وهو العليم بخلقه الحكيم في تدبيره وصنعه‪.‬‬

‫( ‪)2/386‬‬

‫جهَنّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَِلكَ الْخِ ْزيُ ا ْل َعظِيمُ(‪)63‬‬ ‫مَن يُحَادِدِ الّل َه وَرَسُولَهُ فَأَنّ َلهُ نَارَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪.‬‬ ‫يؤذون النبي ‪ :‬أي الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والذى المكروه يصيب النسان كثيرا أو‬ ‫يسيرا‪.‬‬ ‫هو أذن ‪ :‬أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الذى‪.‬‬ ‫قل أذن خير لكم‪ :‬أي هو يسمع من كل من يقول له ل يتكبر ولكن ل يقر إل الحق ول يقبل إل‬ ‫الخير والمعروف فهو إذن خير لكم ل إذن شر مثلكم أيها المنافقون‪.‬‬ ‫ويؤمن للمؤمنين‪ :‬أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والنصار أما غيرهم فإنه وإن‬ ‫يسمع منهم ل يصدقهم لنهم كذبة فجرة‪.‬‬ ‫وال‪ :.‬أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه‪.‬‬ ‫من يُحادد ال ورسوله ‪ :‬أي يعاديهما‪ ،‬ويقف دائما في حدّ وهما في حد فل ولء ول موالة أي ل‬ ‫محبة ول نصرة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى‪{ :‬ومنهم ‪ 1‬الذين يؤذون‬ ‫النبي} أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه‪ ،‬ويبين تعالى بعض‬ ‫ذلك الذى فقال {ويقولون هو أذن} أي يسمع كل ما يقال له‪ ،‬وحاشاه صلى ال عليه وسلم أن يقر‬ ‫سماع الباطل أو الشر أو الفساد‪ ،‬وإنما يسمع ما كان خيرا ولو كان من منافق يكذب ويحسن‬ ‫القول‪ .‬وأمر ال تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله {قل أذن خير ‪ 2‬لكم} يسمع ما فيه خير لكم‪ ،‬ول‬ ‫يسمع ما هو شر لكم‪ .‬إنه لما كان ل يواجههم بسوء صنيعهم‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل هذه الية نزلت في عتاب بن قشير إذ قال‪ :‬إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له‪ .‬وقيل‪ :‬نزلت‬ ‫في نبتل بن الحارث الذي قال فيه الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من أراد أن ينظر إلى الشيطان‬ ‫فلينظر إلى نبتل بن الحارث" وكان ماكرا خبيثا مشوّه الخلقة‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرىء بالرفع والتنوين {أذنٌ خيرٌ لكم } قرأ الجمهور بالضافة {أذن خيرٍ}‪.‬‬

‫( ‪)2/387‬‬ ‫وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والحسان على أن قالوا‪{ :‬هو أذن} طعنا فيه صلى ال عليه وسلم‬ ‫وعيبا له‪ .‬وقوله تعالى {يؤمن بال ويؤمن للمؤمنين } هذا من جملة ما أمر الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم أن يقول للمنافقين ردا على باطلهم‪ .‬أنه صلى ال عليه وسلم يؤمن بال ربا وإلها‪{ ،‬ويؤمن‬ ‫للمؤمنين} أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريّته صلى ال عليه وسلم وقوله {ورحمة ‪ 1‬للذين‬

‫آمنوا منكم} أيضا من خيريّته فهو صلى ال عليه وسلم رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء‬ ‫به فكمل عليه وسعد به في حياتيه‪ .‬وقوله تعالى {والذين يؤذون رسول ال} أي بأي نوع من‬ ‫الذى قل أو كثر توعدهم ال تعالى بقوله {لهم عذاب أليم} وهو ل محالة نازل بهم وهم ذائقوه‬ ‫حتما هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )61‬أما الية الثانية (‪ )62‬فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم‬ ‫يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ول قالوا فيه شيئا يريدون بذلك إرضاء المؤمنين‬ ‫حتى ل يبطشوا بهم انتقاما لكرامة نبيهم قال تعالى {يحلفون بال ‪ 2‬لكم ليرضوكم وال ورسوله‬ ‫أحق ‪ 3‬أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا ال‬ ‫تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول باليمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون‪.‬‬ ‫وقوله في الية الثالثة (‪{ )63‬ألم يعلموا ‪ 4‬أنه من يحادد ال ورسوله} أي يشاقهما ويعاديهما فإن له‬ ‫جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالدا فيها {ذلك الخزي العظيم} أي كونه في نار جهنم خالدا فيها‬ ‫ل يخرج منها هو الخزي العظيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬وهو رحمة‪ .‬على أنّ رحمة‪ :‬خبر لمبتدأ محذوف وقرىء‪ :‬ورحمةٍ بالجر عطفا على {خيرٍ‬ ‫لكم} وفيه بُعدٌ كبير‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أنّ نفرا من المنافقين منهم الجلس بين سويد ووديعة بن ثابت فقالوا‪ :‬إن كان ما يقول‬ ‫محمد حقا لنحن شرّ من الحمير وبينهم غلم فغضب لقولهم هذا وأخبر به الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم فكذبوه في قوله فأنزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬سيحلفون بال لكم‪ }..‬الخ‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال سيبويه ‪ :‬تقدير الكلم‪ ،‬وال أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ثم حذف طلبا‬ ‫لليجاز كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫نحن بما عندنا وأنت بما ‪ ...‬عندك راض والرأي مختلف‬ ‫والحامل على هذا التقدير لن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يرض بقول الرجل‪ :‬ما شاء ال‬ ‫وشئت فقال له ‪" :‬قل ما شاء ال وحده" لنّ العطف بالواو ل يقتضي الترتيب‪.‬‬ ‫‪ 4‬الستفهام للنكار والتوبيخ والمعنى ‪ :‬ألم يعلموا شأنا عظيما هو من يجادل ال ورسوله له نار‬ ‫ن كل واحد واقف في حدّ ل يتصل بالخر‪ ،‬والفاء في {فأن‬ ‫جهنم‪ ،‬والسحادة‪ ،‬المعاداة والمشاقة كأ ّ‬ ‫له } لربط جواب شرط {من} وأعيدت أنّ في الجواب لتوكيد أنّ المذكورة قبل الشرط توكيدا‬ ‫لفظيا‪.‬‬

‫( ‪)2/388‬‬

‫‪ -1‬حرمة أذية رسول ال بأي وجه من الوجوه‪.‬‬ ‫‪ -2‬كون النبي صلى ال عليه وسلم رحمة للمؤمنين دعوة لليمان والسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬توعد ال تعالى من يؤذى رسوله بالعذاب الليم دليل على كفر من يؤذي رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون ‪ 1‬للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا‬ ‫بالفعل‪ ،‬وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والنتقام منهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب طلب رضا ال تعالى بفعل محابه وترك مساخطه‪.‬‬ ‫‪ -6‬ترعد من يحادد ال ورسوله بالعذاب الليم‪.‬‬ ‫حذَرُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ أَن تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِبهِم ُقلِ اسْ َتهْ ِزؤُواْ إِنّ اللّهَ ُمخْرِجٌ مّا‬ ‫يَ ْ‬ ‫ض وَنَ ْلعَبُ ُقلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِ ِه وَرَسُولِهِ كُن ُتمْ‬ ‫حذَرُونَ(‪ )64‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ لَ َيقُولُنّ إِ ّنمَا كُنّا نَخُو ُ‬ ‫تَ ْ‬ ‫تَسْ َتهْ ِزؤُونَ(‪ )65‬لَ َتعْتَذِرُواْ َقدْ َكفَرْتُم َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ إِن ّن ْعفُ عَن طَآ ِئفَةٍ مّنكُمْ ُنعَ ّذبْ طَآ ِئفَةً بِأَ ّنهُمْ كَانُواْ‬ ‫مُجْ ِرمِينَ(‪)66‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يحذر المنافقون ‪ :‬أي يخافون ويحترسون‪.‬‬ ‫تنزّل عليهم سورة ‪ :‬أي في شأنهم فتفضحهم بإظهار عيبهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل جواز الحلف بال وعدم جواز الحلف بغيره لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫"من حلف فليحلف بال أو ليصمت ومن حلف له فليصدق"‪.‬‬

‫( ‪)2/389‬‬ ‫تنبّئهم بما في قلوبهم ‪ :‬أي تخبرهم بما يضمرونه في نفوسهم‪.‬‬ ‫قل استهزئوا ‪ :‬المر هنا للتهديد‪.‬‬ ‫مخرج ما تحذرون ‪ :‬أي مخرجه من نفوسكم مظهره للناس أجمعين‪.‬‬ ‫نخوض ونلعب ‪ :‬أي نخوض في الحديث على عادتنا ونلعب ل نريد سبا ول طعنا‪.‬‬ ‫تستهزئون ‪ :‬أي تسخرون وتحتقرون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن المنافقين لكشف الستار عنهم وإظهارهم على حقيقتهم ليتوب منهم‬ ‫من تاب ال عليه قال تعالى مخبرا عنهم {يحذر ‪ 1‬المنافقون أن تنزّل عليهم ‪ 2‬سورة تنبئّهم بما في‬ ‫قلوبهم} أي يخشى المنافقون أن تنزل في شأنهم على رسول ال صلى ال عليه وسلم {سورة‬ ‫تنبئههم} أي تخبرهم بما في قلوبهم فتفضحهم‪ ،‬ولذا سميت هذه السورة بالفاضحة ‪ 3‬وقوله تعالى‬

‫لرسوله {قل استهزئوا إن ال مخرج ما تحذرون} يهددهم تعالى بأن ال مخرج ما يحذرون‬ ‫إخراجه وظهوره مما يقولونه في خلواتهم من الطعن في السلم وأهله‪ .‬وقوله تعالى {ولئن‬ ‫سألتهم} أي عما قالوا من الباطل‪ .‬لقالوا {إنما كنا نخوض ونلعب ‪ }4‬ل غير‪ .‬قل لهم يا رسولنا {أبا‬ ‫ل وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} وذلك أن نفرا من المنافقين في غزوة تبوك قالوا في مجلس‬ ‫لهم‪ :‬ما رأينا مثل قرائنا هؤلء أرغب بطونا ول أحذب ألسنا‪ ،‬ول أجبن عند اللقاء! فبلغ ذلك‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم ونزلت هذه اليات‪ :‬وجاءوا يعتذرون لرسوله ال فأنزل ال { ل‬ ‫تعتذروا ‪ 5‬قد كفرتم بعد إيمانكم} أي الذي كنتم تدعونه‪ ،‬لن الستهزاء بال والرسول والكتاب كفر‬ ‫مخرج من الملة‪ ،‬وقوله تعالى {إن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يروى أن أحد المنافقين قال‪ :‬وال وددت لو أني قُدّمت فجُلدت مائة ول ينزل فينا شيء يفضحنا‬ ‫فنزلت الية‪{ :‬يحذر المنافقون‪ }..‬وهي خبر وإن قال بعضهم هي إنشاء بمعنى‪ :‬ليحذر المنافقون‪.‬‬ ‫‪ 2‬معلوم أن القرآن ينزل على الرسول صلى ال عليه وسلم وقوله ‪{:‬عليهم} بمعنى المؤمنين لنهم‬ ‫والرسول في جانب والمنافقون في آخر‪ ،‬فصحّ أن يقال‪ :‬تنزل على المؤمنين‪ ،‬والرسول معهم‪،‬‬ ‫وهو المختص بالوحي‪.‬‬ ‫‪ 3‬وسميت أيضا‪ :‬المثيرة ‪ ،‬والمبعثرة ‪ ،‬والحفارة لنها أثارت كامن المنافقين وبعثرته وحفرت ما‬ ‫في قلوبهم وأخرجته‪.‬‬ ‫‪ 4‬ذكر الطبري أنّ قائل هذه المقالة‪ :‬وديعة بن ثابت قال ابن عمر‪ :‬رأيته معلقا بحقب ناقة رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول‪ :‬إنّما كنّا نخوض ونلعب والرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬أبال وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‪.‬‬ ‫‪{ 5‬ل تعتذروا} نهاهم عن العتذار لنه غير نافع لهم ول مجدٍ واعتذر بمعنى‪ :‬أعذر أي صار ذا‬ ‫عذر‪ ،‬والعتذار محو أثر الموجدة أو هو القطع‪ ،‬أي قطع ما في القلب من الموجدة‪ ،‬ومنه قيل‪:‬‬ ‫عدرة الغلم‪ :‬وهو ما يقطع منه عند الختان‪.‬‬

‫( ‪)2/390‬‬ ‫نعف عن طائفة منكم} لنهم يتوبون كمخشي بن حمير ‪{ ،1‬نعذب طائفة} أخرى لنهم ل يتوبون‬ ‫وقوله تعالى {بأنهم كانوا مجرمين} علة للحكم بعذابهم وهو إجرامهم بالكفر والستهزاء بالمؤمنين‬ ‫إذ من جملة ما قالوه‪ :‬قولهم في الرسول صلى ال عليه وسلم يظن هذا يشيرون إلى النبي وهم‬ ‫سائرون يفتح قصور الشام وحصونها فأطلع ال نبيه عليهم فدعاهم فجاءوا واعتذروا بقولهم إنا كنا‬ ‫نخوض ‪ 2‬أي في الحديث ونلعب تقصيرا للوقت‪ ،‬ودفعا للملل عنا والسآمة فأنزل تعالى {قل أبال}‬ ‫الية‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الكشف عن مدى ما كان يعيش عليه المنافقون من الحذر والخوف‪.‬‬ ‫‪ -2‬كفر من استهزأ بال أو آياته أو رسوله‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل يقبل اعتذار ‪3‬من كفر بأي وجه وإنما التوبة أو السيف فيقتل كفرا‪.‬‬ ‫‪ -4‬مصداق ما أخبر به تعالى من أنه سيعذب طائفة فقد هلك عشرة بداء الدبيلة "خراج يخرج من‬ ‫الظهر وينفذ ألمه إلى الصدر فيهلك صاحبه حتما"‪.‬‬ ‫ف وَ َيقْبِضُونَ أَيْدِ َيهُمْ‬ ‫ضهُم مّن َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلمُنكَ ِر وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْل َمعْرُو ِ‬ ‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ َب ْع ُ‬ ‫ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬ ‫جهَنّمَ‬ ‫ت وَا ْل ُكفّارَ نَارَ َ‬ ‫سقُونَ(‪ )67‬وَعَدَ ال ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلمُنَا ِفقَا ِ‬ ‫نَسُواْ الّلهَ فَنَسِ َيهُمْ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬ ‫خَاِلدِينَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هو مخشي بن حمير الشجعي وقد تاب عند سماعه هذه الية وحسن إسلمه‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخوص‪ :‬الدخول في الماء‪ ،‬نم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف العلماء في الهزل في سائر الحكام كالبيع والنكاح والطلق على ثلثة أقوال ل يلزم‬ ‫مطلقا‪ ،‬يلزم مطلقا‪ ،‬التفرقة بين البيع وغيره‪ ،‬وهدا الراجح‪ ،‬لنّ النكاح والطلق والعتاق ورد فيها‬ ‫النص من السنة لحديث الترمذي وحسنه مع وصفه بالغرابة وبه العمل عد جماهير الصحابة‬ ‫والتابعين والفقهاء وهو‪" :‬ثلث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلق والرجعة" وحديث الموطأ‪:‬‬ ‫"ثلث ليس فيهن لعب‪ :‬النكاح والطلق والعتق"‪.‬‬

‫( ‪)2/391‬‬ ‫فِيهَا ِهيَ حَسْ ُب ُه ْم وََلعَ َنهُمُ اللّهُ وََلهُمْ عَذَابٌ ّمقِيمٌ(‪ )68‬كَالّذِينَ مِن قَبِْل ُكمْ كَانُواْ أَشَدّ مِن ُكمْ ُق ّوةً وََأكْثَرَ‬ ‫خضْتُمْ‬ ‫ل ِقهِ ْم وَ ُ‬ ‫ل ِقكُمْ َكمَا اسْ َتمْتَعَ الّذِينَ مِن قَبِْلكُمْ ِبخَ َ‬ ‫ل وََأ ْولَدًا فَاسْ َتمْ َتعُواْ بِخَل ِقهِمْ فَاسْ َتمْ َتعْتُم بِخَ َ‬ ‫َأ ْموَا ً‬ ‫عمَاُلهُمْ فِي الّدنْيَا وَالخِ َرةِ وَُأوْلَئِكَ ُهمُ ا ْلخَاسِرُونَ(‪ )69‬أَلَمْ يَأْ ِتهِمْ نَبَأُ‬ ‫طتْ أَ ْ‬ ‫كَالّذِي خَاضُواْ ُأوْلَ ِئكَ حَبِ َ‬ ‫ن وَا ْل ُمؤْتَ ِفكَاتِ أَتَ ْتهُمْ رُسُُلهُم‬ ‫ح وَعَا ٍد وَ َثمُو َد َو َقوْمِ إِبْرَاهِي َم وَِأصْحَابِ مَدْيَ َ‬ ‫الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ َقوْمِ نُو ٍ‬ ‫سهُمْ َيظِْلمُونَ(‪)70‬‬ ‫بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المنافقون ‪ :‬أي الذين يظهرون للمؤمنين اليمان بألسنتهم ويسترون الكفر في قلوبهم‪.‬‬ ‫بعضهم هن بعض ‪ :1‬أي متشابهون في اعتقادهم وقولهم وعملهم فأمرهم واحد‪.‬‬ ‫بالمنكر‪ :‬أي ما ينكره الشرع لضرره أو قبحه وهو الكفر بال ورسوله‪.‬‬ ‫عن المعروف‪ :‬أي ما عرفه الشرع نافعا فأمر به من اليمان والعمل الصالح‪.‬‬

‫يقبضون أيديهم ‪ :‬أي يمسكونها عن النفاق في سبيل ال‪.‬‬ ‫نسوا ال فنسيهم ‪ :‬أي تركوا ال فلم يؤمنوا به وبرسوله فتركهم وحرمهم من توفيقه وهدايته‪.‬‬ ‫عذاب مقيم‪ :‬أي دائم ل يزول ول يبيد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬بعضهم من بعض}‪ :‬أي‪ :‬هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين‪ ،‬أو هم متشابهون في المر‬ ‫بالمنكر والنهي عن المعروف‪.‬‬

‫( ‪)2/392‬‬ ‫بخلقهم ‪ :‬أي بنصيبهم وحظهم من الدنيا‪.‬‬ ‫وخضتم ‪ :‬أي في الكذب والباطل‪.‬‬ ‫والمؤتفكات ‪ :‬أي المنقلبات حيث صار عاليها سافلها وهي ثلث مدن ‪.1‬‬ ‫بالبينات ‪ :‬اليات الدالة على صدقهم في رسالتهم إليهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في هتك استار المنافقين وبيان فضائحهم لعلهم يتوبون‪ .‬قال تعالى {المنافقون‬ ‫والمنافقات بعضهم من بعض} أي كأبعاض الشيء الواحد وذلك لن أمرهم واحد ل يختلف‬ ‫بعضهم عن بعض في المعتقد والقول والعمل بيّن تعالى حالهم بقوله {يأمرون بالمنكر وينهون عن‬ ‫المعروف} وهذا دليل على انتكاسهم وفساد قلوبهم وعقولهم‪ ،‬إذ هذا عكس ما يأمر به العقلء‪،‬‬ ‫والمراد من المنكر الذي يأمرون به هو الكفر والعصيان‪ ،‬والمعروف الذي ينهون عنه هو اليمان‬ ‫بال ورسوله وطاعتهما‪ .‬وقوله تعالى {ويقبضون أيديهم} كناية عن المساك وعدم البذل في‬ ‫النفاق في سبيل ال ‪ .2‬وقوله {نسوا ال} فلم يؤمنوا به ولم يؤمنوا برسوله ولم يطيعوا ال‬ ‫ورسوله {فنسيهم} ال بأن تركهم محرومين من كل هداية ورحمة ولطف‪ .‬وقوله {إن المنافقين هم‬ ‫الفاسقون} نقرير لمعنى {نسوا ال فنسيهم}‪ ،‬إذ كفرهم بال وبرسوله هو الذي حرمهم هداية ال‬ ‫تعالى ففسقوا سائر أنواع الفسق فكانوا هم الفاسقين الجديرين بهذا الوصف وهو الفسق والتوغل‬ ‫فيه‪ .‬وقوله تعالى في الية (‪{ )68‬وعد ‪ 3‬ال المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها‬ ‫هي حسبهم} ‪ 4‬أي كافيهم {ولعنهم ال ولهم عذاب مقيم} أي دائم ل يزول ول يبيد ول يفنى فقد‬ ‫حملت هذه الية أشد وعيد لهل النفاق والكفر إذ توعدهم الرب تعالى بنار جهنم خالدين فيها‬ ‫وبالعذاب المقيم الذي ل يبارحهم ول يتركهم لحظة أبد البد وذلك بعد أن لعنهم ال فأبعدهم‬ ‫وأسحقهم من كل رحمة وخير‪ .‬وفي الية الثالثة (‪ )69‬يأمر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هي‪ :‬سدوم‪ ،‬وعمورة‪ ،‬وأرمة‪ ،‬وكانت مدنا متتاخمة بعضها قريب من بعض‪.‬‬

‫‪ 2‬أي‪ :‬وصفهم بالبخل والشح كما قال تعالى ‪{:‬أشحة على الخير} كما أن امتناعهم عن الخروج‬ ‫إلى الجهاد يعتبر قبضا ليديهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬الصل أن الوعد يكون في الخير واليعاد يكون في الشر‪ ،‬وإطلق الوعد على الوعيد كما هو‬ ‫هنا تهكم بهم‪.‬‬ ‫‪{ 4‬هي حسبهم} مبتدأ وخبر ومعناه‪ :‬أنها كافية ووفاء لجزاء أعمالهم‪.‬‬

‫( ‪)2/393‬‬ ‫تعالى رسوله أن يقول للمنافقين المستهزئين بال وآياته ورسوله؟ أنتم أيها المنافقون كأولئك الذين‬ ‫كانوا من قبلكم في الغترار بالمال والولد والكفر بال والتكذيب لرسله حتى نزل بهم عذاب ال‬ ‫ومضت فيهم سنته في إهلكهم هذا ما تضمنته الية الكريمة إذ قال تعالى {كالذين من قبلكم ‪1‬‬ ‫كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالً وأولدا فاستمتعوا بخلقهم} أي بنصيبهم الذي كتب لهم في الدنيا‬ ‫{فأستمتعتم بخلقكم} أي بما كتب لكم في هذه الحياة الدنيا {كما استمتع الذين من قبلكم} أي سواء‬ ‫بسواء {وخضتم} في الباطل والشر وبالكفر والتكذيب {كالذي خاضوا ‪ }2‬أي كخوضهم سواء‬ ‫بسواء أولئك الهالكون {حبطت أعمالهم في الدنيا والخرة} أي تلشت وذهبت ولم ينتفعوا منها‬ ‫بشيء‪{ ،‬وأولئك هم الخاسرون}‪ .‬وبما أنكم أيها المنافقون تسيرون على منهجهم في الكفر‬ ‫والتكذيب والغترار بالمال والولد فسوف يكون مصيركم كمصيرهم وهو الخسران المبين‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى في الية الرابعة (‪{ )70‬ألم يأتهم ‪ 3‬نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم‬ ‫وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم ‪ 4‬رسلهم بالبينات} أي اليات الدالة على توحيد ال وصدق‬ ‫رسوله وسلمة دعوتهم كما جاءكم أيها المنافقون رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم بالبينات‬ ‫فكذبتم كما كذب الذين من قبلكم فنزل بهم عذاب ال فهلك قوم نوح بالطوفان وعاد بالريح العاتية‪،‬‬ ‫وثمود بالصاعقة‪ ،‬وقوم إبراهيم ‪ 5‬بسلب النعم وحلول النقم‪ ،‬وأصحاب مدين بالرجفة وعذاب‬ ‫الظلمة‪ ،‬والمؤتفكات ‪ 6‬بالمطر والئتفاك أي القلب بأن أصبح أعالي مدنهم الثلث ‪ 7‬أسافلها‪،‬‬ ‫وأسافلها أعاليها‪ ،‬وما ظلمهم ال تعالى بما أنزل عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‪ ،‬وأنتم أيها‬ ‫المنافقون إن لم تتوبوا إلى ربكم سيحل بكم ما حل بمن قبلكم أو أشد لنكم لم تعتبروا بما سبق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الكاف‪ :‬في محل نصب أي‪ :‬وعدكم ال أيها المنافقون والمنافقات كما وعد الذين من قبلكم نار‬ ‫جهنم تخلدون فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬الكاف‪ :‬في محل نصب نعت لمصدر محذوف أي‪ :‬وخضتم خوضا كالذي خاضوا أي‪ :‬في‬ ‫الباطل والشر والفساد‪ .‬والذي بمعنى الجمع‪ ،‬ويحوز أن يكون الذين محذوف النون على لغةٍ هذيل‬ ‫قال شاعرهم‪:‬‬

‫وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ‪ ...‬هم القوم كل القوم يا أم خالد‬ ‫‪ 3‬الستفهام للتقرير‪ ،‬والتحذير بمعنى‪ :‬ألم يسمعوا بإهلكنا الكفار من قبلهم؟‬ ‫‪ 4‬أي بدلئل الحق والصدق‪ ،‬والجملة تعليلية‪.‬‬ ‫‪ 5‬هم نمرود بن كنعان وقومه‪.‬‬ ‫‪ 6‬قوم لوط عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 7‬تقدمت أسماء هذه المدن قريبا‪.‬‬

‫( ‪)2/394‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إن المنافقين لما كان مرضهم واحد وهو الكفر الباطني كان سلوكهم متشابها‪.‬‬ ‫‪ -2‬المر بالمنكر والنهي عن المعروف علمة النفاق وظاهرة الكفر وانتكاس الفطرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬الغترار بالمال والولد من عوامل عدم قبول الحق والذعان له والتسليم به‪.‬‬ ‫‪ -4‬تشابه حال البشر وإتباع بعضهم لبعض في الباطل والفساد والشر‪.‬‬ ‫‪ -5‬حبوط العمال بالباطل وهلك أهلها أمر مقضى به ل يتخلف‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب العتبار بأحوال السابقين والتعاظ بما لقاه أهل الكفر منهم من عذاب‪.‬‬ ‫ضهُمْ َأوْلِيَاء َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُنكَ ِر وَ ُيقِيمُونَ‬ ‫ن وَا ْل ُمؤْمِنَاتُ َب ْع ُ‬ ‫وَا ْل ُمؤْمِنُو َ‬ ‫حكِيمٌ(‪ )71‬وَعَدَ‬ ‫ح ُمهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬ ‫لةَ وَيُؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَيُطِيعُونَ اللّ َه وَرَسُوَلهُ ُأوْلَ ِئكَ سَيَرْ َ‬ ‫الصّ َ‬ ‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ‬ ‫اللّهُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ‬ ‫وَ ِرضْوَانٌ مّنَ الّلهِ َأكْبَرُ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ(‪)72‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫والمؤمنون ‪ :‬أي الصادقون في إيمانهم بال ورسوله ووعد ال ووعيده‪.‬‬ ‫أولياء بعض‪ :‬أيما يتولىّ بعضهم بعضا في النّضرة والحماية والمحبة والتأييد‪.‬‬ ‫ويقيمون الصلة"‪ .‬أي يؤدونها في خشوع وافية الشروط والركان والسنن والداب‪.‬‬ ‫ويؤتون الزكاة‪ :‬أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالدراهم والدنانير والمعشرات‪ ،‬والناطقة‬ ‫كالنعام‪ :‬البل والبقر والغنم‪.‬‬

‫( ‪)2/395‬‬

‫في جنات عدن ‪ :‬أي إقامة دائمة ل يخرجون منها ول يتحولون ‪ 1‬عنها‪.‬‬ ‫ورضوان من ال أكبر‪ :‬أي رضوان ال الذي يحله عليهم أكبر من كل نعيم في الجنة‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫بمناسبة ذكر المنافقين وبيان سلوكهم ونهاية أمرهم ذكر تعالى المؤمنين وسلوكهم الحسن‬ ‫ومصيرهم السعيد فقال {والمؤمنون والمؤمنات} أي المؤمنون بال ورسوله ووعده ووعيده‬ ‫والمؤمنات بذلك {بعضهم أولياء بعض} أي يوالي بعضهم بعضا محبة ‪ 2‬ونصرة وتعاونا وتأييدا‬ ‫{يأمرون بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع حقا وخيرا من اليمان وصالح العمال‪{ ،‬وينهون عن‬ ‫المنكر} وهو ما عرفه الشرع باطلً ضارا فاسدا من الشرك وسائر الجرائم فالمؤمنون والمؤمنات‬ ‫على عكس المنافقين والمنافقات في هذا المر وقوله تعالى {ويقيمون ‪ 3‬الصلة ويؤتون الزكاة}‬ ‫والمنافقون ل يأتون الصلة إل وهم كسالى فهم مضيعون لها غير مقيمين لها‪ ،‬ويقبضون أيديهم‬ ‫فل ينفقون‪ ،‬والمؤمنون يطيعون ال ورسوله ‪ ،4‬والمنافقون يعصون ال ورسوله‪ ،‬المؤمنون‬ ‫سيرحمهم ال ‪ ،5‬والمنافقون سيعذبهم ال‪{ ،‬إن ال عزيز} غالب سينجز وعده ووعيده {حكيم}‬ ‫يضع كل شيء في موضعه اللئق به فل يعذب المؤمنين وينعّم المنافقين بل ينعّم المؤمنين ويعذب‬ ‫المنافقين‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )72‬وعد ال المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها النهار}‬ ‫أي من خلل قصورها وأشجارها {خالدين فيها ومساكن} أي قصورا طيبة في غاية النظافة‬ ‫وطيب الرائحة {في جنات عدن ‪ }6‬أي إقامة‪ ،‬وقوله {ورضوان من ال }‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال تعالى من سورة الكهف‪{ :‬ل يبغون عنها حولً} أي‪ :‬تحولً لنّ نعيمها ل يُمل ول تثشوق‬ ‫النفس لغيره أبدا‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهده من السنة قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبّك‬ ‫بين أصابعه وقوله صلى ال عليه وسلم في الصحيح‪" :‬مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل‬ ‫الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"‪.‬‬ ‫‪ 3‬يشمل اللفظ‪ :‬الصلوات الخمس والنوافل كما شمل الزكوات المفروضة والصدقات إذ المدح‬ ‫يحصل بهما معا فرضا ونفل‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬يؤدون الفرائض والسنن فعل ويجتنبون المنهيات والمكروهات تركا‪.‬‬ ‫‪ 5‬السين في {سيرحمهم} للتأكيد وتحمل معنى الخوف والرجاء وهما جناحا المؤمنين ل يطيرون‬ ‫في سماء الكمالت إل بهما‪.‬‬ ‫‪ 6‬شاهدهُ في الصحيح قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما‪ ،‬وجنتان من‬ ‫فضة آنيتهما وما فيهما‪ ،‬وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّ رداء الكبر على وجهه في‬

‫ن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها‬ ‫جنة عدن" وقوله أيضا في الصحيح‪" :‬إ ّ‬ ‫ستون ميل في السماء‪ ،‬للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهن ل يرى بعضهم بعضا"‪.‬‬

‫( ‪)2/396‬‬ ‫أي يحله عليهم أكبر من الجنات والقصور وسائر أنواع النعيم‪ .‬وقوله {ذلك هو الفوز العظيم} ذلك‬ ‫المذكور من الجنة ونعيمها ورضوان ال فيها هو الفوز العظيم‪ .‬والفوز هو السلمة من المرهوب‬ ‫والظفر بالمرغوب‪ .‬هذا الوعد اللهي الصادق للمؤمنين والمؤمنات يقابله وعيد ال تعالى للمنافقين‬ ‫والكفار في اليات السابقة‪ ،‬ونصه {وعد ال المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها‬ ‫هي حسبهم ولعنهم ال ولهم عذاب مقيم}‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان صفات المؤمنين والمؤمنات والتي هي مظاهر إيمانهم وأدلته‪.‬‬ ‫‪ -2‬أهمية صفات أهل اليمان وهي الولء لبعضهم بعضا‪ ،‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫إقامة الصلة‪ ،‬إيتاء الزكاة‪ ،‬طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان جزاء أهل اليمان في الدار الخرة وهو النعيم المقيم في دار السلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬أفضلية رضا ‪ 1‬ال تعالى على سائر النعيم‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان معنى الفوز وهو النجاة من النار‪ ،‬ودخول الجنة‪.‬‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ(‪ )73‬يَحِْلفُونَ بِاللّهِ‬ ‫ن وَاغْلُظْ عَلَ ْيهِ ْم َومَ ْأوَاهُمْ َ‬ ‫يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ جَاهِدِ ا ْل ُكفّا َر وَا ْلمُنَافِقِي َ‬ ‫ل ِمهِ ْم وَ َهمّواْ ِبمَا لَمْ يَنَالُواْ َومَا َن َقمُواْ ِإلّ أَنْ أَغْنَاهُمُ‬ ‫مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَِلمَةَ ا ْل ُكفْرِ َو َكفَرُواْ َبعْدَ إِسْ َ‬ ‫اللّ ُه وَرَسُوُلهُ مِن َفضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ َيكُ خَيْرًا ّل ُه ْم وَإِن يَ َتوَّلوْا ُي َعذّ ْبهُمُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج الشيخان البخاري ومسلم‪ ،‬ومالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول ال‬ ‫ل يقول لهل الجنة‪ :‬يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنّ ال عزّ وج ّ‬ ‫والخير بين يديك فيقول‪ :‬هل رضيتم؟ فيقولون‪ :‬وما لنا ل نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط‬ ‫أحدا من خلقك فيقول‪ :‬أل أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟‬ ‫فيقول‪ :‬أحل عليكم رضواني فل أسخط عليكم بعده أبدا"‬

‫( ‪)2/397‬‬

‫ي وَلَ َنصِيرٍ(‪)74‬‬ ‫عذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ َومَا َل ُهمْ فِي الَ ْرضِ مِن وَِل ّ‬ ‫اللّهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫جاهد الكفار‪ :‬ابذل غاية جهدك في قتال الكفار والمنافقين‪.‬‬ ‫واغلظ عليهم‪ :‬أي في القول والفعل أي شدد عليهم ول تلن لهم‪.‬‬ ‫كلمة الكفر‪ :‬أي كلمة يكفر بها من قالها وهي قول الجلس بن سويد‪ :‬إن كان ما جاء به محمد حقا‬ ‫لنحن شرّ من الحمير‪.‬‬ ‫وهموا بما لم ينالوا ‪ :‬أي هموا بقتل النبي صلى ال عليه وسلم في مؤامرة دنيئة ‪ 1‬وهم عائدون‬ ‫من تبوك‪.‬‬ ‫وما نقموا إل أن أغناهم ‪ :‬أي ما أنكروا أو كرهوا من السلم ورسوله إل أن أغناهم ال بعد فقر‬ ‫أعلى مثل هذا يهمون بقتل رسول ال؟‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يأمر تعالى رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين فيقول {يا أيها النبي ‪2‬‬ ‫جاهد الكفار والمنافقين} وجهاد الكفار يكون بالسلح وجهاد المنافقين يكون باللسان‪ 3 ،‬وقوله‬ ‫تعالى {واغلظ عليهم ‪ }4‬أي شدد عملك وقولك‪ ،‬فل هوادة مع من كفر بال ورسوله‪ ،‬ومع من نافق‬ ‫الرسول والمؤمنين فأظهر اليمان وأسر الكفر وقوله تعالى {ومأواهم جهنم وبئس المصير} أي‬ ‫جهنم يريد ابذل ما في وسعك في جهادهم قتلً وتأدييا هذا لهم في الدنيا‪ ،‬وفي الخرة مأواهم جهنم‬ ‫وبئس المصير‪ ،‬وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )74‬يحلفون بال ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر بعد‬ ‫إسلمهم وهموا بما لم ينالوا} هذا الكلم علّة للمر بجهادهم والغلظ عليهم لقول الجلس بن‬ ‫سويد المنافق‪ :‬لئن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير سمعه منه أحد المؤمنين فبلغه‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فجاء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اقرأ نصها في التفسير فإنها واضحة ومختصرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬يدخل في هذا الخطاب أمته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬بأن يقول لهم الكدمة الغليظة الشديدة ويكفهر في وجوههم أي‪ :‬يعبس ول يبسط وجهه فيهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذه الية نسخت كل شيء من العفو‪ ،‬والصفح الذين كان الرسول صلى ال عليه وسلم يؤمر‬ ‫بهما إزاء المشركين والمنافقين‪.‬‬

‫( ‪)2/398‬‬ ‫الجلس يعتذر ويحلف بال ما قال الذي قال فأكذبه ال تعالى في قوله في هذه الية {يحلفون بال‬ ‫ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلمهم} والسياق دال على تكرر مثل هذا القول‬

‫الخبيث وهو كذلك‪ .‬وقوله تعالى {وهموا بما لم ينالوا ‪ }1‬يعني المنافقين الذين تآمروا على قتل‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم عند عودته من تبوك في عقبة في الطريق إل أن ال فضحهم وخيّب‬ ‫مسعاهم ونجى رسوله منهم حيث بعث عمار بن ياسر يضرب وجوه الرواحل لما غشوه فردوا‬ ‫وتفرقوا بعد أن عزموا على أن لزاحموا رسول ال وهو على ناقته بنوقهم حتى يسقط منها فيهلك‬ ‫أهلكهم ال‪ .‬وقوله تعالى {وما نقموا} ‪ 2‬أي وما كرهوا من رسول ال ول من السلم شيئا إل أن‬ ‫أغناهم ال ورسوله من فضله وهل الغنى بعد الفقر مما ينقم منه‪ ،‬والجواب ل ولكنه الكفر والنفاق‬ ‫يفسد الذوق والفطرة والعقل أيضا‪.‬‬ ‫ومع هذا الذي قاموا به من الكفر والشر والفساد يفتح الرب الرحيم تبارك وتعالى باب التوبة في‬ ‫وجوههم ويقول {فإن يتوبوا} ‪ 3‬من هذا الكفر والنفاق والشر والفساد ‪ 4‬يك ذلك {خيرا لهم} حالً‬ ‫ومآلً أي في الدنيا والخرة‪{ ،‬وإن يتولوا } عن هذا العرض ويرفضوه فيصرون على الكفر‬ ‫والنفاق {يعذبهم ال عذابا أليما} أي موجعا في الدنيا بالقتل والخزي‪ ،‬وفي الخرة بعذاب النار‪،‬‬ ‫{ومالهم في الرض من ولي} ‪ 5‬يتولهم ول ناصر ينصرهم‪ ،‬أي وليس لهم في الدنيا من ولي‬ ‫يدفع عنهم ما أراد ال أن ينزله بهم من الخزي والعذاب وما لهم من ناصر ينصرهم بعد أن‬ ‫يخذلهم ال سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج مسلم عن حذيفة‪" :‬أن اثني عشر رجلً سمّاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فعدهم‬ ‫حذيفة واحدا واحدا قال قلت‪ :‬يا رسول ال أل تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال‪ :‬أكره أن يقول العرب لما‬ ‫ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم‪ ،‬بل يكفيهم ال بالدّبلة" وهي خراج يظهر في الظهر وينصب على‬ ‫الصدر يقتل صاحبه فورا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ليس بنقمون شيئا إل أنهم كانوا فقراء فأغناهم ال بما كان الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫يعطيهم من الغنائم‪ ،‬قيل لحدهم‪ :‬هل تجد في القرآن نظير قولهم اتق شر من أحسنت إليه؟ قال‪:‬‬ ‫نعم هو قوله تعالى‪{ :‬وما نقموا إلّ أن أغناهم ال ورسوله من فضله}‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الجملة متفرعة عن الكلم السابق وهي باب ذكر الوعد بعد الوعيد والترغيب بعد‬ ‫الترهيب‪ ،‬وهو أسلوب القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪ 4‬حذفت نون {يك} تخفيفا إذ الصل يكن‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذه الجملة معطوفة على جملة‪{ :‬يعذلهم ال} وهي وإن كانت اسمية ل يمتنع أن تكون جوابا‬ ‫ثانيا معطوفا على جملة الجزاء‪ ،‬لنه يغتفر في التابع مال يغتفر في المتبوع‪ ،‬فالجزاء جزاءان‪،‬‬ ‫الول‪ :‬تعذيبهم والثاني‪ :‬انعدام الولي والنصير لهم في الرض كلها‪.‬‬

‫( ‪)2/399‬‬

‫هداية اليتين‪.‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان آية السيف ‪ 1‬وهي {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين}‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ الردة وهي أن يقول المسلم كلمة الكفر فيكفر بها وذلك كالطعن في السلم أو سب‬ ‫ال أو رسوله صلى ال عليه وسلم أو التكذيب بما أمر ال تعالى باليمان به والتصديق بضده أي‬ ‫بما أمر ال بتكذيبه‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ التوبة من كل الذنوب‪ ،‬وأن من تاب تقبل توبته‪.‬‬ ‫‪ -4‬الوعيد الشديد لمن يصر على الكفر ويموت عليه‪.‬‬ ‫ن وَلَ َنكُونَنّ مِنَ الصّاِلحِينَ(‪ )75‬فََلمّا آتَاهُم مّن َفضْلِهِ‬ ‫َومِ ْنهُم مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن َفضْلِهِ لَ َنصّ ّدقَ ّ‬ ‫خَلفُواْ الّلهَ مَا‬ ‫عقَ َبهُمْ ِنفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ إِلَى َيوْمِ يَ ْل َقوْنَهُ ِبمَا أَ ْ‬ ‫بَخِلُواْ ِب ِه وَ َتوَلّو ْا وّهُم ّمعْرِضُونَ(‪ )76‬فَأَ ْ‬ ‫جوَاهُمْ وَأَنّ اللّهَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ(‪)78‬‬ ‫وَعَدُوهُ وَ ِبمَا كَانُواْ َيكْذِبُونَ(‪ )77‬أَلَمْ َيعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ سِرّ ُه ْم وَنَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ومنهم ‪ :‬أي من المنافقين‪.‬‬ ‫لئن آتانا من فضله ‪ :‬أي مالً كثيرا‪.‬‬ ‫بخلوا به ‪ :‬أي منعوه فلم يؤدوا حقه من زكاة وغيرها‪.‬‬ ‫فأعقبهم نفاقا‪ :‬أي فأورثهم البخل نفاقا ملزما لقلوبهم ل يفارقها إلى يوم يلقون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يروى عن علي رضي ال عنه أنه قال‪ :‬سيوف ال أربعة‪ :‬واحد على المشركين قال تعالى‪:‬‬ ‫{فاقتلوا المشركين‪ }..‬وثان على الكافرين قال تعالى‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال واليوم الخر‪}..‬‬ ‫وثالث على المنافقين‪ :‬قال تعالى‪{ :‬يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‪ }..‬ورابع على البغاة‪ .‬قال‬ ‫تعالى‪{ :‬فقاتلوا التي تبغي حتى تفيىء إلى أمر ال}‪.‬‬

‫( ‪)2/400‬‬ ‫ال تعالى‪.‬‬ ‫بما أخلفوا ال‪ :.‬أي بسبب إخلفهم ما وعدوا ال تعالى به‪.‬‬ ‫سرهم ونجواهم‪ :‬أي ما يسرونه في نفوسهم ويخفونه‪ ،‬وما يتناجون به فيما بينهم‪.‬‬ ‫علم الغيوب ‪ :‬يعلم كل غيب في الرض أو في السماء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في المنافقين وهم أصناف وهذا صنف ‪ 1‬آخر منهم قد عاهد ال تعالى لئن أغناهم‬ ‫من فضله وأصبحوا ذوي ثروة ومال كثير ليصدقن منه ولينفقنّه في طريق البر والخير‪ ،‬فلما‬

‫أعطاهم ال ما سألوا وكثر مالهم شحوا به وبخلوا‪ ،‬وتولوا عما تعهدوا به وما كانوا عليه من تقوى‬ ‫وصلح‪ ،‬وهم معرضون‪ .‬فأورثهم هذا البخل وخلف الوعد والكذب {نفاقا في قلوبهم ‪ }2‬ل يفارقهم‬ ‫حتى يلقوا ربهم‪ .‬هذا ما دل عليه قوله تعالى {ومنهم من ‪ 3‬عاهد ال لئن آتانا من فضله لنصدقن‬ ‫ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم ‪ 4‬من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في‬ ‫قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا ال ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} ‪ .‬أما الية الخيرة (‪ )78‬وهي‬ ‫قوله تعالى {ألم يعلموا أن ال يعلم سرهم ونجواهم وأن ال علم الغيوب؟؟} فإنها تضمنت توبيخ‬ ‫ال تعالى للمنافقين الذين عاهدوا ال وأخلفوه بموقفهم الشائن كأنهم ل يعلمون أن ال يعلم سرهم‬ ‫ونجواهم وأنه تعالى علم الغيوب‪ ،‬وإل كيف يعدونه ويحلفون له أم يحسبون أن ال ل يسمع‬ ‫سرهم ونجواهم فموقفهم هذا موقف مخز لهم شائن‪ ،‬وويل لهم حيث لزمهم ثمرته وهو النفاق‬ ‫حتى الموت وبهذا أغلق باب التوبة في وجوههم وهلكوا مع الهالكين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال قتادة‪ :‬هذا رجل من النصار قال‪ :‬لئن رزقني ال شيئا لدين فيه حقه ولتصدقن فلما آتاه‬ ‫ال ذلك فعل ما ُقصّ عليكم فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور‪.‬‬ ‫‪{ 2‬نفاقا} نكرة أي‪ :‬نفاقا ما من نوع من أنواع النفاق وليس هو نفاق الكفر إنما هو نفاق العمل‪.‬‬ ‫‪ 3‬الية صريحة ودللتها واضحة في أن أحد أفراد المؤمنين سأل ال المال سواء بواسطة الرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم كأن قال له ادع ال لي‪ ،‬أو سأل بنفسه وقطع عهدا لربه بما ذكر في الية‪،‬‬ ‫ولما أخلف ما عاهد ال عليه أصيب بمرض النفاق في قلبه‪ -‬والعياذ بال تعالى‪ -‬وهل هو ثعلبة‬ ‫بن حاطب أو غيره أما ثعلبة فقد شهد بدرا‪ ،‬وأهل بدر ذُكر لهم وعد عظيم‪ ،‬فل يصح أن يكون‬ ‫أحدهم وتع في هذه الفتة وان كان غيره فهو حق‪ ،‬وجائز أن يكون هذا الغير اسمه ثعلبة فتشابه‬ ‫السم بالسم فطُن أنه البدري وليس هو وال اعلم‪ .‬هذا وال إني لخائف من هذه الية أن تنطبق‬ ‫عليّ فاللهم عفوك وغفرانك لي‪.‬‬ ‫‪ 4‬صيغة الجمع تدل على أن من عاهد ال لم يكن فردا واحدا بل كان جماعة ولذا قال الضحاك‪:‬‬ ‫إنّ الية نزلت في رجال من المنافقين‪ :‬نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومتعب بن قشير إلّ أن‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬فأعقبهم نفاقا} يتنافى مع كونهم منافقين‪ ،‬إلّ أن يقال‪ :‬زادهم نفاقا خُلْفهم هذا على‬ ‫نفاقهم الول‪ .‬وال أعلم‪.‬‬

‫( ‪)2/401‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود ‪ 1‬ال تعالى‪.‬‬

‫‪ -2‬ذم البخل وأهله‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ أن السيئة يتولد عنها سيئة‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز تقريع وتأنيب أهل الباطل‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب مراقبة ال تعالى إذ لو راقب هؤلء المنافقون ‪ 2‬ال تعالى لما خرجوا عن طاعته‪.‬‬ ‫جهْ َدهُمْ فَ َيسْخَرُونَ مِ ْنهُمْ‬ ‫ن لَ َيجِدُونَ ِإلّ ُ‬ ‫ت وَالّذِي َ‬ ‫طوّعِينَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فِي الصّ َدقَا ِ‬ ‫الّذِينَ َي ْلمِزُونَ ا ْل ُم ّ‬ ‫سخِرَ اللّهُ مِ ْن ُه ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )79‬اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأ ْو لَ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ إِن َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَن‬ ‫َ‬ ‫سقِينَ(‪)80‬‬ ‫َي ْغفِرَ الّلهُ َلهُمْ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكفَرُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يلمزون‪ :‬أي يعيبون ويطعنون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اختلف في نية الطلق أو الصدقة بدون أن يلفظ هل يلزمه ما نواه بقلبه أو ل يلزمه‪ ،‬الراجح‪:‬‬ ‫أنه ل يلزمه ما لم يتلفظ به والدليل في قوله صلى ال عليه وسلم "إنّ ال تجاوز لمتى عمّا حدثت‬ ‫به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" رواه الترمذي وقال فيه حسن صحيح‪ ،‬والشاهد في قوله‪" :‬أو‬ ‫تتكلم به" والعمل بهذا عند أهل العلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬جاء في الصحيح قوله صلى ال عليه وسلم "آية المنافق ثلث‪ :‬إذا حدّث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‬ ‫وإذا اؤتمن خان" ولي حديث آخر‪" :‬أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة‬ ‫منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان‪ ،‬وإذا حدّث كذب‪ ،‬و إذا عاهد غدر‬ ‫وإذا خاصم فجر" واختلف العلماء في تأويل هذين الحديثين‪ ،‬وقسموا النفاق إلى اعتقادي وعملي‪،‬‬ ‫فالعتقادي‪ :‬ما كان صاحبه كافرا بال ورسوله مكذبا لهما‪ ،‬والعملي‪ :‬ما كان صاحبه مؤمنا‬ ‫مصدقا ولكن يأتي منه المحظورات جهلً وفسقا‪ .‬وهذا صحيح‪ .‬ولكن يتأتى لعبد يؤمن بال‬ ‫ورسوله أن يتعمد الكذب على المسلمين وإخلف الوعد لهم‪ ،‬والغدر بهم‪ ،‬وخيانتهم في أماناتهم‬ ‫والفجور في التخاصم معهم‪ ،‬ومن هنا كان المطلوب اجراء الخبر على ظاهره ما دام العبد يتعمد‬ ‫هذه المحظورات نكاية بالمسلمين وبغضا لهم وعدم اعتراف بحقوقهم وظلما واعتداء عليهم‪ ،‬إذ‬ ‫مثل هذا ل يكون معه إيمان بال ورسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/402‬‬ ‫المطوّعين ‪ :‬أي المتصدقين بأموالهم زيادة على الفريضة‪.‬‬ ‫إل جهدهم‪ :‬إل طاقتهم وما يقدرون عليه فيأتون به‪.‬‬ ‫فيسخرون منهم‪ :‬أي يستهزئون بهم احتقارا لهم‪.‬‬ ‫استغفر لهم‪ :‬أي اطلب لهم المغفرة أو ل تطلب‪.‬‬

‫ل يهدي القوم الفاسقين‪ :‬أي إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وذلك لتوغلهم في العصيان‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في التنديد بالمنافقين وكشف عوراتهم فقد أخبر تعالى أن {الذين يلمزون ‪1‬‬ ‫المطوعين ‪ 2‬من المؤمنين في الصدقات والذين ل يجدون إل جهدهم ‪ 3‬فيسخرون منهم سخر ال‬ ‫منهم ولهم عذاب أليم}‪ .‬أخبر تعالى أنه سخر منهم جزاء سخريتهم بالمتصدقين وتوعدهم بالعذاب‬ ‫الليم‪ .‬وكيفية لمزهم المتطوعين أن النبي صلى ال عليه وسلم دعا إلى الصدقة فإذا جاء الرجل‬ ‫بمال كثير لمزوه وقالوا مراء‪ ،‬وإذا جاء الرجل بالقليل لمزوه وقالوا‪ :‬ال غني عن صاعك هذا‬ ‫فأنزل ال تعالى فيهم هذه الية ففضحهم وسخر منهم وتوعدهم بأليم العذاب وأخبر نبيه أن‬ ‫استغفاره لهم وعدمه سواء فقال {استغفر لهم ‪ 4‬أو ل تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن‬ ‫يغفر ال لهم } وبين علة ذلك بقوله {ذلك بأنهم كفروا بال ورسوله}‪ ،‬وهذه العلة كافية في عدم‬ ‫المغفرة لهم لنها الكفر والكافر مخلد في النار‪ .‬وأخبر تعالى أنه حرمهم الهداية فل يتوبوا فقال‬ ‫{وال ل يهدي القوم الفاسقين} لن الفسق قد أصبح وصفا لزما لهم فلذا هم ل يتوبون‪ ،‬وبذلك‬ ‫حرموا هداية ال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه قال‪ :‬أمرنا بالصدقة فكنا نحامل على ظهورنا‬ ‫فتصدق أبو عقيل بنصف صاع‪ ،‬قال‪ :‬وجاء إنسان بشيء أكبر منه فقال المنافقون إنّ ال لغني عن‬ ‫صدقة هؤلء وما فعل هذا الخر إلّ رياء فنزلت‪{ :‬الذين يلمزون المطوّعين ‪ }..‬الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬أصل المطوعين‪ :‬المتطوعين أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما وهم‪ :‬الذين يفعلون‬ ‫الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬الجهد‪ :‬شيء قليل يعيش به المقل والجهد والجهد بالفتح أيضا‪ :‬الطاقة والسخرية‪ :‬الستهزاء‪،‬‬ ‫وعاملهم ال تعالى بالمثل فسخر منهم وهم ل يشعرون‪.‬‬ ‫‪ 4‬بيد أنه لما نزلت اليات الفاضحة للمنافقين جاء بعضهم يعتذرون ويطلبون من الرسول صلى‬ ‫ال عليه وسلم أن يستغفر لهم فاستغفر لهم رحمة بهم فأعلمه ربّه تعالى أنّ استغفاره لهؤلء‬ ‫المنافقين مهما بلغ من الكثرة ل ينفعهم وذلك لكفرهم ونفاقهم وفسقهم‪.‬‬

‫( ‪)2/403‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة لمز المؤمن والطعن فيه‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة السخرية بالمؤمن‪.‬‬

‫‪ -3‬غيرة ال على أوليائه حيث سخر ال ممن سخر من المطوعين‪.‬‬ ‫‪ -4‬من مات على الكفر ل ينفعه الستغفار له‪ ،‬بل ول يجوز الستغفار له‪.‬‬ ‫‪ -5‬التوغل في الفسق أو الكفر أو الظلم يحرم صاحبه الهداية‪.‬‬ ‫سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬ ‫لفَ َرسُولِ الّل ِه َوكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَنفُ ِ‬ ‫فَرِحَ ا ْلمُخَّلفُونَ ِب َمقْعَ ِدهِمْ خِ َ‬ ‫ل وَلْيَ ْبكُواْ‬ ‫حكُواْ قَلِي ً‬ ‫شدّ حَرّا ّلوْ كَانُوا َي ْف َقهُونَ (‪ )81‬فَلْ َيضْ َ‬ ‫جهَنّمَ أَ َ‬ ‫َوقَالُواْ لَ تَنفِرُواْ فِي ا ْلحَرّ ُقلْ نَارُ َ‬ ‫ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَآ ِئفَةٍ مّ ْنهُمْ فَاسْتَ ْأذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ َفقُل لّن‬ ‫كَثِيرًا جَزَاء ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ(‪ )82‬فَإِن رّ َ‬ ‫تَخْ ُرجُواْ َمعِيَ أَ َبدًا وَلَن ُتقَاتِلُواْ َم ِعيَ عَ ُدوّا إِ ّنكُمْ َرضِيتُم بِا ْل ُقعُودِ َأوّلَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُواْ مَعَ ا ْلخَاِلفِينَ(‪)83‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فرح المخلفون ‪ :‬أي سرّ الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وقالوا‪ :‬ل تنفروا في الحر‪ :‬أي قال المنافقون لبعضهم بعضا ل تخرجوا للغزو في الحر‪.‬‬ ‫لو كانوا يفقهون ‪ :‬أي لو كانوا يفقهون أسرار المور وعواقبها ونتائجها لما قالوا‪ :‬ل تنفروا في‬ ‫الحر ولكنهم ل يفقهون‪.‬‬ ‫ل وليبكوا ‪ :‬أي في الدنيا‪ ،‬وليبكوا كثيرا في الدار الخرة‪.‬‬ ‫فليضحكوا قلي ً‬

‫( ‪)2/404‬‬ ‫فإن رجعك ال إلى طائفة منهم ‪ :‬أي من المنافقين‪.‬‬ ‫فاقعدوا مع الخالفين‪ :‬أي المتخلفين عن تبوك من النساء والطفال وأصحاب العذار‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن المنافقين فقال تعالى مخبرا عنهم {فرح المخلفون ‪ }1‬أي سر‬ ‫المتخلفون {بمقعدهم خلف ‪ 2‬رسول ال} أي بقعودهم بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم في‬ ‫المدينة {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} في سبيله‪ ،‬وكرههم هذا للجهاد هو ثمرة نفاقهم‬ ‫وكفرهم وقولهم {ل تنفروا في الحر} لن غزوة تبوك كانت في شدة الحر‪ ،‬قالوا هذا لبعضهم‬ ‫بعضا وهنا أمر ال تعالى رسوله أن يرد عليهم قولهم هذا فقال {قل نار جهنم أشد حرا} فلماذا ل‬ ‫يتّقونها بالخروج في سبيل ال كما يتقون الحر بعدم الخروج‪ ،‬وقوله تعالى {لو كانوا يفقهون} أي‬ ‫لما تخلفوا عن الجهاد لن نار جهنم أشد حرا‪ ،‬ولكنهم ل يفقهون وقوله تعالى {فليضحكوا قليلً}‬ ‫أي ‪ 3‬في هذه الحياة الدنيا بما يحصل لهم من المسرات {وليبكوا كثيرا} أي يوم القيامة لما ينالهم‬ ‫من الحرمان والعذاب‪ ،‬وذلك كان {جزاء بما كانوا يكسبون} من الشر والفساد ‪ ،‬وقوله تعالى‬ ‫لرسوله صلى ال عليه وسلم {فإن رجعك ال إلى طائفة منهم ‪ }4‬أي فإن ردك ال سالما من تبوك‬ ‫إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين {فاستأذنوك للخروج} معك لغزو وجهاد {فقل لن تخرجوا معي‬ ‫أبدا‪ ،‬ولن تقاتلوا معي عدوا} وعلة ذلك {أنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين}‪ 5‬أي‬

‫من النساء‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬المخلفون} هم المتركون في المدينة تركهم رسول ال صلى ال عليه وسلم والمؤمنون لنهم‬ ‫غير أهل لصحبة رسول ال صلى ال عليه وسلم فلذاكره ال انبعاثهم فثبطهم أما هم فإنهم فرحوا‬ ‫بتخلفهم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم لنفاقهم وفسقهم‪.‬‬ ‫‪{ 2‬خلف} لغة في خلف‪ ،‬واختير لفظ خلف إشارة إلى أن المنافقين يحبّون مخالفة رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم والمؤمنين‪ ،‬وقعودهم وإن كان بإذن فإنه مخالف لرادة رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم إذ الرسول صلى ال عليه وسلم أمر بالنفير العام وجاءوا هم يستأذنون في القعود‪.‬‬ ‫ل وليبكوا في الخرة كثيرا‪ ،‬أو‬ ‫‪{ 3‬فليضحكوا} أمر‪ ،‬ومعناه التهديد أي‪ :‬فليضحكوا في الدنيا قلي ً‬ ‫هو أمر بمعنى الخير وهو صحيح إذ هذا هو حالهم ومنتهى أمرهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬قوله ‪{ :‬إلى طائفة} دليل على أن من المتخلفين ما كانوا منافقون ككعب بن مالك وهلل بن‬ ‫أمية ومرارة بن الربيع العامري‪.‬‬ ‫‪{ 5‬الخالفين} جمع خالف‪ ،‬كأنهم خلفوا الخارجين في ديارهم‪ ،‬واختيار لفظ الخالفين يحمل سبا لهم‬ ‫وعيبا‪ ،‬إذ الخالفون النساء‪ ،‬وخلف الشيء إذا فسد‪ ،‬ومنه خلوف فم الصائم‪ ،‬ومنه خلف اللبن‪ :‬إذا‬ ‫قد بطول المكث في الناء‪ ،‬وفي هذا دليل على أن استصحاب المخذل الفاسد في الغزوات ل يليق‪.‬‬

‫( ‪)2/405‬‬ ‫والطفال فإن هذا يزيد في همهم ويعظم حسرتهم جزاء تخلفهم عن رسول ال وكراهيتهم الجهاد‬ ‫بالمال والنفس في سبيل ال‪.‬‬ ‫هداية اللت‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬من علمات النفاق الفرح بترك طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫‪ -2‬من علمات النفاق كراهية طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫‪ -3‬كراهية الضحك والكثار منه ‪.1‬‬ ‫‪ -4‬تعمد ترك الطاعة قد يسبب الحرمان منها‪.‬‬ ‫حدٍ مّ ْنهُم مّاتَ أَبَدًا َولَ َتقُمْ عََلىَ قَبْ ِرهِ إِ ّنهُمْ َكفَرُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه َومَاتُو ْا وَهُمْ‬ ‫صلّ عَلَى أَ َ‬ ‫وَلَ ُت َ‬ ‫سهُمْ‬ ‫سقُونَ(‪َ )84‬ولَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم وََأ ْولَدُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ الّلهُ أَن ُيعَذّ َبهُم ِبهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْ َهقَ أَنفُ ُ‬ ‫فَا ِ‬ ‫وَهُمْ كَافِرُونَ(‪)85‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ول تصل على أحد ‪ :‬أي صلة الجنازة‪.‬‬

‫ول تقم على قبره‪ :‬أي ل تتول دفنه والدعاء له كما تفعل مع المؤمنين‪.‬‬ ‫وماتوا وهم فاسقون‪ :.‬أي خارجون عن طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫وتزهق أنفسهم‪ :‬أي تخرج أرواحهم بالموت وهم كافرون‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في شأن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك‪ ،‬وإن كانت هذه الية‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬صح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪" :‬وال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلً ولبكيتم كثيرا‬ ‫صعُدات تجأرون إلى ال تعالى" وورد أن كثرة الضحك تميت القلب وكان النبي‬ ‫ولخرجتم إلى ال ّ‬ ‫صلى ال عليه وسلم جل ضحكه البتسام‪.‬‬

‫( ‪)2/406‬‬ ‫نزلت في ‪ 1‬شأن عبدال بن أبي بن سلول كبير المنافقين وذلك أنه لما مات طلب ولده الحباب‬ ‫الذي سماه رسول ال صلى ال عليه وسلم عبدال وقال له الحباب اسم الشيطان وسماه عبدال‬ ‫جاءه فقال يا رسول ال إن أبي قد مات فأعطني قميصك ‪ 2‬أكفنه فيه‪" ،‬رجاء بركته" وصل عليه‬ ‫واستغفر له يا رسول ال فأعطاه رسول ال صلى ال عليه وسلم القميص وقال له إذا فرغتم‬ ‫فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال له‪ :‬أليس قد نهاك ال أن تصلي على المنافقين‬ ‫فقال بل خيرني فقالوا استغفر لهم أو ل تستغفر لهم ‪ .‬فصلى عليه فأنزل ال تعالى هذه الية {ول‬ ‫تصل على أحد منهم ‪ 3‬فات أبدا‪ ،‬ول تقم على قبره} أي ل تتول دفنه والدعاء له بالتثبيت عند‬ ‫المسألة‪ .‬وعلل تعالى لهذا الحكم بقوله {إنهم كفروا بال ورسوله وماتوا وهم فاسقون} ‪ ،‬وقوله {ول‬ ‫تعجبك أموالهم وأولدهم} أي ل تصل ‪ 4‬على أحد منهم مات يا رسول ال {ول تعجبك أموالهم‬ ‫وأولدهم} فتصلي عليهم‪ .‬إني إنما أعطيتهم ذلك ل كرامة لهم وإنما لعذبهم بها في الدنيا بالغموم‬ ‫والهموم {وتزهق أنفسهم} أي ويموتوا {وهم كافرون} فسينقلون إلى عذاب أبدي ل يخرجون منه‪،‬‬ ‫وذلك جزاء من كفر بال ورسوله‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الصلة على الكافر مطلقا‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمة غسل الكافر والقيام على دفنه والدعاء له‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى البخاري عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪" :‬فصلى عليه رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم ثم انصرف فلم يمكث إل يسيرا حتى نزلت اليتان من براءة‪{ :‬ول تصل على أحد منهم‬

‫مات أبدا } وما في التفسير من خبر ابن أبيّ رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬فإن قيل‪ :‬كيف يعطي الرسول صلى ال عليه وسلم قميصه ليكفن فيه رئيس المنافقين وكيف‬ ‫صلى عليه واستغفر له وهو يعلم أنّه منافق؟ والجواب‪ :‬أما اعطاؤه ثوبه ليكفن فيه فقد سبق أن‬ ‫أعطى عبدال بن أبي ثوبا للعباس عم الرسول صلى ال عليه وسلم فحفظ له هذه اليد فأعطاه ثوبه‬ ‫وأما الصلة عليه فقد كانت قبل نهي ال تعالى عنها‪ ،‬وأما الستغفار فقد خير فيه بقوله { استغفر‬ ‫لهم أو ل تستغفر لهم} فرأى صلى ال عليه وسلم في استغفاره استئلفا للقلوب ففعل‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على فرضية الصلة على أموات المسلمين‪ ،‬ول خلف في هذا بين أهل العلم‪،‬‬ ‫وفي الية إحدى موافقات عمر رضي ال عنه إذ أنزل ال تعالى هذا الحكم وهر ترك الصلة‬ ‫على المنافقين بعد أن قال عمر‪ :‬أليس قد نهاك ال أن تصلي على المنافقين‪ ،‬فالصلة هنا هي‬ ‫الدعاء والستغفار فلما صلى عليه نزلت الية {ول تصل على أحد ‪ }..‬الخ فترك الصلة على‬ ‫المنافقين‪.‬‬ ‫‪ 4‬صلة الجنازة هي‪ :‬أن يكبر ثم يقرأ الفاتحة ثم يكبر ويصلي على النبي صلى ال عليه وسلم ثم‬ ‫يكبر ويدعو للميت‪ ،‬ثم يكبر الرابعة ويسلم لفعل الرسول صلى ال عليه وسلم هذا وقوله‪ " :‬إذا‬ ‫صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" رواه أبو داود‪ ،‬ويستحب أن يقف المام عند رأس الرجل‪،‬‬ ‫وعجيزة المرأة ‪ ،‬لورود الحديث بذلك في مسلم وأبي داود‪.‬‬

‫( ‪)2/407‬‬ ‫‪ -3‬كراهة الصلة على أهل الفسق دون الكفر‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة العجاب بأحوال الكافرين المادية‪.‬‬ ‫ط ْولِ مِ ْنهُ ْم َوقَالُواْ ذَرْنَا َنكُن‬ ‫وَإِذَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَ َنكَ ُأوْلُواْ ال ّ‬ ‫خوَاِلفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُ ْم لَ َي ْفقَهُونَ(‪َ )87‬لكِنِ‬ ‫مّعَ ا ْلقَاعِدِينَ(‪َ )86‬رضُواْ بِأَن َيكُونُواْ مَعَ ا ْل َ‬ ‫ت وَُأوْلَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ(‬ ‫سهِمْ وَُأوْلَئِكَ َلهُمُ الْخَيْرَا ُ‬ ‫ل وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ جَا َهدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ وَأَنفُ ِ‬ ‫الرّسُو ُ‬ ‫‪ )88‬أَعَدّ اللّهُ َل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ(‪ )89‬وَجَاء‬ ‫ن الَعْرَابِ لِ ُي ْؤذَنَ َلهُ ْم َو َقعَدَ الّذِينَ كَذَبُواْ الّل َه وَرَسُولَهُ سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ‬ ‫ا ْل ُمعَذّرُونَ مِ َ‬ ‫عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪)90‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫استأذنك ‪ :‬أي طلبوا إذنك لهم بالتخلف‪.‬‬ ‫أولوا الطول منهم ‪ :‬أي أولو الثروة والغنى‪.‬‬ ‫ذرنا نكن مع القاعدين ‪ :‬أي اتركنا مع المتخلفين من العجزة والمرضى والطفال والنساء‪.‬‬ ‫مع الخوالف‪ :‬أي مع النساء جمع خالفة المرأة تخلف الرجل في البيت إذا غاب‪.‬‬

‫( ‪)2/408‬‬ ‫طبع على قلوبهم‪ :‬أي توالت ذنوبهم على قلوبهم فأصبحت طابعا عليها فحجبتها المعرفة‪.‬‬ ‫لهم الخيرات ‪ :‬أي في الدنيا بالنصر والغنيمة‪ .‬وفي الخرة بالجنة والكرامة فيها‪.‬‬ ‫وأولئك هم المفلحون ‪ :‬أي الفائزون بالسلمة من المخوف والظفر بالمحبوب‪.‬‬ ‫المعذرون‪ :‬أي المعتذرون‪.‬‬ ‫وقعد الذين كذبوا ال‪ :‬أي ولم يأت إلى طلب الذن بالقعود عن الجهاد منافقوا العراب‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.:‬‬ ‫ما زال السياق في كشف عورات المنافقين وبيان أحوالهم فقال تعالى {وإذا أنزلت ‪ 1‬سورة} أي‬ ‫قطعة من القرآن آية أو آيات {أن آمنوا بال وجاهدوا مع ‪ 2‬رسوله} أي تأمر باليمان بال والجهاد‬ ‫مع رسوله {استأذنك أولوا الطول منهم ‪ }3‬أي من المنافقين {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} أي‬ ‫المتخلفين عن الجهاد للعجز كالمرضى والنساء والطفال قال تعالى‪ :‬في عيبهم وتأنيبهم {رضوا‬ ‫بأن يكونوا مع الخوالف} أي مع النساء وذلك لجبنهم وهزيمتهم النفسية وقوله تعالى {وطبع على‬ ‫قلوبهم} أي طبع ال على قلوبهم بآثار ذنوبهم التي رانت على قلوبهم فلذ ا هم ل يفقهون معنى‬ ‫الكلم وإل لما رضوا بوصمة العار وهي أن يكونوا في البيوت مع النساء هذه حال المنافقين‬ ‫وتلك فضائحهم إذا أنزلت سورة تأمر باليمان والجهاد يأتون في غير حياء ول كرامة يستأذنون‬ ‫في البقاء مع النساء (لكن ‪ 4‬الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} ولم يستأذنوا‬ ‫ففازوا بكرامة الدنيا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬السورة‪ .‬طائفة من آيات القران لها مبدأ ومختم‪ ،‬والمراد بالسورة هنا‪ :‬هذه السورة (التوبة) أو‬ ‫بعض آياتها المرة بالجهاد واليمان‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أن آمنوا} أن‪ :‬تفسيرية فسرت مضمون السورة وهو اليمان والجهاد‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬في القعود والتخلف عن الجهاد وهم أصحاب القدرة على الجهاد لصحة أجسامهم وكثرة‬ ‫أموالهم أما العجزة فإنهم غير مأمورين بالجهاد‪ ،‬والطول معنا‪ :‬الغنى والقدرة المالية‪.‬‬ ‫‪ 4‬قوله‪{ :‬لكن} الخ استدراك بيّن فيه تعالى حال الرسول صلى ال عليه وسلم والمؤمنين وأنها‬ ‫أكمل الحوال بعد ذكر حال المنافقين وما هم عليه من صفات النقص آذ أخبر أنهم لجبنهم يطلبون‬ ‫القعود عن الجهاد وأنهم لما ران على قلوبهم من أوضار الكفر والفسق ل يفقهون الكلم ول‬ ‫يعرفون ما يضرهم ول ما ينفعهم بخلف الرسول والمؤمنين فقد ذكر صفاتهم الكمالية‪ ،‬وهي‬ ‫الجهاد بالمال والنفس وما فازوا به من عظيم الخيرات‪ ،‬وما آلوا إليه من الفلح وهو النجاة من‬ ‫المرهوب والظفر بالمحبوب‪.‬‬

‫( ‪)2/409‬‬ ‫والخرة قال تعالى {وأولئك لهم الخيرات} ‪ 1‬أي في الدنيا بالنتصارات والغنائم وفي الخرة‬ ‫بالجنة ونعيمها ورضوان ال فيها‪ .‬وقال {وأولئك هم المفلحون} أي الفائزون بالسلمة من كل‬ ‫مرهوب وبالظفر بكل مرغوب وفسر تعالى تلك الخيرات وذلك الفلح بقوله في الية (‪ )89‬فقال‬ ‫{أعد ال لهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها} وأخبر عما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم‬ ‫بأنه الفوز فقال {ذلك الفوز العظيم}‪ .‬هذا ما دلت عليه اليات الربع أما الية الخامسة (‪ )90‬فقد‬ ‫تضمنت إخبار ال تعالى عن منافقي العراب أي البادية‪ ،‬فقال تعالى {وجاء المعذرون ‪ }2‬أي‬ ‫المعتذرون أدغمت التاء في الذال فصارت المعذرون من العراب أي من سكان البادية كأسد‬ ‫وغطفان ورهط عامر بن الطفيل جاءوا يطلبون الذن من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫بالتخلف بدعوى الجهد والمخمصة‪ ،‬وقد يكونون معذورين حقا وقد ل يكونون كذلك‪ .‬وقوله {وقعد‬ ‫الذين كذبوا ال ورسوله} في دعوى اليمان بال ورسوله وما هم بمؤمنين بل هم كافرون‬ ‫منافقون‪ ،‬فلذا مال تعالى فيهم {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} في الدنيا وفي الخرة‪ ،‬إن‬ ‫ماتوا على كفرهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬القرآن هو مصدر التشريع اللهي الول والسنة الثاني‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية الستئذان للحاجة الملحة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الستئذان للتخلف عن الجهاد مع القدرة عليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة التخلف عن الجهاد بدون إذن من المام‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضل الجهاد بالمال والنفس في سبيل ال‪.‬‬ ‫‪ -6‬بيان عظم الجر وعظيم الجزاء لهل اليمان والجهاد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخيرات‪ :‬جمع خير على غير قياس كسرادقات‪ ،‬وحمامات جمع سرادق وحمام‪.‬‬ ‫‪{ 2‬المعذرون} هذا اللفظ صالح لن يكون المراد به المعتذرون لعلل قامت بهم وصالح لن يكون‬ ‫المراد به المعذرون وهم الذين ل عذر لهم ويعتذرون بغير حق موجب للعذر يقال‪ :‬عذر فلن‪:‬‬ ‫إدا قصّر في الواجب واعتذر بدون عذر قام به‪ .‬وهذا من بلغة القرآن‪ ،‬اللفظ الواحد منه يحتمل‬ ‫وجهين وكلهما حق ومراد‪.‬‬

‫( ‪)2/410‬‬

‫ن لَ َيجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا َنصَحُواْ ِللّهِ‬ ‫ض َعفَاء وَلَ عَلَى ا ْلمَ ْرضَى َولَ عَلَى الّذِي َ‬ ‫لّيْسَ عَلَى ال ّ‬ ‫حمَِلهُمْ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪َ )91‬ولَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَ َت ْوكَ لِ َت ْ‬ ‫ل وَاللّهُ َ‬ ‫حسِنِينَ مِن سَبِي ٍ‬ ‫وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ‬ ‫حمُِلكُمْ عَلَ ْيهِ َتوَلّواْ وّأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنًا َألّ يَجِدُواْ مَا يُن ِفقُونَ(‪)92‬‬ ‫قُ ْلتَ لَ َأجِدُ مَا أَ ْ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫على الضعفاء‪ :‬أي كالشيوخ‪.‬‬ ‫ول على المرضى‪ :‬كالعمى وال َزمْنَى‪.‬‬ ‫حرج‪ :‬أي إثم على التخلف‪.‬‬ ‫إذا نصحوا ل ورسوله‪ :‬أي ل حرج عليهم في التخلف إذا نصحوا ل ورسوله وذلك بطاعتهم ل‬ ‫ورسوله مع تركهم الرجاف والتثبيط‪.‬‬ ‫ما على المحسنين من سبيل ‪ :‬أي من طريق إلى مؤاخذتهم‪.‬‬ ‫لتحملهم ‪ :.‬أي على رواحل يركبونها‪.‬‬ ‫تولوا "‪ :‬أي رجعوا إلى بيوتهم‪.‬‬ ‫تفيض من الدمع ‪ :‬أي تسيل بالدموع الغزيرة حزنا على عدم الخروج‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫لما ندد تعالى بالمتخلفين وتوعد بالعذاب الليم الذين لم يعتذروا منهم ذكر في هذه اليات أنه ل‬ ‫حرج على أصحاب العذار وهم الضعفاء‪ ،‬كالشيوخ والمرضى والعميان وذوو العرج ‪ 1‬والفقراء‬ ‫الذين ل يجدون ما ينفقون ولكن بشرط نصحهم ل ورسوله فقال عز‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده في سورة الفتح‪{ :‬ليس على العمى حرج ول على العرج حرج ول على المريض‬ ‫حرج} وقوله تعالى‪{ :‬ل يكلف ال نفسا إل وسعها}‪.‬‬

‫( ‪)2/411‬‬ ‫وجل {ليس على الضعفاء ول على المرضى ول على الذين ل يجدون ما ينفقون حرج} أي إثم‬ ‫{إذا نصحوا ل ورسوله} ‪ 1‬ومعنى النصح ل ورسوله طاعتهما في المر والنهي وترك الرجاف‬ ‫والتثبيط والدعاية المضادة ل ورسوله والمؤمنين والجهاد في سبيل ال وقوله تعالى {ما على‬ ‫المحسنين من سبيل} أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم لنه أولً بعذر شرعي ‪ 2‬وثانيا هم‬ ‫مطيعون ل ورسوله وثالثا قلوبهم ووجوههم مع ال ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر فهؤلء‬ ‫ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الحوال‪ ،‬كما ليس من سبيل {على الذين إذا‬ ‫ما أتوك لتحملهم} إلى الجهاد معك في سيرك {قلت} معتذرا إليهم {ل أجد ما أحملكم عليه تولوا}‬ ‫أي رجعوا إلى منازلهم وهم يبكون والدموع تفيض من أعينهم ‪ 3‬حزنا {أل يجدوا ما ينفقون} في‬

‫سيرهم معكم وهم نفر منهم العرباص بن سارية وبنو مقرن وهم بطن من مزينة رضي ال تعالى‬ ‫عنهم أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل حرج على أصحاب العذار الذين ذكر ال تعالى في قوله {ليس على العمى حرج ول‬ ‫على العرج حرج ول على المريض حرج} وفي هذه الية {ول على الذين ل يجدون ما ينفقون}‬ ‫حرج وبشرط طاعة ال والرسول فيما يستطيعون والنصح ‪ 4‬ل والرسول بالقول والعمل وترك‬ ‫التثبيط والتخذيل والرجاف من الشاعات المضادة للسلم والمسلمين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪{ :‬نصحوا ا ل ورسوله} إذا عرفوا الحق وأحبّوا أولياءه وأبغضوا أعداءه‪ ،‬ومع‬ ‫قبول أعذار أصحاب العذار فقد خرج ابن أم مكتوم إلى أحد وهو رجل أعمى‪ ،‬وطلب أن يعطى‬ ‫الراية ليحملها‪ ،‬وخرج عمرو بن الجموح وهو أعرج خرج إلى أحد فقال له رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬إنّ ال قد عذرك" فقال‪ :‬وال لحفرنّ بعرجتي هذه في الجنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى أبو داود عن أنس رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬لقد تركتم‬ ‫بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ول أنفقتم من نفقة ول قطعتم من وا ٍد إلّ وهم معكم فيه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا‬ ‫رسول ال وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال‪ :‬حبسهم العذر؟"‬ ‫‪{ 3‬حزنا} منصوب على أنه مفعول لجله‪ ،‬وجملة‪{ :‬وأعينهم}‪ :‬حال من {تولوا}‪.‬‬ ‫‪ 4‬النصح‪ :‬إخلص العمل من الغش يقال‪ :‬نصح الشيء‪ :‬إذا خلص‪ ،‬ونصح له القول‪ :‬أي أخلصه‬ ‫له‪ .‬وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬الدين‬ ‫النصحية‪ -‬ثلثا‪ -‬قلنا لمن يا رسول ال قال‪ :‬ل ولكتابه ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم" ذكر‬ ‫القرطبي معاني هذه النصائح بالتفصيل عند تفسير هذه الية فليرجع إليها من طلب ذلك‪.‬‬

‫( ‪)2/412‬‬ ‫‪ -2‬مظاهر الكمال المحمدي في تواضعه ورحمته وبره وإحسانه إلى المؤمنين‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم من المهاجرين والنصار من اليمان‬ ‫واليقين والسمع والطاعة والمحبة والولء ورقة القلوب وصفاء الرواح‪.‬‬ ‫اللهم إنا نحبهم بحبك فأحببنا كما أحببتهم واجمعنا معهم في دار كرامتك‪.‬‬

‫( ‪)2/413‬‬

‫الجزء الحادي عشر‬ ‫ف وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى‬ ‫خوَاِل ِ‬ ‫ك وَهُمْ أَغْنِيَاء َرضُواْ بِأَن َيكُونُواْ َمعَ الْ َ‬ ‫إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُو َن َ‬ ‫جعْتُمْ إِلَ ْيهِمْ قُل لّ َتعْتَذِرُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكُمْ َقدْ نَبّأَنَا الّلهُ‬ ‫قُلُو ِبهِمْ َفهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ(‪َ )93‬يعْ َتذِرُونَ ِإلَ ْيكُمْ إِذَا رَ َ‬ ‫شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ‬ ‫عمََل ُك ْم وَرَسُولُهُ ثُمّ تُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬ ‫مِنْ أَخْبَا ِر ُك ْم وَسَيَرَى اللّهُ َ‬ ‫َت ْعمَلُونَ(‪ )94‬سَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ َل ُكمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَ ْيهِمْ لِ ُتعْ ِرضُواْ عَ ْنهُمْ فَأَعْ ِرضُواْ عَ ْنهُمْ إِ ّن ُهمْ رِجْسٌ‬ ‫ضوْاْ عَ ْنهُمْ فَإِنّ الّلهَ‬ ‫ضوْاْ عَ ْن ُهمْ فَإِن تَ ْر َ‬ ‫جهَنّمُ جَزَاء ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ(‪َ )95‬يحِْلفُونَ َل ُكمْ لِتَ ْر َ‬ ‫َومَأْوَا ُهمْ َ‬ ‫سقِينَ(‪)96‬‬ ‫لَ يَ ْرضَى عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إنما السبيل‪ :‬أي الطريق إلى المعاقبة‪.‬‬ ‫أغنياء‪ :‬واجدون لهبة الجهاد مع سلمة أبدانهم‪.‬‬ ‫الخوالف ‪ :‬أي النساء والطفال والعجزة‪.‬‬ ‫إذا رجعتم إليهم‪ :‬أي إذا عدتم إليهم من تبوك‪ ،‬وكانوا بضعا وثمانين رجلً‪.‬‬ ‫لن نؤمن لكم ‪ :‬أي لن نصدقكم فيما تقولون‪.‬‬ ‫ثم تُ َردّون ‪ :‬أي يوم القيامة‪.‬‬ ‫إذا انقلبتم ‪ :‬أي رجعتم من تبوك‪.‬‬

‫( ‪)2/414‬‬ ‫لتُعرِضوا عنهم ‪ :‬أي ل تعاقبوهم‪.‬‬ ‫رجس‪ :‬أي نَجَس لخُبْث بواطنهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في ال ُمخَلّفين من المنافقين وغير المنافقين فقال تعالى { إنما ‪ 1‬السبيل} أي‬ ‫الطريق إلى عقاب المخلّفين على الذين يستأذنونك في التخلّف عن الغزو وهم أغنياء أي ذوو قُدرة‬ ‫‪ 2‬على النفقة والسير {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي النساء {وطبع ال على قلوبهم} بسبب‬ ‫ذنوبهم فهم لذلك ل يعلمون أن تخلفهم عن رسول ال ل يُجديهم نفعا وأنه يجرّ عليهم البلء الذي‬ ‫ل يطيقونه‪ .‬هؤلء هُم الذين لكم سبيل على عقابهم ومؤاخذتهم‪ ،‬ل على الذين ل يجدون ما‬ ‫ينفقون‪ ،‬وطلبوا منك حملنا فلم تجد ما تحملهم عليه فرجعوا إلى منازلهم وهم يبكون حزنا‪ .‬هذا‬ ‫ما دلت عليه الية الولى (‪ )93‬أما اليات الثلث بعدها فهي في المخلّفين من المنافقين يخبر‬ ‫تعالى عنهم فيقول {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} يطلبون العذر منكم إذا رجعتم إلى المدينة من‬ ‫غزوكم‪ .‬قل لهم يا رسولنا ل تعتذروا لننا ل نؤمن لكم أي ل نصدقكم فيما تقولونه‪ ،‬لن ال‬ ‫تعالى قد نَبّأنَا من أخباركم ‪ 3‬وسيرى ال عملكم ‪ 4‬ورسوله‪ .‬إن أنتم تبتم فأخلصتم دينكم ل‪ ،‬أو‬

‫أصررتم على كفركم ونفاقكم‪ ،‬وستُردّون بعد موتكم إلى عالم الغيب والشهادة وهو ال تعالى‬ ‫فينبئكم يوم القيامة بعد بعثكم بما كنتم تعملون من حسنات أو سيئآت ويجزيكم بذلك الجزاء العادل‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {سيحلفون ‪ 5‬بال لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين‬ ‫فيقول سيحلف لكم هؤلء المخلّفون إذا رجعتم إليهم أي إلى المدينة من أجل أن تعرضوا عنهم‬ ‫فأعرضوا ‪ 6‬عنهم أي ل تؤاخذوهم ول تلتفوا إليهم إنهم رجْس أي َنجَس‪ ،‬ومأواهم جهنم جزاء لهم‬ ‫بما كانوا يكسبونه من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬العقوبة والثم‪.‬‬ ‫‪ 2‬هؤلء هم المنافقون تردد ذكرهم تنديدا بهم وكشفا لحالهّم وتحذيرا من سلوكهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬أطلعنا على سرائركم وما تخفي نفوسكم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬ما تستأنفونه من أعمال بعد اليوم صالحة أو طالحة‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬بأنهم ما قدروا على الخروج لعذار لهم يدّعونها كذبا لتصفحوا عنهم‪ ،‬وتتركوا لومهم‬ ‫وعتابهم‪.‬‬ ‫‪ 6‬الفاء تفريعية أي‪ :‬إذا كانوا يريدون العراض عنكم فأعرضوا عنهم وجملة‪{ :‬إنهم رجس} ‪:‬‬ ‫تعليلية أي علة للذن لهم بالعراض عنهم يريد‪ :‬إنهم ذوو رجس‪.‬‬

‫( ‪)2/415‬‬ ‫الكفر والنفاق والمعاصي‪ ..‬وقوله تعالى {يحلفون لكم} ‪ 1‬معتذرين بأنواع من المعاذير لترضوا‬ ‫عنهم فإن ترضوا عنهم فلن ينفعهم رضاكم شيئا لنهم فاسقون وال ل يرضى عن القوم الفاسقين‬ ‫وما دام ل يرضى عنهم فهو ساخط عليهم‪ ،‬ومن سخط ال عليه أهلكه وعذبه فلذا رضاكم عنهم‬ ‫وعدمه سواء‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل سبيل إلى أذِيّة المؤمنين الصادقين إذا تخلّفوا فإنهم ما تخلفوا إل لعذر‪ .‬وإنما السبيل على‬ ‫الغنياء القادرين على السير إلى الجهاد وقعدوا عنه لنفاقهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية العتذار على شرط أن يكون المؤمن صادقا في اعتذاره‪.‬‬ ‫‪ -3‬المنافقون كالمشركين رجْس أي نَجَس لن بواطنهم خبيثة بالشرك والكفر وأعمالهم الباطنة‬ ‫خبيثة أيضا إذْ كلها تآمر على المسلمين ومكر بهم وكيد لهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة الرضا على الفاسق المجاهر بفسقه‪ ،‬إذ يجب ُبغْضه فكيف يُرضى عنه ويُحب؟‬ ‫حكِيمٌ(‪)97‬‬ ‫جدَرُ َألّ َيعَْلمُواْ حُدُودَ مَا أَن َزلَ اللّهُ عَلَى رَسُوِل ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬ ‫الَعْرَابُ َأشَدّ ُكفْرًا وَ ِنفَاقًا وَأَ ْ‬

‫علِيمٌ(‬ ‫سمِيعٌ َ‬ ‫سوْ ِء وَالّلهُ َ‬ ‫خذُ مَا يُنفِقُ َمغْ َرمًا وَيَتَرَ ّبصُ ِب ُكمُ ال ّدوَائِرَ عَلَ ْي ِهمْ دَآئِ َرةُ ال ّ‬ ‫َومِنَ الَعْرَابِ مَن يَتّ ِ‬ ‫‪َ )98‬ومِنَ الَعْرَابِ مَن ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِ ِر وَيَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الّل ِه َوصَلَوَاتِ الرّسُولِ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪)99‬‬ ‫حمَتِهِ إِنّ اللّهَ َ‬ ‫أَل إِ ّنهَا قُرْبَةٌ ّلهُمْ سَيُ ْدخُِلهُمُ اللّهُ فِي رَ ْ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد به‪ :‬عبدال بن أبيّ إذ حلف أن ل يتخلّف بعد اليوم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫وطلب أن يرضى عنه‪.‬‬

‫( ‪)2/416‬‬ ‫العراب ‪ : 1‬جمع أعرابي وهو من سكن البادية‪.‬‬ ‫أشد كفرا ونفاقا‪ :‬أي من كفار ومنافقي الحاضرة‪.‬‬ ‫وأجدر ‪ :2‬أي أحق وأولى‪.‬‬ ‫حدود ما أنزل ال ‪ :‬أي بشرائع السلم‪.‬‬ ‫مغرما‪ :‬أي غرامة وخسرانا‪.‬‬ ‫ويتربص‪ :‬أي ينتظر‪.‬‬ ‫الدوائر‪ :‬جمع دائرة‪ :‬ما يحيط بالنسان من مصيبة أو نكبة‪.‬‬ ‫دائرة السوء‪ :‬أي المصيبة التي تسوءهم ول تسرهم وهي الهلك‪.‬‬ ‫قربات‪ :‬جمع قربة وهي المنزلة المحمودة‪.‬‬ ‫وصلوات الرسول‪ :‬أي دعاؤه لهم بالخير‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الكشف عن المنافقين وإعدادهم للتوبة أو للقضاء عليهم ففي الية الولى‬ ‫حضَر‬ ‫(‪ )97‬يخبر تعالى أن العراب ‪ 3‬وهم سكان البادية من العرب أشد كفرا ونفاقا من كفار ال َ‬ ‫ومنافقيهم‪ .‬وإنهم أجدر أي أخلق وأحق أي بأن ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله أي من‬ ‫الحكام ‪ 4‬والسنن وذلك لبعدهم عن التصال بأهل الحاضرة وقوله تعالى {وال عليم حكيم} أي‬ ‫عليم بخلقه حكيم في شرعه فما أخبر به هو الحق الواقع‪ ،‬وما قضى به هو العدل الواجب‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى في الية الثانية (‪{ )98‬ومن العراب من يتخذ ما ينفق مغرما}‪ 5‬أي من بعض العراب من‬ ‫يجعل ما ينفقه في الجهاد غرامة لزمَتْه وخسارة لحقَتْه في ماله وذلك لنه ل يؤمن بالثواب‬ ‫والعقاب الخروي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬والعرب‪ :‬جيل من الناس واحدهم عربي وهم أهل المصار‪ ،‬والعرب العاربة‪ :‬هم الخلص‪،‬‬

‫والمستعربة هم الذين ليسوا بخلّص كأولد إسماعيل عليه السلم‪ ،‬ويعرب بن قحطان هو أوّل من‬ ‫تكلّم بالعربية وهو أبو اليمن كلها‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أجدر} مأخوذ من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء‪.‬‬ ‫‪ 3‬لمّا ذكر تعالى حال منافقي الحضر ذكر هنا حال منافقي البادية ليُعرف الجميع‪.‬‬ ‫‪ 4‬وكذلك ل يعلمون حجج ال تعالى في ألوهيته وبعثة رسوله لقلّة نظرهم وسوء فهمهم‪ ،‬ولذا ل‬ ‫حق لهم في الفيء‪ ،‬والغنيمة إل أن يجاهدوا أو يتحولوا إلى الحواضر ويتركوا البادية لحديث‬ ‫مسلم‪ .‬واختلف في صحة شهادة البادي على الحاضر‪ ،‬والراجح أنها تصح إذا كان عدلً‪ .‬وتكره‬ ‫إمامتهم لهل الحضر عند مالك‪ ،‬وذلك لجهلهم بالشريعة وتركهم الجمعة‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي غرما وخسرانا‪ ،‬وأصله لزوم الشيء‪ ،‬ومنه {إن عذابها كان غراما} أي‪ :‬لزما‪.‬‬

‫( ‪)2/417‬‬ ‫لنه كافر بال ولقاء ال تعالى‪ .‬وقوله عز وجل {ويتربص بكم الدوائر} أي وينتظر بكم أيها‬ ‫المسلمون الدوائر متى تنزل بكم فيتخلص منكم ومن النفاق لكم والدوائر جمع دائرة المصيبة‬ ‫والنازلة من الحداث وقوله تعالى {عليهم دائرة السوء}‪ 1‬هذه الجملة دعاء عليهم‪ .‬جزاء ما‬ ‫يتربصون بالمؤمنين‪ .‬وقوله {وال سميع عليم} أي سميع لقوالهم عليم بنيانهم فلذا دعا عليهم بما‬ ‫يستحقون‪ .‬وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )99‬ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر ‪ 2‬ويتخذ‬ ‫ما ينفق قربات عند ال وصلوات الرسول}‪ 3‬إخبار منه تعالى بأن العراب ليسوا سواء بل منهم‬ ‫من يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬فلذا هو يتخذ ما ينفق من نفقة في الجهاد قربات عند ال أي قربا‬ ‫يتقرب بها إلى ال تعالى‪ ،‬ووسيلة للحصول على دعاء الرسول له‪ ،‬لن الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم كان إذا أتاه المؤمن بزكاته أو صدقته يدعو له بخير‪ ،‬كقوله لعبد ال بن أبي أوفى‪ :‬اللهم‬ ‫صل على آل أبي أوفى‪ ،‬وقوله تعالى {أل إنها قربة لهم} إخبار منه تعالى بأنه تقبلها منهم صارت‬ ‫قربة ‪ 4‬لهم عنده تعالى‪ ،‬وقوله تعالى {سيدخلهم ال في رحمته} بشرى لهم بدخول الجنة‪ ،‬وقوله‬ ‫{إن ال غفور رحيم} يؤكد وعد ال تعالى لهم بإدخالهم في رحمته التي هي الجنة فإنه يغفر ذنوبهم‬ ‫أولً‪ ،‬ويدخلهم الجنة ثانيا هذه سنته تعالى في أوليائه‪ ،‬يطهرهم ثم ينعم عليهم بجواره‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أن سكان البادية يُحرمون من كثير عن الداب والمعارف فلذا سكن البادية غير محمود‬ ‫إل إذا كان فرارا من الفتن‪.‬‬ ‫‪ -2‬من العراب المؤمن والكافر والبر والتقي والعاصي والفاجر كسكان المدن إل أن كفار البادية‬ ‫ومنافقيها أشد كفرا ونفاقا لتأثير البيئة‪.‬‬

‫‪ -3‬فضل النفقة في سبيل ال والخلص فيها ل تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء {السوء} بالفتح والضم إل قوله‪{ :‬وما كان أبوك امرأ سوء}‪ ،‬فإنه بالفتح ل غير‪ ،‬إذ السُوء‬ ‫بالضم‪ :‬المكروه‪ ،‬والسوء بالفتح‪ :‬الفساد‪ .‬امرؤ سوء‪ :‬أي‪ :‬فاسد‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬هم بنو ُمقَرّن من مزينة‪.‬‬ ‫‪ 3‬صلوات الرسول هي استغفاره ودعاؤه لهم بالخير والبركة‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬تقرّبهم من ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/418‬‬ ‫ضيَ اللّهُ عَ ْن ُه ْم وَ َرضُواْ‬ ‫ن وَالَنصَارِ وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُم بِِإحْسَانٍ ّر ِ‬ ‫لوّلُونَ مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِي َ‬ ‫وَالسّا ِبقُونَ ا َ‬ ‫حوَْلكُم‬ ‫عَنْ ُه وَأَعَدّ َلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا ذَِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ(‪َ )100‬و ِممّنْ َ‬ ‫ق لَ َتعَْل ُمهُمْ َنحْنُ َنعَْل ُمهُمْ سَ ُنعَذّ ُبهُم مّرّتَيْنِ‬ ‫ن الَعْرَابِ مُنَا ِفقُونَ َومِنْ أَ ْهلِ ا ْل َمدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ال ّنفَا ِ‬ ‫مّ َ‬ ‫ل صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا عَسَى‬ ‫عمَ ً‬ ‫عذَابٍ عَظِيمٍ(‪ )101‬وَآخَرُونَ اعْتَ َرفُواْ بِذُنُو ِبهِمْ خَلَطُواْ َ‬ ‫ثُمّ يُ َردّونَ إِلَى َ‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪)102‬‬ ‫اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَ ْي ِهمْ إِنّ الّلهَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫والسابقون ‪ :‬أي إلى اليمان والهجرة والنصرة والجهاد‪.‬‬ ‫اتبعوهم بإحسان‪ :‬أي في أعمالهم الصالحة‪.‬‬ ‫رضي ال عنهم ‪ :‬بسبب طاعتهم له وإنابتهم إليه وخشيتهم منه ورغبتهم فيما لديه‪.‬‬ ‫ورضوا عنه‪ :‬بما أنعم عليهم من جلئل النعم وعظائم المِنَنْ‪.‬‬ ‫وممن حولكم‪ :‬أي حول المدينة من قبائل العرب‪.‬‬ ‫مردوا ‪ :‬مرقوا وحذقوه وعتوْا فيه‪.‬‬ ‫سنعذبهم مرتين ‪ :‬الولى قد تكون فضيحتهم بين المسلمين والثانية عذاب القبر‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬والسابقون ‪ 1‬الولون من المهاجرين والنصار}‪ 2‬وهم الذين سبقوا غيرهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬السابقون} هم الذين صلّوا إلى القبلتين وأفضلهم الخلفاء الربعة ثم الستة الباقون من المبشرين‬ ‫بالجنة نم أهل بدر ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوات بالحدييية‪ ،‬وأفضلهم أبو بكر على‬ ‫الطلق‪.‬‬ ‫‪ { 2‬النصار}‪ :‬هم من أسلم من الوس والخزرج بالمدينة ولم يعرفوا في الجاهلية بهذا السم‬ ‫وإنما سماهم ال تعالى به في السلم‪.‬‬

‫( ‪)2/419‬‬ ‫إلى اليمان والهجرة والنصرة والجهاد‪ ،‬والذين اتبعوهم ‪ 1‬في ذلك وأحسنوا أعمالهم فكانت موافقة‬ ‫لما شرع ال وبين رسوله محمد صلى ال عليه وسلم الجميع رضي ال عنهم بإيمانهم وصالح‬ ‫أعمالهم‪ ،‬ورضوا عنه بما أنالهم من إنعام وتكريم‪ ،‬وأعد لهم جنات تجرى من تحتها النهار‬ ‫خالدين فيها أبدا أي وبشرهم بما أعد لهم من جنات وقوله {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك المذكور‬ ‫من رضاه تعالى عنهم ورضاهم عنه وإعداد الجنة لهم هو الفوز العظيم‪ ،‬والفوز السلمة من‬ ‫المرهوب والظفر بالمرغوب فالنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم‪ ،‬هذا ما دلت عليه‬ ‫الية الولى (‪ )100‬وأما الية الثانية فقد تضمنت الخبار بوجود منافقين في العراب ‪ 2‬حول‬ ‫المدينة‪ ،‬ومنافقين في داخل المدينة‪ ،‬إل أنهم لتمرسهم وتمردهم في النفاق أصبحوا ل يُعرفون‪ ،‬لكن‬ ‫ال تعالى يعلمهم هذا معنى قوله تعالى {وممن حولكم من العراب منافقون ومن أهل المدينة‬ ‫مردوا ‪ 3‬على النفاق ل تعلمهم نحن نعلمهم}‪ ،‬وقوله تعالى {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب‬ ‫عظيم} وعيد لهم نافذ فيهم ل محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما‬ ‫شاء من عذاب ومرة في قبورهم‪ ،‬ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى في الية الثالثة (‪{ )102‬وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا}‪ 4‬هؤلء‬ ‫أُناس آخرون تخلفوا عن الجهاد بغير عذر وهم أبو لبابة ونفر معه ستة أو سبعة أنفار ربطوا‬ ‫أنفسهم في سواري المسجد لما سمعوا ما نزل في المتخلفين وقالوا لن نحل أنفسنا حتى يحلنا‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم خلطوا عملً صالحا وهو إيمانهم وجهادهم وإسلمهم وعملً سيئا‬ ‫وهو تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر‪ ،‬فقوله تعالى {عسى ال أن يتوب عليهم} إعلمهم بتوبة‬ ‫ال تعالى عليهم فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم فحل رباطهم وقالوا لرسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من‬ ‫أموالكم شيئا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬التابعون‪ :‬جمع تابع أو تابعي‪ ،‬وهم الذين صحبوا الصحابة‪ ،‬وأكبر التابعين‪ :‬الفقهاء السبعة وهم‪:‬‬ ‫سعيد بن المسيب‪ ،‬والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير‪ ،‬وخارجة بن زيد‪ ،‬وأبو سلمة بن‬ ‫عبدالرحمن‪ ،‬وعبدال بن عتبة بن مسعود‪ ،‬وسليمان بن يسار‪ .‬وكلهم من المدينة النبوية وأفضل‬ ‫نساء التابعين حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن وأم الدرداء‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحياء الذين كانوا حول المدينة هم‪ :‬مزينة وجهينة وأسلم‪ ،‬وغفار وأشجع ولحيان وعصيّة‬ ‫وكان منهم منافقون‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال‪ :‬مرد على المر‪ :‬إذا مرن عليه ودرب به‪ ،‬ومنه الشيطان المارد سئل حذيفة عن المنافقين‬

‫فأخبر أنهم اثنا عشر‪ ،‬ستة ماتوا بالدبيلة وأربعة ماتوا موتا عاديا‪.‬‬ ‫‪{ 4‬خلطوا} يريد خلطوا حسنات أعمالهم الصالحة بسيئات التخلف عن الغزو والنفاق في الجهاد‬ ‫والسير مع رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى تبوك‪ .‬وعسى‪ :‬فعل رجاء وهي في كلم ال تعالى‬ ‫كناية عن وقوع المرجو ل محالة‪.‬‬

‫( ‪)2/420‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل السبق للخير والفوز بالولية فيه‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على غيرهم ممن جاء بعدهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل التابعين لصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إن أحسنوا المتابعة‪.‬‬ ‫‪ -4‬علْم ما في القلوب إلى ال تعالى فل يعلم أحد من الغيب إل ما علّمه ال عز وجل‪.‬‬ ‫‪ -5‬الرجاء لهل التوحيد الذين خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا بأن يغفر ال لهم ويرحمهم‪.‬‬ ‫سمِيعٌ عَلِيمٌ(‬ ‫سكَنٌ ّلهُ ْم وَاللّهُ َ‬ ‫طهّرُ ُه ْم وَتُ َزكّيهِم ِبهَا َوصَلّ عَلَ ْيهِمْ إِنّ صَلَ َتكَ َ‬ ‫خذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِ ْم صَ َدقَةً تُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ت وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ(‬ ‫خذُ الصّ َدقَا ِ‬ ‫‪ )103‬أََلمْ َيعَْلمُواْ أَنّ الّلهَ ُهوَ َيقْبَلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِد ِه وَيَأْ ُ‬ ‫شهَا َدةِ‬ ‫ب وَال ّ‬ ‫عمََلكُ ْم وَرَسُولُ ُه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَسَتُ َردّونَ إِلَى عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ‬ ‫عمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ َ‬ ‫‪َ )104‬و ُقلِ ا ْ‬ ‫جوْنَ لَِأمْرِ الّلهِ ِإمّا ُيعَذّ ُبهُ ْم وَِإمّا يَتُوبُ عَلَ ْيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ‬ ‫فَيُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ(‪ )105‬وَآخَرُونَ مُرْ َ‬ ‫حكِيمٌ(‪)106‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫صدقة ‪ :‬مالً يتقرب به إلى ال تعالى‪.‬‬ ‫تطهرهم وتزكيهم بها ‪ :‬أي تطهرهم من ذنوبهم‪ ،‬وتزكيهم أنت أيها الرسول بها بدعائك لهم وثنائك‬ ‫عليهم‪.‬‬ ‫وصل عليهم ‪ :‬أي ادع لهم بالخير‪.‬‬ ‫إن صلتك سكن لهم ‪ :‬أي دعاءك رحمة‪.‬‬ ‫ويأخذ الصدقات ‪ :‬يتقبلها‪.‬‬

‫( ‪)2/421‬‬ ‫مرجون لمر ال‪ :‬مؤخرون لحكم ال وقضائه‪.‬‬ ‫ل وأعمالً حكيم في قضائه وشرعه‪.‬‬ ‫عليم حكيم ‪ :‬أي بخلقه نيات وأموا ً‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقد تقدم في الية قبل هذه أن المتخلفين التائبين قالوا للرسول صلى ال عليه وسلم هذه أموالنا ‪1‬‬ ‫التي تخلفنا بسببها صدقة فخذها يا رسول ال فقال لهم إني لم ُأؤْمر بذلك فأنزل ال تعالى هذه‬ ‫الية {خذ ‪ 2‬من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلتك سكن لهم‪ ،‬وال‬ ‫سميع عليم} فأمر تعالى رسوله أن يأخذ صدقة هؤلء التائبين لنها تطهرهم من ذنوبهم ومن‬ ‫أوضار الشّح في نفوسهم وتزكيهم أيها الرسول بها بقبولك لها وصل عليهم أي ادع لهم بخير‪ ،‬إن‬ ‫صلتك سكن ‪ 3‬لهم أي رحمة وطمأنينة في نفوسهم وال سميع لقوالهم لمّا قدموا صدقتهم وقالوا‬ ‫خذها يا رسول ال عليم بنياتهم وبواعث نفوسهم فهم تائبون توبة صدق وحق‪ .‬وقوله تعالى {ألم‬ ‫يعلموا أن ال هو يقبل التوبة عن عباده} الستفهام للتقرير أي هم يعلمون ذلك قطعا‪ ،‬ويأخذ‬ ‫الصدقات ‪ 4‬أي يقبلها‪ ،‬وأن ال هو التواب أي كثير قبول التوبة من التائبين الرحيم بعباده المؤمنين‬ ‫ثم أمر ال تعالى رسوله أن يقول لهم حاضا لهم على العمل الصالح تطهيرا لهم وتزكية لنفوسهم‬ ‫{وقل اعملوا فسيرى ال عملكم ورسوله والمؤمنون} ‪ 5‬فيشكر لكم ويثني به عليكم {وستردون إلى‬ ‫عالم الغيب والشهادة} وهو ال عز وجل {فينبئكم بما كنتم تعملون} ويجزيكم به الحسن بالحسن‬ ‫والسيء بمثله‪ .‬وقوله تعالى {وآخرون مرجون لمر ال‪ .‬إما يعذبهم وإما يتوب‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المال في فصيح اللغة‪ :‬هو كل ما تموّل وتملك فهو مال‪ .‬والمراد من قولهم هذه أموالنا يعنون‬ ‫ما لديهم من سائر أنواع المال‪ .‬وأما في الزكوات فإنها خاصة بالعين المواشي والثمار والحبوب‬ ‫بشروطها التي هي النصاب والحول في العين والحصاد في الحبوب والتمر بلوغ خمسة أوسق‪،‬‬ ‫والوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية وإن نزلت في الذين خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا فإنها عامة في المة فعلى ولة‬ ‫أمور المسلمين أن يجبوا الزكوات ويأخذوها من المة فريضة ال تعالى على المسلمين للقيام‬ ‫بمصالح المسلمين‪ ،‬والذين قدّموا أموالهم كلها أخذ منها الرسول صلى ال عليه وسلم الثلث‪ ،‬وردّ‬ ‫عليهم الباقي‪ .‬فقال مالك من تصدق بجميع ماله يجزئه منه الثلث أخذا من هذه الحادثة‪.‬‬ ‫‪ 3‬معناه أنه إذا دعا لهم سكنت قلوبهم وفرحوا‪ ،‬واختلف هل هذه الصلة على المتصدق باقية أو‬ ‫انتهت بوفاة رسول ال صلى ال عليه وسلم والصحيح أنها باقية‪ .‬فمن أخذ صدقة متصدق يصلي‬ ‫عليه اقتداء برسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬أخرج مسلم‪" :‬ل يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب إل أخذها ال بيمينه فتربو في كفّ‬ ‫الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل"‪.‬‬ ‫‪ 5‬روى أبو داود وأحمد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬إن أعمالكم تعرض على أقاربكم‬ ‫وعشائركم من الموات فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا‪ :‬اللهم ل تمتهم حتى‬ ‫تهديهم كما هديتنا"‪.‬‬

‫( ‪)2/422‬‬ ‫عليهم} هذا هو الصنف الثالث من أصناف المتخلفين فالول هم المنافقون والثاني هم التائبون‬ ‫والثالث هو المقصود بهذه الية وهم ثلثة أنفار كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلل بن أمية‬ ‫فهؤلء لم يأتوا الرسول صلى ال عليه وسلم ليعتذروا إليه كما فعل التائبون المتصدقون بأموالهم‬ ‫منهم أبو لبابة حيث ربطوا أنفسهم في سواري المسجد فأمر الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫بمقاطعتهم ‪ 1‬حتى يحكم ال فيهم‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى {مرجون لمر ال إما يعذبهم وإما يتوب‬ ‫عليهم وال عليم حكيم} فإن عذبهم أو تاب عليهم فذلك لعلمه وحكمته‪ .‬وبقوا كذلك حتى ضاقت بهم‬ ‫الرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ثم تاب ال تعالى عليهم كما جاء ذلك بعد كذا آية من‬ ‫آخر هذه السورة {إن ال هو التواب الرحيم}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الصدقة تكفر الذنوب ونطهر الرواح من رذيلة الشح والبخل‪..‬‬ ‫‪ -2‬يستحب لمن يأخذ صدقة امرئ مسلم أن يدعو له بمثل‪ :‬آجرك ال ‪ 2‬على ما أعطيت وبارك‬ ‫لك فيما أبقيت‪.‬‬ ‫‪ -3‬ينبغي للتائب من الذنب الكبير أن يكثر بعده من الصالحات كالصدقات والصلوات ونحوها‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة الخوف والرجاء فالخوف يحمل على ترك المعاصي والرجاء يعمل على الكثار من‬ ‫الصالحات‪.‬‬ ‫سجِدًا ضِرَارًا َو ُكفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَإِ ْرصَادًا ّلمَنْ حَا َربَ الّل َه وَرَسُولَهُ مِن‬ ‫وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَ ْ‬ ‫شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ(‪ )107‬لَ َتقُمْ فِيهِ أَبَدًا ّل َمسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى‬ ‫قَ ْبلُ وَلَ َيحِْلفَنّ إِنْ أَرَدْنَا ِإلّ ا ْلحُسْنَى وَاللّهُ َي ْ‬ ‫ال ّت ْقوَى مِنْ َأ ّولِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هؤلء هم ‪ :‬كعب بن مالك وهلل بن أمية ومرارة بن الربيع‪.‬‬ ‫‪ 2‬هو معنى ‪{ :‬وصلّ عليهم} إذ الصلة الدعاء لغة‪.‬‬

‫( ‪)2/423‬‬ ‫طهّرِينَ(‪َ )108‬أ َفمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ‬ ‫حبّ ا ْلمُ ّ‬ ‫طهّرُو ْا وَاللّهُ يُ ِ‬ ‫َيوْمٍ َأحَقّ أَن َتقُومَ فِيهِ فِيهِ ِرجَالٌ ُيحِبّونَ أَن يَتَ َ‬ ‫جهَنّمَ‬ ‫شفَا جُ ُرفٍ هَارٍ فَا ْنهَارَ بِهِ فِي نَارِ َ‬ ‫ضوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عََلىَ َ‬ ‫عَلَى َتقْوَى مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬ ‫وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ(‪ )109‬لَ يَزَالُ بُنْيَا ُنهُمُ الّذِي بَ َنوْاْ رِيبَةً فِي قُلُو ِبهِمْ ِإلّ أَن َتقَطّعَ قُلُو ُبهُمْ‬

‫حكِيمٌ(‪)110‬‬ ‫وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ضرارا‪ :‬أي لجل الضرار‪.‬‬ ‫وإرصادا‪ :‬ا انتظارا وترقبا‪.‬‬ ‫إل الحسنى ‪ :‬أي إل الخير والحال الحسن‪.‬‬ ‫ل تقم فيه أبدا ‪ :‬أي ل تقم فيه للصلة أبدا‪.‬‬ ‫أسس على التقوى ‪ :‬أي بني على التقوى وهو مسجد قبا‪.‬‬ ‫فيه رجال ‪ :‬هم بنو عَمرو بن عوف‪.‬‬ ‫على تقوى من ال‪ :‬أي على خوف‪.‬‬ ‫ورضوان‪ :‬أي رجاء رضوان ال تعالى‪.‬‬ ‫على شفا جرف هار‪ :‬أي على طرف جرف مشرف على السقوط‪ ،‬وهو مسجد الضرار‪.‬‬ ‫ريبة في قلوبهم‪ :‬أي شكا في نفوسهم‪.‬‬ ‫إل أن تقطع قلوبهم‪ :‬أي ُت ْفصَل من صدورهم فيموتوا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في فضح المنافقين وإغلق أبواب النفاق في وجوههم حتى يتوبوا إلى ال تعالى أو‬ ‫يهلكوا وهم كافرون فقال تعالى ذاكرا فريقا منهم {والذين اتخذوا مسجدا ‪1‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن رأس الفتنة كان أبا عامر الراهب الذي ذهب يستعدي الروم على رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم وأصحابه‪.‬‬

‫( ‪)2/424‬‬ ‫ضرارا وكفرا وتفريقا ‪ 1‬بين المؤمنين وإرصادا لمن ‪ 2‬حارب ال ورسوله من قبل} إن المراد من‬ ‫هؤلء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا اثنا عشر رجلً من أهل المدينة كانوا قد أتوا النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم وهو شاخص إلى تبوك فقالوا يا رسول ال إنا قد بنينا مسجدا للعاجز منا‬ ‫صلّ لنا فيه فقال لهم صلى ال عليه وسلم أنا الن على جناح سفر وإن‬ ‫والمريض واللّيلة المطيرة َف َ‬ ‫عدنا نصلي لكم فيه إن شاء ال أو كما قال‪ .‬فلما عاد صلى ال عليه وسلم من تبوك ووصل إلى‬ ‫مكان قريب من المدينة يقال له ذواوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار نزل عليه الوحي‬ ‫بشأن مسجد الضرار فبعث مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه‬ ‫عاصما أخا بني العجلن فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين‬ ‫حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار‬

‫فخرج بسعف نخل قد أضرم فيه النار وأتيا المسجد وأهله فيه فأضرما فيه النار وهدماه وتفرق‬ ‫أهله ونزل فيهم قوله تعالى ‪{:‬والذين اتخذوا مسجدا ضرارا} أي لجل الضرار المسجد النبوي‬ ‫ومسجد قباء حتى يأتيهما أهل الحي وقوله {كفرا} أي لجل الكفر بال ورسوله وقوله {وتفريقا بين‬ ‫المؤمنين} علة ثالثة لبناء مسجد الضرار إذ كان أهل الحي مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا‬ ‫تفرقتهم في مسجدين حتى يجد هؤلء المنافقون مجالً للتشكيك والطعن وتفريق صفوف المؤمنين‬ ‫على قاعدة‪( :‬فرق تسد) {وإرصادا لمن حارب ال ورسوله من قبل} وهو أبو عامر الراهب‬ ‫الفاسق لنه عليه لعائن ال هو الذي أمرهم أن يبنوه ليكون وكرا للتآمر والكيد وهذا الفاسق قال‬ ‫للنبي صلى ال عليه وسلم ما وجدت قوما يقاتلونك إل قاتلتك معهم فكان مع المشركين في‬ ‫حروبهم كلها إلى أن أنهزم المشركون في هوازن وأيس اللعين ذهب إلى بلد الروم يستعديهم‬ ‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن هنا أمر المنافقين ببناء مسجد الضرار ليكون كما ذكر‬ ‫تعالى حتى ينزل به مع جيوش الروم التي قد خرج يستعديها ويؤلّبها إل أنه خاب في مسعاه وهلك‬ ‫بالشام إلى جهنم وبئس المصير فهذا معنى قوله تعالى {وإرصادا لمن حارب ال ورسوله من قبل}‬ ‫ف والقمائم‪.‬‬ ‫أي قبل بناء مسجد الضرار الذي هُدم وحُرق وأصبح موضع قمامة تلقى فيه الجِ َي ْ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ضرارا} مفعول لجله أي‪ :‬لجل مضارة أهل السلم بتفرقة المسلمين وإيجاد عداوات بينهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬هو أبو عامر الراهب‪ ،‬وسمي الراهب‪ :‬لنه تنصّر وتعبد على دين النصارى ولما انهزمت‬ ‫ثقيف التحق بالروم ومات كافرا نالته دعوة النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/425‬‬ ‫وقوله تعالى {وليحلفن إن أردنا إل الحسنى} هذا قولهم لما حرق عليهم المسجد وهدم وانفضح‬ ‫أمرهم حلفوا ما أرادُوا ببنائه إل الحالة التي هي حسنى ل سوء فيها إذ قالوا بنيناه لجل ذي العلة‬ ‫ولليلة المطيرة‪ .‬وقوله تعالى {وال يشهد إنهم لكاذبون} تفيد لقولهم وتقرير لكذبهم‪ .‬وقوله تعالى {ل‬ ‫تقم فيه أبدا}‪ 1‬نهيٌ للرسول صلى ال عليه وسلم أن يصلى لهم فيه كما واعدهم وهو ذاهب إلى‬ ‫تبوك‪ .‬وقوله تعالى {لمسجد أسس ‪ 2‬على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} وهو مسجده‬ ‫صلى ال عليه وسلم ومسجد قباء إذ كل منهما أسس من أول يوم على تقوى من ال ورضوان أي‬ ‫على خوف من ال وطلب رضاه‪ ،‬وقوله تعالى {فيه رجال يحبون أن يطهروا وال يحب‬ ‫المطهرين} ثناء على أهل قباء بخير وإخبار أنهم يحبون أن يتطهروا ‪ 3‬من الخبث الحسّي‬ ‫والمعنوي فكانوا يجمعون في الستنجاء بين الحجارة والماء فأثنى ال تعالى عليهم بذلك‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى {أفمن أسّس بنيانه على تقوى من ال ورضوان} أي على مخافة من ال وطلب لرضاه خير‬ ‫أمن أسس بنيانه على شفا أي طرف جرف هار أي مشرف على السقوط‪ ،‬والجرف ‪ 4‬ما يكون في‬

‫حافة الوادي من أرض يجرف السيل من تحتها التراب وتبقى قائمة ولكنها مشرفة على السقوط‪،‬‬ ‫وقوله تعالى {فانهار به في نار جهنم} أي سقط به ذلك الجرف في نار جهنم والعياذ بال تعالى‪،‬‬ ‫هذا حال أولئك المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار‪ .‬وقوله تعالى {وال ل يهدي القوم الظالمين}‬ ‫أي ل يهديهم إلى ما يكمُلون به ويسعدون أي يحرمهم هدايته فيخسرون دنيا وأُخرى وقوله تعالى‬ ‫{ل يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ‪ }5‬أي شكا واضطرابا في نفوسهم {إل أن تقطع ‪6‬‬ ‫قلوبهم} فيهلكوا والشك في قلوبهم أي فكان هذا البناء الظالم سببا في تأصل النفاق‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪{ :‬ل تقم فيه} للصلة‪ .‬يقال‪ :‬فلن قائم يصلي‪ .‬و {أبدا}‪ ،‬معناه في أي وقت من الوقات‬ ‫مطلقا‪ .‬فأبدا‪ :‬لفظ يفيد التأبيد المطلق‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أسّس} أي‪ :‬وضعت أسسه وبنيت جدره ورفت قواعده إذ الس‪ :‬أصل البناء‪ ،‬وكذلك الساس‪،‬‬ ‫والجمع أسس وآساس جمع إساس‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫أصح الملك ثابت الساس ‪ ...‬في البهاليل من بني العباس‬ ‫‪3‬لما نزلت هذه الية قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أهل قباء إن ال سجانه قد أحسن الثناء‬ ‫عليكم في التطهر فما تصنعون؟ قالوا‪ :‬إنّا نغسل أثر الغائط والبول بالماء"‪ .‬رواه أبو داود‪ .‬فكانوا‬ ‫يجمعون بين الستجمار والستنجاء مبالغة في التطهر‪ ،‬إن كان الستجمار مجزئا تخفيفا على‬ ‫المة المسلمة‪.‬‬ ‫‪ 4‬الحرف‪ :‬بالضم والسكان كالرسْل والرسْل‪ ،‬وأصله من الجرف والجتراف وهو اقتلع الشيء‬ ‫من أصله‪.‬‬ ‫‪ 5‬وقيل‪ :‬الريبة هنا‪ :‬الحسرة والندامة‪ ،‬وحزازة وغيظا والكل صالح لدللة اللفظ عليه‪.‬‬ ‫‪ 6‬أي‪ :‬إلى أن تقطع قلوبهم بالموت أي‪ :‬إل أن يموتوا‪.‬‬

‫( ‪)2/426‬‬ ‫والكفر في قلوبهم حتى يموتوا كافرين وقوله {وال عليم حكيم} تذييل للكلم بما يقرر مضمونه‬ ‫ويثبته فكونه تعالى علميا حكيما يستلزم حرمان أولئك الظلمة المنافقين من الهداية حتى يموتوا‬ ‫وهم كافرون إلى جهنم وذلك لتوغلهم في الظلم والشر والفساد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أكبر مؤامرة ضد السلم قام بها المنافقون بإرشاد الفاسق أبي عامر الراهب‪.‬‬ ‫ل في‬ ‫‪ -2‬بيان أن تنازع الشرف هو سبب البلء كل البلء فابن أُ َبيّ حاربَ السلم لنه كان يُؤمّ ُ‬ ‫السّلطة على أهل المدينة فحُ ِرمَها بالسلم‪ .‬وأبو عامر الراهب ترهّب لجل الشرف على أهل‬

‫المدينة والسلطان الروحى فلذا لما فقدها حارب من كان سبب حرمانه وهو الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم حتى قال له مواجهة‪ :‬ما قاتلك قوم إل قاتلتك معهم‪ .‬بل ذهب إلى الروم يؤلّبهم على‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم واليهود ما حاربوا السلم إل من أجل المحافظة على أملهم في‬ ‫مملكة إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل يصح الغترار بأقوال أهل النفاق فإنها كذب كلها‪.‬‬ ‫‪ -4‬أيما مسجد بُني للضرار والتفرقة بن المسلمين إل ويجب هدمه وتحرم الصلة فيه‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضل التطهر والمبالغة في الطهارتين الروحية والبدنية‪.‬‬ ‫‪ -6‬التحذير من الظلم والسراف فيه فإنه يحرم صاحبه هداية ال فيهلك وهو ظالم فيخسر دنيا‬ ‫وأُخرى‪.‬‬ ‫ن وَ ُيقْتَلُونَ‬ ‫سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُم بِأَنّ َلهُمُ الجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الّلهِ فَ َيقْتُلُو َ‬ ‫إِنّ الّلهَ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ‬ ‫ن َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَ ْبشِرُواْ بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي‬ ‫ل وَا ْلقُرْآ ِ‬ ‫حقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنجِي ِ‬ ‫وَعْدًا عَلَيْهِ َ‬ ‫بَا َيعْتُم بِهِ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ(‪ )111‬التّائِبُونَ ا ْلعَابِدُونَ ا ْلحَامِدُونَ السّا ِئحُونَ‬

‫( ‪)2/427‬‬ ‫حدُودِ الّل ِه وَبَشّرِ‬ ‫ن المِرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ ا ْلمُنكَ ِر وَا ْلحَافِظُونَ لِ ُ‬ ‫الرّا ِكعُونَ السّاجِدو َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪)112‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الجنة‪ :‬هي دار السلم التي أعدها ال تعالى للمتقين‪.‬‬ ‫يقاتلون‪ :‬أي الكفار والمشركين‪.‬‬ ‫وعدا ‪ :‬أي وعدهم وعدا حقا‪.‬‬ ‫في التوراة ‪ :‬أي مذكورا في التوراة والنجيل والقرآن‪.‬‬ ‫ومن أوفى بعهده ‪ :‬أي ل أحد أوفى بعهده من ال تعالى‪.‬‬ ‫ذلك هو الفوز العظيم‪ :‬أي ذلك البيع هو الفوز العظيم‪.‬‬ ‫التائبون‪ :‬أي من الشرك والنفاق والمعاصي‪.‬‬ ‫العابدون‪ :‬أي المطيعون ل في تذلل وخشوع مع حبهم ل وتعظيمهم له‪.‬‬ ‫السائحون‪ :‬أي الصائمون والخارجون في سبيل ال لطلب علم أو تعليمه أو جهاد لعدائه‪.‬‬ ‫المرون بالمعروف‪ :‬أي بعبادة ل ال تعالى وتوحيده فيها‪.‬‬ ‫الناهون عن المنكر‪ :‬أي عن الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫والحافظون لحدود ال ‪ :‬أي القائمون عليها العاملون بها‪.‬‬ ‫وبشر المؤمنين‪ :‬أي بالجنة دار السلم‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى حال المتخلفين عن الجهاد ذكر فضل الجهاد ترغيبا فيه وفيما أعد لهله‬

‫( ‪)2/428‬‬ ‫فقال {إن ال اشترى ‪ 1‬من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن ‪ 2‬لهم الجنة} وهذا هو المُ ّثمَن الذي‬ ‫أعطى ال تعالى فيه الثمن وهو الجنة‪ ،‬وقوله {يقاتلون في سبيل ال فيقتُلون} أي أعداء ال‬ ‫المشركين {ويقتلون}‪ 3‬أي يستشهدون في معارك القتال وقوله {وعدا عليه حقا‪ 4‬في التوراة‬ ‫والنجيل والقرآن} أي وعدهم بذلك وعدا وأحقه حقا أي أثبته في الكتب الثلثة التوراة والنجيل‬ ‫والقرآن تقريرا له وتثبيتا وقوله {ومن أوفى بعهده من ال} استفهام بمعنى النفي أي ل أحد مطلقا‬ ‫أوفى بعهده إذا عاهد من ال تعالى وقوله {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} فبناء على ذلك‬ ‫فاستبشروا ‪ 5‬أيها المؤمنون ببيعكم الذي بايعتم ال تعالى به أي فسروا ‪ 6‬بذلك وافرحوا وذلك البيع‬ ‫والستبشار هو الفوز العظيم الذي ل فوز خير ول أعظم منه‪.‬‬ ‫وقوله {التائبون}‪ 7‬قوله‪{ :‬والحافظون لحدود ال} هو ذكر لوصاف أهل البيع وتحديد لهم فهم‬ ‫الموصوفون بتسع صفات الولى التائبون أي من الشرك والمعاصي والثانية العابدون وهم‬ ‫المطيعون ل طاعة ملؤها المحبة ل تعالى والتعظيم له والرهبة منه والثالثة الحامدون ل تعالى‬ ‫في السراء والضراء وعلى كل حال والرابعة السائحون وهم الصائمون كما في الحديث ‪ 8‬والذين‬ ‫يخرجون في سبيل ال لطلب علم أو غزو أو تعليم أو دعوة إلى ال تعالى ل ُيعْبد ويوحّد ويُطاع في‬ ‫أمره ونهيه والخامسة والسادسة الراكعون الساجدون أي المقيمون الصلة المكثرون من نوافلها‬ ‫كأنهم دائما في ركوع وسجود والسابعة والثامنة المرون بالمعروف وهو اليمان بال وتوحيده‬ ‫وطاعته وطاعة رسوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬حصل هذا لبعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم في بيعة العقبة‪ ،‬إذ قال عبدال بن‬ ‫رواحة للنبي صلى ال عليه وسلم "اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫اشترط لربي أن تعبده ول تشركوا به شيئا‪ ،‬واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم‬ ‫وأموالكم قالوا‪ :‬فإذا فمنا ذلك فما لنا؟ قال‪ :‬الجنة‪ .‬قالوا‪ :‬ربح البيع ل نقيل ول نستقيل"‪.‬‬ ‫‪ 2‬الباء في الشراء تدخل على الثمن تقول‪ :‬بعتك الدار بكذا ألفا‪ ،‬ولذا قال هنا‪{ :‬بأن لهم الجنة}‬ ‫فالجنة هي الثمن المشتري به النفس والموال‪.‬‬ ‫‪ 3‬قوله تعالى {يقاتلون في سبيل ال فيقتلون ويقتلون} بيّن فيه مكان تسليم البضاعة المشتراه وهي‬ ‫النفس‪.‬‬ ‫‪{ 4‬وعدا} و{حقا} مصدران مؤكدان‪.‬‬

‫‪ 5‬أي‪ :‬أظهروا السرور على بشرة وجوهكم‪.‬‬ ‫‪ 6‬فسُرّوا‪ :‬أي أظهروا السرور‪.‬‬ ‫‪{ 7‬التائبون} هم الراجعون من الحالة المذمومة إلى الحالة المحمودة والتائب‪ :‬الراجع‪ ،‬والراجع‬ ‫إلى الطاعة أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين المرين‪.‬‬ ‫‪ 8‬روى الطبراني عن عائشة رضي ال عها أنها قالت‪ :‬سياحة هذه المة الصيام‪ ،‬ورواه أبو‬ ‫هريرة مرفوعا إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬سياحة أمتي الصيام" وروي أيضا عنه صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪" :‬إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل ال"‪.‬‬

‫( ‪)2/429‬‬ ‫والناهون عن المنكر وهو الكفر به تعالى والشرك في عبادته ومعصية رسوله محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم والتاسعة الحافظون لحدود ال بالقيام عليها ‪ 1‬وعملها بعد العلم بها وقوله تعالى ‪:‬‬ ‫{وبشر المؤمنين} وهم أهل اليمان الصادق الكامل المستحقون لبشرى الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم بالنصر والتأييد في الدنيا والنجاة من النار ودخول الجنة يوم القيامة اللهم اجعلنا منهم يا رب‬ ‫العالمين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان فضل ال تعالى ومننه على عباده المؤمنين حيث وهبهم أرواحهم وأموالهم واشتراها‬ ‫منهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل الجهاد والستشهاد في سبيل ال‪.‬‬ ‫‪ -3‬على المؤمن أن يشعر نفسه أن بدنه وماله ل تعالى وأن عليه رعايتهما وحفظهما حتى ترفع‬ ‫راية الجهاد ويطالب إمام المسلمين بالنفس والمال فيقدم نفسه وماله إذ هما وديعة ال تعالى عنده‪.‬‬ ‫‪ -4‬على المؤمن أن ل يدخل الضرر على نفسه ول على ماله بحكم أنهما ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬على المؤمن أن يتعاهد نفسه ليرى هل هو متصف بهذه الصفات التسع أولً فإن رأى نقصا‬ ‫كمله وإن رأى كمالً حمد ال تعالى عليه وحفظه وحافظ عليه‪.‬‬ ‫ن وََلوْ كَانُواْ ُأوْلِي قُرْبَى مِن َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمْ أَ ّنهُمْ‬ ‫ي وَالّذِينَ آمَنُواْ أَن َيسْ َت ْغفِرُواْ لِ ْلمُشْ ِركِي َ‬ ‫مَا كَانَ لِلنّ ِب ّ‬ ‫َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ(‪َ )113‬ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ‬ ‫ضلّ َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ َهدَاهُمْ حَتّى‬ ‫عَ ُدوّ لِلّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِي َم لوّاهٌ حَلِيمٌ(‪َ )114‬ومَا كَانَ الّلهُ لِ ُي ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬القائمون بما أمر ال به‪ ،‬والمنتهون عمّا نهى عنه فحدود ال شرعه وهو فعل وترك‪ ،‬ففعل‬ ‫المر وترك النهي هو الحفظ‪.‬‬

‫( ‪)2/430‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ‬ ‫شيْءٍ عَلِيمٌ(‪ )115‬إِنّ الّلهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬ ‫يُبَيّنَ َلهُم مّا يَ ّتقُونَ إِنّ الّلهَ ِب ُكلّ َ‬ ‫َومَا َلكُم مّن دُونِ الّلهِ مِن وَِليّ َولَ َنصِيرٍ(‪)116‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أن يستغفروا للمشركين‪ :‬أي يسألون ال تعالى لهم المغفرة‪.‬‬ ‫أولي قربى ‪ :‬أصحاب قرابة كالُبّوة والبُنّوة والُخوة‪.‬‬ ‫موعدة‪ :‬أي وعدّ وعده به‪.‬‬ ‫تبرأ منه‪ :.‬أي قال‪ :‬إني بريء منك‪.‬‬ ‫أواه حليم‪ :‬الواه‪ :‬كثير الدعاء والشكوى إلى ال تعالى والحليم الذي ل يغضب ول يؤاخذ بالذنب‪.‬‬ ‫ما يتقون ‪ :‬أي ما يتقون ال تعالى فيه فل يفعلوه أو ل يتركوه‪.‬‬ ‫من ولي‪ :‬الولي من يتولى أمرك فيحفظك ويعينك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما مات أبو طالب ‪ 1‬على الشرك بعد أن عرض عليه الرسول كلمة التوحيد (ل إله إل ال) فأبى‬ ‫أن يقولها وقال هو على ملة عبد المطلب قال له النبي صلى ال عليه وسلم لستغفرنّ لك ما لم أُ ْنهَ‬ ‫عن ذلك‪ ،‬واستغفر بعض المؤمنين أيضا لقربائهم الذين ماتوا على الشرك‪ ،‬أنزل ال تعالى قوله‬ ‫{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم‬ ‫أصحاب الجحيم} إذ ماتوا على الشرك ومن مات على الشرك قضى ال تعالى بأنه في النار أي ما‬ ‫صح ول انبغى ‪ 2‬للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا أي ما صح‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى مسلم أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول ال صلى ال عليه وسلم فوجد عنده أبا‬ ‫جهل وعبدال بن أبي أمية فقال الرسول صلى ال عليه وسلم يا عم قل "ل إله إل ال كلمة أحاج‬ ‫لك بها عند ال فقال أبو جهل وعبد ال بن أمية يا أبا طالب‪ :‬أترغب عن ملة عبدالمطلب فلم يزل‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما‬ ‫تكلم به‪ :‬هو على ملّة عبدالمطلب وأبي أن يقول ل اله إل ال‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم أما وال لستغفرن لك مالم أُنه عنك"‪.‬‬ ‫‪ 2‬فإن قيل‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم قال يوم أحد "اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون" وهو‬ ‫طلب مغفرة‪ ،‬وطلب المغفرة هو الستغفار‪ .‬فالجواب‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ما قاله‬ ‫على سبيل الحكاية ل غير‪ .‬إذ ذكر البخاري أن النبي صلى ال عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه‬ ‫قومه فجعل النبي صلى ال عليه وسلم يخبر عنه بأنّه قال‪ :‬اللهم اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون‪.‬‬

‫( ‪)2/431‬‬ ‫ول انبغى استغفارهم‪ .‬ولما قال بعضٌ إن إبراهيم قد استغفر لبيه وهو مشرك قال تعالى جوابا‬ ‫{وما كان استغفار إبراهيم لبيه إل عن موعدة وعدها إياه} وهي قوله‪{ :‬سأستغفر لك ربي إنه كان‬ ‫بي حفيا} لكنه عليه السلم لما تبين له أن أباه عدو ل أي مات على الشرك تبرأ منه ولم يستغفر‬ ‫له‪ ،‬وقوله {إن إبراهيم لواه حليم}‪ 1‬تعليل لمواعدة إبراهيم أباه بالستغفار له لن إبراهيم كان‬ ‫كثير الدعاء والتضرع والتأسف والتحسر فلذا واعد أباه‪ ،‬بالستغفار له وقوله تعالى {وما كان ال‬ ‫ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} هذه الية نزلت ردا على تساؤلت الذين قالوا‬ ‫متندمين لقد كنا استغفرنا لقاربنا المشركين فخافوا فأخبرهم تعالى أنه ليس من شأنه تعالى أن‬ ‫يضل قوما بعد إذ هداهم إلى الصراط المستقيم حتى يبين لهم ما يتقون وأنتم استغفرتم لقربائكم‬ ‫قبل أن يبين لكم أنه حرام‪ .‬ولكن إذا أراد ال أن يضل قوما‪ 2‬بيّن لهم ما يجب أن يتقوه فيه فإذا لم‬ ‫يتقوه أضلهم‪ .‬وقوله تعالى {إن ال بكل شيء عليم} فل يضل إل من يستحق الضلل كما أنه‬ ‫يهدي من يستحق الهداية وذلك لعلمه بكل شيء وقوله تعالى {له ملك السموات والرض} أي خلقا‬ ‫وملكا وتصرفا فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء يحيى ويميت يحيي باليمان ويميت بالكفر‬ ‫ويحيى الموات ويميت الحياء لكامل قدرته وعظيم سلطانه وقوله {وما لكم من دون ال من ولي‬ ‫ول نصير} أي ليس لكم من يتولكم إذا تخلى عنكم وليس لكم من ينصركم إذا خذلكم فلذا وجبت‬ ‫طاعته والتكال عليه‪ ،‬وحرم اللتفات إلى غيره من سائر خلقه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الستغفار لمن مات على الشرك لن ال ل يغفر أن يشرك به فلذا ل يطلب منه شيء‬ ‫أخبر أنه ل يفعله‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب الوفاء بالوعود والعهود‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكروا لكملة أواه عشرة تأويلت وما ذُكر في التفسير أولى بها كلها ولو قلنا إن الواه كثير‬ ‫قول‪ :‬أوّاه تأسفا وتحسرا وشفقة ورحمة لكان أولى بدللة اللفظ عليه‪.‬‬ ‫‪ 2‬شاهد هذا قوله تعالى‪{ :‬وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول}‪:‬‬ ‫فإنه يأمرهم أول وينهاهم فإن لم يمتثلوا استحقوا العذاب‪.‬‬

‫( ‪)2/432‬‬

‫‪ -3‬ليس من سنة ال تعالى في الناس أن يضل عباده قبل أن يبين لهم ما يجب عليهم عمله أو‬ ‫اتقاؤه‪.‬‬ ‫‪ -4‬ليس للعبد من دون ال من ولي يتوله ول نصير ينصره ولذا وجبت ولية ال بطاعته‬ ‫واللجوء إليه بالتوكل عليه‪.‬‬ ‫عةِ ا ْلعُسْ َرةِ مِن َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّ ْنهُمْ‬ ‫ن وَالَنصَارِ الّذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَا َ‬ ‫ي وَا ْل ُمهَاجِرِي َ‬ ‫النّ ِب ّ‬ ‫ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ إِنّهُ ِبهِمْ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ(‪ )117‬وَعَلَى الثّلَثَةِ الّذِينَ خُّلفُواْ حَتّى ِإذَا ضَا َقتْ عَلَ ْيهِمُ‬ ‫سهُمْ وَظَنّواْ أَن لّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ ِإلّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ‬ ‫الَ ْرضُ ِبمَا َرحُ َبتْ َوضَا َقتْ عَلَ ْيهِمْ أَنفُ ُ‬ ‫إِنّ الّلهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ(‪ )118‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ الّل َه َوكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ(‪)119‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المهاجرين‪ :‬الذين هجروا ديارهم من مكة وغيرها ولحقوا برسول ال بالمدينة‪.‬‬ ‫النصار‪ :‬هم سكان المدينة من الوس والخزرج آمنوا ونصروا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ساعة العسرة ‪ :1‬هي أيام الخروج إلى تبوك لشدة الحر والجوع والعطش‪.‬‬ ‫يزيغ قلوب ‪ :‬أي تميل عن الحق لشدة الحال وصعوبة الموقف‪.‬‬ ‫الثلثة الذين خلفوا‪ :‬هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلل بن أمية‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الساعة يطلق على ظرف الزمان يطول ويقصر فقد أطلق على يوم القيامة وأطلق على‬ ‫ستين دقيقة‪ ،‬والمراد بالساعة‪ :‬أيام غزوة تبوك‪.‬‬

‫( ‪)2/433‬‬ ‫بما رحبت ‪ :‬أي على اتساعها ورحابتها‪.‬‬ ‫أن ل ملجأ‪ :‬أي إذ ل مكان للّجوء فيه والهرب إليه‪.‬‬ ‫الصادقين ‪ :‬في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم والصدق ضد الكذب‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة تبوك وفي هذه اليات الثلث إعلن عن شرف وكرامة‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه البررة من النصار والمهاجرة إذ قال تعالى {لقد تاب ال‬ ‫‪ 1‬على النبي والمهاجرين والنصار} أي أدامها (التوبة) وقبلها وقوله {الذين اتبعوه في ساعة‬ ‫العسرة}‪ 2‬أي عند خروجه إلى تبوك في الحر الشديد والفاقة الشديدة وقوله {من بعد ما كاد يزيغ‬ ‫قلوبك ‪ 3‬فريق منهم} وذلك لصعوبة الحال وشدة الموقف لقد عطشوا يوما كما قال عمر رضي ال‬ ‫عنه كان أحدنا يذبح بعيره ويعصر فرثه فيشرب ماءه ويضع بعضه على كبده فخطر ببعض القوم‬ ‫خواطر كادت القلوب تزيغ أي تميل عن الحق ولكن ال تعالى ثبتهم فلم يقولوا سوءا ولم يعملوه‬

‫لجل هذا أعلن ال تعالى في هذه اليات عن كرامتهم وعلو مقامهم ثم تاب عليهم إنه هو التواب‬ ‫الرحيم وقوله {وعلى الثلثة الذين خلفوا} وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلل بن أمية‬ ‫ومعنى خلفوا أرجئوا في البت في توبتهم إذ تقدم قوله تعالى {وآخرون مرجون لمر ال} فقد‬ ‫تخلفت توبتهم خمسين يوما {حتى إذا ضاقت عليهم الرض بما رحبت ‪ 4‬وضاقت عليهم أنفسهم ‪5‬‬ ‫وظنوا أن ل ملجأ من ال إل إليه} فصبروا على شدة ألم النفس من جراء المقاطعة التي أعلنها‬ ‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لهم انتظارا لحكم ال لنهم تخلفوا عن الخروج مع رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم إلى تبوك ولم يكن لهم عذر‪ ،‬فلذا لما قدم النبي صلى ال عليه وسلم تقدم‬ ‫المخلفون فاعتذروا فقبل منهم رسول ال وتاب ال على المؤمنين منهم ولم يتقدم هؤلء الثلثة‬ ‫ليعتذروا خوفا من الكذب فآثروا جانب‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما كانت التوبة على النبي صلى ال عليه وسلم لجل إذنه‬ ‫للمنافقين في القعود دليله قوله تعالى‪{ :‬عفا ال عنك لم أذنت لهم }؟ وعلى المؤمنين من ميل قلوب‬ ‫بعضهم إلى التخلف عنه‪.‬‬ ‫‪( 2‬العسرة) صعوبة المر‪ ،‬قال جابر‪ :‬اجتمع عليهم عسرة الظهر أي‪( :‬المركوب) وعسرة الزاد‬ ‫وعسرة الماء قال ابن عرفة‪ :‬سمي جيش غزوة تبوك جيش العسرة‪ :‬لنّ النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة الغيظ فغلظ عليهم وعسر‪.‬‬ ‫‪ 3‬تدارك قلوبهم حتى لم تزغ‪ ،‬وتلك سنته مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب أمطر عليهم سحائب‬ ‫رحمته فأحيا قلوبهم‪.‬‬ ‫‪{ 4‬رحبت} بمعنى‪ :‬اتسعت‪ ،‬وما‪ :‬مصدرية‪ ،‬أي ضاقت عليهم الرض برحبها‪ :‬أي‪ :‬على رحبها‬ ‫لنهم كانوا مهجورين ل يكلمون ول يعاملون حتى من اقرب الناس إليهم‪ ،‬وفي هذا دليل على‬ ‫مشروعية هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬ضاقت صدورهم بالهمّ‪.‬‬

‫( ‪)2/434‬‬ ‫الصدق فأذاقهم ال ألم المقاطعة ثم تاب عليهم وجعلهم مثلً للصدق فدعا المؤمنين أن يكونوا معهم‬ ‫فقال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال وكونوا مع الصادقين} أي اتقوا ال بإتباع أوامره واجتناب‬ ‫نواهيه وكونوا من الصادقين ‪ 1‬في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم تكونوا مع الصادقين في الخرة مع‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي ال عنهما وسائر النبيين والصديقين والشهداء‬ ‫والصالحين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان فضل أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان فضل غزوة العسرة على غيرها من الغزوات "وهي غزوة تبوك" ‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان فضل ال على المؤمنين بعصمة قلوبهم من الزيغ في حال الشدة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان فضل كعب بن مالك وصاحبيه في صبرهم وصدقهم ولجوئهم إلى ال تعالى حتى فرج‬ ‫عليهم وتاب عليهم وكانوا مثالً للصدق‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب التقوى والصدق في النيات والقوال والحوال والعمال‪.‬‬ ‫سهِمْ عَن‬ ‫خّلفُواْ عَن رّسُولِ الّل ِه وَلَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُ ِ‬ ‫ن الَعْرَابِ أَن يَتَ َ‬ ‫حوَْلهُم مّ َ‬ ‫مَا كَانَ لِأَ ْهلِ ا ْلمَدِي َن ِة َومَنْ َ‬ ‫طؤُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ‬ ‫خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ الّل ِه َولَ َي َ‬ ‫صبٌ َولَ مَ ْ‬ ‫ظمٌَأ َولَ َن َ‬ ‫ّنفْسِهِ َذِلكَ بِأَ ّنهُ ْم لَ ُيصِي ُبهُمْ َ‬ ‫حسِنِينَ(‪)120‬‬ ‫ع َملٌ صَالِحٌ إِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ‬ ‫ا ْل ُكفّارَ َولَ يَنَالُونَ مِنْ عَ ُدوّ نّيْلً ِإلّ كُ ِتبَ َلهُم بِهِ َ‬ ‫طعُونَ‬ ‫صغِي َر ًة َولَ كَبِي َرةً َولَ َيقْ َ‬ ‫وَلَ يُن ِفقُونَ َنفَقَ ًة َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فسّر (الصادقين)‪ :‬بأنهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم قال ابن العربي ‪ :‬هذا القول هو‬ ‫الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى‪.‬‬

‫( ‪)2/435‬‬ ‫حسَنَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪َ )121‬ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً‬ ‫وَادِيًا ِإلّ كُ ِتبَ َلهُمْ لِ َيجْزِ َيهُمُ الّلهُ أَ ْ‬ ‫جعُواْ إِلَ ْيهِمْ َلعَّل ُهمْ‬ ‫ن وَلِيُنذِرُواْ َق ْو َمهُمْ إِذَا َر َ‬ ‫فََلوْلَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْر َقةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ لّيَ َتفَ ّقهُواْ فِي الدّي ِ‬ ‫حذَرُونَ(‪)122‬‬ ‫يَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ومن حولهم من العراب‪ :‬وهم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم‪.‬‬ ‫ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه‪ :‬أي يطلبون لنفسهم الراحة ولنفس رسول ال التعب والمشقة‪.‬‬ ‫ظمأ ‪ :.‬أي عطش‪.‬‬ ‫ول نصب ‪ :‬أي ول تعب‪.‬‬ ‫ول مخمصة ‪ :‬أي مجاعة شديدة‪.‬‬ ‫يغيظ الكفار ‪ :‬أي يصيبهم بغيظ في نفوسهم يحزنهم‪.‬‬ ‫نيل‪ :‬أي منالً من أسر أو قتل أو هزيمة للعدو‪.‬‬ ‫واديا‪ :‬الوادي‪ :‬مسيل الماء بين جبلين أو مرتفعين‪.‬‬ ‫لينفروا كافة‪ :.‬أي يخرجوا للغزو والجهاد جميعا‪.‬‬ ‫طائفة‪ :.‬أي جماعة معدودة‪.‬‬

‫ليتفقهوا في الدين‪ :‬أي ليعلموا أحكام الدين وأسرار شرائعه‪.‬‬ ‫ولينذروا قومهم ‪ :‬أي ليخوفوهم عذاب النار بترك العمل بشرع ال‪.‬‬ ‫لعلهم يحذرون ‪ :‬أي عذاب ال تعالى بالعلم والعمل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في آثار أحداث غزوة تبوك فقال تعالى {ما كان لهل المدينة}‪1‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية نزلت تحمل العتاب للمؤمنين أهل المدينة والحياء المجاورة لها كمزينة وجهينة‬ ‫وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك‪.‬‬

‫( ‪)2/436‬‬ ‫أي سكانها من المهاجرين والنصار {ومن حولهم من العراب} أي ومن النازلين حول المدينة‬ ‫من العراب كمزينة وجهينة وغفار وأشجع وأسلم {أن يتخلفوا عن رسول ال} إذا خرج إلى جهاد‬ ‫ودعا بالنفير العام وفي هذا عتاب ولوم شديد لمن تخلفوا عن غزوة تبوك وقوله {ول يرغبوا‬ ‫بأنفسهم عن نفسه} أي بأن يطلبوا لنفسهم الراحة دون نفس رسول ال صلى ال عليه وسلم وقوله‬ ‫{ذلك} أي النهي الدال عليه بصيغة ما كان لهل المدينة وهي أبلغ من النهي بأداته (ل) لنه نفي‬ ‫للشأن أي هذا مما ل ينبغي أن يكون أبدا‪ .‬وقوله {بأنهم ل يصيبهم} بسبب أنهم ل يصيبهم {ظمأ}‬ ‫أي عطش {ول نصب} أي تعب {ول مخمصة}‪ 1‬أي جوع شديد في سبيل ال أي في جهاد أهل‬ ‫الكفر لعلء كلمة السلم التي هي كلمة ال {ول يطأون موطئا يغيظ الكفار} أي ول يطأون‬ ‫أرضا من أرض العدو يغتاظ لها العدو الكافر ويحزن {ول ينالون من عدو}‪ 2‬أي ل تعالى {نيلً}‬ ‫أي منالً أي أسرى أو قتلى أو غنيمة منه أو هزيمة له {إل كتب لهم به عمل صالح} فلهذا ل‬ ‫ينبغي لهم أن يتخلفوا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى ل يفوتهم هذا الجر العظيم‪ .‬وقوله‬ ‫{إن ال ل يضيع أجر المحسنين} تعليل لتقرير الجر وإثباته لهم إن هُم خرجوا مع رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم وأحسنوا الصحبة والعمل وقول تعالى {ول ينفقون نفقة} أي في سبيل ال‬ ‫الذي هو هنا الجهاد {صغيرة ول كبيرة} أي قليلة ول كثيرة {ول يقطعون واديا} ذاهبين إلى العدو‬ ‫أو راجعين {إل كتب لهم} ‪ 3‬أي ذلك المذكور من النفقة والسير ‪ 4‬في سبيل ال‪ .‬وقوله تعالى‬ ‫{ليجزيهم ال أحسن ما كانوا يعملون} أي جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه قبل خروجهم في سبيل‬ ‫ال‪ .‬وقوله تعالى {فلول نفر من كل فرقة} ‪ 5‬أي قبيلة منهم طائفة أي جماعة {ليتفقهوا في الدين}‬ ‫بما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل المخمصة‪ :‬ضمور البطن يقال‪ :‬رجل خمص الباطن أي‪ :‬ضامره وامرأة خمصانة‪.‬‬

‫‪ 2‬يقال‪ :‬نال الشيء يناله‪ :‬إذا أصابه‪ ،‬فينالون‪ :‬بمعنى يصيبون‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس بكل روعة تنالهم في سبيل ال سبعون ألف حسنة‪ .‬وجاء في الصحيح في شأن‬ ‫الخيل وفيه‪" :‬وأمّا التي هي له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل ال لهل السلم في مرج أو روضة‬ ‫فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إل كتب عدد ما أكلت حسنات‪ ،‬وكتب له عدد أرواثها‬ ‫وأبوالها حسنات"‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى مسلم وأبو داود أنّ النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم‬ ‫مسيرا ول أنفقتم من نفقة ول قطعتم واديا إل وهم معكم فيه قالوا يا رسول ال وكيف يكونون‬ ‫معنا وهم في المدينة؟ قال حبسهم العذر"‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذه الية دليل على أن الجهاد فرض كفاية ول يتعين إل إذا عيّنة المام أو هاجم العدو دار قوم‬ ‫مؤمنين فيجب عليهم قتاله كافة كما هي نص في وجوب طلب العلم وهو بالرحلة الطويلة إليه‪.‬‬ ‫وفي الحديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهذا الحديث دليل على أن طلب العلم يكون‬ ‫فرض عين ويكون فرض كفاية‪.‬‬

‫( ‪)2/437‬‬ ‫يسمعون من رسول ال صلى ال عليه وسلم ويتعلمونه منه {ولينذروا قومهم} عواقب الشرك‬ ‫والشر والفساد {لعلهم يحذرون} ذلك فينجون من خزى الدنيا وعذاب الخرة هذه الية نزلت لما‬ ‫سمع المسلمون ورأوا نتائج التخلف عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا لن نتخلف بعد اليوم‬ ‫عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أبدا ول نتخلف عن غزو ما حيينا فأنزل ال تعالى هذه الية‬ ‫يرشدهم إلى ما هو خير وأمثل فقال {فلول} أي فهل نفر من كل فرقة منهم أي قبيلة أو حيّ من‬ ‫أحيائهم طائفة فقط وتبقى طائفة منهم بدل أن يخرجوا كلهم ويتركون رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم وحده فإن خروجهم على هذا النظام أنفع لهم فالذين يبقون مع رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم أو يخرجون معه إذا خرج يتفقهون في الدين لصحبتهم لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫والباقون هم في مهام دينهم أيضا ودنياهم فإذا رجع أولئك المتفقهون علموا إخوانهم ما فاتهم من‬ ‫العلم وأسرار الشرع كما أن الذين ينفرون إلى الجهاد قد يشاهدون من نصر ال لوليائه وهزيمته‬ ‫لعدائه ويشاهدون أيضا ضعف الكفار وفساد قلوبهم وأخلقهم وسوء حياتهم فيعودون إلى‬ ‫إخوانهم فينذرونهم ما عليه أهل الكفر والفساد فيحذرون منه ويتجنبونه وفي هذا خير للجميع وهو‬ ‫معنى قوله تعالى {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب إيثار رسول ال صلى ال عليه وسلم على النفس بكل خير بل بالحياة كلها‪.‬‬

‫‪ -2‬بيان فضل السير في سبيل ال‪ ،‬وما فيه من الجر العظيم‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل الحسان وأهله‪.‬‬ ‫‪ -4‬تساوي فضل طلب العلم والجهاد على شرط النية الصالحة في الكل وطالب العلم ل ينال هذا‬ ‫الجر إل إذا كان يتعلم ليعلم فيعمل فيعلم مجانا في سبيل ال والمجاهد ل ينال هذا الجر إل إذا‬ ‫كان لعلء كلمة ال خاصة‪.‬‬ ‫‪ -5‬حاجة المة إلى الجهاد والمجاهدين كحاجتها إلى العلم والعلماء سواء بسواء‪.‬‬ ‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُو َنكُم مّنَ ا ْل ُكفّارِ وَلِ َيجِدُواْ فِيكُمْ غِ ْلظَ ًة وَاعَْلمُواْ أَنّ الّلهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ(‬ ‫‪) 123‬‬

‫( ‪)2/438‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آمنوا‪ :‬أي بال ورسوله ووعد ال ووعيده‪.‬‬ ‫الذين يلونكم‪ :‬أي يلون بلدكم وحدودها‪.‬‬ ‫من الكفار‪ :‬من‪ :‬بيانية‪ ،‬أي الكافرين‪.‬‬ ‫وليجدوا فيكم غلظة ‪ :‬أي قوة بأس وشدة مراس ليرهبوكم وينهزموا أمامكم‪.‬‬ ‫مع المتقين‪ :‬أي بنصره وتأييده والمتقون هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والخروج عن السنن‬ ‫اللهية في النصر والهزيمة‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫لما طهرت الجزيرة من الشرك وأصبحت دار إسلم وهذا في أخريات حياة الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم وذلك بعد غزوة تبوك أمر ال تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهاد في سبيله بعد وفاة‬ ‫نبيه وأرشدهم إلى الطريقة التي يجب أن يتبعوها في ذلك وهي‪ :‬أن يبدأوا بدعوة وقتال أقرب‬ ‫كافر منهم والمراد به الكافر المتاخم لحدودهم كالردن أو الشام أو العراق مثلً فيعسكروا على‬ ‫مقربة منهم ويدعونهم إلى خصلة من ثلث‪ :‬الدخول في دين ال السلم أو قبول حماية المسلمين‬ ‫لهم بدخولهم البلد وضرب الجزية على القادرين منهم مقابل حمايتهم وتعليمهم وحكمهم بالعدل‬ ‫والرحمة السلمية أو القتال حتى يحكم ال بيننا وبينكم فإذا ضمت أرض هذا العدو إلى بلدهم‬ ‫وأصبحت لهم حدود أخرى فعلوا كما فعلوا أولً وهكذا حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل‪،‬‬ ‫فتسعد البشرية في دنياها وآخرتها‪ .‬وأمرهم أن يعلموا أن ال ما كلفهم بالجهاد إل وهو معهم‬ ‫وناصرهم ولكن على شرط أن يتقوه في أمره ونهيه فهذا ما دلت عليه الية الكريمة {يا أيها الذين‬ ‫آمنوا ‪ 1‬قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة}‪ 2‬أي قوة بأس وشدة مراس في الحرب‬ ‫{واعلموا ‪ 3‬أن ال مع المتقين} أي بنصره وتأييده‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي صلى ال عليه وسلم فيه إيماء إلى أن النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم ل يغزو ل بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب‪ ،‬وفعل فإنه صلى ال عليه وسلم ما‬ ‫غزا بعد تبوك وإنما حجّ حجة الوداع وبعدها بواحد وثمانين يوما استأثر ال تعالى بروحه‬ ‫الطاهرة الشريفة‪.‬‬ ‫‪{ 2‬غلظة} مثلثة الغين غُلظة الكسر لغة الحجاز‪ ،‬والضم لغة بني تميم‪ ،‬والمراد الجرأة على القتال‬ ‫والصبر عليه مع العنف‪ .‬والشدة في القتل والقصد من هذا إلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى‬ ‫يخشوا قتال المسلين‪.‬‬ ‫‪ 3‬افتتاح الجملة بـ اعلموا‪ :‬للهتمام بما يراد العلم به‪ ،‬وفي الجملة تسلية للمؤمنين بعد فقد نبيهم‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن ال معهم بالنصر والتأييد فاتقوه بلزوم طاعته وطاعة رسوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم في أمرهما ونهيهما في السلم والحرب‪.‬‬

‫( ‪)2/439‬‬ ‫هداية الية الكريمة‬ ‫من هداية الية الكريمة‬ ‫‪ -1‬وجوب الجهاد واستمراريته إلى أن ل تبقى فتنة أو شرك أو اضطهاد لمؤمن ويكون الدين‬ ‫والحكم كلهما ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬مشروعية البداءة في الجهماد بأقرب الكفار إلى بلد المسلمين من باب (القربون أولى‬ ‫بالمعروف)‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا اتسعت بلد السلم تعين على أهل كل ناحية قتال من يليهم القرب فالقرب‪.‬‬ ‫‪ -4‬وعد ال بالنصر والتأييد لهل التقوى العامة والخاصة‪.‬‬ ‫وَإِذَا مَا أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُم مّن َيقُولُ أَ ّي ُكمْ زَادَ ْتهُ َه ِذهِ إِيمَانًا فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَ ُهمْ‬ ‫سهِ ْم َومَاتُو ْا وَهُمْ كَافِرُونَ(‬ ‫يَسْتَبْشِرُونَ(‪ )124‬وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ْتهُمْ ِرجْسًا إِلَى ِرجْ ِ‬ ‫ن َولَ هُمْ َي ّذكّرُونَ(‪ )126‬وَإِذَا‬ ‫‪َ )125‬أ َولَ يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ فِي ُكلّ عَامٍ مّ ّرةً َأوْ مَرّتَيْنِ ُث ّم لَ يَتُوبُو َ‬ ‫حدٍ ثُمّ انصَ َرفُو ْا صَ َرفَ اللّهُ قُلُو َبهُم بِأَ ّن ُهمْ‬ ‫ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ َهلْ يَرَاكُم مّنْ أَ َ‬ ‫مَا أُنزَِلتْ سُو َرةٌ نّظَرَ َب ْع ُ‬ ‫َقوْ ٌم لّ َيفْ َقهُون(‪)127‬‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫سورة ‪ :‬أي قطعة من القرآن وسواء كانت آيات من سورة أو سورة بكاملها وحدها‪.‬‬ ‫زادته إيمانا ‪ :‬أي السورة َقوّت إيمانه وزادت فيه لنها كالغيث النافع‪.‬‬ ‫يستبشرون ‪ :‬فرحين بفضل ال تعالى عليهم‪.‬‬

‫( ‪)2/440‬‬ ‫في قلوبهم مرض‪ :‬أي شك ونفاق وشرك‪.‬‬ ‫فزادتهم رجسا‪ :‬أي نجسا إلى نجس قلوبهم ونفوسهم‪.‬‬ ‫يفتنون‪ :‬أي يمتحنون‪.‬‬ ‫ول هم يذكرون ‪ :‬أي ل يتعظون لموات قلوبهم‪.‬‬ ‫صرف ال قلوبهم‪ :‬دعاء عليهم بأن ل يرجعوا إلى الحق بعد انصرافهم عنه‪.‬‬ ‫ل يفقهون‪ :‬أي ل يفهمون أسرار الخطاب لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪..‬‬ ‫هذا آخر حديث عن المنافقين في سورة براءة الفاضحة للمنافقين يقول تعالى {وإذا ما أنزلت‬ ‫سورة}‪ 1‬أي من سور القرآن التي بلغت ‪ 114‬سورة نزلت وتليت وهم غائبون عن المجلس الذي‬ ‫تليت فيه‪ ،‬فمنهم أي من المنافقين من يقول‪{ :‬أيكم زادته هذه إيمانا}‪ 2‬وقولهم هذا تهكم منهم‬ ‫وازدراء قال تعالى {فأما الذين آمنوا} بحق وصدق {فزادتهم إيمانا} لنها نزلت بأحكام أو أخبار لم‬ ‫تكن عندهم فآمنوا بها لما نزلت فزاد بذلك إيمانهم وكثر كما كان أن إيمانهم يقوى حتى يكون يقينا‬ ‫بما يتنزل من اليات وقوله { وهم يستبشرون} أي فرحون مسرورون بالخبر الذي نزل والقرآن‬ ‫كله خير كما هم أيضا فرحون بإيمانهم وزيادة يقينهم {وأما الذين في قلوبهم مرض} أي شك‬ ‫ونفاق {فزادتهم رجساَ} ‪ 3‬أي شكا ونفاقا {إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}‪ .‬وقوله تعالى {أو ل‬ ‫يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين}‪ 4‬أي أيستمر هؤلء المرضى بالنفاق على نفاقهم‬ ‫ول يرون أنهم يفتنون أي من أجل نفاقهم مرة أو مرتين أي يختبرون بالتكاليف والفضائح وغيرها‬ ‫{ثم ل يتوبون} من نفاقهم {ول هم يذكرون} فيتعظون فيتوبون هذا ما دلت عليه اليات الولى (‬ ‫‪ )124‬والثانية (‪ )125‬والثالثة (‪ )126‬أما الية الرابعة (‪ )127‬فقد تضمنت سوء حال هؤلء‬ ‫المنافقين وقبح سلوكهم فسجّلت عليهم وصمة عار وخزي إلى يوم القيامة إذ قال‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ما} صلة لتقوية الكلم حسب السلوب العربي البليغ‪.‬‬ ‫‪ 2‬اليمان لغة‪ :‬التصديق‪ .‬وشرعا‪ :‬تصديق ال ورسوله في كل ما أخبرا به وأركانه ستة ويزيد‬ ‫بالطاعة وينقص بالعصيان‪.‬‬ ‫‪ 3‬شكّا إلى شكّهم‪ ،‬وكفرا إلى كفرهم‪ ،‬وإثما إلى إثمهم إذ الشك والكفر من أعظم الثام‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال قتادة والحسن ومجاهد‪ :‬بالغزو والجهاد مع النبي صلى ال عليه وسلم ويرون ما وعد ال‬ ‫من النصر يُريد يتحقق أمامهم وكأنهم ل يعقلون‪.‬‬

‫( ‪)2/441‬‬

‫تعالى {وإذا ما أُنزلت سورة}‪ 1‬أي وهم في المجلس وقرئت على الجالسين وهم من بينهم‪{ .‬نظر‬ ‫بعضهم إلى بعض} وقال في سرية ومُخافَتَه هيا نقوم من هذا المجلس الذي نعير فيه ونشتم {هل‬ ‫يراكم من أحد} أي من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم فإن كان الجواب‪ :‬ل يرانا أحد‬ ‫انصرفوا متسللين لواذا قال تعالى في دعاء عليهم‪{ :‬صرف ال قلوبهم}‪ 2‬أي عن الهدى {بأنهم قوم‬ ‫ل يفقهون} أي ل يفقهون أسرار اليات وما تهدي إليه‪ ،‬فعلتهم سوء فهمهم وعلة سوء فهمهم ظلمة‬ ‫قلوبهم وعلة تلك الظلمة الشك والشرك والنفاق والعياذ بال تعالى‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ زيادة اليمان ونقصانه زيادته بالطاعة ونقصانه بالعصيان‪.‬‬ ‫‪ -2‬جواز الفرح باليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫‪ -3‬مريض القلب يزداد مرضا وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن ال في العباد‪.‬‬ ‫‪ -4‬كشف أغوار المنافقين وفضيحتهم في آخر آية من سورة التوبة تتحدث عنهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬يستحب أن ل يقال انصرفنا ‪ 3‬من الصلة أو الدرس ولكن يقال انقضت الصلة أو انقضى‬ ‫الدرس ونحو ذلك‪.‬‬ ‫علَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُم بِا ْل ُمؤْمِنِينَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ(‪)128‬‬ ‫سكُمْ عَزِيزٌ َ‬ ‫َلقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬ ‫حسْ ِبيَ اللّهُ ل إِلَهَ ِإلّ ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ(‪)129‬‬ ‫فَإِن َتوَّلوْاْ َف ُقلْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ما} صلة لتقوية الكلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الجملة خبرية أخبر تعالى أنه جزاهم على انصرافهم من مجلس الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم بصرف قلوبهم عن الهدى فهم ل يهتدون إذا أبدا وضمّن الخبر الدعاء عليهم‪ ،‬وقد تحقق‬ ‫معناه وهو صرف قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬لنّ ال ذ ّم المنافقين لنصرافهم ودعا عليهم بصرف قلوبهم وصرفها ولو قيل انقلبنا من الصلة‬ ‫أو من الجنازة لكان خيرا لقوله تعالى‪{ :‬فانقلبوا برحمة من ال وفضل} الية من سورة آل‬ ‫عمران‪.‬‬

‫( ‪)2/442‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫رسول من أنفسكم‪ :‬أي محمد بن عبدال صلى ال عليه وسلم من جنسكم عربي‪.‬‬ ‫عزيز عليه‪ :‬أي شاق صعب‪.‬‬

‫ما عنتم‪ :‬أي ما يشق عليكم ويصعب تحمله‪.‬‬ ‫حريص عليكم‪ :‬أي حريص على هدايتكم وما فيه خيركم وسعادتكم‪.‬‬ ‫رؤوف‪ :‬شفيق‪.‬‬ ‫رحيم‪ :‬برق ويعطف ويرحم‪.‬‬ ‫فإن تولوا ‪ :‬أي أعرضوا عن دين ال وما جئت به من الهدى‪.‬‬ ‫حسبي ال ‪ :‬أي كافيّ ال‪.‬‬ ‫ل إله إل هو ‪ :.‬أي ل معبود بحق إل هو‪.‬‬ ‫توكلت‪ :‬أي فوضت أمري إليه واعتمدت عليه‪.‬‬ ‫رب العرش العظيم‪ :‬عرش ال تعالى ل أعظم منه إل خالقه عز وجل إذ كرسيه تعالى وسع‬ ‫السموات والرض ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلة‪.‬‬ ‫معنى اليتين الكريمتين‪:‬‬ ‫في ختام سورة التوبة يقول ال تعالى لكافة العرب‪{ :‬لقد جاءكم رسول} ‪ 1‬أي كريم عظيم {من‬ ‫أنفسكم} ‪ 2‬عدناني قرشي هاشمي ُمطًّلِبي تعرفون نسبه وصدقه وأمانته‪{ .‬عزيز عليه ما عنتم}‪3‬‬ ‫أي يشق عليه ما يشق عليكم ويؤلمه ما يؤلمكم لنه منكم ينصح لكم نصح القومي لقومه‪{ .‬حريص‬ ‫عليكم} أي على هدايتكم وإكمالكم وإسعادكم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي عن أبي أنه قال‪ :‬هاتان اليتان أقرب القرآن بالسماء عهدا وهذا ل ينافي أنّ آخر ما نزل‬ ‫من القرآن‪{ :‬واتقوا يوما ترجعون فيه إلى ال}‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرىء‪{ :‬من أنفسكم} أي‪ :‬أشرفكم وأفضلكم إذ هو من النفاسة وهي تعلّق نفوس البشر بما هو‬ ‫أجمل وأكمل‪ .‬وقراءة الجمهور أولى وهي الضم أي‪ :‬من أنفسكم إذ ما من قبيلة من فبائل العرب‬ ‫إل وولدت النبي صلى ال عليه وسلم قاله ابن عباس رضي ال عنهما‪ .‬وشاهده قوله صلى ال‬ ‫عليه وسلم في رواية مسلم‪" :‬إن ال اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة‬ ‫واصطفى من قريش بني هاشم " وفي لفظ‪" :‬فأنا خيار من خيار" وهو صلى ال عليه وسلم كذلك‪.‬‬ ‫‪{ 3‬ما} مصدرية تُسبكُ مع الفعل بمصدر فيكون الكلم عزيز عليه ما عنتكم والعنت‪ :‬التعب‪ ،‬وهو‬ ‫مصدر عنت يعنت عنتا‪ .‬كأنّه يشير إلى أنّ ما لقاه أصحابه من عنت أيام كانوا يحاربون أهليهم‪،‬‬ ‫وذويهم وما نالهم من الغربة والفاقة‪ ،‬والحرب كل ذلك كان يعزّ عليه صلى ال عليه وسلم ويألم‬ ‫له فصلى ال وسلم عليه ما أرحمه وأوفاه!!‬

‫( ‪)2/443‬‬

‫{بالمؤمنين} منكم ومن غيركم من سائر الناس {رؤوف رحيم} أي شفوق عطوف يحب رحمتهم‬ ‫وإيصال الخير لهم‪ .‬إذا فآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به تهتدوا وتسعدوا ول تكفروا فتضلوا‬ ‫وتشقوا‪ .‬وقوله تعالى {فإن تولوا} أي أعرضوا عن دعوتك فل تأْسَ وقل حسبي ال أي يكفيني‬ ‫ربي كل ما يهمني {ل إله إل هو} أي ل معبود بحق سواه لذا فإني أعبده وأدعو إلى عبادته‪،‬‬ ‫{عليه توكلت}‪ 1‬أي في شأني كله {وهو رب العرش العظيم} ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو‬ ‫على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪.‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان مِنّه ال تعالى على العرب خاصة وعلى البشرية عامة ببعثه خاتم أنبيائه محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان كمال أخلقه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب التوكل على ال تعالى والعتماد عليه في كل شيء يقوم به العبد‪.‬‬ ‫‪ -4‬عظمة عرش الرحمن عز وجل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عن أبي الدرداء أنّ من قال‪ :‬إذا أصبح وإذا أمسى ‪" :‬حسبي ال ل إله إل هو عليه توكلت وهو‬ ‫رب العرش العظيم‪ :‬سبع مرات كفاه ال ما أهمّه صادقا كان أو كاذبا"‬

‫( ‪)2/444‬‬ ‫سورة يونس‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة يونس‬ ‫مكية ‪1‬‬ ‫وآياتها مائة وتسع آيات‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫جلٍ مّ ْنهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ‬ ‫عجَبًا أَنْ َأ ْوحَيْنَا إِلَى رَ ُ‬ ‫حكِيمِ(‪َ )1‬أكَانَ لِلنّاسِ َ‬ ‫الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬ ‫الّذِينَ آمَنُواْ أَنّ َلهُمْ َقدَ َم صِ ْدقٍ عِندَ رَ ّبهِمْ قَالَ ا ْلكَافِرُونَ إِنّ َهذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ(‪)2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكر بعضهم أن منها آيات قليلة مدنية‪ ،‬والظاهر أنها كلها مكية ومن تدبر آياتها من أوله إلى‬ ‫آخره لم ير ما يدعو إلى خلفه‪.‬‬

‫( ‪)2/444‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الر‪ :‬هذه السورة الرابعة من السور المفتتحة بالحروف المقطعة نكتب الر وتقرأ ألفْ‪ .‬لم‪ .‬را‪.‬‬ ‫الكتاب‪ :‬أي القرآن العظيم‪.‬‬ ‫حكَم فهو حكيم ومحكم أيضا‪.‬‬ ‫الحكيم ‪ :‬القائل بالحكمة والقرآن مشتمل على ال ِ‬ ‫عجبا‪ :‬العجب ما يتعجب منه‪.‬‬ ‫رجل منهم ‪ :‬هو محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫قدم صدق‪ :‬أي أجرا حسنا بما قدموا في حياتهم من اليمان وصالح العمال‪.‬‬ ‫إن هذا ‪ :‬أي القرآن‪.‬‬ ‫لسحر ‪ 1‬مبين ‪ :‬أي بين ظاهر ل خفاء فيه في كذبهم وادعائهم الباطل‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫مما تعالجه السور المكية قضايا التوحيد والوحي والبعث الخر وسورة يونس افتتحت بقضية‬ ‫الوحي أي إثباته وتقريره من ال لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم قال تعالى {آلر تلك آيات ‪2‬‬ ‫الكتاب الحكيم} ‪ 3‬أي هذه آيات القرآن الكريم المحكم آياته المشتمل على الحكم الكثيرة حتى لكأنه‬ ‫الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه وقوله تعالى {أكان للناس ‪ 4‬عجبا أن أوحينا إلى رجل‬ ‫منهم} أي أكان ايحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجبا لهل مكة يتعجبون‬ ‫منه؟ والموحى به هو‪{ :‬أن أنذر الناس}‪ ،‬أي خوفهم عاقبة الشرك والكفر والعصيان {وبشر الذين‬ ‫آمنوا} أي بأن لهم قدم ‪ 5‬صدق عند ربهم وهو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه قراءة نافع‪.‬‬ ‫‪ 2‬يذكر المفسرون عن السلف توجيهات عدة لهذه الحروف منها‪ :‬ما رووه عن ابن عباس أن الر‪:‬‬ ‫معناها‪ .‬أنا ال‪ ..‬وكل ما ذكروه قول بالظن وإنّ الظن أكذب الحديث‪ ،‬ومن الخير تفويض أمر‬ ‫معناها إلى من أنزلها وقد ذكرنا في التفسير‪ ،‬فائدتين عظيمتين فلنكتف بهما‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال مقاتل‪ :‬الحكيم بمعنى‪ :‬المحكم من الباطل ل يدخله ففعيل بمّعنى مُفعل واستشهد بقول‬ ‫العشى بذكر قصيدته التي قالها‪:‬‬ ‫وغريبة تأتي الملوك حكيمة ‪ ...‬قد قلتها ليقال من ذا قالها‬ ‫‪{ 4‬أكان للناس عجبا}‪ :‬الستفهام للتقريع والتوبيخ‪ ،‬وعجبا‪ :‬خبر كان والسم‪ :‬أن أوحينا‪ ،‬والتقدير‪:‬‬ ‫أكان عجبا للناس إيحاؤونا‪.‬‬ ‫‪ 5‬ذكر القرطبي في تفسير {قدم صدق} أقوال متعددة منها‪ :‬سبق السعادة في الزل‪ ،‬ومنها‪ :‬أجر‬

‫حسن‪ ،‬ومنها‪ :‬منزل صدق‪ ،‬ومنها‪ :‬ولد صالح قدّموه ومنها‪ :‬يؤثر ذلك عن السلف‪ ،‬وما في‬ ‫التفسير هو الراجح إذ رجّحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/445‬‬ ‫الجزاء الحسن لما قدموا من اليمان وصالح العمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الخرة فلما‬ ‫أنذر وبشر صلى ال عليه وسلم قال الكافرون هذا سحر مبين ومرة قالوا‪ :‬ساحر مبين وقولهم هذا‬ ‫لمجرد دفع الحق وعدم قبوله ل أن ما أنذر به وبشر هو سحر‪ ،‬ول المنذر المبشر هو ساحر وإنما‬ ‫هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة الوحي بشهادة الكتاب الموحى به‪.‬‬ ‫‪ -2‬إثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم وتقريرها بالوحي إليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان مهمة الرسول صلى ال عليه وسلم وهي النذارة والبشارة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بشرى أهل اليمان والعمل الصالح‪ ،‬بما أعد لهم عند ربهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬عدم تورع أهل الكفر عن الكذب والتضليل‪.‬‬ ‫لمْرَ مَا مِن‬ ‫ت وَالَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ ُيدَبّ ُر ا َ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ‬ ‫حقّا‬ ‫جمِيعًا وَعْدَ اللّهِ َ‬ ‫ج ُعكُمْ َ‬ ‫شفِيعٍ ِإلّ مِن َبعْدِ ِإذْنِهِ ذَِلكُمُ الّلهُ رَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ َأفَلَ َت َذكّرُونَ(‪ )3‬إِلَيْهِ مَ ْر ِ‬ ‫َ‬ ‫ط وَالّذِينَ كَفَرُواْ َلهُمْ شَرَابٌ مّنْ‬ ‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ بِا ْلقِسْ ِ‬ ‫إِنّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬ ‫س ضِيَاء وَالْ َقمَرَ نُورًا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ‬ ‫شمْ َ‬ ‫ج َعلَ ال ّ‬ ‫حمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ(‪ُ )4‬هوَ الّذِي َ‬ ‫َ‬ ‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ(‪ )5‬إِنّ فِي‬ ‫حسَابَ مَا خََلقَ اللّهُ ذَِلكَ ِإلّ بِا ْلحَقّ ُي َف ّ‬ ‫ن وَالْ ِ‬ ‫عدَدَ السّنِي َ‬ ‫لِ َتعَْلمُواْ َ‬ ‫ل وَال ّنهَا ِر َومَا خََلقَ‬ ‫لفِ اللّ ْي ِ‬ ‫اخْتِ َ‬

‫( ‪)2/446‬‬ ‫ت وَالَ ْرضِ ليَاتٍ ّلقَوْمٍ يَ ّتقُونَ(‪)6‬‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫اللّهُ فِي ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن ربكم ال ‪ :‬أي معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه وحده هو ال‪.‬‬ ‫خلق السموات والرض‪ :‬أي أوجدها من العدم حيث كانت عدما فأصبحت عوالم‪.‬‬ ‫في ستة أيام ‪ :‬هي الحد والثنين والثلثاء والربعاء والخميس‪ ،‬والجمعة‪.‬‬ ‫ثم استوى على العرش‪ :‬أي استوى استواء يليق به عز وجل فل يقال كيف؟‬

‫ما من شفيع إل من بعد إذنه ‪ :‬أي ل يشفع أحد يوم القيامة إل من بعد أن يأذن له‪.‬‬ ‫أفل تذكرون‪ :‬أي أتستمرون في جحودكم وعنادكم فل تذكرون‪.‬‬ ‫ثم يعيده‪ :‬أي بعد الفناء والبلى وذلك يوم القيامة‪.‬‬ ‫شراب من حميم‪ :‬أي من ماء أُحمى عليه وغلى ‪ 1‬حتى أصبح حميما يشوي الوجوه‪.‬‬ ‫جعل الشمس ضياء ‪ : 2‬أي جعلها تضيء على الرض‪.‬‬ ‫والقمر نورا‪ :.‬أي جعل القمر بنور الرض وهو الذي خلق ضوء الشمس ونور القمر‪.‬‬ ‫وقدره منازل‪ :‬أي قدر القمر منازل والشمس كذلك‪.‬‬ ‫لتعلموا‪ :‬أي قدرهما منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب‪.‬‬ ‫يتقون‪ :‬أي مساخط ال وعذابه وذلك بطاعته وطاعة رسوله‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات في تقرير اللوهية بعد تقرير الوحي وإثباته في اليتين السابقتين فقوله تعالى {إن ربكم‬ ‫ال الذي خلق السموات والرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر المر} إخبار منه‬ ‫تعالى أنه عز وجل هو رب أي معبود أولئك المشركين به آلهة أصناما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬غلى الماء يغلي غليانا إذا اشتدت حرارته ففار دخانا‪.‬‬ ‫‪ 2‬الضياء‪ :‬نور ساطع يضيء للرائي الشياء وهو اسم مشتق من الضوء فالضياء أقوى من‬ ‫الضوء‪.‬‬

‫( ‪)2/447‬‬ ‫يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئا أما ال فإنه الذي خلق السموات والرض في ستة أيام بمقدار‬ ‫أيامنا هذه إذ لم تكن يومئذ أياما كأيام الدنيا هذه‪ ،‬ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلله وكماله‬ ‫يدبر ‪ 1‬أمر السماء والرض‪ .‬هذا هو الله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه‪ .‬وقوله‪{ :‬ما من‬ ‫‪ 2‬شفيع إل من بعد إذنه} أي وأنه لعظمته وعزة سلطانه ل يقدر أحد أن يشفع لخر إل بعد إذنه‬ ‫له فكيف إذا تعبد هذه الصنام رجاء شفاعتها لعابديها‪ ،‬وال ل يشفع عنده أحد إل بإذنه؟ وقوله‬ ‫تعالى {ذلكم ال ربكم فاعبدوه} أي هذا الموصوف بهذه الصفات المعرّف بهذه النعوت من الجلل‬ ‫والكمال هو ربكم الحق فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات تكملوا وتسعدوا وقوله {أفل‬ ‫تذكرون} هر توبيخ للمشركين لهم ِلمَ ل تتعظون بعد سماع الحق‪ .‬وقوله تعالى {إليه مرجعكم بعد‬ ‫موتكم جميعا وعد ال حقا}‪ 3‬تقرير لمبدأ البعث الخر أي إلى ال تعالى ربكم الحق مُرجعكم بعد‬ ‫موتكم جميعا إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه وقوله {ليجزي الذين آمنوا‬ ‫وعملوا الصالحات بالقسط} ‪ 4‬أي بالعدل‪ :‬بيان لعلة الحياة بعد الموت إذ هذه الدار دار عمل‬

‫والخرة دار جزاء على هذا العمل فلذا كان البعث واجبا حتما ل بد منه ول معنى لنكاره لن‬ ‫القادر على البدء قادر على العادة من باب أولى وأحرى وقوله تعالى {والذين كفروا لهم شراب‬ ‫من حميم} أي ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته وعذاب أليم أي موجع إخبار منه تعالى بجزاء‬ ‫أهل الكفر يوم القيامة وهو علة أيضا للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء وبهذا تقرر مبدأ البعث‬ ‫كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحي إذ على هذه القضايا تدور السور المكية وقوله‬ ‫تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء} أي ذات ضياء والقمر نورا ذا نور وقدر القمر منازل ‪5‬‬ ‫وهي ثمانية وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر‪ ،‬فعل ذلك {لتعلموا عدد السنين والحساب}‪ 6‬فتعرفون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال مجاهد‪ :‬يقضيه ويقدره وحده‪ ،‬وقيل‪ :‬يأمر به ويمضيه‪ .‬قال القرطبي‪ :‬والمعنى متقارب‪.‬‬ ‫‪{ 2‬ما من شفيع} أي‪ :‬ل شفيع يشفع إل بعد إذنه له بالشفاعة‪.‬‬ ‫‪{ 3‬وعدا} و{حقا}‪ :‬مصدران بمعنى وعدكم وعدا وأحقه حقا‪ .‬أي‪ :‬صدقا ل خلف فيه‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجملة‪{ :‬انه يبدؤ الخلق}‪ :‬واقعة موقع الدليل على إنجاز وعده تعالى لن الذي خلق من تراب‬ ‫وماء قادر على البعث والجزاء‪.‬‬ ‫ت بلوغ القمر فيها للناس كل ليلة في‬ ‫سمُو ُ‬ ‫‪ 5‬المنازل‪ :‬جمع منزل‪ ،‬وهو مكان النزول والمراد بها ُ‬ ‫سمت منها كأنه ينزل بها‪ ،‬وللشمس منازل تسمى بروجا وهي اثنا عشر برجا تحل فيها الشمس‬ ‫في فصول السنة لكل برج منزلتان وثلث‪.‬‬ ‫‪{ 6‬الحساب} مصدر حسُب يحسُب لضم السين حسابا بمدد عدّ أما حسِب بكسر السين فهو بمعنى‬ ‫ظن ومضارعه يحسب بفتح السين وكسرها لغتان فصيحتان‪ .‬وبهما قرىء‪ :‬أيحسب النسان وكل‬ ‫يحسب بمعنى يظن‪.‬‬

‫( ‪)2/448‬‬ ‫عدد السنوات والشهور واليام والساعات إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك فهذا الرب القادر على هذا‬ ‫الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ول تعبدوا سواه فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد‬ ‫له‪ .‬وقريه {ما خلق ال ذلك إل بالحق} أي لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثا فتفنى‬ ‫وتبلى بعد حين ول شيء وراء ذلك بل ما خلق ذلك إل بالحق أي من أجل أن يأمر وينهى ثم‬ ‫يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضا وقوله‬ ‫{يفصل اليات} أي هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق {لقوم يعلمون} إذ هم الذين ينتفعون به أما‬ ‫الجهلة فل ينتفعون بهذا التفصيل والبيان وقوله تعالى في الية الخيرة {إن في اختلف الليل‬ ‫والنهار} أي بالطول والقصر والضياء والظلم {وما خلق ال في السموات والرض} ‪ 1‬من أفلك‬ ‫وكواكب ورياح وأمطار وما خلق في الرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار‬

‫وجبال َووِهاد {ليات} أي علمات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق وعلى جلله وجماله‬ ‫وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه فيُعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته‬ ‫والخشية منه غاية الرهبة والخشية ويذكر فل يُنسى ويشكر فل يُكفر ويطاع فل يُعصى وقوله‬ ‫تعالى {لقوم يتقون}‪ 2‬خص أهل التقوى باليات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته لنهم هم الذين‬ ‫حقا يبصرون ذلك ويشاهدونه لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم أما أهل الشرك‬ ‫والمعاصي فهم في ظلمة ل يشاهدون معها شيئا والعياذ بال‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير ألوهية ال تعالى وأنه الله الحق‪.‬‬ ‫‪ - 2‬تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين؟‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله‪{ :‬وما خلق ال في السموات والرض} شمل الجسام والحوال معا أي‪ :‬الذوات‬ ‫والصفات‪ ،‬والقوال والعمال أيضا إذ قال تعالى‪{ :‬وال خلقكم وما تعملون}‪.‬‬ ‫‪ 2‬خصهم باليات لنهم هم الذين ينتفعون بها أما أهل الشرك والفجور والمعاصي فل ينتفعون بها‬ ‫فهي إذا ليست لهم بل هي لغيرهم ممن ينتفعون بها‪.‬‬

‫( ‪)2/449‬‬ ‫‪ -5‬فضل العلم والتقوى وأهلهما من المؤمنين‪.‬‬ ‫طمَأَنّواْ ِبهَا وَالّذِينَ ُهمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(‪)7‬‬ ‫ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَاءنَا وَ َرضُواْ بِا ْلحَياةِ الدّنْيَا وَا ْ‬ ‫إَنّ الّذِي َ‬ ‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ َيهْدِيهِمْ رَ ّب ُهمْ بِإِيمَا ِنهِمْ‬ ‫ُأوْلَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمُ النّارُ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ(‪ )8‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬ ‫عوَا ُهمْ فِيهَا سُ ْبحَا َنكَ الّلهُ ّم وَتَحِيّ ُت ُهمْ فِيهَا سَلَمٌ وَآخِرُ‬ ‫تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِ ُم الَ ْنهَارُ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ(‪ )9‬دَ ْ‬ ‫حمْدُ لِّلهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪)10‬‬ ‫عوَا ُهمْ أَنِ ا ْل َ‬ ‫دَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل يرجون لقاءنا ‪ :‬أي ل ينتظرون ول يؤملون في لقاء ال تعالى يوم القيامة‪.‬‬ ‫ورضوا بالحياة الدنيا‪ :‬أي بدلً عن الخرة فلم يفكروا في الدار الخرة‪.‬‬ ‫واطمأنوا بها‪ :‬أي سكنوا إليها وركنوا فلم يروا غيرها حياة يُعمل لها‪.‬‬ ‫غافلون‪ :‬ل ينظرون إليها ول يفكرون فيها‪.‬‬ ‫مأواهم النار ‪ :‬أي النار هي المأوى الذي يأوون إليه وليس لهم سواها‪.‬‬

‫يهديهم ربهم بإيمانهم ‪ :1‬أي بأن يجعل لهم بإيمانهم نورا يهتدون به إلى الجنة‪.‬‬ ‫دعواهم فيها سبحانك اللهم ‪ :2‬أي يطلبون ما شاءوا بكلمة سبحانك اللهم‪.‬‬ ‫وآخر دعواهم أن الحمد ل ‪ :‬أي آخر دعائهم‪ :‬الحمد ل رب العالمين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد تقرير الوحي والُلوهية في اليات السابقة ذكر تعالى في هذه اليات الثلث‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال مجاهد‪{ :‬يهديهم ربهم} بالنور على الصراط إلى الجنة بأن يجعل لهم نورا يمشون به‪،‬‬ ‫وشاهده قوله تعالى‪{ :‬يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم‬ ‫اليوم جنات الخ}‪.‬‬ ‫‪ 2‬الدعوى هنا‪ :‬بمعنى الدعاء يقال‪ :‬دعوة بالهاء ودعوى بألف التأنيث وسبحان‪ :‬مصدر بمعنى‬ ‫التسبيح الذي هو التنزيه‪.‬‬

‫( ‪)2/450‬‬ ‫الكريمة بيان جزاء كل ممن كذب بلقاء ال فلم يرجُ ثوابا ولم يخشَ عقابا ورضيَ بالحياة الدنيا‬ ‫واطمأن بها‪ ،‬وممن آمن بال ولقائه ووعده ووعيده فآمن بذلك وعمل صالحا فقال تعالى {إن الذين‬ ‫ل يرجون ‪ 1‬لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها}‪ 2‬أي سكنت نفوسهم إليها وركنوا فعلً إليها‬ ‫{والذين هم عن آياتنا غافلون} أي آياته الكونية في الفاق والقرآنية وهي حُجج ال تعالى وأدلته‬ ‫الدالة على وجوده وتوحيده ووحيه وشرعه غافلون عنها ل ينظرون فيها ول يفكرون فيما تدل‬ ‫لنهماكهم في الدنيا حيث أقبلوا عليها وأعطوها قلوبهم ووجوههم وكل جوارحهم‪ .‬هؤلء يقول‬ ‫تعالى في جزائهم {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} أي من الظلم والشر والفساد‪ .‬ويقول‬ ‫تعالى في جزاء من آمن بلقائه ورجا ما عنده {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم} أي‬ ‫إلى طريق الجنة {بإيمانهم} أي بنور إيمانهم فيدخلونها {تجري من تحتهم ‪ 3‬النهار في جنات‬ ‫النعيم}‪ .‬ونعيم الجنة روحاني وجسماني فالجسماني يحصلون عليه بقولهم‪ :‬سبحانك اللهم‪ ،‬فإذا قال‬ ‫أحدهم هذه الجملة "سبحانك اللهم"‪ 4‬حضر لديه كل مُشتهى له‪ .‬والروحاني يحصلون عليه بسلم‬ ‫ال تعالى عليهم وملئكته {وتحيتهم فيها سلم} وإذا فرغوا من المآكل والمشارب قالوا‪ :‬الحمد ل‬ ‫رب العالمين‪ .‬وهذا معنى قوله {دعواهم فيها سبحانك اللهم} أي دعاؤهم أي صيغة طلبهم‬ ‫{وتحيتهم فيها سلم وآخر دعواهم} أي دعائهم {أن} أي أنه‪{ :‬الحمد ل رب العالمين} ‪5‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التحذير من نسيان ا الخرة والقبال على الدنيا والجري وراء زخارفها‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪{ 1‬ل يرجون لقاءنا} معناه أنهم ل يطلبونه ول يتوقعونه‪ ،‬ولزم ذلك أنهم ل يخافون عقابا أخرويا‬ ‫ول ثوابا‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬سكنت نفوسهم إليها وصرفوا كل همهم لها طلبا لتحصيل منافعها فلم يسعوا لتحصيل ما‬ ‫ينفع في الخرة لنهم سكنوا إلى الدنيا‪ ،‬والساكن ل يتحرّك ووصف بأنه لها يرضى لها يغضب‬ ‫ولها يفرح ولها يهتم ويحزن‪.‬‬ ‫‪{ 3‬من تحتهم} من تحت بساتنهم ومن تحت أسرّتهم كذلك وهو أحسن قي النزهة والفرجة‪.‬‬ ‫‪ 4‬إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة النعيم من طعام وشراب وهو كما قال ابن أبي الصلت‪:‬‬ ‫إذا أثنى عليك المرء يوما ‪ ...‬كفاه من تعرّضه الثناء‬ ‫‪ 5‬في الية دليل على إطلق لفظ التسبيح على الدعاء وشاهده‪ :‬دعوة ذي النون‪{ :‬ل إله إل أنت‬ ‫سبحانك إني كنت من الظالمين} وفيها دليل على مشروعية بل سنية بدء الطعام والشراب ببسم‬ ‫ال‪ .‬وإنهائه بحمد ال تعالى كما هي السنة في ذلك‪.‬‬

‫( ‪)2/451‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من الغفلة بعدم التفكر باليات الكونية والقرآنية إذ هذا التفكير هو سبيل الهداية‬ ‫والنجاة من الغواية‪.‬‬ ‫‪ -3‬اليمان والعمل الصالح مفتاح الجنة والطريق الهادي إليها‪.‬‬ ‫‪ -4‬نعيم الجنة روحاني وجسماني وهو حاصل ثلث كلمات هي‪:‬‬ ‫سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلم‪ .‬وآخر دعواهم أن الحمد ل رب العالمين‪.‬‬ ‫ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَاءنَا فِي‬ ‫ضيَ إِلَ ْيهِمْ َأجَُلهُمْ فَنَذَرُ الّذِي َ‬ ‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِتعْجَاَلهُم بِالْخَيْرِ َل ُق ِ‬ ‫وََلوْ ُي َع ّ‬ ‫شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ‬ ‫عدًا َأوْ قَآ ِئمًا فََلمّا كَ َ‬ ‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَا ِ‬ ‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ(‪ )11‬وَإِذَا مَ ّ‬ ‫ُ‬ ‫مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَا إِلَى ضُرّ مّسّهُ َكذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪ )12‬وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن‬ ‫ت َومَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ(‪ُ )13‬ثمّ‬ ‫قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُواْ وَجَاء ْتهُمْ ُرسُُلهُم بِالْبَيّنَا ِ‬ ‫جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ مِن َبعْدِهِم لِنَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ(‪)14‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الشر ‪ :‬كل ما فيه ضرر في العقل أو الجسم أو المال والولد‪ ،‬والخير عكسه‪ :‬ما فيه نفع يعود على‬ ‫الجسم أو المال أو الولد‪.‬‬ ‫لقضي إليهم أجلهم ‪ :‬لهلكوا وماتوا‪.‬‬ ‫فنذر ‪ :‬أي نترك‪.‬‬

‫في طغيانهم يعمهون‪ :‬أي في ظلمهم وكفرهم يترددون ل يخرجون منه كالعميان‪.‬‬ ‫الضر ‪ :‬المرض وكل ما يضر في جسمه‪ ،‬أو ماله أو ولده‪.‬‬

‫( ‪)2/452‬‬ ‫مر كأن لم يدعنا‪ :‬مضى في كفره وباطله كأن لم يكن ذاك الذي دعا بكشف ضره‪.‬‬ ‫كذلك زين ‪ : 1‬مثل ذلك النسيان بسرعة لما كان يدعو لكشفه‪ ،‬زين للمسرفين إسرافهم في الظلم‬ ‫والشر‪.‬‬ ‫القرون‪ :‬أي أهل القرون‪.‬‬ ‫بالبينات‪ :‬بالحجج واليات على صدقهم في دعوتهم‪.‬‬ ‫خلئف‪ :‬أي لهم‪ ،‬تخلفونهم بعد هلكهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه الفترة التي كانت تنزل فيها هذه السورة المكية كان المشركون في مكة في هيجان واضطراب‬ ‫كبيرين حتى إنهم كانوا يطالبون بنزول العذاب عليهم إذ ذكر تعالى ذلك عنهم في غير آية من‬ ‫كتابه منها {سأل سائل بعذاب واقع} ومنها {ويستعجلونك بالعذاب ولول أجل مسمى لجاءهم‬ ‫العذاب} وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى {ولو يعجّل ال للناس الشر}‪ 2‬أي عند سؤالهم إياه ‪ ،3‬أو‬ ‫فعلهم ما يقتضيه كاستعجاله الخير لهم {لقضي إليهم أجلهم} أي لهلكوا الهلك العام وانتهى أجلهم‬ ‫في هذه الحياة‪ ،‬وقوله تعالى {فنذر الذين ل يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} أي لم نعجل لهم‬ ‫العذاب فنذر الذين ل يرجون لقاءنا أي ل يؤمنون بلقائنا وما عندنا من نعيم وجحيم نتركهم في‬ ‫طغيانهم في الكفر والظلم والشر والفساد يعمهون حيارى يترددون ل يعرفون مُتجها ول مخرجا‬ ‫لما هم فيه من الضلل والعمى‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )11‬أما الية الثانية (‪ )12‬فقد تضمنت بيان حقيقة وهي أن‬ ‫النسان الذي يعيش في ظلمة الكفر ولم يستنر بنور اليمان إذا مسه الضر وهو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي وهو صادق‪ ،‬كما زيّن لهذا الدعاء عند البلء والعراض عند الرخاء زيّن‬ ‫للمسرفين في الشرك والمعاصي أعمالهم في دلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬فسّر الشرّ بالعقوبة إذ الشر كل ما يلحق الضرر بالنسان عاجلً أو آجلً‪ ،‬والعقوبة كلها شر إذ‬ ‫هي عذاب انتقام ينزل بصاحبه‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال مجاهد‪ :‬هذه الية نزلت في الرجل يدعر على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب‪ .‬اللهم أهلكه‬ ‫اللهم ل تبارك فيه اللهم العنه فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضى إليهم أجلهم‪ .‬ول‬ ‫أحسب أنّ الية نزلت في هذا وإنما هي شاهد لما قال فقط‪ ،‬وشاهد آخر رواه البزار وأبو داود‬

‫وهو قوله صلى ال عليه وسلم " ل تدعوا على أنفسكم ل تدعوا على أولدكم ل تدعوا على‬ ‫أموالكم ل توافقوا من ال ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم"‪.‬‬

‫( ‪)2/453‬‬ ‫المرض والفقر وكل ما يضر دعا ربه على الفور لجنبه أو قاعدا أو قائما يا رباه يا رباه فإذا‬ ‫استجاب ال له وكشف ما به من ضر مرّ كأن لم يكن مرض ول دعا واستجيب له واستمر في‬ ‫كفره وظلمه وغيّه‪ .‬وقوله تعالى {كذلك زُين للمسرفين ما كانوا يعملون} أي كما أن النسان الكافر‬ ‫سرعان ما ينسى ربه الذي دعاه ففرج ما به كذلك حال المسرفين في الظلم والشر فإنهم يرون ما‬ ‫هم عليه هو العدل والخير ولذا يستمرون في ظلمهم وشرهم وفسادهم‪ .‬هذا ما دل عليه قوله تعالى‬ ‫{كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثالثة {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} هذا خطاب لهل مكة‬ ‫يخبرهم تعالى مهددا إياهم بإمضاء سنته فيهم بأنه أهلك أهل القرون من قبلهم َلمّا ظلموا أي‬ ‫أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات ‪ 1‬أي باليات والحجج‪ ،‬وأبوْا أن يؤمنوا لِما ألفوا من الشرك‬ ‫والمعاصي فأهلكهم كعاد وثمود وأصحاب مدين وقوله تعالى {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي‬ ‫مثل ذلك الجزاء بالهلك العام نجزي القوم المجرمين في كل زمان ومكان إن لم يؤمنوا‬ ‫ويستقيموا‪ .‬وقوله تعالى {ثم جعلناكم خلئف في الرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} أي يقول‬ ‫لمشركي العرب من أهل مكة وغيرها‪ ،‬ثم جعلناكم خلئف ‪ 2‬في الرض بعد إهلك من قبلكم‬ ‫لننظر ‪ 3‬كيف تعملون فإن كان عملكم خيرا جزيناكم به وإن كان سوءا جزيناكم به وتلك سنتنا في‬ ‫عبادنا وما ال بغافل عما يعمل الظالمون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مظاهر رحمة ال بعباده إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عندما‬ ‫يطلبونه لهلكهم وقضى إليهم أجلهم فماتوا‪.‬‬ ‫‪ -2‬يعصي ال العصاةُ ويكفر به الكافرون وبتركهم في باطلهم وشرهم فل يعجل لهم العذاب لعلهم‬ ‫يرجعون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬بالمعجزات الواضحات كالتي آتى بها موسى وعيسى عليهما السلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الخلئف‪ :‬جمع خليفة وحرف ثم مُؤذن ببعد ما بين الزمانين‪ ،‬والرض‪ :‬هي أرض العرب إذ‬ ‫هم الذين خلفوا عادا وثمودا وقبلهما طسما وجديسا‪.‬‬

‫‪ 3‬هذا التعليل كقوله تعالى‪{ :‬هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عمل} إذ علّة‬ ‫الوجود هي أن يذكر ال ويشكر‪ ،‬فمن ذكره وشكره أكرمه وأسعده ومن كفره ونساه عذّبه وأشقاه‪.‬‬

‫( ‪)2/454‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن النسان الكافر يعرف ال عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه فإذا نجاه عاد إلى الكفر به‬ ‫كأن لم يكن يعرفه‪.‬‬ ‫‪ -4‬استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مُزين لهم ‪ 1‬حسب سنة ال تعالى‪.‬‬ ‫فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج‪.‬‬ ‫‪ -5‬وعيد ال لهل الجرام بالعذاب العاجل أو الجل إن لم يتوبوا‪.‬‬ ‫‪ -6‬كل الناس أفرادا وأمما مُمهَلُون مُراقَبُون في أعمالهم وسلوكهم ومَجزيون بأعمالهم خيرها‬ ‫وشرها ل محالة‪.‬‬ ‫ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَاءنَا ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا َأوْ بَدّلْهُ ُقلْ مَا َيكُونُ‬ ‫وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِي َ‬ ‫عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ‬ ‫لِي أَنْ أُبَدَّلهُ مِن تِ ْلقَاء َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬ ‫عمُرًا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َتعْقِلُونَ(‬ ‫عَظِيمٍ(‪ )15‬قُل ّلوْ شَاء اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْي ُك ْم َولَ َأدْرَاكُم ِبهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬ ‫‪َ )16‬فمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَاتِهِ إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ(‪ )17‬وَ َيعْبُدُونَ مِن‬ ‫ش َفعَاؤُنَا عِندَ الّلهِ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعْلَمُ فِي‬ ‫دُونِ الّلهِ مَا لَ َيضُرّ ُه ْم َولَ يَن َف ُعهُ ْم وَ َيقُولُونَ َهؤُلء ُ‬ ‫عمّا يُشْ ِركُونَ(‪)18‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَلَ فِي الَ ْرضِ سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَى َ‬ ‫ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده قوله تعالى ‪{ :‬كذلك زيّنا لكلّ أمة عملهم} من سورة النعام‪.‬‬

‫( ‪)2/455‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل يرجون لقاءنا ‪ :‬أي ل يؤمنون بالبعث والدار الخرة‪.‬‬ ‫من تلقاء نفسي ‪ :‬أي من جهة نفسي‪.‬‬ ‫ول أدراكم به ‪ :‬أي ل أعلمكم به‪.‬‬ ‫عمرا من قبله ‪ :‬أي أربعين سنة قبل أن يوحى إليّ‪.‬‬ ‫المجرمون‪ :‬المفسدون لنفسهم بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫ما ل يضرهم ‪ :‬أي إن لم يعبدوه‪.‬‬ ‫ومال ينفعهم‪ :‬أي إن عبدوه‪.‬‬

‫أتنبئون‪ :‬أي أتعلمون وتخبرون ال‪.‬‬ ‫سبحانه‪ :‬أي تنزيها له‪.‬‬ ‫عما يشركون‪ :‬أي به معه من الصنام‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير قضايا أصول الدين الثلث‪ :‬التوحيد والوحي والبعث فقوله تعالى {وإذا‬ ‫تتلى عليهم آياتنا} أي إذا قرئت عليهم آيات ال عز وجل {قال الذين ل يرجون لقاءنا} ‪ 1‬وهم‬ ‫المنكرون للبعث إذ به يتم اللقاء مع ال تعالى للحساب والجزاء‪{ .‬إئت بقرآن غير هذا} أي بأن‬ ‫يكون خاليا من عيب آلهتنا وانتقاصها‪ .‬أو أبَقه ولكن بدل كلماته بما ل يسوءنا فاجعل مكان آية‬ ‫فيها ما يسوءنا آية أخرى ل إساءة فيها لنا وقولهم هذا إما أن يكون من باب التحدي أو الستهزاء‬ ‫والسخرية ‪ 2‬ولكن ال تعالى علّم رسوله طريقة الرد عليهم بناء على ظاهر قولهم فقال له {قل ما‬ ‫يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} أي إنه ل يتأتّى لي بحال أن أبدله من جهة نفسي لني عبدال‬ ‫ورسوله ما اتبع إل ما يوحى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عن مجاهد‪ :‬أن المطالبين بهذا هم خمسة أنفار‪ :‬عبدال بن أميّة والوليد بن المغيرة‪ ،‬ومكرز بن‬ ‫حفص‪ ،‬وعمرو بن عبدال بن أبي قيس والعاصي بن عامر قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم إئت‬ ‫بقرآن ليس فيه ترك عبادة الصنام واللّت والعزّى ومناة وهبل وليس فيه عيبها‪.‬‬ ‫‪ 2‬وإمّا أن يكون من باب توهمهم أن الرسول صلى ال عليه وسلم يأتي به من تلقاء نفسه إلّ أنّ‬ ‫هذا الحتمال ضعيف‪.‬‬

‫( ‪)2/456‬‬ ‫إلى {إني ‪ 1‬أخاف إن عصيت ربي} بتبديل كلمه {عذاب يوم عظيم} أي عذاب يوم القيامة وقوله‬ ‫{قل لو شاء ال ما تلوته عليكم ول أدراكم به} أي قل لهم ردا على طلبهم‪ :‬لو شاء ال أن ل أتلوه‬ ‫عليكم ما تلوته عليكم‪ ،‬ول أدراكم هو به أي ول أعلَمكم فالمر أمره وأنا ل أعصيه ويدل لكم‬ ‫على صحة ما أقول‪ :‬إني لبثت فيكم عمرا‪ 2‬أي أربعين سنة قبل أن آتيكم به {أفل تعقلون}‪ :‬معنى‬ ‫ما أقول لكم من الكلم وما أذكر لكم من الحجج؟‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان الولى والثانية (‪ )16 -15‬أما الية الثالثة فقد تضمنت التنديد بالمجرمين‬ ‫الذين ي ْكذِبون على ال تعالى بنسبة الشريك إليه ويكذّبون بآياته ويجحدونها فقال تعالى {فمن أظلم‬ ‫ممن افترى على ال كذبا} ‪ 3‬أي ل أحد أظلم منه {أو كذب بآياته} بعدما جاءته أي ل أحد أظلم‬ ‫من الثنين‪ ،‬وقوله تعالى {إنه ل يفلح المجرمون} دل أولً على أن المذكورين مجرمون وأنهم ل‬ ‫يفلحون شأنهم شأن كل المجرمين‪ .‬وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا‪ .‬وقوله تعالى في الية‬

‫الرابعة {ويعبدون من دون ال ما ل يضرهم ول ينفعهم} أي من الصنام {ويقولون هؤلء شفعاؤنا‬ ‫عند ال}‪ 4‬وهم في ذلك كاذبون مفترون فلذا أمر ال أن يرد عليهم بقوله {قل أتنبئون ال بما ل‬ ‫يعلم في السموات ول في الرض} إذ لو كان هناك من يشفع عنده لعِل َمهُم وأخبر عنهم فلم الكذب‬ ‫على ال والفتراء عليه ثم نزه ال تعالى نفسه عن الشرك به والشركاء له فقال {سبحانه وتعالى‬ ‫عما يشركون}‪.‬‬ ‫هداية اللت‬ ‫من هداية اليات‬ ‫‪ -1‬من الدعوة إلى ال تعالى تلوة آياته القرآنية على الناس تذكيرا وتعليما‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جملة‪{ :‬إنّي أخاف} جملة تعليلية لجملة‪{ :‬إن أتبع إل ما يوحى إليّ}‪.‬‬ ‫‪ 2‬العمر‪ :‬الحياة مشتق من العمران‪ ،‬لنّ مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الرضي‪ ،‬ويطلق العمر‬ ‫على المدة الطويلة التي لو عاش النسان مقدارها لكان أخذ حظه من البقاء‪ .‬والمراد من قوله‬ ‫{عمرا} أي‪ :‬لبثت بينكم مدة عمر كامل‪ .‬إذ هي أربعون سنة‪.‬‬ ‫‪ 3‬في هذه الية زيادة ردّ على المطالبين بتبديل القرآن إذ تبديله ظلم والزيادة فيه كذب على ال‬ ‫تعالى ول أحد أظلم ممن يفترى على ال الكذب‪ ،‬فكيف يسوغ لي أن افتري على ال الكذب أو‬ ‫أبدل كلمه‪.‬‬ ‫‪ 4‬إن قولهم‪ :‬هؤلء {شفعاؤنا} لصنام ل تنفع ول تضر ول تسمع ول تبصر هو غاية الجهل‪،‬‬ ‫ومرادهم من شفاعتها أنها تشفع لهم عند ال في إصلح معاشهم في الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)2/457‬‬ ‫‪ -2‬بيان ما كان عليه المشركون من تعنت وجحود ومكابرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬كون النبي صلى ال عليه وسلم عاش أربعين سنة لم يعرف فيها علما ول معرفة ثم برز في‬ ‫شيء من العلوم والمعارف فتفوق وفاق كل أحد دليل على أنه نبي يوحى إليه قطعا‪.‬‬ ‫‪ - 4‬ل أحد أظلم من أحد رجلين رجل يكذب على ال تعالى وآخر يكذّب ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬إبطال دعوى المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند ال يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -6‬بيان سبب عبادة المشركين للهتهم وهو رجاؤهم شفاعتها لهم‪.‬‬ ‫ح َدةً فَاخْتََلفُو ْا وََلوْلَ كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِن رّ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ(‬ ‫َومَا كَانَ النّاسُ ِإلّ ُأمّ ًة وَا ِ‬ ‫‪ )19‬وَيَقُولُونَ َلوْلَ أُن ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ َف ُقلْ إِ ّنمَا ا ْلغَ ْيبُ لِّلهِ فَانْتَظِرُواْ إِنّي َم َعكُم مّنَ ا ْلمُن َتظِرِينَ(‬ ‫‪)20‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫أمة واحدة ‪ :‬أي على دين واحد هو السلم‪.‬‬ ‫فاختلفوا‪ :‬أي تفرقوا بأن بقى بعض على التوحيد وبعض على الشرك‪.‬‬ ‫كلمة سبقت‪ :‬بإبقائهم إلى آجالهم ومجازاتهم يوم القيامة‪.‬‬ ‫آية‪ :‬خارقة كناقة صالح عليه السلم‪.‬‬ ‫إنما الغيب ل‪ :‬أي إن علم الية متى تأتي من الغيب والغيب ل وحده فل أنا ول أنتم تعلمون إذا‬ ‫فانتظروا إنا معكم من المنتظرين‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫يخبر تعالى رسوله بحقيقة علمية تاريخية من شأن العلم بها المساعدة على الصبر والتحمل فيقول‬ ‫{وما كان الناس إل أمة واحدة} أي في زمن سابق أمة واحدة على دين التوحيد دين الفطرة ثم‬ ‫حدث أن أحدثت لهم شياطين الجن والنس البدع والهواء‬

‫( ‪)2/458‬‬ ‫والشرك فاختلفوا فمنهم من ثبت على اليمان والتوحيد ومنهم من كفر بالشرك والضلل‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى {ولول كلمة سبقت من ربك}‪ 1‬وهي أنه ل يعجل العذاب للمم والفراد بكفرهم وإنما‬ ‫يؤخرهم إلى آجالهم ليجزيهم في دار الجزاء بعذاب النار يوم القيامة لول كلمته والتي هي {لملن‬ ‫جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} لعجل لهم العذاب فحكم بينهم بأن أهلك الكافر وأنجى‬ ‫المؤمن‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )19‬أما الية الثانية (‪ )20‬فيخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا‬ ‫{لول أنزل عليه آية من ربه} ‪ 2‬أي هلّ أُنزل على محمد آية خارقة من ربه لنعلم ونستدل بها‬ ‫على أنه رسول ال وقد يريدون بالية عذابا فلذا أمر ال رسوله أن يرد عليهم بقوله {إنما الغيب‬ ‫ل} فهو وحده يعلم متى يأتيكم العذاب وعليه {فانتظروا إني معكم ‪ 3‬من المنتظرين} ولم تطل مدة‬ ‫النتظار ونزل بهم العذاب ببدر فهلك رؤساؤهم وأكابر المستهزئين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الصل هو التوحيد والشرك طارىء‪.‬‬ ‫‪ -2‬الشر والشرك هما اللذان يحدثان الخلف في المة والتفرق فيها أما التوحيد والخير فل‬ ‫يترتب عليهما خلف ول حرب ول فرقة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان علة بقاء أهل الظلم والشرك يظلمون ويفسدون إلى آجالهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬الغيب كله ل فل أحد يعلم الغيب إل ال ومن علّمه ال شيئا منه وهذا خاص بالرسل لقامة‬ ‫الحجة على أممهم‪.‬‬

‫حمَةً مّن َبعْ ِد ضَرّاء مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُم ّمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ َأسْ َرعُ َمكْرًا إِنّ رُسُلَنَا‬ ‫وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬ ‫َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية إشارة إلى القضاء والقدر أي‪ :‬لول ما سق في حكمه أنه ل يقضي بينهم فيما اختلفوا‬ ‫فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ 2‬يريدون معجزة كمعجزات صالح وموسى وعيسى عليهم السلم أو آية غير القرآن كأن يحيي‬ ‫لهم الموتى أو يجعل الجبل ذهبا أو يكون له بيت من زخرف‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الجملة تعريض بتهديدهم على جراءتهم على ال ومطالبتهم باليات‪ ،‬واليات القرآنية‬ ‫معرضون عنها وهي أعظم مما يطلبون‪.‬‬

‫( ‪)2/459‬‬ ‫(‪ُ )21‬هوَ الّذِي ُيسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ حَتّى إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَ ِرحُواْ ِبهَا‬ ‫عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ‬ ‫ن وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ‬ ‫صفٌ وَجَاءهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ‬ ‫جَاء ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬ ‫الدّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَ ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ(‪ )22‬فََلمّا أَنجَا ُهمْ إِذَا هُمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ‬ ‫ج ُعكُمْ فَنُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ‬ ‫سكُم مّتَاعَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ُثمّ إِلَينَا مَ ْر ِ‬ ‫حقّ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ عَلَى أَنفُ ِ‬ ‫الْ َ‬ ‫َت ْعمَلُونَ(‪)23‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫رحمة‪ :‬أي مطر بعد قحط أو صحة بعد مرض أو غنى بعد فاقة‪.‬‬ ‫ضراء‪ :‬حالة من الضر بالمرض والجدب والفقر‪.‬‬ ‫مكر في آياتنا ‪ :‬أي استهزاء بها وتكذيب‪.‬‬ ‫إن رسلنا‪ :‬أي الحفظة من الملئكة‪.‬‬ ‫يسيركم ‪ : 1‬أي يجعلكم تسيرون بما حولكم من مراكب وما يسر لكم من أسباب‪.‬‬ ‫بريح طيبة‪ :.‬أي مناسبة لسير السفن موافقة لغرضهم‪.‬‬ ‫ريح عاصف ‪ :‬أي شديدة تعصف بالشجر فتقتلعه والبناء فتهدمه‪.‬‬ ‫وأحيط بهم‪ :‬أي أحدق بهم الهلك من كل جهة‪.‬‬ ‫يبغون بغير الحق ‪ :2‬أي يظلمون مجانبين للحق والعتدال‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في دعوة أهل مكة إلى توحيد ال واليمان برسوله والدار الخرة فيقول‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ ابن عامر ينشركم بالنون والشين أي يبثكم ويفرقكم والفلك‪ :‬يطلق على الواحد والجمع‬

‫ويذكر ويؤنث‪.‬‬ ‫‪ 2‬البغي‪ :‬العتداء والظلم مأخوذ من بغا الجرح إذا فسد فهو من الفساد‪.‬‬

‫( ‪)2/460‬‬ ‫تعالى {وإذا أذقنا الناس} أي كفار مكة {رحمة من بعد ضراء مستهم} أي أذقناهم طعم الرحمة التي‬ ‫هي المطر بعد الجفاف والغنى بعد الفاقة والصحة بعد المرض وهي الضراء التي مستهم فترة من‬ ‫الزمن‪ .‬يفاجئونك ‪ 1‬بالمكر بآيات ال وهو استهزاؤهم بها والتكذيب بها وبمن أُنزلت عليه‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى {قل ال أسرع مكرا} أي قل يا رسولنا لهؤلء الماكرين من المشركين ال عز وجل أسرع‬ ‫مكرا منكم فسوف يريكم عاقبة مكره بكم وهي إذللكم وخزيكم في الدنيا وعذابكم في الخرة إن‬ ‫متم على كفركم وقوله {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} تقرير لما أعلمهم به من مكر ال تعالى بهم‬ ‫إذ كتابة الملئكة ما يمكرون دليل على تبييت ال تعالى لهم المكروه الذي يريد أن يجازيهم به‬ ‫على مكرهم‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى (‪ )21‬أما الية الثانية (‪ )22‬فهي تُري المشركين ضعفهم وعجزهم‬ ‫وحاجتهم إلى ال تعالى‪ ،‬ومن كان كذلك فكيف يستهزىء بربه ويسخر من آياته ويكذب رسوله إن‬ ‫أمرهم لعجب فيقول تعالى هو أي ال الذي تمكرون بآياته الذي يسيركم في البر بِما خلق لكم من‬ ‫الظهر البل والخيل والحمير‪ ،‬وفي البحر بما سخر لكم من الفلك تجري في البحر بأمره‪ .‬حتى إذا‬ ‫كنتم في البحر وجرين ‪ 2‬أي السفن بهم أي بالمشركين بريح طيبة مناسبة لسير السفن وفرحوا بها‬ ‫على عادة ركاب ‪ 3‬البحر يفرحون بالريح المناسبة لسلمتهم من المَيَدَان ‪ 4‬والقلق والضطراب‪.‬‬ ‫جاءتها أي السفن ريح عاصف أي شديدة الهبوب تضطرب لها السفن ويخاف ركابها الغرق‪،‬‬ ‫وجاءهم أي الكفار الراكبين عليها الموج من كل مكان من جهات البحر والموج هو ارتفاع ماء‬ ‫البحر وتموجه كزوابع الغُبور في البر‪ .‬وظنوا أي أيقنوا أو كادوا أنهم أحيط بهم أي هلكوا {دعوا‬ ‫ال مخلصين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬إنّ أبا سفيان قال‪ :‬قحطنا بدعائك فإن سقيتنا صدّقناك فسُقوا باستسقائه صلى ال عليه وسلم‬ ‫فلم يؤمنوا وهذا من مكرهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬وجرين بهم‪ :‬فيه خروج من الخطاب إلى الغيبة وهو ضرب من الساليب البلغية وهر في‬ ‫القرآن كثير‪ ،‬وكذا في أشعار العرب قال النابغة‪:‬‬ ‫ل دار مية بالعلياء فالسند ‪ ...‬أقوت وطال عليها سالف المد‬ ‫ويقال له‪ :‬التفات من كذا إلى كذا‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على جواز ركوب البحر مطلقا‪ ،‬وشاهده من السنة حديث‪" :‬إنّا نركب البحر‬

‫ونحمل معنا القليل من الماء فقال‪" :‬هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وحديث أم حرام يدلّ على جواز‬ ‫ركوبه في الغزو‪.‬‬ ‫‪ 4‬الميدان‪ :‬دوّار أو غشيان بصيب راكب البحر‪.‬‬

‫( ‪)2/461‬‬ ‫له الدين} أي الدعاء يا رب يا رب ‪ 1‬نجنا و َيعِدُونَه قائلين {لئن أنجيتنا من هذه} أي الهلكة {لنكونن‬ ‫من الشاكرين} لك أي المطيعين المعترفين بنعمتك علينا الموحدين لك بترك اللهة لعبادتك وحدك‬ ‫ل شريك لك‪ .‬فلما أنجاهم من تلك الشدة يفاجئونك ببغيهم في الرض بغير الحق شركا وكفرا‬ ‫وظلما وفسادا فعادوا لما كانوا وإنهم لكاذبون وقوله تعالى {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم‬ ‫متاع الحياة الدنيا} يخبرهم تعالى بقوله يا أيها الناس الباغون في الرض بغير الحق في أي زمان‬ ‫كنتم وفي أي مكان وجدتم إنما بغيكم ‪ 2‬أي عوائده عائدة على أنفسكم إذ هي التي تتأثم وتخبث في‬ ‫الدنيا وتفسد وتصبح أهلً لعذاب ال يوم القيامة وقوله {متاع الحياة الدنيا} أي ذلك متاع ‪ 3‬الحياة‬ ‫الدنيا شقاء كان أو سعادة {ثم إلينا مرجعكم} أي ل إلى غيرنا وذلك بعد الموت يوم القيامة {فننبئكم‬ ‫بما كنتم تعملون} من خير وشر ونجزيكم به الجزاء العادل في دار الجزاء‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‬ ‫‪ -1‬من مكر مكر ال به وال أسرع مكرا وأكبر أثرا وضررا‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ضعف النسان وفقره إلى ال وحاجته إليه عز وجل في حفظ حياته وبقائه إلى أجله‪.‬‬ ‫‪ -3‬إخلص العبد الدعاء في حال الشدة آية أن التوحيد أصل والشرك طارىء‪.‬‬ ‫‪ -4‬المشركون الولون أحسن حالً من جهلة هذه المة إذ يشركون في الرخاء ويخلصون في‬ ‫الشدة أما جهال المسلمين اليوم فشركهم دائم في الرخاء والشدة على السواء‪.‬‬ ‫‪َ -5‬ب ْغيُ النسان عائد على نفسه كمكره ونكثه وفى الحديث "ثلث على أصحابها رواجع‪ :‬البغي‬ ‫والمكر والنكث"‪.‬‬ ‫‪ -6‬تقرير مبدأ البعث والجزاء يوم القيامة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أنهم قالوا في دعائهم هذا يا حي يا قيوم‪.‬‬ ‫‪ 2‬مصداقه من الحديث الشريف‪" :‬ما من ذنب أحق أن يعجّل ال عقوبته في الدنيا مع ما يدخر ال‬ ‫لصاحبه في الخرة من البغي وقطيعة الرحم"‪.‬‬ ‫‪ 3‬المتاع‪ :‬ما يتمتع به انتفاعا غير دائم‪.‬‬

‫( ‪)2/462‬‬ ‫س وَالَ ْنعَامُ‬ ‫ت الَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّا ُ‬ ‫سمَاء فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَا ُ‬ ‫إِ ّنمَا مَ َثلُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬ ‫ت وَظَنّ أَهُْلهَا أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَا َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارًا‬ ‫خ َذتِ الَرْضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّنَ ْ‬ ‫حَ ّتىَ إِذَا أَ َ‬ ‫صلُ اليَاتِ ِلقَوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ(‪ )24‬وَالّلهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ‬ ‫لمْسِ كَذَِلكَ ُن َف ّ‬ ‫حصِيدًا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ‬ ‫جعَلْنَاهَا َ‬ ‫فَ َ‬ ‫ل ِم وَ َيهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ(‪)25‬‬ ‫السّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مثل الحياة الدنيا‪ :‬أي صفتها المنطبقة عليها المُ ّتفِقة معها‪.‬‬ ‫ماء‪ :‬أي مطر‪.‬‬ ‫فاختلط ‪ 1‬به‪ :‬أي بسببه نبات الرض أي اشتبك بعضه ببعض‪.‬‬ ‫مما يأكل الناس‪ :‬كالبر وسائر الحبوب والفواكه والخضر‪.‬‬ ‫والنعام ‪ :‬أي من الكل والعشب عادة وإل قد يعلف الحيوان الشعير‪.‬‬ ‫زخرفها ‪ :2‬أي نضرتها وبهجتها‪.‬‬ ‫وازينت ‪ : 3‬أي تجملت بالزهور‪.‬‬ ‫وظن أهلها أنهم قادرون عليها ‪ :‬أي متمكنون من تحصيل حاصلتها الزراعية‪.‬‬ ‫أتاها أمرنا‪ :‬أي قضاؤنا بإهلكها وتدميرها عقوبة لصحابها‪.‬‬ ‫حصيدا‪ :‬أي كأنها محصودة بالمنجل ليس فيها شيء قائم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬اختلط النبات بالمطر أي‪ :‬شرب منه فتندى وحسن واخضر والختلط هو‪ :‬تداخل الشيء‬ ‫في الشيء‪.‬‬ ‫‪ 2‬الزخرف‪ :‬اسم للذهب‪ ،‬ويطلق على كل ما يزيّن به مما فيه ذب وتلوين من الثياب والحلي‬ ‫وأنواع الزينة‪.‬‬ ‫‪{ 3‬وازينت} أصلها‪ :‬تزينت فقلبت ألتاء زايا وأدغمت في الزاء لقرب مخرجيهما وجلبت همزة‬ ‫الوصل لجل النطق بالساكن‪.‬‬

‫( ‪)2/463‬‬ ‫كأن لم تغن بالمس ‪ :1‬أي كان لم تكن موجودة غانية بالمس‪.‬‬ ‫نفصل اليات ‪ :‬أي نبينها‪.‬‬ ‫وال يدعو إلى دار السلم ‪ : 2‬دار السلم‪ .‬الجنة وال يدعو إليها عباده ليأخذوا بالهبة لدخولها‬

‫وهى اليمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم يعرض الهدايات اللهية على الناس لعلهم يهتدون ففي هذه الية يضرب‬ ‫تعالى ‪ 3‬مثل للحياة الدنيا التي يتكالب الغافلون عليها ويبيعون آخرتهم بها فيكذبون ويظلمون من‬ ‫أجلها إنما مثلها في نضارتها الغارة بها وجمالها الخادعة به كمثل ماء نزل من السماء فاختلط‬ ‫بالماء نبات الرض فسقى به ونما وازدهر وأورَق وأثمر وفرح به أهله وغلب على ظنهم أنهم‬ ‫منتفعون به فائزون به وإذا بقضاء ال فيه تأتيه فجأة في ساعة من ليل أو نهار فإذا هو حصيد‬ ‫ليس فيه ما هو قائم على ساق‪ ،‬هشيم تذروه الرياح كأن لم لم يغْن بالمس أي كأن لم يكن موجودا‬ ‫أمس قائما يعمُر مكانه أتاه أمر ال لن أهله ظلموا فعاقبهم بجائحة أفسدت عليهم زرعهم فأمسوا‬ ‫يائسين حزينين‪ .‬هذه الصورة المثالية للحياة الدنيا فهل يتنبه الغافلون أمثالي!! أو هل يستيقظ‬ ‫النائمون من حالهم كحالي؟؟‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )25‬وال يدعو إلى دار السلم}‪ 4‬أي بترك الشرك والمعاصي‬ ‫والقبال على الطاعات والصالحات ودار السلم الجنة إذ هي الخالية من الكدر والتنغيص فل‬ ‫مرض ول هرم‪ ،‬ول موت ول حزن‪ .‬ودعاة الضللة يدعون إلى الدنيا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كأن لم تكن عامرة يقال غني بالمكان إذا قام به وعمره والمغاني النازل التي يعمرها الناس قال‬ ‫لبيد‬ ‫وغنيت سبتا قبل مجرى داحس ‪ ...‬لو كان للنفس اللجوج خلود‬ ‫‪ 2‬وقبل المعنى وال يدعو إلى دار السلم إذ السلم والسلمة بمعنى كالرضاعة والرضاع‪ ،‬قال‬ ‫الشاعر‪:‬‬ ‫تحيي بالسلمة أم بكر ‪ ...‬وهل لك بعد قومك في سلم‬ ‫‪ 3‬المثل الصفة وعليه فصفة الحياة الدنيا المنطبقة عليها أنها في سرعة انقضائها وزوال نعيمها‬ ‫بعد البهجة والنضرة الحسنة كنبات أخضر وازدهر ثم يبس فصار هشيما تذروه الرياح‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي أن الني صلى ال عليه وسلم خرج يوما على أصحابه فقال‪" :‬رأيت في المنام كأن جبريل‬ ‫ل فقال له اسمع سمعت أذناك‬ ‫عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬اضرب له مث ً‬ ‫واعقل عقل عقلك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة‬ ‫ثم بعث رسولً يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فال الملك والدار‬ ‫السلم والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في السلم ومن دخل في السلم‬ ‫دخل الجنة ثم تل‪{ :‬وال يدعو إلى دار السلم} إلى قوله {مستقيم}‪.‬‬

‫( ‪)2/464‬‬

‫والتي صورتها ومآلها‪ .‬أنها دار الكدر والتنغيص والهم والحزن فأي الدعوتين تجاب؟ {ويهدي من‬ ‫يشاء إلى صراط مستقيم} فلتطلب هدايته بصدق فإنه ل يهدي إل هو والصراط المستقيم هو‬ ‫السلم طريق الجنة وسُلّم الوصول إليها رزقنا ال تعالى السير فيه والثبات عليه‪.‬‬ ‫هداية اليتين‪.‬‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان الصورة الحقيقية للحياة الدنيا في نضرتها وسرعة زوالها‪.‬‬ ‫‪ -2‬التحذير من الغترار بالدنيا والركون إليها‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من الذنوب فإنها سبب الشقاء وسلب النعم‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة التفكر وأهله‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضل ال على عباده ورحمته بهم إذ يدعوهم إلى داره لكرامهم والنعام عليهم‪.‬‬ ‫ق وُجُو َه ُهمْ قَتَ ٌر َولَ ذِلّةٌ ُأوْلَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ هُمْ فِيهَا‬ ‫لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َدةٌ‪َ 1‬ولَ يَ ْرهَ ُ‬ ‫خَاِلدُونَ(‪ )26‬وَالّذِينَ كَسَبُواْ السّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ ِبمِثِْلهَا وَتَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ مّا َلهُم مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ‬ ‫طعًا مّنَ اللّ ْيلِ مُظِْلمًا ُأوْلَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‪ )27‬وَ َيوْمَ‬ ‫ت وُجُو ُههُمْ ِق َ‬ ‫كَأَ ّنمَا أُغْشِ َي ْ‬ ‫جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُواْ َمكَا َنكُمْ أَن ُت ْم وَشُ َركَآ ُؤكُمْ فَزَيّلْنَا بَيْ َنهُ ْم َوقَالَ شُ َركَآؤُهُم مّا كُنتُمْ‬ ‫حشُرُهُمْ َ‬ ‫نَ ْ‬ ‫شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَ ِت ُكمْ َلغَافِلِينَ(‪)29‬‬ ‫إِيّانَا َتعْبُدُونَ(‪َ )28‬ف َكفَى بِاللّهِ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬القول بأن الزيادة هما النظر إلى وجه ال الكريم هو قول أنس بن مالك وأبي بكر الصديق‬ ‫وعليّ بن أبي طالب وحذيفة وابن عباس وعامة الصحابة رورى مسلم أن النبي صلى ال عليه‬ ‫وسلم قال‪ " :‬إذا دخل أهل الجنة الجنة قال ال تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون‪ :‬ألم‬ ‫تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم‬ ‫من النظر إلى ربهم عز وجل"‪.‬‬

‫( ‪)2/465‬‬ ‫ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ(‪)30‬‬ ‫ق َو َ‬ ‫هُنَاِلكَ تَبْلُواْ ُكلّ َنفْسٍ مّا أَسَْل َفتْ وَرُدّواْ ِإلَى اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَ ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫الحسنى وزيادة‪ :‬الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه ال الكريم‪.‬‬ ‫ول يرهق وجوههم‪ :‬أي ل يغشى وجوههم‪.‬‬ ‫قتر‪ :‬غَبرة من الكآبة والحزن‪.‬‬ ‫السيآت‪ :‬جمع سيئة ما يُسيء إلى النفس من ذنوب الشرك والمعاصي‪.‬‬

‫مكانكم ‪ :‬أي الزموا مكانكم ل تفارقوه‪.‬‬ ‫فزيلنا بينهم ‪ :‬فرقنا بينهم‪.‬‬ ‫هنالك ‪ :‬أي َثمّ‪.‬‬ ‫تبلو كل نفس ‪ :‬أي تَختبر‪.‬‬ ‫ما أسلفت‪ :‬أي ما قدمت‪.‬‬ ‫وضل عنهم ما كانوا يفترون‪ :‬أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.:‬‬ ‫بعد أن ذكر تعالى في الية السابقة أنه يدعو إلى دار السلم ذكر جزاء من أجاب الدعوة ومن لم‬ ‫يجبها فقال للذين أحسنوا فآمنوا وعبدوا ال بما شرع ووحدوه تعالى في عبادته وربوبيته وأسمائه‬ ‫وصفاته فهؤلء جزاؤهم الحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجهه الكريم في دار السلم‪،‬‬ ‫وأنهم إذا بعثوا ل يرهق ‪ 1‬وجوههم قتر ول ذلة كما يكون ذلك لمن لم يجب دعوة ال تعالى‪،‬‬ ‫وقرر جزاءهم ووضحه بقوله‪{ :‬أولئك أصحاب الجنة هم ‪ 2‬فيها خالدون} وذكر جزاء من أعرض‬ ‫عن الدعوة ورفضها فأصر على الكفر والشرك والعصيان‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرهق‪ :‬الغشيان‪ ،‬يقال رهقه يرهقه رهقا‪ :‬إذا غشيه من باب خرج‪.‬‬ ‫‪ 2‬اسم الشارة عائد إلى الذين أحسنوا‪.‬‬

‫( ‪)2/466‬‬ ‫فقال {والذين كسبوا السيآت جزاء سيئة بمثلها} فالذين كسبوا سيآت الشرك ‪ 1‬والمعاصي فأساء‬ ‫ذلك إلى نفوسهم فدساها وخبثها جزاؤهم جهنم وترهقهم ذلة في عرصات القيامة وليس لهم من ال‬ ‫من عاصم يعصمهم من عذاب ال‪ .‬كأنما وجوههم لسوادها قد أغشيت قطعا من ‪ 2‬الليل مظلما‬ ‫وقوله تعالى {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} تقرير لمصيرهم والعياذ بال وهو ملزمة‬ ‫النار وعدم الخروج منها بخلودهم فيها‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه اليتان الولى (‪ )26‬والثانية (‪ )27‬أما اليات الثالثة والرابعة والخامسة فإنها‬ ‫تضمنت عرضا سريعا لحشر الناس يوم القيامة‪ ،‬والمراد بذلك تقرير عقيدة اليمان باليوم الخر‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬ويوم نحشرهم جميعا} ‪ 3‬أي في عرصات القيامة {ثم نقول للذين أشركوا} أي بِنا‬ ‫آلهة عبدوها دوننا {مكانكم} أي قفوا ل تبرحوا مكانكم {أنتم وشركاؤكم}‪ ،‬ثم يزايل ال تعالى أي‬ ‫يفرق بينهم وهو معنى قوله تعالى {فزيلنا بينهم} ول شك أنهم يقولون ربنا هؤلء شركاؤنا الذين‬ ‫ندعو من دونك فلذا ذكر تعالى ردهم عليهم في قوله {وقال شركاؤهم ‪ 4‬ما كنتم إيانا تعبدون} أي‬ ‫لننا ما كنا نسمعكم ول نبصركم ول أمرناكم بعبادتنا وهذا قول كل من عُبد من دون ال من سائر‬

‫الجناس {فكفى بال شهيدا بيننا وبينكم إن كنا} أي وال {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} غير‬ ‫شاعرين بحال من الحوال بعبادتكم‪ .‬قال تعالى {هنالك} أي في ذلك الموقف الرهيب {تبلو كل‬ ‫نفس ما أسلفت} أي تَختبر ما قدمت في دنياها وتعرفه هل هو ضارٌ بها أو نافع لها {وردوا إلى‬ ‫ال مولهم ‪ 5‬الحق ‪ 6‬وضل عنهم ما كانوا يفترون} هكذا يجدون أنفسهم أمام مولهم ومالك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ذكرنا في التفسير‪ :‬كسبوا الشرك والمعاصي لن الشرك هو الموجب للخلود في النار ل‬ ‫المعاصي‪ ،‬بدليل الحكم عيهم بالخلود في النار في آخر السياق‪.‬‬ ‫‪ 2‬جمع قطعة‪ ،‬وهي الجزء من الشيء فهي فعلة بمعنى مفعولة إذ هي مقطوعة من شيء كامل‪.‬‬ ‫والمظلم‪ :‬الظلم ل كواكب فيه ول قمر‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬سعداء وأشقياء أهل الحسن وأهل الذلة‪ ،‬إذ الحشر يكون لسائر الخلئق ل يتخلف أحد من‬ ‫الخلق‪.‬‬ ‫‪ 4‬الشركاء‪ :‬يكونون من الصنام والوثان والملئكة والنس والجنّ والتبرؤ حاصل إذ ليس هناك‬ ‫من يقوى على العتراف بجريمة الشرك‪ ،‬إمّا الملئكة والنبياء والصالحون فإنهم لم يكونوا‬ ‫راضين بعبادة المشركين لهم فتبرّؤهم صحيح‪ ،‬وأمّا الصنام والوثان فإنها لم تأمر بعبادتها وإنما‬ ‫الذي أمر بعبادتها الشياطين فتبرؤها صحيح‪.‬‬ ‫‪ 5‬مولهم‪ :‬الخالق‪ ،‬الرازق‪ ،‬المدبر لمررهم وشؤون حياتهم والمستوجب لعبادتهم هو ال جل‬ ‫جلله‪ ،‬فهو مولهم الحق‪ ،‬ل الذي اختلقوه كذبا وعبدوه من دون ال فذاك مولىً باطل وإله‬ ‫مكذوب‪.‬‬ ‫‪ 6‬الحق‪ :‬هو الموافق للواقع والصدق‪ ،‬فالمولوية الحقة ل تعالى ل لمخلوقاته‪ ،‬وكلها مخلوقة له‬ ‫مربوبة‪.‬‬

‫( ‪)2/467‬‬ ‫أمرهم ومعبودهم الحق والذي طالما كفروا به وتنكروا له وجحدوا آياته ورسله وضل ‪ 1‬أي غاب‬ ‫عنهم ما كانوا يفترونه من الكاذيب والترهات والباطيل من تلك الصنام التي سموها آلهة‬ ‫وعبدوها وندموا يوم ل ينفع الندم وجزاهم بما لم يكونوا يحتسبون‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان فضل الحسنة وما تعقبه من نيل الحسنى‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان سوء السيئة وما تورثه من حسرة وندامة وما توجبه من خسران‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير معتقد البعث والجزاء بعرض صادق وأضح له‪.‬‬

‫‪ -4‬تبرؤ ما عُبد من دون ال من عابديه وسواء كان المعبود ملكا أو إنسانا أو جانا أو شجرا أو‬ ‫حجرا الكل يتبرأ من عابديه ويستشهد ال تعالى عليه‪.‬‬ ‫‪ -5‬في عرصات القيامة تعلم كل نفس ما أحضرت‪ ،‬وما قدمت وأخرت وتبلو ما أسلفت فتعرف‬ ‫وأنى لها أن تنتفع بما تعرف؟‪.‬‬ ‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ‬ ‫سمْعَ والَ ْبصَا َر َومَن يُخْرِجُ ا ْل َ‬ ‫سمَاء وَالَ ْرضِ َأمّن َيمِْلكُ ال ّ‬ ‫ُقلْ مَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ ال ّ‬ ‫حقّ‬ ‫لمْرَ فَسَ َيقُولُونَ اللّهُ َف ُقلْ َأفَلَ تَ ّتقُونَ(‪ )31‬فَذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمُ الْ َ‬ ‫حيّ َومَن يُدَبّرُ ا َ‬ ‫وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬ ‫سقُواْ أَ ّن ُه ْم لَ‬ ‫ح ّقتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ فَ َ‬ ‫للُ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ(‪َ )32‬كذَِلكَ َ‬ ‫حقّ ِإلّ الضّ َ‬ ‫َفمَاذَا َبعْدَ الْ َ‬ ‫ُي ْؤمِنُونَ(‪)33‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من السماء ‪ :‬أي بالغيث والمطر‪.‬‬ ‫والرض ‪ :‬أي بالنبات والحبوب والثمار‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ضلّ ‪ :‬بمعنى ضاع وغاب ولم يجدوه ولم ينتفعوا به‪ ،‬فما كانوا يختلقونه من اللهة الباطلة وما‬ ‫كانوا يقدّمونه لها من أنواع العبادات قد ضاع وغاب عنهم فلم يروه‪.‬‬

‫( ‪)2/468‬‬ ‫أمّن يملك السمع والبصار‪ :‬أي يملك أسماعكم وأبصاركم إن شاء أبقاها لكم وإن شاء سلبها منكم‪.‬‬ ‫ومن يخرج الحي من الميت ‪ :‬أي الجسم الحي من جسم ميت والعكس كذلك‪.‬‬ ‫ومن يدبر المر‪ :‬أي أمر الخلئق كلها بالحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع‪.‬‬ ‫أفل تتقون‪ :‬أي ال فل تشركوا به شيئا ول تعصوه في أمره ونهيه‪.‬‬ ‫فأنى تصرفون‪ :‬أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته والحق هو أنه ل اله إل ال‪.‬‬ ‫حقت ‪ :‬أي وجبت‪.‬‬ ‫أنهم ل يؤمنون ‪ :‬وذلك لبلوغهم حدا ل يتمكنون معه من التوبة البتة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد فيقول تعالى لرسوله {قل} يا رسولنا لولئك المشركين‬ ‫مستفهما إياهم {من يرزقكم من السماء والرض} بإنزال المطر وبانبات الحبوب والثمار والفواكه‬ ‫والخضر التي ترزقونها‪ ،‬وقل لهم {أم من يملك السمع والبصار} أي أسماعكم وأبصاركم بحيث‬ ‫إن شاء أباقاها لكم وأمتعكم بها‪ ،‬وإن شاء أخذها منكم وسلبكم إياها فأنتم عمي ل تبصرون وصم‬ ‫ل تسمعون {ومن يخرج الحي من الميت} كالفرخ من البيضة {ويخرج الميت من الحي} كالبيضة‬ ‫من الدجاجة‪ ،‬والنخلة من النواة‪ ،‬والنواة من ‪ 1‬النخلة‪{ .‬ومن يدبر المر} في السماء والرض‬

‫كتعاقب الليل والنهار ونزول المطار‪ ،‬وكالحياة والموت والغنى والفقر والحرب والسلم والصحة‬ ‫والمرض إلى غير ذلك مما هو من مظاهر التدبير اللهي في الكون‪{ .‬فسيقولون ال} ‪ ،‬إذ ل‬ ‫جواب لهم إل هذا إذا فما دام ال هو الذي يفعل هذا ويقدر عليه دون غيره كيف ل يُتّقى عز وجل‬ ‫بتوحيده وعدم الشراك به‪ ،‬فلم ل تتقونه؟ ‪2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وكالنطفة من النسان‪ ،‬والنسان من النطفة‪ ،‬ومثلها نطفة الحيوان مخرجها من حيوان حي‪،‬‬ ‫ومن الحيوان الحي تخرج نطفة ميتة‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬فقل لهم يا رسولنا‪ :‬أفل تتقون‪ :‬أي‪ :‬أفل تخافون عقابه ونقمه في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫( ‪)2/469‬‬ ‫وقوله تعالى {فذلكم ال ربكم الحق} ‪ 1‬أي فذلكم الذي يرزقكم من السماء والرض ويخرج الحي‬ ‫من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر المر هو ربكم ‪ 2‬الحق الذي ل رب لكم سواه إذا {فماذا‬ ‫بعد الحق إل الضلل‪ 3 ،‬فأنى تصرفون} أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته إلى الضلل؟‬ ‫إنه أمر يدعو إلى الستغراب والتعجب!‬ ‫وقوله تعالى {كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم ل يؤمنون} أي مثل ذلك الصرف الذي‬ ‫يصرفه المشركون عن الحق بعد معرفته إلى الضلل أي كما حق ذلك حقت كلمة ربك وهي أن‬ ‫ال ل يهدي القوم الفاسقين فهم ل يهتدون‪ ،‬وذلك أن العبد إذا توغل في الشر والفساد بالدمان‬ ‫والستمرار عليه يبلغ حدا ل يتأتّى له الرجوع منه والخروج بحال فهلك على فسقه لتحق عليه‬ ‫كلمة العذاب وهي {لملن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشركوا العرب كانوا يشركون في اللوهية ويوحدون في الربوبية‪.‬‬ ‫‪ -2‬وليس بنافع أن يوحد العبد في الربوبية ويشرك في اللوهية‪.‬‬ ‫‪ -3‬ليس بعد الحق ‪ 4‬إل الضلل فل واسطة بينهما فمن لم يكن على حق فهو على ضلل‪.‬‬ ‫‪ -4‬التوغل في الشر والفساد يصبح طبعا لصاحبه فل يخرج منه حتى يهلك به‪.‬‬ ‫خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ(‪ُ )34‬قلْ َهلْ‬ ‫ُقلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُم مّن يَ ْبدَأُ الْ َ‬ ‫حقّ َأ َفمَن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ َأحَقّ أَن‬ ‫حقّ ُقلِ اللّهُ َي ْهدِي لِلْ َ‬ ‫مِن شُ َركَآ ِئكُم مّن َي ْهدِي إِلَى الْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الصحيح من دعاء الرسول صلى ال عليه وسلم إذا قام من جوف الليل يقول "اللهم أنت‬ ‫الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق‪ "..‬في حديث طويل هذا من وسطه‪ ،‬والشاهد في قوله‪" :‬أنت‬

‫الحق"‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬إلهكم ومعبودكم الحق ل ما تعبدون من أصنام وأوثان فإذا عرفتم إلهكم الحق فإنّ ما بعده‬ ‫من آلهة هو الضلل‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي عن مالك في قوله تعالى‪{ :‬فماذا بعد الحق إل الضلل} قال‪ :‬اللعب بالشطرنج والنرد‪ :‬هو‬ ‫ل الضلل‪ .‬وفي‬ ‫الضلل‪ ،‬وسئل عن الغناء فقال‪ :‬هل هو حق؟ قالوا‪ :‬ل‪ .‬قال فما بعد الحق إ ّ‬ ‫صحيح مسلم‪" :‬من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه"‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي عن عمر رضي ال عنه أنه رخّص فيما كان فيه دربة على الحرب من أنواع اللعب‪ ،‬إذ‬ ‫الغرض صحيح‪ ،‬وهو تعلم فنون الحرب‪ ،‬وحذق أساليبها‪.‬‬

‫( ‪)2/470‬‬ ‫ن لَ‬ ‫ح ُكمُونَ(‪َ )35‬ومَا يَتّبِعُ َأكْثَ ُرهُمْ ِإلّ ظَنّا إَنّ الظّ ّ‬ ‫يُتّبَعَ َأمّن لّ َيهِ ّديَ ِإلّ أَن ُي ْهدَى َفمَا َلكُمْ كَ ْيفَ تَ ْ‬ ‫ُيغْنِي مِنَ ا ْلحَقّ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ(‪)36‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من شركائكم ‪ : 1‬جمع شريك وهو من أشركوه في عبادة ال تعالى‪.‬‬ ‫من يبدأ الخلق‪ :‬أي ينشيء النسان والحيوان أول ما ينشئه فذلك بدء خلقه‪.‬‬ ‫فأنى تؤفكون‪ :‬أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته‪.‬‬ ‫أمّن ل َيهِدّي ‪ :‬أي ل يهتدي‪.‬‬ ‫كيف تحكمون‪ :‬أي هذا الحكم الفاسد وهو إتباع من ل يصح اتباعه لنه ل يهدي‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في حجاج المشركين لبيان الحق لهم ودعوتهم إلى اتباعه فيقول تعالى لرسوله‬ ‫صلى ال عليه وسلم قل لهؤلء المشركين {قل هل من شركائكم ‪ 2‬من يبدأ الخلق ثم يعيده؟} أي‬ ‫هل يوجد من بين آلهتكم التي تعبدونها من يبدأ خلق إنسان من العدم ثم يميته‪ ،‬ثم يعيده؟ وجوابهم‬ ‫معروف وهو ل يوجد إذا فكيف تؤفكون أي تصرفون عن الحق بعد معرفته والقرار به؟ وقل‬ ‫لهم أيضا {قل هل ‪ 3‬من شركائكم من يهدي إلى الحق} أي يوجد من آلهتكم من يهدي إلى الحق؟‬ ‫والجواب ل يوجد لنها ل تتكلم ول تعلم إذا فقل لهم ال يهدي إلى الحق أي بواسطة نبيه ووحيه‬ ‫وآياته‪.‬‬ ‫وقل لهم {أفمن يهدي إلى ‪ 4‬الحق أحق أن يتبع أمّن ل يهدي إل أن يهدى}‪ 5‬والجواب معروف‬ ‫الذي يهدي إلى الحق أحق بأن يتبع ممن ل يهتدي إل أن يُهدى‪ ،‬إذا لم ل تتقون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬آلهتكم ومجوداتكم من الصنام والوثان‪.‬‬

‫‪ 2‬يقول لهم‪( :‬هل) على جهة التوبيخ والتقرير‪ ،‬فان أجابوك فذاك وإل فقل ال يبدأ الخلق‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا الستفهام كالول للتوبيخ والتقرير فان أجابوا فذاك المطلوب لهان لم يجيبوا فأجب أنت‬ ‫بقولك‪ :‬ال يبدأ الخلق‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا الستفهام؟ كسابقيه للتوبيخ والتقرير ثم إقامة الحجة‪.‬‬ ‫‪ 5‬في‪{ :‬أمّن ل يهدي} قراءات منها‪( :‬ل يهدي)‪ ،‬بالتخفيف‪( .‬ل يهدّي) بتشديد الدال‪ ،‬وفتح الهاء‬ ‫وهي قراءة ورش‪ ،‬و(ل يَهدي) بكسر الهاء‪ ،‬وتشديد الدال وهي قراءة حفص‪.‬‬

‫( ‪)2/471‬‬ ‫ال فتوحدوه وتؤمنوا برسوله وكتابه فتهتدوا‪ ،‬وتتركوا آلهتكم التي ل تهدي إلى الحق؟ {فما لكم}‬ ‫أي أيّ شيء ثبت لديكم في ترك عبادة ال لعبادة غيره من هذه الوثان‪{ ،‬كيف تحكمون} أي حكم‬ ‫هذا تحكمون به وهو اتباع من ل يهدي وترك عبادة من يهدي إلى الحق‪ .‬وقوله تعالى {وما يتبع‬ ‫أكثرهم إل ظنا}‪ 1‬أي أن أكثر هؤلء المشركين ل يتبعون في عبادة أصنامهم إل الظن فل يقين‬ ‫عندهم في أنها حقا آلهة تستحق العبادة‪{ ،‬إن الظن ل يغني من الحق شيئا} أي إن الظن ل يكفي‬ ‫عن العلم ول يغني عنه أي شيء من الغناء‪ ،‬والمطلوب في العقيدة العلم ل الظن ‪ .2‬وقوله تعالى‬ ‫{إن ال عليم بما يفعلون} هذه الجملة تحمل الوعيد الشديد لهم على إصرارهم على الباطل‬ ‫وعنادهم على الحق فسيجزيهم بذلك الجزاء المناسب لظلمهم وعنادهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير التوحيد بإبطال اللهة المزعومة حيث اعترف عابدوها بأنها ل تبدأ خلقا ول تعيده بعد‬ ‫موته‪ ،‬ول تهدي إلى الحق‪ ،‬وال يبدأ الخلق ثم يعيده ويهدي إلى الحق‪.‬‬ ‫‪ -2‬إبطال الحكام الفاسدة وعدم إقرارها ووجوب تصحيحها‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل يقبل الظن في العقائد بل ل بد من العلم اليقيني فيها‪.‬‬ ‫‪ -4‬كراهية القول بالظن والعمل به وفي الحديث (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)‪.‬‬ ‫ب لَ رَ ْيبَ‬ ‫َومَا كَانَ هَذَا ا ْلقُرْآنُ أَن ُيفْتَرَى مِن دُونِ اللّ ِه وََلكِن َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَ ْفصِيلَ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫فِيهِ مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )37‬أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الية دليل على أن عابدي غير ال تعالى ليسوا سواء في العتقاد الباعث لهم على عبادتها‬ ‫بل أكثرهم ل يتبعون في عبادتها إل مجرّد الظن‪ ،‬والبعض الخر القليل ل اعتقاد لهم إل اتباع‬ ‫غيرهم وتقليد سواهم من رؤسائهم‪ ،‬وأهل الكلمة فيهم‪ ،‬فكل الفريقين هالك‪.‬‬ ‫‪ 2‬الظن يطلق على مراتب الدراك‪ ،‬فيطلق على العتقاد الجازم الذي ل شك فيه كقوله تعالى‪:‬‬

‫{إني ظننت أني ملق حسابيه} ويطلق على العتقاد المشكوك فيه كقول قوم نوح لنوح‪{ :‬وإنا‬ ‫لنظنّك من الكاذبين} ويطلق على العتقاد المخطىء كآية‪{ :‬إن بعض الظن إثم} وحديث‪" :‬فإن‬ ‫الظن أكذب الحديث"‪.‬‬

‫( ‪)2/472‬‬ ‫طعْتُم مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪َ )38‬بلْ كَذّبُواْ ِبمَا َلمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِ ِه وََلمّا‬ ‫مّثْلِ ِه وَادْعُواْ مَنِ اسْتَ َ‬ ‫يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ َكذَِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ(‪)39‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أن يفترى من دون ال ‪ :‬أي افتراء أي لم يكن هذا القرآن افتراء‪.‬‬ ‫وتفصيل الكتاب‪ :‬أي بيان ما فرض ال تعالى على هذه المة وما أحل لها وما حرم‪.‬‬ ‫أم يقولون افتراه‪ :.‬أي اختلقه من نفسه وَتَقوّلَه من عنده‪.‬‬ ‫بما لم يحيطوا بعلمه ‪ :‬أي بما توعدهم ال تعالى به من العذاب‪.‬‬ ‫ولما يأتهم تأويله ‪ :‬أي ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه ذلك الوعيد من العذاب‪.‬‬ ‫كذلك كذب الذين من قبلهم‪ :‬أي كتكذيب هؤلء بوعد ال لهم كذب الذين من قبلهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه اليات في تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة الرسول صلى ال عليه وسلم قال تعالى‪{ :‬وما كان‬ ‫هذا ‪ 1‬القرآن} أي لم يكن من شأن هذا القرآن العظيم {أن يفترى من دون ال} أي يُختلق من غير‬ ‫ال تعالى من سائر خلقه‪{ ،‬ولكن تصديق الذي بين يديه}‪ 2‬أي ولكنه كلم ال ووحيه أوحاه إلى‬ ‫رسوله وأنزله تصديق الذي بين يديه أي من الكتب التي سبقت نزوله وهي التوراة والنجيل‬ ‫{وتفصيل الكتاب} الذي كتبه ال تعالى على أمة السلم من الفرائض والشرائع والحكام‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى {ل ريب فيه} أي ل شك في أنه وحي ال وكلمه نزل من رب العالمين‪ ،‬وهو ال مربي‬ ‫الخلئق أجساما وعقولً وأخلقا وأرواحا ومن مقتضى ربوييته إنزال كتاب فيه تبيان كل شيء‬ ‫يحتاج إليه العبد في تربيته وكماله البدني والروحي والعقلي والخلقي‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬علم ال تعالى أنّ غيره تعالى ل يتأتى له التيان بمثل هذا القرآن كما قال تعالى‪ { :‬قل لئن‬ ‫اجتمعت النس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض‬ ‫ظهيرا}‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬أنزله مصدقا لما بين يديه أي‪ :‬لما تقدمه من الكتب اللهية‪ .‬هذا كقوله تعالى‪{ :‬نزل عليك‬ ‫الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه}‪ .‬ونصب (تصديق) على أنه اسم كان‪ ،‬والتقدير‪ :‬ولكن كان‬ ‫تصديق الذي‪.‬‬

‫( ‪)2/473‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )38‬أم يقولون افتراه} ‪ 1‬أي بل يقول هؤلء المشركون المجاحدون‬ ‫وهو قول في غاية السّخّف والقباحة يقولون القرآن افتراه محمد ولم يكن بوحي أُنزل عليه‪ ،‬قل يا‬ ‫رسولنا متحديا إياهم أن يأتوا بسورة مثله ‪ .2‬فإنهم ل يستطيعون وبذلك تبطل دعواهم‪ ،‬وقل لهم‬ ‫ادعوا لمعونتكم على التيان بسورة مثل سور القرآن من استطعتم الحصول على معونتهم إن كنتم‬ ‫صادقين في دعواكم أن القرآن لم يكن وحيا من ال‪ ،‬وإنما هو اختلق اختلقه محمد رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقوله تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ‪ 3‬ولما يأتهم تأويله} أي إن‬ ‫القضية ليست قضية أنهم ما استطاعوا أن يدركوا أن القرآن كلم ال‪ ،‬وإنما القضية هي أنهم‬ ‫كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه من وعيد ال تعالى لهم بالعذاب‪ ،‬ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه الوعيد إذ‬ ‫لو رأوا العذاب ما كذبوا‪ ،‬ولذا قال تعالى‪{ :‬كذلك كذب الذين من قبلهم} أي {حتى ذاقوا بأسنا} كما‬ ‫في آية النعام‪ .‬وهو قال تعالى‪{ :‬فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} فقد أهلك تعالى الظلمة من قوم‬ ‫نوح بالغرق ومن قوم هود بريح صرصر ومن قوم صالح بالصيحة ومن قوم شعيب بالرجفة‬ ‫ومن أمم أخرى بما شاء من أنواع العذاب فهؤلء إن لم يتوبوا واستمروا في تكذيبهم فسوف يحل‬ ‫بهم ما حل بغيرهم { وما ال بغافل عما يعمل الظالمون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬من أدلة أن القرآن كلم ال تصديقه للكتب السالفة وعدم التناقض معها إذ هما من مصدر‬ ‫واحد وهو ال رب العالمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬من أدلة القرآن على أنه وحي ال تحدي ال العرب بالتيان بسورة واحدة في فصاحته‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أم يقولون} أم هنا‪ :‬هي المنقطعة التي تفسّر ببل‪ ،‬والهمزة‪ :‬أي بل أيقول افتراه‪ ،‬والستفهام هنا‬ ‫للتقريع والتوبيخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا دليل على أن القرآن الكريم معجز‪ ،‬وهو كذلك معجز بألفاظه ومعانيه معا‪.‬‬ ‫‪{ 3‬بل كذّبوا بما لم يحيطوا يعلمه ولما يأتهم تأويله}‪ .‬هذا الكلم اللهي يحتمل معنيين صحيحين‪.‬‬ ‫الول‪ :‬هو ما في التفسير ‪ ،‬والثاني‪ :‬المراد بما لم يحيطوا بعلمه‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬فهم لم يتدبروه ‪،‬‬ ‫ولم يفهموا ما يدعو إليه وكذبوا به عن جهل مع العناد والمكابرة فما في قوله‪ { :‬بما لم يحيطوا‬ ‫بعلمه} اسم موصول المراد به‪ :‬القرآن الكريم أمّا على المعنى الول فإن المراد به العذاب الذي‬ ‫كذّبوا به‪ ،‬ولم يحل بهم بعد‪.‬‬

‫( ‪)2/474‬‬ ‫وبلغته وإعجازه وعجزهم عن ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬استمرار المشركين في العناد والمجاحدة علته أنهم لم يذوقوا ما توعدهم ال به من العذاب إذ‬ ‫لو ذاقوا لمنوا ولكن ل ينفعهم حينئذ اليمان‪.‬‬ ‫عمَلِي‬ ‫َومِنهُم مّن ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومِ ْنهُم مّن لّ ُي ْؤمِنُ بِهِ وَرَ ّبكَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمفْسِدِينَ(‪ )40‬وَإِن كَذّبُوكَ َفقُل لّي َ‬ ‫ع َملُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ(‪َ )41‬ومِ ْنهُم مّن يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْيكَ َأفَأَنتَ‬ ‫عمَُلكُمْ أَن ُتمْ بَرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬ ‫وََلكُمْ َ‬ ‫سمِعُ الصّ ّم وََلوْ كَانُو ْا لَ َي ْعقِلُونَ(‪َ )42‬ومِنهُم مّن يَنظُرُ ِإلَ ْيكَ َأفَأَنتَ َت ْهدِي ا ْل ُع ْميَ وََلوْ كَانُواْ لَ‬ ‫تُ ْ‬ ‫سهُمْ يَظِْلمُونَ(‪)44‬‬ ‫يُ ْبصِرُونَ(‪ )43‬إِنّ اللّ َه لَ َيظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا وََلكِنّ النّاسَ أَنفُ َ‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫ومنهم من يؤمن به‪ :‬أي من أهل مكة المكذبين بالقرآن من يؤمن به مستقبلً‪.‬‬ ‫وربك أعلم بالمفسدين‪ :‬وهم دعاة الضللة الذين يفسدون العقول والقلوب والجملة تهديد لهم‪.‬‬ ‫وإن كذبوك‪ :‬أي استمروا على تكذيبك‪.‬‬ ‫ومنهم من يستمعون إليك‪ :‬أي إذا قرأت القرآن‪.‬‬ ‫ومنهم من ينظر إليك ‪ :‬أي يبصر ويشاهد آيات النبوة وأعلم صدقك‪ ،‬ول يهتدي إلى معرفة أنك‬ ‫رسول ال لن ال تعالى حرمه ذلك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير نبوة النبي صلى ال عليه وسلم قال تعالى في خطاب رسوله ليُسلّيه‬ ‫ويصبّره على عدم إيمان قومه مع ظهور الدلة وقوة البراهين {ومنهم من يؤمن به} أي بالقرآن‬ ‫وبالنبي‬

‫( ‪)2/475‬‬ ‫أيضا إذ اليمان بواحد يستلزم اليمان بالثاني‪{ ،‬ومنهم من ل يؤمن به} ‪ ،1‬وهذا إخبار غيب فتم‬ ‫كما أخبر تعالى فقد آمن من المشركين عدد كبير ولم يؤمن عدد آخر‪ .‬وقوله {وربك أعلم‬ ‫بالمفسدين} أي الذين ل يؤمنون وفي الجملة تهديد لولئك الذين يصرفون الناس ويصدونهم عن‬ ‫اليمان والتوحيد‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإن كذبوك} أي استمروا في تكذيبهم لك فل تحفل بهم وقل {لي‬ ‫عملي ‪ 2‬ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل‪ ،‬وأنا بريء مما تعملون} فإذا كان هناك عقاب دنيوي‬ ‫فإنك تسلم منه ويهلكون هم به‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية (‪{ )42‬ومنهم من يستمعون إليك} ‪ 3‬إلى قراءتك القرآن وإلى قولك إذا قلت‬

‫داعيا أو آمرا أو ناهيا‪ ،‬ومع هذا فل يفهم ول ينتفع بما يسمع‪ ،‬ول لوم عليك في ذلك لنك ل‬ ‫تسمع الصم‪ ،‬وهؤلء صم ل يسمعون‪ ،‬ومنهم من ينظر إليك بأعين مفتحة ويرى علمات النبوة‬ ‫وآيات الرسالة ظاهرةً في حالك ومقالك ومع هذا ل يهتدي ول لوم عليك فإنك ل تهدي العمى ولو‬ ‫كانوا ل يبصرون ‪ .4‬وقوله تعالى {إن ال ل يظلم الناس شيئا‪ ،‬ولكن الناس أنفسهم يظلمون} بيان‬ ‫لسنة ال تعالى في أولئك الذين يسمعون ول ينتفعون بسماعهم‪ ،‬ويبصرون ول ينتفعون بما‬ ‫يبصرون‪ ،‬وهي أن من توغل في البغض والكراهية لشيء يصبح غير قادر على النتفاع بما‬ ‫يسمع منه ول بما يبصر فيه‪ .‬ولذا قيل حبك الشيء يُعمي ويُصم‪ ،‬والبغض كذلك كما أن‬ ‫السترسال في الشر والفساد مدة من الزمن يحرم صاحبه التوبة إلى الخير والصلح‪ ،‬ومن هنا‬ ‫قال تعالى {إن ال ل يظلم ‪ 5‬الناس شيئا‪ ،‬ولكن الناس أنفسهم يظلمون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير معنى آية { فإنها ل تعمى البصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كأبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وغيرهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي لي ثواب عملي على التبليغ والطاعة ل تعالى ولكم جزاء عملكم الذي هو الشرك والكفر‬ ‫والتكذيب‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي ‪ :‬في ظواهرهم أمّا قلوبهم فل تعي شيئا مما تقول من الحق وتتلوه من القرآن‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي ‪ :‬ولو انظمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة‪.‬‬ ‫‪ 5‬في هذا إشارة إلى أنّ عدم هدايتهم يكن خارجا عن إرادتهم ولكن كان باستحبابهم العمى على‬ ‫الهدى وإيثارهم للدنيا على الخرة‪.‬‬

‫( ‪)2/476‬‬ ‫‪ -3‬تعليم رسول ال طريق الحِجاج والرد على الخصوم المشركين‪.‬‬ ‫‪ -4‬انتفاء الظلم عن ال تعالى‪ ،‬وإثباته للنسان لنفسه‪.‬‬ ‫وَ َيوْمَ يَحْشُ ُرهُمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَاعَةً مّنَ ال ّنهَارِ يَ َتعَا َرفُونَ بَيْ َن ُهمْ قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِِلقَاء اللّهِ‬ ‫شهِيدٌ عَلَى‬ ‫ج ُع ُهمْ ثُمّ اللّهُ َ‬ ‫َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ(‪ )45‬وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َن ِعدُهُمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا مَرْ ِ‬ ‫ط وَهُ ْم لَ ُيظَْلمُونَ(‪)47‬‬ ‫سِ‬ ‫مَا َي ْفعَلُونَ(‪ )46‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ فَِإذَا جَاء رَسُوُلهُمْ ُقضِيَ بَيْ َنهُم بِا ْلقِ ْ‬ ‫وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪)48‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫يحشرهم‪ :‬أي نبعثهم من قبورهم ونجمعهم لساحة فصل القضاء‪.‬‬ ‫كأن لم يلبثوا‪ :‬أي في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتا في قبورهم‪.‬‬ ‫أو نتوفينك ‪ :‬أي نميتك قبل ذلك‪.‬‬ ‫فإذا جاء رسولهم‪ :‬أي في عرصات القيامة‪.‬‬ ‫بالقسط‪ :‬أي بالعدل‪.‬‬ ‫متى هذا الوعد‪ :‬أي بالعذاب يوم القيامة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {ويوم يحشرهم} أي اذكر لهم يوم‬ ‫نحشرهم من قبورهم بعد بعثهم أحياء {كأن لم يلبثوا} ‪ 1‬في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتا في‬ ‫قبورهم‪{ .‬إل ساعة من النهار يتعارفون بينهم}‪ 2‬أي ليرى بعضهم بعضا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصلها‪ :‬كأنهم ثم خففت‪ :‬أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجملة في موضع نصب على الحال‪ .‬وتعارفهم هذا في عرصات القيامة إنما هو تعارف توبيخ‬ ‫وافتضاح فيقول بعضهم لبعض‪ :‬أنت أضللتني وحملتني على الكفر‪ ،‬ثم تنقطع المعرفة عند‬ ‫معاينتهم العذاب يوم القيامة‪.‬‬

‫( ‪)2/477‬‬ ‫ساعة ثم يحول بينهم هول الموقف‪ ،‬وقوله تعالى {قد خسر الذين كذبوا بلقاء ال ‪ 1‬وما كانوا‬ ‫مهتدين} يخبر تعالى أن الذين كذبوا بالبعث الخر والحساب والجزاء الخروي فلم يرجوا لقاء ال‬ ‫فيعملوا بمحابه وترك مساخطه قد خسروا في ذلك اليوم أنفسهم وأهليهم في جهنم‪ ،‬وقوله {وما‬ ‫كانوا مهتدين} أي في حياتهم حيث انتهوا إلى خسران وعذاب أليم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} ‪ 2‬أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من‬ ‫العذاب في الدنيا فذاك‪ ،‬أو نتوفينك قبل ذلك فعلى كل حال مرجعهم إلينا جميعا بعد موتهم‪،‬‬ ‫فنحاسبهم ونجازيهم بحسب سلوكهم في الدنيا الخير بالخير والشر بمثله‪ ،‬وقوله تعالى {ثم ال شهيد‬ ‫على ما يفعلون} ‪ 3‬تقرير وتأكيد لمجازاتهم يوم القيامة لن علم ال تعالى بأعمالهم وشهادته عليها‬ ‫كافٍ في وجوب تعذيبهم‪ .‬وقوله تعالى {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط‬ ‫وهم ل يظلمون} أي ولكل أمة من المم رسول أرسل إليها وبلغها فأطاع من أطاع وعصى من‬ ‫عصى فإذا جاء رسولها في عرصات القيامة قضي بينهم أي حوسبوا أو جوزوا بالقسط أي بالعدل‬ ‫وهم ل يظلمون بنقص حسنات المحسنين ول بزيادة سيئآت المسيئين‪ .‬وقوله تعالى {ويقولون} أي‬ ‫المشركون للرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪{ ،‬متى هذا الوعد}‪ 4‬أي بالعذاب يوم القيامة‪.‬‬

‫{إن كنتم صادقين} يقولون هذا استعجالً للعذاب لنهم ل يؤمنون به‪ .‬والجواب في الية التالية‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير مبدأ المعاد والدار الخرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬العلن عن خسران منكري البعث يوم القيامة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬يوم العرض عليه بين الخلئق‪.‬‬ ‫‪ 2‬وإما أصلها إن الشرطة وما الزائدة لتقوية الكلم و {بعض الذي نعدهم} هو عذاب الدنيا كما هو‬ ‫إظهار الدين ونصرته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬بعد وفاتك‪ ،‬فال عز وجل خليفتك فيهم وسوف يجزيهم بحسب كسبهم خيرا وشرا‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬متى العذاب‪ ،‬أو متى القيامة التي يعدنا بها محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/478‬‬ ‫‪ -3‬تسلية الرسول صلى ال عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يؤدي رسالته بإعلمه بأنه‬ ‫سيعذب أعداءه‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان كيفية الحساب يوم القيامة بأن يأتي الرسول وأمته ثم يجزي الحساب بينهم فينجي ال‬ ‫المؤمنين ويعذب الكافرين‪.‬‬ ‫جلٌ إِذَا جَاء أَجَُلهُمْ فَلَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً‬ ‫قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا َولَ َن ْفعًا ِإلّ مَا شَاء اللّهُ ِل ُكلّ ُأمّةٍ َأ َ‬ ‫جلُ مِنْهُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ(‪ )50‬أَ ُثمّ‬ ‫وَلَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ(‪ُ )49‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا َأوْ َنهَارًا مّاذَا يَسْ َتعْ ِ‬ ‫ن َوقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْ َت ْعجِلُونَ(‪ُ )51‬ثمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ا ْلخُلْدِ َهلْ‬ ‫إِذَا مَا َوقَعَ آمَنْتُم ِبهِ آل َ‬ ‫ق َومَا أَن ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ(‬ ‫تُجْ َزوْنَ ِإلّ ِبمَا كُنتُمْ َتكْسِبُونَ(‪ )52‬وَيَسْتَنبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ُقلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ َلحَ ّ‬ ‫‪)53‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫لنفسي ضرا‪ :.‬أي ل أقدر على دفع الضر إذا لم ُيعِنّي ال تعالى‪.‬‬ ‫ول نفعا‪ :‬أي ل أقدر على أن أجلب لنفسي نفعا إذا لم يُرده ال تعالى لي‪.‬‬ ‫لكل أمة أجل‪ :‬أي وقت معين لهلكها‪.‬‬ ‫فل يستأخرون ساعة ‪ :‬أي عن ذلك الجل‪.‬‬ ‫ول يستقدمون‪ :‬أي عليه ساعة‪.‬‬ ‫قل أرأيتم ‪ :‬أي قل لهم أخبروني‪.‬‬ ‫أثم إذا ما وقع‪ :‬أي حل العذاب‪.‬‬

‫عذاب الخلد ‪ :‬أي الذي يخلدون فيه فل يخرجون منه‪.‬‬ ‫ويستنبئونك ‪ :‬أي ويستخبرونك‪.‬‬ ‫قل إي‪ :‬أي نعم‪.‬‬ ‫وما أنتم بمعجزين‪ :‬أي بفائتين العذاب ول ناجين منه‪.‬‬

‫( ‪)2/479‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين فقد طالبوا في اليات السابقة بالعذاب فقالوا {متى‬ ‫هذا الوعد} أي بالعذب {إن كنتم صادقين} فأمر ال تعالى رسوله في هذه اليات أن يقول لهم إني‬ ‫{ل أملك لنفسي ضرا} أي ل أملك دفع الضر عني‪ ،‬ول جلب النفع لي إذا لم يشأ ال تعالى ذلك‪،‬‬ ‫فكيف أعلم الغيب وأعرف متى يأتيكم العذاب كما ل أقدر على تعجيله إن كان ال يريد تأجيله‪،‬‬ ‫واعلموا أنه لكل أمة من المم أجل أي وقت محدد لهلكها وموتها فيه‪ ،‬فل يتأخرون عنه ساعة‬ ‫ول يتقدمون عليه بأخرى فلذا ل معنى لمطالبتكم بالعذاب‪ .‬وشيء آخر أرأيتم أي أخبروني إن‬ ‫أتاكم العذاب الذي تستعجلونه بياتا‪ 1‬أي ليلً أو نهارا أتطيقونه وتقدرون على تحمله إذا فماذا‬ ‫تستعجلون منه أيها المجرمون ‪ 2‬إنكم تستعجلون أمرا عظيما‪ .‬وقوله تعالى {أثم إذا ما وقع آمنتم‬ ‫به؟} ‪ 3‬أي اتستمرون على التكذيب والعناد‪ ،‬ثم إذا وقع آمنتم به‪ ،‬وهل ينفعكم إيمانكم يومئذ؟ فقد‬ ‫يقال لكم توبيخا وتقريعا آلن مؤمنون به‪ ،‬وقد كنتم به تستعجلون‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {ثم ‪ 4‬قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إل بما كنتم تكسبون}؟ يخبر‬ ‫تعالى أنه إذا دخل المجرمون النار وهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ذوقوا‪ -‬تهكما‬ ‫بهم‪ -‬عذاب الخلد أي العذاب الخالد الذي ل يفني ول يبيد إنكم ما تجزون أي ما تثابون إل بما‬ ‫كنتم تكسبونه من الشرك والمعاصي‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ويستنبؤنك أحق هو؟} أي ويستخبرك‬ ‫المشركون المعاندون قائلين لك أحق ما تعدنا به من العذاب يوم القيامة؟ أجبهم بقولك {قل إي‬ ‫وربي ‪ 5‬إنه لحق‪ ،‬وما أنتم بمعجزين} ال ول فائتينه بل ل بد وأن يلجئكم إلى العذاب إلجاءً‪،‬‬ ‫ويذيقكموه عذابا أليما دائما وأنتم صاغرون‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البيات‪ :‬اسم مصدر ليل كالسلم للتسليم‪.‬‬ ‫‪ 2‬المجرمون‪ :‬أصحاب الجرم الذي هو الشرك والقائلون متى هذا الوعد من كفار مكة‪.‬‬ ‫‪{ 3‬أثم} الهمزة للستفهام وقدمت على ثم العاطفة‪ ،‬لنّ لها حق الصدارة والتقدير‪ :‬ثم إذا وقع‪،‬‬ ‫والمستفهم عنه هو حصول اليمان في وقت وقوع العذاب‪ ،‬وهو غير نافع لصاحبه فكيف‬ ‫ترضونه أنتم لنفسكم‪.‬‬

‫‪{ 4‬ثم}‪ :‬حرف عطف‪ ،‬وهي هنا للتراخي الرتبي فهذا يقال للمشركين عند دخولهم النار وهو من‬ ‫باب التهكم بهم والتقريع لهم‪ ،‬وإعلمهم بمال يستطيعون دفعه بحال‪{ :‬هل تجزون إل ما كنتم‬ ‫تعملون} والقائلون هم خزنة جهنم‪.‬‬ ‫‪{ 5‬إي}‪ :‬كلمة تحقيق وإيجاب‪ ،‬وتأكيد هي بمعنى (نعم ) {وربى} قسم جوابه‪{ :‬إنه لحق} أي‪ :‬هو‬ ‫كائن ل شك فيه ول محالة من وقوعه‪.‬‬

‫( ‪)2/480‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل يملك أحد من الخلق لنفسه فضلً عن غيره ضرا يدفعه ول نفعا يجلبه إل بإذن ال تعالى‬ ‫ومشيئته‪ ،‬وخاب الذين يُعولون على الولياء في جلب النفع لهم ودفع الشر عنهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬الجال محدودة ل تتقدم ول تتأخر فلذا ل معنى للجبن من العبد‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل ينفع اليمان ول التوبة عند معاينة العذاب أو مَلَك الموت‪.‬‬ ‫‪ -4‬جواز الحلف بال إذا أريد تأكيد الخبر‪.‬‬ ‫‪ -5‬إي حرف إجابة وتقترن دائما بالقسم نحو إي وال‪ ،‬إي وربي‪.‬‬ ‫ضيَ بَيْ َنهُم‬ ‫ب َو ُق ِ‬ ‫لفْتَ َدتْ ِب ِه وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ َلمّا رََأوُاْ ا ْلعَذَا َ‬ ‫وََلوْ أَنّ ِل ُكلّ َنفْسٍ ظََل َمتْ مَا فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫عدَ اللّهِ حَقّ وََلكِنّ‬ ‫ن وَ ْ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ َألَ إِ ّ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫ط وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ (‪ )54‬أَل إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬ ‫بِا ْلقِسْ ِ‬ ‫ظةٌ مّن‬ ‫جعُونَ (‪ )56‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَاء ْتكُم ّموْعِ َ‬ ‫َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ(‪ُ )55‬هوَ يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬ ‫حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ‬ ‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ُ )57‬قلْ ِب َفضْلِ الّل ِه وَبِرَ ْ‬ ‫شفَاء ّلمَا فِي الصّدُو ِر وَهُدًى وَ َر ْ‬ ‫رّ ّبكُ ْم وَ ِ‬ ‫ج َمعُونَ(‪)58‬‬ ‫ُهوَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫لفتدت به ‪ :‬لقدمته فداء لها‪.‬‬ ‫وأسروا الندامة ‪ :‬أخفوها في أنفسهم على ترك اليمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫وقضي بينهم بالقسط ‪ :‬أي حكم ال بينهم بالعدل‪.‬‬ ‫وعد ال حق‪ :‬أي ما يعدهم ال به هو كائن حقا‪.‬‬

‫( ‪)2/481‬‬ ‫موعظة من ربكم ‪ :‬أي وصية من ربكم بالحق والخير‪ ،‬وباجتناب الشرك والشر‪.‬‬ ‫وهدى ‪ :‬أي بيان لطريق الحق والخير من طريق الباطل والشر‪.‬‬

‫فضل ال ورحمته‪ :‬ما هداهم إليه من اليمان والعمل الصالح‪ ،‬واجتناب الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫فبذلك فليفرحوا‪ :‬أي فباليمان والعمل الصالح بعد العلم والتقوى فليسروا وليستبشروا‪.‬‬ ‫هو خير مما يجمعون ‪ :‬أي من المال والحطام الفاني‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان أن ما وعد ال تعالى به المشركين من العذاب هو آت ل محالة إن لم‬ ‫يؤمنوا وإنه عذاب ل يطاق فقال تعالى {ولو أن لكل نفس ظلمت} أي نفسها بالشرك والمعاصي‪،‬‬ ‫لو أن لها ما في الرض من مال صامت وناطق وقبل منها لقدمته فداء ‪ 1‬لها من العذاب‪ ،‬وذلك‬ ‫لشدة العذاب‪ .‬وقال تعالى عن الكافرين وهم في عرصات القيامة وقد رأوا النار {وأسروا الندامة‬ ‫لما رأوا العذاب} ‪ 2‬أي أخفوها في صدورهم ولم ينطقوا بها وهى ندمهم الشديد على عدم إيمانهم‬ ‫وإتباعهم للرسول صلى ال عليه وسلم وقوله تعالى {وقضي بينهم بالقسط وهم ل يظلمون} أي‬ ‫وقضى ال تعالى أي حكم بين الموحدين والمشركين والظالمين والمظلومين ‪ 3‬بالقسط الذي هو‬ ‫العدل اللهي والحال أنهم ل يظلمون بأن يؤاخذوا بما لم يكتسبوا‪ .‬وقوله تعالى {أل إن ‪ 4‬ل ما في‬ ‫السموات والرض} أي انتبهوا واسمعوا أيها المشركون إن ل ما في السموات والرض من سائر‬ ‫المخلوقات ملكا حقيقيا ل يملك معه أحد شيئا من ذلك فهو يتصرف في ملكه كما يشاء يعذب‬ ‫ويرحم يشقي ويسعد ل اعتراض عليه أل أن وعد ال حق أي تنبهوا مرة أخرى واسمعوا إن وعد‬ ‫ال أي ما وعدكم به من العذاب حق ثابت ل يتخلف‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ولكن أكثرهم ل يعلمون}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ولكن ل يقبل منها كما قال تعالى‪{ :‬إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يقبل من أحدهم ملء‬ ‫الرض ذهبا ولو افتدى به}‪.‬‬ ‫‪ 2‬إسرارهم الندامة كان عند معاينة العذاب‪ ،‬وقبل الدخول فيه‪ ،‬والندامة‪ :‬الحسرة على وقوع‬ ‫مكروه أو فوات محبوب‪.‬‬ ‫‪ 3‬وبين الرؤساء والمرؤوسين‪ ،‬أي‪ :‬بين المتبوعين والتابعين لهم‪.‬‬ ‫‪{ 4‬أل}‪ :‬كلمة استفتاح وتنبيه يؤتى بها في أوّل الكلم‪ ،‬معناها‪ :‬انتبهوا لما أقول لكم‪.‬‬

‫( ‪)2/482‬‬ ‫إذ لو علموا أن العذاب كائن ل محالة وعلموا مقدار هذا العذاب ما كفروا به وقوله تعالى {هو‬ ‫يحي ويميت وإليه ترجعون} يخبر تعالى عن نفسه أنه يحيي ويميت ومن كان قادرا على الحياء‬ ‫والماتة فهو قادر على كل شيء‪ ،‬ومن ذلك إحياء الكافرين بعد موتهم وحشرهم إليه ومجازاتهم‬ ‫على ما كسبوا من شر وفساد وقوله {وإليه ترجعون} تقرير مبدأ المعاد الخر‪ .‬بغد هذه التقريرات‬ ‫لقضايا العقيدة الثلث‪ :‬التوحيد‪ ،‬والنبوة‪ ،‬والبعث والجزاء نادى ال تعالى العرب والعجم سواء‬

‫قائلً {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة ‪ 1‬من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة‬ ‫للمؤمنين} وكل من الموعظة التي هي المر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب والشفاء والهدى‬ ‫والرحمة قد حواها القرآن الكريم كأنه قال يا أيها الناس وفيكم الجاهل والفاسق والمريض بالشرك‬ ‫والكفر والضال عن الحق‪ ،‬والمعذب في جسمه ونفسه قد جاءكم القرآن يحمل كل ذلك لكم فآمنوا‬ ‫به واتبعوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلً وخلقا وروحا وتسعدوا‬ ‫في الحياتين معا‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {قل بفضل ال وبرحمته فبذلك ‪ 2‬فليفرحوا هو خير مما يجمعون} أي بلّغهم يا رسولنا‬ ‫آمرا إياهم بأن يفرحوا ‪ 3‬بالسلم وشرائعه والقرآن وعلومه فإن ذلك خير مما يجمعون من حطام‬ ‫الدنيا الفاني‪ ،‬وما يعقب من آثار سيئة ل تحتمل ول تطاق‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم عذاب يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن يفتدى منه بما في الرض جميعا‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير ربوبية ال تعالى لسائر المخلوقات في العالمين العلوي والسفلي‪.‬‬ ‫‪ -3‬الشادة بفضل القرآن وعظمته لما يحمله من المواعظ والهدى والرحمة والشفاء‪.‬‬ ‫‪ -4‬يستحب الفرح بالدين ويكره الفرح بالدنيا‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالموعظة وما بعدما من الصفات القرآن الكريم إذ هو الجامع لكل ما ذكر‪ ،‬وإنما عطفت‬ ‫المذكورات لتأكيد المدح‪ .‬كقول الشاعر‪:‬‬ ‫إلى الملك القرم وابن الهمام ‪ ...‬وليث الكتيبة في المزدحم‬ ‫‪ 2‬قال أبو سعيد الخدري وابن عباس‪ :‬فضل ال‪ :‬القرآن‪ ،‬ورحمته السلم‪ ،‬وصحّت الشارة بذلك‬ ‫إلى الثنين لنّ العرب تشير بذلك إلى المفرد والمثنى والجمع‪.‬‬ ‫‪ 3‬روي أن من هداه ال للسلم وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة (الفقر) كتب ال الفقر بين عينيه إلى‬ ‫يوم يلقاه ثم تل‪{ :‬قل بفضل ال} الية‪.‬‬

‫( ‪)2/483‬‬ ‫للً ُقلْ آللّهُ أَذِنَ َل ُكمْ أَمْ عَلَى الّلهِ‬ ‫جعَلْتُم مّنْهُ حَرَامًا وَحَ َ‬ ‫ُقلْ أَرَأَيْتُم مّا أَن َزلَ الّلهُ َلكُم مّن رّ ْزقٍ فَ َ‬ ‫َتفْتَرُونَ(‪َ )59‬ومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى الّلهِ ا ْلكَ ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى النّاسِ‬ ‫ع َملٍ ِإلّ‬ ‫ن وَلَ َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬ ‫ن َومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآ ٍ‬ ‫شكُرُونَ(‪َ )60‬ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ‬ ‫وََلكِنّ َأكْثَرَهُ ْم لَ يَ ْ‬ ‫سمَاء‬ ‫شهُودًا إِذْ ُتفِيضُونَ فِي ِه َومَا َيعْ ُزبُ عَن رّ ّبكَ مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْرضِ َولَ فِي ال ّ‬ ‫كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ‬ ‫ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ(‪)61‬‬ ‫صغَرَ مِن ذَِل َ‬ ‫وَلَ َأ ْ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أرأيتم‪ :‬أي أخبروني‪.‬‬ ‫ما أنزل ال لكم من رزق ‪ :‬أي الذي خلق لكم من رزق كلحوم النعام‪.‬‬ ‫ءآل أذن لكم ‪ :‬أي في التحريم حيث حرمتم البحيرة والسائبة وفي التحليل حيث أحللتم الميتة‪.‬‬ ‫يفترون على ال الكذب ‪ :‬أي يختلقون الكذب تزويرا له وتقديرا في أنفسهم‪.‬‬ ‫وما تكون في شأن‪ :‬أي في أمر عظيم‪.‬‬ ‫شهودا إ ْذ تفيضون فيه‪ :‬أي تأخذون في القول أو العمل فيه‪.‬‬ ‫وما يعزب عن ربك ‪ :‬أي يغيب‪.‬‬ ‫من مثقال ذرة‪ :‬أي وزن ذرة والذرة أصغر نملة‪.‬‬ ‫إل في كتاب مبين‪ :‬أي اللوح المحفوظ ومبين أي واضح‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫سياق اليات في تقرير الوحي وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي قال‬

‫( ‪)2/484‬‬ ‫تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم قل لهؤلء المشركين ‪{ 1‬أرأيتم ما أنزل ال لكم من رزق} أي‬ ‫أخبروني عما خلق ال لكم من نبات وطعام وحرث فجعلتم منه حراما كالبحيرة والسائبة والثياب‬ ‫التي تحرّمون الطواف بها والحرث الذي جعلتموه للهتكم‪ ،‬وحلل كالميتة التي تستبيحونها {ءال‬ ‫أذن لكم} ‪ 2‬في هذا التشريع بوحي منه {أم على ال تفترون} فإن قلتم ال أذن لنا بوحي فلم‬ ‫تنكرون الوحي وتكذبون به‪ ،‬وإن قلتم ل وحي ولكننا نكذب على ال فموقفكم إذا شر موقف إذ‬ ‫تفترون على ال الكذب وال تعالى يقول‪{ :‬وما ظن الذين يفترون على ال الكذب يوم القيامة} أي‬ ‫إذا هم وقفوا بين يديه سبحانه وتعالى ما ظنهم أيغفر لهم ويعفى عنهم ل بل يلعنون وفي النار هم‬ ‫خالدون وقوله تعالى {إن ال لذو فضل على الناس} في كونه ل يعجل لهم العقوبة وهم يكذبون‬ ‫عليه ويشركون به ويعصونه ويعصون رسوله‪{ ،‬ولكن أكثرهم ل يشكرون} ‪ 3‬وذلك لجهلهم وسوء‬ ‫التربية الفاسدة فيهم‪ ،‬وإل العهد بالنسان أن يشكر لقل معروف وأتفه فضل‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {وما تكون في شأن ‪ 4‬وما تتلو منه من قرآن} أي وما تكون يا رسولنا في أمر من‬ ‫أمورك الهامة وما تتلو من القرآن من آية أو آيات في شأن ذلك المر { إل كنا} أي نحن رب‬ ‫العزة والجلل {عليكم شهودا} أي حضورا {إذ تفيضون فيه ‪ }5‬أي في الوقت الذي تأخذون فيه‪،‬‬ ‫وقوله تعالى {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ‪ 6‬في الرض ول في السماء ول أصغر من ذلك‬ ‫ول أكبر إل في كتاب مبين} يخبر تعالى عن سعة علمه تعالى وإحاطته بسائر مخلوقاته بحيث ل‬ ‫يعزب أي ل يغيب عن علمه تعالى مثقال ذره أي وزن ذرة وهي النملة الصغيرة وسواء كانت‬

‫في الرض أو في السماء‪ ،‬وسواء كانت أصغر من النملة أو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من كفّار قريش‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام تقريري مشوب بالنكار عليهم أيضا‪ .‬وعبر عن إعطائهم الرزق بإنزاله لهم‪ ،‬لنّ‬ ‫أرزاقهم من حبوب وثمار وأنعام كلها متوفقة على المطر النازل من السماء حتى سمى العرب‬ ‫ببني ماء السماء‪ .‬وشاهده قوله تعالى {فلينظر النسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صبّا‪ }..‬الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬بذكره وعبادته وحده بما شرع أن يعبد به‪ ،‬وعلّة عدم الشكر‪ ،‬انظرها في التفسير‪.‬‬ ‫‪ 4‬الشأن والجمع شؤون‪ :‬الخطب والمر الهام‪ ،‬والخطاب للرسول صلى ال عليه وسلم والمّة‬ ‫معه وقدم صلى ال عليه وسلم لعلو شأنه وسمو مقامه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 5‬الفاضة في العمل‪ :‬الشروع والدخول فيه‪.‬‬ ‫‪ 6‬الذرة‪ :‬النملة الصغيرة‪ ،‬أو الهباءة التي تُرى في ضوء الشمس‪.‬‬

‫( ‪)2/485‬‬ ‫أكبر منها‪ .‬بالضافة إلى أن ذلك كله في كتاب مبين أي في اللوح المحفوظ‪ .‬لهذا العلم والقدرة‬ ‫والرحمة استوجب التأليه والعبادة دون سائر خلقه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير الوحي وإثباته للنبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬التحريم والتحليل من حق ال تعالى دون سائر خلقه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حرمة الكذب على ال‪ ،‬وإن صاحبه مستوجب للعذاب‪.‬‬ ‫‪ -4‬ما أعظم نعم ال تعالى على العباد ومع هذا فهم ل يشكرون إل القليل منهم‬ ‫‪ -5‬وجوب مراقبة ال تعالى‪ ،‬وحرمه الغفلة في ذلك‪.‬‬ ‫‪ -6‬إثبات اللوح المحفوظ وتقريره كما صرحت به اليات والحاديث‪.‬‬ ‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ(‪ )62‬الّذِينَ آمَنُو ْا َوكَانُواْ يَ ّتقُونَ(‪َ )63‬لهُمُ الْ ُبشْرَى‬ ‫أَل إِنّ َأوْلِيَاء الّل ِه لَ َ‬ ‫فِي الْحَياةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة لَ تَ ْبدِيلَ ِلكَِلمَاتِ الّلهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ(‪)64‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أل ‪ :‬أداة استفتاح وتنبيه‪.‬‬ ‫إن أولياء ال ‪ :‬جمع وليّ وهو المؤمن التقي بشرط أن يكون إيمانه وتقواه على نور من ال‪.‬‬ ‫ل خوف عليهم ‪ :‬أي ل يخافون عند الموت ول بعده‪ ،‬ول هم يحزنون على ما تركوا بعد موتهم‪.‬‬

‫آمنوا ‪ :‬أي صدقوا بال وبماء جاء عن ال وبرسول ال وبما أخبر به رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬

‫( ‪)2/486‬‬ ‫يتقون‪ :‬أي ما يسخط ال تعالى من ترك واجب أو فعل حرام‪.‬‬ ‫لهم البشرى‪ :‬أي بالجنة في القرآن الكريم وعند الموت وبالرؤيا الصالحة يراها أو ترى له‪.‬‬ ‫ل تبديل لكلمات ال‪ :‬أي لوعده الذي يعده عباده الصالحين‪ ،‬لن الوعد بالكلمة وكلمه ال ل تبدل‪.‬‬ ‫الفوز‪ :‬النجاة من النار ودخول الجنة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأداة التنبيه {أل} وأداة التوكيد {إن} فيقول‪{ :‬أل إن أولياء ‪ 1‬ال ل خوف‬ ‫عليهم ول هم يحزنون} أي ل يخافون عند الموت ول في البرزخ ول يوم القيامة ول هم يحزنون‬ ‫على ما يتركون وراءهم بعد موتهم ول في الدار الخرة وبين تعالى أولياءه وعرف بهم فقال‪:‬‬ ‫{الذين آمنوا وكانوا يتقون}‪ 2‬أي آمنوا به وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله عن ربه‪ ،‬وكانوا يتقون‬ ‫طوال حياتهم وسائر ساعاتهم سخط ال تعالى فل يتركون واجبا هم قادرون على القيام به‪ ،‬ول‬ ‫يغشون محرما لم يُكرهوا عليه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬لهم البشرى} في الحياة الدنيا ‪ 3‬وفي الخرة‪ :‬أي‬ ‫لهم بشرى ربهم في كتابه برضوانه ودخول الجنة ولهم البشرى بذلك عند الحتضار تبشرهم‬ ‫الملئكة برضوان ال وجنته وفي الخرة عند قيامهم من قبورهم تتلقاهم الملئكة بالبشرى‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ل تبديل لكلمات ال} ‪ 4‬وهو تأكيد لما بشرهم‪ ،‬إذ تلك البشرى كانت بكلمات ال‬ ‫وكلمات ال ل تتبدل فوعد ال إذا ل يتخلف‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الولي‪ :‬مشتق من الولي بسكون اللم الذي هو القرب‪ ،‬ومتى زكت نفس المؤمن باليمان‬ ‫والعمل الصالح‪ ،‬وتخلّيها عن الشرك‪ ،‬والمعاصي قُرب من ال تعالى فواله‪ ،‬ومن آيات الولية‪:‬‬ ‫استجابة الدعاء وهرمن الكرامات التي يكرم ال تعالى بها أولياءه وفي الحديث‪" :‬الذين يُ ْذكَرُ ال‬ ‫برؤيتهم" وفي لفظ‪" .‬الذين إذا رُؤوا ذُكر ال" وعن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى‬ ‫ال عليه وسلم قال‪" :‬إن من عباد ال عبادا يغبطهم النبياء‪ ،‬والشهداء‪ .‬قيل من هم يا رسول ال؟‬ ‫لمنا نحبّهم؟ قال‪ :‬هم قوم تخابوا في ال من غير أموال ول أنساب وجوههم نور على منابر من‬ ‫نور ل يخافون إذا خاف الناس ول يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ‪{ :‬أل إن أولياء ال} الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أي‪ :‬كأنّما سائل قال‪ :‬مَنْ هم أولياء ال؟ فأجيب‪ :‬الذين آمنوا‬ ‫وكانوا يتقون"‪.‬‬ ‫‪ 3‬لحديث‪" :‬انقطع الوحي ولم يبق إلّ المبشرات قالوا‪ :‬وما المبشرات يا رسول ال؟ قال‪ :‬الرؤيا‬

‫الصالحة يراها البد المؤمن أو تُرى له"‪.‬‬ ‫‪ 4‬كلمات ال هي‪ :‬التي بها مواعيده ولذا فما يباشر ال تعالى به أولياءه هو كائن ل محالة إذ‬ ‫مواعيده ل تتبدل ووعوده ل تخلف‪.‬‬

‫( ‪)2/487‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ولية ال تعالى بطاعته وموافقته في محابه ومكارهه فمن آمن إيمانا يرضاه ال‪ ،‬واتقى ال‬ ‫في أداء الفرائض واجتناب المناهي فقد صار ولي ال وال وليه‪.‬‬ ‫‪ -2‬البشرى هي ما يكرم ال به برؤيا صالحة يراها الولي أو تُرى له‪.‬‬ ‫‪ -3‬الولياء هم أهل اليمان والتقوى فالكافر والفاجر ل يكون وليا أبدا‪ ،‬إل إذا آمن الكافر‪ ،‬وبَرّ‬ ‫الفاجر بفعل الصالحات وترك المنهيات‪.‬‬ ‫‪ -4‬صدق إخبار ال تعالى وعدالة أحكامه‪ ،‬وسر وليته إذ هي تدور على موافقة الرب تعالى فيما‬ ‫يجب من العتقادات والعمال والقوال والذوات والصفات وفيما يكره من ذلك فمن وافق ربه فقد‬ ‫واله ومن خالفه فقد عاداه‪.‬‬ ‫سمَاوَات َومَن فِي‬ ‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ(‪ )65‬أَل إِنّ ِللّهِ مَن فِي ال ّ‬ ‫جمِيعًا ُهوَ ال ّ‬ ‫وَلَ َيحْزُنكَ َقوُْلهُمْ إِنّ ا ْلعِ ّزةَ لِّلهِ َ‬ ‫الَ ْرضِ َومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُ َركَاء إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّنّ وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيخْ ُرصُونَ(‬ ‫س َمعُونَ(‪)67‬‬ ‫ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ يَ ْ‬ ‫سكُنُواْ فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْيلَ لِ َت ْ‬ ‫‪ُ )66‬هوَ الّذِي َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل يحزنك ‪ :‬أي ل يجعلك قولهم تحزن‪.‬‬ ‫إن العزة ل ‪ :‬العزة الغلبة والقهر‪.‬‬ ‫شركاء ‪ :‬أي شركاء بحق يملكون مع ال لعابديهم خيرا أو يدفعون عنهم ضرا‪.‬‬ ‫إل الظن‪ :‬الظن أضعف الشك‪.‬‬

‫( ‪)2/488‬‬ ‫يخرصون‪ :‬أي يحزرون ويكذبون‪.‬‬ ‫لتسكنوا فيه‪ :‬أي تخلدوا فيه إلى الراحة والسكون عن الحركة‪.‬‬ ‫مبصرا‪ :‬أي مضيئا ترى فيه الشياء كلها‪.‬‬ ‫جعِْلهِ تعالى الليل سكنا والنهار مبصرا ليات‪.‬‬ ‫في ذلك‪ :‬أي من َ‬

‫يسمعون‪ :‬أي سماع إجابة وقبول‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير قضايا التوحيد الثلث التوحيد والنبوة والبعث قال تعالى مخاطبا رسوله‬ ‫محمدا صلى ال عليه وسلم {ول يحزنك قولهم} أي ل يجعلك قول المشركين المفترين {لست‬ ‫مرسلً} وأنك {شاعر مجنون} تحزن فإن قولهم هذا ينتج لهم إل سوء العاقبة والهزيمة المحتمة‪،‬‬ ‫{إن العزة ل جميعا}‪ 1‬فربك القوى القادر سيهزمهم وينصرك عليهم‪ .‬إذا فاصبر على ما يقولون‬ ‫ول تأس ول تحزن‪ .‬إنه تعالى هو السميع لقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم ول يخفى عليه‬ ‫شيء من أمرهم‪{ .‬أل إن ل من في السموات ومن في الرض} خلقا وملكا وتصرفا‪ ،‬كل شيء في‬ ‫قبضته وتحت سلطانه وقهره فكيف تبالي بهم يا رسولنا فتحزن لقوالهم {وما يتبع الذين يدعون‬ ‫من دون أل شركاء} أي آلهة حقا بحيث تستحق العبادة لكونها تملك نفعا أو ضرا‪ ،‬موتا أو حياة ل‬ ‫بل ما هم في عبادتها متبعين إل الظن {وإن هم إل يخرصون} أي يتقولون ويكذبون‪ .‬وقوله تعالى‬ ‫{هو الذي ‪ 2‬جعل لكم الليل لتسكنوا فيه‪ ،‬والنهار مبصرا} أي الله الحق الذي يجب أن يدعى‬ ‫ويعبد ال الذي جعل لكم أيها الناس ليلً مظلما لتسكنوا فيه فتستريحوا من عناء العمل في النهار‪.‬‬ ‫وجعل لكم النهار مبصرا‪ 3‬أي مضيئا لتتمكنوا من العمل فيه فتوفروا لنفسكم ما تحتاجون إليه في‬ ‫حياتكم من غذاء وكساء وليست تلك اللهة من أصنام وأوثان بالتي تستحق اللوهية فتُدْعى وتُعبد‪.‬‬ ‫وقوله {إن في ذلك ليات لقوم يسمعون ‪ }4‬أي إن فيما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬القوة الكاملة‪ ،‬والغلبة الشاملة‪ ،‬والقدرة التامة ل وحده‪ ،‬والعزيز هو الغالب الذي ل يُغلب‪،‬‬ ‫والقوي الذي ل يُحال بينه وبين مراده‪ .‬و{جميعا} منصوب على الحال‪ ،‬وعزّة المؤمنين هي بعزّة‬ ‫ال فل منافاة إذا‪.‬‬ ‫‪ 2‬من الية استدلل على عزته تعالى وملكه لكل شيء وقدرته وتصرفه في كل شيء وهو ما‬ ‫أوجب له العبادة دون ما سواه‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال أبصر النهار‪ ،‬إذا صار ضياء‪ ،‬وأظلم الليل إذا صار ذا ظلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجملة المستأنفة‪ ،‬واليات‪ :‬الدلئل الدالة على وحدانية ال تعالى في ربوبيته وألوهيته‪ ،‬والدللة‬ ‫تكون مرئية ومسموعة ومعقولة‪ ،‬وعليه فالعمى والصم وغير العاقل ل يستفيدون منها فهذه علّة‬ ‫عدم استفادة المشركين من اليات لفقدهم آلت العقل والسمع والبصر‪ ،‬إذ فسدت بالجهل والتقليد‬ ‫والعناد والمكابرة والجحود‪.‬‬

‫( ‪)2/489‬‬

‫ذكر تعالى من كماله وعزته وقدرته وتدبيره لمور خلقه آيات علمات واضحة على أنه ل إله إل‬ ‫هو ول رب غيره‪ ،‬ولكن يرى تلك اليات من يسمع سماع قبول واستجابة ل من يسمع الصوت‬ ‫ول يفكر فيه ول يتدبر عانيه فإن مثله أعمى ل يبصر وأصم ل يسمع‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬على المؤمن الداعي إلى ال تعالى أن ل يحزنه أقوال أهل الباطل وأكاذيبهم حتى ل ينقطع‬ ‫عن دعوته‪ ،‬وليعلم أن العزة ل جميعا وسوف يعزه بها‪ ،‬ويذل أعداءه‪.‬‬ ‫‪ -2‬ما يُعبد من دون ال لم يقم عليه عابدوه أي دليل ول يملكون له حجة وإنما هم مقلدون يتبعون‬ ‫الظنون والوهام‪.‬‬ ‫‪ -3‬مظاهر قدرة ال تعالى في الخلق والتدبير كافية في إثبات العبادة له ونفيها عما سواه‪.‬‬ ‫سمَاوَات َومَا فِي الَ ْرضِ إِنْ عِن َدكُم مّن سُلْطَانٍ‬ ‫خذَ اللّهُ وَلَدًا سُ ْبحَانَهُ ُهوَ ا ْلغَنِيّ َلهُ مَا فِي ال ّ‬ ‫قَالُواْ اتّ َ‬ ‫ب لَ ُيفْلِحُونَ(‪)69‬‬ ‫ِبهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى الّلهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ(‪ُ )68‬قلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى الّلهِ ا ْلكَ ِذ َ‬ ‫ج ُعهُمْ ُثمّ نُذِي ُقهُمُ ا ْل َعذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ(‪)70‬‬ ‫مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرْ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سبحانه ‪ :‬أي تنزه عن النقص وتعالى أن يكون له ولد‪.‬‬ ‫الغَ ِنيّ ‪ :‬أي الغِنَى المطلق بحيث ل يفتقر إلى شيء‪.‬‬ ‫إن عندكم من سلطان ‪ :‬أي ما عندكم من حجة ول برهان‪.‬‬ ‫بهذا ‪ :‬أي الذي تقولونه وهو نسبة الولد إليه تعالى‪.‬‬ ‫متاع في الدنيا ‪ :‬أي ما هم فيه اليوم هو متاع ل غير وسوف يموتون ويخسرون‪.‬‬

‫( ‪)2/490‬‬ ‫كل شيء‪.‬‬ ‫يكفرون ‪ :‬أي بنسبة الولد إلى ال تعالى‪ ،‬وبعبادتهم غير ال‪ .‬سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تحقيق التوحيد وتقريره بإبطال الشرك وشبهه فقال تعالى‪{ :‬قالوا اتخذ ال ولدا‬ ‫سبحانه} أي قال المشركون أن الملئكة بنات ال ‪ 1‬وهو قول مؤسف محزن للرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم كقولهم له {لست مرسلً}‪ ،‬وقد نهي صلى ال عليه وسلم عن الحزن من جراء أقوال‬ ‫المشركين الفاسدة الباطلة‪ .‬ونزه ال تعالى نفسه عن هذا الكذب فقال سبحانه‪ ،‬وأقام الحجة على‬ ‫بطلن قول المشركين بأنه هو الغَنيّ الغِنَى الذاتي الذي ل يفتقر معه إلى غيره فكيف إذا يحتاج‬ ‫إلى ولد أو بنت فيستغني به وهو الغني الحميد‪ ،‬وبرهان آخر على غناه أن له ما في السموات وما‬

‫في الرض الجميع خلقه وملكه فهل يعقل أن يتخذ السيد المالك عبدا من عبيده ولدا له‪ .‬وحجة‬ ‫أخرى هل لدى الزاعمين بأن ل ولدا حجة تثبت ذلك والجواب ل‪ ،‬ل‪ .‬قال تعالى مكذبا إياهم ‪:‬‬ ‫{إن عندكم من سلطان بهذا}‪ 2‬أي ما عندكم من حجة ول برهان بهذا الذي تقولون ثم وبخهم‬ ‫وقرعهم بقوله‪{ :‬أتقولون على ‪ 3‬ال ما ل تعلمون؟} وأمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول‬ ‫معلنا عن خيبة الكاذبين وخسرانهم‪{ :‬إن الذين يفترون على ال الكذب ل يفلحون}‪ 4‬إن قيل كيف‬ ‫ل يفلحون وهم يتمتعون بالموال والولد والجاه والسلطة أحيانا فالجواب في قوله تعالى {متاع‬ ‫في الدنيا}‪ 5‬أي ذلك متاع في الدنيا‪ ،‬يتمتعون به إلى نهاية أعمارهم‪ ،‬ثم إلى ال تعالى مرجعهم‬ ‫جميعا‪ ،‬ثم يذيقهم العذاب الشديد الذي ينسون معه كل ما تمتعوا به في الحياة الدنيا‪ ،‬وعلل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقال اليهود‪ :‬عزير بن ال وقال النصارى عيسى بن ال والكل مفتر كذّاب‪ ،‬ول شك أن‬ ‫الشيطان هو الذي زيّن لهم هذا الباطل ليغويهم فيضلهم ويهلكهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن نافية بمعنى‪( :‬ما) كما هي في التفسير أي‪ :‬ما عندكم من حجة تثبت ما ادعيتموه وتُلزم به‬ ‫لقوتها كقوة ذي السلطان‪.‬‬ ‫‪ 3‬الستفهام للتوبيخ والتقريع بجهلهم وكذبهم إذ الولد يتطلب المجانسة والمشابهة بينه وبين من‬ ‫ينسب إليه وأين ذلك؟ وال ليس كمثله شيء إذ هو خالق كل شيء‪.‬‬ ‫‪ 4‬الفلح‪ :‬الفوز‪ ،‬والفوز هي السلمة من المرهوب والظهر بالمحبوب المرغوب‪ ،‬والمفترون على‬ ‫ال الكذب ل ينجون من النار ول يدخلون الحنة فهم إذا خاسرون غير مفلحين‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لنها جواب سؤال هو‪ :‬كيف ل يفلحون وهم في عزّة وقدرة‬ ‫وسلطان فيجاب السائل‪ :‬بأن هذا متاع في الدنيا زائل ل قيمة له‪ ،‬بالمقابلة بالفلح المنتفي عنهم‬ ‫وهو فلح الخرة‪.‬‬

‫( ‪)2/491‬‬ ‫تعالى ذلك العذاب الشديد الذي أذاقهم بكفرهم فقال‪{ :‬بما كانوا يكفرون} ‪ 1‬أي يجحدون كمال ال‬ ‫وغناه فنسبوا إليه الولد والشريك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كفر من ينسب إلى ال تعالى أي نقص كالولد والشريك أو العجز مطلقا‪.‬‬ ‫‪ -2‬كل دعوى ل يقيم لها صاحبها برهانا قاطعا وحجة واضحة فل قيمة لها ول يحفل بها‪.‬‬ ‫‪ -3‬أهل الكذب على ال كالدجالين والسحرة وأهل البدع والخرافات ل يفلحون ونهايتهم الخسران‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل ينبغي للمؤمن أن يغتر بما يرى عليه أهل الباطل والشر من المتع وسعة الرزق وصحة‬

‫البدن فإن ذلك متاع الحياة الدنيا‪ ،‬ثم يؤول أمرهم إلى خسران دائم‪.‬‬ ‫وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُم ّمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ َفعَلَى اللّهِ‬ ‫ي وَلَ تُنظِرُونِ(‪)71‬‬ ‫غمّةً ثُمّ ا ْقضُواْ إَِل ّ‬ ‫ج ِمعُواْ َأمْ َركُ ْم وَشُ َركَاءكُمْ ثُمّ لَ َيكُنْ َأمْ ُر ُكمْ عَلَ ْيكُمْ ُ‬ ‫َت َوكّلْتُ فََأ ْ‬ ‫فَإِن َتوَلّيْتُمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُم مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَى الّل ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ(‪َ )72‬فكَذّبُوهُ‬ ‫جعَلْنَاهُمْ خَلَ ِئفَ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ‬ ‫فَنَجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ َو َ‬ ‫ا ْلمُنذَرِينَ(‪)73‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫واتل عليهم نبأ نوح‪ :‬أي اقرأ على المشركين نبأ نوح أي خبره العظيم الخطير‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الباء في {بما كانوا يكفرون} للتعليل الذي هو السببيّة أي ‪ :‬بسبب كفرهم‪ ،‬إذ الكفر خبث نفوسهم‬ ‫فاستوجبوا النار وعذابها‪.‬‬

‫( ‪)2/492‬‬ ‫كبر عليكم مقامي ‪ :‬أي عظم عليكم مقامي بينكم أدعو إلى ربي‪.‬‬ ‫فأجمعوا أمركم ‪ :‬أي اعزموا عزما أكيدا‪.‬‬ ‫غمّة‪ :‬أي خفاء ولبسا ل تهتدون منه إلى ما تريدون‪.‬‬ ‫ثم اقضوا إلي‪ :‬أي انفذوا أمركم‪.‬‬ ‫ول تنظرون‪ :‬أي ول تمهلون رحمة بي أو شفقة علي‪.‬‬ ‫فإن توليتم ‪ :‬أي أعرضتم عما أدعوكم إليه من التوحيد‪.‬‬ ‫في الفلك‪ :‬أي في السفينة‪.‬‬ ‫خلئف‪ :‬أي يخلف الخر الول جيلً بعد جيل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في طلب هداية المشركين بالرد على دعاواهم وبيان الحق لهم وفي هذه‬ ‫اليات يأمر ال تعالى الرسول صلى ال عليه وسلم أن يقرأ عليهم طرفا من قصة نوح مع قومه‬ ‫المشركين الذين كانت حالهم كحال مشركي العرب سواء بسواء وفي قراءة هذا القصص فائدتان‬ ‫الولى تسلية الرسول وحمله على الصبر‪ ،‬والثانية تنبيه المشركين إلى خطإهم‪ ،‬وتحذيرهم من‬ ‫الستمرار على الشرك والعصيان فيحل بهم من العذاب ما حل بغيرهم قال تعالى‪{ :‬واتل عليهم نبأ‬ ‫نوح}‪ 1‬أي خبره العظيم الشأن وهو قوله لهم {يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي}‪ 2‬أي عظم وشق‬ ‫عليكم وجودي بينكم أدعوكم إلى ال‪ ،‬وتذكيري إياكم بآيات ال‪ ،‬فإني ‪ 3‬توكلت على ال فأجمعوا‬ ‫أمركم أي اعزمرا عزما أكيدا وادعوا أيضا شركاءكم للستعانة بهم‪ ،‬ثم أحذركم أن يكون أمركم‬

‫عليكم غمة أي ‪ 4‬خفيا ملتبسا عليكم فيجعلكم تترددون في إنفاذ ما عزمتم عليه‪ ،‬ثم اقضوا ‪ 5‬إليّ ما‬ ‫تريدون من قتلي أو نفعي ول‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬اتل} فعل أمر حذفت منه الواو لبنائه على حذفها إذ ماضيه تل ومضارعه يتلو‪ ،‬والمر‪ :‬اتل‬ ‫بمعنى اقرأ‪ ،‬والتلوة‪ :‬موالة الكلمات والقراءة جمعها‪.‬‬ ‫‪ 2‬المقام‪ :‬بفتح القاف‪ ،‬موضع القيام‪ ،‬والمُقام بالض ّم القامة‪ ،‬ومعنى كبُر‪ :‬ثقل وعظم‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الجملة {فعلى ال توكلت} هي جواب الشرط الذي هو‪ :‬فان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري‬ ‫بآيات ال التي هي دلئل فضله ودلئل وحدانيته تعالى‪.‬‬ ‫‪ 4‬الغمّة والغ َم بمعنى واحد‪ ،‬ومعناه التغطية والستر ومنه‪ :‬غم الهلل إذا استتر‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫ي بغمّة ‪ ...‬نهاري ول ليلي عليّ بسرمد‬ ‫لعمرك ما أمري عَل ّ‬ ‫وأصل الغمّ‪ :‬مشتق من الغمامة‪ ،‬وكل أمر مبهم ملتبس فهو غمّة‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬أنفذوا ما حكتم به عليّ من قتلي إن أردتم ذلك‪.‬‬

‫( ‪)2/493‬‬ ‫تنظرون أي ل تؤخروني أي تأخير‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬فإن توليتم} أي أعرضتم عن دعوتي وتذكيري‬ ‫ولم تقبلوا ما أدعوكم إليه من عبادة ال تعالى وحده‪ ،‬فما سألتكم عليه من أجر أي ثواب‪ ،‬حتى‬ ‫تتولوا‪ .‬إن أجري إل على ربي الذي أرسلني وكلفني‪ .‬وقد أمرني أن أكون من المسلمين له قلوبهم‬ ‫ووجوههم وكل أعمالهم فأنا كذلك كل عملي له فل أطلب أجرا من غيره قال تعالى‪{ :‬فكذبوه} أي‬ ‫دعاهم واستمر في دعائهم إلى ال زمنا غير قصير وكانت النهاية‪ :‬أن كذبوه‪ ،‬ودعانا لنصرته‬ ‫فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة وجعلناهم خلئف ‪ 1‬لبعضهم بعضا أي يخلف الخر‬ ‫الول‪ ،‬وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها عبدنا نوحا فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبة‬ ‫المنذرين الذين لم يقبلوا النصح ولم يستجيبوا للحق إنها عاقبة وخيمة إذ كانت إغراقا في طوفان‬ ‫ونارا في جهنم وخسرانا قال تعالى في سورة نوح‪{ :‬مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا‬ ‫لهم من دون ال أنصارا}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تسلية الدعاة بمثل موقف نوح العظيم إذ قال لقومه‪ :‬أجمعوا أمركم ونفذوا ما تريدون إني‬ ‫توكلت على ال‪.‬‬ ‫‪ -2‬ثمرة التوكل شجاعة واطمئنان نفس وصبر وتحمل مع مضاء عزيمة‪.‬‬ ‫‪ -3‬دعوة ال ل ينبغي أن يأخذ الداعي عليها أجرا إل للضرورة‪.‬‬

‫‪ -4‬بيان سوء عاقبة المكذبين بعد إنذارهم وتحذيرهم‪.‬‬ ‫ثُمّ َبعَثْنَا مِن َب ْع ِدهِ رُسُلً إِلَى َق ْو ِمهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِبمَا َكذّبُواْ بِهِ مِن قَ ْبلُ كَذَِلكَ‬ ‫ن َومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا‬ ‫عوْ َ‬ ‫نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ(‪ُ )74‬ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِهِم مّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْ َ‬ ‫فَاسْ َتكْبَرُو ْا َوكَانُواْ َق ْومًا مّجْ ِرمِينَ(‪)75‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جمع خليفة وهو اسم لمن يخلف غيره‪.‬‬

‫( ‪)2/494‬‬ ‫حقّ َلمّا جَاءكُمْ‬ ‫حقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنّ هَذَا َلسِحْرٌ مّبِينٌ(‪ )76‬قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْ َ‬ ‫فََلمّا جَاءهُمُ الْ َ‬ ‫عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَ َتكُونَ َل ُكمَا ا ْلكِبْرِيَاء‬ ‫سحْرٌ هَذَا وَلَ ُيفْلِحُ السّاحِرُونَ(‪ )77‬قَالُواْ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ‬ ‫أَ ِ‬ ‫ض َومَا نَحْنُ َل ُكمَا ِب ُم ْؤمِنِينَ(‪)78‬‬ ‫فِي الَ ْر ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بالبينات ‪ :‬أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم‪ ،‬وما يدعون إليه من توحيد ال تعالى‪.‬‬ ‫نطبع‪ :‬الطبع على القلب عبارة عن تراكم الذنوب على القلب حتى ل يجد اليمان إليه طريقا‪.‬‬ ‫المعتدين ‪ :‬الذين تجاوزوا الحد في الظلم والعتداء على حدود الشرع‪.‬‬ ‫الحق‪ :.‬اليات التي جاء بها موسى عليه السلم وهي تسع‪.‬‬ ‫لتلفتنا‪ :‬لتصرفنا وتحول وجوهنا عما وجدنا عليه آباءنا‪.‬‬ ‫الكبرياء‪ :‬أي العلو والسيادة والملك على الناس‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى طرفا من قصة نوح عليه السلم وأبرز فيها مظهر التوكل على ال تعالى من نوح‬ ‫ليُقتدى به‪ ،‬ومظهر نصرة ال تعالى لوليائه وهزيمته أعدائه ذكر هنا سنة من سننه في خلقه وهي‬ ‫أنه بعث من بعد نوح رسلً كثيرين ‪ 1‬إلى أممهم فجاؤوهم بالبينات أي بالحجج والبراهين على‬ ‫صدقهم وصحة ما جاءوا به ودعوا إليه من توحيد ال‪ ،‬فما كان أولئك القوام ليؤمنوا بما كذب به‬ ‫من سبقهم من أمة نوح‪ .‬قال تعالى‪{ :‬كذلك نطبع على ‪2‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم‪.‬‬ ‫‪{ 2‬نطبع} نختم‪ ،‬إذ الختم والطبع واحد‪ ،‬والطبع يكون بالخاتم‪.‬‬

‫( ‪)2/495‬‬

‫قلوب المعتدين} هذا بيان سنة ال تعالى في البشر وهي أن العبد إذا أذنب وواصل الذنب بدون‬ ‫توبة يصبح الذنب طبعا من طباعه ل يمكنه أن يتخلى عنه‪ ،‬وما الذنب إل اعتداء على حدود‬ ‫الشارع فمن اعتدى واعتدى وواصل العتداء حصل له الطبع وكان الختم على القلب فيصبح ل‬ ‫يقبل اليمان ول يعرف المعروف ول ينكر المنكر‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ثم بعثنا من بعدهم موسى‬ ‫وهرون} ‪ 1‬أي من بعد المم الهالكة بعثنا رسولينا موسى وهرون ابني عمران إلى فرعون وملئه‬ ‫بآياتنا المتضمنة الدليل على صحة مطلب رسولينا وهو توحيد ال وإرسال بني إسرائيل معهما‪،‬‬ ‫{فاستكبروا} أي فرعون وملؤه {وكانوا قوما مجرمين} حيث أفسدوا القلوب ‪ 2‬والعقول وسفكوا‬ ‫الدماء وعذبوا الضعفاء يقول تعالى عنهم {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين}‬ ‫أي لما بهرتهم المعجزات وهي آيات موسى وأبطلت إفكهم قالوا إن هذا لسحر مبين تخلصا من‬ ‫الهزيمة التي لحقتهم‪ ،‬فرد موسى عليهم بقوله {أتقولون للحق لما جاءكم} هذا سحر ‪ 3‬ثم بعد‬ ‫توبيخهم استدل على بطلن قولهم بكونه انتصر عليهم فأفلح بينهم وفاز عليهم فقال‪{ :‬أسحر هذا‬ ‫ول يفلح الساحرون} فلو كان ما جئت به سحرا فكيف أفلحت في إبطال سحركم وهزيمة سحرتكم‪.‬‬ ‫فلما أفحمهم بالحجة قالوا مراوغين‪{ :‬أجئتنا لتلفتنا} أي تصرفنا {عما وجدنا عليه آباءنا‪ ،‬وتكون‬ ‫لكما الكبرياء في الرض} أي وتكون لكما السيادة والملك في أرض مصر فسلكوا مسلك التهام‬ ‫السياسي‪ .‬وقالوا {وما نحن لكما بمؤمنين} أي بمصدقين ول متبعين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال في البشر وهي أن التوغل في الشر والفساد والظلم يوجب الختم على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬من بعد الرسول والمم إذ لكل امّة رسول‪.‬‬ ‫‪ 2‬أفسدوا القلوب بالشرك والكفر والعقول بالسحر والباطيل وسفكوا الدماء بقتل ذكران بني‬ ‫إسرائيل الصغار (المواليد)‪.‬‬ ‫‪ 3‬مفعول {أتقولون} محذوف لدللة الكلم عليه وهو‪ :‬إن هذا لسحر مبين وتقدير الكلم أنهم لما‬ ‫قالوا في اليات لسحر مبين رد عليهم موسى بقوله‪ :‬أتقولون للحق لما جاءكم هذا‪ .‬أسحر هذا؟ أي‬ ‫كيف يكون هذا الذي جئتكم به من اليات سحرا؟ والساحر ل يفلح وقد أفلحت فبطل أن يكون ما‬ ‫جئتكم به من اليات سحرا للحق‪ :‬اللم يسميهم بعضهم لم المجاوزة فهي بمعنى عن أي‪ :‬تقولون‬ ‫عن الحق كذا‪ .‬والظاهر أنها لم التعليل‪.‬‬

‫( ‪)2/496‬‬

‫القلوب فيحرم العبد اليمان والهداية‪.‬‬ ‫‪ -2‬ذم الستبكار وأنه سبب كثير من الجرام‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير أن السحر صاحبه ل يفلح أبدا ول يفوز بمطلوب ول ينجو من مرهوب‪.‬‬ ‫‪ -4‬التهامات الكاذبة من شأن أهل الباطل والظلم والفساد‪.‬‬ ‫عوْنُ ائْتُونِي ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(‪ )79‬فََلمّا جَاء السّحَ َرةُ قَالَ َلهُم مّوسَى أَ ْلقُواْ مَا أَنتُم مّ ْلقُونَ(‬ ‫َوقَالَ فِرْ َ‬ ‫سدِينَ(‪)81‬‬ ‫ع َملَ ا ْل ُمفْ ِ‬ ‫‪ )80‬فََلمّا أَ ْلقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السّحْرُ إِنّ اللّهَ سَيُبْطُِلهُ إِنّ الّل َه لَ ُيصْلِحُ َ‬ ‫وَيُحِقّ اللّهُ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَاتِ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُجْ ِرمُونَ(‪)82‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ساحر عليم‪ :‬أي ذو سحر حقيقي له تأثير عليم بالفن‪.‬‬ ‫ألقوا‪ :‬أي ارموا في الميدان ما تريدون إلقاءه من ضروب السحر‪.‬‬ ‫إن ال سيبطله‪ :‬أي يظهر بطلنه أمام النظارة من الناس‪.‬‬ ‫ويحق ال الحق ‪ :‬أي يقرر الحق ويثبته‪.‬‬ ‫بكلماته ‪ :‬أي بأمره إذ يقول للشيء كن فيكون‪.‬‬ ‫المجرمون‪ :‬أهل الجرام على أنفسهم وعلى غيرهم وهم الظلمة المفسدون‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ذكر قصة موسى بعد قصة نوح عليهما السلم في اليات السابقة لما غلب‬ ‫موسى فرعون ومله بالحجة اتهم فرعون موسى وأخاه هارون بأنهما سياسيان يريدان الملك‬ ‫والسيادة على البلد ل همّ لهما إل ذاك وكذب فرعون وهو من الكاذبين وهنا أمر‬

‫( ‪)2/497‬‬ ‫رجال دولته أن يحضروا له علماء السحر ‪ 1‬ليبارى موسى في السحر فجمع سحرته فقال لهم‬ ‫موسى {ألقوا ما أنتم ملقون}‪ 2‬فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون‪ ،‬فنظر‬ ‫إليه موسى وقال‪ { :‬ما جئتم ‪ 3‬به السحر إن ال سيبطله ‪ 4‬إن ال ل يصلح عمل المفسدين ويحق‬ ‫ال الحق بكلماته ولوكره المجرمون}‪ 5‬وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما‬ ‫كانوا يعملون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬للسحر طرق يتعلم بها وله علماء به وتعلمه حرام واستعماله حرام‪.‬‬ ‫‪ -2‬حد الساحر القتل لنه إفساد في الرض‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز المبارزة للعدو والمباراة له إظهارا للحق وإبطالً للباطل‪.‬‬

‫‪ -4‬عاقبة الفساد وعمل أصحابه الخراب والدمار‪.‬‬ ‫‪ -5‬متى قاوم الحق الباطل انهزم الباطل وانتصر الحق بأمر ال تعالى ووعده الصادق‪.‬‬ ‫عوْنَ َلعَالٍ فِي‬ ‫ن َومَلَ ِئهِمْ أَن َيفْتِ َنهُ ْم وَإِنّ فِرْ َ‬ ‫عوْ َ‬ ‫خوْفٍ مّن فِرْ َ‬ ‫َفمَا آمَنَ ِلمُوسَى ِإلّ ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ عَلَى َ‬ ‫الَ ْرضِ وَإِنّهُ َلمِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ(‪َ )83‬قَالَ مُوسَى يَا َقوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ َفعَلَيْهِ َت َوكّلُواْ إِن كُنتُم‬ ‫مّسِْلمِينَ(‪َ )84‬قَالُواْ عَلَى اللّهِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬طلب فرعون بإتيانه بالسحرة إذ قال‪ :‬أئتوني بكل ساحر عليم قال هذا لما شاهد العصا واليد‬ ‫البيضاء فاعتقد أنها سخر فأراد أن يقابله بسحر قومه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬اطرحوا ما معكم من حبالكم وعصّيكم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬ما أظهرتموه لنا من هذه الحبال والعصي‪ ،‬وقد تراءت وكأنها حيّات وثعابين هو السحر‬ ‫وعلّل لذلك‪ .‬بقوله إنّ ال سيبطله وعلة أخرى وهو أن ال ل يصلح عمل المفسدين‪ ،‬وإظهار اسم‬ ‫الجللة في التعليلين‪{ :‬إن ال سيبطله} {إنّ ال ل يصلح عمله المفسدين} للقاء الروع وتربية‬ ‫المهابة في النفوس‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن عباس رضي ال عنه من أخذ مضجعه من الليل ثم تل هذه الية‪ { .‬ما جئتم به السحر‬ ‫إنّ ال سيبطله إنّ ال ل يصلح عمل المفسدين} لم يضرّه كيد ساحر‪.‬‬ ‫‪ 5‬أراد بالمجرمين‪ :‬فرعون ومله‪ ،‬وفي الكلم تعريض بهم‪ ،‬وعدل عن وصفهم بالجرام لنّه‬ ‫مأمور أن يقول قولً ليّنأ فاستغنى بالتعريض بدل التصريح‪.‬‬

‫( ‪)2/498‬‬ ‫حمَ ِتكَ مِنَ ا ْلقَوْمِ ا ْلكَافِرِينَ (‪ )86‬وََأوْحَيْنَا ِإلَى‬ ‫جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ(‪ )85‬وَنَجّنَا بِ َر ْ‬ ‫َت َوكّلْنَا رَبّنَا لَ َت ْ‬ ‫ل َة وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‬ ‫جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْل ًة وََأقِيمُواْ الصّ َ‬ ‫مُوسَى وََأخِيهِ أَن تَ َبوّءَا ِلقَ ْو ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتًا وَا ْ‬ ‫‪)87‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فما آمن لموسى ‪ :‬أي لم يَ ْنقَدْ له ويتبعه‪.‬‬ ‫إل ذرية ‪ :‬أي طائفة قليلة من أولد بني إسرائيل‪.‬‬ ‫وملئهم‪ :‬أي أشرافهم ورؤسائهم‪.‬‬ ‫أن يفتنهم‪ :‬أن يضطهدهم ويعذبهم‪.‬‬ ‫لعال في الرض‪ :‬قاهر مُستبدّ‪.‬‬ ‫مسلمين ‪ :‬مذعنين منقادين لمره ونهيه‪.‬‬ ‫فتنة للقوم الظالمين ‪ :‬أي ل تفتنهم بنا بأن تنصرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا كفرا‪.‬‬

‫أن تبوّءا ‪ :‬اتخذا لقومكما بمصر بيوتا تبوءون إليها وترجعون‪.‬‬ ‫قبلة‪ :‬أي مساجد تصلون فيها‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد ذلك النتصار الباهر الذي تم لموسى على السحرة‪ ،‬والهزيمة المرة التي لحقت فرعون ولم‬ ‫يؤمن لموسى ويتابعه إل ذرّيّة من بني إسرائيل‪ ،‬وعدد قليل من آل فرعون كامرأته ومؤمن آل‬ ‫فرعون والماشطة قال تعالى‪{ :‬فما آمن لموسى إل ذرية ‪ 1‬من قومه على خوف من فرعون} أي‬ ‫مع خوف من فرعون أن يفتنهم وقوله‪{ :‬وملئهم} عائد إلى مؤمنى آل فرعون أي مع خوف من‬ ‫ملئهم أي رؤسائهم وأشرافهم أن يفتنوهم أيضا‪ ،‬وقوله تعالى {وإن فرعون لعال في الرض} أي‬ ‫إنه قاهر متسلط مستبد ظالم‪{ ،‬وإنه لمن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد بالذرية أولد بني إسرائيل الشبان الذين آمنوا عند مشاهدّة المباراة وانتصار موسى فيها‪.‬‬

‫( ‪)2/499‬‬ ‫المسرفين}‪ 1‬في الظلم فلذا خافوه لما آمنوا‪ ،‬ولما ظهر الخوف علي بني إسرائيل قال لهم موسى‬ ‫{يا قوم إن كنتم آمنتم بال فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}‪ 2‬ففوضوا أمركم إليه إن كنتم حقا مسلمين‬ ‫ل منقادين لمره ونهيه‪ ،‬فأجابوا قائلين‪{ :‬على ال توكلنا} وسألوا ال تعالى أن ل يفتن قوم فرعون‬ ‫بهم بأن ينصرهم عليهم فيزدادوا كفرا وظلما‪ ،‬وضمن ذلك أن ل تسلط الظالمين علينا فيفتونا في‬ ‫ديننا بصرفنا عنه بقوة التعذيب {ربنا ل تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‪ ،‬ونجنا برحمتك من القوم‬ ‫الكافرين} وهذا حسن توسل منهم إذا قالوا برحمتك فتوسلوا إلى ال برحمته ليستجيب دعاءهم‪،‬‬ ‫والمراد من القوم الكافرين هنا فرعون ومله‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وأوحينا إلى موسى وأخيه} أ ي‬ ‫هارون {أن تبوءا لقومكما} ‪ 3‬أي من بني إسرائيل {بمصر} أي بأرض مصر ‪{ 4‬بيوتا‪ ،‬واجعلوا‬ ‫بيوتكم قبلة}‪ 5‬أي متقابلة ومساجد ‪ 6‬تصلون فيها {وأقيموا الصلة} على الوجه الذي شرع لكم‪.‬‬ ‫وهذا بناء على أن بني إسرائيل بعد النتصار على فرعون أخذوا ينحازون من مجتمع فرعون‬ ‫فأمروا أن يكونوا حيا مستقلً استعدادا للخروج من أرض مصر فأمرهم الرب تبارك وتعالى أن‬ ‫يجعلوا بيوتهم قبلة أي متقابلة ليعرفوا من يدخل عليهم ومن يخرج منهم وليصلوا فيها كالمساجد‬ ‫حيث منعوا من المساجد إما بتخريبها وإما بمنعهم منها ظلما وعدوانا وقوله تعالى {وبشر‬ ‫المؤمنين} أي وبشر يا رسولنا ‪ 7‬المؤمنين الصادقين في إيمانهم الكاملين فيه بحسن العاقبة بكرامة‬ ‫الدنيا وسعادة الخرة بدخول دار السلم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬المسرفين}‪ :‬أي المجاوزين الحد في الكفر لنه كان عبدا فادعى الربوبية‪.‬‬

‫‪ 2‬كرر جملة الشرط تأكيدا‪ ،‬مبيّنا أن كمال اليمان يقتضي التوكل على ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬اتخذا‪ ،‬يقال‪ :‬بوّاه الدار‪ :‬انزله إيّاها وأسكنه فيها‪ .‬وفي الحديث "من كذب عليّ متعمدا‬ ‫فليتبوأ مقعده من النار" أي‪ :‬فلينزله ملزما له‪.‬‬ ‫‪ 4‬قيل‪ :‬المراد بمصر‪ :‬السكندرية‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية دليل علي جواز صلة الخائف المكتوبة في بيته‪ ،‬أمّا النافلة فهي في البيوت أفضل‬ ‫لقول الرسول صلى ال عليه وسلم "فعليكم بالصلة في بيوتكم فإن خير صلة المرء في بيته إل‬ ‫المكتوبة"‪.‬‬ ‫‪ 6‬في هذا جمع بين رأيين الول‪ :‬أن المراد من كلمة قبلة‪ :‬أنها مساجد والثاني‪ :‬أنها متقابلة ليتم‬ ‫لهم بذلك حمايتهم من عدوهم بعد أن استقلوا عنه‪.‬‬ ‫‪ 7‬هو موسى علبه السلم‪ ،‬بدليل السياق الكريم‪.‬‬

‫( ‪)2/500‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬تسلية الرسول صلى ال عليه وسلم حيث أراه كيف انتصر موسى بالمعجزات ومع ذلك لم‬ ‫يتابعه إل القليل من قومه‪.‬‬ ‫‪ -2‬التنديد بالعلو في الرض والسراف في الشر والفساد وبأهلهما‪.‬‬ ‫‪ -30‬وجوب التوكل على ال تعالى لتحمل عبء الدعوة إلى ال تعالى والقيام بطاعته‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية الدعاء والتوسل إلى ال تعالى بأسمائه وصفاته‪.‬‬ ‫‪ -5‬اتخاذ المساجد في المنازل للصلة فيها عند الخوف‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب إقام الصلة‪.‬‬ ‫‪ -7‬بشرى ال تعالى للمؤمنين والمقيمين للصلة بحسن العاقبة في الدارين‪.‬‬ ‫ن َومَلهُ زِي َن ًة وََأ ْموَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ‬ ‫عوْ َ‬ ‫َوقَالَ مُوسَى رَبّنَا إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬ ‫طمِسْ عَلَى َأ ْموَاِلهِمْ وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّى يَ َروُاْ ا ْل َعذَابَ الَلِيمَ(‪ )88‬قَالَ قَدْ‬ ‫رَبّنَا ا ْ‬ ‫ن لَ َيعَْلمُونَ(‪)89‬‬ ‫عوَ ُتكُمَا فَاسْ َتقِيمَا َولَ تَتّ ِبعَآنّ سَبِيلَ الّذِي َ‬ ‫أُجِيبَت دّ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫زينة ‪ :‬أي حليا وحللً ورياشا ومتاعا‪.‬‬ ‫أموالً ‪ :‬أي كثيرة من الذهب والفضة والنعام والحرث‪.‬‬ ‫اطمس ‪ :‬أي أزل أثرها من بينهم بإذهابها‪.‬‬ ‫واشدد على قلوبهم ‪ :‬اربط عليها حتى ل يدخلها إيمان ليهلكوا وهم كافرون‪.‬‬

‫( ‪)2/501‬‬ ‫أجيبت دعوتكما ‪ .:‬أي استجابها ال تعالى‪.‬‬ ‫فاستقيما‪ :‬على طاعة ال بأداء رسالته والدعوة إليه والصبر على الذى فيه‪.‬‬ ‫سبيل الذين ل يعلمون‪ :‬أي طريق الجهلة الذي ل يعرفون محاب ال ومساخطه ول يعلمون شرائع‬ ‫ال التي أنزل لعباده‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫ما زال السياق في قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل فبعد أن لج فرعون في العناد والمكابرة‬ ‫بعد هزيمته سأل موسى ربه قائلً {ربنا إنك آتيت فرعون ومله} أي أعطيتهم {زينة} أي ما يتزين‬ ‫به من الملبس والفرش والثاث وأنواع الحلي والحلل وقوله {وأموالً} ‪ 1‬أي الذهب والفضة‬ ‫والنعام والحرث {في الحياة الدنيا} أي في هذه الحياة الدنيا وقوله‪{ :‬ربنا ليضلوا عن سبيلك}‪ 2‬أي‬ ‫فيسبب ذلك لهم الضلل إذا {ربنا اطمس ‪ 3‬على أموالهم} أي أذهب أثرها بمسحها وجعلها غير‬ ‫صالحة للنتفاع بها‪{ ،‬واشدد على ‪ 4‬قلوبهم} أي اطبع على قلوبهم واستوثق منها فل يؤمنوا حتى‬ ‫يروا العذاب الليم الموجع أشد اليجاع‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬قد أجيبت دعوتكما‪ ،‬فاستقيما}‪ 5‬على طاعتنا‬ ‫بالدعوة إلينا وأداء عبادتنا والنصح لعبادنا والعمل على إنقاذ عبادنا من ظلم الظالمين‪{ ،‬ول تتبعانّ‬ ‫سبيل الذين ل يعلمون} أي فتستعجل وقوع العذاب فإن الذين ل يعلمون ما ل من حكم وتدابير‬ ‫وقضاء وقدر يستعجلون ال تعالى في وعده لهم فل تكونوا مثلهم بل انتظروا وعدنا واصبروا‬ ‫حتى يأتي وعد ال وما ال بمخلف وعده‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬إنه كان لهم من فسطاط مصر إلى ارض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة‬ ‫والزبرجد والزمرد‪ ،‬والياقوت‪.‬‬ ‫‪ 2‬في هذه اللم أقوال‪ :‬أصحها‪ :‬أنها لم العاقبة‪ ،‬والصيرورة‪ .‬أي‪ :‬يا رب إنك آتيت فرعون‬ ‫وقومه أموالً ليؤول أمرهم بسبب تلك الموال إلى ضللهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬عاقبهم على كفرهم بإهلك أموالهم‪ .‬وفعل أصبحت حجارة ل ينتفع لها وكان ذلك عقوبة‬ ‫منه تعالى لهم على كفرهم وعنادهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬قد استشكل العلماء وجه دعاء موسى على فرعون وقومه بالهلك إذ المفروض أن يدعو لهم‬ ‫بالهداية‪ .‬وأجيب بأنه قد علم بإعلم ال تعالى له أنهم ل يؤمنون فلذا دعا عليهم‪ ،‬كما أعلم ال‬ ‫تعالى نوحا بعدم إيمان قومه فلذا دعا عليهم‪ ،‬إذ قال له ربّه ‪{:‬إنه لن يؤمن من قومك إل من قد‬ ‫آمن} وهنا دعا عليهم قائلً‪ {:‬ربّ ل تذر على الرض من الكافرين ديّارا}‪.‬‬

‫‪ 5‬كان موسى يدعو‪ ،‬وهارون يؤمن أي‪ :‬يقول‪ :‬آمين فاعتبر داعيا مع أخيه‪ .‬لنّ قول آمين معناه‪:‬‬ ‫اللهم استجب دعاءنا‪.‬‬

‫( ‪)2/502‬‬ ‫هداية اليتين‬ ‫من هداية اليتين‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية الدعاء بالهلك على أهل الظلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬كثرة المال وأنواع الزينة‪ ،‬والنغماس في ذلك والتلهي به يسبب الضلل لصاحبه‪.‬‬ ‫‪ -3‬الذين بلغوا حدا من الشر والفساد فطبع على قلوبهم ل يموتون إل على الكفر فيخسرون‪.‬‬ ‫‪ -4‬المؤمّن داع فهو شريك في الدعاء ‪ 1‬فلذا أهل المسجد يؤمّنون على دعاء المام في الخطبة‬ ‫فتحصل الجابة للجميع‪ ،‬ومن هنا يخطيء الذين يطوفون أو يزورون إذ يدعون بدعاء المطوف‬ ‫ول يؤمّنون‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة إتباع طرق أهل الضلل‪ ،‬وتقليد الجهال والسير وراءهم‪.‬‬ ‫عوْنُ وَجُنُو ُدهُ َبغْيًا وَعَ ْدوًا حَتّى ِإذَا أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ‬ ‫وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ‬ ‫عصَ ْيتَ قَ ْبلُ َوكُنتَ مِنَ‬ ‫ن َوقَدْ َ‬ ‫ل وَأَنَاْ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ(‪ )90‬آل َ‬ ‫أَنّهُ ل إِِلهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ ِبهِ بَنُو إِسْرَائِي َ‬ ‫ا ْل ُمفْسِدِينَ(‪ )91‬فَالْ َيوْمَ نُ َنجّيكَ بِبَدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آ َي ًة وَإِنّ كَثِيرًا مّنَ النّاسِ عَنْ آيَاتِنَا َلغَافِلُونَ(‬ ‫‪)92‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وجاوزنا ببني إسرائيل ‪ :‬أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه‪.‬‬ ‫البحر ‪ :‬بحر القلزم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى الترمذي الحكيم عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬إن ال قد أعطى أمتي ثلثا لم تعط‬ ‫أحدا قبلهم‪ :‬السلم‪ ،‬وهي تحية أهل الجنة‪ ،‬وصفوف الملئكة وآمين إلّ ما كان من موسى‬ ‫وهارون" وعلى هذا فموسى كان يدعو وهارون يؤمن فاعتبر داعيا‪.‬‬

‫( ‪)2/503‬‬ ‫بغيا وعدوا ‪ :1‬أي بغيا على موسى وهرون واعتداء عليهما‪.‬‬ ‫الن ‪ :‬أي أفي هذا الوقت تقر بالوحدانية وتعترف له بالذلة؟!‪.‬‬ ‫ببدنك ‪ :‬أي بجسدك ل روح فيه‪.‬‬

‫آية‪ :‬علمة على أنك عبد وليس برب فيعتبروا بذلك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في قصة موسى وهرون مع فرعون وبني إسرائيل قال تعالى‪{ :‬وجاوزنا ‪ 2‬ببني‬ ‫إسرائيل البحر} وذلك بداية استجابة ال تعالى دعوة موسى وهرون ومعنى {جاوزنا} أي قطعنا‬ ‫بهم البحر حتى تجاوزوه‪ ،‬وذلك بأن أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر‬ ‫فكان كل فرق كالطود العظيم ويَبِسَت الرض ودخل موسى مع بني إسرائيل يتقدمهم جبريل عليه‬ ‫السلم على فرس حتى تجاوزوا البحر إلى الشاطىء‪ ،‬وجاء فرعون على فرسه ومعه ألوف ‪3‬‬ ‫الجنود فتبعوا موسى ‪ 4‬وبني إسرائيل فدخلوا البحر فلما توسطوه أطبق ‪ 5‬ال تعالى عليهم البحر‬ ‫فغرقوا أجمعين إل ما كان من فرعون فإنه لما أدركه الغرق أي لحقه ووصل الماء إلى عنقه‬ ‫أعلن عن توبته فقال‪{ :‬آمنت أنه ل إله إل الذي آمنت به بنو إسرائيل} ولكبريائه لم يقل ل إله إل‬ ‫ال ولو قالها لتاب ال عليه فأنجاه بل قال‪{ :‬ل إله إل الذي آمنت به بنو إسرائيل} وهو يعرف أنه‬ ‫ال‪ .‬وقوله‪{ :‬وأنا من المسلمين} مبالغة في طلب النجاة من الغرق بالتوبة حيث أعلن أنه من‬ ‫المسلمين أي المستسلمين المنقادين لمره‪ .‬فرد ال تعالى بقوله ‪{:‬آلن} أي وقت التوبة ‪ 6‬والسلم‬ ‫بعد اليمان‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬بغيا} منصوب على الحال‪ .‬و{عدوا} معطوف عليه‪ ،‬وكان اتباع فرعون بني إسرائيل بغيا‬ ‫وعدوا لنه ليس له شائبة حق في منعهم من الخروج من بلده إلى بلدهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬جاوزنا وجوّزنا‪ :‬بمعنى واحد‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال القرطبي‪ :‬كان بنو إسرائيل ستمائة وعشرين ألفا‪ ،‬وكان جيش فرعون ألفي ألف وستمائة‬ ‫ألف‪ .‬أي مليونين ونصفا وزيادة‪.‬‬ ‫‪ 4‬تبع واتبع بمعنى واحد إذا لحقه وأدركه‪ ،‬وأمّا اتبع بالتشديد فإن معناه‪ :‬سار خلفه‪.‬‬ ‫‪ 5‬روى الترمذي وحسّنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال "لما أغرق ال فرعون قال‪ :‬آمنت انه‬ ‫ل إله إلّ الذي آمنت به بنو إسرائيل‪ ،‬قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من وحل البحر‬ ‫فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمه" وحل البحر‪ :‬الطين السود الذي بكون في أسفله‪ ،‬ومعنى‬ ‫تدركه الرحمة‪ :‬أي يقول ل اله إل ال‪.‬‬ ‫‪ 6‬لنّ التوبة تقبل من العبد ما لم ي َر علمات الموت بمشاهدة الملئكة‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪:‬‬ ‫"إن ال يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر"‪.‬‬

‫( ‪)2/504‬‬

‫{وقد عصيت قبل} وتمردت على ال وشرعه وكفرت به وبرسوله {وكنت من المفسدين} للبلد‬ ‫والعباد بالظلم والشر والفساد‪{ ،‬فاليوم ننجيك} أي نجعلك على نجوة من الرض أي مرتفع منها‬ ‫{ببدنك} أي يجسمك دون روحك‪ ،‬وبذلك {لتكون لمن خلفك} أو بعده من الناس {آية} أي علمة‬ ‫على أنك عبد مربوب وليس كما زعمت أنك رب وإله معبود‪ ،‬وتكون عبرة لغيرك فل يطغى‬ ‫طغيانك ول يكفر كفرانك فيهلك كما هلكت‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وإن كثيرا من الناس عن آياتنا‬ ‫لغافلون} إخبار منه بواقع الناس ومن أولئك الغافلين عن آيات ال وهي تتلى عليهم أهل مكة من‬ ‫كفار قريش وما سيق هذا القصص إل لجل هدايتهم‪ .‬لو كانوا يهتدون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل تقبل التوبة عند معاينة العذاب وفي الحديث "تقبل توبة العبد ما لم يغرغر"‪.‬‬ ‫‪ -2‬أكمل الديان وأفضلها السلم ولهذا أهل اليقين يسألون ال تعالى أن يتوفاهم مسلمين ولما‬ ‫أيقن فرعون بالهلك زعم أنه من المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل ل إله إل ال فقد ورد أن جبريل كان يحول بين فرعون وبين أن يقول‪ :‬ل إله إل ال‬ ‫فينجو فلم يقلها فغرق وكان من الهالكين‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس في هذه الحياة غافلون عما يراد بهم ولهم ولم ينتبهوا حتى‬ ‫يهلكوا‪.‬‬ ‫ق وَرَ َزقْنَاهُم مّنَ الطّيّبَاتِ َفمَا اخْتََلفُواْ حَتّى جَاء ُهمُ ا ْلعِلْمُ إِنّ رَ ّبكَ‬ ‫وَلَقَدْ َبوّأْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مُ َبوّأَ صِ ْد ٍ‬ ‫َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ(‪)93‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مبوأ صدق‪ :‬أي أنزلناهم منزلً صالحا طيبا مرضيا‪.‬‬ ‫من الطيبات‪ :‬أي من أنواع الرزاق الطيبة الحلل‪.‬‬

‫( ‪)2/505‬‬ ‫حتى جاءهم العلم ‪ :‬وهو معرفتهم أن محمدا صلى ال عليه وسلم هو النبي المنتظر وأنه المنجي‪.‬‬ ‫يقضي بينهم‪ :‬يحكم بينهم‪.‬‬ ‫فيما كانوا في يختلفون ‪ :‬وأي في الذي اختلفوا من الحق فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫هذه خاتمة الحديث عن موسى وبني إسرائيل بعد أن نجاهم ال من عدوهم بإهلكه في اليم قال‬ ‫تعالى‪{ :‬ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} أي أنزلناهم مبوأ صالحا طيبا وهو بلد فلسطين من‬ ‫أرض الشام المباركة ‪ ،1‬وذلك بعد نجاتهم من التيه ودخولهم فلسطين بصحبة نبي ال يوشع بن‬

‫نون عليه السلم‪ ،‬وقوله {ورزقناهم من الطيبات} إذ أرض الشام أرض العسل والسمن والحبوب‬ ‫والثمار واللحم والفحم وذكر هذا إظهار لنعم ال تعالى ليشكروها‪ .‬وقوله‪{ :‬فما اختلفوا حتى جاءهم‬ ‫العلم} يريد أن بني إسرائيل الذين أكرمهم ذلك الكرام العظيم كانوا قبل مبعث النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم متفقين على دين واحد منتظرين النبي المنتظر المبشر به في التوراة الذي سينقذ بني‬ ‫إسرائيل مما حل بهم من العذاب والضطهاد على أيدي أعدائهم الروم‪ ،‬فلما جاءهم وهو العلم‬ ‫وهو القرآن والمنزل عليه محمد صلى ال عليه وسلم اختلفوا فمنهم من آمن به ‪ ،2‬ومنهم من‬ ‫كفر‪ .‬وقوله تعالى في خطاب النبي صلى ال عليه وسلم‪{ :‬إن ربك يقضي ‪ 3‬بينهم يوم القيامة فيما‬ ‫كانوا فيه يختلفون} من أمر اليمان لك واتباعك واتباع ما جئت به من الهدى ودين الحق‪ ،‬فيدخل‬ ‫المؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان إكرام ال تعالى لبني إسرائيل‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وروي ان ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬في المبوأ الصدق‪ :‬هو بنو قريظة وبنو النضير‪،‬‬ ‫وأهل عصر النبي صلى ال عليه وسلم بقرينة‪{ :‬فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} الذي هو القرآن‬ ‫يحمله محمد صلى ال عليه وسلم وقرينة ما في التفسير هي أنّ الحديث كان في إنجاء بني‬ ‫إسرائيل وإهلك فرعون وهو يناسبه أن يكون المبوأ‪ :‬أرض فلسطين والشام‪.‬‬ ‫‪ 2‬كعبد ال بن سلم وأمثاله‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقضي‪ :‬معناه يحكم‪ ،‬فيحكم لهل اليمان والستقامة بدخول الجنة ويحكم لهل الكفر والضلل‬ ‫النار‪.‬‬

‫( ‪)2/506‬‬ ‫‪ -2‬الرزق الطيب هو ما كان حللً ل ما كان حراما‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا أراد ال هلك أمة اختلف بسبب العلم الذي هو في الصل سبب الوحدة الوئام‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة الختلف في الدين إذ كان يؤدي إلى ‪ 1‬النقسام والتعادي والتحارب‪.‬‬ ‫‪ -5‬يوم القيامة هو يوم الفصل الذي يقضي ال تعالى فيه بين المختلفين بحكمه العادل‪.‬‬ ‫حقّ مِن رّ ّبكَ‬ ‫شكّ ّممّا أَنزَلْنَا إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَؤُونَ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكَ َلقَدْ جَاءكَ الْ َ‬ ‫فَإِن كُنتَ فِي َ‬ ‫فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ(‪َ )94‬ولَ َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ الّلهِ فَ َتكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(‪ )95‬إِنّ‬ ‫ب الَلِيمَ(‪)97‬‬ ‫ك لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )96‬وََلوْ جَاء ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّى يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ‬ ‫ح ّقتْ عَلَ ْي ِهمْ كَِل َمتُ رَ ّب َ‬ ‫الّذِينَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫شك‪ .:‬ما قابل التصديق فالشاك غير المصدق‪.‬‬ ‫مما أنزلنا إلبك‪ :‬أي في أن بني إسرائيل لم يختلفوا إل من ‪ 2‬بعد ما جاءهم العلم‪.‬‬ ‫الكتاب‪ :‬أي التوراة والنجيل‪.‬‬ ‫فل تكونن من الممترين‪ :‬أي ل تكونن من الشاكين‪.‬‬ ‫حقت عليهم ‪ :‬أي وجبت لهم النار بحكم ال بذلك في اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫حتى يروا العذاب‪ :‬أي يستمرون على تكذيبهم حتى يروا العذاب يؤمنوا حيث ل ينفع اليمان ‪.3‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مثال الختلف الذي ل يؤدي إلى النقسام والتعادي والتحارب‪ :‬الخلف الفقهي بين الئمة‬ ‫الربعة‪ ،‬ومثال الخلف المفضي إلى التعادي والتحارب الخلف بين أهل السنة والفرق الضالة‬ ‫كالخوارج والروافض وأمثالهما‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا وجه من جملة أوجه فَسّرت بها الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬ل خلف في أن اليمان كالتوبة ل يقبلن عند معاينة الموت ففي سورة النساء قال تعالى ‪:‬‬ ‫{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إني تبت الن ول الذين‬ ‫يموتون وهم كفّار} ‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم إن ال يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‪.‬‬

‫( ‪)2/507‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقرر تعالى نبوة رسوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل ‪ 1‬الذين يقرأون الكتاب من قبلك}‬ ‫أحبار اليهود ورهبان النصارى فإنهم يعرفون نعوتك وصفاتك في التوراة والنجيل وإنك النبي‬ ‫الخاتم والمنقذ وأن من آمن بك نجا ومن كفر هلك وهذا من باب الفرض وليكون تهييجا للغير‬ ‫ليؤمن وإل فهو صلى ال عليه وسلم قد قال‪{ :‬ل أشك ول أسأل" وقوله {لقد جاءك الحق من ربك‬ ‫فل تكونن من الممترين}‪ ،‬يقسم تعالى لرسوله بأنه قد جاءه الحق من ربه وهو الحديث الثابت‬ ‫بالوحي الحق وينهاه أن يكون من الممترين أي الشاكين في صحة السلم‪ ،‬وأنه الدين الحق الذي‬ ‫يأبى ال إل أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون‪ .‬وقوله {ول تكونن من الذين كذبوا‬ ‫بآيات ال فتكون من الخاسرين} أي وينهاه أيضا أن يكون من الذين كذبوا بوحي ال وشرعه‬ ‫ورسوله المعبر عنها باليات لنها حاملة لها داعية إليها‪ ،‬فتكون من الخاسرين يوم القيامة‪ .‬وهذا‬ ‫كله من باب ("إياك أعني واسمعي يا جاره") وإل فمن غير الجائز أن يشك الرسول أو يكذب بما‬ ‫أنزل عليه من اليات الحاملة من الشرائع والحكام‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إن الذين حقت عليهم كلمة‬ ‫ربك ل يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} هو كما أخبر عز وجل فالذين قضى ‪ 2‬ال بعذابهم يوم‬ ‫القيامة فكتب ذلك في كتاب المقادير عنده هؤلء ل يؤمنون أبدا مهما بذل في سبيل إيمانهم من‬

‫جهد في تبيين الحق وإقامة الدلة وإظهار الحجج عليهم وفي هذا تسلية لرسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم من جراء ما يألم له ويحزن من إعراض كفار قريش وعدم استجابتهم وقوله {ولو جاءتهم‬ ‫كل آية} تأكيد للحكم السابق وهو أن الذي حكم ال بدخولهم النار ل يؤمنون ول يموتون إل‬ ‫كافرين لينجز ال ما وعد ويمضي ما قضى وحكم‪ .‬وقوله‪{ :‬حتى يروا العذاب الليم} أي‬ ‫يستمرون على كفرهم بك وبما جئت به حتى يشاهدوا العذاب الليم وحينئذ يؤمنون كما آمن‬ ‫فرعون عندما أدركه الغرق ولكن لم ينفعه إيمانه فكذلك هؤلء المشركون من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ل حاجة إلى طلب حلول بعيدة لحلّ ما في ظاهر الية من إشكال‪ ،‬إذ لهذه الية نطير وهو قوله‬ ‫تعالى‪{ :‬لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} معنى الية‪ :‬أنّ ال تعالى يوجه‬ ‫الخطاب إلى رسوله‪ ،‬وأحبّ الخلق إليه ليكون غيره من باب أولى ألف مرة ومرّة وإل فالرسول‬ ‫صلى ال عليه وسلم ل يشك ول يسأل وكيف يشك ويسأل وهو يتلقى الوحي من ربّه؟ وقد قال‬ ‫وقت ما نزلت الية‪" :‬ل أشك ول أسأل" ‪ ،‬وتوجيهنا للية في التفسير في غاية الوضوح‪ ،‬والحمد‬ ‫ل‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن قيل‪ :‬كيف يعذبهم لمجرد أن كتب ذلك عليهم؟ قلنا في الجواب إنه ما كتب شقوة نفس أو‬ ‫سعادة أخرى حتى علم ما ستفعله النفس باختيارها من كفر أو إيمان أو خير أو شر‪.‬‬

‫( ‪)2/508‬‬ ‫قومك الذين حقت عليهم كلمة ربك ل يؤمنون حتى يروا العذاب الليم وعندئذ ل ينفعهم إيمانهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير نبوة الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬سؤال من ل يعلم من يعلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬التكذيب بآيات ال كفر وصاحبه من الخاسرين‪.‬‬ ‫‪ -4‬الشك والفتراء في أصول الدين وفروعه كفر‪.‬‬ ‫‪ -5‬تقرير عقيدة القضاء والقدر‪ ،‬وإن الشقي من شقي في كتاب المقادير ‪ 1‬والسعيد من سعد فيه‪.‬‬ ‫‪ -6‬عدم قبول توبة من عاين العذاب في الدنيا بأن رأى ملك الموت وفي الخرة بعد أن يبعث‬ ‫ويشاهد أهوال القيامة‪.‬‬ ‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةَ‬ ‫فََلوْلَ كَا َنتْ قَرْيَةٌ آمَ َنتْ فَ َن َف َعهَا إِيمَا ُنهَا ِإلّ َقوْمَ يُونُسَ َلمّآ آمَنُواْ كَ َ‬ ‫جمِيعًا َأفَأَنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ‬ ‫ك لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّلهُمْ َ‬ ‫الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(‪ )98‬وََلوْ شَاء رَ ّب َ‬ ‫ن لَ‬ ‫ج َعلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِي َ‬ ‫حَتّى َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ(‪َ )99‬ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَن ُت ْؤمِنَ ِإلّ بِِإذْنِ اللّ ِه وَ َي ْ‬

‫َي ْعقِلُونَ(‪)100‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل وفيها معنى التوبيخ والنفي‪.‬‬ ‫فلو ل ‪ :‬أداة تحضيض هنا بمعنى ه ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬طالع النهر‪ ،‬فقد أوردنا سؤالً عن هذه المسألة وأجبنا عنه تحت رقم(‪ )3‬بما يكفي ويغني بإذن‬ ‫ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/509‬‬ ‫قرية آمنت‪ :‬أي أهل قرية آمنوا‪.‬‬ ‫يونس‪ :‬هو يونس بن مَتّى نبي ال ورسوله ‪.1‬‬ ‫إلى حين ‪ :‬أي إلى وقت انقضاء آجالهم‪.‬‬ ‫أفأنت تكره الناس ‪ :‬أي إنك ل تستطيع ذلك‪.‬‬ ‫إل بإذن ال‪ :.‬أي بإرادته وقضائه‪.‬‬ ‫الرجس ‪ :‬أي العذاب‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد أن ذكر تعالى في اليات السابقة أن الخسران لزم لمن كذب بآيات ال‪ ،‬وأن الذين وجب لهم‬ ‫العذاب لحاطة ذنوبهم بهم ل يؤمنون لفقدهم الستعداد لليمان ذكر هنا ما يحض به أهل مكة‬ ‫على اليمان وعدم الصرار على الكفر والتكذيب فقال‪{ :‬فلول ‪ 2‬كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها}‬ ‫أي فهل أهل قرية آمنوا فانتفعوا بإيمانهم فنجوا من العذاب اللزم لمن لم يؤمن أي لِ َم ل يؤمنون‬ ‫وما المانع من إيمانهم وهذا توبيخ لهم‪.‬‬ ‫وقوله {إل قوم ‪ 3‬يونس ‪ 4‬لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} فلم نهلكهم بعذاب‬ ‫استئصال وإبادة شاملة لنهم لما رأوا أمارات العذاب بادروا إلى التوبة قبل نزوله بهم فكشف ال‬ ‫تعالى عنهم العذاب‪ ،‬ومتعهم بالحياة إلى حين انقضاء آجالهم فما لهل أم القرى ل يتوبون كما‬ ‫تاب أهل نَيْنَوى من أرض الموصل وهم قوم يونس عليه السلم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ولو شاء ربك لمن من في الرض كلهم جميعا} يحمل دللتين الولى أن عرض‬ ‫ال تعالى اليمان على أهل مكة وحضهم عليه وتوبيخهم على تركه ل ينبغي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬احد أنبياء بني إسرائيل‪.‬‬ ‫‪ 2‬لو ل حرت الصل فيها أنها للتحضيض‪ ،‬وهو طلب الفعل بحثّ‪ ،‬ولكن إذا دخلت على ماض لم‬ ‫تصبح للتحضيض قطعا بل للتغليط والتنديم والتوبيخ‪ ،‬وهي هنا لتغليط أهل مكة وتوبيخهم‬

‫وتنديمهم على إصرارهم على الكفر وعدم توبتهم كما تاب قوم يونس حتى ينجوا من العذاب كما‬ ‫نجوا‪.‬‬ ‫‪ 3‬كان هؤلء القوم خليطا من الشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر‪،‬‬ ‫وكانت بعثة يونس عليه السلم إليهم في بداية القرن الثامن قبل المسيح عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ 4‬إن قوم يونس كانوا بقرية تسمّى نينوي من أرض الموصل وكانوا يعبدون الصنام‪ ،‬أقام في‬ ‫قومه يدعوهم إلى التوحيد وترك الشرك تسع سنين فيئس من إيمانهم فتوعدهم بالعذاب وخرج من‬ ‫بين أظهرهم وتركهم فلمّا رأوا ذلك خافوا نزول العذاب بهم فجأروا إلى ال تعالى بالستغفار‬ ‫والدعاء والضراعة يا حي حين ل حي يا حي محيي الموتى يا حي ل إله إل أنت ارفع عنا‬ ‫العذاب وقد ظهرت أماراته‪ ،‬فكشف ال عنهم العذاب كما قال تعالى‪{:‬إل قوم يونس لما آمنوا كشفنا‬ ‫عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}‪.‬‬

‫( ‪)2/510‬‬ ‫أن يفهم منه أن ال تعالى عاجز عن جعلهم يؤمنون بل لو شاء إيمانهم لمنوا كما لو شاء إيمان‬ ‫أهل الرض جميعا لمنوا والثانية تسلية الرسول والتخفيف عنه من ألم وحزن عدم إيمان قومه‬ ‫وهو يدعوهم بجد وحرص ليل نهار فأعلمه ربه أنه لو شاء إيمان كل من في الرض لمنوا‪،‬‬ ‫ولكنه التكليف المترتب عليه الجزاء فيعرض اليمان على الناس عرضا ل إجبار معه فمن آمن‬ ‫نجا‪ ،‬ومن لم يؤمن هلك وبدل على هذا قوله له {أفأنت تكره ‪ 1‬الناس حتى يكونوا مؤمنين} أي إن‬ ‫هذا ليس لك‪ ،‬ول كلفت به‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وما كان لنفس أن تؤمن إل بإذن ال} تقرير وتأكيد لما‬ ‫تضمنه الكلم السابق من أن اليمان ل يتم لحد إل بإرادة ال وقضائه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ويجعل‬ ‫الرجس ‪ 2‬على الذين ل يعقلون} أي إل أنه تعالى يدعو الناس إلى اليمان مبينا لهم ثمراته الطيبة‬ ‫ويحذرهم من التكذيب مبينا لهم آثاره السيئة فمن آمن نجاه وأسعده ومن لم يؤمن جعل الرجس‬ ‫الذي هو العذاب عليه محيطا به جزاء له لنه ل يعقل إذ لو عقل لما كذب ربه وكفر به وعصاه‬ ‫وتمرد عليه وهو خالقه ومالك أمره‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬من مظاهر رحمة ال تعالى بعباده دعوته إياهم إلى اليمان به وحضهم عليه‪.‬‬ ‫‪ -2‬قبول التوبة قبل معاينة العذاب‪ ،‬ورؤية العلمات ل تمنع من التربة‪.‬‬ ‫‪ -3‬إرادة ال الكونية التي يكون بها الشياء ل تتخلف أبدا‪ ،‬وإرادته الشرعية التكليفية جائزة‬ ‫التخلف‪.‬‬ ‫ل إيمان إل بإذن ال وقضائه فلذا ل ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم‬

‫ل وقضى به‪.‬‬ ‫يؤمنوا لن ال تعالى كتب عذابهم أز ً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام‪ :‬إنكاري ينكر تعالى على رسوله شدّة حرصه على إيمان قومه‪ ،‬حتى لكأنه يريد‬ ‫إكراههم على اليمان به وبما جاء به من التوحيد‪.‬‬ ‫‪ 2‬الرجس‪ :‬بضم الراء وكسرها‪ :‬العذاب‪.‬‬

‫( ‪)2/511‬‬ ‫ت وَالنّذُرُ عَن َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ(‪َ )101‬ف َهلْ‬ ‫ت وَالَ ْرضِ َومَا ُتغْنِي اليَا ُ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫ُقلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي ال ّ‬ ‫خَلوْاْ مِن قَبِْل ِهمْ ُقلْ فَانتَظِرُواْ إِنّي َم َعكُم مّنَ ا ْلمُنتَظِرِينَ(‪ )102‬ثُمّ نُ َنجّي‬ ‫يَنتَظِرُونَ ِإلّ مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ َ‬ ‫حقّا عَلَيْنَا نُنجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪)103‬‬ ‫رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ كَذَِلكَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ماذا في السموات والرض‪ :‬أي من عجائب المخلوقات‪ ،‬وباهر اليات‪.‬‬ ‫وما تغني اليات والنذر‪ :‬أي ما تغني أيّ إغناء إذا كان القوم ل يؤمنون‪.‬‬ ‫فهل ينتظرون‪ :.‬أي ما ينتظرون‪.‬‬ ‫خلوا من قبلهم ‪ :‬أي مضوا من قبلهم من المم السابقة‪.‬‬ ‫قل فانتظروا ‪ :‬أي العذاب‪.‬‬ ‫ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ‪ :‬أي من العذاب المنتظر‪.‬‬ ‫كذلك‪ :‬أي كذلك النجاء ننج المؤمنين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في دعوة قريش إلى اليمان والتوحيد والطاعة ل ولرسوله صلى ال عليه وسلم‬ ‫فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لهم‪{ :‬قل انظروا ‪ 1‬ماذا في السموات والرض} من سائر‬ ‫المخلوقات وما فيها من عجائب الصنعة‪ ،‬ومظاهر الحكمة والرحمة والقدرة فإنها تدعو إلى‬ ‫اليمان بال ربا وإلها ل إله غيره ول رب سواه‪ ،‬وتفند دعوى ألوهية الصنام والحجار‪.‬‬ ‫ثم قال تعالى‪{ :‬وما تغني اليات والنذر} أي الرسل في هداية قوم قضى ال تعالى أزلً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفاء للتفريغ فالكلم متفرّع على جملة ما تغني اليات والنذر‪ .‬والستفهام إنكاري تهكمي‪ ،‬وفيه‬ ‫معنى النفي أيضا‪ ،‬والنكات ل تتزاحم‪.‬‬

‫( ‪)2/512‬‬

‫أنهم ل يؤمنون حتى ينتهوا إلى ما قدر لهم وما حكم به عليهم من عذاب الدنيا والخرة ولكن لما‬ ‫كان علم ذلك إلى ال تعالى فعلى النذر أن تدعو وتبلغ جهدها والمر ل من قبل ومن بعد‪ .‬وقوله‬ ‫‪{ :‬فهل ينتظرون إل مثل أيام الذين ‪ 1‬خلوا من قبلهم} أي إنهم ما ينتظرون إل مثل أيام الذين‬ ‫خلفوا من قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم دعتهم رسلهم وبلغتهم دعوة ربهم إليهم إلى‬ ‫اليمان والتوحيد والطاعة فاعرضوا فأخذهم ال إنه قوي شديد العقاب‪.‬‬ ‫ثم أمر ال تعالى رسوله أن يقول لهم {فانتظروا ‪ }2‬أي ما كتب عليكم من العذاب إن لم تتوبوا إليه‬ ‫وتسلموا {إني معكم من المنتظرين} فإن كان العذاب فإن سنة ال فيه أن يهلك الظالمين المشركين‬ ‫المكذبين وينجي رسله والمؤمنين وهو معنى قوله تعالى ‪ 3‬في الية الخيرة (‪{ )103‬ثم ننجى ‪4‬‬ ‫رسلنا والذين آمنوا‪ ،‬كذلك} أي النجاء {حقا علينا ‪ 5‬ننج المؤمنين}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل تنفع الموعظة مهما بولغ فيها عبدا كُتب أزلً أنه من أهل النار‪.‬‬ ‫‪ -2‬ما ينتظر الظلمة في كل زمان ومكان إل ما حل بمن ظلم من قبلهم من الخزي والعذاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬وعد ال تعالى ثابت لوليائه بإنجائهم من الهلك عند إهلكه الظلمة المشركين‪.‬‬ ‫شكّ مّن دِينِي فَلَ أَعْ ُبدُ الّذِينَ َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وََلكِنْ أَعْ ُبدُ الّلهَ‬ ‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِن كُن ُتمْ فِي َ‬ ‫الّذِي يَ َت َوفّاكُ ْم وَُأمِ ْرتُ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد من اليام‪ :‬العذاب الذي يقع فيها‪ ،‬ويقال فيها الوقائع وهو نحو قولهم‪ :‬أيام العرب‪ ،‬فلن‬ ‫عالم بأيام العرب أي‪ :‬ما جرى فيها من أحداث ومنه قوله تعالى‪{ :‬وذكرهم بأيّام ال} أي‪ :‬بالعذاب‬ ‫الذي وقع فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لنها واقعة موقع جواب سؤال تقديره‪ :‬نحن أولء منتظرون وأنت‬ ‫ماذا تفعل؟‬ ‫‪{ 3‬حقا علينا} جملة معترضة لن المصدر يدل على الفعل‪ ،‬والتقدير أي‪ :‬حق ذلك علينا حقا أي‪:‬‬ ‫أحققناه حقا علينا‪.‬‬ ‫‪{ 4‬ننجي} قرىء بالتخفيف‪ ،‬والتشديد‪ ،‬والمعنى واحد‪ ،‬وفي المصحف ننج بدون ياء للتقاء‬ ‫الساكنين‪.‬‬ ‫‪ 5‬إن انتظار العذاب منذر بنزوله قريبا بديارهم والرسول معهم فمن هنا عطف جملة {ثم ننجي‬ ‫رسلنا} فأعلمهم بنجاة الرسل فكانت بشرى للرسول والمؤمنين‪.‬‬

‫( ‪)2/513‬‬

‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ(‪َ )105‬ولَ َت ْدعُ‬ ‫أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪ )104‬وَأَنْ َأقِ ْم وَ ْ‬ ‫سكَ اللّهُ‬ ‫سْ‬ ‫ك َولَ َيضُ ّركَ فَإِن َفعَ ْلتَ فَإِ ّنكَ إِذًا مّنَ الظّاِلمِينَ(‪ )106‬وَإِن َيمْ َ‬ ‫مِن دُونِ الّلهِ مَا لَ يَن َف ُع َ‬ ‫شفَ لَهُ ِإلّ ُه َو وَإِن يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَ رَآدّ ِل َفضْلِهِ ُيصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ‬ ‫ِبضُرّ فَلَ كَا ِ‬ ‫ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ(‪)107‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من دينى ‪ :‬أي السلم في أنه حق‪.‬‬ ‫يتوفاكم‪ :‬أي يقبض أرواحكم فيميتكم‪.‬‬ ‫وأن أقم وجهك للدين حنيفا ‪ :‬أي أمرني ربى أن أقم وجهي للدين السلمي حنيفا أي مائلً عن كل‬ ‫الدبان إليه دون غبره‪.‬‬ ‫مال ينفعك ول يضرك ‪ :‬أي آلهة ل تنفع ول تضر وهي أصنام المشركين وأوثانهم‪.‬‬ ‫إنك إذا من الظالمين‪ :‬أي انك إذا دعوتها من المشركين الظالمين لنفسهم‪.‬‬ ‫فل كاشف له إل هو‪ :‬أي ل مزيل للضّر ومبعده عمن أصابه إل هو عز وجل‪.‬‬ ‫يصيب به‪ :‬أي بالفضل والرحمة‪.‬‬ ‫وهو الغفور الرحيم‪ :‬أي لذنوب عباده التائبين الرحيم بعباده المؤمنين‪.‬‬ ‫معنى اليات ‪:‬‬ ‫بعد أن بين تعالى طريق الهدى وطريق الضلل وأنذر وحذر وواعد وأوعد في اليات السابقة بما‬ ‫ل مزيد عليه أمر رسوله هنا أن يواجه المشركين من أهل مكة وغيرهم بالتقرير التالي فقال‪{ :‬قل‬ ‫يا أيها الناس} أي مشركي مكة والعرب من حولهم {إن كنتم في شك} وريب ‪ 1‬في صحة ديني‬ ‫السلم الذي أنا عليه وأدعو إليه‪{ ،‬فل أعبد الذين تعبدون من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬إن كنتم في شك من صحة ديني فأنا غير شاكٍ في صحته وبطلن دينكم فلذا ل أعبد الذين‬ ‫تعبدون‪ .‬من دون ال‪.‬‬

‫( ‪)2/514‬‬ ‫دون ال} فمجرد شككم في صحة ديني ل يجعلني أعبد أوثانا وأصناما ل تنفع ول تضر‪{ ،‬ولكن‬ ‫أعبد ال} الذي ينفع ويضر‪ ،‬يحيى ويميت‪ ،‬ال الذي يتوفاكم أي يميتكم بقبض أرواحكم فهو الذي‬ ‫يجب أن يعبد ويخاف ويرهب {وأمرت أن أكون من المؤمنين} أي أمرني ربي أن أومن به فأكون‬ ‫من المؤمنين فآمنت وأنا من المؤمنين‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وأن أقم وجهك للدين حنيفا ول تكونن من‬ ‫المشركين} أي وأوحى إليّ ربي آمرا إياي بأن أقيم وجهي لدينه ‪ 1‬الحق فل ألتفت إلى غيره من‬ ‫الديان الباطلة‪ ،‬ونهاني مشددا عليّ أن أكون من المشركين الذين يعبدون معه آلهة أخرى بعد هذا‬

‫العلن العظيم والمفاصلة الكاملة والتعريض الواضح بما عليه أهل مكة من الضلل والخطأ‬ ‫الفاحش‪ ،‬واجه ال تعالى رسوله بالخطاب وهو من باب "إياك أعنى واسمعي يا جاره" فنهاه‬ ‫بصريح القول أن يدعو من دون ال ما ل ينفعه ول يضره وهو كل المعبودات ما سوى ال عز‬ ‫وجل فقال‪{ :‬ول تدع من دون ما ل ينفعك} أي ل يجلب لك نفعا ول يدفع عنك ضرا‪ ،‬ول يضرك‬ ‫بمنع خير عنك‪ ،‬ول بإنزال شربك فإن فعلت بأن دعوت غير ال فإنك إذا من الظالمين‪ ،‬ولما كان‬ ‫دعاء النبي غير ال ممتنعا فالكلم إذا تعريض بالمشركين وتحذير للمؤمنين‪ ،‬وقوله تعالى‪ :‬في‬ ‫خطاب رسوله‪{ :‬وإن يمسسك ال بضر فل كاشف له}‪ 2‬عنك {إل هو} عز وجل‪{ ،‬وإن يردك‬ ‫بخير} من الخيور عافية وصحة رخاء ونصر {فل راد لفضله} أي ليس هناك من يرده عنك بحال‬ ‫من الحوال‪ ،‬وقوله‪{ :‬يصيب}‪ 3‬أي بالفضل والخير والنعمة { من يشاء من عباده} إذ هو الفاعل‬ ‫المختار‪ ،‬يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‪ ،‬وقوله ‪{ :‬وهو الغفور الرحيم} بيان لصفات الجلل‬ ‫والكمال فيه فإنه تعالى يغفر ذنوب التائبين إليه مهما بلغت في العظم‪ ،‬ويرحم عباده المؤمنين مهما‬ ‫كثروا في العدد‪ ،‬وبهذا استوجب العبادة بالمحبة والتعظيم والطاعة والتسليم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‬ ‫‪ -1‬على المؤمن أن ل يترك الحق مهما شك وشكك فيه الناس‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المر بإقامة الوجه ل كناية عن توجه النفس والقبال بها على ال تعالى فل تلتفت راغبة ول‬ ‫راهبة إلى غير ال تعالى‪ ،‬وهذا كإسلم الوجه ل تعالى في آية ‪{:‬ومن يسلم وجهه إلى ال وهو‬ ‫محسن} ولزمه ترك كل دين إلى دين ال عزّ وجل‪.‬‬ ‫‪ 2‬تنكير ضرّ‪ ،‬كتنكير خير يُراد به النوعية الصالحة للقلة والكثرة‪.‬‬ ‫‪ 3‬يقال‪ :‬أصابه بكذا‪ :‬إذا أورده عليه ومسّه به‪.‬‬

‫( ‪)2/515‬‬ ‫‪ -2‬تحريم الشرك ووجوب تركه وترك أهله‪..‬‬ ‫‪ -3‬دعاء غير ال مهما كان المدعو شرك محرم فل يحل أبدا‪ ،‬وإن سموه توسلً‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل يؤمن عبد حتى يوقن أن ما أراده ال له من خير أو شر ل يستطيع أحد دفعه ول تحويله‬ ‫بحال من الحوال‪ ،‬وهو معنى حديث ‪" :1‬ما أصابك لم يكن ليخطئك‪ ،‬وما أخطأك لم يكن‬ ‫ليصيبك"‪.‬‬ ‫ضلّ‬ ‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬ ‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَاءكُمُ ا ْلحَقّ مِن رّ ّب ُكمْ َفمَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِ ِه َومَن َ‬ ‫ح ُكمَ اللّهُ وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ(‬ ‫ك وَاصْبِرْ حَ ّتىَ يَ ْ‬ ‫عَلَ ْيهَا َومَا أَنَاْ عَلَ ْيكُم ِب َوكِيلٍ(‪ )108‬وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ‬

‫‪)109‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫يا أيها الناس ‪ :‬أي يا أهل مكة‪.‬‬ ‫قد جاء الحق‪ :‬أي الرسول يتلو القرآن ويبين الدين الحق‪.‬‬ ‫من اهتدى‪ :‬أي آمن بال ورسوله وعبد ال تعالى موحدا له‪.‬‬ ‫ومن ضل ‪ :‬أي أبى إل الصرار على الشرك والتكذيب والعصيان‪.‬‬ ‫فعليها‪ :‬أي وبال الضلل على نفس الضال كما أن ثواب الهداية لنفس المهتدي‪.‬‬ ‫وما أنا عليكم بوكيل ‪ :‬أي بمجبر لكم على الهداية وإنما أنا مبلغ ونذير‪.‬‬ ‫واصبر حتى يحكم ال‪ :‬أي في المشركين بأمره‪.‬‬ ‫خير الحاكمين‪ :‬أي رحمة وعدلً وإنفاذا لما يحكم به لعظيم قدرته‪.‬‬ ‫معنى اليتين‪:‬‬ ‫هذا العلن الخير في هذه السورة يأمر ال تعالى رسوله أن ينادى المشركين بقوله‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا الكلم مستأنف يحمل إعلنا عظيما لهل مكة أ ّولً‪ ،‬وللناس كافّة ثانيا مفاده‪ :‬مجيئهم‬ ‫الرسول محمد صلى ال عليه وسلم بالحق من ربهم وهو الدين السلمي فمن دخل فيه اهتدى إلى‬ ‫طريق سعادته ومن أعرض عنه ضل طريق نجاته وسعادته‪.‬‬

‫( ‪)2/516‬‬ ‫{يا أيها الناس} وهو نداء عام يشمل البشرية كلها وإن أريد به ابتداء أهل مكة {قد جاءكم الحق من‬ ‫ربكم} وهو القرآن يتلوه رسول ال وفيه بيان الدين الحق الذي ل كمال للنسان له إل باليمان به‬ ‫والخذ الصادق بما تضمنه من هدى‪ .‬وبعد فمن اهتدى باليمان والتباع فإنما ثواب هدايته لنفسه‬ ‫طهُر وتتأهل لسعادة الدارين‪ ،‬ومن ضل بالصرار على الشرك والكفر‬ ‫إذ هي التي تزكو وتَ ْ‬ ‫والتكذيب فإنما ضلله أي جزاء ضلله عائد على نفسه إذ هي التي تَتَدَسّى وتخبُث وتتأهل لمقت‬ ‫ال وغضبه وأليم عقابه‪ .‬وما على الرسول المبلغ من ذلك شيء‪ ،‬إذ لم يوكل إليه ربه هداية الناس‬ ‫بل أمره أن يصرح لهم بأنه ليس عليهم بوكيل {وما أنا عليكم بوكيل}‪ 1‬وقوله تعالى‪{ :‬واتبع ما‬ ‫يوحى إليك}‪ 2‬أمر للنبي صلى ال عليه وسلم بالتزام الحق باتباع ما يوحى إليه من الوامر‬ ‫والنواهي وعدم التفريط في شيء من ذلك‪ ،‬ولزم هذا وهو عدم اتباع ما ل يوحى إليه به ربه‬ ‫وقوله‪{ :‬واصبر حتى يحكم ال ‪ 3‬وهو خير الحاكمين} أمر للنبي صلى ال عليه وسلم بالصبر‬ ‫على اتباع الوحي والثبات على الدعوة وتحمل الذى من المشركين إلى غاية أن يحكم ال فيهم‬ ‫وقد حكم فأمره بقتالهم فقتلهم في بدر وواصل قتالهم حتى دانوا ل بالسلم ول الحمد والمنّة‪،‬‬

‫وقوله {وهو خير الحاكمين} ‪ 4‬ثناء على ال تعالى بأنه خير من يحكم وأعدل من يقضي لكمال‬ ‫علمه وحكمته‪ ،‬وعظيم قدرته‪ ،‬وواسع رحمته‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‬ ‫‪ -1‬تقرير أن القرآن والرسول حق والسلم حق‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الجملة داخلة ضمن العلن‪ ،‬وهي أن يعلم أهل مكة والناس من حولهم أن الرسول المبلّغ‬ ‫السلم لهم غير موكل بهدايتهم وأنّ أمر ذلك متروك لهم‪ ،‬فمن شاء اهتدى‪ ،‬ومن شاء ضلّ‪ ،‬وما‬ ‫عليه إل البلغ‪ .‬وقد بلّغ‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا إرشاد للرسول صلى ال عليه وسلم بأن يلزم المنهج الذي وضعه له بطريق الوحي ول‬ ‫يخرج عنه بحال فإِنه سبيل نجاته ونجاة المؤمنين معه‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا إرشاد آخر له صلى ال عليه وسلم بالصبر على إبلغ أهل مكة ومن حولهم دعوة ال حتى‬ ‫يحكم ال بينه وبينهم بنصر رسوله والمؤمنين‪ ،‬وخذلن الكفر والكافرين‪.‬‬ ‫‪ 4‬خير هنا بمعنى أخير اسم تفضيل‪ ،‬وإنما عدل عن أخير إلى خير لكثيرة الستعمال كاسم شرّ‬ ‫أيضا ‪ ،‬وقد يأتي لفظ شر وخير لغير تفضيل‪.‬‬

‫( ‪)2/517‬‬ ‫‪ -2‬تقرير مبدأ أن المرء يشفى ويسعد بكسبه ل بسكب غيره‪1 .‬‬ ‫‪ -3‬وجوب اتباع الوحي اللهي الذي تضمنه القرآن والسنة الصحيحة‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة الصبر وانتظار الفرج من ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/518‬‬ ‫سورة هود‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة هود‬ ‫مكية ‪2‬‬ ‫وآياتها مائة وثلث وعشرون آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫حكِيمٍ خَبِيرٍ(‪َ )1‬ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ الّلهَ إِنّنِي َلكُم مّنْهُ نَذِيرٌ‬ ‫ح ِك َمتْ آيَاُتهُ ثُمّ ُفصَّلتْ مِن لّدُنْ َ‬ ‫الَر كِتَابٌ أُ ْ‬

‫سمّى وَ ُي ْؤتِ ُكلّ ذِي‬ ‫جلٍ مّ َ‬ ‫وَبَشِيرٌ(‪ )2‬وَأَنِ اسْ َتغْفِرُواْ رَ ّبكُمْ ُثمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ُيمَ ّت ْعكُم مّتَاعًا حَسَنًا إِلَى َأ َ‬ ‫ج ُعكُمْ وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ‬ ‫ضلٍ َفضْلَ ُه وَإِن َتوَّلوْاْ فَإِ ّنيَ أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ كَبِيرٍ(‪ )3‬إِلَى الّلهِ مَرْ ِ‬ ‫َف ْ‬ ‫ن َومَا‬ ‫خفُواْ مِنْهُ أَل حِينَ يَسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ َيعْلَمُ مَا يُسِرّو َ‬ ‫ن صُدُورَهُمْ لِيَسْ َت ْ‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪ )4‬أَل إِ ّنهُمْ يَثْنُو َ‬ ‫َ‬ ‫ُيعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ(‪)5‬‬ ‫شرح الكلمات‬ ‫آلر‪ :‬هذا أحد الحروف المقطعة‪ :‬يكتب آلر ويقرأ ألف‪ ،‬لم‪ ،‬را‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شواهد هذه الحقيقة في المراد كثيرة منها‪{ :‬من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} ومنها‪:‬‬ ‫{ول تزر وازرة وزر أخرى} ومنها‪{ :‬لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}‪.‬‬ ‫‪ 2‬واستثنى منها بعضهم آية‪{ :‬وأقم الصلة طرفي النهار‪ } ..‬الية فإنها مدنية وروي أنّ النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬شيبتني هود وأخواتها" ويذكر القرطبي فيقول‪ :‬قال أبو عبد ال‪ :‬فالفزع‬ ‫يورث الشيب‪ ،‬وذلك أن الفزع يذهل النفر فينشف رطوبة الجسد‪ ،‬وتحت كل شعرة منبع ومنه‬ ‫يعرق فإذا نشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر فابيضّ‪ ،‬كما ترى الزرع الخضر‬ ‫بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيضّ‪ ،‬وإنما يبيضّ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده‪.‬‬

‫( ‪)2/518‬‬ ‫أحكمت‪ :‬أي نظمت نظما متقنا ورصفت ترصيفا ل خلل فيه‪.‬‬ ‫فصلت‪ :‬أي ببيان الحكام‪ ،‬والقصص والمواعظ‪ ،‬وأنواع الهدايات‪.‬‬ ‫من لدن ‪ :‬أي من عند حكيم خبير وهو ال جل جلله‪.‬‬ ‫متاعا حسنا ‪ :‬أي بطيب العيش وسعة الرزق‪.‬‬ ‫إلى أجل مسمى‪ :.‬أي موت النسان لجله الذي كتب له‪.‬‬ ‫ويؤت كل ذي فضل ‪ :‬أي ويعط كل ذي عمل صالح فاضل جزاءه الفاضل‪.‬‬ ‫عذاب يوم كبير‪ :‬هو عذاب يوم القيامة‪.‬‬ ‫يثنون صدورهم‪ :‬أي يطأطئون رؤوسهم فوق صدورهم ليستتروا عن ال في زعمهم‪.‬‬ ‫يستغشون ثيابهم‪ :‬يغطون رؤوسهم ووجوههم حتى ل يراهم ال في نظرهم الباطل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى {آلر} هذا الحرف مما هو متشابه ويحسن تفويض معناه إلى ال فيقال‪ :‬ال أعلم بمراده‬ ‫بذلك‪ .‬وإن أفاد فائدتين الولى‪ :‬أن القرآن الكريم الذي تحداهم ال بالتيان بمثله أو بسورة من مثله‬ ‫قد تألف من مثل هذه الحروف‪ :‬آلم‪ ،‬آلر‪ ،‬طه‪ ،‬طس حم‪ ،‬ق‪ ،‬ن‪ ،‬فألفوا مثله فإن عجزتم فاعلموا‬ ‫أنه كتاب ال ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا به‪ ،‬والثانية أنهم لما كانوا ل يريدون سماع‬

‫القرآن بل أمروا باللغو عند قراءته‪ 1 ،‬ومنعوا الستعلن به جاءت هذه الحروف على خلف ما‬ ‫ألفوه في لغتهم واعتادوه في لهجاتهم العربية فاضطرتهم إلى سماعه فإذا سمعوا تأثروا به وآمنوا‬ ‫ولنعم الفائدة أفادتها هذه الحروف المقطعة‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {كتاب ‪ 2‬أحكمت آياته} أي المؤلف من هذه الحروف كتاب عظيم أحكمت آياته أي‬ ‫رصفت ترصيفا ونظمت تنظيما متقنا ل خلل فيها ول في تركيبها ول معانيها‪ ،‬وقوله‪{ :‬ثم فصلت}‬ ‫أي بين ما تحمله من أحكام وشرائع‪ ،‬ومواعظ وعقائد‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهده في قوله تعالى من سورة (فصلت )‪{:‬وقال الذين كفروا ل تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه‬ ‫لعلكم تغلبون}‪.‬‬ ‫‪ 2‬التنكير في {كتاب} للتفخيم والتعظيم‪ ،‬والحكام أصله‪ :‬إتقان الصنعة مشتق من الحكمة التي هي‬ ‫وضع الشيء في موضعه ء فإحكام اليات‪ :‬سلمتها من الخلل‪ :‬التي تعرض لنوعها كمخالفة‬ ‫الواقع‪ ،‬والخلل في اللّفظ أو في المعنى‪.‬‬

‫( ‪)2/519‬‬ ‫وآداب وأخلق بما ل نظير له في أي كتاب سبق‪ ،‬وقوله ‪{ :‬من لدن حكيم خبير} أي تولى‬ ‫تفصيلها حكيم خبير‪ ،‬حكيم في تدبيره وتصرفه‪ ،‬حكيم في شرعه وتربيته وحكمه وقضائه‪ ،‬خبير‬ ‫بأحوال عباده وشؤون خلقه‪ ،‬فل يكون كتابه ول أحكامه ول تفصيله إل المثل العلى في كل ذلك‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬أل تعبدوا إل ال إنني لكم منه نذير وبشير} أي أنزل الكتاب وأحكم آيَ ُة وفصّل أحكامه‬ ‫وأنواع هدايته بأن ‪ 1‬ل تعبدوا إل ال إذ ل معبود حق إل هو ول عبادة تنفع إل عبادته‪ .‬وقوله‬ ‫{إنني لكم منه نذير وبشير} هذا قول رسوله المبلغ عنه يقول أيها الناس إني لكم منه أي من ربكم‬ ‫الحكيم العليم نذير بين يدي عذاب شديد إن لم تتوبوا فتؤمنوا وتوحدوا‪ .‬وبشير أي أبشر من آمن‬ ‫ووحد وعمل صالحا بالجنة في الخرة {وأن استغفروا ‪ 2‬ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا‬ ‫إلى أجل مسمى} أي وبأن تستغفروا ربكم باعترافكم بخطأكم بعبادة غيره‪ ،‬ثم تتوبوا إليه أي‬ ‫ترجعوا إليه باليمان به وبرسوله ووعده ووعيده وطاعته في أمره ونهيه‪ ،‬ولكم جزاء على ذلك‬ ‫وهو أن يمتعكم في هذه الحياة متاعا حسنا بالنعم الوفيرة والخيرات الكثيرة إلى نهاية آجالكم‬ ‫المسماة لكل واحد منكم‪ .‬وقوله {ويؤت كل ذي فضل فضله}‪ 3‬أي ويعط سبحانه وتعالى كل‬ ‫صاحب فضل في الدنيا من بر وصدقة وإحسان فضله تعالى يوم القيامة في دار الكرامة الجنة دار‬ ‫البرار‪ .‬وقوله‪{ :‬وإن تولوا} أي تعرضوا عن هذه الدعوة فتبقوا على شرككم وكفركم {فإني أخاف‬ ‫عليكم عذاب يوم كبير} وهو عذاب يوم القيامة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إلى ال مرجعكم} يخبرهم تعالى‬ ‫بعد أن أنذرهم عذاب يوم القيامة بأن مرجعهم إليه تعالى ل محالة فسوف يحييهم بعد موتهم‬

‫ويجمعهم عنده ويجزيهم بعدله ورحمته {وهو على كل شيء قدير} ومن ذلك إحياؤهم بعد موتهم‬ ‫ومجازاتهم السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها وهذا هو العدل والرحمة اللذان ل نظير لهما‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فالباء سببية‪ ،‬وأن‪ :‬تفسيرية‪ ،‬إذ لو سأل سائل فقال‪ :‬لم أحكمت اليات ثم فُصلت؟ لكان الجواب‪:‬‬ ‫بأن ل يعبد إل ال وأن يُستغفر وان يتاب إليه تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن قيل‪ :‬لم قدّم الستغفار عن التوبة؟ فالجواب‪ :‬بأن العبد ل يستغفر إلّ إذا علم أنه أذنب‪ ،‬ول‬ ‫يتوب العبد حتى يعلم أنه مذنب وعندها يتوب فهذا سرّ تقديم الستغفار عن التوبة‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا كقوله تعالى ‪{ :‬ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله} فالفضل الوّل من العبد‪،‬‬ ‫وهو العمل الصالح‪ ،‬والفضل الثاني من الرّب وهو دخول الجنة‪.‬‬

‫( ‪)2/520‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬أل إنهم يثنون ‪ 1‬صدورهم ليستخفوا منه} هذا النوع من السلوك الشائن الغبي كان‬ ‫بعضهم يثني صدره أي يطأطىء رأسه ويميله على صدره حتى ل يراه الرسول صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬وبعضهم يفعل ذلك ظنا منه أنه يخفي نفسه عن ال تعالى وهذا نهاية الجهل‪ ،‬وبعضهم يفعل‬ ‫ذلك بغضا للرسول صلى ال عليه وسلم حتى ل يراه فرد تعالى هذا بقوله‪{ :‬أل حين يستغشون‬ ‫ثيابهم} أي يتغطون بها {يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} فل معنى لستغشاء‬ ‫الثياب استتارا بها عن ال تعالى فإن ال يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما تخفي صدورهم وإن كانوا‬ ‫يفعلون ذلك بغضا‪ 2‬للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبئس ما صنعوا وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم‬ ‫عليم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مظهر من مظاهر إعجاز القرآن وهو أنه مؤلف من الحروف المقطعة ولم تستطع العرب‬ ‫التيان بسورة مثله‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان العلة في إنزال الكتاب وأحكام آية وتفصيلها وهي أن يعبد ال تعالى وحده وأن تستغفره‬ ‫المشركون ثم يتوبون إليه ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب التخلي عن الشرك أول‪ ،‬ثم العبادة الخالصة ثانيا‪.‬‬ ‫‪ -4‬المعروف ل يضيع عند ال تعالى إذا كان صاحبه من أهل التوحيد {ويؤت ‪ 3‬كل ذي فضل‬ ‫فضله} ‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان جهل المشركين الذين كانوا يستترون عن ال برؤوسهم وثيابهم ‪.4‬‬ ‫‪ -6‬مرجع الناس إلى ربهم شاءوا أم أبوا والجزاء عادل ول يهلك على ال إل هالك‪.‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬روي عن ابن عباس رضي ال عنه أنه قال‪ :‬يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة‬ ‫ويظهرون خلفه‪ ،‬ونزلت في الخنس بن شريق وكان رجلً حلو الكلم حلو المنطق يلقى رسول‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء‪ ،‬وقيل نزلت في بعض المنافقين‬ ‫كان أحدهم إذا مرّ به الرسول صلى ال عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى‬ ‫وجهه كي ل يراه الرسول صلى ال عليه وسلم فيدعوه إلى اليمان‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل مانع من توجيه الية إلى هذا إذ مازال الناس إلى اليوم‪ ،‬إذا كرهوا الداعية إلى ال تعالى ل‬ ‫يحبون أن يروه أو يسمعوا صوته وقد يثنون صدورهم ويغطون وجوههم حتى ل يروه بغضا له‬ ‫وكرها‪ .‬وال عليم خبير‪.‬‬ ‫‪ 3‬الثني ‪ :‬الطيّ‪ ،‬طوى الثوب إذ ثناء‪ ،‬وهو مأخوذ من جعل الواحد اثنين‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬يطأطئون رؤوسهم على صدورهم ويتغطون بثيابهم إذ روي أن المشرك كان يدخل بيته‬ ‫ويرخي الستر عليه‪ ،‬ويستغشي ثوبه ويحنى ظهره ويقول‪ :‬هل يعلم ال ما في قلبي؟ وذلك لجهلهم‬ ‫بعظمة ال تعالى وقدرته وعلمه‪.‬‬

‫( ‪)2/521‬‬ ‫الجزء الثاني عشر‬ ‫عهَا ُكلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ(‪)6‬‬ ‫َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ ِإلّ عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ ُمسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ‬ ‫عمَلً‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ َوكَانَ عَ ْرشُهُ عَلَى ا ْلمَاء لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ‬ ‫وَ ُهوَ الّذِي خَلَق ال ّ‬ ‫وَلَئِن قُ ْلتَ إِ ّنكُم مّ ْبعُوثُونَ مِن َبعْدِ ا ْل َموْتِ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ هَذَا ِإلّ سِحْرٌ مّبِينٌ(‪ )7‬وَلَئِنْ أَخّرْنَا‬ ‫سهُ َألَ َيوْمَ يَأْتِيهِمْ لَ ْيسَ َمصْرُوفًا عَ ْنهُمْ وَحَاقَ ِبهِم مّا‬ ‫عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابَ إِلَى ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ لّ َيقُولُنّ مَا يَحْبِ ُ‬ ‫كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْ ِزؤُونَ(‪)8‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫من دابّة ‪ :‬أي حيّ يدبّ على الرض أي يمشي من إنسان وحيوان‪.‬‬ ‫مستقرها ‪ :‬أي مكان استمرارها من الرض‪.‬‬ ‫ومستودعها ‪ :‬أي مكان استيداعها قبل استقرارها كأصلب الرجال وأرحام النساء‪.‬‬ ‫في كتاب مبين ‪ :‬أي اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫في ستة أيام‪ :‬أي الحد والثنين والثلثاء والربعاء والخميس والجمعة‪.‬‬ ‫وكان عرشه على الماء‪ :‬إذ لم يكن قد خلق شيئا من المخلوقات سواه‪ ،‬والماء على الهواء‪.‬‬ ‫ليبلوكم‪ :‬أي ليختبركم ليرى أيكم أحسن عملً‪.‬‬

‫إلى أمة معدودة‪ :‬أي إلى طائفة من الزمن معدودة‪.‬‬ ‫وحاق بهم‪ :‬أي نزل وأحاط بهم‪.‬‬

‫( ‪)2/522‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أخبر تعالى في الية السابقة انه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريرا‬ ‫لما تضمنته الية السابقة فقال عز وجل {وما من دابّة في الرض}‪ 1‬من إنسان يمشي على‬ ‫الرض أو حيوان يمشي عليها زاحفا أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إل وقد‬ ‫تكفّل ال برزقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه‪ ،‬وهو تعالى يعلم كذلك‬ ‫مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الرض‪ ،‬كما يعلم أيضا مستودعها بعد موتها إلى أن‬ ‫تبعث بيوم القيامة‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {كل في كتاب مبين} أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دوّن قبل خلقه‬ ‫في كتاب المقادير اللوح المحفوظ‪ ،‬وقوله تعالى في الية (‪{ )7‬وهو الذي خلق السموات والرض‬ ‫في ستة أيام وكان عرشه على الماء} أي أوجد السموات السبع والرض وما فيها في ظرف ستة‬ ‫أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا‪ ،‬وجائز أن تكون كاليام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة‬ ‫الحج {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} وقوله {وكان عرشه على الماء} ‪ 2‬أي خلق‬ ‫العرش قبل خلق السموات والرض‪ ،‬والعرش‪ :‬سرير المُلك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه‬ ‫الحياة‪ ،‬وقوله {على الماء} إذ لم يكن أرض ول سماء فلم يكن إل الماء كالهواء‪ .‬وقوله تعالى‬ ‫{ليبلوكم أيكم أحسن ‪ 3‬عملً} أي خلقكم وخلق كل شيء لجلكم‪ ،‬ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن‬ ‫عمل أي بإخلصة ل تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه ال وبيّنه رسوله‪.‬‬ ‫هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها عُلم أنه ل يخفى عليه‬ ‫من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني‬ ‫صدورهم واستغشاء ثيابهم أل ساء ما يعملون‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {ولئن قلت}‪ -‬أي أيها الرسول للمشركين‪ -‬إنكم مبعوثون من بعد الموت‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬وما من دابّة}‪ :‬ما‪ :‬نافية‪ ،‬ومن‪ :‬مزيدة لتقوية النفي ليكون أكثر شمولً‪ ،‬والتقدير‪ :‬وما دابة في‬ ‫الرض إلّ على ال رزقها أي‪ :‬تكفّل ال برزقها فضل منه ومنّة‪.‬‬ ‫‪ 2‬روى البخاري في حديث منه‪ :‬قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬كان ال ولم يكن شيء غيره وكان‬ ‫عرشه على الماء ثم خلق السماوات والرض وكتب في الذكر كل شيء"‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال مقاتل‪ :‬أيكم اتقى ل‪ ،‬وقال ابن عباس رضي ال عنه أيكم أعمل بطاعة ال عزّ وجلّ‪،‬‬

‫وروي عن ابن عمر رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم تل {أيكم أحسن عمل} قال‪:‬‬ ‫أيّكم أحسن عقل وأروع عن محارم ال وأسرع في طاعة ال‪ ،‬ولو صحّ هذا الخبر لكان أتمّ‬ ‫وأجمع‪ ،‬وقال الفضيل‪ :‬أحسن العمل‪ :‬أخلصه وأصوبه‪ .‬وهو كما قال‪.‬‬

‫( ‪)2/523‬‬ ‫أي مخلوقون خلقا جديدا ومبعوثون من قبوركم لمحاسبتكم ومجازاتكم بحسب أعمالكم في هذه‬ ‫الحياة الدنيا {ليقولن الذين كفروا} أي عند سماع أخبار الحياة الثانية وما فيها من نعيم مقيم‪،‬‬ ‫وعذاب مهين {إن هذا إل سحر مبين} أي ما يقوله محمد صلى ال عليه وسلم من هذا الكلم ما‬ ‫هو إل سحر مبين يريد به صرف الناس عن ملذاتهم‪ ،‬وجمعهم حوله ليترأس عليهم ويخدموه‪،‬‬ ‫وهو كلم باطل وظن كاذب وهذا شأن الكافر‪ ،‬وقوله تعالى في الية (‪{ )8‬ولئن أخرنا عنهم‬ ‫العذاب إلى أمة معدودة}‪ 1‬أي ولئن أخرنا أي أرجأنا ما توعدناهم به من عذاب ألى أوقات زمانية‬ ‫معدودة الساعات واليام والشهور والعوام {ليقولن ما يحبسه} أي شيء حبس العذاب يقولون هذا‬ ‫إنكارا منهم واستخفافا قال تعالى {أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} أي ليس هناك من يصرفه‬ ‫ويدفعه عنهم بحال من الحوال‪{ ،‬وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} أي ونزل بهم العذاب الذي‬ ‫كانوا به يستهزئون بقولهم‪ :‬ما يحبسه!!؟‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬سعة علم ال تعالى وتكفله بأرزاق ‪ 2‬مخلوقاته من إنسان وحيوان‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان خلق الكوان‪ ،‬وعلة الخلق‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ البعث الخر بعد تقرير اللوهية ل تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل ينبغي الغترار بإمهال ال تعالى لهل معصيته‪ ،‬فإنه قد يأخذهم فجأة وهم ل يشعرون‪.‬‬ ‫حمَةً ُثمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنّهُ لَيَئُوسٌ َكفُورٌ(‪ )9‬وَلَئِنْ أَ َذقْنَاهُ َن ْعمَاء َب ْع َد ضَرّاء‬ ‫وَلَئِنْ أَ َذقْنَا الِنْسَانَ مِنّا َر ْ‬ ‫__________‬ ‫‪( 1‬إلى أمّة)‪ :‬أي‪ :‬إلى أجل معدود وحين معلوم‪ ،‬فالمّة هنا‪ :‬المدّة‪ ،‬ولفظ المة يطلق على معانٍ‬ ‫منها‪ :‬الجماعة‪ ،‬وسميت مجموعة السنين أمّة لجتماعها‪ .‬والمّة‪ :‬أتباع أحد النبياء والمّة‪ ،‬الملّة‬ ‫والدين‪ ،‬والمّة‪ :‬الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل لحاتم الصمّ‪ :‬من أين تأكل؟ فقال من عند ال‪ ،‬فقيل له‪ :‬ال ينزل لك دنانير ودراهم من‬ ‫السماء؟ فقال‪ :‬كأنّ ماله إلّ السماء! يا هذا‪ :‬الرض له والسماء له‪ ،‬فإن لم يؤتني رزقي من‬ ‫السماء ساقه لي من الرض‪ ،‬وأنشد يقول‪:‬‬ ‫وكيف أخاف الفقر وال رازقي ‪ ...‬ورازق هذا الخلق في العسر واليسر‬

‫تكفل بالرزاق للخلق كلهم ‪...‬‬ ‫وللضب في البيداء وللحوت في البحر‬

‫( ‪)2/524‬‬ ‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ ُأوْلَ ِئكَ‬ ‫ن صَبَرُو ْا وَ َ‬ ‫مَسّتْهُ لَ َيقُولَنّ َذ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي إِنّهُ َلفَرِحٌ فَخُورٌ(‪ِ )10‬إلّ الّذِي َ‬ ‫َلهُم ّم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ كَبِيرٌ(‪)11‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أذقنا النسان‪ :‬أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة‪.‬‬ ‫ثم نزعناها منه ‪ :‬أي سلبناها منه‪.‬‬ ‫يؤوس كفور‪ :‬أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر‪.‬‬ ‫نعماء بعد ضراء ‪ :‬أي خيرا بعد شر‪.‬‬ ‫السيئات‪ :‬جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب‪.‬‬ ‫فرح فخور ‪ :‬كثير الفرح والسرور والبطر‪.‬‬ ‫صبروا ‪ :‬أي على الضراء والمكاره‪.‬‬ ‫مغفرة ‪ :‬أي لذنوبهم‪.‬‬ ‫وأجر كبير‪ :‬أي الجنة دار البرار‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أن النسان ‪ 1‬الذي لم يستنر بنور اليمان ولم يتحل بصالح العمال إن أذاقه ال‬ ‫تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن‪ ،‬ثم نزعها منه لمر أراده ال تعالى {إنه} أي‬ ‫ذلك النسان {ليؤوس}‪ 2‬أي كثير اليأس والقنوط {كفور} لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد‬ ‫أنعم به عليه‪.‬‬ ‫وقوله {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء} أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن‬ ‫بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض {ليقولن} بدل أن يحمد ال ويشكره على إسعاده بعد‬ ‫شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحا {ذهب السيئات عني‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬النسان هنا‪ :‬اسم جنس يشمل كل إنسان كافر‪ ،‬وإن قيل‪ :‬إن الية في كافر معيّن‪ ،‬وهو الوليد‬ ‫بن المغيرة‪ ،‬أو عبدال بن أبي أميّة‪ ،‬إذ العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪.‬‬ ‫‪ 2‬هو من باب‪ :‬فحل بفعل يئس ييأس بأسا فهو آيس‪ ،‬وللمبالغة‪ :‬يؤوس أي‪ :‬كثير اليأس الذي هو‪:‬‬ ‫القنوط بانقطاع الرجاء‪ ،‬وجمله‪{ :‬إنه ليؤوس كفور}‪ :‬جواب القسم في قوله‪{ :‬ولئن أذقنا النسان}‬ ‫الخ‪.‬‬

‫( ‪)2/525‬‬ ‫إنه لفرح} أي كثير السرور {فخور} كثير الفخر والمباهاة‪ ،‬وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر‬ ‫والمعاصي‪ ،‬أما النسان المؤمن المطيع ل ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر‪،‬‬ ‫وإن أصابته ضراء صبر‪ ،‬وذلك لما في قلبه من نور اليمان وفي نفسه من زكاة العمال‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنه قوله تعالى {إل الذين ‪ 1‬صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة}‪ 2‬أي لذنوبهم‬ ‫{وأجر كبير} عند ربهم وهو الجنة دار السلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬أن النسان قبل أن يطهر باليمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والنحطاط النفسي‪.‬‬ ‫‪ -2‬ذم اليأس والقنوط ‪ 3‬وحرمتهما‪.‬‬ ‫‪ -3‬ذم الفرح بالدنيا والفخر بها‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة‪.‬‬ ‫ك َوضَآئِقٌ بِ ِه صَدْ ُركَ أَن َيقُولُواْ َلوْلَ أُن ِزلَ عَلَيْهِ كَنزٌ َأوْ جَاء َمعَهُ‬ ‫فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ‬ ‫سوَرٍ مّثْلِهِ‬ ‫شيْءٍ َوكِيلٌ(‪ )12‬أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُواْ ِبعَشْرِ ُ‬ ‫مََلكٌ إِ ّنمَا أَنتَ نَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫طعْتُم مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ(‪ )13‬فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ َل ُكمْ فَاعَْلمُواْ أَ ّنمَا‬ ‫ت وَادْعُواْ مَنِ اسْ َت َ‬ ‫ُمفْتَرَيَا ٍ‬ ‫أُن ِزلِ ِبعِلْمِ الّل ِه وَأَن لّ إِلَهَ ِإلّ ُهوَ َف َهلْ أَنتُم مّسِْلمُونَ(‪)14‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬يعني المؤمنين مدحهم بالصبر على الشدائد وهو استثناء من لفظ النسان الذي هو بمعنى‬ ‫الناس‪ ،‬فالستثناء متصل وليس بمنقطع‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أولئك لهم مغفرة} مبتدأ وخبر‪{ ،‬وأجر كبير } أجر‪ :‬معطوف‪ ،‬وكبير‪ :‬نعت‪.‬‬ ‫‪ 3‬لقول ال تعالى ‪{ :‬إنه ل ييأس من روح ال إلّ القوم الكافرون}‪.‬‬

‫( ‪)2/526‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فلعلك ‪ :‬للستفهام النكاري أي ل يقع منك ترك ول يضق صدرك‪.‬‬ ‫ضائق به صدرك ‪ :‬أي بتلوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا‪.‬‬ ‫كنز ‪ :‬مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك‪.‬‬ ‫وكيل‪ :‬أي رقيب حفيظ‪.‬‬

‫افتراه‪ :‬اختلقه وكذبه‪.‬‬ ‫من استطعتم‪ :‬من قدرتم على دعائهم لعانتكم‪.‬‬ ‫فهل أنتم مسلمون‪ :‬أي أسلموا ل بمعنى انقادوا لمره وأذعنوا له‪.‬‬ ‫معني اليات‪:‬‬ ‫بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صلى ال عليه وسلم بأن يحول لهم جبال مكة ذهبا في‬ ‫اقتراحات منها لول أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها‬ ‫قال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم {فلعلك نارك بعض ما يوحى إليك}‪ 1‬أي ل تتلوه على‬ ‫المشركين ول تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه {وضائق به صدرك} أي بالقرآن‪ ،‬كراهة أن‬ ‫تواجههم به فيقولوا {لول أنزل عليه كنز}‪ 2‬أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال ال له‬ ‫{أو جاء معه ملك} يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فل ينبغي أن يكون ذلك منك أي فبلغ‬ ‫ول يضق صدرك {إنما أنت ‪ 3‬نذير} أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي‪ ،‬وال الوكيل‬ ‫على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت فليس عليك من ذلك شيء‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {أم يقولون افتراه} أي بك يقولون افتراه أي افترى القرآن وقاله من نفسه بدون ما‬ ‫أوحي إليه‪ ،‬قل في الرد عليهم {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم}‪ 4‬دعوتهم‬ ‫لعانتكم {إن كنتم صادقين} في دعواكم أني افتريته‪ ،‬فإن لم تستطيعوا ولن‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬فلعلك‪ }..‬الخ كلم معناه‪ :‬الستفهام أي‪ :‬هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما سألوك؟ إذ ورد‬ ‫أنهم قالوا له‪ :‬لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لتبعناك‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬هل فهي للتحضيض وليست للمتناع‪.‬‬ ‫‪ 3‬القصر هنا إضافي إذ معناه أنه مقصور على النذار وليس عليه هداية القلوب‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬كالكهنة والعوان والصنام إذ يعتقدون أنها تنصرهم وتدفع عنهم وإل لما عدوها مع ال‬ ‫تعالى‪.‬‬

‫( ‪)2/527‬‬ ‫تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له‪.‬‬ ‫وقوله {فإن لم يستجيبوا لكم}‪ 1‬أي قل لهم يا رسولنا فإن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه‬ ‫وعجزتم {فاعلموا أنما أنزل بعلم ال} ‪ 2‬أي أنزل القرآن متلبسا بعلم ال وذلك أقوى برهان على‬ ‫أنه وحيه وتنزيله {وأن ل إله إل هو}‪ 3‬أي وأنه ل إله إل ال ول معبود بحق سواه‪ ،‬وأخيرا {فهل‬ ‫أنتم مسلمون} أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم‪ ،‬وذلك خير لكم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان ولية ال لرسوله وتسديده له وتأييده‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن الرسول صلى ال عليه وسلم لَمْ ُيكَّلفْ هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم‬ ‫وعصيانهم‪ ،‬وعلى ال تعالى بعد ذلك مجازاتهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬تحدي ال تعالى منكري النبوة والتوحيد بالتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت‬ ‫عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلم ال ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله وأن ال ل إله إل هو‪.‬‬ ‫خسُونَ(‪ُ )15‬أوْلَ ِئكَ الّذِينَ‬ ‫عمَاَلهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَ يُبْ َ‬ ‫مَن كَانَ يُرِيدُ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُن َوفّ إِلَ ْيهِمْ أَ ْ‬ ‫طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪َ )16‬أ َفمَن كَانَ عَلَى‬ ‫لَيْسَ َلهُمْ فِي الخِ َرةِ ِإلّ النّا ُر وَحَبِطَ مَا صَ َنعُواْ فِيهَا وَبَا ِ‬ ‫حمَةً ُأوْلَ ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه َومَن َي ْكفُرْ ِبهِ‬ ‫بَيّنَةٍ مّن رّبّ ِه وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّ ْن ُه َومِن قَبِْلهِ كِتَابُ مُوسَى َإمَامًا وَرَ ْ‬ ‫‪4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستجابة هنا‪ :‬بمعنى الجابة والسين والتاء فيه للتأكيد‪.‬‬ ‫‪ 2‬العلم ‪ :‬العتقاد اليقيني‪ ،‬أي ‪ :‬فأيقنوا أنّ القرآن ما أنزل إلّ بعلم ال أي ‪ :‬ملبسا له‪.‬‬ ‫‪ 3‬معطوف على جملة ‪{ :‬فاعلموا أنما أنزل بعلم ال} أي ‪ :‬واعلموا أيضا موقنين أنه ل إله إل‬ ‫ال‪ .‬حيث قامت الحجة عليهم بعجز آلهتهم عن التيان بعشر سور من مثل القرآن‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى مسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬والذي نفس محمد بيده ل يسمع بي أحد من هذه‬ ‫المة يهودي ول نصراني ول يؤمن بالذي أرسلت به إل كان من أهل النار"‪.‬‬

‫( ‪)2/528‬‬ ‫ك وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَ ُي ْؤمِنُونَ(‬ ‫ن الَحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ فَلَ َتكُ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِن رّ ّب َ‬ ‫مِ َ‬ ‫‪)17‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫زينة الحياة الدنيا‪ :‬المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب‪.‬‬ ‫توفّ إليهم ‪ :‬نعطهم نتاج أعمالهم وافيا‪.‬‬ ‫ل يبخسون ‪ :‬أي ل ينقصون ثمرة أعمالهم‪.‬‬ ‫وحبط‪ :‬أي بطل وفسد‪.‬‬ ‫على بينة من ربه‪ :.‬أي على علم يقيني‪.‬‬ ‫ويتلوه شاهد منه ‪ :‬أي يتبعه‪.‬‬ ‫كتاب موسى ‪ :‬أي التوراة‪.‬‬

‫ومن يكفر به ‪ :‬أي بالقرآن‪.‬‬ ‫فالنار موعده ‪ :‬أي مكان وعد به فهو ل محالة نازل به‪.‬‬ ‫في مرية منه ‪ :‬أي في شك منه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أقام ال تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن التيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات‬ ‫حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمدا صلى ال عليه وسلم قد افتراه ولم يبق إل أن يختار‬ ‫المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الخرة الجنة أو النار فقال تعالى {من كان يريد الحياة ‪ 1‬الدنيا‬ ‫وزينتها} من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش ‪{ .‬نوف ‪ 2‬إليهم أعمالهم فيها} ‪3‬‬ ‫نعطهم نتاج عملهم فيها وافيا غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ول يبخسهم‬ ‫عملهم لكفرهم وتركهم‪ ،‬ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬ممن رفضوا السلم وأبوه بعد قيام الحجة على بطلن ما هم عليه من الكفر ورضوا‬ ‫بالكفر بإرادة الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫‪ 2‬التوفية‪ :‬إعطاء الشيء وافيا‪ ،‬وعُدي نوف‪ :‬بإلى لنه مضمن معنى‪ :‬نوصل‪.‬‬ ‫‪ 3‬لفظ {أعمالهم} يشمل العمال الخيرية والعمال الدنيوية فالعمال الخيرية كصلة الرحم‪ ،‬وقرى‬ ‫الضيف‪ ،‬والحسان إلى الفقراء والمساكين‪ ،‬فهذه ل يحرمها الكافر بل يجد جزاءها في الدنيا‪:‬‬ ‫بركة في ماله وولده وحياته‪ ،‬وأمّا العمال الدنيوية كالصناعة والزراعة والتجارة فهذه يوفى قدر‬ ‫جهده فيها‪ ،‬فبقدر ما يبذل من طاقة يحصل له من الكسب والربح والنتاج فكفره ل يمنعه نتاج‬ ‫عمله بقدر ما يبذل فيه‪.‬‬

‫( ‪)2/529‬‬ ‫إلى ربهم‪ .‬هلكوا كافرين ليس لهم إل النار {وحبط ما صنعوا}‪ 1‬في هذه الدار من أعمال وبطل ما‬ ‫كانوا يعملون‪.‬‬ ‫هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ 15‬والثانية ‪ )16‬وهو قوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا‬ ‫وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون‪ ،‬أولئك الذين ليس لهم في الخرة إل النار‬ ‫وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )17‬أفمن كان على‬ ‫بينة من ربه}‪ 2‬بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الدلة والبراهين على توحيد ال ونبوة‬ ‫رسوله‪ ،‬وعلى المعاد الخر‪ ،‬وقوله {ويتلوه شاهد منه} أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان‬ ‫الصدق الذي ينطق به وكمالته الخُُلقَيّة والروحية حيث نظر إليه إعرابي فقال وال ما هو بوجه‬ ‫كذّاب‪ ،‬ودليل ثالث في قوله {ومن قبله كتاب موسى} أي التوراة {إماما ورحمة} شاهد له حيث‬

‫حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه‬ ‫البينات والدلئل والبراهين من صحة دينه‪ ،‬كمن ل دليل له ول برهان إل التقليد للضلل‬ ‫والمشركين‪ ،‬وقوله {أولئك يؤمنون به} أي أولئك الذين ثبتت لديهم تلك البيّنات والحجج والبراهين‬ ‫{يؤمنون به} أي بالقرآن الحق والنبي الحق والدين الحق‪ .‬وقوله تعالى {ومن يكفر به} أي بالقرآن‬ ‫ونبيه ودينه من الحزاب ‪ 3‬أي من سائر الطوائف والمم والشعوب فالنار موعده‪ ،‬وحسبه جهنم‬ ‫وبئس المصير ‪4‬‬ ‫وقوله تعالى {فل تك في مرية منه}‪ 5‬أي فل تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من‬ ‫الحزاب النار‪ .‬وقوله {إنه الحق من ربك} أي ‪ 6‬القرآن الذي كذّب به المكذبون وما تضمنه من‬ ‫الوعد والوعيد‪ ،‬والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك‪ ،‬إل أن {أكثر الناس ل يؤمنون} ‪7‬‬ ‫وإن ظهرت الدلة ولحت العلم وقويت البراهين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أعمال الكفار في الدنيا خيرية كانت أو دنيوية تذهب في الدار الخرة هباء كقوله تعالى‪:‬‬ ‫{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في عود الضمائر في هذه الية اختلفا كثيرا‪ ،‬وقد اخترنا في التفسير عودها إلى النبي‬ ‫صلى ال عليه وسلم ول مانع من عودها على كل مؤمن صادق اليمان‪ ،‬بقرينة الخبر وهو قوله‪:‬‬ ‫{أولئك يؤمنون به} وهم الفريق الذين أسلموا لمّا شاهدوا الحجج والبراهين‪.‬‬ ‫‪ 3‬أظهرهم‪ :‬المشركون واليهود‪ ،‬والنصارى والصابئة والمجوس‪.‬‬ ‫‪ 4‬لنهم لم يزكوا أنفسهم باليمان والعمل الصالح فلذا فل مأوى لهم إلّ النّار‪.‬‬ ‫ن مؤمن في أن القرآن حق وأنّ ما‬ ‫‪ 5‬الخطاب للنبي صلى ال عليه وسلم ولكل مؤمن أي‪ :‬ل يشك ّ‬ ‫ن مأواهم النار حق‪.‬‬ ‫أخبر به عن الكافرين مِن أ ّ‬ ‫‪ 6‬جملة‪{ :‬انه الحق من ربك} ‪ ،‬مستأنفة مؤكدة لجملة‪{ :‬فل تك في مرية منه}‪.‬‬ ‫‪ 7‬لما سبق في علم ال وما قضى به قوله‪{ :‬لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين}‪.‬‬

‫( ‪)2/530‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ‬ ‫زرع‪ ،‬ويربح إذا اتجر‪ ،‬وينتج إذا صنع‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن الكافر ل ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحا وأن الخسران لزم له‪.‬‬ ‫‪ -3‬المسلمون على بينة من دينهم‪ ،‬وسائر أهل الديان الخرى ل بينة لهم وهم في ظلم التقليد‬

‫وضلل الكفر والجهل‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان سنة ال في الناس وهي أن أكثرهم ل يؤمنون‪.‬‬ ‫شهَادُ َهؤُلء الّذِينَ كَذَبُواْ‬ ‫علَى اللّهِ كَذِبًا ُأوْلَ ِئكَ ُيعْ َرضُونَ عَلَى رَ ّبهِ ْم وَ َيقُولُ الَ ْ‬ ‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ‬ ‫عوَجًا وَهُم‬ ‫عَلَى رَ ّبهِمْ َألَ َلعْنَةُ الّلهِ عَلَى الظّاِلمِينَ(‪ )18‬الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُو َنهَا ِ‬ ‫ض َومَا كَانَ َلهُم مّن دُونِ الّلهِ مِنْ‬ ‫بِالخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ(‪ )19‬أُولَ ِئكَ َلمْ َيكُونُواْ ُمعْجِزِينَ فِي الَ ْر ِ‬ ‫سمْ َع َومَا كَانُواْ يُ ْبصِرُونَ(‪)20‬‬ ‫عفُ َلهُمُ ا ْلعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْ َتطِيعُونَ ال ّ‬ ‫َأوْلِيَاء ُيضَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ‪ :‬أي ل أحد فالستفهام للنفي‪.‬‬ ‫يعرضون على ربهم ‪ :‬أي يوم القيامة‪.‬‬ ‫الشهاد ‪ :‬جمع شاهد وهم هنا الملئكة‪.‬‬ ‫لعنة ال ‪ :‬أي طرده وإبعاده‪.‬‬ ‫على الظالمين ‪ :‬أي المشركين‪.‬‬

‫( ‪)2/531‬‬ ‫سيبل ال ‪ :‬أي السلم‪.‬‬ ‫عوجا ‪ :‬أي معوجة‪.‬‬ ‫معجزين في الرض ‪ :‬أي ال عز وجل أي فائتين بل هو قادر على أخذهم في أيّة لحظة‪.‬‬ ‫من أولياء ‪ :‬أي أنصار يمنعونهم من عذاب ال‪.‬‬ ‫وما كانوا يبصرون‪ :‬ذلك لفرط كراهيتهم للحق فل يستطيعون سماعه‪ ،‬ول رؤيته‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعا من‬ ‫إجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عز وجل {ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا} أي‬ ‫ل أحد في الناس أعظم ظلما من أحد افترى على ال كذبا ما من أنواع ‪ 1‬الكذب وإن قل وقوله‬ ‫{أولئك يعرضون على ربهم} أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلله في‬ ‫عرصات القيامة‪ ،‬ويقول الشهاد من الملئكة شاهدين ‪ 2‬عليهم {هؤلء الذين كذبوا على ربهم} ثم‬ ‫ُيعْلِنُ ُمعْلِنٌ قائلً {أل لعنة ال على ‪ 3‬الظالمين} أي أل بعدا لهم من الجنة وطردا لهم منها إلى نار‬ ‫جهنم‪.‬‬ ‫ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال {الذين يصدون عن سبيل ال}‪ 4‬أي‬ ‫يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين السلمي‪{ ،‬ويبغونها} أي سبيل ال {عوجا} أي معوجه كما‬ ‫يهوون ويشتهون فهم يريدون السلم أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور‪ ،‬ويريدون‬

‫من السلم أن يأذن لهم في عبادة القبور والشجار والحجار إلى غير ذلك‪ ،‬ويضاف إلى هذا‬ ‫ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الخرة‪ .‬قال تعالى {أولئك} أي المذكورون {لم يكونوا معجزين في‬ ‫الرض} أي لم يكن من شأنهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من أنواع كذبهم على ال تعالى‪ :‬زعمهم أنّ له شريكا وولدا‪ ،‬وقولهم في الصنام هؤلء شفعاؤنا‬ ‫عند ال‪ ،‬وتحريمهم ما أحل ال ونسبة ذلك إليه تعالى‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومن الشهاد‪ :‬النبياء والعلماء والمبلغون لدعوة ال تعالى لعباده وفي صحيح مسلم‪" .‬وأما‬ ‫الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلئق هؤلء الذين كذبوا على ربّهم"‪.‬‬ ‫‪ 3‬لعنة ال‪ :‬أي‪ :‬بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها‪.‬‬ ‫‪ 4‬يجوز أن يكون‪{ :‬الذين} مجرورا لمحل نعتا للظالمين‪ ،‬ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه‬ ‫خبر‪ ،‬والمبتدأ محذوف‪ .‬أي‪ :‬هم الذين يصدّون‪.‬‬

‫( ‪)2/532‬‬ ‫ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا ال تعالى في الرض فإنه مدركهم مهما حاولوا الهرب ‪1‬‬ ‫ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم‪ ،‬وليس لهم من دون ال من أولياء أي أنصار يمنعونهم من‬ ‫العذاب متى أنزله بهم‪ ،‬وقوله تعالى {يضاعف لهم العذاب} إخبار منه بأن هؤلء الظالمين‬ ‫يضاعف لهم العذاب يوم القيامة لنهم صدوا غيرهم عن سبيل ال فيعذبون بصدهم أنفسهم عن‬ ‫السلم‪ ،‬وبصد غيرهم عنه‪ ،‬وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم {ما كانوا يستطيعون ‪ 2‬السمع وما‬ ‫كانوا يبصرون} إخبار بحالهم في الدنيا أنهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولهله من الداعين إليه ل‬ ‫يستطيعون سماعه ول رؤيته ول رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬عظم ذنب من يكذب على ال تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه‪.‬‬ ‫‪ -2‬عظم جرم من يصد عن السلم بلسانه أو بحاله‪ ،‬أو سلطانه‪.‬‬ ‫‪ -3‬عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة السلمية لهواه وشهواته بالتأويلت الباطلة والفتاوى‬ ‫غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أن من كره قولً أو شخصا ل يستطيع رؤيته ول سماعه ‪.3‬‬ ‫ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ(‪ )21‬لَ جَرَمَ أَ ّنهُمْ فِي الخِ َرةِ هُمُ‬ ‫سهُ ْم َو َ‬ ‫ُأوْلَ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُ َ‬ ‫عمِلُواْ‬ ‫الَخْسَرُونَ(‪ )22‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنه‪ :‬لم يعجزوني أن آمر الرض فتنخسف بهم‪ ،‬وفي سورة سبأ‬ ‫{أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والرض إن نشأ نخسف بهم الرض أو نسقط‬ ‫عليهم كسفا من السماء}‪.‬‬ ‫‪{ 2‬ما كانوا يستطيعون السمع‪ }..‬قال القرطبي ما‪ :‬في موضع نصب على أن يكون المعنى بما‬ ‫كانوا يستطيعون السمع‪ .‬يُريد أن الباء المحذوفة سببية أي‪ :‬يُضاعف لهم العذاب بسبب أنهم كانوا‬ ‫ل يستطيعون السمع لما ران على قلوبهم من الثام فحجب الثم أسماعهم وأبصارهم‪ ،‬وفي المثل‪:‬‬ ‫حبّك الشيء يعمي ويصم‪ ،‬فحبّهم للكفر والشرك والثام عطّل حواسهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬أقول‪ :‬ما كنت أدرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى‪{ :‬ما كانوا يستطيعون السمع} حتى كان صوت‬ ‫العرب على عهد بطل الشتراكية "عبد الناصر" وأخذ يسبّ ويشتم ويعيّر ويقبّح سلوك كل من لم‬ ‫يوال الشتراكيين فكنت‪-‬وال‪-‬ل أستطيع سماع ما يذيعه‪ ،‬وثَ ّم فهمت معنى الية على حقيقته‪.‬‬

‫( ‪)2/533‬‬ ‫عمَى‬ ‫صحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(‪ )23‬مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ كَالَ ْ‬ ‫ت وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَ ّبهِمْ ُأوْلَ ِئكَ َأ ْ‬ ‫الصّالِحَا ِ‬ ‫سمِيعِ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً َأفَلَ تَ َذكّرُونَ(‪)24‬‬ ‫وَالَصَ ّم وَالْ َبصِي ِر وَال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪ :‬أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء ال تعالى‪.‬‬ ‫ل جرم ‪ :‬أي حقا وصدقا أنهم في الخرة هم الخسرون‪.‬‬ ‫وأخبتوا إلى ربهم‪ :‬أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته‪.‬‬ ‫مثل الفريقين‪ :‬أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين‪.‬‬ ‫أفل تذكرون ‪ :‬أي تتعظون‪ ،‬فتستغفروا ربكم ثم تتوبوا إليه‪.‬؟‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الخرة فقال تعالى {أولئك} أي البعداء {الذين‬ ‫خسروا أنفسهم} حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم‪{ ،‬وضل عنهم ما‬ ‫كانوا يفترون} أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شركاء‪ ،‬وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم‬ ‫قال تعالى‪{ :‬ل جرم}‪ 1‬أي حقا {أنهم في الخرة} أي في دار الخرة {هم الخسرون} أي الكثر‬ ‫خسرانا من غيرهم لنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى‬ ‫الضلل‪ ،‬ويصدونهم عن السلم سبيل الهدى والنجاة من النار‪ .‬ولما ذكر تعالى حال الكافرين‬ ‫ومل انتهوا إليه من خسران‪ .‬ذكر تعالى حال المؤمنين فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}‪2‬‬ ‫أي آمنوا بال وبوعده ووعيده‪ .‬وآمنوا برسول ال وبما جاء به‪ ،‬وعملوا الصالحات التي شرعها‬ ‫ال‬

‫__________‬ ‫‪{ 1‬ل جرم} كلمة‪ :‬جزم ويقين‪ ،‬واختلف في تركيبها وأطهر أقوالهم فيها‪ :‬أن تكون ل‪ :‬حرف نفي‪،‬‬ ‫وجزم‪ :‬بمعنى محالة‪ .‬ويصح معنى الكلمة‪ .‬ل محالة أو‪ :‬ل بدّ أن يكون كذا وكذا‪ ،‬أو لتفسّر بحقا‪،‬‬ ‫ول محالة ولبد‪ ،‬إذ جرم مأخوذ من الجرم الذي هو القطع‪.‬‬ ‫‪ 2‬الموصول‪ :‬اسم إنّ‪ ،‬وآمنوا‪ :‬صلة {وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربّهم} معطوفان على السم‪،‬‬ ‫والخبر ‪{:‬أولئك أصحاب الجنة} وجملة {هم فيها خالدون} جملة بيانية أي مبيّنة لحال أهل الجنة‪.‬‬

‫( ‪)2/534‬‬ ‫تعالى لهم من صلة وزكاة {وأخبتوا إلى ربهم} أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له‬ ‫بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أولئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها {هم فيها خالدون} أي ل‬ ‫يبرحون منها ول يتحولون عنها‪ ،‬هذا ما دلت عليه اليات الثلث أما الية الرابعة (‪ )24‬وهي‬ ‫قوله تعالى {مثل الفريقين كالعمى ‪ 1‬والصم والسميع والبصير هل يستويان مثل}؟ فقد ذكر‬ ‫تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحا للمعنى وتقريرا للحكم فقال {مثل الفريقين}‬ ‫أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالعمى والصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع‬ ‫والبصير‪ .‬وهذا فريق أهل اليمان والتوحيد فهل يستويان مثل أي صفة الجواب ل‪ ،‬لن بين‬ ‫العمى والبصير تباينا كما بين الصم والسميع تباينا فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم‬ ‫وصفا له ول يكون البصر والسمع وصفا له؟ والجواب ل أحد إذا {أفل تذكرون} أي أفل تتعظون‬ ‫بهذا المثل ‪ 2‬وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه‪ ،‬وبكتابه وتعملوا بما‬ ‫فيه؟‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان المقارنات بين الشياء المتضادة للعبرة والتعاظ‪.‬‬ ‫‪ -2‬الكافر ميت موتا معنويا فلذا هو ل يسمع ول يبصر‪ ،‬والمسلم حيّ فلذا هو سميع بصير‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان ورثة دار النعيم وهم أهل اليمان والطاعة‪ ،‬وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم‪.‬‬ ‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ إِنّي َل ُكمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ(‪ )25‬أَن لّ َتعْ ُبدُواْ ِإلّ اللّهَ إِ ّنيَ أَخَافُ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابَ‬ ‫َيوْمٍ أَلِيمٍ(‪َ )26‬فقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن ِق ْومِهِ مَا نَرَاكَ ِإلّ َبشَرًا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ‬ ‫هُمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فريق اليمان وفريق الكفر والشرك‪.‬‬

‫ن الكفار عمي صم‪ ،‬وأنّ المؤمنين يبصرون ويسمعون‪ ،‬فأي‬ ‫‪ 2‬المثل الذي كشف الحقيقة وبيّن أ ّ‬ ‫عاقل يرضى أسوأ الوصفين؟!‬

‫( ‪)2/535‬‬ ‫ضلٍ َبلْ نَظُّنكُمْ كَاذِبِينَ(‪)27‬‬ ‫ي َومَا نَرَى َلكُمْ عَلَيْنَا مِن َف ْ‬ ‫الرّ ْأ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫نوحا ‪ :‬هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه السلم‪.‬‬ ‫إني لكم نذير مبين‪ :‬أي مخوف لكم من عذاب ال بَيّنُ النذارة‪.‬‬ ‫عذاب يوم أليم‪ :‬هو عذابه يوم القيامة‪.‬‬ ‫المل‪ :‬الشراف وأهل الحل والعقد في البلد‪.‬‬ ‫أراذلنا ‪ :1‬جمع أرذل وهو الكبر خسة ودناءة‪.‬‬ ‫بادي الرأي‪ :‬أي ظاهر الرأي‪ ،‬ل عمق عندك في التفكير والتصور للشياء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذه بداية قصة نوح عليه السلم وهي بداية لخمس قصص ‪ 2‬جاءت في هذه السورة سورة هود‬ ‫عليه السلم قال تعالى {ولقد أرسلنا نوحا‪ 3‬إلى قومه إني لكم نذير ‪ 4‬مبين} أي قال لهم إني لكم‬ ‫نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بال وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الوثان‬ ‫والصنام‪ .‬وقوله {أن ل تعبدوا ‪ 5‬إل ال} أي نذير لكم بأن ل تعبدوا إل ال‪ ،‬وتتركوا عبادة غيره‬ ‫من الصنام والوثان وقوله {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم‬ ‫عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم ‪ 6‬وهو عذاب يوم‬ ‫القيامة {فقال المل الذين كفروا من قومه} أي فرد على نوح مل قومه اشرافهم وأهل الحل والعقد‬ ‫فيهم ممن كفروا بال ورسوله فقالوا {ما نراك إل بشرا مثلنا}‪ 7‬أي ل فضل لك علينا فكيف تكون‬ ‫رسولً لنا ونحن مثلك هذا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرذل‪ :‬اسم تفضيل والمفضّل عنه يقال له‪ :‬رذْل ككلب ويجمع على أرذل كأكلب‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا العطف من باب عطف قصّة على قصّة‪ :‬الواو‪ :‬تسمى الواو البتدائية‪.‬‬ ‫‪ 3‬كُسرت‪ :‬إنّ لنّ الرسال فيه معنى القول وإن تكسر بعد القول‪.‬‬ ‫‪ 4‬الِقصّة‪ :‬بكسر القاف والجمع‪ :‬قصص كحجّة وحجج‪ :‬الخبر يروى وتُتَتّبع أجزاؤه بعناية‪،‬‬ ‫والقصص بفتح القاف‪ :‬مصدر قصّ الحديث يقصّه قصا‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذه الجملة مفسّرة لجملة {أرسلنا نوحا} أو لقوله‪{ :‬إني لكم نذير مبين}‪.‬‬

‫‪ 6‬وجائز أن يكون {عذاب يوم أليم} في الدنيا وهو عذاب الطوفان وقد كان‪.‬‬ ‫‪ 7‬مثلنا‪ :‬منصوب على الحال‪.‬‬

‫( ‪)2/536‬‬ ‫أولً وثانيا {وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا} أي سفلتنا من ‪ 1‬أهل المهن المحتقرة كالحياكة‬ ‫والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم ‪ 2‬بادي الرأي أي ظاهر الرأي ل عمق في التفكير ول سلمة‬ ‫في التصور عندك وقولهم {وما نرى لكم علينا من فضل} أي وما نرى لكم علينا من أي فضل‬ ‫تستحقون به أن نصبح أتباعا لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إن نوحا واسمه عبدالغفار أول رسول إلى أهل الرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره‬ ‫من الوثان واللهة الباطلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬قوله أن ل تعبدوا إل ال هو معنى ل إله إلّ ال‬ ‫‪ -3‬التذكير بعذاب يوم القيامة‪.‬‬ ‫صوُمهم الغنياء والشراف والكبراء‪.‬‬ ‫خ ُ‬ ‫‪ -4‬اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء و َ‬ ‫‪ -5‬احتقار أهل الكبر لمن دونهم‪ .‬وفي الحديث "الكبر ‪ 3‬بطر الحق وغمط الناس"‪.‬‬ ‫حمَةً مّنْ عِن ِدهِ َف ُعمّيَتْ عَلَ ْيكُمْ أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا‬ ‫علَى بَيّ َنةٍ مّن رّ ّبيَ وَآتَانِي َر ْ‬ ‫قَالَ يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ َ‬ ‫علَيْهِ مَالً إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَى الّل ِه َومَآ أَنَاْ بِطَا ِردِ الّذِينَ‬ ‫وَأَنتُمْ َلهَا كَارِهُونَ(‪ )28‬وَيَا َقوْمِ ل أَسْأَُلكُمْ َ‬ ‫جهَلُونَ(‪ )29‬وَيَا َقوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدّتهُمْ‬ ‫لقُو رَ ّبهِ ْم وََلكِ ّنيَ أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ‬ ‫آمَنُواْ إِ ّنهُم مّ َ‬ ‫َأفَلَ تَ َذكّرُونَ(‪َ )30‬ولَ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّ ِه َولَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي ‪ :‬اختلف في السفلة فقيل‪ :‬هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاء والسلطين‬ ‫يطلبون الشهادات‪ ،‬وقال مالك‪ :‬السفلة‪ :‬الذين يسبون الصحابة‪ .‬وقال آخر‪ :‬الذين يأكلون على‬ ‫حساب دينهم‪.‬‬ ‫ن ول بساتين ول مصانع‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومنه البادية وهي الراضي الظاهرة ل تحوطها مبا ٍ‬ ‫‪ 3‬الحديث في الصحيح فقد قال صلى ال عليه وسلم "إنّ ال ل يدخل الجنة مَنّ كان في قلبه مثقال‬ ‫ذرّة من كبر" فسئل عن الكبر فقال‪ :‬الكبر‪ :‬بطر الحق وغمط الناس" وبطر الحق ‪ :‬عدم قبوله ‪،‬‬ ‫وغمط الناس ‪ :‬احتقارهم‪.‬‬

‫( ‪)2/537‬‬

‫ك َولَ َأقُولُ لِلّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُ ُن ُكمْ لَن ُيؤْتِ َيهُمُ الّلهُ خَيْرًا اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا‬ ‫أ َعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ َولَ َأقُولُ إِنّي مََل ٌ‬ ‫س ِهمْ إِنّي إِذًا ّلمِنَ الظّاِلمِينَ(‪)31‬‬ ‫فِي أَنفُ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أرأيتم ‪ :‬أي أخبروني‪.‬‬ ‫على بينة من ربي ‪ :‬أي على علم علمنيه ال فعلمت أنه ل إله إل ال‪.‬‬ ‫فعميت عليكم‪ .:‬أي خفيت عليكم فلم تروها‪.‬‬ ‫أنُل ِزمُكمُوها‪ :‬أي أجبركم على قبولها‪.‬‬ ‫بطارد الذين آمنوا ‪ :‬أي بمبعدهم عني ومن حولي‪.‬‬ ‫خزائن ال ‪ :‬التي فيها الفضل والمال‪.‬‬ ‫تزدري أعينكم ‪ :‬تحتقر أعينكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحا قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن‬ ‫كنت على بيّنة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرني به من عبادته وتوحيده‬ ‫والدعوة إلى ذلك‪ .‬وقوله {وآتاني رحمة من عنده} وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته‪{ .‬فعميت‬ ‫عليكم} أنتم ‪ 1‬فلم تروها‪ .‬فماذا أصنع معكم {أنلزمكموها} أي ‪ 2‬أنجبركم أنا ومن آمن بي على‬ ‫رؤيتها واليمان بها والعمل بهداها‪{ ،‬وانتم لها كارهون}‪ 3‬أي والحال أنكم كارهون لها والكاره‬ ‫للشيء ل يكاد يراه ول يسمعه‪ ،‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )27‬أما الية الثانية فإن ال تعالى‬ ‫يخبر أيضا عن قيل نوح لقومه‪{ :‬ويا قوم ل أسألكم عليه مال} أي ل أطلب منكم أجرا على‬ ‫إبلغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها‪{ .‬إن أجري إل على ال} أي ما أجري إل على‬ ‫ال إذ هو الذي كلفنى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء‪{ :‬عميت} بتشديد الميم‪ ،‬وقرأ ورش بتخفيفها‪ ،‬ومعناه‪:‬إنّ الرسالة عميت عليكم فلم‬ ‫تفهموها‪ .‬يقال‪ :‬عميت عن كذا‪ ،‬وعمي عليّ كذا‪ :‬أي‪ :‬لم أفهمه‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أنلزمكموها} أي‪ :‬الرحمة التي هي عبادة ال وحده وترك عبادة سواه والستفهام إنكاري‪ .‬أي‪:‬‬ ‫ما كان لي ذلك والحال أنكم كارهون لها‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال قتادة‪ :‬وال لو استطاع نبي ال نوح عليه السلم للزمها قومه‪ .‬ولكنّه لم يملك ذلك‪.‬‬

‫( ‪)2/538‬‬

‫بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالجر عليها‪ .‬وقوله {وما أنا بطارد المؤمنين} أي وما أنا‬ ‫بمطيعكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم عليّ‪ ،‬إنهم ملقو ربهم‪ ،‬ومحاسبهم ومجازيهم‬ ‫على أعمالهم فكيف يصح مني ابعادهم عن سماع الحق وتعلمه والخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ‬ ‫العبرة بزكاة النفوس وطهارة الرواح بواسطة اليمان والعمل الصالح ل بالشرف والمال والجاه‬ ‫كما تتصورون ولذا فإني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الية الثانية (‪ )28‬ثم قال لهم في‬ ‫الية الثالثة {ويا قوم من ينصرني ‪ 1‬من ال إن طردتهم} أي من هو الذي يرد عنى عذاب ال‬ ‫ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي أقصيت وأبعدت عباده المؤمنين عن سماع الهدى وتعلم‬ ‫الخير ول علة لذلك إل لنهم فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي ل تقدر على رؤية‬ ‫الحق وأهله والداعين إليه‪ .‬ثم قال لهم {أفل تذكرون ‪ }2‬أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم‬ ‫فتثوبوا إلى رشدكم‪ .‬وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده ل شريك له ثم قال لهم‬ ‫في الية الخيرة (‪{ )31‬ول أقول لكم عندي خزائن ال ‪ }3‬ردا على قولهم‪{ :‬وما نرى لكم علينا‬ ‫من فضل} {ول أعلم الغيب} فأعرف ما تخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأبقي هذا‪ ،‬ول أقول إني‬ ‫ملك حتى تقولوا ما نراك إل بشرا مثلنا {ول أقول للذين تزدري أعينكم}‪ 4‬لفقرهم وضعفهم {لن‬ ‫يؤتيهم ال خيرا ال أعلم بما في أنفسهم} أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم‬ ‫طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا‬ ‫حول نوح‪ ،‬وقوله {إني إذا لمن الظالمين} أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم ال‬ ‫خيرا كنت بعد ذلك من الظالمين ‪ 5‬الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬مَنْ يرد عنّي عذابه أن استوجبته بطرد عباده المؤمنين؟ والجواب‪ :‬ل أحد فكيف إذا يسوغ‬ ‫لي أن أطردهم كما ترغبون‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أفل تذكرون} قرىء‪ :‬تذكرون بحذف إحدى التائين وقرىء تذّكرون‪ :‬بتشديد الذال‪ ،‬بإدغام‬ ‫إحدى التائين في الخرى‪ .‬والستفهام للنكار أي‪ :‬ينكر عليهم غفلتهم وجهلهم وعدم تذكرهم‬ ‫ليتّعظوا‪.‬‬ ‫‪ 3‬اخبر عليه السلم بتذل وتواضعه لربّه عزّ وجلّ فنفى عن نفسه القدرة على امتلك خزائن‬ ‫الفضل والمال كما نفي عن نفسه علم الغيب وأن يكون ملكا من الملئكة‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬تحتقر أعينكم‪ .‬والصل‪ :‬تزدريهم‪ ،‬حذفت الهاء والميم لطول السم‪ ،‬والزدراء‪ :‬افتعال من‬ ‫الزري الذي هو الحتقار‪ ،‬وإلصاق العيب فالزدراء أصله الزتراء فقلبت فيه التاء دالً فصار‪:‬‬ ‫الزدراء كما قلبت في ‪ :‬الزدياد‪.‬‬ ‫‪ 5‬في قوله ‪{ :‬من الظالمين} ‪ :‬تعريض بقومه ‪ ،‬فوصفهم بالظلم من حيث ل يشعرون‪.‬‬

‫( ‪)2/539‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ )1‬كُرهُ الشيء يجعل صاحبه ل يراه ول يسمعه ول يفهم ما يقال له فيه‪.‬‬ ‫‪ )2‬كراهية أخذ الجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني‪.‬‬ ‫‪ )3‬وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحرمة احتقارهم وازدرائهم‪.‬‬ ‫‪ )4‬علم الغيب استأثر ال تعالى به دون سائر خلقه إل من علمه ال شيئا منه فإنه يعلمه‪.‬‬ ‫‪ )5‬حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم‬ ‫جدَالَنَا فَأْتَنِا ِبمَا َتعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ(‪ )32‬قَالَ إِ ّنمَا يَأْتِيكُم بِهِ‬ ‫قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فََأكْثَ ْرتَ ِ‬ ‫اللّهُ إِن شَاء َومَا أَنتُم ِب ُمعْجِزِينَ(‪َ )33‬ولَ يَن َف ُعكُمْ ُنصْحِي إِنْ أَرَدتّ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ‬ ‫جعُونَ(‪) 34‬‬ ‫أَن ُي ْغوِ َيكُمْ ُهوَ رَ ّبكُ ْم وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫جادلتنا ‪ :‬أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه‪.‬‬ ‫بما تعدنا ‪ :‬أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه‪.‬‬ ‫إن كنت من الصادقين ‪ :‬أي في دعواك النبوة والخبار عن ال عز وجل‪.‬‬ ‫بمعجزين ‪ :‬أي بغالبين ول فائتين ال تعالى متى أراد ال عذابكم‪.‬‬ ‫نصحي ‪ :‬أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم على الكفر به وبلقائه ورسوله‪.‬‬ ‫أن يغويكم‪ :‬أي يوقعكم في الضلل ويبقيكم فيه فل يهديكم أبدا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في قصة نوح عليه السلم مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه‬

‫( ‪)2/540‬‬ ‫السلم‪ :‬فقال‪{ :‬قالوا يا نوح قد جادلتنا ‪ }1‬أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من‬ ‫الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد‪ .‬فأخبر‬ ‫تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن يقوله‪ :‬فقال {قل إنما يأتيكم‬ ‫به ال} أي بالعذاب ال إن شاء ذلك‪{ .‬وما أنتم بمعجزين} أي فائتين ال ول هاربين منه‪ .‬وقوله‪:‬‬ ‫{ول ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان ال يريد أن يغويكم ‪ 2‬هو ربكم واليه‬ ‫ترجعون}‪ .‬أي إن نصحي ل شفعكم بمعنى أنكم ل تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان ال‬ ‫جل جلله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل‬

‫هؤلء ل يستحقون هداية ال تعالى بل الولى بهم الضللة حتى ‪ 3‬يهلكوا ضالين فيشقوا في الدار‬ ‫الخرة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬هو ربكم وإليه ترجعون} أي فالمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ‬ ‫يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية الجدال لحقاق الحق وإبطال الباطل بشرط السلوب الحسن‪.‬‬ ‫‪ -2‬إرادة ال تعالى قبل كل إرادة وما شاءه ال يكون وما لم يشأه لم يكن‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل ينفع نصح الناصحين ما لم يرد ال الخير للمنصوح له‪.‬‬ ‫ل قول ال أعلم به‪.‬‬ ‫‪ -4‬ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله‪ .‬إ ّ‬ ‫أَمْ َيقُولُونَ‪ 4‬افْتَرَاهُ ُقلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ َفعَلَيّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا ُتجْ َرمُونَ(‪)35‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬جادلتنا} أي‪ :‬خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها‪ ،‬والجدل في لغة العرب‪ :‬المبالغة في‬ ‫الخصومة‪ .‬مأخوذ من الجدل‪ :‬الذي هو شدّة الفتل‪ ،‬وقالوا في الصقر أجدل‪ :‬لشدته في الطيران‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه الرد على بطلن مذهب المعتزلة‪ ،‬والقدرية إذ زعموا أن ال ل يريد أن يعصي العاصي‬ ‫ول أن يكفر الكافر ول أن يغوي الغاوي وتجاهلوا أنه ل يقع في ملك ال إل ما يريد‪ ،‬ول يقع‬ ‫شيء إلّ بإذنه فهو الهادي لمن شاء هدايته‪ ،‬والمضل لمن شاء إضلله‪ ،‬ولكن كُلّ من هدايته‬ ‫وإضلله يتمان حسب سنته في الهداية والضلل فلم يظلم ربّك أحدا‪.‬‬ ‫‪ 3‬ومن فسّر {أن يغويكم} ‪ :‬يهلككم ‪ :‬أراد أنّ الهلك سبب للغواء‪ ،‬فمن أغواه أهلكه‪ ،‬إذ ل يُهلك‬ ‫ل الغاوي‪.‬‬ ‫إّ‬ ‫‪ 4‬شرح هذه الية في (ص ‪ )545‬وأخرت على أنها معترضة لقصة نوح عليه السلم‪.‬‬

‫( ‪)2/541‬‬ ‫حيَ ِإلَى نُوحٍ أَنّهُ لَن ُي ْؤمِنَ مِن َق ْومِكَ ِإلّ مَن قَدْ آمَنَ فَلَ تَبْتَئِسْ ِبمَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ(‪ )36‬وَاصْنَعِ‬ ‫وَأُو ِ‬ ‫علَيْهِ‬ ‫ك َوكُّلمَا مَرّ َ‬ ‫ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَ ُتخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُم ّمغْ َرقُونَ(‪ )37‬وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْل َ‬ ‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ‬ ‫مَلٌ مّن َق ْومِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا َنسْخَرُ مِن ُكمْ َكمَا تَسْخَرُونَ(‪ )38‬فَ َ‬ ‫عذَابٌ ّمقِيمٌ(‪) 39‬‬ ‫حلّ عَلَيْهِ َ‬ ‫عذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَ ِ‬ ‫مَن يَأْتِيهِ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وأوحى إلى نوح ‪ :‬أي اعلم بطريق الوحي الذي هو العلم السريع الخفي‪.‬‬ ‫فل تبتئس ‪ :‬ل تحزن ول يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم‪.‬‬ ‫الفلك ‪ :‬أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها‪.‬‬

‫سخروا منه ‪ :‬أي استهزئوا به كقولهم‪ :‬تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه‪.‬‬ ‫يخزيه ‪ :‬أي يذله ويهينه‪.‬‬ ‫ويحل عليه عذاب مقيم ‪ :‬أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فل يفارقه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫عاد السياق بعد العتراض بالية (‪ )35‬إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى {وأوحى إلى نوح‬ ‫أنه ‪ 1‬لن يؤمن من قومك إل من ‪ 2‬قد آمن}‪ .‬وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إل‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬أنّه} في موضع رفع نائب فاعل لوحي أي‪ :‬أوحي إلى نوح عدم إيمان قومه ومعنى الكلم‪:‬‬ ‫الِياس من إيمانهم‪ ،‬واستدامة كفرهم تحقيقا للوعيد بنزول العذاب بهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أنّ رجلً من قوم نوح مرّ بنوح وهو يحمل طفلهُ فلما رأى الطفل نوحا قال لبيه ناولني‬ ‫حجرا فناوله إياها فرمى بها نوحا فأدماه‪ ،‬فأوحى ال تعالى إلى نوح‪{ :‬أنه لن يؤمن من قومك إلّ‬ ‫من قد آمن‪.}..‬‬

‫( ‪)2/542‬‬ ‫خمسين عاما أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فل تبتئس ‪ 1‬أي ل تغتم ول تحزن‬ ‫بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإني منجيك ومن معك من المؤمنين‬ ‫ومهلكهم بالغرق‪ .‬وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )37‬واصنع الفلك بأعيينا ووحينا} أي وأمرناه أن‬ ‫يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا‪ .‬إذ لم يكن يعرف السفن ول كيفية صنعها‬ ‫وقوله {ول تخاطبني في الذين ظلموا} أي ل تسألني لهم صرف العذاب ول تشفع لهم في تخفيفه‬ ‫عليهم‪ ،‬لنا قضينا بإهلكهم بالطوفان فهم ل محالة مغرقون قوله تعالى {ويصنع الفلك ‪ 2‬وكلما مر‬ ‫عليه مل من قومه سخروا منه} يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره‬ ‫وتركيبه وقومه يمرون عليه وكلما مرّ عليه أشراف القوم وعليتهم يسخرون منه كقولهم يا نوح‬ ‫أصبحت نجارا أو وهل تنقل البحر إليها‪ ،‬أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عليه السلم بقوله‬ ‫{إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} أي منا فسوف تعلمون أي مستقبلً من يأتيه عذاب‬ ‫يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه‪ ،‬ويحل ‪ 3‬عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة‬ ‫وهو عذاب دائم ل ينتهى أبدا‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كراهية الحزن والسى والسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم ال لنوح عليه السلم‪.‬‬

‫‪ -3‬بيان سنة البشر في الستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ 4‬بيان صدق وعد ال رسله‪.‬‬ ‫ح ِملْ فِيهَا‬ ‫حَتّى إِذَا جَاء َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ قُلْنَا ا ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البتئاس‪:‬افتعال من البؤس الذي هو اله ّم والحزن‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫وكم من خليل أو حميم رزأته‬ ‫فلم ابتئس والرزء فيه جليل‬ ‫‪ 2‬اختلفت القوال في مدّة صنع السفينة‪ ،‬أكثرها أنها‪ :‬أربعون سنة‪ .‬وجائز أن تكون أكثر‪ ،‬لن‬ ‫عمل فرد واحد في صنع سفينة يتطلب وقتا طويلً أمّا حجمها فيدل على كبره ما حمل فيها‪ ،‬إذ‬ ‫حمل فيها كل مؤمن ومؤمنة ومن كل زوجين اثنين‪ ،‬فحجمها ل شك أنه واسع كبير‪ ،‬وقيل‪ :‬كانت‬ ‫السفينة ثلث طبقات‪ :‬السفلى للدواب والوحوش‪ ،‬والوسطى للنس‪ ،‬والعليا للطيور‪ .‬وال اعلم‪،‬‬ ‫والحديث عن طول السفينة وعرضها ومادتها كله من باب علم ل ينفع وجهالة ل تضر‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬يجب عليه وينزل به‪.‬‬

‫( ‪)2/543‬‬ ‫ن َومَا آمَنَ َمعَهُ ِإلّ قَلِيلٌ(‪َ )40‬وقَالَ‬ ‫ن وَأَهَْلكَ ِإلّ مَن سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْلقَ ْولُ َومَنْ آمَ َ‬ ‫مِن ُكلّ َز ْوجَيْنِ اثْنَيْ ِ‬ ‫ا ْركَبُواْ فِيهَا ِبسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا َومُرْسَاهَا إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رّحِيمٌ(‪ )41‬وَ ِهيَ تَجْرِي ِب ِهمْ فِي َموْجٍ‬ ‫ل وَنَادَى نُوحٌ ابْنَ ُه َوكَانَ فِي َمعْ ِزلٍ يَا بُ َنيّ ا ْركَب ّمعَنَا َولَ َتكُن مّعَ ا ْلكَافِرِينَ(‪ )42‬قَالَ سَآوِي‬ ‫كَالْجِبَا ِ‬ ‫صمُنِي مِنَ ا ْلمَاء قَالَ لَ عَاصِمَ الْ َيوْمَ مِنْ َأمْرِ الّلهِ ِإلّ مَن رّحِمَ وَحَالَ بَيْ َن ُهمَا ا ْل َموْجُ َفكَانَ‬ ‫إِلَى جَ َبلٍ َي ْع ِ‬ ‫لمْرُ‬ ‫ياَ‬ ‫سمَاء َأقِْلعِي وَغِيضَ ا ْلمَاء َو ُقضِ َ‬ ‫ك وَيَا َ‬ ‫مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ(‪َ )43‬وقِيلَ يَا أَ ْرضُ ابَْلعِي مَاء ِ‬ ‫ي َوقِيلَ ُبعْدا لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ(‪)44‬‬ ‫وَاسْ َت َوتْ عَلَى ا ْلجُو ِد ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فار التنور‪ :‬أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز‪.‬‬ ‫زوجين اثنين ‪ :‬أي من كل ذكر وأنثى من سائر أنواع المخلوقات اثنين‪.‬‬ ‫وأهلك‪ :‬أي زوجتك وأولدك‪.‬‬ ‫مجريها ومرساها ‪:‬أي إجراؤها وإرساؤها‪.‬‬ ‫في موج كالجبال ‪ :‬الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الرتفاع‪.‬‬ ‫يعصمني من الماء ‪ :‬يمنعني من الماء أن يغرقني‪.‬‬ ‫وغيض الماء‪ :‬أي نقص بنضوبه في الرض‪.‬‬

‫على الجودي ‪ :‬أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل‪.‬‬ ‫بعدا للقوم الظالمين‪ :‬أي هلكا لهم‪.‬‬

‫( ‪)2/544‬‬ ‫شرح الكلمات‪.:‬‬ ‫أم يقولون‪ :‬أي بل يقولون افتراه‪.‬‬ ‫افتراه ‪ :‬أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه‪.‬‬ ‫فعلى إجرامي ‪ :1‬أي عاقبة الكذب الذي هو الجرام تعود عليّ ل على غيري‪.‬‬ ‫وأنا بريء ‪ :‬أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فل أتحمل مسؤوليته‪.‬‬ ‫مما تجرمون‪ :‬أي على أنفسكم بإفسادها بالشرك والكفر والعصيان‪.‬‬ ‫معنى الية‪:‬‬ ‫هذه الية الكريمة أوقعها ال مُنَزِلُها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه‪ ،‬وحسن‬ ‫موقعها هنا لن الحديث عن نوح وقومه ل يتأتى لحد إل لنبي يوحى إليه‪ ،‬وذلك لبعده في‬ ‫الحاريخ فَ َقصّ النبي له اليوم دليل على أنه نبي يُوحى إليه‪ ،‬فلذا قال أم يقولون افتراه ‪ 2‬أي يقولون‬ ‫افترى القرآن وكذبه ولم يوح إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعليّ إجرامي أي أثم كذبي وأنا‬ ‫بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬جواز العتراض في الكلم إذا حسن موقعه لقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر‬ ‫مهم‪.‬‬ ‫‪ -1‬قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صلى ال عليه وسلم في دعوى النبوة ودعوته إلى‬ ‫ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن ل تزر وازرة وزر أخرى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجرام‪ :‬مصدر أجرم يجرم إجراما‪ :‬إذا اقترف السيئات وجرم الثلثي كأجرم الرباعي‪ ،‬قال‬ ‫الشاعر وهو أحد لصوص بني سعد‪:‬‬ ‫طريد عشيرة ورهين جرم‬ ‫بما جرمت يدي وجنى لساني‬ ‫‪ 2‬فسرت الية في التفسير بالقول الراجح وهو‪ :‬أنّ المراد بمن يقول افتراه‪ :‬النبي صلى ال عليه‬

‫وسلم والية معترضة أحاديث قصة نوح وذهب بعضهم نقلً عن ابن عباس أنها من محاورة نوح‬ ‫عليه السلم مع قومه‪ :‬واستظهروها من أجل السياق السابق واللحق وال أعلم‪.‬‬

‫( ‪)2/545‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} أي واصل‬ ‫صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلك المشركين‪ ،‬وفار ‪ 1‬التنور أي خرج الماء من داخل‬ ‫التنور وفار وتلك علمة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين ‪2‬‬ ‫اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكرا وأنثى‪ .‬وأهلك أي واحمل أهلك من‬ ‫زوجة وولد كسام وحام ويافث إل من سبق عليه القول أي بالهلك كامرأته واعلة وولده كنعان‪.‬‬ ‫ومن آمن ‪ 3‬أي واحمل من آمن من سائر الناس‪{ ،‬وما آمن معه إل قليل} أي نحو من ثمانين‬ ‫رجلً وامرأة هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )40‬أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن نوحا قال‬ ‫لجماعة المؤمنين {اركبوا فيها} أي في السفينة {باسم ال مجراها ‪ 4‬ومرساها} أي باسم ال تجري‬ ‫وباسم ال ترسو أي تقف {إن ربي لغفور رحيم ‪ }5‬أي فهو ل يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب‬ ‫ويرحمنا فينجينا ويكرمنا‪ .‬وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )42‬وهي تجري بهم في موج كالجبال}‬ ‫وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في‬ ‫ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان‪ ،‬وهو في هذه الساعة في معزل ‪ 6‬أي من السفينة حيث‬ ‫رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره ‪ 7‬فقال له {يا بني اركب ‪ 8‬معنا ول تكن مع الكافرين} فتغرق‬ ‫كما يغرقون فأجاب الولد قائلً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الفوران‪ :‬غليان القدر‪ ،‬ويطلق على نبع الماء بشدة تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلى‪،‬‬ ‫والتنور‪ :‬اسم لموقد النار للخبز‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرأ حفص { من كلٍ} بتنوين كل فالتنوين عوض عن مضاف إليه أي‪ :‬من كل المخلوقات‪ ،‬و‬ ‫{زوجين} مفعول لـ (احمل)‪ ،‬واثنين‪ :‬نعت له وقرأ الجمهور بإضافة كل إلى زوجين‪ ،‬والمراد‬ ‫بالزوجين هنا‪ :‬الذكر والنثى من كل نوع من أنواع الحيوانات‪.‬‬ ‫‪ 3‬ومن آمن‪ :‬أي‪ :‬كل المؤمنين‪.‬‬ ‫‪ 4‬جائز أن يكون القائل‪{ :‬اركبوها} ال جلّ جلله‪ ،‬وجائز أن يكون نوحا عليه السلم والركوب‪:‬‬ ‫العلو على ظهر شيء‪ ،‬وقال‪ :‬فيها‪ ،‬ولم يقل عليها لنها ظرفٌ لهم يدخلون فيها‪.‬‬ ‫‪ 5‬قرأ الجمهور بضم الميم في كل من مجراها‪ ،‬ومرساها‪ ،‬وهما مصدران من‪ :‬أجرى وأرسى‪،‬‬ ‫وقرأ عاصم بفتح ميم مجراها‪ ،‬وضم ميم مرساها كالجمهور‪ ،‬ولم يفتح ميم مرساها لشتباهه‪.‬‬

‫حينئذ المرسى مكان الرسو‪ ،‬وقرىء مجريها‪ ،‬ومرسيها باسم الفاعل أي‪ :‬بسم ال مجريها‬ ‫ومرسيها‪.‬‬ ‫‪ 6‬روي أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬أمان لمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم ال‬ ‫الرحمن الرحيم" {وما قدروا ال حق قدره‪ ،‬والرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات‬ ‫بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون‪{ .‬بسم ال مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم}‪.‬‬ ‫‪ 7‬وقيل‪ :‬في معزل أي‪ :‬من دين أبيه‪.‬‬ ‫‪ 8‬قرأ حفص‪{ :‬يا بنيّ} بفتح الياء المشددة وكسرها غير عاصم‪.‬‬

‫( ‪)2/546‬‬ ‫سورة يوسف‬ ‫‪...‬‬ ‫في حب يوسف‪ .‬وواصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على‬ ‫وجه يعقوب فارتد بصيرا كما أخبر يوسف إخوته بمصر‪ .‬وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذي أخبر‬ ‫تعالى به في قوله‪{ :‬قال ألم أقل لكم إني أعلم من ال مال تعلمون} أي أعلم من لطف ال وحسن‬ ‫تدبيره ورحمته وإفضاله مال تعلمون‪ .‬وهنا طلبوا من والدهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ربهم‬ ‫فقالوا ما أخبر تعالى به‪{ :‬قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين‪ ،‬قال سوف استغفر لكم‬ ‫ربي إنه هو الغفور الرحيم}‪.‬‬ ‫جلَ لهم طلب المغفرة إلى ساعة الستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة‪ .‬وتنفيذا لمر‬ ‫أّ‬ ‫يوسف إخوته بأن يأتوه بأهلهم أجمعين تحملت السرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر‪ .‬وكان‬ ‫يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلد في استقبالهم‪ ،‬وكان يوسف قد ضربت‬ ‫له خيمة أو فسطاط‪ ،‬ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه‬ ‫{فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه} أي ضمّهما إلى موكبه {وقال ادخلوا مصر إن شاء ال آمنين}‬ ‫ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا {ورفع} يوسف {أبويه} أمه وأباه {على العرش} سرير الملك‬ ‫{وخروا له سجدا} تحية وتشريفا‪ .1‬وهنا قال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها‬ ‫ربي حقا} إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم له ساجدين‪ .‬وقوله {وقد‬ ‫أحسن بي إذ أخرجني ‪ 2‬من السجن وجاء بكم من البدو ‪ 3‬من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين‬ ‫إخوتي} هذا ثناء على ال بنعمه وتذكير للحاضرين‪ ،‬بالحادثة والطاف ال تعالى فيها‪ .‬ومن كرم‬ ‫نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال‬ ‫من السجن‪ .‬ويعني بقوله وجاء بكم من البدو أي من أرض كنعان‪ .‬ونسب الساءة التي كانت من‬ ‫إخوته إلى الشيطان تلطيفا للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته‪ ،‬وختم حديث النعمة في‬

‫أعظم فرحة {إن ربي ‪ 4‬لطيف لما يشاء انه هو العليم} أي بخلقه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬على عادة أهل ذلك الزمان‪ ،‬وهو سجود تحية ل عبادة‪.‬‬ ‫ي معروفا‪ .‬بجلب خير أو دفع ضر‪.‬‬ ‫ي بممنى واحد أي قدم أي صنع إل ّ‬ ‫‪ 2‬أحسن بي وإل ّ‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬البادية‪ ،‬والبدو ضد الحضر‪ ،‬والسم مشتق من البُدوّ الذي هو الظهور والنزغ عبارة عن‬ ‫إدخال الفساد في النفس‪ ،‬شبه بنزغ الراكب الدابة وهو يريدها تسرع‪.‬‬ ‫‪ 4‬اللطف‪ :‬التدبير الملئم‪ ،‬واللطيف‪ :‬صاحب اللّطف‪.‬‬

‫( ‪)2/546‬‬ ‫المجلد الثالث‬ ‫سورة الرعد‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة الرعد‬ ‫مكية وآياتها ثلث وأربعون آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫س لَ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )1‬اللّهُ الّذِي‬ ‫ق وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬ ‫حّ‬ ‫ب وَالّ ِذيَ أُن ِزلَ إِلَ ْيكَ مِن رّ ّبكَ الْ َ‬ ‫المر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَا ِ‬ ‫جلٍ‬ ‫س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي لَ َ‬ ‫شمْ َ‬ ‫ش وَسَخّرَ ال ّ‬ ‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْ ِ‬ ‫سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ‬ ‫َرفَعَ ال ّ‬ ‫ج َعلَ فِيهَا‬ ‫ض وَ َ‬ ‫صلُ اليَاتِ َلعَّلكُم بِِلقَاء رَ ّبكُمْ تُوقِنُونَ(‪ )2‬وَ ُهوَ الّذِي مَدّ الَرْ َ‬ ‫لمْرَ ُيفَ ّ‬ ‫سمّى ُيدَبّ ُر ا َ‬ ‫مّ َ‬ ‫ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ُيغْشِي اللّ ْيلَ ال ّنهَارَ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ‬ ‫سيَ وَأَ ْنهَارًا َومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ‬ ‫َروَا ِ‬ ‫ن وَغَيْرُ‬ ‫ل صِ ْنوَا ٌ‬ ‫ب وَزَ ْرعٌ وَنَخِي ٌ‬ ‫ت وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَا ٍ‬ ‫ّلقَوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ(‪َ )3‬وفِي الَ ْرضِ ِقطَعٌ مّتَجَاوِرَا ٌ‬ ‫لكُلِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ(‪)4‬‬ ‫علَى َب ْعضٍ فِي ا ُ‬ ‫ضهَا َ‬ ‫سقَى ِبمَاء وَاحِ ٍد وَ ُن َفضّلُ َب ْع َ‬ ‫صِ ْنوَانٍ ُي ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫المر ‪ :‬هذه الحروف المقطعة تكتب المر وتُقرأ ألف لَمْ مِيْم را‪ .‬وال أعلم بمراده بها‪.‬‬ ‫بغير عمد ترونها‪ :‬العمد جمع عمود أي مرئية لكم إذ الجملة نعت‪.‬‬

‫( ‪)3/5‬‬ ‫ثم استوى على العرش ‪ :1‬استواء يليق به عز وجل‪.‬‬ ‫وسخر الشمس والقمر‪ :‬أي ذللّها بمواصلة دورانها لبقاء الحياة إلى أجلها‪.‬‬ ‫هو الذي مد الرض ‪ :‬أي بسطها للحياة فوقها‪.‬‬

‫رواسي‪ :‬أي جبال ثوابت‪.‬‬ ‫زوجين اثنين‪ :‬أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والصفر والسود مثل‪.‬‬ ‫يغشى الليل النهار‪ :‬أي يغطيه حتى ل يبقى له وجود بالضياء‪.‬‬ ‫ليات ‪ :‬أي دللت على وحدانية ال تعالى‪.‬‬ ‫قطع متجاورات ‪ :‬أي بقاع متلصقات‪.‬‬ ‫ونخيل صنوان‪ :‬أي عدة نخلت في أصل واحد يجمعها‪ ،‬والصنو الواحد والجمع صنوان‪.‬‬ ‫في الكل‪ :‬أي في الطعم هذا حلو وهذا م ّر وهذا حامض‪ ،‬وهذا لذيذ وهذا خلفه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى {المرَ} ال أعلم بمراده به‪ .‬وقوله {تلك آيات الكتاب} الشارة إلى ما جاء من قصص‬ ‫سورة يوسف‪ ،‬فالمراد بالكتاب التوراة والنجيل فمن جملة آياتها ما قص ال تعالى على رسوله‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬والذي ‪ 2‬أنزل إليك من ربك} ‪ 3‬وهو القرآن العظيم {الحق} أي هو الحق الثابت‪ .‬وقوله‬ ‫{ولكن أكثر الناس ل يؤمنون} أي مع أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فإن أكثر الناس من‬ ‫قومك وغيرهم ل يؤمنون بأنه وحي ال وتنزيله فيعملوا به فيكملوا ويسعدوا‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ال‬ ‫الذي رفع السموات والرض بغير عمد ‪4‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عقيدة السلف في هذه الصفة‪ :‬وجوب اليمان بها وإمرارها كما ذكرها تعالى بل تكييف ول‬ ‫تشبيه ول تعطيل ول تمثيل‪ ،‬وكذا سائر صفاته عزّ وجلّ‪.‬‬ ‫‪ 2‬يصح أن تكون الواو عاطفة صفة على أخرى‪ ،‬أي‪ :‬عطفت الذي على الكتاب فالموصول في‬ ‫محل جرّ نعت للكتاب‪ ،‬وهو نظير قول الشاعرة‬ ‫إلى الملِك القرم وابن الهمام‬ ‫وليث الكتيبة في المزدحم‬ ‫ويكون المعنى‪ :‬تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك والحق‪ :‬مرفوع على أنه خبر لمبتدأ‬ ‫محذوف تقديره‪ :‬هو الحق‪ .‬وما في التفسير واضح قال به مجاهد وقتاده‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال مقاتل‪ :‬نزلت هذه الية ردا على المشركين القائلين‪ :‬أن محمدا صلى ال عليه وسلم يأتي‬ ‫بالقرآن من تلقاء نفسه‪.‬‬ ‫‪ 4‬في اليات استدلل بقدرة ال وعلمه وحكمته على أن القرآن الكريم وحيه أوحاه إلى رسوله‬ ‫وتنزيله أنزله عليه ليس كما يدّعي المشركون‪.‬‬

‫( ‪)3/6‬‬

‫ترونها}‪ :‬أي أن إلهكم الحق الذي يجب أن تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه ال الذي رفع السموات‬ ‫على الرض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء من سنن‪ .‬وقوله‪{ :‬ثم استوى على‬ ‫العرش} أي خلق السموات والرض ثم استوى على عرشه استواء يليق بذاته وجلله يدبر أمر‬ ‫الملكوت وقوله‪{ :‬وسخر الشمس والقمر} أي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيرا منتظما‬ ‫إلى نهاية الحياة‪ ،‬وقوله {كل يجري} أي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في‬ ‫شهر كامل وهما يجريان هكذا إلى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله‪{ :‬يدبر‬ ‫المر} أي يقضي ما يشاء في السموات والرض ويدبر أمر مخلوقاته بالماتة والحياء والمنع‬ ‫والعطاء كيف يشاء وحده ل شريك له في ذلك‪ .‬وقوله‪{ :‬يفصل اليات} أي القرآنية بذكر‬ ‫القصص وضرب المثال وبيان الحلل والحرام كل ذلك ليهيئكم ويعدكم لليمان بلقاء ربكم‬ ‫فتؤمنوا به وتعبدوا ال وتوحدوه في عبادته فتكملوا في أرواحكم وأخلقكم وتسعدوا في دنياكم‬ ‫وآخرتكم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وهو الذي مد الرض} ‪ 1‬أي بسطها {وجعل فيها رواسي} أي جبالً‬ ‫ثوابت {وأنهارا} أي وأجرى فيها أنهارا {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي نوعين‬ ‫وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون منه الصفر والسود‪ ،‬والتين منه البيض‬ ‫والحمر وقوله‪{ :‬يغشى الليل النهار} أي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا‬ ‫وتستريح أبدانكم من عناء النهار وقوله‪{ :‬إن في ذلك} أي المذكور في هذه الية الكريمة من مد‬ ‫الرض وجعل الرواسي فيها وإجراء النهار‪ ،‬وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار‪ ،‬في كل‬ ‫هذا المذكور {ليات} أي علمات ودلئل واضحات على وجود ال تعالى وعلمه وقدرته وحكمته‬ ‫وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى اليمان بوعده ووعيده‪ ،‬ولقائه وما أعد من نعيم لوليائه‬ ‫وعذاب لعدائه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وفي الرض قطع متجاورات} ‪ 2‬أي بقاع من الرض بعضها إلى‬ ‫جنب بعض متلحقات هذه تربتها طيبة وهذه تربتها خبيثة ملح سبخة وفي الرض أيضا جنات‬ ‫أي بساتين من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لمّا ذكر تعالى آياته الكونية في السماء ذكر آياته الكونية في الرض استدللً بها على قدرته‬ ‫وعلمه وحكمنه الموجبة لتوحيده وعبادته دون سواه‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬وأخرى غير متجاورات فحدفت على حدّ قوله‪{ :‬سرابيل تقيكم الحرّ} حيث حذف المقابل‬ ‫وهو‪ :‬تقيكم البرد‪.‬‬

‫( ‪)3/7‬‬ ‫أعناب وفيها زرع ونخيل {صنوان} ‪ 1‬النخلتان والثلث في أصل واحد‪{ ،‬وغير صنوان} كل نخلة‬ ‫قائمة على أصلها‪ ،‬وقوله‪{ :‬تسقى} أي تلك العناب والزروع والنخيل {بماء واحد ونفضل بعضها‬

‫على بعض في الكل}‪ 2‬وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫{إن في ذلك} أي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلف الطيب وعدمه وجنات العناب‬ ‫والنخيل وسقيها بماء واحد واختلف طعومها وروائحها وفوائدها {ليات}‪ 3‬علمات ودلئل‬ ‫باهرات على وجوب اليمان بال وتوحيده ولقائه‪ ،‬ولكن {لقوم يعقلون} أما الذين فقدوا عقولهم‬ ‫لستيلء المادة عليها واستحكام الشهوة فيها فإنهم ل يدركون ول يفهمون شيئا فكيف إذا يرون‬ ‫دلئل وجود ال وعلمه وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدونه ويتقربون إليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة الوحي اللهي ونبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير عقيدة التوحيد وأنه ل إله إل ال‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير عقيدة البعث الخر والجزاء على الكسب في الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضيلة التفكر في اليات الكونية‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة العقل للهتداء به إلى معرفة الحق وإتباعه للسعاد والكمال‪.‬‬ ‫جبٌ َقوُْلهُمْ أَئِذَا كُنّا تُرَابًا أَئِنّا َلفِي خَ ْلقٍ‬ ‫جبْ َفعَ َ‬ ‫وَإِن َتعْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصنو‪ :‬المثل‪ ،‬ومنه الحديث‪" :‬عمَ الرجل صنو أبيه" ول فرق بين التثنية والجمع في‪( :‬صنوان)‬ ‫إلّ بكسر نون المثنى‪ ،‬وتنوين نون الجمع‪ ،‬فتقول‪ :‬هذان صنوان وهؤلء صنوان‪.‬‬ ‫‪ 2‬كالدقل والحلو والحامض‪ ،‬وبنو آدم كذلك الصل واحد والخلف قائم هذا مؤمن وهذا كافر‪،‬‬ ‫هذا صالح وهذا فاسد‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫الناس كالنبت والنبت ألوان‬ ‫منها شجر الصندل والكافور والبان‬ ‫ومنها شجر ينضح طول الدهر قطران‬ ‫‪ 3‬في هذه اليات دلئل الوحدانية وعظم الصمدية والرشاد لمن ضل عن معرفته حيث نبّه تعالى‬ ‫بقوله‪{ :‬متجاورات} ومع تجاورها قطعة عذبة وأخرى ملحة‪ ،‬قطعة طيّبة وأخرى خبيثة كما أنّ‬ ‫التربة واحدة‪ ،‬وتسقى بماء واحد وتختلف طعوم الثمار وألوانه وخصائصه ومنافعه فهذا لن يكون‬ ‫صادرا إلّ عن ذي قدرة ل تُحدّ وعلم ل ينتهي وحكمة ل يخلو منها شيء‪ ،‬وهو ال تعالى‪ ،‬وأين‬ ‫الطبيعة العمياء الصماء التي ل علم لها ول إرادة من ال خالق كل شيء العليم بكل شيء؟‬

‫( ‪)3/8‬‬

‫للُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَُأوْلَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ(‬ ‫ك الَغْ َ‬ ‫جدِيدٍ ُأوْلَ ِئكَ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّبهِ ْم وَُأوْلَ ِئ َ‬ ‫َ‬ ‫لتُ وَإِنّ رَ ّبكَ َلذُو َمغْفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَى‬ ‫‪ )5‬وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِالسّيّئَةِ قَ ْبلَ ا ْلحَسَنَةِ َوقَدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُ َ‬ ‫ظُ ْل ِمهِمْ وَإِنّ رَ ّبكَ لَشَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ(‪ )6‬وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْل أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ آ َيةٌ مّن رّبّهِ إِ ّنمَا أَنتَ مُنذِرٌ‬ ‫شيْءٍ عِن َدهُ‬ ‫ح ِملُ ُكلّ أُنثَى َومَا َتغِيضُ الَرْحَا ُم َومَا تَزْدَا ُد َو ُكلّ َ‬ ‫وَِلكُلّ َقوْمٍ هَادٍ(‪ )7‬اللّهُ َيعْلَمُ مَا تَ ْ‬ ‫شهَا َدةِ ا ْلكَبِيرُ ا ْلمُ َتعَالِ(‪)9‬‬ ‫ِب ِمقْدَارٍ(‪ )8‬عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإن تعجب‪ :‬أي يأخذك العجب من إنكارهم نبوتك والتوحيد‪.‬‬ ‫فعجب‪ :‬أي فأعجب منه إنكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح الدلة وقوة الحجج‪.‬‬ ‫لفي خلق جديد‪ :‬أي نرجع كما كنا بشرا أحياء‪.‬‬ ‫الغلل في أعناقهم ‪ :‬أي موانع من اليمان والهتداء في الدنيا‪ ،‬وأغلل تشد بها أيديهم إلى‬ ‫أعناقهم في الخر‪.‬‬ ‫بالسيئة‪ :‬أي بالعذاب‪.‬‬ ‫قبل الحسنة‪ :‬أي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب‪.‬‬ ‫المثلت‪ :‬أي العقوبات واحدها مَثُله التي قد أصابت المكذبين في المم الماضية‪.‬‬ ‫لول أنزل عليه‪ :‬أي هلّ أنزل‪ ،‬ولول أداة تحضيض كهلّ‪.‬‬

‫( ‪)3/9‬‬ ‫آية من ربه‪ :‬أي معجزة كعصا موسى وناقة صالح مثلً‪.‬‬ ‫ولكل قوم هاد ‪ :‬أي نبي يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه وحده ول يشركون به غيره‪.‬‬ ‫ما تحمل كل أنثى‪ :‬أي من ذكر أو أنثى واحدا أو أكثر أبيض أو أسمر‪.‬‬ ‫وما تغيض الرحام‪ :‬أي تنقص من دم الحيض‪ ،‬وما تزداد منه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى اليمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم‬ ‫القيامة للحساب والجزاء‪ ،‬فقوله تعالى في الية الولى (‪{ )5‬وإن تعجب} ‪ 1‬يا نبينا من عدم‬ ‫إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب أكبر هو عدم إيمانهم بالبعث الخر‪ ،‬إذ قالوا في إنكار‬ ‫وتعجب‪{ :‬أئذا متنا ‪ 2‬وكنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى؟ قال تعالى‬ ‫مشيرا إليهم مسجلً الكفر عليهم ولزمه وهو العذاب {أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الغلل ‪3‬‬ ‫في أعناقهم} وهي في الدنيا موانع الهداية كالتقليد العمى والكبر والمجاحدة والعناد‪ ،‬وفي الخرة‬ ‫أغلل توضع في أعناقهم من حديد تشد بها أيديهم إلى أعناقهم‪{ ،‬وأولئك أصحاب النار} أي أهلها‬ ‫{هم فيها خالدون} أي ماكثون أبدا ل يخرجون منها بحال من الحوال‪.‬‬

‫وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )6‬ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} يخبر تعالى رسوله مقررا ما‬ ‫قال أولئك الكافرون بربهم ولقائه ونبي ال وما جاء به‪ ،‬ما قالوه استخفافا واستعجالً وهو طلبهم‬ ‫العذاب الدنيوي‪ ،‬إذ كان الرسول صلى ال عليه وسلم يخوفهم من عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪،‬‬ ‫فهم يطالبون به كقول بعضهم‪{ :‬فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‪ }،‬قبل طلبهم‬ ‫الحسنة وهذا لجهلهم وكفرهم‪ ،‬وإل لطالبوا بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة‬ ‫التي هي الدمار والعذاب‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أصل التعجب‪ :‬تغير النفس بما تخفي أسبابه‪ ،‬والمخاطب في هذا الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫والمؤمنون تابعون له‪.‬‬ ‫‪ 2‬مثل هذا الستفهام وقع في تسع سور من القرآن في أحد عشر موضعا ومن القرّاء من استفهم‬ ‫في الموضعين أئذا كنا ترابا ائنا لمبعوثون ومنهم من استفهم في موضع واحد‪ ،‬فمن استفهم في‬ ‫الول والثاني قصد المبالغة في النكار فأتى به في الجملة الولى وأعاده في الثانية تأكيدا له ومن‬ ‫أتى به مرّة واحدة لحصول المقصود به لنّ كل جملة مرتبطة بالثانية فإذا أنكر في إحداهما‬ ‫حصل النكار في الخرى (أفادهُ الجمل)‪.‬‬ ‫‪ 3‬الغلل‪ :‬جمع غل وهو طوق من حديد تشدّ به اليد إلى العنق‪.‬‬

‫( ‪)3/10‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وقد خلت من قبلهم المثلت}‪ 1‬أي والحال أن العقوبات قد مضت في المم من قبلهم‬ ‫كعقوبة ال لعاد وثمود وأصحاب اليكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعادا لها واستخفافا‬ ‫بها أين ذهبت عقولهم؟ وقوله تعالى‪{ :‬وإن ربك لذو مغفرة للناس ‪ 2‬على ظلمهم} وهو ظاهر‬ ‫مشاهد إذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم يغفر لصحابه لما ترك على الرض من دابة‪،‬‬ ‫وقوله‪{ :‬وإن ربك لشديد العقاب} أي على من عصاه بعد أن أنذره وبين له ما يتقي فلم يتق ما‬ ‫يوجب له العذاب من الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الثالثة (‪{ )7‬ويقول الذين كفروا لول أنزل عليه آية من ربه}! يخبر تعالى‬ ‫رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة‪{ :‬لول} أي هل أنزل على محمد‬ ‫صلى ال عليه وسلم آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح‪ ،‬حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته‪،‬‬ ‫فيرد تعالى عليهم بقوله‪{ :‬إنما أنت منذر} والمنذر المخوف من العذاب وليس لزما أن تنزل معه‬ ‫اليات‪ ،‬وعليه فل تلتفت إلى ما يطالبون به من اليات‪ ،‬واستمر على دعوتك فإن لكل قوم ‪ 3‬هاديا‬ ‫وأنت هادي هذه المة‪ ،‬وداعيها إلى ربها فادع واصبر‪.‬‬ ‫وقوله تعالى في الية الرابعة (‪{ )8‬ال يعلم ما تحمل كل أنثى}‪ 4‬أي من ذكر أو أنثى واحدا أو‬

‫أثنين أبيض أو أسمر سعيدا أو شقيا‪ ،‬وقوله‪{ :‬وما تغيض ‪ 5‬الرحام وما تزداد} أي ويعلم ما‬ ‫تغيض الرحام من دماء الحيض ‪ 6‬وما تزداد منها إذ غيضها ينقص من مدة الحمل وازديادها‬ ‫يزيد في مدة الحمل فقد تبلغ السنة أو أكثر‪ ،‬وقوله‪{ :‬وكل شيء عنده بمقدار} أي وكل شيء في‬ ‫حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين ل يزيد ول ينقص في ذات ول صفة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المثلت‪ :‬جمع مثلة‪ ،‬وهي العقوبة نحو‪ :‬صدُقة وصدُقات‪ ،‬وتضم الميم وتسكن الثاء مثله كغرفة‬ ‫والجمع مُثل كقُرب وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالً تمثل بها العقوبات‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن عباس رضي ال عنه هذه أرجى آية في كتاب ال‪ ،‬قال سعيد بن المسيّب‪ ،‬لمّا نزلت‬ ‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "لول عفو ال ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحدا عيشُه ولول‬ ‫عقابه ووعيده وعذابه ل تكل كل أحد"‪.‬‬ ‫‪ 3‬هادي كل امة رسولها الذي بعث فيها وخلفاء النبياء وحواريوهم هداة يهدون من بعدهم وال‬ ‫يهدي من يشاء‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال القرطبي‪ :‬من ذكر أو أنثى‪ :‬صَبيحٌ أو قبيح صالح أو طالح‪ .‬وقوله‪{ :‬كل أنثى} يفيد عموم‬ ‫كل أنثى في النسان والحيوان‪ ،‬وهو كذلك‪.‬‬ ‫‪ 5‬العادة أن انحباس الحيض دال على العلوق أي‪ :‬الحمل‪ ،‬وفيضان الدم دال على عدم الحمل‪،‬‬ ‫وتفسير الية بهذا حسن‪ ،‬فال تعالى يعلم ما تغيض الرحام من الدم‪ ،‬لنشغال الرحم بالعلقة ثمّ‬ ‫بالجنين‪ ،‬وما تزداد من الدم حتى يفيض عنها‪ ،‬ويخرج‪ ،‬وهو دم من ل حمل لها‪ .‬وما في التفسير‬ ‫وجه وهذا الوجه أوضح‪.‬‬ ‫‪ 6‬استدل بالية من قال‪ :‬الحامل ل تحيض وهو أبو حنيفة‪ .‬والجمهور على أنها تحيض كما استدل‬ ‫بها كل من قال‪ :‬الحمل تزيد مدته إلى أربع سنوات‪ ،‬وهو الجمهور‪ ،‬وخالف الظاهرية في ذلك‪.‬‬

‫( ‪)3/11‬‬ ‫ول حال‪ ،‬ول زمان ول مكان‪ ،‬وقوله‪{ :‬عالم الغيب والشهادة} أي كل ما غاب عن الخلق‪ ،‬وما لم‬ ‫يغب عنهم مما يشاهدونه أي العليم بكل شيء‪ ،‬وقوله‪{ :‬الكبير المتعال} أي الذي ل أكبر منه وكل‬ ‫كبير أمامه صغير المتعال على خلقه المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو ال‬ ‫وهذه صفاته فهل يليق بعاقل أن ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر عليه‬ ‫أن يوحي بما شاء على من شاء من عباده؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر على من هذه قدرته وعلمه‬ ‫أن يحيي العباد بعد أن يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به؟ اللهم ل إذا‬ ‫فالمنكرون على ال ما دعاهم إلى اليمان به ل يعتبرون عقلء وإن طاروا في السماء وغاصوا‬ ‫في الماء‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪-1‬تقرير أصول العقيدة الثلثة‪ :‬التوحيد والنبوة البعث والجزاء الخر‪.‬‬ ‫‪ -2‬صوارف اليمان والتي هي كالغلل ير التقليد العمى‪ ،‬والكبر والعناد‪.‬‬ ‫‪ -3‬عظيم قدرة ال تعالى وسعة علمه‪.‬‬ ‫‪-4‬تقرير عقيدة القضاء والقدر‪.‬‬ ‫ل وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ(‪ )10‬لَهُ ُم َعقّبَاتٌ‬ ‫خفٍ بِاللّ ْي ِ‬ ‫جهَرَ ِب ِه َومَنْ ُهوَ مُسْتَ ْ‬ ‫سوَاء مّنكُم مّنْ أَسَرّ ا ْل َق ْولَ َومَن َ‬ ‫َ‬ ‫سهِ ْم وَإِذَا‬ ‫حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َقوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُواْ مَا بِأَ ْنفُ ِ‬ ‫مّن بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ‬ ‫ط َمعًا‬ ‫خ ْوفًا وَ َ‬ ‫أَرَادَ اللّهُ ِب َقوْمٍ سُوءًا فَلَ مَرَدّ لَهُ َومَا َلهُم مّن دُونِهِ مِن وَالٍ(‪ُ )11‬هوَ الّذِي يُرِي ُكمُ الْبَ ْرقَ َ‬

‫( ‪)3/12‬‬ ‫صوَاعِقَ فَ ُيصِيبُ‬ ‫سلُ ال ّ‬ ‫حمْ ِدهِ وَا ْلمَلَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِ ِه وَيُرْ ِ‬ ‫عدُ بِ َ‬ ‫وَيُنْشِىءُ السّحَابَ ال ّثقَالَ(‪ )12‬وَيُسَبّحُ الرّ ْ‬ ‫شدِيدُ ا ْلمِحَالِ(‪)13‬‬ ‫ِبهَا مَن يَشَاء وَهُمْ ُيجَادِلُونَ فِي اللّ ِه وَ ُهوَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وسارب بالنهار‪ :‬أي ظاهر في سربه أي طريقه‪.‬‬ ‫له معقبات ‪ :‬أي ملئكة تتعقبه بالليل والنهار‪.‬‬ ‫من أمر ال‪ :‬أي بأمر ال تعالى وعن إذنه وأمره‪.‬‬ ‫ل يغير ما بقوم‪ :‬أي من عافية ونعمة إلى بلء وعذاب‪.‬‬ ‫ما بأنفسهم ‪ :‬من طهر وصفاء باليمان والطاعات إلى الذنوب والثام‪.‬‬ ‫وما لهم من دونه من وال ‪ :‬أي وليس لهم من دون ال من يلبي أمرهم فيدفع عنهم العذاب‪.‬‬ ‫من خيفته‪ :‬أي من الخوف منه وهيبته وجلله‪.‬‬ ‫وهو شديد المحال‪ :‬أي القوة والمماحلة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ذكر جلل ال وعظيم قدرته وسعة علمه‪ ،‬قال تعالى في هذه الية‪{ :‬سواء منكم‬ ‫‪ 1‬من أسر القول ومن جهر به} فال يعلم السر والجهر وأخفى {ومن هو مستخف بالليل} يمشى‬ ‫في ظلمه ومن هو {سارب بالنهار} أي يمشي في سربه ‪ 2‬وطر يقه مكشوفا معلوما ل تعالى‪،‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬له معقبات ‪ 3‬من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية كالنتيجة لما تقدم من الدلئل على علم ال وقدرته وحكمته الموجبة للوهيته وفيها‬ ‫تعريض بالمشركين المتآمرين على قتل النبي صلى ال عليه وسلم أو أذيته‪ ،‬وسواء‪ :‬بمعنى مستو‪،‬‬

‫وهو اسم يكون بين شيئين كالسر هنا والجهر أي‪ :‬مستوى عنده السر والجهر‪.‬‬ ‫‪ 2‬السّرب‪ :‬بفتح السين وسكون الراء‪ :‬الطريق‪ ،‬والسارب‪ :‬اسم فاعل من سرب إذا ذهب‪.‬‬ ‫‪ 3‬جمع معقبة وهو مأخوذ من العقب الذي هو مؤخر الرجل فكل من اتبع آخر فقد تعقبه فهو‬ ‫متعقّب له‪ ،‬وعقبه يعقبه فهو عاقب له‪ :‬إذا جاء بعده‪ ،‬والمعقبات هنا‪ :‬الملئكة لحديت "يتعاقبون‬ ‫فيكم ملئكة بالليل وملئكة بالنهار" إذا صعدت ملئكة النهار أعقبتها ملئكة الليل وهكذا‪.‬‬

‫( ‪)3/13‬‬ ‫أمر ال} جائز أن يعود الضمير في "له" على من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‪ ،‬فيكون‬ ‫المراد من المعقبات الحرس والجلوزة الذين يحرسون السلطان من أمر ال تعالى في نظرهم‪،‬‬ ‫ولكن إذا أراده ال بسوء فل مرد له وما له من دون ال من وال يتولى حمايته والدفاع عنه‪،‬‬ ‫وجائز أن يعود على ال تعالى ويكون المراد من المعقبات الملئكة الحفظة ‪ 1‬والكتبة للحسنات‬ ‫والسيئات ويكون معنى من أمر ال ‪ 2‬أي بأمره تعالى وإذنه‪ ،‬والمعنى صحيح في التوجيهين للية‬ ‫وإلى الول ذهب ابن جرير وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إن ال ل يغير ما‬ ‫بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي أنه تعالى‬ ‫ل يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم حتى‬ ‫يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة العراض‬ ‫عن كتاب ال وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والنغماس في الشهوات والضرب في سبيل‬ ‫الضللت‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وإذا أراد ال بقوم سوءا فل مرد له وما لهم من دونه من وال} هذا‬ ‫إخبار منه تعالى بأنه إذا أراد بقوم أو فردٍ أو جماعة سوءا ما أي ما يسوءهم من بلء وعذاب فل‬ ‫مرد له بحال من الحوال بل ل بد وأن يمسهم‪ ،‬ول يجدون من دون ال من وال يتولى صرف‬ ‫العذاب عنهم‪ ،‬أما من ال تعالى فإنهم إذا أنابوا إليه واستغفروه وتابوا إليه فإنه تعالى يكشف عنهم‬ ‫السوء ويصرف عنهم العذاب‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬هو الذي يريكم البرق خوفا} من الصواعق من جهة‬ ‫وطمعا في المطر من جهة أخرى {وينشىء السحاب الثقال} أي وهو الذي ينشئ ‪ 3‬أي يبدء‬ ‫السحاب الثقال الذي يحمل المطار {ويسبح الرعد بحمده}‪ 4‬أي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو‬ ‫ملك موكل بالسحاب يقول‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحفظة‪ :‬جمع حافظ‪ :‬ملئكة موكلون بالعبد يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجن‪،‬‬ ‫والشياطين‪ ،‬فإذا جاء أمر ال أي‪ :‬قدره تخلّوا عنه والكتبة‪ :‬جمع كاتب‪ :‬ملك يكتب الحسنات وآخر‬ ‫يكتب السيئات‪.‬‬ ‫‪ 2‬ذكر القرطبي‪ :‬أن العلماء رحمهم ال تعالى ذكروا أن ال سبحانه وتعالى جعل أوامره على‬

‫وجهين‪ .‬أحدهما‪ :‬قضى وقوعه وحلوله بصاحبه فهذا ل يدفعه أحد‪ ،‬والثاني‪ :‬قضى مجيئه ولم‬ ‫يقض حلوله ووقوعه بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة‪.‬‬ ‫‪ 3‬إنشاء السحاب‪ :‬تكوينه من عدم بإثارة البخرة التي تتجمع سحابا‪ ،‬والسحاب اسم جمع لسحابة‪،‬‬ ‫وسميت سحابة لنها تسحب من مكان إلى مكان‪.‬‬ ‫‪ 4‬الباء للملبسة‪ :‬أي يسبّح ال تسبيحا ملبسا لحمده‪ ،‬والتسبيح‪ ،‬التنزيه‪.‬‬

‫( ‪)3/14‬‬ ‫سبحان ال وبحمده‪ ،‬وقوله‪{ :‬والملئكة ‪ 1‬من خيفته}‪ 2‬أي خيفة ال وهيبته وجلله فهي لذلك‬ ‫تسبحه أي تنزهه عن الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها ال تعالى‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ويرسل‬ ‫الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في ال}‪ 3‬أي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته‬ ‫{وهو شديد المحال}‪ 4‬هذه الية نزلت فعلً في رجل ‪ 5‬بعث إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫من يدعوه إلى السلم فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬من‬ ‫رسول ال؟ وما ال أمن ذهب هو أم من فضة أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة أثناء كلمه‬ ‫فذهبت بقحف رأسه‪ ،‬ومعنى شديد المحال أي القوة والخذ والبطش‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬سعة علم ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬الحرس والجلوزة لمن يستخدمهم لحفظه من أمر ال تعالى لن يغنوا عنه من أمر ال شيئا‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير عقيدة أن لكل فرد ملئكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون‪ ،‬ومنهم‬ ‫الحفظة للنسان من الشياطين والجان‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان سنة أن النعم ل تزول إل بالمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -5‬استحباب قول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملئكة من خيفته عند سماع الرعد لورود‬ ‫ذلك عن النبي صلى ال عليه وسلم بألفاظ مختلفة‪.‬‬ ‫شيْءٍ ِإلّ‬ ‫ق وَالّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ ِه لَ يَسْ َتجِيبُونَ َلهُم بِ َ‬ ‫حّ‬ ‫ع َوةُ الْ َ‬ ‫لَهُ دَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬والملئكة تسبح أيضا من خوف ال تعالى‪.‬‬ ‫‪{ 2‬من خيفته} من‪ :‬تعليلية أي‪ :‬لجل الخوف منه تعالى‪.‬‬ ‫‪{ 3‬يجادلون}‪ :‬المفعول محذوف تقديره‪ :‬يجادلونك وأتباعك المؤمنين في شأن توحيد ال تعالى‬ ‫ولقائه ونبوة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪( 4‬المحال) إن كان من الحول والميم زائدة فهو بمعنى شديد القوى‪ ،‬وإن كانت الميم أصلية‬

‫فالمحال‪ :‬بكسر الميم‪ :‬فهو فِعال بمعنى الكيد‪ ،‬وفعله محل وتمحّل إذا تحيّل‪ ،‬إذ المجادلون كانوا‬ ‫يتحيلون في أسئلتهم‪ ،‬فأعلمهم ال أنه أقوى منهم‪ ،‬وأشد كيدا منهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬قيل‪ :‬نزلت في يهودي‪ ،‬وقيل‪ :‬في أربد بن ربيعة‪ ،‬وعامر بن الطفيل‪ ،‬وقد هلك أربد بصاعقة‬ ‫نزلت به‪ ،‬وهلك عامر بغدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول‪.‬‬

‫( ‪)3/15‬‬ ‫سجُدُ‬ ‫للٍ(‪ )14‬وَلِلّهِ يَ ْ‬ ‫كَبَاسِطِ كَفّيْهِ ِإلَى ا ْلمَاء لِيَبْلُغَ فَا ُه َومَا ُهوَ بِبَاِلغِهِ َومَا دُعَاء ا ْلكَافِرِينَ ِإلّ فِي ضَ َ‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫طوْعًا َوكَرْهًا وَظِلُلهُم بِا ْل ُغ ُد ّو وَالصَالِ(‪ُ )15‬قلْ مَن ّربّ ال ّ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ‬ ‫مَن فِي ال ّ‬ ‫سهِمْ َن ْفعًا َولَ ضَرّا ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي‬ ‫وَالَرْضِ ُقلِ اللّهُ ُقلْ َأفَاتّخَذْتُم مّن دُونِهِ َأوْلِيَاء لَ َيمِْلكُونَ لِأَنفُ ِ‬ ‫جعَلُواْ لِلّهِ شُ َركَاء خََلقُواْ كَخَ ْلقِهِ فَ َتشَابَهَ ا ْلخَلْقُ‬ ‫ت وَالنّورُ أَمْ َ‬ ‫عمَى وَالْ َبصِيرُ أَمْ َهلْ َتسْ َتوِي الظُّلمَا ُ‬ ‫الَ ْ‬ ‫حدُ ا ْل َقهّارُ(‪)16‬‬ ‫شيْ ٍء وَ ُهوَ ا ْلوَا ِ‬ ‫عَلَ ْيهِمْ ُقلِ الّلهُ خَاِلقُ ُكلّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫له دعوة الحق ‪ :‬أي ل تعالى الدعوة ‪ 1‬الحق أي فهو الله الحق الذي ل إله إل هو‪.‬‬ ‫ليبلغ فاه ‪ :‬أي الماء فمه‪.‬‬ ‫إل في ضلل ‪ :‬أي في ضياع ل حصول منه على طائل‪.‬‬ ‫بالغدو والصال‪ :‬أي ال ُبكُر جمع بكرة‪ ،‬والعشايا جمع عشية‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد بالدلة والبراهين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬له دعوة الحق} أي ل‬ ‫سبحانه وتعالى الدعوة الحق وهي أنه الله الحق الذي ل إله إل هو‪ ،‬أما غيره فإطلق لفظ الله‬ ‫إطلق باطل‪ ،‬فالصنام والوثان وكل ما عبد من دون ال إطلق لفظ إله عليه إطلق باطل‪،‬‬ ‫والدعوة إلى عبادته باطلة‪ ،‬أما الدعوة الحق فإنها ل وحده‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬والذين يدعون من دونه} أي من دون ال من سائر المعبودات {ل يستجيبون لهم‬ ‫بشيء} أي ل يجيبونهم بإعطائهم شيئا مما يطلبون منهم {إل كباسط‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬الدعوة الصدق ل تعالى لنه هو الذي يستجيب ويعطي السؤال وأما دعوة الصنام‪ ،‬فإنها‬ ‫دعوة كذب وباطل‪ ،‬فإطلق الله على ال إطلق حق وصدق‪ ،‬وإطلق إله على صنم أو مخلوق‬ ‫فهو إطلق كذب وباطل‪.‬‬

‫( ‪)3/16‬‬

‫كفيه إلى الماء}‪ 1‬أي إل كاستجابة ‪ 2‬من بسط يديه أي فتحهما ومدهما إلى الماء والماء في قعر‬ ‫البئر فل كفاه تصل إلى الماء ول الماء يصل إلى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى يهلك‬ ‫عطشا‪ ،‬هذا مثل من يعبد غير ال تعالى بدعاء أو ذبح أو نذر أو خوف أو رجاء فهو محروم‬ ‫الستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبة إل النار والخسران وهو معنى قوله تعالى {وما‬ ‫دعاء الكافرين إل في ضلل}‪ 3‬أي بطلن وخسران‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ول يسجد من في السماوات}‬ ‫أي الملئكة {والرض} أي من مؤمن يسجد طوعا‪ ،‬ومنافق أي يسجد كرها‪{ 4 ،‬وظللهم} تسجد‬ ‫أيضا {بالغدو} أوائل النهار‪{ ،‬والصال}‪ 5‬أواخر النهار‪.‬‬ ‫ومعنى الية الكريمة‪ :‬إذا لم يسجد الكافرون أي لم ينقادوا لعبادة ال وحده تعالى فإنّ ل يسجد من‬ ‫في السماوات من الملئكة‪ ،‬ومن في الرض من الجن والنس المؤمنون يسجدون طائعين‬ ‫والكافرون يسجدون إذا أكرهوا على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين‪ ،‬وظللهم تسجد في‬ ‫البكر والعشايا كما أنهم منقادون لقضاء ال تعالى وحكمه فيهم ل يستطيعون الخروج عنه بحال‬ ‫فهو الذي خلقهم وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع‬ ‫وركوع أظهر من هذا؟ وقوله تعالى‪{ :‬قل من رب السماوات والرض} أي من خالقهما ومالكهما‬ ‫ومدبر المر فيهما؟ وأمر رسوله أن يسبقهم إلى الجواب {قل ال} إذ ل جواب لهم إل هو‪ ،‬وبعد‬ ‫أن أقروا بأن الرب الحق هو ال‪ ،‬أمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول لهم موبخا مقرعا‬ ‫{أفاتخذتم من دونه أولياء ‪ ، }6‬أي شركاء ل يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا فضلً عن أن يملكوا‬ ‫لكم نفعا أو يدفعون عنكم ضرا فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون‪ ،‬ومبالغة في البيان وإقامة‬ ‫للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلن الشرك والتنديد أمر رسوله أن يقول لهم‪{ :‬هل‬ ‫يستوى العمى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ضرب ال تعالى هذا المثل المائي لن العرب تضرب لمن سعى فيما ل يدركه مثل بالقابض‬ ‫الماء باليد‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫فأصبحت فيما كان بيني وبينها‬ ‫من الو ّد مثل القابض الماء باليد‬ ‫‪ 2‬هذا التفسير مروي عن علي رضي ال عنه‪.‬‬ ‫‪ 3‬الضلل‪ :‬التلف والضياع‪ ،‬والجملة‪ .‬بيان لخيبة المشركين في عبادة أصنامهم ودعائها وتقرير‬ ‫لخسرانهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬وكافر يسجد بخضوعه لحكام ال تعالى الجارية عليه ول يقدر على ردّها من غِنى وفقر‪،‬‬ ‫وصحة ومرض وسعادة وشقاوة‪.‬‬ ‫‪ 5‬الصال‪ :‬جمع أصل‪ :‬وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب‪ .‬وجمع الجمع أصائل‪،‬‬ ‫قال الشاعر‪:‬‬

‫لعمري لنت البيت أكرم أهلّه‬ ‫وأقعد في أفيائه بالصائل‬ ‫‪ 6‬الستفهام للتوبيخ والتقرير‪.‬‬

‫( ‪)3/17‬‬ ‫والبصير‪ ،‬أم هل تستوي الظلمات والنور ‪}1‬؟ والجواب قطعا ل إذا فكيف يستوى المؤمن والكافر‪،‬‬ ‫وكيف يستوي الهدى والضلل‪ ،‬فالمؤمن يعبد ال على بصيرة على علم أنه خالقه ورازقه يعلم‬ ‫سره ونجواه يجيبه إذا دعاه أرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه‪ ،‬والكافر المشرك يعبد مخلوقا من‬ ‫مخلوقات ال ل تملك لنفسها فضلً عن عابديها نفعا ول ضرا ل تسمع ندا ًء ول تجيب دعاء‪،‬‬ ‫المؤمن يعبد ال بما شرع له من عبادات وبما طلب منه من طاعات وقربات‪ ،‬والكافر المشرك‬ ‫يعبد الباطل بهواه‪ ،‬ويسلك سبيل الغيّ في الحياة‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬أم جعلوا ‪ 2‬ل شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} أي بل جعلوا ل شركاء فخلقت‬ ‫تلك الشركاء مخلوقات كخلق ال فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظنا منهم أنها خلقت كخلق‬ ‫ال؟ والجواب ل فإنها لم تخلق ول تستطيع خلق ذبابة فضلً عن غيرها إذا فكيف تصح عبادتها‬ ‫وهي لم تخلق شيئا‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬قل ال خالق كل ‪ 3‬شيء وهو الواحد القهار} أي قل أيها‬ ‫الرسول للمشركين عند اعترافهم بأن آلهتهم لم تخلق شيئا قل لهم‪ :‬ال خالق كل شيء وهو الواحد‬ ‫الذي ل شريك له ول ند ول مِ ْثلَ‪ ،‬القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار‪ ،‬هو المستحق للعبادة‬ ‫الواجب له الطاعة‪ ،‬اليمان به هدى والكفر به ضلل‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬دعوة الحق ل وحده فهو المعبود بحق ل إله غيره ول رب سواه‪.‬‬ ‫‪ -2‬حرمان المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬الخلق كلهم يسجدون ل طوعا أو كرها إذ الكل خانع خاضع لحكم ال وتدبيره فيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أم‪ :‬للضراب النتقالي من قضية إلى أخرى واختيار العمى والبصر والنور والظلمات لبيان أنّ‬ ‫حال المؤمنين وحال الكافرين في تضاد فالمؤمنون مبصرون يمشون في النور‪ ،‬والكافرون عمي‬ ‫يمشون في الظلمات‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا من تمام الحتجاج والستفهام للضراب النتقالي‪ ،‬وهو للتهكم بالمشركين‪ ،‬فالمعنى‪ :‬لو‬ ‫جعلوا ل شركاء يخلقون فخلقوا كما يخلق ال فتشابه الخلق عليهم لكانوا معذورين ولكنهم لم‬ ‫يخلقوا ولن يخلقوا‪.‬‬

‫‪ 3‬في الية رد على الملحدة الشيوعيين الذين يكرون وجود ال جل جلله ورد على القدرية‬ ‫الذين يزعمون أنهم يخلقون أفعالهم وال يقول‪{ :‬وال خالق كل شيء} فل يخرج شيء عن كونه‬ ‫مخلوقا ل تعالى‪.‬‬

‫( ‪)3/18‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية السجود للقارئ والمستمع إذا بلغ هذه الية {وظللهم بالغدو والصال} ويستحب أن‬ ‫يكون ظاهرا مستقبلً القبلة‪ ،‬ويكبر عند الخفض والرفع ول يسلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬بطلن الشرك إذ ل دليل عليه من عقل ول نقل ‪.1‬‬ ‫‪ -6‬وجوب العبادة ل تعالى‪.‬‬ ‫سمَاء مَاء فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَ َبدًا رّابِيًا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ‬ ‫أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬ ‫جفَاء وََأمّا مَا يَنفَعُ‬ ‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ‬ ‫ق وَالْبَا ِ‬ ‫حّ‬ ‫ابْ ِتغَاء حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬ ‫لمْثَالَ(‪ )17‬لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَ ّب ِهمُ ا ْلحُسْنَى وَالّذِينَ َلمْ‬ ‫النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ‬ ‫حسَابِ‬ ‫لفْتَ َدوْاْ ِبهِ ُأوْلَ ِئكَ َلهُمْ سُوءُ الْ ِ‬ ‫جمِيعًا َومِثْلَهُ َمعَهُ َ‬ ‫يَسْ َتجِيبُواْ لَهُ َلوْ أَنّ َلهُم مّا فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ(‪)18‬‬ ‫َومَأْوَا ُهمْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪.:‬‬ ‫فسالت أودية بقدرها‪ :‬أي بمقدار مائها الذي يجري فيها‪.‬‬ ‫زبدا رابيا‪ :‬أي غثاء عاليا إذ الزبد هو َوضَرُ غليان الماء أو جريانه في النهار‪.‬‬ ‫ومما يوقدون عليه في النار‪ :‬أي كالذهب والفضة والنحاس‪.‬‬ ‫ابتغاء حلية أو متاع ‪ :. 2‬أي طلبا لحلية من ذهب أو فضة أو متاع من الواني‪.‬‬ ‫زبد مثله‪ :‬أي مثل زبد السيل‪.‬‬ ‫فأما الزبد‪ :‬أي زبد السبل أو زبد ما أوقد عليه النار‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬إذ الحقل ل يُجيز عبادة مخلوق مربوب ل يملك لنفسه فضلً عن غيره موتا ول حياة بل ول‬ ‫ضرا ول نفعا والنقل حرّم الشرك بجميع أنواعه الكبر والصغر والخفي والجلي قال تعالى‪:‬‬ ‫{واعبدوا ال ول تشركوا به شيئا} من الشرك والشركاء‪.‬‬ ‫‪{ 2‬ابتغاء}‪ :‬مفعول لجله‪ ،‬والحلية‪ :‬ما يتحلى به‪ ،‬أي يتزيّن‪ ،‬والمتاع ما يتمتع به وينتفع‪.‬‬

‫( ‪)3/19‬‬

‫فيذهب جفاء ‪ : 1‬أي باطلً مرميا به بعيدا إذ هو غثاء ووضر ل خير فيه‪.‬‬ ‫فيمكث في الرض‪ :‬أي يبقى في الرض زمنا ينتفع به الناس‪.‬‬ ‫للذين استجابوا لربهم الحسنى ‪ :‬أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة‪.‬‬ ‫لم يستجيبوا‪ :‬أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه‪.‬‬ ‫لفتدوا به‪ :‬أي من العذاب‪.‬‬ ‫سوء المهاد‪ :‬وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه ل يغفر لهم منه شيء‪.‬‬ ‫وبئس المهاد‪ :‬أي الفراش الذي أعدوه لنفسهم وهو جهنم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الية الكريمة ضرب ال تعالى‬ ‫مثلً للحق والباطل‪ ،‬للحق في بقائه‪ ،‬والباطل في اضمحلله وتلشيه فقال‪{ :‬أنزل} أي ال {من‬ ‫السماء ماءً فسالت أودية بقدرها ‪ }2‬أي بحسب كبرها وصغرها لن الوادي قد يكون كبيرا وقد‬ ‫يكون صغيرا‪ ،‬فاحتمل السيل أي حمل سيل الماء في الوادي زبدا رابيا أي غثاء ووضرا عاليا‬ ‫على سطح الماء‪ ،‬هذا مثل مائي‪ ،‬ومثل ناري قال فيه عز وجل‪{ :‬ومما يوقدون عليه في النار ‪}3‬‬ ‫أي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون {ابتغاء حلية} أي طلبا للحلية ‪{ ،‬أو متاع} أي طلبا لمتاع‬ ‫يتمتع به كالوانى إذ الصائغ أو الحداد يضع الذهب أو الفضة أو النحاس في البوتقة وينفخ عليها‬ ‫بالكير فيعلو ما كان فاسدا غير صالح على صورة الزبد ‪ 4‬وما كان صالحا يبقى في البوتقة وهو‬ ‫الذي يصنع منه الحلية والمتاع‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬كذلك} أي المذكور من المور الربعة مثلي الحق‬ ‫وهما الماء والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر {فأما الزبد فيذهب جفاء} أي‬ ‫باطلً‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجفاء‪ :‬ما أجفاه الوادي أي‪ :‬رمى به‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أودية} جمع واد‪ ،‬والوادي اسم للماء السائل هنا إذ الوادي وهو أخدود بين مرتفعين ل يسيل‬ ‫وإنما يسيل الماء فيه‪ ،‬ومعنى‪{ :‬بقدرها}‪ :‬أي‪ :‬بقدر ملئها‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا المثل الثاني والول هو مثل الماء السائل في الوادي وما يحمل من زبد عالٍ‪.‬‬ ‫‪ 4‬هو معنى قوله تعالى‪{ :‬زبد مثله} أي زبد ما يعلو الذهب والفضة والحديد كزبد ما يعلو ماء‬ ‫السيل‪.‬‬

‫( ‪)3/20‬‬ ‫مرميا به يرميه السيل إلى ساحل الوادي فيعلق بالشجار والحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته‪،‬‬ ‫وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الرض‪ ،‬وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع‬

‫يبقى في بوتقة الصائغ ‪ 1‬والحداد وقوله تعالى‪{ :‬كذلك يضرب ال المثال} أي مثل هذا المثل الذي‬ ‫ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلشيه وإن عل وطغا في بعض الوقات‪{ ،‬يضرب} أي‬ ‫بين المثال‪ ،‬ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا‪.‬‬ ‫هذا ما تضمنته الية الولى (‪ )17‬وأما الية الثانية (‪ )18‬فقد أخبر تعالى بوعد له ووعيد أما‬ ‫وعده فلهل طاعته بأن لهم الحسنى ‪ 2‬الجنة وأما وعيده فلهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده‪،‬‬ ‫‪ 3‬فقال تعالى في وعده‪{ :‬للذين استجابوا لربهم الحسنى} وقال في وعيده‪{ :‬والذين لم يستجيبوا لو‬ ‫أن لهم ما في الرض جميعا} أي من مال ومتاع {ومثله معه} أيضا لفتدوا به من العذاب الذي‬ ‫تضمنه هذا الوعيد الشديد‪ ،‬ويعلن عن الوعيد فيقول‪{ :‬أولئك} أي الشقياء {لهم سوء الحساب} وهو‬ ‫أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة في أعمالهم ول يغفر لهم منها شيء {ومأواهم جهنم} أي‬ ‫مقرهم ومكان إيوائهم {وبئس المهاد} أي الفراش جهنم لهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان ضرب المثال لتقريب المعاني إلى الذهان‪.‬‬ ‫‪ -2‬ثبات الحق‪ ،‬واضمحلل الباطل سنة من سنن ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان وعد ال للمستجيبين له باليمان والطاعة وهي الجنة‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان وعيد ال لمن يستجب له باليمان والطاعة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا مثل للحق والباطل إذا اجتمعا فإنه لثبات للباطل ول دوام له مثل الزبد مع الماء أو مع‬ ‫الحلية ل يبقى بل يذهب ويتلشى ويضمحل والمراد من الحق والباطل‪ :‬اليمان والكفر‪ ،‬واليقين‬ ‫بذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومن الحسنى‪ :‬النصر في الدنيا والتمكين فيها لهل التوحيد‪.‬‬ ‫‪ 3‬وهو النار وبئس المهاد‪.‬‬

‫( ‪)3/21‬‬ ‫عمَى إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ ُأوْلُواْ الَلْبَابِ(‪ )19‬الّذِينَ يُوفُونَ‬ ‫حقّ َكمَنْ ُهوَ أَ ْ‬ ‫َأ َفمَن َيعْلَمُ أَ ّنمَا أُن ِزلَ إِلَ ْيكَ مِن رَ ّبكَ الْ َ‬ ‫شوْنَ رَ ّبهُمْ‬ ‫ل وَيَخْ َ‬ ‫صَ‬ ‫ِب َعهْدِ الّل ِه وَلَ يِن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ(‪ )20‬وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَا َأمَرَ الّلهُ بِهِ أَن يُو َ‬ ‫ل َة وَأَن َفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ‬ ‫جهِ رَ ّبهِ ْم وََأقَامُواْ الصّ َ‬ ‫ن صَبَرُواْ ابْ ِتغَاء وَ ْ‬ ‫وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ(‪ )21‬وَالّذِي َ‬ ‫عدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا َومَنْ‬ ‫عقْبَى الدّارِ(‪ )22‬جَنّاتُ َ‬ ‫سِرّا وَعَلَنِيَ ًة وَيَدْ َرؤُونَ بِا ْلحَسَنَةِ السّيّئَةَ ُأوْلَ ِئكَ َل ُهمْ ُ‬ ‫جهِ ْم وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَالمَلَ ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِم مّن ُكلّ بَابٍ (‪ )23‬سَلَمٌ عَلَ ْيكُم ِبمَا‬ ‫صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِمْ وَأَزْوَا ِ‬ ‫عقْبَى الدّارِ(‪)24‬‬ ‫صَبَرْتُمْ فَ ِنعْمَ ُ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كمن هو أعمى ‪ :‬أي ل يرى الحق ول يعلمه ول يؤمن به‪.‬‬ ‫أولوا اللباب ‪ :‬أي أصحاب العقول‪.‬‬ ‫يصلون ما أمر ال به أن يوصل ‪ :‬أي من اليمان والتوحيد والرحام‪.‬‬ ‫ويدرءون بالحسنة‪ :‬أي يدفعون بالحلم الجهل‪ ،‬وبالصبر الذى‪.‬‬ ‫عقبى الدار‪ :‬أي العاقبة المحمودة في الدار الخرة‪.‬‬ ‫جنات عدن ‪ :‬أي جنات إقامة دائمة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقد تضمنت هذه اليات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين‪ :‬الولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن‬ ‫عبدالمطلب والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما‬

‫( ‪)3/22‬‬ ‫لهما من جزاء في الدار الخرة‪ ،‬مع ذكر صفات كل منهما‪ ،‬تلك الصفات المقتضية لجزائهما في‬ ‫الدار الخرة قال تعالى‪{ :‬أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} فيؤمن به بعد العلم ويستقيم‬ ‫على منهجه في عقيدته وعبادته ومعاملته وسلوكه كله‪ .‬هذه الشخصية الولى {كمن هو أعمى ‪}1‬‬ ‫لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يعمل بما أنزل إلى الرسول من الشرع‪..‬‬ ‫والجواب قطعا أنهما ل يستويان ول يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى‪{ :‬إنما‬ ‫يتذكر أولو اللباب} أي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق والمفرقة بين‬ ‫المتضادّات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬الذين يوفون} هذا‬ ‫مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر لهم ثماني صفات هي كالتالي‪)1( :‬‬ ‫الوفاء بالعهود وعدم نقضها‪{ :‬الذين يوفون بعهد ‪ 2‬ال ول ينقضون الميثاق}‪ 3‬إذ ل دين لمن ل‬ ‫عهد له‪ )2( .‬وصل ما أمر ال به أن يوصل من اليمان والسلم والحسان والرحام‪{ :‬والذين‬ ‫يصلون ما أمر ال به أن يوصل}‪ )3( .‬خشية ال المقتضية لطاعته‪{ :‬ويخشون ربهم}‪)4( .‬‬ ‫الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة‪{ :‬ويخافون‬ ‫سوء الحساب}‪ )5( .‬الصبر طلبا لمرضاة ال على الطاعات وعن المعاصي‪ ،‬وعلى البلء‪:‬‬ ‫{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم}‪ )6( .‬إقامة الصلة وهي أداؤها في أوقاتها جماعة بكامل‬ ‫الشروط والركان والسنن والداب‪{ :‬وأقاموا الصلة}‪ )7( .‬النفاق مما رزقهم ال في الزكاة‬ ‫والصدقات الواجبة والمندوبة‪{ :‬وأنفقوا مما رزقناهم}‪ )8( .‬دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة‬ ‫الجهل عليهم بحسنة العلم‪ ،‬وسيئة الذى بحسنة ‪ 4‬الصبر‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬أولئك لهم عقبى الدار} أي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله (جنات عدن} أ ي إقامة‬

‫ل ظعن منها يدخلونها هم {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم}‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد من العمى هنا ‪ :‬عمى القلب ل عمى البصر‪ ،‬والجهل هو سبب العمى‪.‬‬ ‫‪ 2‬العهد هنا‪ :‬اسم جنس إذ المراد الوفاء بكافة عهود ال تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصي‬ ‫بها عباده‪.‬‬ ‫‪ 3‬الميثاق هنا‪ :‬أيضا اسم جنس يدخل فيه كل المواثيق أي‪ :‬إذا عقدوا في طاعة ال عهدا لم‬ ‫ينقضوه‪ ،‬قال قتادة‪ :‬ورد النهي عن نقض الميثاق في بضع وعشرين آية‪.‬‬ ‫‪ 4‬وسيئة المعصية بالتوبة منها‪ .‬واللفظ العام الشامل هو أنهم يدفعون بالعمل الصالح كل عمل‬ ‫فاسد‪.‬‬

‫( ‪)3/23‬‬ ‫والصلح هنا اليمان والعمل الصالح‪ .‬وقوله‪{ :‬والملئكة يدخلون عليهم من كل باب} هذا عند‬ ‫دخولهم الجنة تدخل عليهم الملئكة تهنئهم بسلمة الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة‪:‬‬ ‫{سلم عليكم بما صبرتم} أي بسبب صبركم واليمان والطاعة {فنعم عقبى الدار}‪ . 1‬هذه تهنئة‬ ‫الملئكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة اللهم اجعلني منهم ووالدي وأهل بيتي والمسلمين‬ ‫أجمعين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬المؤمن حيّ يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى ل يعلم ول يعمل‪.‬‬ ‫‪ -2‬التعاظ بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل هذه الصفات الثمانية المذكورة في هذه اليات‪ .‬أولها الوفاء بعهد ال وآخرها درء‬ ‫السيئة بالحسنة‪.‬‬ ‫‪ -4‬تفسير عقبى الدار ‪ 2‬وأنها الجنة‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان أن الملئكة تهنىء أهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم‪.‬‬ ‫صلَ وَ ُيفْسِدُونَ فِي الَ ْرضِ‬ ‫طعُونَ مَآ َأمَرَ اللّهُ ِبهِ أَن يُو َ‬ ‫عهْدَ اللّهِ مِن َب ْعدِ مِيثَاقِ ِه وَ َيقْ َ‬ ‫وَالّذِينَ يَن ُقضُونَ َ‬ ‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ َوفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا‬ ‫ُأوْلَ ِئكَ َلهُمُ الّلعْنَةُ وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ(‪ )25‬اللّهُ يَبْ ُ‬ ‫الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الخِ َرةِ ِإلّ مَتَاعٌ(‪ )26‬وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ آ َيةٌ مّن رّبّهِ ُقلْ إِنّ اللّهَ‬ ‫طمَئِنّ‬ ‫ضلّ مَن َيشَاء وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ أَنَابَ(‪ )27‬الّذِينَ آمَنُو ْا وَتَ ْ‬ ‫ُي ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جائز أن يكون معنى عقبى الدار‪ :‬الجنسة وجائز أن يكون عقبى الدار‪ :‬دار الدنيا إذ عقباها‬

‫الدار الخرة وفيها الجنة‪ ،‬إذا كانوا في دار الدنيا يعملون الصالحات فورثهم ال الجنة فكانت عقبى‬ ‫الدنيا إذ عقبى الدار بمعنى عاقبتها‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬فعقبى دار الدنيا الجنة هذا كقوله والعاقبة للتقوى‪ ،‬وقوله {ولنعم دار المتقين} أي الجنة‪.‬‬

‫( ‪)3/24‬‬ ‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ طُوبَى َلهُمْ‬ ‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ(‪ )28‬الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬ ‫قُلُو ُبهُم بِ ِذكْرِ الّلهِ َألَ بِ ِذكْرِ الّلهِ تَ ْ‬ ‫وَحُسْنُ مَآبٍ(‪)29‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫والذين ينقضون عهد ال‪ :‬أي يحلونه ول يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده‪.‬‬ ‫ويقطعون ما أمر ال به أن يوصل ‪ :‬أي من اليمان والرحام‪.‬‬ ‫ويفسدون في الرض‪ :.‬أي بترك الصلة ومنع الزكاة‪ ،‬وبارتكاب السيئات وترك الحسنات‪.‬‬ ‫لهم اللعنة ‪ :‬أي البعد من رحمة ال تعالى‪.‬‬ ‫ولهم سوء الدار‪ :‬أي جهنم وبئس المهاد‪.‬‬ ‫ويقدر ‪ :‬أي يضيق ويقتر‪.‬‬ ‫إل متاع‪ :‬قدر يسير يمتع به زمنا ثم ينقضي‪.‬‬ ‫طوبى لهم وحسن مآب‪ :‬أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السلم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬والذين ينقضون} اليات‪ ،‬هذا هو الطرف المقابل أو الشخصية الثانية وهو من لم‬ ‫يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبدالمطلب رضي ال عنه ذكر تعالى هنا صفاته‬ ‫الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن على شاكلته الصفات التالية‪:‬‬ ‫(‪ )1‬نقض العهد فلم يعبدوا ال ولم يوحدوه وهو العهد الذي أخذ عليهم في عالم الرواح‪{ :‬والذين‬ ‫ينقضون عهد ال من بعد ميثاقه}‪.‬‬ ‫(‪ )2‬قطع ما أمر ال به أن يوصل من اليمان ‪ 1‬وصلة الرحام‪{ :‬ويقطعون ما أمر ال به أن‬ ‫يوصل}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي بسائر النبياء فل يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كاليهود والنصارى‪.‬‬

‫( ‪)3/25‬‬

‫(‪ )3‬الفساد في الرض بالشرك والمعاصي‪{ :‬ويفسدون في الرض ‪ ،}1‬بهذه الصفات استوجبوا‬ ‫هذا الجزاء‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أولئك لهم اللعنة} أي البعد من الرحمة {ولهم سوء ‪ 2‬الدار} أي جهنم‬ ‫وبئس المهاد‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ال يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا‪ ،‬وما الحياة‬ ‫الدنيا في الخرة إل متاع} يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي‬ ‫يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضّيق ويقتّر على من يشاء ابتلء هل يصبر أو‬ ‫يجزع‪ ،‬وقد يبسط الرزق لبعض إذ ل يصلحهم إل ذاك‪ ،‬وقد يضيق على بعض إذ ل يصلحهم إل‬ ‫ذاك‪ ،‬فلن يكون الغنى دالً على رضى ال‪ ،‬ول الفقر دالً على سخطه تعالى على عباده‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫{وفرحوا بالحياة الدنيا} أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء‬ ‫آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد ال لوليائه وهم أهل اليمان به وطاعته إل متاع قليل‬ ‫َككَفّ التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفد‪ ،‬وقوله تعالى في الية (‬ ‫‪{ :)27‬ويقول الذين كفروا لول أنزل ‪ 3‬عليه آية من ربه} فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين‬ ‫وهو مطالبة المشركين النبي صلى ال عليه وسلم أن تكون له آية كناقة صالح أو عصا موسى‬ ‫ليؤمنوا به وهم في ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب إل الستخفاف والعناد وإل آيات‬ ‫القرآن أعظم من آية الناقة والعصا‪ ،‬فلذا قال تعالى لرسوله‪{ :‬قل إن ال يضل من يشاء} إضلله‬ ‫ولو رأى وشاهد ألوف اليات {‪4‬ويهدي إليه من أناب} لو لم ير آية واحدة إل أنه أناب إلى ال‬ ‫فهداه إليه وقبله وجعله من أهل وليته‪ ،‬وقوله تعالى في الية (‪{ )28‬الذين ‪ 5‬آمنوا وتطمئن قلوبهم‬ ‫بذكر ال} أولئك الذين أنابوا إليه تعالى إيمانا وتوحيدا فهداهم إليه صراطامستقيما هؤلء تطمئن‬ ‫قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر ال وذكر وعده وذكر صالحي عباده محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫وأصحابه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬أل بذكر ال تطمئن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي بالشرك وارتكاب المعاصي‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي سوء المنقلب وهو جهنم‪ ..‬قال سعد ابن أبي وقاص‪ :‬وال الذي ل إله إلّ هو أنهم‬ ‫الحرورية‪ :‬بمعنى الخوارج‪.‬‬ ‫‪ 3‬المطالبون باليات المقترحون لها على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬من بينهم عبدال بن‬ ‫أمية وأصحابه‪.‬‬ ‫‪ 4‬الضمير في قوله‪{ :‬ويهدي إليه من أناب}‪ :‬يعود على الحق أو السلم أو ال عز وجل‪ .‬أي‬ ‫يهدي إلى جنته وطاعته من رجع إليه بقلبه والكل صالح ومراد‪.‬‬ ‫‪ 5‬الذين‪ :‬في محل نصب لنه مفعول يهدي‪ ،‬وتصح أن بكون بدلً من قوله‪{ :‬أناب} وذكر ال هو‬ ‫ذكره بألسنتهم وبقلوبهم وهو يشمل ذكر الوعد والوعيد وكمال ال كما يشمل قراءة كتابه وتلوة‬ ‫آياته قال مجاهد‪ :‬هم أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم وحقا هم ومن يأتي بعدهم يهج نهجهم في‬ ‫اليمان والتقوى‪.‬‬

‫( ‪)3/26‬‬ ‫القلوب} أي قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا وملذها وقلوب المشركين‬ ‫تطمئن لذكر أصنامهم‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬الذين آمنوا ‪ 1‬وعملوا الصالحات طوبى ‪ 2‬لهم وحسن مآب}‬ ‫إخبار من ال تعالى بما أعد لهل اليمان والعمل الصالح وهو طوبى حال من الحسن الطيب‬ ‫يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو الجنة دار السلم والنعيم المقيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة التصاف بصفات أهل الشقاء وهي نقض العهد‪ ،‬وقطع ما أمر ال به أن يوصل‬ ‫والفساد في الرض بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن الغنى والفقر يتمان حسب علم ال تعالى امتحانا وابتلءً فل يدلن على رضا ال ول‬ ‫على سخطه‪.‬‬ ‫‪ -3‬حقارة الدنيا وضآلة ما فيها من المتاع‪.‬‬ ‫ ‪ -4‬فضل ذكر ال وسكون القلب إليه‪.‬‬‫‪ -5‬وعد ال تعالى لهل اليمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب‪.‬‬ ‫حمَنِ‬ ‫ك وَهُمْ َي ْكفُرُونَ بِالرّ ْ‬ ‫سلْنَاكَ فِي ُأمّةٍ قَدْ خََلتْ مِن قَبِْلهَا ُأمَمٌ لّتَتُْلوَ عَلَ ْيهِمُ الّ ِذيَ َأوْحَيْنَا إِلَ ْي َ‬ ‫كَذَِلكَ أَرْ َ‬ ‫ط َعتْ‬ ‫ُقلْ ُهوَ رَبّي ل إَِلهَ ِإلّ ُهوَ عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(‪ )30‬وََلوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّ َرتْ بِهِ ا ْلجِبَالُ َأوْ قُ ّ‬ ‫بِ ِه الَ ْرضُ َأوْ كُلّمَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الذين آمنوا‪ ،‬هذا مبتدأ ‪ ،‬والخبر‪ :‬طوبى لهم وحسن مآب يعطف عليه‪ ،‬وطوبى ورد أنها شجرة‬ ‫في الجنة‪ ،‬ففي البخاري‪" :‬إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ل يقطعها"‪.‬‬ ‫‪{ 2‬طوبى} مصدر طاب يطيب طيبا إذا أحسن وهي بوزن البشرى‪ ،‬والزّلفى قلبت ياؤها واوا‬ ‫لمناسبة الضمة قبلها أي‪ :‬الخير الكامل لنهم اطمأنت قلوبهم بذكر ال فهم في طيب حال‪.‬‬

‫( ‪)3/27‬‬ ‫جمِيعًا َولَ يَزَالُ‬ ‫جمِيعًا َأفََلمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُواْ أَن ّلوْ َيشَاء الّلهُ َلهَدَى النّاسَ َ‬ ‫لمْرُ َ‬ ‫بِهِ ا ْل َموْتَى بَل لّلّ ِه ا َ‬ ‫عدُ اللّهِ إِنّ اللّ َه لَ‬ ‫حلّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتّى يَأْ ِتيَ وَ ْ‬ ‫عةٌ َأوْ تَ ُ‬ ‫الّذِينَ َكفَرُواْ ُتصِي ُبهُم ِبمَا صَ َنعُواْ قَارِ َ‬ ‫سلٍ مّن قَبِْلكَ فََأمْلَ ْيتُ لِلّذِينَ َكفَرُواْ ثُمّ َأخَذْ ُتهُمْ َفكَيْفَ كَانَ‬ ‫يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ(‪ )32‬وََلقَدِ اسْ ُتهْزِىءَ بِرُ ُ‬ ‫عقَابِ(‪)33‬‬ ‫ِ‬

‫شرح الكلمات‪:.‬‬ ‫كذلك أرسلناك‪ :‬أي مثل ذلك الرسال الذي أرسلنا به رسلنا أرسلناك‪.‬‬ ‫لتتلو عليهم ‪ :‬أي لتقرأ عليهم القرآن تذكيرا وتعليما ونذارة وبشارة‪.‬‬ ‫وهم يكفرون بالرحمن ‪ :‬إذ قالوا وما الرحمن وقالوا ل رحمن إل رحمان اليمامة‪.‬‬ ‫سيرت به الجبال‪ :‬أي نقلت من أماكنها‪.‬‬ ‫أو قطعت به الرض ‪ :‬أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا‪.‬‬ ‫أو كلم به الموتى‪ :‬أي أحيوا وتكلموا‪.‬‬ ‫أفلم ييأس ‪ :‬أي يعلم‪.‬‬ ‫قارعة‪ :‬أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم‪.‬‬ ‫أو تحل قريبا من دارهم ‪ :‬أي القارعة أو الجيش السلمي‪.‬‬ ‫فأمليت ‪ :‬أي أمهلت وأخرت مدة طويلة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير أصول العقائد‪ :‬التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الخر ففي الية الولى‬ ‫من هذا السياق وهي توله تعالى {كذلك أرسلناك} فقرر نبوة الرسول صلى ال عليه وسلم‬

‫( ‪)3/28‬‬ ‫بقوله كذلك أي الرسال ‪ 1‬الذي أرسلنا من قبلك أرسلناك أنت إلى أمة قد خلت من قبلها أمم‪ ،‬وبين‬ ‫فائدة الرسال فقال‪{ :‬لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} وهو الرحمة والهدى والشفاء {وهم يكفرون‬ ‫بالرحمن} الرحمن ‪ 2‬الذي أرسلك لهم بالهدى ودين الحق لكمالهم وإسعادهم يكفرون به‪ ،‬إذا فقل‬ ‫أنت أيها الرسول هو ربي ل إله إل هو أي ل معبود بحق إل هو عليه توكلت وإليه متاب أي‬ ‫توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )31‬ولو‬ ‫أن قرآنا}ا لخ‪ ..‬ل شك أن مشركي مكة كانوا طالبوه ‪ 3‬بما ذكر في هذه الية إذ قالوا إن كنت‬ ‫رسولً فادع لنا ربك فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع أرضنا للزراعة والحراثة‬ ‫وقطع أرضنا فأخرج لنا منها العيون والنهار وأحي لنا فلنا وفلنا حتى نكلمهم ونسألهم عن‬ ‫صحة ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعالى‪{ :‬ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الرض‬ ‫أو كلم به الموتى} أي لكان هذا القرآن‪ ،‬ولكن ليست اليات ‪ 4‬هي التي تهدي بل ل المر جميعا‬ ‫يهدي من يشاء ويضل من يشاء‪ ،‬ولما صرفهم ال تعالى عن اليات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو‬ ‫أعطاهم إياها لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب البادة كالمم السابقة‪ ،‬وكان من المؤمنين من يود‬ ‫اليات الكونية ظنا منه أن المشركين لو شاهدوا آمنوا وانتهت المعركة الدائرة بين الشرك‬ ‫والتوحيد قال تعالى‪{ :‬أفلم ييأس ‪ 5‬الذين آمنوا} أي يعلموا {أن لو يشاء ال لهدى الناس جميعا}‬

‫باليات وبدونها فليترك المر له سبحانه وتعالى يفعل ما لشاء ويحكم ما يريد‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ول‬ ‫يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا} أي من الشرك والمعاصي {قارعة} أي داهية تقرع قلوبهم‬ ‫بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن وذلك كالجدب والمرض والقتل والسر {أو تحل قريبا من‬ ‫دارهم} أي يحل الرسول بجيشه السلمي ليفتح مكة حتى يأتي وعد ال بنصرك أيها الرسول‬ ‫عليهم والية‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا تشبيه في النعام أي‪ :‬شبّه النعام على من أرسل إليهم محمد صلى ال عليه وسلم بالنعام‬ ‫على من أرسل إليه النبياء قبله‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫‪ :‬اسجدوا للرحمن قالوا‪ :‬وما الرحمن‪ ،‬والية وإن لم تنزل بخصوص دعوى المشركين إلّ أنها‬ ‫تحمل ردا عليهم في دعواهم الباطلة‪.‬‬ ‫‪ 3‬تقدّم أن من بين المطالبين أبا جهل‪ ،‬وعبدال بن أمية المخزوميين إذ قال له صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬إن سرّك أن نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن فاذهبها عنا‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬فليس ما تطلبونه مما يكون بالقرآن‪ ،‬وإنّما يكون بأمر ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 5‬يئس ييأس بمعنى‪ :‬علم يعلم ل النخع‪ ،‬والقرآن نزل بلغات العرب‪ ،‬وقيل‪ :‬لغة هوازن قال‬ ‫شاعرهم‪:‬‬ ‫أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني‬ ‫ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم‬

‫( ‪)3/29‬‬ ‫عامة فيمن بعد قريش ويكون الوعيد متناولً أمم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل‬ ‫قرن مرة ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ول يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش السلمي‬ ‫قريبا دارهم ليدخلوا في دين ال أو يهلكوا‪{ ،‬إن ال ل يخلف الميعاد} وقد أنجز ما وعد قريشا‪ ،‬في‬ ‫الية الخيرة (‪ )32‬يخبر تعالى رسوله مسليا إياه عما يجد تعب وألم من صلف المشركين‬ ‫وعنادهم فيقول له‪{ :‬ولقد استهزىء ‪ 1‬برسل من قبلك} أي كما استهزىء بك فصبروا فاصبر أنت‪،‬‬ ‫{فأمليت للذين كفروا} أي أمهلتهم وأنضرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم أبق منهم أحدا‬ ‫{فكيف ‪ 2‬كان عقاب} أي كان شديدا عاما واقعا موقعه‪ ،‬فكذلك أفعل بمن استهزأ بك يا رسولنا إذا‬ ‫لم يتوبوا ويسلموا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫‪ -1‬تقرير التوحيد‪.‬‬ ‫‪ -2‬ل توكل إل على ال‪ ،‬ول توبة لحد إل إليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬عظمة القرآن الكر يم وبيان فضله‪.‬‬ ‫‪ -4‬إطلق لفظ اليأس ‪ 3‬المراد به العلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬توعد الرب تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ - 6‬ال جل جلله يملي ويمهل ولكن ل يهمل بل يؤاخذ ويعاقب‪.‬‬ ‫سمّوهُمْ َأمْ تُنَبّئُونَهُ ِبمَا لَ َيعْلَمُ فِي‬ ‫جعَلُواْ لِلّهِ شُ َركَاء ُقلْ َ‬ ‫َأ َفمَنْ ُهوَ قَآئِمٌ عَلَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ وَ َ‬ ‫ل َومَن ُيضِْللِ الّلهُ َفمَا‬ ‫الَ ْرضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ ا ْل َقوْلِ َبلْ زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ َمكْرُهُمْ وَصُدّواْ عَنِ السّبِي ِ‬ ‫عذَابٌ فِي ا ْلحَيَاةِ‬ ‫لَهُ مِنْ هَادٍ(‪ّ )33‬لهُمْ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬سُخر بهم أُزري عليهم‪ ،‬وذلك كما سخرت قوم نوح بنوح‪ ،‬وعاد بهود وثمود بصالح‬ ‫ومدين يشعيب‪.‬‬ ‫‪ 2‬الستفهام للعجب‪.‬‬ ‫‪ 3‬في لغة النخع أو هوازن‪.‬‬

‫( ‪)3/30‬‬ ‫ق َومَا َلهُم مّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ(‪ )34‬مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ َتجْرِي مِن‬ ‫شّ‬ ‫الدّنْيَا وََلعَذَابُ الخِ َرةِ أَ َ‬ ‫عقْبَى ا ْلكَافِرِينَ النّارُ(‪)35‬‬ ‫عقْبَى الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّ ُ‬ ‫ظّلهَا تِ ْلكَ ُ‬ ‫تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ ُأكُُلهَا دَآئِ ٌم وِ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أفمن هو قائم ‪ 1‬على كل نفس بما كسبت‪ :‬أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت و يجازيها‬ ‫بعملها‪.‬‬ ‫صفُوهم له مَنْ هُم؟‬ ‫قل سموهم‪ :.‬أي ِ‬ ‫أم تنبئونه بما ل يعلم‪ :‬أي أتخبرونه بما ل يعلمه؟‬ ‫بظاهر من القول ‪ :‬أي بظن باطل ل حقيقة له في الواقع‪.‬‬ ‫أشق‪ :‬أي أشد‪.‬‬ ‫واق ‪ :‬أي مانع يمنعهم من العذاب‪.‬‬ ‫مثل الجنة‪ :‬أي صفتها التي نقصها عليك‪.‬‬ ‫أكلها دائم وظلها‪ :‬أي ما يؤكل فيها دائم ل يفنى وظلها دائم ل ينسخ‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى‪{ .‬أفمن هو قائم على كل نفس بما‬

‫كسيت ‪ }2‬أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر ومجازيها كمن ل يحفظ ول‬ ‫يرزق ول يعلم ول يجزي وهو الصنام‪ ،‬إذا فبطل تأليهها ولم يبق إل الله الحق ال الذي ل إله‬ ‫إل هو ول رب سواه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وجعلوا ل شركاء} أي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ليس القيام هنا ضد القعود بل هو التولّي لمور الخلق بالحفظ والتدبير‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجواب محذوف في الية‪ ،‬وقد ذكر في التفسير‪.‬‬

‫( ‪)3/31‬‬ ‫يعبدونهم معه {قل سموهم}‪ 1‬أي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من هم؟ {أم‬ ‫تنبئونه بما ل يعلم ‪ 2‬في الرض} أي أتنبئون ال بما ل يعلم في الرض؟ {أم بظاهر من القول}‬ ‫أي بل بظاهر ‪ 3‬من القول أي بظن باطل ل حقيقة له في الواقع‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬بل زين للذين كفروا مكرهم} أي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك ‪ 4‬صدوا‬ ‫عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا إليه‪{ ،‬ومن يضلل ال فما له من هاد} وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والسر‪{ ،‬ولعذاب الخرة أشق} أي أشد من عذاب الدنيا‬ ‫مهما كان {وما لهم من ال من واق} ‪ 5‬أي وليس لهم من دون ال من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه‬ ‫حتى ل يذوقوه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬مثل الجنة التي وعد المتقون} أي لما ذكر عذاب الخرة لهل‬ ‫الكفر والفجور ذكر نعيم الخرة لهل اليمان والتقوى‪ ،‬فقال‪{ :‬مثل ‪ 6‬الجنة التي وعد المتقون} أي‬ ‫صفة الجنة ووصفها بقوله‪{ :‬تجري من تحتها النهار أكلها دائم ‪ 7‬وظلها} دائم كذلك فطعامها ل‬ ‫ينفد‪ ،‬وظلها ل يزول ول ينسخ بشمس كظل الدنيا‪ ،‬وقوله‪{ :‬تلك} أي الجنة {عقبى الذين اتقوا} أي‬ ‫ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه وأطاعوه في أمره ونهيه‪{ ،‬وعقبى ‪ 8‬الكافرين النار} والعقبى‬ ‫بمعنى العاقبة في الخير والشر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬سموهم شركاء فإنهم ليس لهم حظ من ذلك إلّ التسمية فيكون المر للباحة كناية عن عدم‬ ‫المبالة بادعائهم أنهم شركاء‪ ،‬وذكر هذا المعنى صاحب التحرير‪ ،‬وهو معنى جميل‪.‬‬ ‫‪ 2‬أم هي المنقطعة ودلّت على أنّ ما بعدها استفهام إنكاري توبيخي‪ ،‬وقوله‪{ ،‬بما ل يعلم في‬ ‫الرض} وما ل يعلمه ال فليس بموجود إذ ال خالق كل شيء‪.‬‬ ‫‪ 3‬بل بظاهر من القول ليس بظاهر من الظهور بل هو بمعنى الزوال والبطلن وشاهده قول‬ ‫الشاعر‪ ،‬وتلك شكاة ظاهر عليك عارها‪ .‬أي‪ :‬باطل زائل‪.‬‬ ‫‪ 4‬إن بعض المشركين زيّن للمشركين عبادة الصنام‪ ،‬ورغّبهم في عبادتها مكرا بهم فانخدعوا له‪،‬‬ ‫وحسبوه زينا وذلك كعمرو بن لحيّ إذ هو أوّل من دعا إلى عبادة الصنام في بلد العرب‪.‬‬

‫‪ 5‬واق‪ ،‬وقاض ووال‪ :‬يوقف عليها بدون ياء‪ ،‬إلّ إذا نودي نحو‪ :‬يا قاضي يا والي فإنه يوقف‬ ‫عليه بالياء ومن‪ :‬صلة لتقوية الكلم‪.‬‬ ‫‪{ 6‬مثل الجنة}‪ :‬الخ‪ :‬مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى عليكم‪ :‬مثل الجنة‪ ،‬وقيل الخبر‪:‬‬ ‫تجري من تحتها النهار‪ .‬والوّل أولى‪.‬‬ ‫‪ 7‬في الية ردّ على الجهمية القائلين بفناء نعيم الجنة‪.‬‬ ‫‪ 8‬أي‪ :‬عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها‪.‬‬

‫( ‪)3/32‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير التوحيد إذ الصنام ل تحفظ ول ترزق ول تحاسب ول تجزي‪ ،‬وال هو القائم على كل‬ ‫نفس فهو الله الحق وما عداه فآلهة باطلة ل حقيقة لها إل مجرد أسماء‪.‬‬ ‫‪ -2‬استمرار الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل‪.‬‬ ‫‪ -3‬ميزة القرآن الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس‪.‬‬ ‫ن الَحْزَابِ مَن يُنكِرُ َب ْعضَهُ ُقلْ إِ ّنمَا ُأمِ ْرتُ أَنْ‬ ‫ك َومِ َ‬ ‫وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيفْرَحُونَ ِبمَا أُن ِزلَ إِلَ ْي َ‬ ‫ح ْكمًا عَرَبِيّا وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءهُم‬ ‫أَعْبُدَ اللّ َه وَل أُشْ ِركَ بِهِ إِلَيْهِ َأدْعُو وَإِلَ ْيهِ مَآبِ(‪َ )36‬وكَذَِلكَ أَنزَلْنَاهُ ُ‬ ‫جعَلْنَا‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ي َولَ وَاقٍ(‪ )37‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا ُرسُلً مّن قَبِْل َ‬ ‫َبعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِن وَِل ّ‬ ‫جلٍ كِتَابٌ(‪َ )38‬ي ْمحُو اللّهُ مَا‬ ‫َلهُمْ أَ ْزوَاجًا وَذُرّيّ ًة َومَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ ِإلّ بِِإذْنِ اللّهِ ِل ُكلّ َأ َ‬ ‫ت وَعِن َدهُ ُأمّ ا ْلكِتَابِ(‪)39‬‬ ‫يَشَاء وَيُثْبِ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫والذين آتيناهم الكتاب ‪ :‬أي كعبد ال بن سلم ومن آمن من اليهود‪.‬‬ ‫يفرحون بما أنزل إليك ‪ :‬أي يسرون به لنهم مؤمنون صادقون ولنه موافق لما عندهم‪.‬‬ ‫ومن الحزاب ‪ :‬أي من اليهود والمشركين‪.‬‬ ‫من ينكر بعضه ‪ :‬أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا ل رحمن إل رحمن‬ ‫اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب‪.‬‬

‫( ‪)3/33‬‬ ‫وكذلك أنزلناه حكما عربيا ‪ :‬أي بلسان العرب لتحكم به بينهم‪.‬‬ ‫لكل أجل كتاب ‪ :‬أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة‪.‬‬

‫يمحو ال ما يشاء‪ :‬أي يمحو من الحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو المنسوخ وما أبقاه‬ ‫هو المحكم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة‪ :‬التوحيد والنبوة والبعث والجزاء‪ ،‬فقوله تعالى‪{ :‬والذين‬ ‫آتيناهم الكتاب} كعبد ال بن ‪ 1‬سلم يفرحون بما أنزل إليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي‬ ‫وإثبات له‪ ،‬وقوله‪{ :‬ومن الحزاب} ككفار أهل الكتاب ‪ 2‬والمشركين {من ينكر بعضه} فاليهود‬ ‫أنكروا أغلب ما في القرآن من الحكام ولم يصدقوا إل بالقصص‪ ،‬والمشركون أنكروا "الرحمن"‬ ‫وقالوا ل رحمن إل رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب عليه لعائن ال‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬قل إنما‬ ‫أمرت أن أعبد ال ول أشرك به} أي أمرني ربي أن أعبده ول أشرك به‪ ،‬إليه تعالى أدعو الناس‬ ‫أي إلى اليمان به وإلى توحيده وطاعته‪{ ،‬وإليه مآب ‪ }3‬أي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير‬ ‫للتوحيد‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وكذلك أنزلناه حكما عربيا‪ }4‬أي وكهذا النزال للقرآن أنزلناه بلسان‬ ‫العرب لتحكم بينهم به‪ ،‬وفي هذا تقرير للوحي اللهي والنبوة المحمدية‪ ،‬وقوله‪{ :‬ولئن اتبعت‬ ‫أهواءهم بعد ما جاءك من العلم} بأن وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقاداتهم‪ ،‬وحاشا رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم أن يفعل وإنما الخطاب من باب‪ ..‬إياك أعني واسمعي يا جارة‪{ ..‬مالك من‬ ‫ال من ولي ول واق} أي ليس لك من دون ال من ولي يتولى أمر نصرك وحفظك‪ ،‬ول واق‬ ‫يقيك عذاب ال إذا أراده بك لتباعك أهل الباطل ‪ 5‬وتركك الحق وأهله‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ولقد‬ ‫أرسلنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬اللفظ عام والمراد به الخصوص‪ ،‬ويدخل فيه أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم فهم يفرحون‬ ‫بنزول القرآن قاله قتادة‪ .‬وهو كما قال فقد كانوا يفرحون بكل ما ينزل من وحي‪.‬‬ ‫‪ 2‬لفظ أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى معا‪ ،‬لفظ البعض عام في القلة والكثرة ولذا فاليهود‬ ‫كالنصارى كالمشركين كالمجوس ينكرون من القرآن ما يتعارض مع معتقداتهم الباطلة ول‬ ‫ينكرون ما ل يتعارض معها‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬أرجع في أموري كلها إليه دون غيره‪ ،‬وفي هذا معنى العتماد على ال والتوكل عليه في‬ ‫المر كله‪.‬‬ ‫‪{ 4‬حكما عربيا}‪ :‬حالن من أنزلناه‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد من {حكما} الحكمة كقوله‪{ :‬وآتيناه الحكم صبيا}‬ ‫أي‪ :‬الحكمة‪ ،‬فالقرآن يحوي الحكم المعبر عنها بالعربية وكونه من الحكم أولى لنّه يحكم به في‬ ‫المور كلها‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية إنذار وتحذير عظيمان لمن يترك أوامر ال تعالى أو يغشى محارمه موافقة لهل‬ ‫الباطل طلبا لرضاهم أو خوفا من غضبهم‪.‬‬

‫( ‪)3/34‬‬ ‫رسلً من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} فل معنى لما يقوله المبطلون ‪ :1‬لم يتخذ محمد أزواجا‬ ‫ولم لكون له ذرية؟ وهو يقول أنه نبي ال ورسوله‪ ،‬فإن الرسل قبلك من نوح وإبراهيم إلى موسى‬ ‫وداوود وسليمان الكل كان لهم أزواج وذرية ‪ ،2‬ولما قالوا {لول أنزل عليه آية} رد ال تعالى‬ ‫عليهم بقوله‪{ :‬وما كان لرسول أن يأتي بآية إل بإذن ال} فالرسل كلهم مربوبون ل مقهورون ل‬ ‫يملكون مع ال شيئا فهو المالك المتصرف إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم‪ ،‬وقوله‪{ :‬لكل أجل‬ ‫كتاب} أي لكل وقت محدد يعطي ال تعالى فيه أو يمنع كتاب كتب فيه ذلك الجل وعٌيّن فل‬ ‫فوضى ول أُ ُنفَ‪ ،3‬وقوله‪{ :‬يمحو ال ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} ردّ على قولهم لم يثبت‬ ‫الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس ثم الكعبة وكالعدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام‬ ‫فأعلمهم أن ال تعالى ذو إرادة ومشيئة ل تخضعان لرداة الناس ومشيئاتهم فهو تعالى يمحو ما‬ ‫يشاء من الشرائع والحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع‪{ ،‬وعنده أم‬ ‫الكتاب ‪ }4‬أي الذي حوى كل المقادير فل يدخله تبديل ول تغيير كالموت والحياة والسعادة‬ ‫والشقاء‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬رفعت القلم وجفت الصحف" رواه مسلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة الوحي والنبوة‪.‬‬ ‫‪ 2‬تقرير عقيدة التوحيد‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير أن القضاء والحكم في السلم مصدره الول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن‪ ،‬ثم‬ ‫القياس المأذون فيه فإجماع المة لستحالة اجتماعها على غير ما يحب ال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬إن اليهود هم الذين عابوا رسول ال صلى ال عليه وسلم على الزواج وعيروه بذلك‬ ‫فقالوا ما نرى لهدا الرجل همة إلّ النساء والنكاح‪ ،‬ولو كان نبياًّ لشغله أمر النبوة عن النساء‪،‬‬ ‫فأنزل ال تعالى هذه الية‪ ،‬وعليه فالية مدنية‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية‪ :‬الترغيب في النكاح والحض عليه‪ ،‬وهو كذلك فقد جاء في السنة قوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪" :‬تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم المم يوم القيامة" وفي الموطأ‪" :‬من وقاه ال شر‬ ‫اثنين ولج الجنة‪ :‬ما بين لحييه وما بين رجليه"‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬ول بداء‪ ،‬والبداء‪ :‬أن يبدو له الشيء بعد أن لم يكن يعلمه‪.‬‬ ‫‪ 4‬صح قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من سرّة أن يبسط له في رزقه‪ ،‬وينسأ له في أجله فليصل‬ ‫رحمه" فهذا الحديث يفسر قوله تعالى‪{ :‬يمحو ال ما يشاء ويثبت} أي‪ :‬ما يشاء‪ ،‬وقد تكلّم العلماء‬

‫في هذا بشيء كثير وما أراه يوضح هذا هو أنّ ال تعالى لما كتب في اللوح المحفوظ كتب أنّ‬ ‫فلنا يصل رحمه فيكون رزقه كذا سعة ويكون أجله كذا طول‪ ،‬فصلة الرحم سبب في توسعة‬ ‫الرزق وطول العمر‪.‬‬

‫( ‪)3/35‬‬ ‫تعالى ويرضى به‪.‬‬ ‫حلْ الباطلة‪.‬‬ ‫‪ -4‬التحذير من اتباع أصحاب البدع والهواء والمَِللْ والنّ َ‬ ‫‪ -5‬تقرير عقيدة القضاء والقدر‪.‬‬ ‫‪ -6‬بيان النسخ في الحكام بالكتاب والسنة‪.‬‬ ‫لغُ وَعَلَيْنَا ا ْلحِسَابُ (‪َ )40‬أوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا‬ ‫علَ ْيكَ الْبَ َ‬ ‫وَإِن مّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِ ّنمَا َ‬ ‫ح ْكمِ ِه وَ ُهوَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ(‪َ )41‬وقَدْ َمكَرَ‬ ‫حكُ ُم لَ ُم َعقّبَ ِل ُ‬ ‫صهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَا وَاللّهُ َي ْ‬ ‫نَأْتِي الَ ْرضَ نَن ُق ُ‬ ‫عقْبَى الدّارِ(‪)42‬‬ ‫س وَسَ َيعْلَمُ ا ْل ُكفّارُ ِلمَنْ ُ‬ ‫سبُ ُكلّ َنفْ ٍ‬ ‫جمِيعًا َيعْلَمُ مَا َتكْ ِ‬ ‫الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ فَلِلّهِ ا ْل َمكْرُ َ‬ ‫شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ عِ ْلمُ ا ْلكِتَابِ(‪)43‬‬ ‫ستَ مُرْسَلً ُقلْ كَفَى بِاللّهِ َ‬ ‫وَيَقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫نعدهم‪ :‬أي من العذاب‪.‬‬ ‫أو نتوفينك‪ :‬أي قبل ذلك‪.‬‬ ‫ننقصها من أطرافها‪ :‬أي بلدا بعد بلد بالفتح ودخول السلم فيها وانتهاء الشرك منها‪.‬‬ ‫ل معقب لحكمه‪ :‬أي ل راد له بحيث ل يتعقب حكمه فيبطل‪.‬‬ ‫ومن عنده علم الكتاب ‪ :‬من مؤمني اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫( ‪)3/36‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬وإما نرينك ‪ 1‬بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} أي إن أريتك بعض الذي نعد قومك من‬ ‫العذاب فذاك‪ ،‬وإن توفيتك قبل ذلك فليس عليك إل البلغ ‪ 2‬فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف‬ ‫نجزيهم بما كانوا يكسبون‪ ،‬فل تأس أيها الرسول ول تضق ذرعا بما يمكرون‪ ،‬وقوله‪{ :‬أو لم‬ ‫يروا} أي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون باليات على صدق نبوة نبينا {أنا نأتي‬ ‫الرض ننقصها من أطرافها ‪ }3‬أي نفتحها للسلم بلدا بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق‬ ‫الرسول صلى ال عليه وسلم وصحة دعوته‪ ،‬وقوله‪{ :‬وال يحكم ول معقب لحكمه} أي وال جل‬ ‫جلله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي ويمنع وينصر ويهزم‪ ،‬ول معقب لحكمه أي‬

‫ليسر هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم بظهور السلم وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على‬ ‫ال‪ ،‬وقوله‪{ :‬وهو سريع الحساب} إذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق‬ ‫دون بطء ول تراخ وقوله تعالى ‪{ :‬وقد مكر الذين من قبلهم} أي وقد مكرت أقوام قبل قريش‬ ‫وكفار مكة فكيف كان عاقبة مكرهم؟ إنها دمارهم أجمعين‪ ،‬أما يخشى رؤساء الكفر في مكة من‬ ‫عاقبة كهذه؟ وقوله‪{ :‬فلله المكر جميعا} أي إذا فل عبرة بمكرهم ول قيمة له فل يرهب ول يلتفت‬ ‫إليه وقوله‪{ :‬يعلم ما تكسب كل نفس} من خير وشر فأين مكر من ل يعلم من مكر من يعلم كل‬ ‫شيء فسوف يصل بالممكور به إلى حافة الهلك وهو ل يشعر‪ ،‬أفل يعي هذا كفار قريش فيكفوا‬ ‫عن مكرهم برسول ال ودعوته؟ وقوله تعالى‪{ :‬وسيعلم الكفار لمن ‪ 4‬عقبى الدار} أي سيعلم‬ ‫المشركون خصوم التوحيد يوم القيامة لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو‬ ‫محمد صلى ال عليه وسلم واتباعه أو لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر وأتباعهم‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬ويقول الذين كفروا لست مرسلً} أي يواجهونك بالنكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك‬ ‫قل لهم يا رسولنا ال شهيد بيني‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ما} زائدة لتقوية الكلم والصل وإن نرينك‪.‬‬ ‫‪{ 2‬البلغ}‪ :‬التبليغ و {الحساب}‪ :‬الجزاء والعقوبة‪.‬‬ ‫‪ 3‬فسّر بعضهم الطراف بالشراف‪ ،‬وقال‪ :‬المراد موت العلماء‪ ،‬وهو تفسير بعيد جدا‪ ،‬وما في‬ ‫التفسير أقرب وأوضح إلى معنى الية الكريمة‪ ،‬ورد قول من قال هو نقصان الرض بقول أحدهم‬ ‫لو كانت الرض تنقص لضاق عليك حشك أي‪ :‬مكان قضاء حاجتك‪.‬‬ ‫‪ 4‬قرأ نافع {الكافر}‪ :‬بالفراد‪ ،‬وهو اسم جنس بمعنى الجمع‪ ،‬وقرأ الجمهور {الكفار} وقيل المراد‬ ‫بالكافر هنا‪ .‬أبو جهل‪ ،‬وال أعلم‪ ،‬وفي الية وعيد وتهديد للكفار مطلقا‪.‬‬

‫( ‪)3/37‬‬ ‫وبينكم وقد شهد لي بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلمه مثل {يسَ والقرآن الحكيم إنك لمن‬ ‫المرسلين} وكفى بشهادة ال شهادة‪{ ،‬ومن عنده علم الكتاب} الول التوراة والنجيل وهم مؤمنوا‬ ‫أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد ‪ 1‬ال بن سلم وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري‬ ‫وغيرهم ‪.2‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬انتصار السلم وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق‪.‬‬ ‫‪ -2‬أحكام ال تعالى ل ترد‪ ،‬ول يجوز طلب الستئناف على حكم من أحكام ال تعالى في كتابه أو‬

‫في سنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬شهادة ال أعظم شهادة‪ ،‬فل تطلب بعدها شهادة إذا كان الخصام بين مؤمنين‪.‬‬ ‫‪ -4‬فضل العالم على الجاهل‪ ،‬إذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من ل علم لهم‬ ‫من المشركين‪.‬‬

‫( ‪)3/38‬‬ ‫سورة إبراهيم‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة إبراهيم‬ ‫مكية‬ ‫وآياتها اثنتان وخمسون آية‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫حمِيدِ(‬ ‫الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ لِ ُتخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬ ‫‪)1‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عبدال بن سلم كان اسمه في الجاهلية‪ :‬حصين فسمّاه رسول ال صلى ال عليه وسلم عبدال‪.‬‬

‫( ‪)3/38‬‬ ‫عذَابٍ شَدِيدٍ(‪ )2‬الّذِينَ يَسْ َتحِبّونَ‬ ‫ض َووَ ْيلٌ لّ ْلكَافِرِينَ مِنْ َ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَرْ ِ‬ ‫اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ‬ ‫للٍ َبعِيدٍ(‪َ )3‬ومَا‬ ‫عوَجًا ُأوْلَ ِئكَ فِي ضَ َ‬ ‫الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الخِ َر ِة وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُو َنهَا ِ‬ ‫ضلّ اللّهُ مَن يَشَاء وَ َيهْدِي مَن َيشَاء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ‬ ‫أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ ِإلّ بِلِسَانِ َق ْومِهِ لِيُبَيّنَ َلهُمْ فَ ُي ِ‬ ‫حكِيمُ(‪ )4‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ َقوْ َمكَ مِنَ الظُّلمَاتِ ِإلَى النّو ِر وَ َذكّرْ ُهمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ‬ ‫الْ َ‬ ‫شكُورٍ(‪)5‬‬ ‫ل صَبّارٍ َ‬ ‫ك ليَاتٍ ّل ُك ّ‬ ‫فِي ذَِل َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آلر ‪ :‬هذا أحد الحروف المقطعة تكتب آلر وتقرأ ألف لَمْ رَا والتفويض فيها أسلم وهو قول ال‬ ‫أعلم بمراده بذلك ‪.1‬‬ ‫كتاب‪ :‬أي هذا كتاب عظيم‪.‬‬ ‫أنزلناه إليك‪ :‬يا محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫من الظلمات ‪ :‬أي من ظلمات الكفر إلى نور اليمان‪.‬‬

‫العزيز الحميد‪ :‬أي المحمود بآلئه‪.‬‬ ‫عن سبيل ال ‪ :‬أي السلم‪.‬‬ ‫عوجا ‪ :‬أي معوجّة‪.‬‬ ‫بآياتنا‪ :‬أي المعجزات التسع‪ :‬العصا‪ ،‬اليد‪ ،‬الطوفان‪ ،‬الجراد‪ ،‬القمل‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا مذهب السلف وهو‪ :‬تفويض لهم معناها إلى ال تعالى منزلها ويعدونها من المتشابه الذي ل‬ ‫يعلمه إل ال عز وجل‪ .‬وهو أسلم من القول بالجهاد الفكري‪.‬‬

‫( ‪)3/39‬‬ ‫الضفادع‪ ،‬الدم‪ ،‬والطمس والسنين ونقص الثمرات‪.‬‬ ‫وذكرهم بأيام ال‪ :‬أي ببلئه ونعمائه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬آلر} ال أعلم بمراده وقوله‪{ :‬كتاب أنزلناه} أي هذا كتاب عظم القدر أنزلناه إليك يا‬ ‫رسولنا لتخرج الناس ‪ 1‬من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور اليمان والعلم‬ ‫الشرعي‪ ،‬وذلك {بإذن ربهم} أي بتوفيقه ومعونته {إلى صراط العزيز الحميد} أي إلى طريق‬ ‫العزيز ‪ 2‬الغالب الحميد أي المحمود بآلئه وافضالته على عباده وسائر مخلوقاته {ال ‪ 3‬الذي له‬ ‫ما في السموات وما في الرض} خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا‪ ،‬هذا هو ال صاحب الصراط‬ ‫الموصل إلى السعاد والكمال البشرى‪ ،‬والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من‬ ‫عذاب شديد‪ ،‬الكافرون {الذين يستحبون الحياة الدنيا} ‪ 4‬أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا‬ ‫ويتركون العمل للخرة لعدم إيمانهم بها {ويصدون} أنفسهم وغيرهم أيضا {عن سبيل ال} أي‬ ‫السلم {ويبغونها عوجا} أي معوجة إنهم يريدون من السلم أن يوافقهم في أهوائهم وما يشتهون‬ ‫حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى‪{ :‬أولئك في ضلل بعيد} إنهم بهذا السلوك المتمثل في‬ ‫إيثار الدنيا على الخرة والصد عن السلم‪ ،‬ومحاولة تسخير السلم لتحقيق أطماعهم وشهواتهم‬ ‫في ضلل بعيد ل يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى‪ ،‬وقوله تعالى في الية (‪ )4‬من هذا‬ ‫السياق {وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه}‪ 5‬أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة‬ ‫أن يبين لهم‪ ،‬وال بعد ذلك يضل من يشاء إضلله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لتخرج الناس‪ :‬أي‪ :‬بالقرآن العظيم الذي أنزلناه عليك‪.‬‬ ‫‪ 2‬الطريق هو السلم دين ال الذي ل يقل دينا غيره‪.‬‬ ‫‪ 3‬قرأ نافع برفع اسم الجللة‪ ،‬وقرأ الجمهور بالجر‪ ،‬واستجب بعضهم الجر إذا وصل والرفع إذا‬

‫وقف وهو حسن ومن وصل وقف على وما في الرض‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن عباس وغيره‪ :‬كل من آثر الدنيا وزهرتها واستحب البقاء في نعيمها على نعيم الخرة‬ ‫وصد عن سبيل ال أي‪ :‬صرف نفسه وغيره عن طاعة ال ورسوله فهو داخل في هذه الية‪،‬‬ ‫وهي ذات وعيد شديد‪.‬‬ ‫‪ 5‬ل حجة لغير العرب في هذه الية إذ كل من ترجم له السلم بلغته وجب عليه الدخول فيه‬ ‫والحمل بشرائعه ليكمل ويسعد‪ ،‬وقد استعمرت برطانيا نصف العالم فتكلم الناس بلغتها وتعاملوا‬ ‫بها وهي لغة دنيا ل غير‪ .‬فالواجب على غير العربي أن يتعلم لغة السلم ما أمكنه ذلك‪.‬‬

‫( ‪)3/40‬‬ ‫حسب سنته في الضلل ويهدي من يشاء كذلك {وهو العزيز} الغالب الذي ل يمانع في شيء‬ ‫أراده {الحكيم ‪ }1‬الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو ل يضل إل من رغب في الضلل‬ ‫وتكلف له وأحبه وآثره‪ ،‬وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى‪ ،‬وليس من حكمته‬ ‫تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه‪ .‬ويحبه ويحب أهله‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫{ولقد أرسلنا موسى} أي موسى نبي بني إسرائيل {بآياتنا} أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته‬ ‫والهادية إلى ما يدعو إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى {أن أخرج قومك من الظلمات إلى‬ ‫النور}‪ 2‬أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد‪{ ،‬وذكرهم بأيام ال}‪ 3‬أي وقلنا له‪:‬‬ ‫ذكرهم بأيام ال وهي بلؤه ونعمه إذ أنجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن‬ ‫والسلوى‪ ،‬وذلك ليحملهم على الشكر ل بطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إن في ذلك ليات‬ ‫لكل صبار شكور} أ ي إن في ذلك التذكير بالبلء والنعماء لدللت يستدل بها على إفضال ال‬ ‫وإنعامه الموجب للشكر‪ ،‬ولكن الذين يجدون تلك الدللت في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل‬ ‫هم الكثيروا الصبر ‪ 4‬والشكر‪ ،‬وأما غيرهم فل يرى في ذلك دللة ول علمة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم‪ ،‬إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم‬ ‫وآلم وحم‪ ،‬ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن الكفر ظلم واليمان نور‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان الحكمة في إرسال ال تعالى الرسل بلغات أقوامهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من مظاهر حكمته أنه ختم الرسالة برسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وواجب على البشرية‬ ‫كلها اليمان به ويما جاء به ومن أبى دخل النار‪ ،‬فقد روى مسلم قوله صلى ال عليه وسلم‬

‫"والذي نفسي بيده ل يسمع بي أحد من هذه المة يهودي ول نصراني ثم ل يؤمن بالذي أرسلت‬ ‫به إل كان من أصحاب النار"‪ .‬فوحد بذلك البشرية توحيدا روحيا واجتماعيا وسياسيا لو أنها آمنت‬ ‫بمحمد صلى ال عليه وسلم وأخذت بهدايته لحصل لها من الكمال والسعاد ما لم يخطر على بال‪.‬‬ ‫‪ 2‬أن‪ :‬تفسيرية فسرت الرسال لنه فيه معنى القول‪.‬‬ ‫‪ 3‬التذكير إزالة نسيان شيء‪ ،‬ويكون بتعليم مجهول كان شأنه أن يعلم‪ ،‬ولما ضمّن التذكير معنى‬ ‫النذار والوعظ عدي بالباء أي‪ :‬ذكرهم تذكير عظة بأيام ال‪.‬‬ ‫‪ 4‬الصبر مع البلء‪ ،‬والشكر مع الرخاء‪ ،‬وخير الناس من إذا ابتلى صبر وإذا أعطي شكر ول‬ ‫يكون كذلك إلّ ذو علم وبصيرة‪.‬‬

‫( ‪)3/41‬‬ ‫‪ -4‬تقرير أن الذي يخلق الهداية هو ال وأما العبد فليس له أكثر من الكسب‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضيلة التذكير بالخير والشر ليشكر ال ويتقى‪.‬‬ ‫‪ -6‬فضيلة الصبر والشكر‪.‬‬ ‫عوْنَ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ‬ ‫وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ‬ ‫شكَرْتُمْ‬ ‫عظِيمٌ(‪ )6‬وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِن َ‬ ‫وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُ ْم وَيَسْتَحْيُونَ ِنسَاءكُ ْم َوفِي ذَِلكُم بَلء مّن رّ ّبكُمْ َ‬ ‫جمِيعًا فَإِنّ‬ ‫عذَابِي لَشَدِيدٌ(‪َ )7‬وقَالَ مُوسَى إِن َتكْفُرُواْ أَنتُ ْم َومَن فِي الَ ْرضِ َ‬ ‫لَزِيدَ ّنكُ ْم وَلَئِن َكفَرْتُمْ إِنّ َ‬ ‫ح وَعَا ٍد وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِن َبعْ ِدهِ ْم لَ َيعَْل ُمهُمْ‬ ‫حمِيدٌ(‪ )8‬أََلمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبِْل ُكمْ َقوْمِ نُو ٍ‬ ‫اللّهَ َلغَنِيّ َ‬ ‫ِإلّ اللّهُ جَاء ْتهُمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ فَ َردّواْ أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِههِمْ َوقَالُواْ إِنّا َكفَرْنَا ِبمَا أُرْسِلْتُم بِ ِه وَإِنّا َلفِي‬ ‫شكّ ّممّا تَدْعُونَنَا إِلَ ْيهِ مُرِيبٍ(‪)9‬‬ ‫َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإذ قال موسى ‪ :‬أي اذكر إذ قال موسى‪.‬‬ ‫يسومونكم‪ :‬يذيقونكم‪.‬‬ ‫ويستحيون نساءكم‪ :‬أي يستبقونهنّ‪.‬‬

‫( ‪)3/42‬‬ ‫بلء من ربكم عظيم‪ :‬أي ابتلء واختبار‪ ،‬ويكون بالخير والشر‪.‬‬ ‫وإذ تأذن ربكم‪ :‬أي أعلم ربكم‪.‬‬ ‫بالبينات‪ :‬بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الخر‪.‬‬ ‫فردوا أيديهم في أفواههم‪ :‬أي فرد المم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا‪.‬‬

‫مريب‪ :‬موقع في الريبة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫{وإذ قال موسى لقومه} أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل {اذكروا نعمة ال‬ ‫عليكم} أي لتشكروها بتوحيده وطاعته‪ ،‬فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي إنجاؤهم من‬ ‫فرعون وملئه إذ كانوا يعذبونهم بالضطهاد والستعباد‪ ،‬فقال‪{ :‬يسومونكم سوء العذاب} أي‬ ‫يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده‪{ ،‬ويذبحون أبناءكم} أي الطفال المولودين‪ ،‬لن الكهنة أو‬ ‫رجال السياسة قالوا لفرعون‪ :‬ل يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني‬ ‫إسرائيل قامر بقتل المواليد فور ولدتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الناث للخدمة ولعدم الخوف‬ ‫منهن وهو معنى قوله‪{ :‬ويستحيون نساءكم} وقوله تعالى‪{ :‬وفي ذلكم بلء من ربكم عظيم} فهو‬ ‫بالنظر إلى كونه عذابا بلء بالشر‪ ،‬وفي كونه نجاة منه‪ ،‬بلء بالخير‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وإذ تأذن ‪1‬‬ ‫ربكم} هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم مقسما لكم {لئن شكرتم}‪2‬‬ ‫نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الوامر واجتناب النواهي‬ ‫{لزيدنكم} في النعام والسعاد {ولئن كفرتم} فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي‬ ‫لسلبنها منكم وأعذبكم بسلبها من أيديكم {إن عذابي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬تكلم تكلما علنا وهو يناجي موسى عليه السلم بجبل الطور وأذّن وتأذن أعلم‪ ،‬ومنه الذان‬ ‫للصلة‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫فلم نشعر بضوء الصبح حتى‬ ‫سمعنا في مجالسنا الذينا‬ ‫ل تتقوى بنعمه على معاصيه وحكي أن داود‬ ‫‪ 2‬سئل بعض الصالحين عن الشكر ل تعالى فقال‪ :‬أ ّ‬ ‫عليه السلم أنه قال‪ :‬أي ربي كيف أشكرك وشكري لك نعمة متجددة منك عليّ؟ قال‪" :‬يا داود‪:‬‬ ‫الن شكرتني"‪ ،‬وعيه فالشكر العتراف بالنعمة للمنعم ول يصرفها في غير طاعته‪.‬‬

‫( ‪)3/43‬‬ ‫لشديد} فاحذروه واخشوني فيه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وقال موسى} أي لبني إسرائيل {إن تكفروا أنتم} نعم‬ ‫ال فلم تشكروها بطاعته {ومن في الرض جميعا} وكفرها من في الرض جميعا {فإن ال لغني}‬ ‫عن سائر خلقه ل يفتقر إلى أحد منهم ‪{ 1‬حميد} أي محمود بنعمه على سائر خلفه‪ ،‬وقوله‪{ :‬ألم‬ ‫يأتكم} هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم ‪{ :‬ألم يأتكم ‪ 2‬نبأ الذين من قبلكم قوم نوح‬ ‫وعاد وثمود والذين من بعدهم ل يعلمهم} أي ل يعلم عددهم ول يحصيهم ‪{ 3‬إل ال} {جاءتهم‬ ‫رسلهم بالبينات} أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد ال‬

‫وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا‪ ،‬وقوله‪{ :‬فردوا أيديهم} أي ردت المم‬ ‫المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظا على أنبيائهم وحنقا‪ ،‬أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم‬ ‫ردا لدعوة الحق التي جاؤوا بها‪ ،‬وقالوا لهم‪{ :‬إنا كفرنا بما أرسلتم به} أي بما جئتم به من الدين‬ ‫السلمي والدعوة إليه‪{ ،‬وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} أي موقع في الريبة التي هي قلق‬ ‫ل وينتهي بقوله‬ ‫النفس واضطرابها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى إليها‪ ،‬هذا وما زال السياق طوي ً‬ ‫تعالى‪{ :‬واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬مشروعية التذكير بنعم ال لنشكر ول نكفر‪.‬‬ ‫‪ -2‬وعد ال تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم ال عليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬كفر النعم سبب زوالها‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان غنى ال تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس إن شكروا شكروا لنفسهم وإن كفروا‬ ‫كفروا على أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬ل يلحقه نقص بكفر الناس ولو كفروا أجمعون‪.‬‬ ‫‪ 2‬صالح لن يكون من قول موسى عليه السلم‪ ،‬ومن قول ال تعالى تعليما لرسوله محمد صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ول يعرف أنسابهم كذلك إلّ ال وفي الحديث‪ " :‬كذب النسابون إن ال يقول ل يعلمهم إل ال"‬ ‫قاله لمّا زاد النسابون على معد بن عدنان‪ ،‬وقال‪" :‬ل ترفعوني فوق عدنان"‪.‬‬

‫( ‪)3/44‬‬ ‫ت وَالَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِ َيغْفِرَ َلكُم مّن ذُنُو ِبكُ ْم وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫شكّ فَاطِرِ ال ّ‬ ‫قَاَلتْ رُسُُلهُمْ َأفِي الّلهِ َ‬ ‫عمّا كَانَ َيعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُ ْلطَانٍ‬ ‫سمّى قَالُواْ إِنْ أَن ُتمْ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن َتصُدّونَا َ‬ ‫جلٍ مّ َ‬ ‫أَ َ‬ ‫مّبِينٍ(‪ )10‬قَاَلتْ َلهُمْ رُسُُلهُمْ إِن نّحْنُ ِإلّ َبشَرٌ مّثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ عَلَى مَن َيشَاء مِنْ عِبَا ِد ِه َومَا‬ ‫كَانَ لَنَا أَن نّأْتِ َيكُم بِسُ ْلطَانٍ ِإلّ بِإِذْنِ الّل ِه وَعلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ(‪َ )11‬ومَا لَنَا َألّ نَ َت َوكّلَ عَلَى‬ ‫اللّ ِه َوقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَ َنصْبِرَنّ عَلَى مَا آذَيْ ُتمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ(‪َ )12‬وقَالَ الّذِينَ‬ ‫َكفَرُواْ لِرُسُِل ِهمْ لَنُخْ ِرجَ ّنكُم مّنْ أَ ْرضِنَآ َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فََأوْحَى إِلَ ْيهِمْ رَ ّبهُمْ لَ ُنهِْلكَنّ الظّاِلمِينَ(‪)13‬‬ ‫سكِنَ ّنكُ ُم الَ ْرضَ مِن َبعْدِ ِهمْ ذَِلكَ ِلمَنْ خَافَ مَقَامِي َوخَافَ وَعِيدِ(‪)14‬‬ ‫وَلَنُ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫أفي ال شك‪ :‬أي ل شك في وجود ال ول في توحيده‪ ،‬إذ الستفهام إنكاري‪.‬‬ ‫إلى أجل مسمى ‪ :‬أي إلى أجل الموت‪.‬‬ ‫بسلطان مبين ‪ :‬بحجة ظاهرة تدل على صدقكم‪.‬‬

‫( ‪)3/45‬‬ ‫يمن على من يشاء‪ :‬أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك‪.‬‬ ‫وقد هدانا سبلنا‪ :‬أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه‪.‬‬ ‫لنخرجنكم من أرضنا‪ :‬أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا‪.‬‬ ‫لمن خاف مقامي‪ :‬أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب الجزاء‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله‪{ :‬ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح‪}.....‬‬ ‫فقوله تعالى‪{ :‬قالت رسلهم} أي قالت الرسل إلى أولئك المم الكافرة {أفي ال شك ‪}1‬؟ أي كيف‬ ‫يكون في توحيد ال شك وهو فاطر السموات ‪ 2‬والرض‪ ،‬فخالق السموات والرض وحده ل‬ ‫يعقل أن يكون له شريك في عبادته‪ ،‬انه ل إله إل هو وقوله ‪{ :‬يدعوكم} إلى اليمان والعمل‬ ‫الصالح الخالي من الشرك {ليغفر لكم من ‪ 3‬ذنوبكم} وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر‬ ‫الذنوب وصغائرها أما مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله‪{ :‬ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي‬ ‫يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم‪ ،‬وقوله‪{ :‬قالوا} أي قالت المم الكافرة لرسلهم {إن‬ ‫أنتم إل بشر مثلنا} أي ‪ 4‬ما أنتم إل بشر مثلنا‪{ ،‬تريدون أن تصدونا} أي تصرفونا {عما كان يعبد‬ ‫آباؤنا} من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدّعون أنها آلهة‪ ،‬وقولهم‪{ :‬فأتونا بسلطان مبين} قال‬ ‫الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم أنكم رسل ال إلينا‬ ‫فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله‪{ :‬قالت لهم رسلهم إن نحن إل بشر مثلكم} أي‬ ‫ما نحن إل بشر مثلكم فمال تستطيعونه أنتم ل نستطيعه نحن {ولكن ال يمن على من ‪ 5‬يشاء} أي‬ ‫إل أن ال يمن على من يشاء بالنبوة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام إنكاري أي‪ :‬ل شك في ال‪ ،‬أي في وجوده‪ ،‬وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة للوهيته‪،‬‬ ‫وهي عبادته وحده ل شريك له‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذا الوصف الكامل ل وهو مقتضى وجوده وألوهيته عزّ وجل‪.‬‬ ‫‪ 3‬على ما في التفسير (من) للتبعيض‪ ،‬ويصح أن تكون زائدة‪ ،‬والمغفرة لكل الذنوب لنّ السلم‬ ‫يجبّ ما قبله من سائر الذنوب‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬في الهيئة تأكلون كما نأكل وتشربون كما نشرب‪ ،‬وتمرضون‪ ،‬وتصحون مثلنا ولستم‬

‫ملئكة‪.‬‬ ‫‪ 5‬ومما منّ ال به عليهم‪ ،‬الحكمة والمعرفة والهداية إلى ما يوجب رضاه ومحبّته؟ وقيل‪ :‬إنّ‬ ‫أعظم ما يمن به ال تعالى على عبده ذكره بأسمائه وصفاته‪.‬‬

‫( ‪)3/46‬‬ ‫فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا ال ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم ل من تلقاء‬ ‫أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه‪{ ،‬وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إل بإذن ال}‬ ‫أي بإرادته وقدرته فهو ذو الرادة التي ل تحد والقدرة التي ل يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه‬ ‫وحده وعليه {فليتوكل المؤمنون} فإنه يكفيهم كل ما يهمهم‪ ،‬ثم قالت الرسل وهي تعظ أقوامها بما‬ ‫تقدم‪{ :‬وما لنا أل نتوكل ‪ 1‬على ال وقد هدانا سبلنا} أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته‬ ‫وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا ل نتوكل عليه وهو القوي العزيز {ولنصبرن على ما آذيتمونا}‬ ‫بألسنتكم وأيديكم متوكلين على ال حتى ينتقم ال تعالى لنا منكم‪{ ،‬وعلى ال فليتوكل المتوكلون} إذ‬ ‫هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكل عليه وحده دون سواه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وقال‬ ‫الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} هذا إخبار منه تعالى على ما قالت‬ ‫المم الكافرة لرسلها‪ :‬قالوا موعدين مهددين بالنفي والبعاد من البلد لكل من يرغب عن دينهم‬ ‫ويعبد غير آلهتهم‪{ :‬لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} أي ديننا الذي نحن عليه وهنا‬ ‫أوحى ال تعالى إلى رسله بما أخبر تعالى به‪{ :‬فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم‬ ‫الرض من بعدهم} قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة الهلك وهي الظلم الذي‬ ‫هو الشرك والفساد ليكون ذلك عظة للعالمين‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ذلك} أي النجاء للمؤمنين والهلك‬ ‫للظالمين جزاءً‪{ 2‬لمن خاف مقامي ‪ }3‬أي الوقوف بين يدي يوم القيامة {وخاف وعيد} على ألسنة‬ ‫ى من كفره وشركه‬ ‫رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات على غير توبة إل ّ‬ ‫وظلمه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بطلن الشك في وجود ال وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده وذلك لكثرة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وما‪ :‬اسم استفهام مبتدأ‪ ،‬وما بعدها في موضع الحال‪ ،‬والتقدير‪ :‬أي شيء لنا في ترك التوكل‬ ‫على ال؟ والستفهام إنكاري‪.‬‬ ‫‪ 2‬وإسكان الصالحين الرض بعد إهلك الظالمين‪.‬‬ ‫‪ 3‬المقام‪ :‬مصدر ميمي وقوله {مقامي}‪ :‬أي قيامه بين يديّ للحساب‪ ،‬والوعيد هو عذاب النار‪،‬‬

‫وقيل‪ :‬مقامي‪ :‬أي قيامي عليه‪ ،‬ومراقبتي له والمعنى إذا خافني وراقبني‪ ،‬وهو معنى صحيح‪،‬‬ ‫والخوف من ال ومراقبته موجبة للصلح المورث للرض والدولة لقوله تعالى‪{ :‬إن الرض‬ ‫يرثها عبادي الصالحون}‪.‬‬

‫( ‪)3/47‬‬ ‫الدلة وقوة الحجج‪ ،‬وسطوع البراهين‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان ما كان أهل الكفر يقابلون به رسل ال والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد‬ ‫به عليهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب التوكل على ال تعالى‪ ،‬وعدم صحة التوكل على غيره إذ ل كافي إل ال‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الصبر على الذى في سبيل ال وانتظار الفرج بأخذ الظالمين‪.‬‬ ‫‪ -5‬عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار ل تتبدل ول تتخلف وإن طال الزمن‪.‬‬ ‫ع ُه َولَ‬ ‫صدِيدٍ(‪ )16‬يَتَجَرّ ُ‬ ‫سقَى مِن مّاء َ‬ ‫جهَنّ ُم وَيُ ْ‬ ‫وَاسْ َتفْتَحُو ْا وَخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ(‪ )15‬مّن وَرَآ ِئهِ َ‬ ‫ن َومَا ُهوَ ِبمَ ّيتٍ َومِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ(‪ )17‬مّ َثلُ الّذِينَ‬ ‫َيكَادُ يُسِي ُغ ُه وَيَأْتِيهِ ا ْل َم ْوتُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ‬ ‫شيْءٍ‬ ‫ف لّ َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُواْ عَلَى َ‬ ‫ص ٍ‬ ‫عمَاُل ُهمْ كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَا ِ‬ ‫َكفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بِالْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِ ْب ُك ْم وَيَ ْأتِ‬ ‫للُ الْ َبعِيدُ(‪ )18‬أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خَلَقَ ال ّ‬ ‫ذَِلكَ ُهوَ الضّ َ‬ ‫علَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ(‪)20‬‬ ‫جدِيدٍ(‪َ )19‬ومَا ذَِلكَ َ‬ ‫بِخَ ْلقٍ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫واستفتحوا ‪ :‬أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين‪.‬‬ ‫وخاب‪ :‬أي خسر وهلك‪.‬‬

‫( ‪)3/48‬‬ ‫كل جبار عنيد‪ :‬أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد‪.‬‬ ‫من ماء صديد‪ :‬أي هو ما يخرج سائلً من أجواف أهل النار مختلطا من قيح ودم وعرق‪.‬‬ ‫يتجرعه ول يكاد يسيغه‪ :‬أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ول يقارب ازدراده لقبحه ومراراته‪.‬‬ ‫ويأتيه الموت من كل مكان ‪ :‬أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن ل‬ ‫يموت‪.‬‬ ‫أعمالهم كرماد‪ :‬أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك السير والفاسدة‬ ‫كعبادة الصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد‪.‬‬ ‫ل يقدرون مما كسبوا على شيء‪ :‬أي ل يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل‬

‫لنها باطلة بالشرك‪.‬‬ ‫وما ذلك على ال بعزيز‪ :‬أي بصعب ممتنع عليه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا آخر حديث ما ذكر به موسى قومه من أنباء المم السابقة على بنى إسرائيل‪ ،‬قال تعالى في‬ ‫الخبار عنهم‪{ :‬واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} أي واستفتح الرسل أي طلبوا من ال تعالى أن‬ ‫يفتح عليهم ‪ 1‬بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب ال لهم‪{ ،‬وخاب كل جبار عنيد ‪ }1‬أي خسر‬ ‫وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله‪ ،‬وقوله ‪{ :2‬من ورائه جهنم ‪ }3‬أي أمامه جهنم تنتظره‬ ‫سيدخلها بعد هلكه ويعطش ويطلب الماء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كقولهم‪{ :‬ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} قالها شعيب والمؤمنون معه‪،‬‬ ‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم يدعو طالبا نصره وهزيمة أعدائه‪.‬‬ ‫‪ 2‬العنيد‪ :‬المعاند للحق‪ ،‬والجبار‪ :‬المتعاظم الشديد التكبر‪ ،‬وقيل هو من يجبر الناس على مراده‪،‬‬ ‫وهو وصف مذموم لغير ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬لفظ وراء يطلق على ما كان خلفا وما كان أماما‪ ،‬لنّ كل ما ووري أي‪ :‬استتر فهو وراء‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬من ورائه جهنم}‪ :‬صفة لجبار عنيد‪ ،‬والوراء مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من‬ ‫بعد‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫عسى الكرب الذي أمسيت فيه‬ ‫يكون وراءه فرج قريب‬ ‫أي بعده‪.‬‬

‫( ‪)3/49‬‬ ‫فتسقيه الزبانية {من ماء صديد ‪ }1‬أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق‪،‬‬ ‫{يتجرعه} أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته ‪{ 2‬ول يكاد يسيغه} أي يدخله جوفه الملتهب‬ ‫عطشا لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت}‬ ‫أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت‬ ‫لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن‬ ‫شماله وما هو بميت لن ال تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى‪{ :‬ل يموت فيها ول يحيا} وقال‪{ :‬ل‬ ‫يقضى عليهم فيموتوا ول يخفف عنهم من عذابها} ومن وراء ذلك العذاب الذي هو فيه {عذاب}‬ ‫أي لون آخر من العذاب {غليظ} أي شديد ل يطاق‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬مثل ‪ 3‬الذين كفروا بربهم‬ ‫أعمالهم كرماد ‪ 4‬اشتدت به الريح في يوم عاصف} أي من شديد هبوب الريح فيه {ل يقدرون مما‬

‫كسبوا} أي من أعمال في الدنيا {على شيء} أي من الثواب والجزاء الحسن عليها‪ ،‬هذا مثل‬ ‫أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير ال مما كانوا يرجون‬ ‫نفعه‪ ،‬الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به‪ ،‬مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ذلك هو الضلل البعيد} أي ذلك الذي دل عليه المثل هو الضلل البعيد لمن وقع‬ ‫فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من ا لخاسرين‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ألم ‪ 5‬تر أن ال خلق السموات والرض بالحق} أي ألم تعلم أيها الرسول أن ال‬ ‫خلق السموات والرض بالحق أي من أجل النسان ليذكر ال تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر‬ ‫به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الليم الذي تقدم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الصديد‪ :‬المهلة‪ ،‬أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه والتجرّع‪ :‬تكلّف الجرع والجرع‪ :‬بلع‬ ‫الماء‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن النبي صلى ال عليه وسلم قال قوله تعالى {يسقى من ماء صديد يتجرّعه‪ }..‬قال‪:‬‬ ‫"يقرّب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى‬ ‫تخرج من دبره‪ "..‬الخ رواه الترمذي واستغربه‪.‬‬ ‫‪ 3‬المثل‪ :‬الحال العجيبة أي حال أعمالهم كرماد‪.‬‬ ‫ل لعمال الكفار في‬ ‫‪ 4‬الرماد‪ :‬ما يبقى من احتراق الحطب والفحم‪ ،‬ضرب ال في هذه الية مث ً‬ ‫أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف‪.‬‬ ‫‪ 5‬الرؤية هنا‪ :‬رؤية القلب وهي العلمية‪.‬‬

‫( ‪)3/50‬‬ ‫وصفه في هذا السياق لن ال تعالى لم يخلق السموات والرض عبثا وباطلً بل خلقهما وخلق ما‬ ‫فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه‪،‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إن يشأ يذهبكم} أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به {ويأت بخلق جديد‬ ‫‪ }1‬غيركم يعبدونه ويوحدونه { وما ذلك على ال بعزيز} أي بممتنع ول متعذر لن ال على كل‬ ‫شيء قدير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إنجاز وعد ال لرسله في قوله‪{ :‬فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} الية‪.‬‬ ‫‪ -2‬خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم‪.‬‬

‫‪ -3‬عظم عذاب يوم القيامة وشدته‪.‬‬ ‫‪ -4‬بطلن أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ ل ينتفعون بشيء منها‪.‬‬ ‫‪ -5‬عذاب أهل الكفر والشرك والظلم لزم لنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة‬ ‫الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذابا أبديا‪.‬‬ ‫ضعَفَاء لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنتُم ّمغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ‬ ‫جمِيعًا َفقَالَ ال ّ‬ ‫وَبَرَزُواْ لِّلهِ َ‬ ‫سوَاء عَلَيْنَآ َأجَزِعْنَا أَ ْم صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ (‪)21‬‬ ‫شيْءٍ قَالُواْ َلوْ هَدَانَا اللّهُ َل َهدَيْنَاكُمْ َ‬ ‫اللّهِ مِن َ‬ ‫ع َدكُ ْم وَعْدَ ا ْلحَقّ وَوَعَدّت ُكمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُم مّن‬ ‫لمْرُ إِنّ اللّ َه وَ َ‬ ‫ياَ‬ ‫ضَ‬ ‫َوقَالَ الشّيْطَانُ َلمّا ُق ِ‬ ‫سكُم مّا أَنَاْ‬ ‫عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ‬ ‫سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬أفضل منكم وأطوع وما في التفسير أدل على المقصود‪.‬‬

‫( ‪)3/51‬‬ ‫خيّ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَآ َأشْ َركْ ُتمُونِ مِن قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(‪)22‬‬ ‫خكُ ْم َومَا أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ‬ ‫ِب ُمصْرِ ِ‬ ‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَ ّبهِمْ‬ ‫خلَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬ ‫وَأُدْ ِ‬ ‫تَحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَلَمٌ(‪)23‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وبرزوا ل جميعا ‪ : 1‬أي برزت الخلئق كلها ل وذلك يوم القيامة‪.‬‬ ‫إنا كنا لكم تبعا‪ :‬أي تابعين لكم فيما تعقتدون وتعملون‪.‬‬ ‫فهل أنتم مغنون عنا‪ :‬أي دافعون عنا بعض العذاب‪.‬‬ ‫ما لنا من محيص‪ :.‬أي من ملجأ ومهرب أو منجا‪.‬‬ ‫لما قضي المر‪ :‬بإدخال أهل الجنة‪ ،‬الجنة وأهل النار النار‪.‬‬ ‫ما أنا بمصرخكم‪ :‬أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب‪.‬‬ ‫تجري من تحتها النهار‪ :‬أي من تحت قصورها وأشجارها النهار الربعة‪ :‬الماء واللبن والخمر‬ ‫والعسل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في هذه اليات عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في‬ ‫الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الخر بأدلة ل ترد‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬وبرزوا ل جميعا} أي‬ ‫خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها {فقال الضعفاء} أي التباع‬ ‫{للذين استكبروا} أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان {إنا كنا لكم تبعا ‪}2‬‬ ‫أي أتباعا في عقائدكم وما تدينون به‪{ ،‬فهل‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬البروز‪ :‬الظهور‪ ،‬وهو هنا الخروج من القبور والظهور خارجها للحشر حيث فصل القضاء‪،‬‬ ‫ومن هذا قولهم‪ :‬امرأة برزة أي تظهر للناس‪.‬‬ ‫‪{ 2‬تبعا}‪ :‬يصح أن يكون مصدرا أي‪ :‬ذوي‪ .‬تبع‪ ،‬ويجوز أن يكون جمع تابع مثل‪ :‬حرس‬ ‫وحارس‪ ،‬وخدم وخادم‪.‬‬

‫( ‪)3/52‬‬ ‫أنتم مغنون عنا من عذاب ال من شيء} ؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم‬ ‫تبعيتنا لكم فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم؟ {قالوا لو هدانا ال لهديناكم}‪ 1‬اعترفوا الن أن‬ ‫الهداية بيد ال وأقروا بذلك‪ ،‬ولكنا ضللنا فأضللناكم {سواء علينا أجزعنا} اليوم {أم صبرنا مالنا من‬ ‫محيص}‪ 2‬أي من مخرج من هذا العذاب ول مهرب‪ ،‬وهنا يقوم إبليس خطيبا فيهم ‪ 3‬بما أخبر‬ ‫تعالى عنه بقوله‪{ :‬وقال الشيطان} أي إبليس عدو بنى آدم {لما قضي المر} بأن أدخل أهل الجنة‬ ‫الجنة وأدخل أهل النار النار {إن ال وعدكم عد الحق ‪ }4‬بأن مم آمن وعمل صالحا مبتعدا عن‬ ‫الشرك والمعاصي أدخله جنته وأكرمه في جواره‪ ،‬وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار‬ ‫وعذبه عذاب الهون في دار البوار {ووعدتكم} بأن وعد ال ووعيده ليس بحق ول واقع {فأخلفتكم}‬ ‫فيما وعدتكم به‪ ،‬وكنت في ذلك كاذبا عليكم مغررا بكم‪{ ،‬وما كان لي عليكم من سلطان} أي من‬ ‫قوة مادية أكرهتكم بها على اتباعي ول معنوية ذات تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول‬ ‫دعوتي {إل أن دعوتكم} أي لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} إذا {فل تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا‬ ‫بمصرخكم} أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلص من هذا العذاب {وما أنتم} أيضا‬ ‫{بمصرخي ‪ ،}5‬أي بمغيثيّ {إني كفرت بما أشركتمون من ‪ 6‬قبل} إذ كل عابد لغير ال في الواقع‬ ‫هو عابد للشيطان إذ هو الذي زين له ذلك ودعاه إليه‪ ،‬و {إن الظالمين لهم عذاب أليم} أي‬ ‫المشركين لهم عذاب أليم موجع‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وأدخل ‪ 7‬الذين آمنوا} أي وأدخل ال الذين آمنوا‬ ‫أي صدّقوا بال وبرسوله وبما جاء به رسوله {وعملوا الصالحات} وهي العبادات التي َتعَبّدَ ال بها‬ ‫عباده فشرعها‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬لو هدانا ال إلى اليمان لهديناكم إليه أو لو هدانا ال إلى طريق الجنة لهديناكم إليها‪.‬‬ ‫‪ 2‬المحيص‪ :‬مصدر ميمي كالمغيث والمشيب من غاب وشاب‪ ،‬وكذلك حاص يحيص حيصا عن‬ ‫كذا‪ :‬هرب ونجا‪ ،‬ويجوز أن يكون المحيص هنا اسم مكان أي‪ :‬ما لنا من مكان نلجأ إليه وننجو‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬على منبر من نار‪.‬‬

‫‪{ 4‬وعد الحق}‪ :‬يعني البعث والجنة والنار‪ ،‬وثواب المطيع وعقاب العاصي‪ .‬فصدقكم وعده‪،‬‬ ‫ووعدتكم أل بعث ول جنة ول نار ول ثواب ول عقاب‪ .‬فأخلفتكم‪.‬‬ ‫‪( 5‬الصارخ)‪ :‬والمستصرخ هو الذي يطلب النصر والمعاونة‪ ،‬المصرخ هو المغيث قال الشاعر‪:‬‬ ‫ول تجزعوا إني لكم غير مصرخ‬ ‫وليس لكم عندي غَنَاء ول نصر‬ ‫‪{ 6‬بما أشركتمونِ}‪ :‬الميم مصدرية والتقدير كفرت بإشراككم إيّاي مع ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 7‬لمّا أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة وهو أسلوب الترغيب والترهيب الذي‬ ‫امتاز به القرآن الكريم لته كتاب هداية وإصلح‪.‬‬

‫( ‪)3/53‬‬ ‫في كتابه وعلى لسان رسوله صلى ال عليه وسلم {جنات}‪ 1‬بساتين {تجري من تحتها النهار} أي‬ ‫من خلل قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {خالدين فيها} ل يخرجون منها‬ ‫ول يبغون عنها حولً‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬بإذن ربهم}‪ 2‬أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء‬ ‫فيها أبدا‪ ،‬وقوله‪{ :‬تحيتهم فيها سلم} أي السلم عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملئكة ويحيى‬ ‫بعضهم بعضا بالسلم وهي كلمة دعاء بالسلمة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة‬ ‫البدية‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أن التقليد والتبعية ل تكون عذرا لصاحبها عند ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن الشيطان هو المعبود من دون ال تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير ال وزينها‬ ‫للناس‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير لعلم ال بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في اليات من حوار لم يكن بعد ولكنه في‬ ‫علم ال كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في اليات ل يتخلف منه حرف واحد‪.‬‬ ‫‪ -4‬وعيد الظالمين بأليم العذاب‪.‬‬ ‫‪ -5‬العمل ل يدخل الجنة إل بوصفه سببا ل غير‪ ،‬وإل فدخول الجنة يكون بإذن ال تعالى‬ ‫ورضاه‪.‬‬ ‫سمَاء(‪)24‬‬ ‫عهَا فِي ال ّ‬ ‫ت َوفَرْ ُ‬ ‫أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً كَِل َمةً طَيّ َبةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ َأصُْلهَا ثَا ِب ٌ‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬جنات}‪ :‬جمع جنة‪ ،‬وجنات‪ :‬منصوب على نزع الخافض أي‪ :‬في جنات لنّ دخل كخرج ل‬

‫يتعدى إل بحرف الجر‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬بمشيئته وتيسيره‪.‬‬

‫( ‪)3/54‬‬ ‫لمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ(‪َ )25‬ومَثلُ كَِلمَةٍ خَبِي َثةٍ‬ ‫ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِِإذْنِ رَ ّبهَا وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ‬ ‫ق الَ ْرضِ مَا َلهَا مِن قَرَارٍ(‪ )26‬يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِا ْل َق ْولِ الثّا ِبتِ‬ ‫كَشَجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُ ّثتْ مِن َفوْ ِ‬ ‫ن وَ َي ْفعَلُ الّلهُ مَا يَشَاء(‪ )27‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُواْ‬ ‫ضلّ اللّهُ الظّاِلمِي َ‬ ‫فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة وَ ُي ِ‬ ‫جعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا‬ ‫جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ(‪ )29‬وَ َ‬ ‫حلّواْ َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ(‪َ )28‬‬ ‫ِن ْعمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَ َ‬ ‫لّ ُيضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ ُقلْ َتمَ ّتعُواْ فَإِنّ َمصِي َركُمْ إِلَى النّارِ(‪)30‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كلمة طيبة‪ :‬هي ل إله إل ال محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫كشجرة طيبة‪ :‬هي النخلة‪.‬‬ ‫كلمة خبيثة ‪ :‬هي كلمة الكفر‪.‬‬ ‫كشجرة خبيثة ‪ :‬هي الحنظل‪.‬‬ ‫اجتثت‪ :‬أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها‪.‬‬ ‫بالقول الثابت ‪ :‬هو ل إله إل ال‪.‬‬ ‫وفي الخرة ‪ :‬أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألنه عنه حيث يسألنه عن ربه ودينه ونبيه‪.‬‬ ‫بدلوا نعمة ال كفرا ‪ :‬أي بدلوا التوحيد والسلم بالجحود والشرك‪.‬‬ ‫دار البوار‪ :‬أي جهنم‪.‬‬ ‫وجعلوا ل أندادا‪ :‬أي شركاء‪.‬‬

‫( ‪)3/55‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫اليات في تقرير التوحيد والبعث والجزاء‪ ،‬قوله تعالى‪{ :‬ألم تر} أيها الرسول أي ألم تعلم { كيف‬ ‫ضرب ال مثل كلمة طيبة}‪ 1‬هي كلمة اليمان يقولها المؤمن {كشجرة طيبة} وهي النخلة ‪2‬‬ ‫{أصلها ثابت} في الرض {وفرعها} عال {في السماء}‪{ ،‬تؤتي أكلها} تعطي أكلها أي ثمرها الذي‬ ‫يؤكل منها كل حين بلحا وبسرا ومنصّفا ورطبا وتمرا وفي الصباح والمساء {بإذن ربها} أي‬ ‫بقدرته وتسخيره فكلمة اليمان ل إله إل ال محمد رسول ال تثمر للعبد أعمالً صالحة كل حين‬ ‫فهي في قلبه والعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع إلى ال عز وجل‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ويضرب ال‬

‫المثال للناس لعلهم يتذكرون} أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب‬ ‫المثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا‬ ‫الصالحات فينجوا من عذاب ال‪ ،‬وقوله‪{ :‬ومثل كلمة خبيثة} هي كلمة الكفر في قلب الكافر‬ ‫{كشجرة خبيثة} هي الحنظل مُرّة ول خير فيها ول أصل لها ثابت ول فرع لها في السماء‬ ‫{اجتثت} أي اقتلعت واستؤصلت {من فوق الرض مالها من قرار} أي ل ثبات لها ول تثمر إل‬ ‫ما فيها من مرارة وسوء طعم وعدم بركة وقوله تعالى‪{ :‬يثبت ال الذين آمنوا بالقول الثابت في‬ ‫الحياة الدنيا وفي الخرة} هذا وعد من ال تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه يثبتهم على اليمان‬ ‫مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على اليمان {وفي الخرة} أي في القبر إذ هو عتبة الدار‬ ‫الخرة عندما يسألهم ‪ 3‬الملكان عن ال وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبتهم‬ ‫بالقول الثابت وهو اليمان وأصله ل إله إل ال محمد رسول ال والعمل الصالح الذي هو السلم‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ويضل ال الظالمين} مقابل هداية المؤمنين فل يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا‬ ‫على الكفر فيهلكوا ويخسروا‪ ،‬وذلك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الكلمة الطيبة هي ل إله إل ال‪ ،‬والشجرة الطيبة هي المؤمن‪ ،‬والشجرة المضروب بها المثل‬ ‫في النخلة‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬إن من الشجر شجرة ل يسقط ورقها وهي مثل المؤمن‬ ‫خبروني ما هي؟ قال‪ :‬هي النخلة" وورد‪" :‬مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك‪ ،‬دان جالسته‬ ‫نفعك‪ ،‬وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به"‪.‬‬ ‫‪ 2‬وورد أكرموا عمتكم النخلة‪ ،‬ومن وجه شبهها بالمؤمن أنها برأسها تبقى وبقلبها تحيا وفي اللقاح‬ ‫ورائحة طلع ذكرها كرائحة المني‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها خلقت من فضلة طينة آدم التي خلق منها‪ ،‬فهي لذا‬ ‫عمة بني آدم‪.‬‬ ‫‪ 3‬روى النسائي عن البراء قال‪{ :‬يثبت ال الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة}‬ ‫نزلت في عذاب القبر‪ ،‬يقال‪ :‬من ربك فيقول ربي ال وديني دين محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)3/56‬‬ ‫لصرارهم على الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫{ويفعل ال ما يشاء} تقرير لرادته الحرة فهو عز وجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فل‬ ‫اعتراض عليه ول نكير مع العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلله رحمة‬ ‫وعدلً‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ألم تر} أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول {إلى الذين بدلوا نعمة ال} إلتي هي‬ ‫السلم الذي جاءهم به رسول ال بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول ال وكذبوا بما جاء به‬

‫ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم ‪1‬‬ ‫{دار البوار ‪ }2‬فهلك من هلك في بدر كافرا إلى جهنم‪ ،‬ودار البوار هي جهنم يصلونها أي‬ ‫يحترقون بحرها ولهيبها {وبئس القرار} أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وجعلوا ل‬ ‫أندادا ليضلوا عن سبيله} أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة ال كفرا وهم كفار مكة ل أندادا أي‬ ‫شركاء عبدوها وهي اللت والعُزّى وهُبل ومَناة وغيرها من آلهتهم الباطلة‪ ،‬جعلوا هذه النداد‬ ‫ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل ال التي هي السلم الموصل إلى رضا ال‬ ‫تعالى وجواره الكريم‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬قل تمتعوا} ‪ 3‬أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا {فإن‬ ‫مصيركم} أي نهاية أمركم {إلى النار} حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك‬ ‫والكفر حتى متم على ذلك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان ضرب المثال لتقريب المعاني إلى الذهان‪.‬‬ ‫‪ -2‬المقارنة بين اليمان والكفر‪ ،‬وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه‬ ‫الصناف من خير وشر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية نزلت في قريش‪ ،‬وقيل‪ :‬في هلكى بدر‪ ،‬وقيل‪ :‬في متنصّرة العرب‪ :‬جبلة بن اليهم‬ ‫وأصحابه‪ ،‬والظاهر أنها عامة في كل من كفر بال ورسوله وحاد عن سبيلهما‪ ،‬وقال الحسن‪ :‬إنها‬ ‫عامة في جميع المشركين‪.‬‬ ‫‪{ 2‬البوار}‪ :‬الهلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬المر للتهديد والوعيد‪ ،‬وفي اللفظ إشارة إلى قلّة ما في الدنيا من ملذ مع سرعة زوالها ولزوم‬ ‫انقطاعها‪.‬‬

‫( ‪)3/57‬‬ ‫‪ -3‬بشرى المؤمن بتثبيت ال تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمنا وبالنجاة من عذاب القبر‬ ‫حيث يجيب منكرا ونكيرا على سؤالهما إياه بتثبيت ال تعالى له‪.‬‬ ‫‪ -4‬المر في قوله تعالى تمتعوا ليس للباحة ول للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد‪.‬‬ ‫ل َة وَيُنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ سِرّا وَعَلنِيَةً مّن قَ ْبلِ أَن يَأْ ِتيَ َي ْو ٌم لّ‬ ‫قُل ّلعِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُواْ ُيقِيمُواْ الصّ َ‬ ‫سمَاء مَاء فََأخْرَجَ بِهِ مِنَ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ وَأَنزَلَ مِنَ ال ّ‬ ‫للٌ(‪ )31‬اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬ ‫بَيْعٌ فِيهِ وَلَ خِ َ‬ ‫سخّرَ َلكُ ُم الَ ْنهَارَ(‪ )32‬وَسَخّر َلكُمُ‬ ‫سخّرَ َلكُمُ ا ْلفُلْكَ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِر ِه وَ َ‬ ‫ال ّثمَرَاتِ رِ ْزقًا ّلكُ ْم وَ َ‬ ‫ل وَال ّنهَارَ(‪ )33‬وَآتَاكُم مّن ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُو ُه وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ‬ ‫ن وَسَخّرَ َل ُكمُ اللّ ْي َ‬ ‫س وَا ْل َقمَرَ دَآئِبَي َ‬ ‫شمْ َ‬ ‫ال ّ‬

‫ن الِنسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ(‪)34‬‬ ‫حصُوهَا إِ ّ‬ ‫اللّ ِه لَ ُت ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل بيع فيه ول خلل‪ :‬هذا يوم القيامة ل بيع فيه ول فداء ول مخالة تنفع ول صداقة‪.‬‬ ‫الفلك‪ :‬أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكّر ويؤنث‪.‬‬ ‫دائبين‪ :‬جاريين في فلكهما ل يفتران أبدا حتى نهاية الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫لظلوم كفار ‪ :‬كثير الظلم لنفسه ولغيره‪ ،‬كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى‬ ‫سلب هذا الوصف منه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما أمر تعالى رسوله أن يقول لولئك الذين بدلوا نعمة ال كفرا {قل تمتعوا فإن‬

‫( ‪)3/58‬‬ ‫مصيركم إلى النار} أمر رسوله أيضا أن يقول للمؤمنين أن يقيموا الصلة وينفقوا من أموالهم سرا‬ ‫وعلنية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرين فقال‪{ :‬قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا‬ ‫الصلة ‪ }1‬أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها ويؤدوها في‬ ‫أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم‬ ‫وطهارة أرواحهم‪{ ،‬وينفقوا ‪ }2‬ويوالوا النفاق في كل الحيان {سرا وعلنية}‪{ ،‬من قبل أن يأتي‬ ‫يوم} وهو يوم القيامة {ل بيع فيه ول خلل ‪ }3‬ل شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من‬ ‫طريق البيع‪ ،‬ول خلة أي صداقة تنفعه ول شفاعة إل بإذن ال تعالى‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ال ‪ 4‬الذي خلق السماوات والرض } أي انشأهما وابتدأ خلقهما {وأنزل من السماء‬ ‫ماء} هو ماء المطار {فأخرج به من الثمرات} والحبوب {رزقا لكم}‪ 5‬تعيشون به وتتم حياتكم‬ ‫عليه {وسخر لكم الفلك}‪ 6‬أي السفن {لتجري في البحر بأمره} أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها‬ ‫البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وتركبونها كذلك {وسخر لكم النهار} الجارية بالمياه العذبة‬ ‫لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ‪ }7‬ل يفتران أبدا في‬ ‫جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي ل تتم إل على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر‬ ‫وتنقله في منازله {وسخر لكم الليل والنهار} الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه‬ ‫وتكسبوا أرزاقكم {وآتاكم من كل ما سألتموه}‪ 8‬مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم‪ ،‬هذا هو ال‬ ‫المستحق لعبادتكم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هي الصلوات الخمس‪ :‬الصبح‪ ،‬والظهر‪ ،‬والعصر‪ ،‬والمغرب‪ ،‬والعشاء‪.‬‬ ‫‪ 2‬هي الزكاة ويدخل معها صدقة التطوع‪ ،‬إذ الكلّ انفاق‪ ،‬والسرية غالبا هي صدقة التطوع‬

‫والعلنية هي الزكاة المفروضة‪.‬‬ ‫‪{ 3‬الخلل} جمع خلُة كقُلة وقلل‪ ،‬وهي المودة والصداقة والمنفي هنا هو آثارها بالنفع بالرفاد‬ ‫والسعاف بالثواب‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا استئناف واقع موقع الستدلل على بطلن الشرك ووجوب التوحيد وما يترتب على ذلك‬ ‫من سعادة الموحدين وشقاء المشركين‪.‬‬ ‫‪ 5‬الرزق‪ :‬القوت‪ ،‬وهو كل ما يقتات به من أنواع الحبوب والخضر والفواكه واللحوم‪.‬‬ ‫‪ 6‬التسخير هو التذليل والتطويع‪ ،‬وهو كناية عن كون الشيء قابلً للتصرف فيه‪.‬‬ ‫‪ 7‬الدّؤوب‪ :‬مرور الشيء في العمل على عادة جارية ل تختلف وفعله‪ :‬دأب يدأب دؤوبا على‬ ‫الشر‪ :‬إذا استمر عليه ولم يقطعه‪.‬‬ ‫‪{ 8‬من كل ما سألتموه} أي‪ :‬من كل مسؤول سألتموه شيئا فحذف مسؤول لدللة الكلم عليه‪،‬‬ ‫والمقابل محذوف أي‪ :‬ومن كل ما لم تسألوه‪ ،‬فإن هناك أشياء لم يسألها النسان‪ ،‬وأعطاه ال‬ ‫تعالى إيّاها‪ ،‬وهذا الحذف كقوله‪{ :‬سرابيل تقيكم الحر‪ }..‬وسرابيل تقيكم البرد‪ :‬فحذف‪.‬‬

‫( ‪)3/59‬‬ ‫رغبة فيه ورهبة منه‪ ،‬هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده ل شريك له وليس تلك‬ ‫الصنام والوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل‬ ‫والظلم والشر والفساد‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وإن تعدوا نعمة ال ل تحصوها} أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه ل يمكن‬ ‫للنسان أن يعد نعم ال عليه ول أن يحصيها عدا بحال من الحوال‪ ،‬وقرر حقيقة في آخر هذه‬ ‫الموعظة والذكرى وهي أن النسان إذا حرم اليمان والهداية الربانية {ظلوم} أي كثير الظلم كفور‬ ‫كثير الكفر عظيمه‪ ،‬والعياذ بال تعالى من ذلك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب إقام الصلة وإيتاء الزكاة والكثار من الصدقات لتقاء عذاب النار‪.‬‬ ‫‪ -2‬جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الخيرة أفضل‪.‬‬ ‫‪ -3‬التعريف بال عز وجل إذ معرفة ال تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب عبادة ال تعالى وبطلن عبادة غيره‪.‬‬ ‫‪ -5‬وصف النسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج السلم‪.‬‬ ‫لصْنَامَ(‪َ )35‬ربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ‬ ‫ج َعلْ َهذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَ ِنيّ أَن ّنعْبُ َد ا َ‬ ‫وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬

‫سكَنتُ مِن‬ ‫غفُورٌ رّحِيمٌ(‪ )36‬رّبّنَا إِنّي َأ ْ‬ ‫عصَانِي فَإِ ّنكَ َ‬ ‫كَثِيرًا مّنَ النّاسِ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي َومَنْ َ‬ ‫ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ النّاسِ‬ ‫لةَ فَا ْ‬ ‫ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْل ُمحَرّمِ رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ‬

‫( ‪)3/60‬‬ ‫خفَى‬ ‫ن َومَا يَ ْ‬ ‫خفِي َومَا ُنعْلِ ُ‬ ‫شكُرُونَ(‪ )37‬رَبّنَا إِ ّنكَ َتعْلَمُ مَا نُ ْ‬ ‫َت ْهوِي إِلَ ْي ِه ْم وَارْ ُز ْقهُم مّنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْ‬ ‫سمَاعِيلَ‬ ‫ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ إِ ْ‬ ‫سمَاء(‪ )38‬الْ َ‬ ‫ض َولَ فِي ال ّ‬ ‫شيْءٍ فَي الَ ْر ِ‬ ‫عَلَى اللّهِ مِن َ‬ ‫ل ِة َومِن ذُرّيّتِي رَبّنَا وَ َتقَ ّبلْ دُعَاء(‪)40‬‬ ‫جعَلْنِي ُمقِيمَ الصّ َ‬ ‫سمِيعُ الدّعَاء(‪َ )39‬ربّ ا ْ‬ ‫حقَ إِنّ رَبّي لَ َ‬ ‫وَإِسْ َ‬ ‫حسَابُ(‪)41‬‬ ‫ي وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ َيوْمَ َيقُومُ الْ ِ‬ ‫غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ‬ ‫رَبّنَا ا ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫هذا البلد آمنا ‪ :‬أي اجعل مكة بلدا آمنا يأمن كل من دخله‪.‬‬ ‫واجنبني‪ :‬بعّدْني‪.‬‬ ‫أن نعبد الصنام‪ :‬عن أن نعبد الصنام‪.‬‬ ‫أضللن كثيرا من الناس‪ :‬أي بعبادتهم لها‪.‬‬ ‫من تبعني فإنه مني‪ :‬أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني‪.‬‬ ‫من ذريتي ‪ :‬أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلم وأمه هاجر‪.‬‬ ‫بواد غير ذي زرع‪ :.‬أي مكة إذ ل مزارع فيها ول حولها يومئذ‪.‬‬ ‫تهوي إليهم‪ :‬تَحِنّ إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة‪.‬‬ ‫على الكبر إسماعيل واسحق ‪ :‬أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعا وتسعين سنه وولد له إسحق‬ ‫وسنه مائة واثنتا عشرة سنة‪.‬‬ ‫ولوالدي ‪ :‬هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك‪.‬‬ ‫يوم يقوم الحساب ‪ :‬أي يوم يقوم الناس للحساب‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه اليات ذلك‪،‬‬

‫( ‪)3/61‬‬ ‫فقوله تعالى‪{ :‬وإذ قال إبراهيم} أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح ال تعالى إليه بذلك‬ ‫ففسر هذا نبوة رسول ال ونزول الوحي إليه‪ ،‬وقوله‪{ :‬رب اجعل هذا البلد آمنا} إي ذا أمن فيأمن‬ ‫من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬واجنبني ‪ 1‬وبني أن نعبد الصنام } فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة ال وحده ومعنى‬

‫أجنبني أبعدني أنا وأولدي وأحفادي وقد استجاب ال تعالى له فلم يكن في أولده وأولد أولده‬ ‫مشرك‪ ،‬وقوله‪{ :‬رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} ‪ 2‬تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها‪،‬‬ ‫وإضلل الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك‪ ،‬وقوله‪{ :‬فمن تبعني} أي من أولدي‬ ‫{فإنه مني} أي على ملتي وديني‪{ ،‬ومن عصاني} فلم يتبعني على ملة السلم إن تعذبه فذاك وإن‬ ‫تغفر له ولم تعذبه {فإنك غفور ‪ 3‬رحيم}‪ ،‬وقوله‪{ :‬ربنا إني اسكنت من ذريتي}‪ 4‬أي من بعض‬ ‫ذريتي وهو إسماعيل مع أمه هاجر {بواد غير ذي زرع} هو مكة إذ ليس فيها ول حولها زراعة‬ ‫يومئذ وإلى آماد بعيدة وأزمنة عديدة {عند بيتك المحرم} قال هذا بإعلم من ال تعالى له أنه‬ ‫سيكون له بيت في هذا الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم‬ ‫القيامة ل يُصاد صيدها ول يُختلي خلها ول تُسفك فيها دماء ول يحل فيها قتال‪ ،‬وقوله‪{ :‬ربنا‬ ‫ليقيموا الصلة ‪ 5‬فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} هذا دعاء بأن ييسر ال تعالى عيش سكان‬ ‫مكة ليعبدوا ال تعالى فيها بإقام الصلة‪ ،‬فإن قلوب بعض الناس عندما تهفوا إلى مكة وتميل إلى‬ ‫الحج والعمرة تكون سببا في نقل الرزاق والخيرات إلى مكة‪ ،‬وقوله‪{ :‬وارزقهم من الثمرات‬ ‫لعلهم يشكرون} دعاء آخر بأن يرزق ال بنيه من الثمرات ليشكروا ال تعالى على ذلك فوجود‬ ‫الرزاق والثمرات موجبة للشكر‪ ،‬إذ النعم تقتضي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬اجعلني جانبا عن عبادتها‪ ،‬وبنيه من صلبه وكانوا ثمانية‪ :‬فما عبد منهم أحد صنما قط‪.‬‬ ‫كان إبراهيم التميمي يقول‪ :‬من يأمن البلء بعد الخليل حتى يقول‪ :‬واجنبني وبني أن نعبد‬ ‫الصنام‪.‬‬ ‫‪ 2‬نسب الضلل إليهن وهن جمادات ل يفعلن شيئا‪ :‬لنهن السبب في الضلل‪.‬‬ ‫‪ 3‬فوّض المر لربه إن شاء غفر لمن عصاه رحمة‪ ،‬وإن شاء عذّبه‪ .‬وقيل‪ :‬قال إبراهيم هذا قبل‬ ‫أن يعلم أن ال ل يغفر الشرك لصحابه‪.‬‬ ‫‪ 4‬ذكر البخاري قصّة إسكان إبراهيم عليه السلم هاجر مكة‪ ،‬بالتفصيل فليرجع إليها ومن في‬ ‫قوله‪{ :‬من ذريتي} للتبعيض إذ لم يسكن مكة إل إسماعيل وباقي أولده كانوا بالشام‪.‬‬ ‫‪ 5‬خص الصلة بالذكر لنها العبادة التي تشتمل على الذكر والشكر‪ ،‬وهي علّة الحياة وسرّ هذا‬ ‫الوجود والكلم في قوله {ليقيموا الصلة} لم كي‪ :‬التعليلية والفعل متعلق بأسكنت أي‪ :‬أسكنتهم‬ ‫بمكة ليقيموا الصلة فيها‪.‬‬

‫( ‪)3/62‬‬ ‫شكرا‪ ،‬وقوله‪{ :‬ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على ال من شيء في الرض ول في‬ ‫السماء} أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل إنما هو من باب إظهار العبودية ل والتخشع‬

‫لعظمته والتذلل لعزته والفتقار إلى ما عنده‪ ،‬وإل فال أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه‪ ،‬وما هم‬ ‫في حاجة إليه لنه تعالى يعلم كل شيء ول يخفي ‪ 1‬عنه شيء في الرض ول في السماء‪..‬‬ ‫وقوله‪{ :‬الحمد ال الذي وهب لي على الكبر ‪ 2‬إسماعيل واسحق إن ربي لسميع الدعاء} أراد به‬ ‫حمد ال وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه إسماعيل واسحق على كبر سنه‪ ،‬والعلم بأن‬ ‫ال تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب إليه‪ ،‬وقوله‪{ :‬رب اجعلني مقيم الصلة ومن ذريتي} أيضا‬ ‫من يقيم الصلة‪ ،‬لن الصلة هي علة الحياة كلها إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلة‬ ‫فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين‪ ،‬ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين‬ ‫وكان من الكافرين‪ ،‬وأخيرا ألحّ على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه ‪ 3‬وللمؤمنين‬ ‫يوم يقوم ‪ 4‬الناس للحساب وذلك يوم القيامة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن‪.‬‬ ‫‪ -2‬الخوف من الشرك لخطره وسؤال ال تعالى الحفظ من ذلك‪.‬‬ ‫‪ -3‬علقة اليمان والتوحيد أولى من علقة الرحم والنسب‪.‬‬ ‫‪ -4‬أهمية إقام الصلة وأن من لم يرد أن يصلي ل حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على‬ ‫ترك الصلة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس في قوله تعالى‪{ :‬إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} أي‪ :‬من الوجد بإسماعيل وأمّه‬ ‫حيث أُسكنا بواد غير ذي زرع‪ ،‬والوجد‪ :‬الحزن‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له اسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة‬ ‫سنة‪ .‬قاله ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬ ‫‪ 3‬استغفر عليه السلم لوالديه قبل أن يتبين له عداوة أبيه آزر ل تعالى فلما تبين له أنه عدو ل‬ ‫تبرأ منه‪ ،‬كما تقدم في سورة التوبة‪ ،‬كما جاء فيها‪{ :‬فلما تبين له أنه عدو ل تبرأ منه} فلذا ل‬ ‫يجوز الستغفار لمن مات مشركا‪ ،‬كما ل يجوز الصلة عليه إذا مات إجماعا‪.‬‬ ‫‪ 4‬نسبة القيام إلى الحساب كقولهم‪ :‬قامت الحرب على ساق‪ :‬يعنون اشتداد المر‪ ،‬وصعوبة الحال‪.‬‬

‫( ‪)3/63‬‬ ‫‪ -5‬بيان استجابة دعاء إبراهيم عليه السلم فيما سال ربه تعالى فيه‪.‬‬ ‫‪ -6‬وجوب حمد ال وشكره على ما ينعم به على عبده‪.‬‬ ‫‪ -7‬مشروعية الستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات‪.‬‬

‫‪ -8‬تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء‪.‬‬ ‫طعِينَ‬ ‫خصُ فِي ِه الَ ْبصَارُ(‪ُ )42‬مهْ ِ‬ ‫عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ إِ ّنمَا ُيؤَخّرُ ُهمْ لِ َيوْمٍ َتشْ َ‬ ‫وَلَ َتحْسَبَنّ الّلهَ غَافِلً َ‬ ‫سهِ ْم لَ يَرْ َتدّ إِلَ ْيهِمْ طَ ْر ُفهُ ْم وََأفْئِدَ ُتهُمْ َهوَاء(‪ )43‬وَأَنذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِيهِمُ ا ْل َعذَابُ فَ َيقُولُ‬ ‫ُمقْنِعِي رُءُو ِ‬ ‫سمْتُم مّن قَ ْبلُ مَا‬ ‫سلَ َأوَلَمْ َتكُونُواْ َأقْ َ‬ ‫عوَ َتكَ وَنَتّبِعِ الرّ ُ‬ ‫جبْ دَ ْ‬ ‫جلٍ قَرِيبٍ نّ ِ‬ ‫الّذِينَ ظََلمُواْ رَبّنَا َأخّرْنَا إِلَى أَ َ‬ ‫سهُ ْم وَتَبَيّنَ َل ُكمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِب ِه ْم َوضَرَبْنَا َل ُكمُ‬ ‫سكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الّذِينَ ظََلمُواْ أَنفُ َ‬ ‫َلكُم مّن َزوَالٍ(‪ )44‬وَ َ‬ ‫لمْثَالَ(‪َ )45‬وقَدْ َمكَرُواْ َمكْرَهُ ْم وَعِندَ اللّهِ َمكْرُهُمْ وَإِن كَانَ َمكْرُ ُهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ا ْلجِبَالُ(‪)46‬‬ ‫اَ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫عما يعمل الظالمون ‪ :‬أي المشركون من أهل مكة وغيرهم‪.‬‬ ‫ليوم تشخص فيه البصار ‪ :‬أي تنفتح فل تغمض لشدة ما ترى من الهوال‪.‬‬ ‫مهطعين مقنعي رؤوسهم‪ :‬أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر‪ ،‬رافعي رؤوسهم‪.‬‬

‫( ‪)3/64‬‬ ‫وأفئدتهم هواء ‪ :‬أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع‪.‬‬ ‫نجب دعوتك‪ :.‬أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل‪.‬‬ ‫ما لكم من زوال ‪ :‬أي عن الدنيا إلى الخرة‪.‬‬ ‫وقد مكروا مكرهم‪ :‬أي مكرت قريش بالنبي صلى ال عليه وسلم حيث أرادوا قتله أو حبسه أو‬ ‫نفيه‪.‬‬ ‫وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‪ :‬أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه ل قيمة له‬ ‫فل تعبأ به ول تلتفت إليه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في هذا السياق الكريم تقوية رسول ال صلى ال عليه وسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته‬ ‫إلى ربه إلى أن ينصرها ال تعالى وتبلغ المدى المحدد لها واليام كانت صعبة على رسول ال‬ ‫وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم‪ ،‬وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪{ :‬ول تحسبن ال غافلً عما يعمل الظالمون} من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل‬ ‫عذابه إنما يريد أن يؤخرهم {ليوم تشخص ‪ 1‬فيه البصار} أي تنفتح فل تغمض ول تطرف لشدة‬ ‫الهوال وصعوبة الحوال‪{ ،‬مهطعين ‪ }2‬أي مسرعين {مقنعي رؤوسهم ‪ }3‬أي حال كونهم‬ ‫مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم إلى المحشر‪ ،‬قال‬ ‫تعالى‪{ :‬واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب} {ل يريد إليهم طرفهم ‪ }4‬أي ل تغمض أعينهم‬ ‫من الخوف {وأفئدتهم} أي قلوبهم {هواء} أي ‪5‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬تشخص أبصار الخلئق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فل‬ ‫يرمضون‪ ،‬وفعل الشخوص‪ :‬شخص يشخص البصر‪ :‬إذا سما وطمح من الخوف‪.‬‬ ‫‪{ 2‬مهطعين} اسم فاعل من أهطع يهطع إهطاعا فهو مهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى‪{ :‬مهطعين‬ ‫إلى الداع} أي‪ :‬مسرعين‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫بدجلة دارهم ولقد أراهم‬ ‫بدجلة مهطعين إلى السماع‬ ‫والمهطع أيضا من ينظر في ذل وخشوع‪.‬‬ ‫‪{ 3‬مقنعي} القناع‪ :‬رفع الرأس ومنه القناع في الصلة وهو مكروه وقد يطلق القناع أيضا على‬ ‫تنكيس الرأس‪ ،‬يقال‪ :‬أقنع رأسه‪ :‬إذا طأطأه أو رفعه‪ ،‬واللفظ يحتمل الوجهين‪.‬‬ ‫‪ 4‬الطرف‪ :‬العين‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫وأغمض طرفي ما بدت لي جارتي‬ ‫حتى يواري جارتي ماواها‬ ‫يقال‪ :‬طرف يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الخر‪ ،‬ولم يطرف‪ :‬إذا فتح عينه ولم يغمضها‪.‬‬ ‫‪ 5‬هي كالهواء في الخلو من الدراك لشدة الهول‪ ،‬والهواء‪ :‬الخلء‪.‬‬

‫( ‪)3/65‬‬ ‫فارغة من الوعي والدراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الية (‪)44‬‬ ‫بإنذار الناس مخوفا لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بال والكفر برسوله وشرعه‪،‬‬ ‫{يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا} أي أشركوا بربهم‪ ،‬وآذوا عباده المؤمنين {ربنا أخرنا إلى‬ ‫أجل قريب} أي يطلبون النظار والمهال {نجب دعوتك} أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك‪،‬‬ ‫فيقال لهم‪ :‬توييخا وتقريعا وتكذيبا لهم‪{ :‬أو لم تكونوا أقسمتم} أي حلفتم {من قبل ما لكم من زوال}‬ ‫أي أطلبتم الن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ول ارتحال من الدنيا إلى الخرة‪،‬‬ ‫{وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالشرك والمعاصي {وتبين لكم} أي عرفتم {كيف فعلنا‬ ‫بهم} أي بإهلكنا لهم وضربنا لكم المثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ول‬ ‫يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم‪ ،‬وقوله تعالى ‪{ :‬وقد مكروا مكرهم} أي وقد مكر كفار قريش‬ ‫برسول ال في حيث قرروا حبسه مغللً في السجن حتى الموت أو قتله‪ ،‬أو نفيه وعزموا على‬ ‫القتل ولم يستطيعوه {وعند ال مكرهم} أي علمه وما أرادوا به‪ ،‬وجزاؤهم عليه‪ ،‬وقوله‪{ :‬وإن كان‬ ‫مكرهم لتزول منه الجبال ‪ }1‬أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه ل وزن له ول‬ ‫اعتبار فل تحفل به أيها الرسول ول تلتفت‪ ،‬فإنه ل يحدث منه شيء‪ ،‬وفعلً قد خابوا فيه أشد‬ ‫الخيبة‪.‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم‪ ،‬وإنما هو تأخيرهم إلى يوم‬ ‫القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لخذهم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا‬ ‫ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته‪.‬‬ ‫‪ -3‬التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء‪{ :‬لتزول} بفتح اللم الولى وضم الخرة لتزول‪ ،‬وإن مخففة من الثقيلة‪ ،‬واللم لم‬ ‫البتداء‪ ،‬ومعنى الية‪ .‬استعظام مكرهم حتى لتكاد الجبال تزول منه‪ ،‬وما في التفسير من قراءة‬ ‫وتوجيه هو الذي رجّحه ابن جرير الطبري‪ .‬هنا ذكر القرطبي بإسهاب قصّة النمرود الجبار الذي‬ ‫حاج إبراهيم عليه السلم‪ ،‬ول طائل تحتها‪.‬‬

‫( ‪)3/66‬‬ ‫‪ – 4‬تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ل الَ ْرضُ غَيْرَ الَرْضِ‬ ‫حسَبَنّ اللّهَ ُمخِْلفَ وَعْ ِدهِ رُسَُلهُ إِنّ الّلهَ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ(‪َ )47‬يوْمَ تُبَ ّد ُ‬ ‫فَلَ تَ ْ‬ ‫صفَادِ(‪)49‬‬ ‫ل ْ‬ ‫سمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ(‪ )48‬وَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ َي ْومَئِذٍ ّمقَرّنِينَ فِي ا َ‬ ‫وَال ّ‬ ‫ن وَ َتغْشَى وُجُو َههُمْ النّارُ(‪ )50‬لِ َيجْزِي اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مّا كَسَ َبتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ‬ ‫سَرَابِيُلهُم مّن قَطِرَا ٍ‬ ‫ح ٌد وَلِيَ ّذكّرَ ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ(‪)52‬‬ ‫س وَلِيُنذَرُواْ ِب ِه وَلِ َيعَْلمُواْ أَ ّنمَا ُهوَ إِلَ ٌه وَا ِ‬ ‫لغٌ لّلنّا ِ‬ ‫حسَابِ(‪ )51‬هَذَا بَ َ‬ ‫الْ ِ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن ال عزيز ‪ :‬أي غالب ل يحال بينه وبين مراده بحال هن الحوال‪.‬‬ ‫ذو انتقام ‪ :‬أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله‪.‬‬ ‫يوم تبدل الرض‪ :‬أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الرض‪.‬‬ ‫وبرزوا ل‪ :‬أي خرجوا من القبور ل ليحاسبهم ويجزيهم‪.‬‬ ‫مقرنين‪ :‬أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم‪.‬‬ ‫في الصفاد ‪ :‬الصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره‪.‬‬ ‫سرابيلهم ‪ :‬أي قمصهم التي يلبسونها من قطران‪.‬‬ ‫هذا بلغ‪ :‬أي هذا القرآن بلغ للناس‪.‬‬ ‫أولوا اللباب ‪ :‬أصحاب العقول‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫ما زال السياق في تسلية الرسول صلى ال عليه وسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف‬ ‫المشركين‬

‫( ‪)3/67‬‬ ‫وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪{ :‬فل تحسبن ال مخلف وعده رسله‬ ‫‪ }1‬إنه كما لم يخلف رسله الولين ل يخلفك أنت‪ ،‬إنه لبد منجز لك ما وعدك من النصر على‬ ‫أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ول تستعجل لهم‪{ .‬إن ال عزيز ‪ }2‬أي غالب ل‬ ‫يغلب غالب على أمره ما يريده ل بد واقع {ذو انتقام} شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته‬ ‫وحارب أولياءه‪ ،‬واذكر {يوم تبدل الرض غير الرض والسموات ‪ }3‬كذلك {وبرزوا} أي ظهروا‬ ‫بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا {ل الواحد‬ ‫القهار}‪{ ،‬وترى المجرمين يومئذ} يا رسولنا تراهم {مقرنين في الصفاد}‪ 4‬مشدودة أيديهم‬ ‫وأرجلهم إلى أعناقهم‪ ،‬هؤلء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على‬ ‫أنفسهم أولً ثم على غيرهم ثانيا سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم‬ ‫عليه‪ ،‬الجميع قد أجرموا في حقهم‪{ ،‬سرابيلهم ‪ }5‬قمصانهم التي على أجسامهم {من قطران} وهو‬ ‫ما تدهن به البل‪ :‬مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس إذْ قرئ من قِطرآن أي من نحاس‬ ‫أُحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة {وتغشى وجوههم النار} أي وتغطي وجوههم النار‬ ‫بلهبها‪ ،‬هؤلء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي‪ ،‬وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة‪ ،‬فعل‬ ‫تعالى هذا بهم {ليجزي ال كل نفس بما كسبت إن ال سريع الحساب} فما بين أن وجدوا في الدنيا‬ ‫وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها إل كمن دخل‬ ‫__________‬ ‫‪ { 1‬مخلف} مفعول ثان لحسب‪ ،‬ووعده‪ :‬مجرور بالضافة‪ ،‬ورسله‪ :‬معمول لمخلف مؤخر‪،‬‬ ‫والصل‪ :‬مخلف رسله‪ .‬وعده‪ ،‬وقدّم الوعد للهتمام به‪.‬‬ ‫‪ 2‬جملة تعليلية للنهي عن حسبان خلف وعده تعالى‪.‬‬ ‫‪ 3‬الية نصّ صريح في كون الرض والسموات تتبدل في ذاتها وسائر صفاتها وتزول تماما‬ ‫ويخلق ال تعالى أرضا غير ذي وسماء غير هذه‪ ،‬وفي الحديثين التيين ما يقرر ذلك‪:‬‬ ‫أ‪ -‬حديث مسلم‪ ،‬وفيه‪" :‬إنّ يهوديا سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً‪ :‬أين يكون الناس يوم‬ ‫تبدل الرض غير الرض والسموات؟ فقال‪ :‬في الظلمة دون الجسر"‪.‬‬ ‫ب‪ -‬حديث ابن ماجه بإسناد مسلم قال‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قوله تعالى ‪:‬‬ ‫{يوم تبدّل الرض غير الرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال‪ :‬على الصراط"‪.‬‬ ‫‪ 4‬الصفاد‪ :‬جمع صفد بفتح كل من الصاد والفاء‪ ،‬وهو الغلّ والقيد يشد به ويربط الجاني قال‬

‫الشاعر‪:‬‬ ‫فآبوا بالنهاب وبالسبايا‬ ‫وأُبنا بالملوك مصفدين‬ ‫‪ 5‬واحد السرابيل‪ :‬سربال‪ ،‬وهو القميص‪ ،‬يقال‪ :‬تسربل‪ ،‬إذا لبس السربال وكونها من قطران لشدّة‬ ‫حرارتها‪ ،‬واشتعال النار فيها‪.‬‬

‫( ‪)3/68‬‬ ‫مع باب وخرج مع آخر‪ ،‬وأخيرا يقول تعالى‪{ :‬هذا بلغ للناس ‪ 1‬وليذروا به وليعلموا أنما هو إله‬ ‫واحد وليذكر أولوا اللباب} أي هذا القرآن بلغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب‬ ‫الناس {ولينذروا به} أي بما فيه من العظات والعبر والعرض للوان العذاب وصنوف الشقاء لهل‬ ‫الجرام والشر والفساد‪{ ،‬وليعلموا} أي بما فيه من الحجج والدلئل والبراهين {أنما هو إله واحد}‬ ‫أي معبود واحد ل ثاني له وهو ال جل جلله‪ ،‬فل يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والله‬ ‫الحق‪ ،‬وما عداه فباطل‪{ ،‬وليذكر أولوا اللباب} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة‬ ‫الواعية فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب ال وعذابه‪ ،‬وليفوزوا برحمته ورضوانه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان صدق وعد ال من وعدهم من رسله وأوليائه‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان العلة في المعاد الخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا‪.‬‬ ‫‪ -4‬قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة‪{ :‬هذا بلغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله‬ ‫واحد وليذكر أولوا اللباب} هذه الية صالحة لن تكون عنوانا‪ 2‬للقرآن الكريم إذ دلت على‬ ‫ل وآخرا‪.‬‬ ‫مضمونه كاملً مع وجازة اللفظ وجمال العبارة‪ ،‬والحمد ل أو ً‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬بلغ} أي‪ :‬تبليغ للناس يقوم به الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال هذا‪ :‬العلمة الشيخ‪ ،‬البشير البراهيمي الجزائري‪ ،‬وظننا أنّه إلهام من ال تعالى له‪ ،‬د إذا‬ ‫بنا نعثر في كلم الولين على من قاله‪ ،‬وسبق به وجائز أن يكون الشيخ ألهمه والخر كذلك‪،‬‬ ‫وتوارد الخواطر معروف ول مانع من النقل والسكوت على من نقل عنه‪ ،‬إذ العلم مشاع كالماء‬ ‫والهواء ل غنى لحد عنهما‪ ،‬ولذا فل بأس أن ينقل العلم ول ينسب إلى قائله لكن ل ينسب إلى‬ ‫غير قائله‪ ،‬فتلك سرقة ممنوعة‪.‬‬

‫( ‪)3/69‬‬ ‫سورة الحجر‬ ‫‪...‬‬ ‫الجزء الرابع عشر‬ ‫سورة الحجر‬ ‫مكية‬ ‫وآياتها تسع وتسعون‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫الَرَ تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ َوقُرْآنٍ مّبِينٍ(‪ )1‬رّ َبمَا َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْ كَانُواْ مُسِْلمِينَ(‪ )2‬ذَرْهُمْ يَ ْأكُلُواْ‬ ‫ل وََلهَا كِتَابٌ ّمعْلُومٌ(‪ )4‬مّا تَسْ ِبقُ‬ ‫سوْفَ َيعَْلمُونَ(‪َ )3‬ومَا أَهَْلكْنَا مِن قَرْيَةٍ ِإ ّ‬ ‫ل َملُ َف َ‬ ‫وَيَ َتمَ ّتعُو ْا وَيُ ْل ِههِ ُم ا َ‬ ‫مِنْ ُأمّةٍ َأجََلهَا َومَا َيسْتَأْخِرُونَ(‪)5‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫آلر‪ :‬ال أعلم بمراده بذلك‪ ،‬تُكتب آلر‪ .‬ويقرأ‪ :‬أِلفْ‪ ،‬لَمْ‪ ،‬را‪.‬‬ ‫تلك آيات الكتاب‪ :‬اليات المؤلفة مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات الكتاب أي القرآن‪.‬‬ ‫يود‪ :‬يحب ويرغب متمنيا أن لو كان من المسلمين‪.‬‬ ‫ويتمتعوا‪ :‬أي بالملذات الشهوات‪.‬‬ ‫ويلههم المل ‪ :‬أي بطول العمر وبلوغ الوطار وإدراك الرغائب الدنيوية‪.‬‬ ‫إل ولها كتاب معلوم ‪ :‬أي أجل محدود لهلكها‪.‬‬ ‫ما تسبق من أمة أجلها‪ :‬أي ل يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بما أن السورة مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث‪ .‬قوله تعالى‪:‬‬ ‫{آلر}‪ :‬ال أعلم بمراده به‪ ،‬ومن فوائد هذه الحروف المقطعة تنبيه السامع وشده بما يسمع من‬ ‫التلوة‪ ،‬إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به‪ ،‬فكانت هذه الفواتح التي لم يألفوا مثلها في‬ ‫كلمهم تشدهم إلى سماع ما بعدها من القرآن‪ .‬وقوله‪{ :‬تلك آيات‬

‫( ‪)3/70‬‬ ‫سقَ‪( .‬تلك‬ ‫الكتاب} ‪ 1‬من الجائز القول‪ .‬اليات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر‪ ،‬آلم‪ ،‬طس‪ ،‬حمَ عَ َ‬ ‫آيات الكتاب وقرآنٍ مبين} المبين‪ :‬المبين للحق والباطل والهدى والضلل وقوله تعالى‪{ :‬ربما ‪2‬‬

‫يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}‪ :‬يخبر تعالى أن يوما سيأتي هو يوم القيامة عندما يرى الكافر‬ ‫المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنيا أن لو كان من ‪ 3‬المسلمين‪ .‬وقد يُحدث‬ ‫ال تعالى ظروفا في الدنيا وأمورا يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ذرهم‬ ‫يأكلوا ويتمتعوا ويلههم المل فسوف يعلمون} أي اتركهم يا رسولنا‪ ،‬أي اترك الكافرين يأكلوا ما‬ ‫شاءوا من الطعمة‪ ،‬ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات‪ ،‬ويلههم المل عن التفكير في‬ ‫عاقبة أمرهم‪ .‬إذ همهم طولُ أعمارهم‪ ،‬وتحقيق أوطارهم‪ ،‬فسوف يعلمون إذا رُدّوا إلى ال مولهم‬ ‫الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون أنهم كانوا في الدنيا مخطئين بإعراضهم عن الحق ودعوة‬ ‫الحق والدين الحق وقوله‪{ :‬وما أهلكنا من ‪ 4‬قرية} أي من أهل قرية بعذاب البادة والستئصال‬ ‫{إل ولها كتاب}‪ ،‬أي لها أجل مكتوب في كتابٍ محدد اليوم والساعة‪ .‬وقوله‪ ..{ :‬ما تسبق من أمةٍ‬ ‫أجلها وما يستأخرون} أي بناءً على كتاب المقادير فإن أمة كتب ال هلكها ل يمكن أن يتقدم‬ ‫هلكها قبل ميقاته المحدد‪ ،‬ول أن يستأخر عنه ولو ساعة‪ .‬وفي هذا تهديدٌ وتخويف لهل مكة‬ ‫وهم يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها كتابٌ وحدد لها أجل وهم ل‬ ‫يشعرون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬القرآن الكريم مبينٌ لكل ما يحتاج إليه في إسعاد النسان وإكماله‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الكتاب الذي هو القرآن أصبح علما بالغلبة على القرآن العظيم الذي أنزل على محمد صلى‬ ‫ال عليه وسلم وسمي بالكتاب لنه مأمور بكتابته وحفظه فسمي بالكتاب قبل أن يكتب للمر بذلك‪،‬‬ ‫والقرآن‪ :‬اسم ثان للكتاب الذي أنزل على محمد صلى ال عليه وسلم والكتاب مشتق من الكتب‬ ‫الذي هو الجمع‪ ،‬والقرآن من القرء الذي هو الجمع أيضا فهو تجمع حروفه وكلماته‪.‬‬ ‫‪ 2‬ربّ‪ :‬حرف جرٌ يدخل على السماء‪ ،‬وإن أريد إدخالها على الفعال لحقت بها (ما) كما في‬ ‫الية‪ .‬وقرأ نافع {رُ َبمَا} بالتخفيف‪ ،‬وشدّدها غيره في هذه الية {ربما يودّ الذين كفروا‪ }..‬الخ‬ ‫وأصل استعمالها في التقليل‪ ،‬وقد تستعمل في الكثير‪.‬‬ ‫‪ 3‬وقد ورد أنه لما يرى الكافرون وهم في النار أهل التوحيد يخرجون منها يودون لو كانوا‬ ‫موحدين‪ ،‬والكل وارد ول مانع منه‪.‬‬ ‫‪{ 4‬من}‪ :‬صلة لتقوية النفي وتأكيد الخبر‪.‬‬

‫( ‪)3/71‬‬

‫‪ -2‬إنذار الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للسلم فإن يوما سيأتي يتمنون فيه أن‬ ‫لو كانوا مسلمين‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير عقيدة القضاء والقدر فما من شيء إل وسبق به علم ال وكتبه عنده في كتاب المقادير‬ ‫الحياة كالموت‪ ،‬والربح كالخسارة‪ ،‬والسعادة كالشقاء‪ ،‬جميع ما كان وما هو كائنٌ وما سكون سبق‬ ‫به علم ال وكتب في اللوح المحفوظ‪.‬‬ ‫َوقَالُواْ يَا أَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َل َمجْنُونٌ(‪ّ )6‬لوْ مَا تَأْتِينَا بِا ْلمَل ِئكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ (‬ ‫ق َومَا كَانُواْ إِذًا مّنظَرِينَ(‪ )8‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ(‪)9‬‬ ‫‪ )7‬مَا نُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ ِإلّ بِالحَ ّ‬ ‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ فِي شِيَعِ الَوّلِينَ(‪َ )10‬ومَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ ِإلّ كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْ ِزؤُونَ(‪)11‬‬ ‫شرح الكلمات ‪:‬‬ ‫نزل عليه الذكر‪ :.‬أي القرآن الكريم‪.‬‬ ‫لو ما تأتينا بالملئكة‪ :‬أي هل تأتينا بالملئكة تشهد لك أنك نبي ال‪.‬‬ ‫وما كانوا إذا منظرين‪ :‬أي ممهلين‪ ،‬بل يأخذهم العذاب فور نزول الملئكة‪.‬‬ ‫إنا نحن نزلنا الذكر‪ :‬أي القرآن‪.‬‬ ‫في شيع الولين‪ :‬أي في فرق وطوائف الولين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر } أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة {إنك‬ ‫لمجنون} أي غير عاقل وإل لما ادعيت النبوة‪ .‬وفي قولهم هذا استهزاء‬

‫( ‪)3/72‬‬ ‫ظاهر بالرسول صلى ال عليه وسلم وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله‪{ :‬لوما تأتينا ‪1‬‬ ‫بالملئكة} لو ما هنا بمعنى هل التحضيضيه أي هل تأتينا بالملئكة نراهم عيانا يشهدون لك بأنك‬ ‫رسول ال {إن كنت من الصادقين} في دعواك النبوة والرسالة فأت بالملئكة تشهد لك‪ .‬قال تعالى‬ ‫{ما ننزل ‪ 2‬الملئكة إل بالحق} أي نزولً ملتبسا بالحق‪ .‬أي ل تنزل الملئكة إل لحقاق الحق‬ ‫وإبطال الباطل ل لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملئكة ولم يؤمنوا لنزل بهم العذاب‬ ‫فورا {وما كانوا إذا منظرين ‪ }3‬أي ممهلين بل يهلكون في الحال‪ .‬وقوله تعالى في الية (‪{ )9‬إنا‬ ‫نحن نزلنا الذكر} أي القرآن {وإنا له لحافظون} أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لنه حجتنا‬ ‫على ‪ 4‬خلقنا إلى يوم القيامة‪ .‬أنزلنا الذكر هدى ورحمه وشفاء ونورا‪ .‬هم يريدون العذاب وال‬ ‫يريد الرحمة‪ .‬مع أن القرآن نزلت به الملئكة‪ ،‬والملئكة إن نزلت ستعود إلى السماء ولم يبق ما‬ ‫يدل على الرسالة إل القرآن ولكن القوم ل يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم‬ ‫بل سبقتهم طوائف وأمم أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى‪{ :‬ولقد ‪ 5‬أرسلنا من قبلك في‬

‫شيع ‪ 6‬الولين} أي في فرقهم وأممهم {وما يأتيهم من رسول إل كانوا به ‪ 7‬يستهزئون} لن علة‬ ‫المرض واحدة إذا فل تيأس يا رسول ال ول تحزن بل اصبر وانتظر وعد ال لك بالنصر فإن‬ ‫وعده حق‪{ :‬كتب أل لغلبن أنا ورسلي إن ال قوي عزيز}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬لوما} كلول وهلّ‪ :‬حرف تحضيض على الفعل نحو‪ :‬لو ما أكرمت عمرا ولول أكرمت زيدا‬ ‫وهل كذلك‪ ،‬وتأتي مع الخبر فل يراد بها التحضيض نحو‪ :‬لو ما خوف ال لقلت فيك كذا وكذا‪،‬‬ ‫قال الشاعر‪:‬‬ ‫لو ما الحياء ولوما الدين عبتكما‬ ‫عوَري‬ ‫ببعض ما فيكما إذ عبتما َ‬ ‫‪ 2‬قرأ حفص‪{ :‬ما ننزل الملئكة} وقرأ بعضهم {ما تنزّل} وقرأ ورش عن نافع {ما تُنَزّل} بحذف‬ ‫إحدى التائين نخفيفا‪ ،‬إذ الصل‪ :‬تتنزّل‪.‬‬ ‫‪ 3‬أصل‪ :‬إذا‪ :‬إذ أن‪ ،‬ومعناها حينئذ أي‪ :‬تنزّلت الملئكة بإهلكهم لما كانوا حينئذ منظرين أي‪.‬‬ ‫ممهلين ساعة من الزمن‪.‬‬ ‫‪ 4‬قالت العلماء‪ :‬لما وكل ال تعالى حفظ التوراة والنجيل إلى أهل الكتاب في قوله {بما استحفظوا‬ ‫من كتاب ال} أضاعوه فزادوا فيه ونقصوا منه‪ ،‬ولمّا تولى ال تعالى حفظ القرآن‪ ،‬حفظه فلم يردْ‬ ‫فبه حرف ولم ينقص منه حرف‪.‬‬ ‫‪{ 5‬ولقد أرسلنا} الخ‪ ..‬هذه الجملة إبطال لستهزاء المشركين بالرسول صلى ال عليه وسلم على‬ ‫طريقة التمثيل بأشياعهم من المم السابقة‪.‬‬ ‫‪ 6‬الشِيعَ‪ :‬جمع شيعة‪ ،‬وهي الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة‪ ،‬وفيه قوله تعالى {أو يلبسكم شيعا} أي‪:‬‬ ‫فرقا كل فرقة تتألف مع أفرادها‪ ،‬وتحارب عن مبادئها وأفكارها وما هي عليه من دين وعادة‪.‬‬ ‫‪ 7‬تقديم الجار والمجرور (به) على فعل يستهزئون‪ :‬لفادة القصر للمبالغة أي‪ :‬كأنهم لفساد قلوبهم‬ ‫ل شغل لهم إل الستهزاء برسول ال عز وجل‪.‬‬

‫( ‪)3/73‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان ما كان يلقاه رسول ال صلى ال عليه وسلم من استهزاء وسخرية من المشركين‪.‬‬ ‫‪ -2‬مظهر من مظاهر رحمة ال بالنسان‪ ،‬يطلب نزول العذاب وال ينزل الرحمة‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان حفظ ال تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان سنة ال تعالى في المم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم‬

‫ويدعوهم إلى جديد من الخير والهدى إل وينكرون ويستهزئون‪.‬‬ ‫لوّلِينَ(‪ )13‬وََلوْ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِم‬ ‫كَذَِلكَ نَسُْل ُكهُ فِي قُلُوبِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ(‪ )12‬لَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َوقَدْ خََلتْ سُنّ ُة ا َ‬ ‫سكّ َرتْ أَ ْبصَارُنَا َبلْ نَحْنُ َقوْمٌ مّسْحُورُونَ(‪)15‬‬ ‫سمَاء فَظَلّواْ فِيهِ َيعْرُجُونَ(‪َ )14‬لقَالُواْ إِ ّنمَا ُ‬ ‫بَابًا مّنَ ال ّ‬ ‫حفِظْنَاهَا مِن ُكلّ شَ ْيطَانٍ رّجِيمٍ(‪ِ )17‬إلّ مَنِ‬ ‫سمَاء بُرُوجًا وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ(‪ )16‬وَ َ‬ ‫جعَلْنَا فِي ال ّ‬ ‫وَلَقَدْ َ‬ ‫شهَابٌ مّبِينٌ(‪)18‬‬ ‫سمْعَ فَأَتْ َبعَهُ ِ‬ ‫اسْتَ َرقَ ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫كذلك نسلكه ‪ :‬أي التكذيب بالقرآن أو النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫وقد خلت سنة الولين‪ :‬أي مضت سنة المم السابقة‪.‬‬ ‫فظلوا فيه يعرجون ‪ :‬أي يصعدون‪.‬‬ ‫سكّرُ النهر أو الباب‪.‬‬ ‫سكّرت ‪ :‬أي سدت كما ُي َ‬ ‫إنما ُ‬ ‫في السماء بروجا ‪ :‬أي كواكب ينزلها الشمس والقمر‪.‬‬ ‫شيطان رجيم ‪ :‬أي مرجومٌ بالشهب‪.‬‬ ‫شهاب مبين‪ :‬كوكب يُرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يُخْبلُهُ أي يفسده‪.‬‬

‫( ‪)3/74‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملئكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها‪.‬‬ ‫قال تعالى‪{ :‬كذلك نسلكه ‪ }1‬أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك‪ ،‬كما سلكناه حسب سنتنا‬ ‫في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه {في قلوب المجرمين} من قومك فل يؤمنون بك ول‬ ‫بالذكر الذي أنزل عليك‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وقد خلت سنة الولين ‪ }2‬أي مضت وهى تعذيب المكذبين‬ ‫للرسل المستهزئين بهم لنهم ل يؤمنون حتى يروا العذاب الليم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ولو فتحنا عليهم‬ ‫‪ 3‬بابا من السماء فظلوا} أي الملئكة أو المكذبون {فيه} أي في ذلك الباب {يعرجون} أي‬ ‫يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء {إنما سكرت أبصارنا} أي منعت من‬ ‫النظر الحقيقي فلم نر الملئكة ولم نرى السماء {بل نحن ‪ 4‬قوم مسحورون} فأصبحنا نرى أشياء‬ ‫ل حقيقية لها‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ولقد جعلنا ‪ 5‬في السماء بروجا} أي كواكب ‪ 6‬هي منازل للشمس‬ ‫والقمر ينزلن بها وعلى مقتضاها يعرف عدد السنين والحساب‪ .‬وقوله‪{ :‬زيناها} أي السماء‬ ‫بالنجوم {للناظرين } فيها من الناس‪ .‬وقوله‪{ :‬وحفظناها} أي السماء الدنيا {من كل شيطان رجيم}‬ ‫أي مرجوم ملعون‪ .‬وقوله‪{ :‬إل من أسترق السمع} إل مارد من الشياطين طلع إلى السماء‬ ‫لستراق السمع من الملئكة لينزل بالخبر إلى وليه من الكهان من الناس {فاتبعه شهاب} من نار‬ ‫{مبين} أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما بإحراقه‪ .‬هذه اليات وهي قوله تعالى‪:‬‬

‫{ولقد جعلنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬عود الضمير في {نسلكه} على القرآن أولى إذ السياق تابع لقوله‪{ :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له‬ ‫ل وكانوا‬ ‫لحافظون} وقوله تعالى‪{ :‬ولقد أرسلنا من قبلك من شيع الولين} أي‪ :‬أرسل فيهم رس ً‬ ‫ينزل عليهم آياتنا ولم ينتفعوا لعراضهم عنها فل تعيها قلوبهم ول تدركها فُهو مُهم‪ ،‬ول يتأثرون‬ ‫بها لوجود حرائل حالت دون ذلك‪ ،‬وهي الكبر والحسد والعناد وكذلك المسلك الذي سلكناه في‬ ‫قلوب الولين نسلكه اليوم في قلوب المجرمين فيدخل القرآن عند سماعه إلى قلوبهم ول يلمسها‬ ‫ول يباشرها فل تتأثر به وذلك لحوائل منها الحسد والعناد والكبر‪ ،‬وتلك سنّة ال تعالى في‬ ‫أمثالهم‪ ،‬وأصل السلك‪ :‬إدخال الشيء في آخر‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية تعريض للمجرين بالهلك‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه الية كقوله تعالى‪{ :‬ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن‬ ‫هذا إل سحر مبين}‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬أضربوا عن القول الوّل‪ .‬وهو قولهم‪ :‬إنّما سكّرت أبصارنا إلى قلولهم بل نحن قوم‬ ‫مسحورون‪ .‬أي ما رأينا شيئا ثم أقرّوا بأنهم رأوا ولكن ما رأوه إنما هو تخيلت المسحور ل‬ ‫غير‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذا شروع في ذكر مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيد والمقررة للبعث والجزاء‪.‬‬ ‫‪ 6‬هذا كقوله تعالى‪{ :‬تبارك الذي جعل في الماء بروجا} أي‪:‬كواكب‪.‬‬

‫( ‪)3/75‬‬ ‫في السماء بروجا} إلى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل‪ ،‬القصد منه إظهار قدرة ال تعالى‬ ‫وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لرسال الرسول وإنزال الكتاب لهداية الناس إلى عبادة‬ ‫ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والخرة‪ ،‬ولكن المكذبين ل يعلمون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان سنة ال تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم ل يؤمنون حتى يروا العذاب الليم‪.‬‬ ‫‪ -2‬مطالبة المكذبين المجرمين باليات كرؤية الملئكة ل معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا‬ ‫به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان مظاهر قدرة ال تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت اليات من مظاهر لذلك‪ ،‬بدءا‬ ‫من قوله‪{ :‬ولقد جعلنا في السماء بروجا‪ }1‬إلى الية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم‪.‬‬ ‫جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا‬ ‫شيْءٍ ّموْزُونٍ(‪ )19‬وَ َ‬ ‫سيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َ‬ ‫وَالَرْضَ مَ َددْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ‬

‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ(‪)21‬‬ ‫ش َومَن لّسْتُمْ َلهُ بِرَا ِزقِينَ(‪ )20‬وَإِن مّن َ‬ ‫َمعَايِ َ‬ ‫سقَيْنَا ُكمُو ُه َومَا أَنتُمْ َلهُ‬ ‫سمَاء مَاء فَأَ ْ‬ ‫وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬البروج ‪ :‬جمع برج وهو في الصل البناء الكبير المحكم البناء الذي يظهر من بعيد قال تعالى‬ ‫‪{:‬ولو كنتم في بروج مشيدة} أي‪:‬قصور ظاهرة‪ ،‬ومنه‪ :‬المرأة تتبرّج بزينتها‪ :‬أي تظهرها‪،‬‬ ‫والمراد من البروج في الية‪ :‬كواكب ثابتة غير سيارة هي منازل الشمس والقمر‪ ،‬وسمى هذه‬ ‫البروج العرب بأسماء تخيلوا أشكالها في السماء وهي‪ :‬برج الحمل‪ ،‬والثور‪ ،‬والجوزاء‪،‬‬ ‫والسرطان‪ ،‬والسد‪ ،‬والسنبلة‪ ،‬والميزان‪ ،‬والعقرب‪ ،‬والقوس‪ ،‬والجدي‪ ،‬والدلو‪ ،‬والحوت‪ ،‬ابتداء‬ ‫من فصل الربيع وانتهاء بفصل الشتاء‪.‬‬

‫( ‪)3/76‬‬ ‫بِخَازِنِينَ(‪ )22‬وَإنّا لَ َنحْنُ نُحْيِي وَ ُنمِيتُ وَنَحْنُ ا ْلوَارِثُونَ(‪ )23‬وََلقَدْ عَِلمْنَا ا ْل ُمسْ َتقْ ِدمِينَ مِن ُك ْم وَلَقَدْ عَِلمْنَا‬ ‫علِيمٌ(‪)25‬‬ ‫حكِيمٌ َ‬ ‫ا ْلمُسْتَ ْأخِرِينَ(‪ )24‬وَإِنّ رَ ّبكَ ُهوَ َيحْشُرُ ُهمْ إِنّهُ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫والرض مددناها ‪ :‬أي بسطناها‪.‬‬ ‫وألقينا فيها رواسي‪ :‬أي جبال ثوابت لئل تتحرك الرض‪.‬‬ ‫موزون‪ :‬أي مقدر معلوم المقدار ل تعالى‪.‬‬ ‫معايش ‪ :‬جمع معيشة أي ما يعيش عليه النسان من الغذية‪.‬‬ ‫ومن لستم له برازقين‪ :‬كالعبيد والماء والبهائم‪.‬‬ ‫وما ننزله إل بقدر معلوم‪ :‬أي المطر‪.‬‬ ‫وأرسلنا الرياح لواقح‪ :‬أي تلقح السحاب فيمتلىء ما ًء كما تنقل مادة اللقاح من ذكر الشجر إلى‬ ‫أنثاه‪.‬‬ ‫وما أنتم له بخارنين‪ :‬أي ل تملكون خزائنه‪ .‬فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون‪.‬‬ ‫المستقدمين منكم والمستأخرين ‪ :‬أي من هلكوا من بني آدم إلى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم‬ ‫أحياء وممن لم يوجدوا بعد إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات اليمان به‬ ‫وعبادته وتوحيده والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه ‪ .1‬قوله تعالى‪{ :‬والرض ‪ 2‬مددناها}‬ ‫أي بسطناها {وألقينا فيها رواسي} أي جبالً ثوابت تثبت الرض حتى ل‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬وموجبة أيضا للبعث الخر والوحي اللهي‪.‬‬ ‫‪ 2‬هنا انتقال من عرض آيات ال في السماء إلى آياته في الرض‪.‬‬

‫( ‪)3/77‬‬ ‫تتحرك أو تميد بأهلها فيهلكوا‪{ ،‬وأنبتنا فيها في كل شيء موزون ‪ }1‬أي مقدر معلوم المقدار ل‬ ‫تعالى‪ .‬وقوله‪{ :‬وجعلنا لكم فيها معايش ‪ }2‬عليها تعيشون وهي أنواع الحبوب والثمار وغيرها‪،‬‬ ‫وقوله‪{ :‬ومن لستم له برازقين ‪ }3‬بل ال تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والماء والبهائم‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬وإن من شيء ‪ 4‬إل عندنا خزائنه وما ننزله إل بقدرٍ معلوم} أي ما من شيء نافع للبشرية‬ ‫هي في حاجة إليه لقوام حياتها عليه إل عند ال خزائنه‪ ،‬ومن ذلك المطار‪ ،‬لكن ينزله بقدرٍ‬ ‫معلوم حسب حاجة المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها‪ ،‬وهو كقوله‪{ :‬بيده الخير وهو على كل‬ ‫شيء قدير} وكقوله‪{ :‬ولو بسط ال الرزق لعباده لبغوا في الرض ولكن ينزل بقدر ما شاء ال إنه‬ ‫بعباده خبير بصير} وقوله‪{ :‬وأرسلنا الرياح لواقح ‪ }5‬أي تلقح السحاب فتمتلىء ماء‪{ ،‬فأنزلنا من‬ ‫السماء ماءا} بقدرتنا وتدبيرنا {فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} أي ل تملكون خزائنه فتمنعونه‬ ‫من تشاءون وتعطونه من تشاءون بل ال تعالى هو المالك لذلك‪ ،‬فينزله على أرض قوم ويمنعه‬ ‫آخرين وقوله‪{ :‬إنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون‪ ،‬ولقد علمنا المستقدمين ‪ 6‬منكم} أي الذين‬ ‫ماتوا من لدن آدم {ولقد علمنا المستأخرين} ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون‬ ‫إلى يوم القيامة‪ ،‬الجميع عَِل َمهُم ال‪ ،‬وغيره ل يعلم فلذا استحق العبادة وغيره ل يستحقها‪ .‬وقوله‬ ‫{وإن ربك} أيها الرسول {هو يحشرهم} أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم‪ ،‬وهذا متوقفٌ على‬ ‫القدرة والحكمة والعلم‪ ،‬والذي أحياهم ثم أماتهم قادرٌ على إحيائهم مرةً أخرى والذي عَلِمهُمْ قبل‬ ‫خلقهم وعلمهم بعد خلقهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال‪{ :‬موزون}‪ :‬لنّ الوزن يعرف به مقدار الشيء‪ ،‬والموزون من الكلم وغير الخالي من‬ ‫النقص والزيادة‪ ،‬والمراد أن ما أنبته ال تعالى في الرض من سائر النباتات والمعادن من الذهب‬ ‫والفضة والنحاس والرصاص والقصدير حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يكال ويوزن‪.‬‬ ‫‪ 2‬واحد المعايش‪ :‬معيشة‪ ،‬وهي المطاعم والمشارب والملبس والمراكب أيضا‪ ،‬إذ كل هذا يدخل‬ ‫تحت العيش حتى قيل‪ :‬المعايش‪ :‬إنها التصرف في أسباب الرزق مدّة الحياة‪.‬‬ ‫‪ 3‬الرزق‪ :‬بفتح الراء مصدر رزقه يرزقه رزقا‪ ،‬والرّزق بكسر الراء فهو السم وهو القوت‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬نافع للناس ل مطلق الشياء التي ل نفع للناس فيها‪.‬‬ ‫‪ 5‬في قوله‪{ :‬وأرسلنا الرياح لواقح} استدلل بظاهرة كرة الهواء بين السماء والرض بعد‬ ‫الستدلل بالسماء والرض‪ ،‬ولواقح حال من الرياح ولواقح صالح لن يكون جمع لقح‪ ،‬وهي‬

‫الناقة الحبلى أو ملقح وهو الذي يجعل غير لقحا‪.‬‬ ‫‪ 6‬ويدخل في معنى الية المستقدمين في الطاعة والخير‪ ،‬والمستأخرين في المعصية والشر كما‬ ‫يدخل أيضا المستقدمين في صفوف الحرب والصلة‪ ،‬والمستأخرين في ذلك‪ ،‬والية دليل على‬ ‫فضل السبق في الخير وعلى فضل الصف الول في القتال والصلة‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬لو‬ ‫يعلم الناس ما في النداء والصف الول ثم لم يجدوا إل أن يستهموا عليه لستهموا"‪.‬‬

‫( ‪)3/78‬‬ ‫قادرٌ على حشرهم والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه ل يخلقهم عبثا بل خلقهم ليبلوهم ثم‬ ‫ليحاسبهم ويجزيهم إنه هو الحكيم العليم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلي‪:‬‬ ‫أ‪ -‬خلق الرض ومدّها وإلقاء الجبال فيها‪ .‬إرسال الرياح لواقح للسحب‪.‬‬ ‫ب‪ -‬إنبات النباتات بموازين دقيقة‪ .‬إحياء المخلوقات ثم إماتتها‪.‬‬ ‫ج‪ -‬إنزال المطر بمقادير معينة‪ .‬علمه تعالى بمن مات ومن سيموت‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير التوحيد أن من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير عقيدة البعث والجزاء‪.‬‬ ‫‪ -4‬تقرير نبوة الرسول صلى ال عليه وسلم إذ هذا الكلم كلم ال أوحاه إليه صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫سمُومِ(‪)27‬‬ ‫حمَإٍ مّسْنُونٍ(‪ )26‬وَالْجَآنّ خََلقْنَاهُ مِن قَ ْبلُ مِن نّارِ ال ّ‬ ‫وَلَقَدْ خََلقْنَا الِنسَانَ مِن صَ ْلصَالٍ مّنْ َ‬ ‫ختُ فِيهِ‬ ‫سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ‬ ‫حمَإٍ مّسْنُونٍ(‪ )28‬فَِإذَا َ‬ ‫وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَ ِئكَةِ إِنّي خَاِلقٌ بَشَرًا مّن صَ ْلصَالٍ مّنْ َ‬ ‫ج َمعُونَ(‪ِ )30‬إلّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن َيكُونَ مَعَ‬ ‫سجَدَ ا ْلمَل ِئكَةُ كُّل ُهمْ أَ ْ‬ ‫جدِينَ(‪ )29‬فَ َ‬ ‫مِن رّوحِي َفقَعُواْ لَهُ سَا ِ‬ ‫جدَ لِبَشَرٍ خََلقْتَهُ مِن‬ ‫السّاجِدِينَ(‪ )31‬قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا َلكَ َألّ َتكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ(‪ )32‬قَالَ لَمْ َأكُن لَّأسْ ُ‬ ‫حمَإٍ مّسْنُونٍ(‪)33‬‬ ‫صَ ْلصَالٍ مّنْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ولقد خلقنا النسان ‪ :‬أي آدم عليه السلم‪.‬‬

‫( ‪)3/79‬‬

‫من صلصال من حمإ مسنون‪ :‬أي طين يابس له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير‪.‬‬ ‫من نار السموم‪ .:‬نار ل دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري‪.‬‬ ‫فإذا سويته ‪ :‬أي أتممت خلقه‪.‬‬ ‫فقعوا له ساجدين‪ :‬أي خِرّوا له ساجدين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته‪ .‬قوله تعالى‪{ :‬ولقد خلقنا‬ ‫النسان} أي آدم {من صلصال} أي طين يابس يسمع له صوت صلصلة‪{ .‬من حمإ مسنون ‪ }1‬أي‬ ‫طين أسود متغير الريح‪ ،‬هذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم‪ .‬وقوله‪{ :‬والجان خلقناه من قبل} من‬ ‫قبل خلق آدم والجان هو ‪ 2‬أبو الجن خلقناه {من نار السموم} ونار السموم نار ل دخان لها تنفذ‬ ‫في مسام الجسم‪ ..‬وقوله‪{ :‬وإذ قال ربك} أي اذكر يا رسولنا إذ قال ربك للملئكة اسجدوا لدم أي‬ ‫سجود تحية وتعظيم ل سجود عبادةٍ لدم‪ ،‬إذ المعبود هو المر المطاع وهو ال تعالى‪ .‬فسجدوا‬ ‫{إل إبليس ‪ 3‬أبى} أي امتنع أن يكون مع الساجدين‪ .‬وقوله‪{ :‬قال يا إبليس مالك أل تكون مع‬ ‫الساجدين} أي أيُ شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من الملئكة؟ فأظهر‬ ‫اللعين سبب امتناعه وهو حسده لدم واستكباره‪ ،‬فقال {لم أكن لسجد لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من‬ ‫حماءٍ مسنون} وفي اليات التالية جواب ال تعالى ورده عليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أصل خلق النسان وهو الطين‪ ،‬والجان وهو لهب النار‪.‬‬ ‫‪ -2‬فضل السجود‪ ،‬إذ أمر تعالى به الملئكة فسجدوا أجمعون إل إبليس‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ترتيب طينة آدم التي خلق منها كما في الية هكذا‪ :‬تراب بلّ بالماء فصار طينا ثمّ ترك حتى‬ ‫أنتن فصار حمأ مسنونا أي‪ :‬منغيّرا ثمّ يبس فصار صلصال والمسنون‪ :‬المتغير‪ ،‬بسب مكثه مدّة‬ ‫كسنة مثل‪.‬‬ ‫‪ 2‬وفي صحيح مسلم قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬خلقت الملئكة من نور‪ ،‬وخلقت الجان من مارج‬ ‫من نار‪ ،‬وخلق آدم مما وصف لكم"‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬الجان‪ :‬أبو الجن وليسوا شياطين‪ ،‬والشياطين ولد إبليس ل‬ ‫ن يموتون‪ ،‬ومنهم المؤمن ومنهم الكافر فآدم أبو النس‪ ،‬والجان أبو‬ ‫يموتون إل مع إبليس‪ ،‬والج ّ‬ ‫الجن‪ ،‬وإبليس أبو الشياطين‪.‬‬

‫( ‪)3/80‬‬

‫‪ -3‬ذم الحسد وأنه شر الذنوب وأكثرها ضررا‪.‬‬ ‫‪ -4‬ذم الكبر وأنه عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الخرة‪.‬‬ ‫‪ -5‬فصل الطين على النار لن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس‪.‬‬ ‫قَالَ فَاخْرُجْ مِ ْنهَا فَإِ ّنكَ رَجِيمٌ(‪ )34‬وَإِنّ عَلَ ْيكَ الّلعْنَةَ ِإلَى َيوْمِ الدّينِ(‪ )35‬قَالَ َربّ فَأَنظِرْنِي إِلَى َيوْمِ‬ ‫غوَيْتَنِي‬ ‫يُ ْبعَثُونَ(‪ )36‬قَالَ فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنظَرِينَ(‪ )37‬إِلَى يَومِ ا ْل َوقْتِ ا ْل َمعْلُومِ(‪ )38‬قَالَ َربّ ِبمَآ أَ ْ‬ ‫ج َمعِينَ(‪ِ )39‬إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ(‪ )40‬قَالَ هَذَا صِرَاطٌ‬ ‫غوِيَنّهُمْ أَ ْ‬ ‫لُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الَ ْرضِ َولُ ْ‬ ‫جهَنّمَ‬ ‫عََليّ مُسْ َتقِيمٌ(‪ )41‬إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ(‪ )42‬وَإِنّ َ‬ ‫ج َمعِينَ(‪َ )43‬لهَا سَ ْبعَةُ أَ ْبوَابٍ ّل ُكلّ بَابٍ مّ ْنهُمْ جُزْءٌ ّمقْسُومٌ(‪)44‬‬ ‫َل َموْعِدُهُمْ أَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫قال فاخرج منها‪ :‬أي من الجنة‪.‬‬ ‫فإنك رجيم ‪ :‬أي مرجومٌ مطرو ٌد ملعون‪.‬‬ ‫إلى يوم الوقت المعلوم ‪ :‬أي وقت النفخة الولى التي تموت فيها الخلئق كلها‪.‬‬ ‫بما أغويتني ‪ :‬آي بسبب إغوائك لي أي إضللك وإفسادك لي‪.‬‬ ‫المخلصين‪ :‬أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي ل يعمل فيهم‪.‬‬ ‫هذا صراطٌ علي مستقيم‪ :‬أي هذا طريقٌ مستقيم موصل اليّ وعليّ مراعاته وحفظه‪.‬‬ ‫لها سبعة أبواب‪ :.‬أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم‪ ،‬ثم لظى‪ ،‬ثم الحُطمة‪ ،‬ثم السعير‪ ،‬ثم‬ ‫سقَر‪ ،‬ثم الجحيم‪ ،‬ثم الهاوية‪.‬‬ ‫َ‬

‫( ‪)3/81‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬فاخرج منها} هذا جوابٌ عن قول إبليس‪{ ،‬لم أكن لسجد لبشر}‪ .‬الية إذا فاخرج‬ ‫منها أي من الجنة {فإنك رجيم} أي مرجوم مطرود مبعد‪{ ،‬وإن عليك} لعنتي أي غضبي وإبعادي‬ ‫لك من السموات {إلى يوم الدين} أي إلى يوم القيامة وهو يوم الجزاء‪ .‬فقال اللعين ما أخبر تعالى‬ ‫به عنه‪{ :‬قال رب فانظرني} أي أمهلني ل تمتني {إلى يوم يبعثون ‪ }1‬فأجاب الرب تعالى بقوله‪:‬‬ ‫{فإنك من المنظرين} أي الممهلين {إلى يوم الوقت المعلوم ‪ }2‬وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم‬ ‫أحد وذلك عند النفخة الولى‪ .‬فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر ال عنه‬ ‫بقوله‪{ :‬قال رب بما أغويتني} أي بسبب إغوائك {لزينن لهم في الرض ‪ }3‬أي الكفر والشرك‬ ‫وكبائر الذنوب‪ ،‬و {لغوينهم} أي لضلنّهم {أجمعين إل عبادك منهم المخلصين} فاستثنى اللعين‬ ‫من استخلصهم ال تعالى لطاعته وأكرمهم بوليته وهم الذين ل َيسْتَبِدّ بهم غضبٌ ول تتحكم فيهم‬ ‫شهوة ول هوى‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬قال هذا صراط علي مستقيم} أي هذا طريق مستقيم إليّ أرعاه‬

‫وأحفظه وهو {إن عبادي ‪ 4‬ليس لك عليهم سلطان إل من اتبعك من الغاوين ‪{ }5‬وإن جهنم}‬ ‫لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين {لها سبعة أبواب} إذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب‬ ‫فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬لكل باب منهم جزء مقسوم} أي نصيبٌ‬ ‫معين وطبقاتها هي‪ :‬جهنم‪ ،‬لظى‪ ،‬الحطمة‪ ،‬السعير‪ ،‬سقر‪ ،‬الجحيم‪ ،‬الهاوية‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمان إبليس من التوبة لستمرار غضب ال عليه إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -2‬استجاب ال لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز أن يستجيب ال دعاء الكافر لحكمة يريدها ال‬ ‫تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أراد اللعين بسؤاله إلى يوم يبعثون ألّ يموت‪ ،‬لنّ يوم البعث ل موت فيه ول بعده أيضا‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال ابن عباس‪ :‬أراد به النفخة الولى أي‪ :‬حين تموت الخلئق‪.‬‬ ‫‪ 3‬التزيين‪ :‬يشمل أمرين‪ .‬الول‪ :‬تزيين المعاصي والثاني‪ :‬شغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعات‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬ليس له سلطان على قلوبهم‪ ،‬وقال ابن عيينة‪ ،‬أي‪ :‬في أن يلقيهم في ذنب‪.‬‬ ‫‪ 5‬الغاوين‪ :‬الفاسدين بالشرك والمعاصي‪.‬‬

‫( ‪)3/82‬‬ ‫‪ -3‬أي سلح يغوي به إبليس بني آدم هو التزين للشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحة يصيرها‬ ‫بوسواسه زينة حسنة حتى يأتيها الدمي‪.‬‬ ‫‪ -4‬عصمة الرسل وحفظ ال للولياء حتى ل يتلوثوا بأوضار الذنوب‪.‬‬ ‫‪ -5‬طريق ال مستقيم إلى ال تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا إلى ال سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم‬ ‫بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر‪.‬‬ ‫‪ -6‬بيان أن لجهنم طبقات واحدة فوق أخرى ولكل طبق ٍة بابها فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة ل‬ ‫غير‪.‬‬ ‫غلّ‬ ‫لمٍ آمِنِينَ(‪ )46‬وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ ِ‬ ‫إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ(‪ )45‬ا ْدخُلُوهَا بِسَ َ‬ ‫صبٌ َومَا هُم مّ ْنهَا ِبمُخْ َرجِينَ(‪ )48‬نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي‬ ‫سهُمْ فِيهَا َن َ‬ ‫خوَانًا عَلَى سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ(‪ )47‬لَ َيمَ ّ‬ ‫إِ ْ‬ ‫ب الَلِيمَ(‪ )50‬وَنَبّ ْئهُمْ عَن ضَ ْيفِ إِبْراَهِيمَ(‪ِ )51‬إذْ َدخَلُواْ‬ ‫عذَابِي ُهوَ ا ْلعَذَا ُ‬ ‫أَنَا ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ(‪ )49‬وَأَنّ َ‬ ‫جلْ إِنّا نُ َبشّ ُركَ ِبغُلمٍ عَلِيمٍ(‪ )53‬قَالَ‬ ‫عَلَيْهِ َفقَالُواْ سَلمًا قَالَ إِنّا مِنكُ ْم وَجِلُونَ(‪ )52‬قَالُو ْا لَ َتوْ َ‬ ‫أَبَشّرْ ُتمُونِي عَلَى أَن مّسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ(‪ )54‬قَالُواْ بَشّرْنَاكَ بِا ْلحَقّ فَلَ َتكُن مّنَ ا ْلقَانِطِينَ(‪)55‬‬ ‫حمَةِ رَبّهِ ِإلّ الضّآلّونَ(‪)56‬‬ ‫قَالَ َومَن َيقْنَطُ مِن رّ ْ‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن المتقين ‪ :‬أي الذين خافوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم من العبادات‪.‬‬

‫( ‪)3/83‬‬ ‫ونزعنا ما في صدورهم من غل ‪ :‬أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء‪.‬‬ ‫على سرر متقابلين ‪ :‬أي ينظر بعضهم إلى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا دارت بهم‬ ‫السرة فل ينظر بعضهم إلى قفا بعض‪.‬‬ ‫ل يمسهم فيها نصب‪ :‬أي تعب‪.‬‬ ‫العذاب الليم‪ :‬أي الموجع شديد اليجاع‪.‬‬ ‫ضيف إبراهيم ‪ :‬هم ملئكة نزلوا عليه وهم في طريقهم إلى قوم لوط لهلكهم كان من بينهم‬ ‫جبريل وكانوا في صورة شباب من الناس‪.‬‬ ‫إنا منكم وجلون‪ :‬أي خائفون وذلك لمّا رفضوا أن يأكلوا‪.‬‬ ‫بغلم عليم ‪ :.‬أي بولد ذي علم كثير هو إسحق عليه السلم‪.‬‬ ‫جبَ من بشارتهم مع كبره بولد‪.‬‬ ‫فبم تبشرون‪ :‬أي َت َع ّ‬ ‫من القانطين ‪ :‬أي اليسين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما ذكر تعالى جزاء اتباع إبليس الغاوين‪ ،‬ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى واليمان‬ ‫فقال تعالى مخبرا عما أعد لهم من نعيم مقيم‪{ :‬إن المتقين ‪ }1‬أي ال بترك الشرك والمعاصي {في‬ ‫جنات وعيون ‪ }2‬يقال لهم {ادخلوها ‪ 3‬بسلمٍ آمنين} أي حال كونكم مصحوبين بالسلم آمنين من‬ ‫الخوف والفزع‪ .‬وقوله‪{ :‬ونزعنا ما في صدورهم من غل ‪ }4‬أي لم يُبقِ ال تعالى في صدور أهل‬ ‫الجنة ما يبغصُ نعيمها‪ ،‬أو يكدر صفوها كحقدٍ أو حسدٍ أو عداوةٍ أو شحناء‪ .‬وقوله‪{ :‬إخوانا على‬ ‫سررٍ متقابلين} لما طهر صدورهم مما‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن سلمان الفارسي رضي ال عنه لما سمع هذه الية‪{ :‬إنّ جهنم لموعدهم أجمعين} فرّ‬ ‫ثلثة أيام من الخوف فجيء به إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأله فقال‪ :‬يا رسول ال‬ ‫أنزلت هذه الية‪{ :‬إن جهنم‪ }..‬الخ فوالذي بعثك بالحق لقد قطّعت قلبي فأنزل ال تعالى‪{ :‬إنّ‬ ‫المتقين في جنات وعيون}‪.‬‬ ‫‪ 2‬هي النهار الربعة‪ :‬ماء‪ ،‬وخمر‪ ،‬ولبن‪ ،‬وعسل المذكورة في سورة محمد صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬بسلمة من كل داء وآفة‪ ،‬وقيل‪ :‬بتحية من ال تعالى آمنين من الموت والعذاب‪.‬‬

‫‪ 4‬قال ابن عباس‪ :‬أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين‬ ‫فيذُهب ال ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو‬ ‫وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم‪.‬‬

‫( ‪)3/84‬‬ ‫من شأنه أن ينغص أو يكدر‪ .،‬أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضا إخوانا يضمهم مجلس واحد‬ ‫يجلسون فيه على سررٍ متقابلين وجها لوجه‪ ،‬وإذا أرادوا النصراف إلى قصورهم تدور بهم‬ ‫السرة فل ينظر أحدهم إلى قفا أخيه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ل يمسهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين}‬ ‫فيه الخبار بنعيمين‪ :‬نعيم الراحة البدية إذ ل نصب ول تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها‬ ‫إذ هم ل يخرجون منها أبدا‪ .‬وفي هذا تقرير ل ُمعْ َتقَدِ البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬نبىء عبادي ‪ 1‬أني أنا الغفور الرحيم} أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن‬ ‫ربهم غفور لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم‪ .‬رحيم بهم فل يعذبهم‪{ .‬وأن عذابي هو العذاب‬ ‫الليم} ونبئهم أيضا أن عذابي هو العذاب الليم فليحذروا معصيتي بالشرك بي‪ ،‬أو مخالفة أوامري‬ ‫وغشيان محارمي‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ونبئهم عن ضيف إبراهيم ‪ .2‬إذ دخلوا عليه فقالوا سلما} أي‬ ‫سلموا عليه فرد عليهم السلم وقدم لهم قِرَى الضيف وكان عجلً حنيذا‪ ،‬كما تقدم في هود‬ ‫وعرض عليهم الكل فامتنعوا وهنا قال‪{ :‬إنا منكم وجلون ‪ }3‬أي خائفون‪ ،‬وكانوا جبريل وميكائيل‬ ‫وإسرافيل في صورةِ لشباب حسان‪ .‬فلما أخبرهم بخوفه منهم‪ ،‬لن العادة أن النازل على النسان‬ ‫إذا لم يأكل طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوءً‪{ .‬قالوا ل توجل} أي ل تخف‪{ ،‬إنا نبشرك بغلمٍ‬ ‫عليم} أي بولدٍ ذي علم كثير‪ .‬فرد إبراهيم قائلً بما أخبر تعالى عنه بقوله‪{ :‬قال أبشرتموني على‬ ‫أن مسني ‪ 4‬الكبر فبم ‪ 5‬تبشرون} أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أمر عجيب‪ ،‬فلما تعجب‬ ‫من البشارة وظهرت عليه علمات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له‪{ :‬بشرناك ‪ 6‬بالحق فل‬ ‫تكن من القانطين ‪ }7‬أي‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬شاهد هذه الية قوله صلى ال عليه وسلم "لو يعلم المؤمن ما عند ال من العقوبة ما طمع بجنّته‬ ‫أحد ولو يعلم الكافر ما عند ال من الرحمة ما قنط من رحمته أحد"‪.‬‬ ‫‪ 2‬هم الملئكة الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط‪ :‬هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلم‪.‬‬ ‫والضيف‪ :‬لفظ يطلق على الواحد والثنين والجماعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل المشوي ليأكلوا فلم يأكلوا‪.‬‬ ‫‪ 4‬أن‪ :‬مصدرية‪ ،‬والتقدير‪ :‬على من الكبر إياي وزوجتي‪.‬‬ ‫‪ 5‬الستفهام للتعجب أو هو على حقيقة‪.‬‬

‫‪ 6‬أي‪ :‬بما ل خلف فيه‪ ،‬وأن الولد ل بدّ منه‪.‬‬ ‫‪ 7‬قراءة العامة‪{ :‬القانطين} ‪ ،‬وقرىء القنطين بدون ألف‪ ،‬ويكون الفعل حينئذ من قنط يقنط كفرح‬ ‫يفرح فهو فرح‪ ،‬وعلى قراءة الجمهور فهو من باب فعل يفعل كضرب يضرب فهو ضارب‪.‬‬

‫( ‪)3/85‬‬ ‫اليسين‪ .‬وهنا رد عليهم م قائلً نافيا القنوط عنه لن القنوط حرام‪{ .‬ومن يقنط من رحمة ربه إل‬ ‫الضالون} أي الكافرون بقدرة ال ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه‬ ‫عليهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير نعيم الجنة‪ ،‬وأن نعيمها جسماني روحاني معا دائم أبدا‪.‬‬ ‫‪ -2‬صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره‪.‬‬ ‫‪ -3‬وعد ال بالمغفرة لمن تاب من أهل اليمان والتقوى من موحديّه‪.‬‬ ‫‪ -4‬وعيده لهل معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية الضيافة وأنها من خلل البر والكرم‪.‬‬ ‫‪ -6‬حرمة القنوط واليأس من رحمة ال تعالى‪.‬‬ ‫قَالَ َفمَا خَطْ ُب ُكمْ أَ ّيهَا ا ْلمُرْسَلُونَ(‪ )57‬قَالُواْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمٍ مّجْ ِرمِينَ(‪ِ )58‬إلّ آلَ لُوطٍ إِنّا َلمُنَجّوهُمْ‬ ‫ج َمعِينَ(‪ِ )59‬إلّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَا إِ ّنهَا َلمِنَ ا ْلغَابِرِينَ(‪ )60‬فََلمّا جَاء آلَ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلُونَ(‪ )61‬قَالَ إِ ّنكُمْ‬ ‫أَ ْ‬ ‫ق وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ(‪)64‬‬ ‫َقوْمٌ مّنكَرُونَ(‪ )62‬قَالُواْ َبلْ جِئْنَاكَ ِبمَا كَانُواْ فِيهِ َيمْتَرُونَ(‪ )63‬وَأَتَيْنَاكَ بَا ْلحَ ّ‬ ‫ح ٌد وَا ْمضُواْ حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ(‪)65‬‬ ‫ل وَاتّبِعْ َأدْبَارَهُ ْم َولَ يَلْ َت ِفتْ مِنكُمْ أَ َ‬ ‫طعٍ مّنَ اللّ ْي ِ‬ ‫فَأَسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِ ْ‬ ‫لمْرَ أَنّ دَابِرَ َهؤُلء َمقْطُوعٌ ّمصْبِحِينَ(‪)66‬‬ ‫كاَ‬ ‫َو َقضَيْنَا إِلَ ْيهِ ذَِل َ‬

‫( ‪)3/86‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫قال فما خطبكم‪ :‬أي ما شأنكم؟‬ ‫إلى قوم مجرمين‪ :‬هم قوم لوط علية السلم‪.‬‬ ‫إنا لمنجوهم أجمعين ‪ :‬أي ليمانهم وصالح أعمالهم‪.‬‬ ‫الغابرين‪ :‬أي الباقين في العذاب‪.‬‬ ‫قوم منكرون ‪ :‬أي ل أعرفكم‪.‬‬

‫بما كانوا فيه يمترون ‪ :‬أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم‪.‬‬ ‫حيث تؤمرون ‪ :‬أي إلى الشام حيث أمروا بالخروج إليه‪.‬‬ ‫وقضينا إليه ذلك المر‪ :‬أي فرغنا إلى لوط من ذلك المر‪ ،‬وأوحينا إليه أن دابر هؤلء مقطوع‬ ‫مصبحين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن ضيف إبراهيم‪ ،‬وها هو ذا قد سألهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله‪:‬‬ ‫{قال فما خطبكم ‪ 1‬أيها المرسلون} أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل ال تعالى إذ هم ملئكته‬ ‫{قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ‪ }2‬أي على أنفسهم‪ ،‬وعلى غيرهم وهم اللوطيون لعنهم ال‪.‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إل آل لوط} آل بيته والمؤمنين معه‪{ ،‬إنا لمنجوهم أجمعين إل امرأته قدرنا} أي‬ ‫قضينا ‪{ 3‬إنها لمن الغابرين} أي الباقين في العذاب‪ ،‬أي قضى ال وحكم بإهلكها في جملة من‬ ‫يهلك لنها كافرة مثلهم‪ .‬إلى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا إلى مدينة لوط عليه السلم قال‬ ‫تعالى {فلما جآء آل لوط المرسلون} أي انتهوا إليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليه السلم لهم‬ ‫{إنكم قوم منكرون} أي ل أعرفكم وأجابوه قائلين‪ :‬نحن رسل ربك جئناك بما كان قومك فيه‬ ‫يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم‪{ ،‬وأتيناك بالحق} الثابت الذي ل‬ ‫شك فيه {وإنا لصادقون} فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الخطب‪ :‬المر الخطير والشأن العظيم‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الكلم إضمار جملة {لنُهلكهم} فلذا كان الستثناء إل آل لوط‪ ،‬وهم أتباعه وأهل بيته‪.‬‬ ‫‪ 3‬وكتبنا في كتاب المقادير‪.‬‬

‫( ‪)3/87‬‬ ‫وعليه {فاسر بأهلك بقطع من الليل} أي أسر بهم في جزء من الليل‪ ،‬و {اتبع أدبارهم} أي امش‬ ‫وراءهم ‪ 1‬وهم أمامك {ول يلتفت منكم أحد} بأن ينظر وراءه‪ ،‬أي حتى ‪ 2‬ل يرى ما يسوءه عند‬ ‫نزول العذاب بالمجرمين‪ ،‬وقوله {وامضوا حيث تؤمرون} أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب‬ ‫إلى الشام‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وقضينا ‪ 3‬إليه ذلك المر أن دابر هؤلء مقطوع مصبحين}‪ 4‬أي وفرغنا‬ ‫إلى لوط من ذلك المر‪ ،‬وأوحينا إليه أن دابر هؤلء مقطوع مصبحين‪ ،‬أي أنهم مهلكون عن‬ ‫آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح حتى تُقلب بهم الرض ويهلكوا عن آخرهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬التنديد بالجرام وبيان عقوبة المجرمين‪.‬‬

‫‪ -2‬ل قيمة للنسب ول للمصاهرة ول عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والجرام بين النساب‬ ‫والقرباء فامرأة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليه السلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬مشروعية المشي بالليل لقطع المسافات البعيدة‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية مشي المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة لتفقد أحوالهم‪ ،‬والطلع على من‬ ‫يتخلف منهم لمر‪ ،‬وكذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يفعل‪.‬‬ ‫‪ -5‬كراهية الشفاق على الظلمة الهالكين‪ ،‬لقوله‪ :‬ول يلتفت منكم أحد أي‪ :‬بقلبه‪.‬‬ ‫وَجَاء َأ ْهلُ ا ْلمَدِينَةِ َيسْتَبْشِرُونَ(‪ )67‬قَالَ إِنّ َهؤُلء ضَ ْيفِي فَلَ َت ْفضَحُونِ (‪ )68‬وَا ّتقُوا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لئل يتخلّف منهم أحد فيهلك مع الهالكين‪.‬‬ ‫‪ 2‬أو نهوا عن اللتفات ليجدّوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح موعد هلك‬ ‫القوم‪.‬‬ ‫‪ 3‬قضينا‪ :‬قدرنا‪ ،‬وضمن معنى أوحينا فعدي بإلى‪ ،‬والقدير‪ :‬وقضينا ذلك المر فأوحينا إليه بما‬ ‫قضينا‪ ،‬وجملة ‪{:‬أنّ دابر هؤلء مقطوع مصبحين}‪ .‬مفسرة لذلك المر والشارة للتهويل‪.‬‬ ‫‪{ 4‬مصبحين} أي‪ :‬داخلين في الصباح‪ ،‬ومثله‪ ،‬مشرقين أي‪ :‬داخلين في وقت الشراق‪.‬‬

‫( ‪)3/88‬‬ ‫اللّ َه َولَ تُخْزُونِ (‪ )69‬قَالُوا َأوَلَمْ نَ ْن َهكَ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ(‪ )70‬قَالَ َهؤُلء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ(‪)71‬‬ ‫جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا‬ ‫حةُ مُشْ ِرقِينَ(‪ )73‬فَ َ‬ ‫خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ‬ ‫سكْرَ ِتهِمْ َي ْع َمهُونَ(‪ )72‬فَأَ َ‬ ‫َل َعمْ ُركَ إِ ّنهُمْ َلفِي َ‬ ‫سمِينَ(‪ )75‬وَإِ ّنهَا لَبِسَبِيلٍ مّقيمٍ(‪)76‬‬ ‫ك ليَاتٍ لّ ْلمُ َتوَ ّ‬ ‫وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ حِجَا َرةً مّن سِجّيلٍ(‪ )74‬إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫ب الَ ْيكَةِ لَظَاِلمِينَ(‪ )78‬فَان َت َقمْنَا مِ ْنهُ ْم وَإِ ّن ُهمَا لَبِِإمَامٍ‬ ‫ك ليَةً لّ ْلمُؤمِنِينَ(‪ )77‬وَإِن كَانَ َأصْحَا ُ‬ ‫إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫مّبِينٍ(‪)79‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وجاء أهل المدينة يستبثسرون ‪ :‬أي مدينة سدُوم‪ ،‬أي فرحين بإتيانهم الفاحشة‪.‬‬ ‫واتقوا ال ول تخزون ‪ :‬أي ل تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي‪.‬‬ ‫أولم ننهك عن العالمين‪ :‬أي عن إجارتك لهم واستضافتك‪.‬‬ ‫لفي سكرتهم يعمهون‪ :‬أي غوايتهم‪ ،‬وشدة غُلّمتهم ‪ 1‬التي أزالت عقولهم‪ ،‬يترددون‪.‬‬ ‫مشركين‪ :‬أي وقت شروق الشمس‪.‬‬ ‫من سجيل ‪ :‬أي طين طُبِخَ بالنار‪.‬‬ ‫ليات للمتوسمين‪ :‬أي الناظرين المعتبرين‪.‬‬ ‫لبسبيل مقيم‪ :‬أي طريق قريش إلى الشام مقيم دائم ثابت‪.‬‬

‫أصحاب اليكة ‪ :‬أي قوم شعيب عليه السلم‪ ،‬واليكة غيضة شجر بقرب مدين‪.‬‬ ‫وإنهما لبإمام مبين‪ :‬أي قوم لوط‪ ،‬وأصحاب اليكة لبطريق مبين واضح‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق مع لوط عليه السلم وضيفه من الملئكة من جهة‪ ،‬وقوم لوط من جهة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الغُلْمة‪ :‬شدّة الشهوة الجنسية‪.‬‬

‫( ‪)3/89‬‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وجاء أهل المدينة} أي مدينة سدُوم وأهلها سكانها من اللوطيين‪ ،‬وقوله {يستبشرون}‬ ‫أي فرحين مسرورين لطمعهم في إتيان الفاحشة‪ .‬فقال لهم لوط ما أخبر ال تعالى به‪{ :‬قال إن‬ ‫هؤلء} يشير إلى الملئكة {ضيفي فل تفضحون} أي فيه أي بطلبكم إلى فاحشة‪{ ،‬واتقوا ال} أي‬ ‫خافوه {ول تخزون} أي تهينوني وتذلوني‪ .‬فأجابوا بما أخبر تعالى به عنهم‪{ :‬قالوا أولم ننهك عن‬ ‫العالمين} أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من الناس أو تجيره‪ ،‬فأجابهم‬ ‫لوط عليه السلم بما أخبر تعالى به عنه‪{ :‬قال هؤلء بناتي إن كنتم فاعلين} أي هؤلء بناتي‬ ‫فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما أمركم به أو أرشدكم إليه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬لعمرك إنهم ‪ 1‬لفي‬ ‫سكرتهم يعمهون} أي وحياتك يا رسولنا‪ ،‬إنهم أي قوم لوط {لفي سكرتهم} غوايتهم التي أذهبت‬ ‫عقولهم فهبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوان‪{ ،‬يعمهون} أي حيارى يترددون‪{ .‬فأخذتهم‬ ‫الصيحة مشرقين} أي صيحة جبريل عليه السلم مشرقين مع إشراق الشمس‪ .‬وقوله تعالى {فجعلنا‬ ‫عاليها سالفها} أي جعلنا عالي المدن سافلها وهو قلبها ظهرا على بطن‪{ ،‬وأمطرنا عليهم} فوق‬ ‫ذلك {حجارة من سجيل} أي من طين مطبوخ بالنار‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إن في ذلك ليات للمتوسمين‬ ‫‪ }2‬أي إن في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها ليات وعبر وعظات للمتوسمين أي‬ ‫الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الشياء بسماتها وعلماتها‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإنها لسبيل مقيم}‬ ‫أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة في أسفارهم إلى الشام‪ .‬وقوله { إن‬ ‫في ذلك لية للمؤمنين} أي لعبرة للمؤمنين فل يقدمون على محارم ال‪ ،‬ول يرتكبون معاصيه‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وإن كان أصحاب اليكة لظالمين}‪ .‬هذه إشارة خاطفة إلى قصة شعيب عليه السلم‬ ‫مع قومه أصحاب اليكة‪ ،‬واليكة الفيضة من الشجر الملتف‪ ..‬وكانت منازلهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا القسام بحياة النبي صلى ال عليه وسلم تشريفا له‪ ،‬وأصل عمرك بضم العين وفتحت لكثرة‬ ‫الستعمال‪ ،‬وجائز أن يكون القسم بحياة لوط أيضا‪ ،‬وليس لحد أن يجيز القسم بغير ال محتجا‬ ‫بهذا القسم اللهي فان ل تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه‪ ،‬فقد أقسم بالشمس وضحاها‪ ،‬وأقسم‬

‫بالسماء والليل وغيرها من مخلوقاته ول اعتراض عليه وأما العباد فقد أعلن الرسول صلى ال‬ ‫عليه وسلم عن حرمة الحلف بغير ال فقد قال‪" :‬من حلف بغير ال فقد أشرك" رواه الترمذي‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن النبي صلى ال عليه وسلم فسر المتوسمين بالمتفرسين إذ قال‪" :‬اتقوا فراسة المؤمن‬ ‫فإنه ينظر بنور ال ثم قرأ ‪{ :‬إن في ذلك ليات للمتوسمين}" رواه الترمذي واستغربه‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫للناظرين كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫أو كلما وردت عكاظ قبلية‬ ‫بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم‬ ‫وأصل التوسم‪ :‬النظر بتثبت وتفكر وعليه فما ورد في التوسم من النظر والتفرس كله متقارب‬ ‫المعنى‪.‬‬

‫( ‪)3/90‬‬ ‫بها وكانوا مشركين وهو الظلم في قوله {وإن كان أصحاب اليكة ‪ 1‬لظالمين} لنفسهم بعبادة غير‬ ‫ال تعالى‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬فانتقمنا منهم} أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظلة وسيأتي الحديث عنهم‬ ‫في سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم‪ .‬وقوله‪:‬‬ ‫{وإنهما لبإمام مبين} المام الطريق لن الناس يمشون فيه وهو أمامهم‪ ،‬ومبين واضح‪ .‬والضمير‬ ‫في قوله وإنهما عائد على قوم لوط‪ ،‬وقوم شعيب وهم أصحاب اليكة ل أصحاب مدين لنه أرسل‬ ‫إلى أصحاب اليكة وإلى أهل مدين‪ ،‬والطريق طريق قريش إلى الشام‪ ،‬والقصد من ذكر هذا وعظ‬ ‫قريش وتذكرهم‪ ،‬فهل يتعظون ويتذكرون؟‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان إهلك قوم لوط‪.‬‬ ‫‪ -2‬إنكار الفاحشة وأنها أقبح فاحشة تعرفها النسانية هي إتيان الذكور‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان دفاع لوط عليه السلم عن ضيفه حتى فداهم ببناته‪.‬‬ ‫‪ -4‬شرف النبي صلى ال عليه وسلم حيث أقسم ال تعالى بحياته في قوله {لعمرك}‪.‬‬ ‫‪ -5‬الحث على نظر التفكر والعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري‪.‬‬ ‫‪ -6‬بيان نقمة ال تعالى من الظالمين للعتبار والتعاظ‪.‬‬ ‫‪ -7‬تقرير نبوة الرسول صلى ال عليه وسلم إذ مثل هذه الخبار لن تكون إل عن وحي إلهي‪.‬‬ ‫سلِينَ(‪ )80‬وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا َفكَانُواْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ(‪َ )81‬وكَانُواْ‬ ‫حجْرِ ا ْلمُرْ َ‬ ‫وَلَقَدْ كَ ّذبَ َأصْحَابُ ال ِ‬ ‫حةُ ُمصْبِحِينَ(‪َ )83‬فمَا أَغْنَى عَ ْنهُم مّا كَانُواْ‬ ‫خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ‬ ‫يَنْحِتُونَ مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(‪ )82‬فَأَ َ‬ ‫َيكْسِبُونَ(‪)84‬‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬جمع اليكة وهي جماعة الشجر اليك‪ ،‬أو سميت القرية باليكة باعتبار الصل‪.‬‬

‫( ‪)3/91‬‬ ‫جمِيلَ(‪)85‬‬ ‫صفْحَ ا ْل َ‬ ‫صفَحِ ال ّ‬ ‫ق وَإِنّ السّاعَ َة لتِيَةٌ فَا ْ‬ ‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا ِإلّ بِا ْلحَ ّ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ‬ ‫َومَا خََلقْنَا ال ّ‬ ‫إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلخَلّقُ ا ْلعَلِيمُ(‪ )86‬وََلقَدْ آتَيْنَاكَ سَ ْبعًا مّنَ ا ْلمَثَانِي وَا ْلقُرْآنَ ا ْل َعظِيمَ(‪ )87‬لَ َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ‬ ‫حكَ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ(‪)88‬‬ ‫خفِضْ جَنَا َ‬ ‫إِلَى مَا مَ ّتعْنَا ِبهِ أَ ْزوَاجًا مّ ْن ُه ْم وَلَ َتحْزَنْ عَلَ ْيهِ ْم وَا ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أصحاب الحجر‪ :‬هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام‪.‬‬ ‫وآتيناهم آياتنا ‪ :‬أي في الناقة وهي أعظم آية‪.‬‬ ‫ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‪ :‬من بناء الحصون وجمع الموال‪.‬‬ ‫الصفح الجميل‪ :‬أي أعرض عنهم إعراضا ل جزع فيه وهذا قبل المر بقتالهم‪.‬‬ ‫سبعا من المثاني‪ :‬هي آيات سورة الفاتحة السبع‪.‬‬ ‫أزاوجا منهم‪ :‬أي أصنافا من الكفار‪.‬‬ ‫واخفض جناحك‪ :‬أي ألِن جانبك للمؤمنين‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫هذا شروع في موجز قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫{ولقد كذب أصحاب الحجر ‪ 1‬المرسلين} وفي هذا موعظة لرسول ال صلى ال عليه وسلم إذ‬ ‫كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت قبلهم أقوام‪ .‬وقال تعالى {المرسلين} ولم‬ ‫يكذبوا إل صالحا باعتبار أن من كذب رسول فقد كذب عامة الرسل‪ ،‬لن دعوة الرسل واحدة‬ ‫وهي أن يعبد ال وحده بما شرع لكمال النسان وإسعاده في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الحجر يطلق على أمور عدّة منها العقل {لذي حجر} والحرام‪{ :‬حجرا محجورا} والفرس‬ ‫النثى وحجر القميص‪ ،‬والفتح فيه أولى‪ ،‬وحجر إسماعيل إزاء الكعبة وديار ثمود‪ :‬وهو المراد‬ ‫هنا‪.‬‬

‫( ‪)3/92‬‬ ‫الحالتين‪ .‬وقوله {وآتيناهم ‪ 1‬آياتنا فكانوا عنها معرضين} إن المراد من اليات القائمة بالناقة منها‬ ‫أنها خرجت من صخرة‪ ،‬وأنها تشرب ماء البلد يوما‪ ،‬وأنها تقف أمام كل بيت ليحلب أهله منها ما‬

‫شاءوا‪ ،‬وإعراضهم عنها‪ ،‬عدم إيمانهم وتوبتهم إلى ال تعالى بعد أن آتاهم ما طلبوا من اليات‪.‬‬ ‫وقوله {وكانوا ينحتون ‪ 2‬من الجبال بيوتا} أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتا داخل الجبال يسكنوها‬ ‫شتاء آمنين من أن تسقط عليهم لقوتها وست أن ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم‪ ،‬وقوله تعالى‬ ‫{فأخذتهم الصيحة مصبحين ‪ }3‬وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين‪{ ،‬فما‬ ‫أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من المال والعتاد وبناء الحصون بل ‪ 4‬هلكوا ولم ينج منهم أحد إل‬ ‫من آمن وعمل صالحا فقد نجاه ال تعالى مع نبيه صالح عليه السلم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وما خلقنا‬ ‫السموات والرض وما بينهما إل بالحق} أي إل من أجل أن أُذكر وأُشكر‪ ،‬فلذا من كفر بي فلم‬ ‫يذكرني وعصاني فلم يشكرني أهلكته‪ .‬لني لم أخلق عدا الخلق العظيم لهوا وباطلً وعبثا‪ .‬وقوله‪:‬‬ ‫{وإن الساعة لتية ‪ }5‬أي حتما ل محالة وثم يُجزي كلٌ بما كسب فل تحزن على قومك ول تجزع‬ ‫منهم فإن جزاءهم لزم وآت لبد‪ ،‬فاصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى {فاصفح الصفح‬ ‫الجميل ‪ }6‬أي الذي ل جزع معه‪ .‬وقوله {إن ربك هو الخلق العليم} خلق كل شيء وعلم بما خلق‬ ‫فعلى كثرة المخلوقات يعلم نياتها‪ ،‬وأعمالها‪ ،‬وأحوالها‪ ،‬ول يخفى عليه شيء من أمرها وسيعيدها‬ ‫كما بدأها ويحاسبها ويجزيها بما كسبت‪ .‬وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها ال تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المراد باليات‪ :‬الناقة لنها تشمل على عدّة آيات‪ ،‬وجائز أن يكون هناك آيات أخرى أعطيها‬ ‫صالح غير الناقة‪.‬‬ ‫‪ 2‬النحت‪ :‬البري والنجر‪ ،‬يقال نحته ينحته نحتا إذا براه‪ ،‬والنحاته‪ :‬البراية كالنجارة والخشارة‪،‬‬ ‫والمنحت‪ :‬آلة النحت‪ ،‬وقوله‪{ :‬آمنين} أي‪ :‬من أن تسقط عليهم أو تخرب فل تصلح للسكن فيها‪.‬‬ ‫‪{ 3‬مصبحين}‪ :‬حال من أخذتهم الصيحة أي‪ :‬حال كونهم داخلين في الصباح وهو أوّل النهار‪،‬‬ ‫فاليام الثلثة التي قيل لهم‪{ :‬تمتعوا فيها} هي الربعاء والخميس والجمعة‪ ،‬وصبيحة السبت كان‬ ‫هلكهم والعياذ بال من حال الهالكين‪.‬‬ ‫‪ 4‬صحّ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إل أن تكونوا‬ ‫باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم‪ ،‬وآمر بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز‬ ‫منه لجل انه ماء سخط فل يجوز النتفاع به فرارا من سخط ال تعالى وقال‪ :‬اعلفوه البل‬ ‫ففعلوا"‪.‬‬ ‫‪ 5‬لتية‪ :‬جائية إذ اليام تنصرم يوما فيوما إلى آخر يوم فالساعة الخيرة لهذه الحياة آتية‪ ،‬وهي‬ ‫في طريقها‪.‬‬ ‫‪ 6‬هذا كان قبل المر بالجهاد إذ السورة مكية والجهاد فرض في المدينة فالية منسوخة بمثل قوله‬ ‫تعالى‪{ :‬فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الية من التوبة المدنية‪.‬‬

‫( ‪)3/93‬‬ ‫في الوقت الذي حدده لها‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} أي‬ ‫أعطيناك سورة الفاتحة ‪ 1‬أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم ل يقادر قدره‪ .‬إذا‬ ‫{ل تمدن عينيك ‪ }2‬متطلعا {إلى ما متعنا به أزواجا منهم} أي أصنافا من رجالت قريش‪ ،‬فما‬ ‫آتيناك خير مما هم عليه من المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب‪ .‬وقوله‪{ :‬ول‬ ‫تخزن عليهم} إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به‪ ،‬فإن أمرهم إلى ال تعالى‪ ،‬وأمره‬ ‫تعالى أن يلين جانبه لصحابه المؤمنين فقال‪{ :‬واخفض جناحك للمؤمنين} فحسبك ولية ال لك‬ ‫فذر المكذبين أولي النعمة‪ ،‬وتعايش مع المؤمنين‪ ،‬ولين جانبك لهم‪ ،‬واعطف عليهم فإن الخير فيهم‬ ‫وليس في أولئك الغنياء الثرياء الكفرة الفجرة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬إذا أراد ال هلك أمة فإن قوتها المادية ل تغني عنها شيئا‪.‬‬ ‫‪ -2‬لم يخلق ال الخلق عبثا بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر‪ ،‬فمن عبده نجا‪ ،‬ومن أعرض عن ذكره‬ ‫وترك عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والخرة أو في الخرة وهو أشد وأخزى‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن الصفح الجميل هو الذي ل جزع معه‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أن ممن أتي القرآن لم يؤت أحد مثلها من الخير قط‪.‬‬ ‫‪ -5‬فضل الفاتحة إذ هي السبع المثاني‪.‬‬ ‫ل ومتاع‪ ،‬فإن ما آتاهم ال من‬ ‫‪ -6‬على الدعاة إلى ال أدت ل يلتفتوا إلى ما في أيدي الناس من ما ٍ‬ ‫اليمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع‪.‬‬ ‫‪ -7‬استحباب لين الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬كون الفاتحة هي السبع المثاني هو قول عليّ وأبي هريرة والحسن وغيرهم ويشهد له الحديث‬ ‫الصحيح‪" :‬الحمد ل أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني"‪ .‬روي عن ابن عباس أنه قال‪ :‬هي‬ ‫السبع الطوال‪ :‬البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والنعام والعراف والنفال والتوبة معا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية تدعو إلى العراض عن زخارف الدنيا وعدم القبال عليها‪ ،‬والكتفاء فيها بما أحل‬ ‫ال عمّا حرّم وبما تيسّر عما تعسر‪ ،‬وفيها‪ :‬أن من أعطاه ال القرآن وجب عليه أن يشعر بالغنى‬ ‫وعدم الفقر لحديث " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن" أي‪ :‬لم يستغن به عن طلب غيره‪.‬‬

‫( ‪)3/94‬‬

‫عضِينَ(‪)91‬‬ ‫جعَلُوا ا ْلقُرْآنَ ِ‬ ‫سمِينَ(‪ )90‬الّذِينَ َ‬ ‫َوقُلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ ا ْلمُبِينُ(‪َ )89‬كمَا أَنزَلْنَا عَلَى ال ُمقْتَ ِ‬ ‫عمّا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪ )93‬فَاصْ َدعْ ِبمَا ُت ْؤمَرُ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‬ ‫ج َمعِيْنَ(‪َ )92‬‬ ‫َفوَرَ ّبكَ لَ َنسْأَلَ ّنهُمْ َأ ْ‬ ‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ(‪ )96‬وََلقَدْ َنعْلَمُ‬ ‫جعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَ َ‬ ‫‪ )94‬إِنّا َكفَيْنَاكَ ا ْلمُسْ َتهْزِئِينَ(‪ )95‬الّذِينَ َي ْ‬ ‫جدِينَ(‪ )98‬وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّى‬ ‫حمْدِ رَ ّبكَ َوكُن مّنَ السّا ِ‬ ‫ق صَدْ ُركَ ِبمَا َيقُولُونَ(‪َ )97‬فسَبّحْ بِ َ‬ ‫أَ ّنكَ َيضِي ُ‬ ‫يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ(‪)99‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫النذير المبين ‪ :‬البين النذارة‬ ‫على المقتسمين ‪ :‬أي الذين قسموا كتاب ال فقالوا فيه شعر‪ ،‬وقالوا سحر‪ ،‬وقالوا كهانة‪.‬‬ ‫جعلوا القرآن عضين ‪ :‬هم المقسمون للقرآن وجعلوا عضين جمع عضة وهي القطعة والجزء من‬ ‫الشيء‪.‬‬ ‫فاصدع بما تؤمر‪ :‬أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك‪.‬‬ ‫يضيق صدرك بما يقولون ‪ :‬أي من الستهزاء بك والتكذيب لك‪.‬‬ ‫حتى يأتيك اليقين ‪ :‬أي الموت‪ ،‬أي إلى أن تتوفى وأنت تعبد ربك‪.‬‬ ‫معنى اليات‪.:‬‬ ‫ما زال السياق في إرشاد الرسول صلى ال عليه وسلم وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره‬ ‫تعالى‬

‫( ‪)3/95‬‬ ‫بقوله‪{ :‬وقل إني أنا النذير المبين ‪ }1‬أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم أن ينزل‬ ‫بكم عذاب ال إن أصررتم على الشرك والعناد والكفر‪ ،‬وقوله‪{ :‬كما أنزلنا على المقتسمين الذين‬ ‫جعلوا القرآن عضين ‪ }2‬انذركم عذابا كالذي أنزله ال وينزله على المقتسمين الذين قسموا التوراة‬ ‫والنجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى‪ ،‬والمقتسمين الذين تقاسموا أن يبيتوا‬ ‫صالحا فأنزل ال بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر‬ ‫وسحر وكهانة‪ ،‬المقتسمين الذين قسموا طرق مكة وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل ال كل‬ ‫من جاء يريد السلم وهؤلء كلهم مقتسمون وحل بهم عذاب ال ونقمته‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬فوربك‬ ‫لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} ‪ 3‬يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أنه ليسألنهم يوم القيامة‬ ‫عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا ل يهولنّك أمرهم واصبر على أذاهم‪ .‬وقوله {فاصدع ‪ 4‬بما‬ ‫تؤمر} أي أجهر بدعوة ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬وما تؤمر ببيانه والدعوة إليه أو التنفير‬ ‫منه‪{ ،‬وأعرض عن المشركين} ول تبال بهم‪ ،‬وقوله‪{ :‬إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع ال‬ ‫إلها آخر فسوف يعلمون} والمراد بهؤلء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله شرّهم الوليد‬

‫بن المغيرة والعاص بن وائل‪ ،‬وعدي بن قيس‪ ،‬والسود بن عبد يغوث كلهم ماتوا بآفات مختلفة‬ ‫في أمدٍ يسير‪ ،‬عليهم لعائن ال تعالى‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} أي‬ ‫من الستهزاء بك والسخرية‪ ،‬ومن المبالغة في الكفر والعناد فنرشدك إلى ما يخفف عنك اللم‬ ‫النفسي {فسبح بحمد ربك} أي قل سبحان ال وبحمده أي أكثر من هذا الذكر {وكن من الساجدين}‬ ‫أي المصلين إذ ل سجود إل في الصلة أو تلوة القرآن ‪ 5‬إذا فافزع عند الضيق إلى الصلة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬في الكلم حذف‪ ،‬وهو لفظ عذابا‪ .‬فحذت المفعول لدللة لفظ النذير عليه أو لكون الكاف في‬ ‫قوله {كما أنزلنا} زائد ة ويصحّ التقدير هكذا‪:‬‬ ‫أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين أي‪ :‬من العذاب‪.‬‬ ‫‪ 2‬واحد‪( :‬عضين) عضة من عضيت الشيء تعضيه أي‪ :‬فرقته وكل فرقة عضة‪ ،‬وقيل‪ :‬أصلها‬ ‫عضوة‪ ،‬فسقطت الواو‪ ،‬ولذا جمعت على عضين كعزين‪ ،‬إذ واحدها عزوة‪ ،‬وذلك أنهم فرقوا كلم‬ ‫ال فجعلوا بعضه سحرا وبعضه شعرا و‪ ..‬و‪..‬‬ ‫‪ 3‬وورد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬في قوله تعالى‪{ :‬فوربك لنسألنّهم ‪ }..‬إلى قوله‬ ‫{يعملون} قال‪" :‬عن قول ل إله إل ال‪ ،‬إذ أبوا أن يقولوها فتمادوا في الكفر والشرّ والفساد ولو‬ ‫قالوا لما كان لهم سوى الخير والصلح‪.‬‬ ‫‪ 4‬قضى رسول ال صلى ال عليه وسلم فترة من الزمن مستخفيا هو وأصحابه في دار الرقم‬ ‫حتى نزلت فيه الية‪{ :‬فاصدع بما تؤمر} فخرج صلى ال عليه وسلم وأعلن السلم ودعا إليه‬ ‫جهرة‪.‬‬ ‫‪ 5‬قيل‪ :‬إنّ هذه سجدة من سجدات القرآن‪ ،‬والجمهور على أنها ليست سجدة وإنما أرشد ال تعالى‬ ‫رسوله لتفريج همّه وتوسعة صدره مما يسمع ويقال له أمره بالتسبيح والصلة وفعل كان إذا‬ ‫حزبه أمر فزع إلى الصلة‪.‬‬

‫( ‪)3/96‬‬ ‫فلذا كان صلى ال عليه وسلم أحزنه أمر فزع إلى الصلة‪ .‬وقوله‪{ :‬واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}‬ ‫أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع ل تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو‬ ‫الموت فإن القبر أول عتبة الخرة وبموت النسان ودخوله في الدار الخرة أصبح إيمانه يقينا‬ ‫محضا‪.‬‬ ‫هداية اليات‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة الختلف في كتاب ال تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب‪.‬‬

‫‪ -2‬مشروعية الجهر بالحق وبيانه لسيما إذا لم يكن هناك اضطهاد‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل التسبيح بجملة‪ :‬سبحان ال وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد‬ ‫البحر وهذا مروي في الصحيح ‪.1‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية صلة الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلة يفرج ال تعالى بها ما به‬ ‫أو يقضي حاجته إن شاء وهو العليم الحكيم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)3/97‬‬ ‫سورة النحل‬ ‫‪...‬‬ ‫سورة النحل ‪1‬‬ ‫مكية‬ ‫وآياتها مائة وثمان وعشرون‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫عمّا يُشْ ِركُونَ(‪ )1‬يُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَى‬ ‫أَتَى َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬ ‫حقّ َتعَالَى‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بِالْ َ‬ ‫مَن يَشَاء مِنْ عِبَا ِدهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنّ ُه لَ إَِلهَ ِإلّ أَنَاْ فَا ّتقُونِ(‪ )2‬خَلَقَ ال ّ‬ ‫خصِيمٌ مّبِينٌ(‪ )4‬وَالَنْعَامَ‬ ‫طفَةٍ فَِإذَا ُهوَ َ‬ ‫عمّا يُشْ ِركُونَ (‪ )3‬خَلَقَ الِنسَانَ مِن نّ ْ‬ ‫َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وتسمّى أيضا سورة النعم‪ ،‬لما عدد تعالى فيها من نعمه على عباده‪.‬‬

‫( ‪)3/97‬‬ ‫جمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْ َرحُونَ(‪)6‬‬ ‫خََل َقهَا َلكُمْ فِيهَا ِدفْ ٌء َومَنَافِعُ َومِنْهَا تَ ْأكُلُونَ(‪ )5‬وََلكُمْ فِيهَا َ‬ ‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَى بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِشِقّ الَنفُسِ إِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ(‪)7‬‬ ‫وَتَ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫أتى أمر ال ‪ :‬أي دنا وقرب أمر ل بعذابكم أيها المشركون فل تستعجلون‪.‬‬ ‫ينزل الملئكة بالروح‪ :‬أي بالوحي الذي به حياة الرواح والمراد من الملئكة جبريل‪.‬‬ ‫خلق النسان من نطفة‪ :‬أي قطرة من المني‪.‬‬ ‫دفء ومنافع‪ :‬أي ما تستدفئون به‪ ،‬ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب‪.‬‬

‫حين تريحون‪ :‬أي حين تردونها من مراحها‪.‬‬ ‫وحين تسرحون‪ :.‬أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الماكن التي تسرح فيها‪.‬‬ ‫إل بشق النفس‪ :‬أي بجهد النفس ومشقة عظيمة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل ال تعالى قوله‪{ :‬أتى أمر ‪ 1‬ال}‬ ‫أي بعذابكم أيها المستعجلون له‪ .‬لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل‪{ :‬اللهم إن كان هذا‬ ‫هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو أئتنا بعذاب أليم} ‪ ،‬جاءه بعد سُنيات قلئل‬ ‫فهلك ببدر صَبْرا‪ ،‬إلى جهنم‪ ،‬وعَذَابُ يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه‬ ‫بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فل معنى لستعجاله فلذا قال ال تعالى‪{ :‬فل تستعجلوه}‬ ‫وقوله {سبحانه وتعالى عما يشركون}‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬من الجائز أن يراد بـ {أتى أمر ال} القيامة لقول ال تعالى‪{ :‬اقترب للناس حسابهم} وقوله‪:‬‬ ‫{اقتربت الساعة} وقول الرسول صلى ال عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه"‪.‬‬

‫( ‪)3/98‬‬ ‫أي تنزه وتقدس عما يشركون به من اللهة الباطلة إذ ل إله حق إل هو‪ .‬وقوله {ينزل الملئكة‬ ‫بالروح ‪ 1‬من أمره} أي بإرادته وإذنه {على من يشاء من عباده}‪ .‬أي ينزل جبريل عليه السلم‬ ‫بالوحي على من يشاء من عباده ‪ 2‬وهو محمد صلى ال عليه وسلم وقوله {أن أنذروا أنه ل إله إل‬ ‫أنا فاتقون} أي بأن انذروا ‪ 3‬أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم‬ ‫عذابا ل طاقة لهم به‪ ،‬لنه ل إله إل ال‪ ،‬وكل اللهة دونه باطلة‪ .‬إذا فاتقوا ال بترك الشرك‬ ‫والمعاصي وإل تعرضتم للعذاب الليم‪ .‬في هاتين اليتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم وتقرير التوحيد أيضا وقوله تعالى في اليات التالية‪{ :‬خلق السموات والرض بالحق‬ ‫تعالى عما يشركون} استدلل على وجوب التوحيد وبطلن الشر ك فالذي خلق السموات والرض‬ ‫حقّ أن يعبد‪ ،‬ل تلك اللهة الميتة التي ل تسمع‬ ‫بقدرته وعلمه وحده دون ما ُمعِين له ول مساعد ُ‬ ‫ول تبصر ول تنطق {تعالى عما يشركون} أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام‬ ‫وأوثان‪ .‬وقوله‪{ :‬خلق النسان من نطفة} أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في‬ ‫ظلمات ثلث وأخرجه من بطن أمه ل يعلم شيئا حتى إذا رباه وأصبح رجلً إذا هو خصم ل‬ ‫يجادل ويعاند ‪ ،4‬ويقول من يحيي العظام وهي رميم‪ .‬وقوله تعالى {والنعام خلقها لكم فيها دفء‬ ‫‪ 5‬ومنافع ومنها تأكلون} فهذه مظاهر القدرة اللهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته‬ ‫تعالى وترك عبادة ما سواه‪ .‬فالنعام وهي البل والبقر والغنم خلقها ال تعالى لبني آدم ولم يخلقها‬

‫لغيرهم‪ ،‬لهم فيها دفء إذ يصنعون الملبس والفرش والغطية من صوف الغنم ووبر البل ولهم‬ ‫فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فينتفعون بأولدها‪ .‬ومنها‬ ‫يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬بالروح‪ ،‬أي بالوحي بالنبوة نظيره قوله تعالى‪{ :‬يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده}‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬من النبياء ومحمد صلى ال عليه وسلم إمامهم وخاتمهم وقوله‪{ :‬أن أنذروا}‪ :‬تفسير لقوله‪:‬‬ ‫{ينزل الملئكة بالروح}‪.‬‬ ‫‪ 3‬أمر ال النبياء الذين أوحي إليهم بشرعه أن ينذروا المشركين عاقبة الشرك ويدعوهم إلى‬ ‫اليمان والعمل الصالح بعد نبذ الشرك والعمل الفاسد‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا النسان الخصيم هو أبيّ بن خلف الجمحي‪ ،‬جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم بعظم رميم‬ ‫فقال‪ :‬أترى يحيي ال هذا بعد ما قد رمّ؟ وفيه نزل‪{ :‬أو لم ير النسان أنّا خلقناه من نطفة‪ }..‬الخ‬ ‫من سورة يس‪.‬‬ ‫‪ 5‬الدفء‪ :‬الشيء الذي يدفىء النسان‪ ،‬والجمع‪ :‬ادفاء‪ ،‬ويقال‪ :‬دفىء دفاءة ككره كراهة‪.‬‬

‫( ‪)3/99‬‬ ‫مخلوقاته وقوله‪{ :‬ولكم فيها جمال}‪ 1‬أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى‬ ‫المراح {وحين تسرحون} أي تخرجونها صباحا من مراحها إلى مراعيها‪ ،‬فهذه لذة روحية ببهجة‬ ‫المنظر‪ .‬وقوله {وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إل بشق ‪ 2‬النفس} أي إل بجهد النفس‬ ‫والمشقة العظيمة‪ .‬فالبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الثقال من بلدٍ إلى بلد وقد تكون‬ ‫المسافة بعيدة ل يصلها النسان إل بشق النفس وبذل الجهد والطاقة‪ ،‬لول البل سفن الصحراء‬ ‫ومثل البل الخيل والبغال والحمير في حمل ‪ 3‬الثقال‪ .‬فالخالق لهذه النعام هو ربكم ل إله إل هو‬ ‫فاعبدوه ول تشركوا به شيئا وقوله تعالى‪{ :‬إن ربكم} أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق‬ ‫الذي ل إله لكم غيره لرؤوف رحيم‪ ،‬ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة النسان فلول‬ ‫لطف ال بالنسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قرب يوم القيامة فل معنى لستعجاله فإنه آتٍ ل محالة‪ ،‬وكل آتٍ قريب‪.‬‬ ‫‪ -2‬تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب‪ ،‬كما تحيي الجسام الرواح‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير التوحيد والنبوة والبعث الخر بذكر مظاهر القدرة اللهية والعلم والحكمة والرأفة‬ ‫والرحمة‪.‬‬

‫ل َومِ ْنهَا‬ ‫حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَ ًة وَيَخُْلقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ(‪ )8‬وَعَلَى اللّهِ َقصْدُ السّبِي ِ‬ ‫ل وَالْ ِبغَالَ وَا ْل َ‬ ‫وَالْخَ ْي َ‬ ‫سمَاء مَآء ّلكُم مّنْهُ‬ ‫ج َمعِينَ(‪ُ )9‬هوَ الّذِي أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬ ‫جَآئِ ٌر وََلوْ شَاء َلهَدَاكُمْ أَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجمال يكون في الصورة‪ ،‬وهو تناسب أجزائها‪ ،‬ويكون في الخلق بأن يكون المرء على‬ ‫صفات محمودة كالعدل والعلم والحكمة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد وجمال الفعال يكون‬ ‫بملءمتها لمصالح الخلق نافعة لهم غير ضارة بهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬شق النفس‪ :‬مشقتها‪ ،‬وغاية جهدها وعليه فالشق المشقة‪ ،‬والشق‪ :‬الجانب من كل شيء‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على جواز ركوب البل‪ ،‬والحمل عليها لكن ل تحمل أكثر مما تطيق فقد ضرب‬ ‫ل وقال‪ :‬تحمل على بعيرك ما ل يطيق‪ .‬وكان لبي الدرداء جمل يقال له دمون يقول‬ ‫عمر حما ً‬ ‫له‪ :‬يا دمون ل تخاصمني عند ربك‪.‬‬

‫( ‪)3/100‬‬ ‫ب َومِن ُكلّ‬ ‫ل وَالَعْنَا َ‬ ‫ن وَالنّخِي َ‬ ‫ع وَالزّيْتُو َ‬ ‫شجَرٌ فِيهِ ُتسِيمُونَ(‪ )10‬يُن ِبتُ َلكُم بِهِ الزّ ْر َ‬ ‫ب َومِنْهُ َ‬ ‫شَرَا ٌ‬ ‫س وَا ْل َقمَرَ وَالْنّجُومُ‬ ‫شمْ َ‬ ‫ل وَالْ ّنهَا َر وَال ّ‬ ‫ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ(‪ )11‬وَسَخّرَ َلكُمُ اللّ ْي َ‬ ‫ال ّثمَرَاتِ إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫مُسَخّرَاتٌ بَِأمْ ِرهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ّلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ(‪َ )12‬ومَا ذَرَأَ َلكُمْ فِي الَ ْرضِ ُمخْتَِلفًا أَ ْلوَانُهُ إِنّ فِي‬ ‫ك ليَةً ّل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ(‪)13‬‬ ‫ذَِل َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ويخلق ما ل تعلمون‪ :‬من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر‪.‬‬ ‫وعلى ال قصد السبيل ‪ :‬أي تفضلً منه وامتنانا ببيان السبيل القاصدة وهي السلم‪.‬‬ ‫ومنها جائر‪ :‬أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية‪.‬‬ ‫ومنه شجر‪ :‬أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات‪.‬‬ ‫فيه تسيمون‪ :‬ترعون مواشيكم‪.‬‬ ‫مسخراتٍ بأمره ‪ :‬أي بإذنه وقدرته‪.‬‬ ‫وما ذرأ لكم في الرض‪ :‬أي خلق لكم في الرض من الحيوان والنباتات المختلفة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال‬ ‫تعالى‪{ :‬والخيل ‪ 1‬والبغال والحمير} أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬واحد الخيل‪ :‬خائل‪ ،‬وقيل‪ :‬هو اسم جنس ل واحد له‪ ،‬وهذه الثلثة‪ :‬الخيل والبغال والحمير‬ ‫لم تدخل في لفظ النعام‪ ،‬ونصب‪( :‬والخيل) على تقدير‪( :‬وخلق الخيل)‪.‬‬

‫( ‪)3/101‬‬ ‫إياها إذ قال‪{ :‬لتركبوها وزينة ‪ }1‬أي ولجل أن تكون زينةً لكم في حياتكم وقوله {ويخلق مال‬ ‫تعلمون} أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات‬ ‫على اختلفها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق‬ ‫بهم أن يكفروه ول يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه‪ .‬وقوله {وعلى ال قصد‬ ‫السبيل ‪ }2‬ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد‬ ‫الموصل إلى رضاه وهو السلم‪ ،‬في حين إن ما عدا السلم من سائر الملل كاليهودية‬ ‫والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين إلى‬ ‫كمال ول إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى {وعلى ال قصد السبيل} وقوله {ولو شاء لهداكم‬ ‫أجمعين} أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه‪ ،‬إل‬ ‫أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلل‪.‬‬ ‫ومن مظاهر ربوبيته الموجبة للوهيته أي عبادته ما جاء في اليات التالية (‪،13 ،12 ،11 ،10‬‬ ‫‪ )15 ،14‬إذ قال تعالى‪{ :‬هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ‪ }3‬تشربون منه‬ ‫وتتطهرون‪{ ،‬ومنه} أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر ‪ 4‬لن الشجرة والمراد به هنا سائر‬ ‫النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله {فيه تسيمون ‪ }5‬أي في ذلك النبات ترعون مواشيكم‪.‬‬ ‫يقال سام الماشية أي ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها‪ .‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫{ينبت لكم به} أي بما أنزل من السماء من ماء {الزرع والزيتون والنخيل والعناب ومن كل‬ ‫الثمرات} كالفواكه والخضر على اختلفها إذ كلها متوقفة على الماء‪ .‬وقوله {إن في ذلك} أي‬ ‫المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أخذ مالك من قوله تعالى‪{ :‬لتركبوها وزينة} ‪ :‬حرمة أكل لحوم الخيل ووافقه أبو حنيفة‪ ،‬وأجاز‬ ‫الجمهور أكلها لنّ الية لم تحرّم شيئا وإنّما ذكرت فائدة من فوائدها وهي الركوب‪ ،‬ومن أدلة‬ ‫الجمهور‪ :‬الحديث الصحيح من ذلك قول الصحابي نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم خيبر‬ ‫عن لحوم الحمر الهلية وأذن لنا في لحوم الخيل"‪ .‬وقال جابر رضي ال عنه‪" :‬كنا نأكل لحوم‬ ‫الخيل على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم" وحديث مسلم عن أسماء رضي ال عنها قالت‪:‬‬ ‫"فجزرنا فرسا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ونحن بالمدينة وأكلناه"‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬على ال بيان قصد السبيل‪ ،‬والسبيل هو السلم‪ ،‬أي‪ :‬بيان شرائعه وأحكامه وحِكمه‬ ‫ومواعظه بواسطة كتبه ورسله‪ .‬وقصد السبيل‪ :‬استقامته كما أن جائر السبيل‪ :‬هو الحائد عن‬ ‫الستقامة‪.‬‬

‫‪ 3‬الشراب‪ :‬اسم لما يشرب وذكر للماء النازل من السماء فائدتين‪ .‬الولى‪ :‬الشراب والثانية‪ :‬إنبات‬ ‫النبات وهما نعمتان‪.‬‬ ‫‪ 4‬لفظ الشجر‪ :‬يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكل تغليبا‪.‬‬ ‫‪ 5‬السامة‪ :‬إطلق البل للسوم وهو الرعي يقال‪ :‬سامت الماشية إذا رعت وأسامها‪ :‬إذا رعاها‪.‬‬

‫( ‪)3/102‬‬ ‫{لية} أي علمةً واضحةً على وجود ال وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته‬ ‫وترك عبادة غيره‪ .‬ولكن {لقوم يتفكرون} فيتعظون‪ .‬أما اشباه البهائم الذين ل يفكرون في شيء‬ ‫فل يجدون آية ول شبة آية في الكون كله وهم يعيشون فيه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وسخر لكم الليل‬ ‫والنهار} الليل للسكون الراحة‪ ،‬والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين‬ ‫باستمرار ل يفترقان أبدا إلى أن يأذن ال بانتهائهما وقوله‪{ :‬والشمس والقمر} أي سخرهما كذلك‬ ‫للنتفاع بضوء الشمس وحرارتها‪ ،‬وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب‪ ،‬وقوله‪{ :‬والنجوم‬ ‫مسخرات ‪ 1‬بأمره} كذلك ومن فوائد النجوم الهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة‬ ‫وجمالً للسماء التي هي سقف دارنا هذه‪ ..‬وقوله {إن في ذلك} المذكور من تسخير الليل والنهار‬ ‫والشمس والقمر والنجوم {ليات} عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده‬ ‫فيها‪ ،‬ولكن {لقومٍ يعقلون} أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الشياء وإدراك أسرارها‬ ‫وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين ل يفكرون ول يتعقلون ول يعقلون‪ ،‬فليس لهم في الكون‬ ‫كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى‪{ :‬وما ‪ 2‬ذرأ‬ ‫لكم في الرض} أي وما خلق لكم في الرض من إنسان وحيوان ونبات {مختلفا ألوانه} ‪3‬‬ ‫وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره {إن في ذلك} الخلق العجيب {لية} أي في دللة واضحة على‬ ‫وجود الخالق عز وجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن {لقوم يذكرون} فيتعظون‬ ‫فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في‬ ‫الحياتين‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬كون الخيل ‪ 4‬والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة ل ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬مسخرات}‪ :‬أي‪ :‬مذللّت لمعرفة الوقات ونضج الثمار‪ ،‬والهتداء بالنجوم في الظلمات‪.‬‬ ‫‪ 2‬الذرء‪ :‬الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ فليس النبات فقط‪.‬‬ ‫‪ 3‬المخلوقات قسمان‪ :‬قسم منها مسخر مذلل كالدواب والنعام والشجار‪ ،‬وقسم غير مذلل ول‬

‫مسخر‪ ،‬وشاهد هذا‪ :‬قول كعب الحبار‪ :‬لول كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا فقيل له وما هن؟‬ ‫قال‪ :‬أعوذ بكلمات ال التامة التي ل يجاوزهن برّ ول فاجر‪ ،‬وبأسماء ال الحسنى كلها ما علمت‬ ‫منها وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ‪.‬‬ ‫‪ 4‬ما في الية‪{ :‬والخيل والبغال والحمير} ما يدلى على وجوب الزكاة فيها‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫الصحيح‪" :‬ليس على المسلم في عبده ول فرسه صدقة" رواه مالك‪.‬‬

‫( ‪)3/103‬‬ ‫لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل‪ ،‬ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين‪.‬‬ ‫‪ -2‬السلم هو السبيل التي بينها ال تعالى فضلً منه ورحمة وما عداه فهي سبل جائرة عن‬ ‫العدل والحق‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لن اليات الكونية كاليات القرآنية إذا لم يتفكر‬ ‫فيها العبد ل يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة ال تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده‬ ‫دون سواه‪.‬‬ ‫حلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ َموَاخِرَ‬ ‫حمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْ ِرجُواْ مِنْهُ ِ‬ ‫سخّرَ‪ 1‬الْبَحْرَ لِتَ ْأكُلُواْ مِنْهُ لَ ْ‬ ‫وَ ُهوَ الّذِي َ‬ ‫سيَ أَن َتمِيدَ ِبكُ ْم وَأَ ْنهَارًا وَسُبُلً‬ ‫شكُرُونَ(‪ )14‬وَأَ ْلقَى فِي الَرْضِ َروَا ِ‬ ‫فِي ِه وَلِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬ ‫ّلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ(‪ )15‬وَعَلمَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْتَدُونَ(‪َ )16‬أ َفمَن َيخْلُقُ َكمَن لّ َيخْلُقُ َأفَل َت َذكّرُونَ (‪)17‬‬ ‫ن َومَا ُتعْلِنُونَ(‪)19‬‬ ‫حصُوهَا إِنّ الّلهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ(‪ )18‬وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا تُسِرّو َ‬ ‫وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ الّل ِه لَ ُت ْ‬ ‫شرح الكلمات‪.‬‬ ‫حلية تلبسونها‪ :‬هي اللؤلؤ والمرجان‪.‬‬ ‫مواخر فيه‪ :‬أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تسخير البحر‪ :‬هو تمكين البشر من التصرف فيه‪ ،‬وتذليله بالركوب والرفاء وغيره وهي نعمة‬ ‫إذ لو شاء ال لسلّط البحر على العباد لغرقهم‪.‬‬

‫( ‪)3/104‬‬ ‫من فضله‪ :‬أي من فضل ال تعالى بالتجارة‪.‬‬ ‫أن تميد بكم‪ :‬أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط‪.‬‬ ‫ل تحصوها ‪ :‬أي عدا فتضبطوها فضلً عن شكرها للمنعم بها عز وجل‪.‬‬ ‫ما تسرون وما تعلنون‪ :‬من المكر بالنبي صلى ال عليه وسلم ومن أذاه علنية هذا بالنسبة إلى‬

‫أهل مكة‪ ،‬إذ الخطاب يتناولهم أولً ثم اللفظ عام فال يعلم كل سرٍ وعلنية في أي أحد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة‬ ‫لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى‪{ :‬وهو الذي سخر لكم البحر} وهو كل ماء غمر كثير‬ ‫عذبا كان أو ملحا وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه‪ .‬وقوله {لتأكلوا منه لحما‪1‬‬ ‫طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك‬ ‫يأكلونه‪ ،‬ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم ‪ .2‬وقوله‪{ :‬وترى الفلك مواخر فيه} أي‬ ‫وترى أيها الناظر إلى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية‪ .‬وقوله‪{ :‬ولتبتغوا} أي‬ ‫سخّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من‬ ‫فضل ال وقوله {لعلكم تشكرون} أي كي تشكروا ال تعالى‪ .‬أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على‬ ‫الرزق من فضل ال فتأكلوا وتشكروا ال على ذلك والشكر يكون بحمد ال والعتراف بنعمته‬ ‫وصرفها في مرضاته وقوله‪{ :‬وألقى في الرض رواسي ‪ }3‬أي ألقى في الرض جبالً ثوابت {أن‬ ‫تميد بكم} كي ل تميد بكم‪ ،‬وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها‬ ‫والحياة فيها‪ .‬وقوله‪{ :‬وأنهارا} أي وأجرى لكم أنهارا في الرض كالنيل والفرات‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قسّم مالك اللحم ثلثة أقسام وهي‪ :‬لحم ذوات الربع‪ ،‬ولحم ذوات الريش‪ ،‬ولحم ذوات الماء‪،‬‬ ‫ومنع بيع الجنس الواحد بجنسه متفاضل أو نسيئة‪.‬‬ ‫‪ 2‬الجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة للحاديث الثابتة وذلك منها حديث البخاري عن‬ ‫أنس بن مالك رضي ال عنه "أن النبي صلى ال عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد‬ ‫رسول ال" ولذا جاز للقضاة وغيرهم أن ينقشوا أسماءهم على خواتمهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬في هذه الية دليل على استعمال السباب إذ كان ال قادرا على سكونها دون الجبال‪ ،‬ومع هذا‬ ‫أرساها‪ ،‬وسكنها بالجبال تعليما لعباده للخذ بالسباب‪ ،‬و {رواسي} جمع راس‪ ،‬على غير قياس‪،‬‬ ‫كفوارس‪ ،‬وعواذل جمع فارس وعاذل‪.‬‬

‫( ‪)3/105‬‬ ‫وغيرهما {وسبل} أي وشّق لكم طرقا {لعلكم تهتدون} إلى منازلكم في بلدكم وقوله {وعلمات}‬ ‫أي وجعل لكم علمات للطرق وأمارات كالهضاب والودية والشجار وكل ما يستدل به على‬ ‫الطريق والناحية‪ ،‬وقوله {وبالنجم} أي وبالنجوم ‪{ 1‬هم يهتدون} فركاب البحر ل يعرفون وجهة‬ ‫سيرهم في الليل إل بالنجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد ل يعرفون وجهة سفرهم إل‬ ‫بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إل على ضوء النجم وهدايته وقوله في‬

‫الية (‪{ )17‬أفمن يخلق كمن ل يخلق أفل تذكرون} هذا تأنيب عظيم لولئك الذين يصرون على‬ ‫عبادة الصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة النسان وهو‬ ‫ال رب العالمين كعبادة من ل يخلق ول يرزق ول يدير؟ فمن يسوي من العقلء بين الحي‬ ‫المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الحجار والوثان؟ فلذا وبخهم بقوله {أفل‬ ‫تذكرون} فتذكرون فتعرفون أن عبادة الصنام باطلة وأن عبادة ال حق فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا‬ ‫له قبل أن يأتيكم العذاب‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإن تعدوا نعمة ال ل تحصوها} بعدما عدد في هذه‬ ‫اليات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم ال ما استطاعوا عدها فضل عن‬ ‫شكرها‪ ،‬ولذا قال ‪{ :‬إن ال لغفور رحيم} ولول أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم في شكر نعمه‬ ‫عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم العتراف بالمنعم بها عز وجل وقوله تعالى‪{ :‬وال يعلم ما‬ ‫تسرون وما تعلنون} هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فال‬ ‫وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذا حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم‪ ،‬فإذا عادوه وكفروا به‬ ‫فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة إلى اليمان والتوحيد‬ ‫فالية إخطار لهم بأن ال عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار‪ .‬فهي تحمل‬ ‫التهديد والوعيد لكفار مكة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان العلة في الرزق وأنها الشكر فال سبحانه وتعالى يرزق لِيُشكر‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وقد يراد بالنجم‪ :‬الجدي خاصة لقول الرسول صلى ال عليه وسلم لبن عباس وقد سأله عن‬ ‫النجم فقال له‪" :‬هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم" وكون المراد بالنجم النجوم‬ ‫لقوله تعالى‪{ :‬وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}‪.‬‬

‫( ‪)3/106‬‬ ‫‪ -2‬إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر‪.‬‬ ‫‪ -3‬ل زكاة في اللؤلؤ والمرجان لنه من حلية النساء‪.‬‬ ‫‪ -4‬المقارنة بين الحي الخلق العليم‪ ،‬وبين الصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلن عبادة غير ال‬ ‫تعالى لن من يَخلُق ليس كمن ل يَخلَق‪.‬‬ ‫‪ -5‬عجز النسان عن شكر نعم ال تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد ل)‬ ‫تعد رأس الشكر والعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر‪ ،‬والشكر صرف النعم فيما من أجله‬ ‫أنعم ال تعالى بها‪.‬‬

‫شعُرُونَ أَيّانَ‬ ‫وَالّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّ ِه لَ َيخُْلقُونَ شَيْئًا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ(‪َ )20‬أمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء َومَا َي ْ‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ قُلُو ُبهُم مّنكِ َر ٌة وَهُم مّسْ َتكْبِرُونَ(‪ )22‬لَ جَرَمَ‬ ‫يُ ْبعَثُونَ(‪ )21‬إَِل ُه ُكمْ إِلَ ٌه وَاحِدٌ فَالّذِي َ‬ ‫حبّ ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ(‪ )23‬وَإِذَا قِيلَ َلهُم مّاذَا أَن َزلَ رَ ّبكُمْ‬ ‫أَنّ الّلهَ َيعْلَمُ مَا ُيسِرّونَ َومَا ُيعْلِنُونَ إِنّ ُه لَ ُي ِ‬ ‫حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُم ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ‬ ‫لوّلِينَ(‪ )24‬لِ َي ْ‬ ‫قَالُواْ أَسَاطِي ُر ا َ‬ ‫َألَ سَاء مَا يَزِرُونَ(‪)25‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وهم يخلقون‪ :‬أي يصورون من الحجارة وغيرها‪.‬‬ ‫وما يشعرون أيان يبعثون ‪ :‬أي وما تشعر الصنام ول تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم‬ ‫القيامة‪ .‬ول يبعث فيه عابدوها من دون ال‪.‬‬

‫( ‪)3/107‬‬ ‫قلوبهم منكرة ‪ :‬أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء‪.‬‬ ‫وهم مستكبرون ‪ :‬لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون‪.‬‬ ‫ل جرم ‪ :‬أي حقا‪.‬‬ ‫أساطير الولين ‪ :‬أي أكاذيب الولين‪.‬‬ ‫ليحملوا أوزارهم ‪ :‬أي ذنوبهم يوم القيامة‪.‬‬ ‫أل ساء ما يزرون ‪ :‬أي بئس ما يحملون من الوزار‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الدلة على اشراكهم وضللهم فقوله تعالى‪:‬‬ ‫{والذين يدعون من ‪ 1‬دون ال} أي تعبدونهم أيها المشركون {أموات غير أحياء} أي هم أموات إذ‬ ‫ل حياة لهم ودليل ذلك أنهم ل يسمعون ول يبصرون ول ينطقون‪ ،‬وقوله {وما يشعرون أيان‬ ‫يبعثون ‪ }2‬أي ل يعلمون ‪ 3‬متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم ل تشعرون متى تبعثون‪.‬‬ ‫فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ول يعلمون متى يبعثون للستنطاق والستجواب والجزاء على‬ ‫الكسب في هذه الحياة‪ ،‬وقوله {إلهكم إله واحد} هذه النتيجة العقلية التي ل ينكرها العقلء وهي أن‬ ‫المعبود واحد ل شريك له‪ ،‬وهو ال جل جلله‪ ،‬إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو‬ ‫الصفات العل والسماء الحسنى‪ ،‬وما عداه فل يخلق ول يرزق ول يُدبّر ول يحيى ول يميت‬ ‫فتأليهه سفه وضلل‪ ،‬وبعد تقرير ألوهية ال تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى‪{ :‬فالذين ل‬ ‫يؤمنون بالخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند‬ ‫المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الخر إذ ل يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو ل يؤمن‬ ‫باليوم الخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا‪ ،‬فأخبر تعالى أن الذين ل يؤمنون بالخرة‬

‫قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وتنبيه‬ ‫آيات القرآن الكريم‪ ،‬وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرأ عامة القراء {يدعون} بالتاء لن ما قبله خطاب‪ ،‬وقرىء عن عاصم وحفص بالياء‪ ،‬وهي‬ ‫قراءة يعقوب أيضا‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي عن ابن عباس رضي ال عنهما أنه قال‪ :‬تبعث الصنام وتركب فيها الرواح ومعها‬ ‫شياطينها فيتبرؤون من عبدتها‪ ،‬ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار‪.‬‬ ‫‪ 3‬عبّر عنهم بصيغة من يعقل لن المشركين يزعمون أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند ال تعالى‪،‬‬ ‫وتقرّبهم إلى ال زلفى‪.‬‬

‫( ‪)3/108‬‬ ‫قبول الحق والذعان له‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ل جرم ‪ 1‬أن ال يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه ل يحب‬ ‫المستكبرين ‪ }2‬أي حقا ان ال يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك‬ ‫عليهم ويجزيهم به ل محالة في يوم كانوا به يكذبون‪ ..‬ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان‬ ‫بعذاب النار متسبب عن بغض ال للمستكبرين وعدم حبه لهم‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وإذا قيل لهم ماذا‬ ‫أنزل ربكم قالوا أساطير الولين ‪ }3‬يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي اللهي وما جاء‬ ‫به رسول ال هؤلء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف ممن سمع‬ ‫بالدعوة المحمدية فجاء من بلد يتعرف عليها قالوا‪{ :‬أساطير الولين ‪ }4‬أخبار كاذبة عن الولين‬ ‫مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها‪ ،‬وبذلك يصرفون عن السلم ويصدون عن سبيل ال‪،‬‬ ‫قال تعالى‪{ :‬ليحملوا أوزارهم} أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل ال كاملة غير‬ ‫منقوصة يوم القيامة‪ ،‬وهم ل يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي‪ :‬ان من دعا إلى ضللة كان عليه‬ ‫وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء‪ ،‬وكذا من دعا إلى ‪ 5‬هدى فله‬ ‫أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬أل ساء ما يزرون}‬ ‫أي قُبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بطلن الشرك وتقرير التوحيد‪.‬‬ ‫‪ -2‬التكذيب باليوم الخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ل جرم}‪ :‬كلمة تحقيق ول تكون إل جوابا‪ ،‬يقال‪ :‬فعلوا كذا وكذا فيجاب بكلمة ل جرم أنهم‬

‫سيندمون‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬فهو ل يثيبهم ول يثني عليهم خيرا‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬إن المستكبرين يحشرون أمثال‬ ‫الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم"‪ .‬قالت العلماء‪ :‬كل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه‬ ‫إل الكبر‪ ،‬وهو أصل العصيان كله‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬إن الية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل‪ :‬أساطير الولين‪ .‬والية تشمله وغيره‬ ‫ممن قال ويقول هذه الكلمات الكاذبة الباطلة‪.‬‬ ‫‪ 4‬الساطير‪ :‬الباطيل‪ ،‬والترهات‪ ،‬و {أساطير الولين}‪ :‬خبر والمبتدأ الذي أنزله أي‪ :‬الذي أنزله‬ ‫أساطير الوّلين‪.‬‬ ‫‪ 5‬وفي الصحيح شاهد هذا فقد روى مسلم أنه صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬من دعا إلى هدىً كان له‬ ‫من الجر مثل أجور من اتبعه ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا‪ ،‬ومن دعا إلى ضللة كان عليه‬ ‫من الثم مثل من اتبعه ل ينقص ذلك من آثامهم شيئا"‪.‬‬

‫( ‪)3/109‬‬ ‫‪ -3‬التنديد بجريمة الستكبار عن الحق والذعان له‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل ال بصرف الناس عن السلم‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان تبعة من يدعو إلى ضللة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها‪.‬‬ ‫سقْفُ مِن َف ْو ِقهِ ْم وَأَتَاهُمُ ا ْلعَذَابُ‬ ‫قَدْ َمكَرَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَا َنهُم مّنَ ا ْل َقوَاعِدِ فَخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬ ‫شعُرُونَ(‪ )26‬ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ‬ ‫ث لَ يَ ْ‬ ‫مِنْ حَ ْي ُ‬ ‫سهِمْ‬ ‫علَى ا ْلكَافِرِينَ(‪ )27‬الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَنفُ ِ‬ ‫الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ إِنّ ا ْلخِ ْزيَ الْ َيوْ َم وَالْسّوءَ َ‬ ‫جهَنّمَ‬ ‫فَأَ ْلقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا َن ْع َملُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ(‪ )28‬فَا ْدخُلُواْ أَ ْبوَابَ َ‬ ‫خَاِلدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ(‪َ )29‬وقِيلَ لِلّذِينَ ا ّتقَوْاْ مَاذَا أَن َزلَ رَ ّب ُكمْ قَالُواْ خَيْرًا لّلّذِينَ َأحْسَنُواْ‬ ‫عدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا َتجْرِي مِن‬ ‫حسَنَ ٌة وَلَدَارُ الخِ َرةِ خَيْرٌ وَلَ ِنعْمَ دَارُ ا ْلمُتّقِينَ(‪ )30‬جَنّاتُ َ‬ ‫فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َ‬ ‫تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ َلهُمْ فِيهَا مَا َيشَآؤُونَ كَذَِلكَ َيجْزِي الّلهُ ا ْلمُ ّتقِينَ(‪ )31‬الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ طَيّبِينَ‬ ‫َيقُولُونَ سَلمٌ عَلَ ْيكُمُ ادْخُلُواْ ا ْلجَنّةَ ِبمَا كُن ُتمْ َت ْعمَلُونَ(‪َ )32‬هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ‬

‫( ‪)3/110‬‬ ‫سهُمْ يَظِْلمُونَ(‪)33‬‬ ‫َأوْ يَأْ ِتيَ َأمْرُ رَ ّبكَ َكذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ َومَا ظََل َمهُمُ الّل ُه وَلكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬ ‫عمِلُو ْا وَحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ بِهِ َيسْ َتهْ ِزؤُونَ(‪)34‬‬ ‫فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬

‫من قبلهم‪ :‬أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره‪.‬‬ ‫فأتى ال بنيانهم ‪ :‬أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه‪.‬‬ ‫وخر عليهم السقف‪ :‬أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها‪.‬‬ ‫كنتم تشاقون فيهم‪ :‬أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه‪ ،‬وتشاقون ال بمخالفتكم‬ ‫إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها‪.‬‬ ‫وقال الذين أوتوا العلم ‪ :‬أي النبياء والمؤمنون‪.‬‬ ‫ظالمي أنفسهم‪ :‬بالشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫فألقوا السلم‪ :‬أي استسلموا وانقادوا‪.‬‬ ‫فلبئس مثوى المتكبرين‪ :‬مثوى المتكبرين‪ :‬أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلً‪.‬‬ ‫وقيل للذين اتقوا‪ :‬أي اتقوا الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫للذين أحسنوا‪ :‬أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوْا بها وفق مراد ال تعالى‪.‬‬ ‫حسنة‪ :‬أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة‪.‬‬ ‫ولنعم دار المتقين‪ :‬أي الجنة دار السلم‪.‬‬ ‫طيبيين‪ :‬أي الرواح بما زكوها به من اليمان والعمل الصالح‪ .‬وبما أبعدوها عنه من الشرك‬ ‫والمعاصي‪.‬‬ ‫يقولون سلم عليكم‪ :‬أي يقول لهم ملك الموت "عزرائيل " وأعوانه‪.‬‬ ‫هل ينظرون إل أن تأتيهم الملئكة‪ :‬أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون‪.‬‬ ‫أو يأتي أمر ربك‪ :‬أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى ال عز وجل‪.‬‬ ‫وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‪ :‬أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون‪.‬‬

‫( ‪)3/111‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضللة‪.‬‬ ‫فيقول تعالى‪{ :‬قد مكر الذين من قبلهم} أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون‬ ‫وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على ال عز وجل ومكروا برسلهم‪ ،‬فالنمرود ألقى بإبراهيم‬ ‫في النار‪ ،‬وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه‪ ..‬وقوله‪{ :‬فأتى ال بنيانهم من القواعد} أي‬ ‫أتاه أمر ال بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة {فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من‬ ‫حيث ل يشعرون ‪ .}1‬وذهب باطلهم وزال مكرهم‪ .‬ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم‬ ‫ويبيّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى‪{ :‬ثم يوم القيامة يخزيهم} أي يهينهم‬ ‫ويذلهم ويوبخهم بقوله‪{ :‬أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ‪ }2‬أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم‬

‫تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون أوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه‪.‬‬ ‫وهنا يقول الشهاد والذين أوتوا العلم من النبياء والعلماء الربانيين‪{ :‬إن الخزي اليوم والسوء‬ ‫على الكافرين} أي إن الذل والهون والدون على الكافرين‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬الذين تتوفاهم ‪ 3‬الملئكة‬ ‫ظالمي أنفسهم} بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني‬ ‫الكافرين والفساق المجرمين حيث ل يتمكن المؤمن من عبادة ال تعالى بترك المعاصي والقيام‬ ‫بالعبادات‪ .‬وقوله {فألقوا السلم} أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا‬ ‫وحاولوا العتذار بالكذب وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} فترد عليهم الملئكة قائيلين‪{ :‬بلى} أي‬ ‫كنتم تعملون السوء {إن ال عليم بما كنتم تعملون} ويقال لهم أيضا {فادخلوا أبواب جهنم} أي‬ ‫أبواب طبقاتها {خالدين فيها فلبئس} جهنم {مثوى} أي مقاما ومنزلً {للمتكبرين} عن عبادة ال‬ ‫وحده‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وقيل للذين اتقوا} أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ول نهيه‬ ‫وأطاعوا رسوله كذلك‪{ :‬ماذا أنزل ربكم} أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬من حيث ظنوا أنهم في أمان‪ ،‬وقال ابن عباس يعني البعوضة التي أهلك ال تعالى بها‬ ‫النمرود الكنعاني‪.‬‬ ‫‪ 2‬قرىء {تشاقون} بفتح النون وبكسرها على الضافة‪ ،‬كما قرأ شركائي ابن كشر‪ :‬شركاي بفتح‬ ‫الياء وبدون همزة‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬الية نزلت في الذين تركوا الهجرة إلى المدينة وبقوا في مكة يزاولون أعمال الشرك خوفا‬ ‫من المشركين‪ ،‬ومن بينهم الذين لمّا رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشرك‪.‬‬

‫( ‪)3/112‬‬ ‫دعوة السلم فيقولون له‪{ :‬خيرا} أي أنزل خيرا لن القرآن خير وبالخير نزل بخلف تلميذ‬ ‫المشركين يقولون أساطير الولين كما تقدم في هذا السياق‪.‬‬ ‫كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه‬ ‫الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بال ومكرهم وظلمهم للمؤمنين‪ ،‬ذكر جزاء المحسنين‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫{للذين أحسنوا} أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع ال في ذلك فأخلصوا عبادتهم ل تعالى‬ ‫ودعوا الناس إلى عبادة ال وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لنفسهم ولغيرهم لهؤلء الذين‬ ‫أحسنوا في الدنيا {حسنة} وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة ‪ ،1‬ولدار الخرة خيرٌ‬ ‫لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى‪{ :‬ولنعم دار المتقين} ثناء ومدح لتلك الدار‬ ‫الخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي‬ ‫خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪{ :‬جنات ‪ 2‬عدن يدخلونها تجري من تحتها النهار لهم فيها ما يشاءون} هو وصف‬ ‫وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الشجار والنهار‬ ‫والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملبس والمناكح والمراكب وقوله تعالى‪{ :‬لهم‬ ‫فيها ما يشاءون} هذا نهاية لكرام والنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم ل‬ ‫مزيد عليه وقوله تعالى‪{ :‬كذلك يجزي ال المتقين} أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي ال‬ ‫المتقين في الدنيا والخرة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬الذين تتوفاهم الملئكة طيبين ‪ }3‬أي طاهري الرواح‬ ‫لرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار‬ ‫الشرك وعفن المعاصي‪ .‬وقوله‪{ :‬يقولون} أي تقول لهم الملئكة وهم ملك الموت وأعوانه {سلم‬ ‫عليكم} ‪ 4‬تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم‪{ .‬ادخلوا الجنة} بأرواحهم اليوم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬مع الفتح والنصر والغنائم أيضا إذ الكل حسنة عظيمة‪.‬‬ ‫‪{ 2‬جنات عدن}‪ :‬بدل من قوله‪( :‬دار المتقين)‪.‬‬ ‫‪ 3‬طيّبين بإيمانهم وعملهم الصالح وبعدهم عن الشرك والمعاصي ووفاتهم أيضا طيبة سهلة ل‬ ‫صعوبة فيها ول ألم بخلف ما تقبض به أرواح أهل الكفر والشرك والفساد‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال ابن المبارك‪ :‬إذا استقنعت نفس العبد المؤمن "أي‪ :‬اجتمعت في فيه تريد الخروج" جاءه ملك‬ ‫الموت فقال له‪ :‬السلم عليك وليّ ال ال يقرأ عليك السلم‪ ،‬ثم قرأ هذه الية‪{ :‬الذين تتوفاهم‬ ‫الملئكة} الخ‪ ،‬وقال ابن مسعود رضي ال عنه‪ :‬إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال‪:‬‬ ‫ربّك يقرئك السلم‪.‬‬

‫( ‪)3/113‬‬ ‫وبأجسامهم غدا يوم القيامة‪ .‬وقوله {بما كنتم تعملون} أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات‬ ‫والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم باليمان واليقين والحب في ال والبغض فيه عز وجل‬ ‫والرغبة والتوكل عليه‪ .‬هذا ما تضمنته اليات (‪ )32 ،31‬وأما اليات بعد ذلك فيقول ال مستبطئا‬ ‫إيمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلئل والبينات على صدق نبوة محمد صلى ال‬ ‫عليه وسلم وعلى وجوب التوحيد وبطلن الشرك وعلى اليمان باليوم الخر‪{ .‬هل ينظرون إل أن‬ ‫تأتيهم الملئكة} أي ما ينظرون بعد هذا إل أن تأتيهم الملئكة لقبض أرواحهم {أو يأتي أمر ربك}‬ ‫بإبادتهم واستئصالهم‪ ،‬إذ لم يبق ما ينتظرونه إل أحد هذين المرين وكلهما مر وشر لهم‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬كذلك فعل الذين من قبلهم} من كفار المم السابقة فحلت بهم نقمة ال ونزل بهم عذابه‬ ‫فأهلكهم ‪{.‬وما ظلمهم ال} تعالى في ذلك أبدا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بإصرارهم على‬ ‫الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة {فأصابهم سيئات} أي جزاء سيئات {ما عملوا} من الكفر‬

‫والظلم {وحاق بهم} أي نزل بهم وأحاط بهم {ما كانوا به يستهزئون} إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم‬ ‫من عذاب ال سخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بال تعالى‪.‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬سوء عاقبه المكر وأنه يحيق بأهله ل محالة والمراد به المكر السيء‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان خزي ال تعالى يوم القيامة لهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار‪.‬‬ ‫‪ -4‬بان استسلم الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم‪.‬‬ ‫‪ -5‬تقرير معتقد البعث والحياة الخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه‪.‬‬ ‫آ‪ -‬إطلق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله‪ ،‬فل ينبغي أن‬ ‫يرى أحدا من أهل الدنيا خيرا منه وإل سخط نعمة ال تعالى عليه‪.‬‬ ‫‪ -7‬سعادة الدارين لهل الحسان وهم أهل اليمان والسلم والحسان في إيمانهم بالخلص‬ ‫وفي إسلمهم بموافقه الشرع ومراقبة ال تعالى في ذلك‪.‬‬

‫( ‪)3/114‬‬ ‫‪ -8‬بشرى أهل اليمان والتقوى عند الموت‪ ،‬وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب‬ ‫العالمين‪.‬‬ ‫‪ -9‬إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لغلئها‪ ،‬وإنما العمال تزكي‬ ‫النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة‪.‬‬ ‫ل فهو‬ ‫‪ -10‬ما ينتظر المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إل العذاب‪ ،‬عاجلً أو آج ً‬ ‫نازل بهم حتما مقضيا إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة‪.‬‬ ‫ن وَل آبَاؤُنَا َولَ حَ ّرمْنَا مِن دُونِهِ‬ ‫شيْءٍ نّحْ ُ‬ ‫َوقَالَ الّذِينَ أَشْ َركُواْ َلوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن َ‬ ‫سلِ ِإلّ الْبَلغُ ا ْلمُبِينُ(‪ )35‬وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ‬ ‫شيْءٍ كَذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ َف َهلْ عَلَى الرّ ُ‬ ‫مِن َ‬ ‫ح ّقتْ عَلَيْهِ الضّللَةُ‬ ‫رّسُولً أَنِ اعْبُدُواْ الّل َه وَاجْتَنِبُواْ الطّاغُوتَ َفمِ ْنهُم مّنْ هَدَى الّل ُه َومِ ْنهُم مّنْ َ‬ ‫علَى هُدَا ُهمْ فَإِنّ الّل َه لَ‬ ‫فَسِيرُواْ فِي الَرْضِ فَانظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ(‪ )36‬إِن َتحْ ِرصْ َ‬ ‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِ ْم لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ َبلَى‬ ‫سمُواْ بِالّلهِ َ‬ ‫ل َومَا َلهُم مّن نّاصِرِينَ(‪ )37‬وََأقْ َ‬ ‫ضّ‬ ‫َيهْدِي مَن ُي ِ‬ ‫س لَ َيعَْلمُونَ(‪ )38‬لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي يَخْتَِلفُونَ فِي ِه وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُواْ‬ ‫حقّا وَلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬ ‫وَعْدًا عَلَيْهِ َ‬ ‫شيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن ّنقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ(‪)40‬‬ ‫أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ(‪ )39‬إِ ّنمَا َقوْلُنَا ِل َ‬

‫( ‪)3/115‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وقال الذين أشركوا ‪ :‬هم كفار قريش ومشركوها‪.‬‬ ‫ول حرمنا من دونه من شيء‪ :‬كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات‪.‬‬ ‫فهل على الرّسل إل البلغ‪ :‬أي ما على الرّسل إل البلغ فالستفهام للنفي‪.‬‬ ‫واجتنبوا الطاغوت ‪ :‬أي عبادة الصنام والوثان‪.‬‬ ‫حقت عليه الضللة‪ :‬أي وجبت في علم ال أزل‪.‬‬ ‫جهد أيمانهم‪ :‬أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم‪.‬‬ ‫بلى وعدا عليه حقا‪ :‬أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعدا وأحقه حقا‪ .‬فهو كائن ل محالة‪.‬‬ ‫يختلفون فيه ‪ :‬أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك‪.‬‬ ‫انهم كانوا كاذبين ‪ :‬أي في قولهم "ل نبعث بعد الموت"‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مُخْبرا عنهم {وقال الذين أشركوا} أي‬ ‫مع ال آلهةً أخرى وهي أصنامهم كهبل واللت والعُزّى وقالوا لو شاء ال عدم إشراكنا به ما‬ ‫أشركنا نحن ول آباؤنا‪ ،‬ول حرمنا من دون تحريمه شيئا فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة ال تعالى‪،‬‬ ‫أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعا عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى‪،‬‬ ‫والمران محتملن‪ .‬والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام ال قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك‬ ‫أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم‬ ‫يعذبهم عليها بعد ليس دليلً على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من المم والشعوب الكافرة قالوا‬ ‫قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم ال‪ ،‬فدل ذلك قطعا على عدم رضاه‬ ‫بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى في سورة النعام ردا على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم‬ ‫حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬كذلك فعل‬ ‫الذين ‪1‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الشارة بذلك إلى الشراك وتحريمهم أشياء من تلقاء أنفسهم أي‪ :‬كفعل هؤلء فعل الذين من‬ ‫قبلهم ممن مكروا برسلهم وأهلكم ال جل جلله‪.‬‬

‫( ‪)3/116‬‬ ‫من قبلهم} من المم السابقة قالوا قول هؤلء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم ال بالعذاب‪ .‬وقوله‬ ‫{فهل ‪ 1‬على الرسل ‪ 2‬إل البلغ المبين} أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك‬ ‫ول إلزامهم بالشرع وإنما عليه أن يبلغهم أمر ال تعالى ونهيه ل غير‪ ..‬فلذا كان في الجملة تسلية‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه‪ .‬هذا‬ ‫ما دلت عليه الية الولى في هذا السياق (‪ )35‬وقوله في الية الثانية (‪{ )36‬ولقد بعثنا ‪ 3‬في كل‬ ‫أمةٍ رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت} فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من المم من إرسال‬ ‫رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلكها‪ .‬كما أخبر عن وحدة‬ ‫الدعوة بين الرسل وهي ل إله إل ال المفسره بعبادة ال تعالى وحده‪ ،‬واجتناب الطاغوت وهو كل‬ ‫ما عبد من دون ال مما دعا الشيطان إلى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من‬ ‫جهة ومن طريق أوليائه من ‪ 4‬الناس من جهة أخرى‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فمنهم} أي من المم المرسل إليهم {من هدى ال} فعرف الحق واعتقده وعمل به‬ ‫فنجا وسعد‪{ ،‬ومنهم من حقت عليه الضللة ‪ }5‬أزلً في كتاب المقادير لنه أصر على الضلل‬ ‫ل ل أمل في‬ ‫وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه ال لذلك التوفيق فضلّ ضل ً‬ ‫هدايته‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} أمرٌ لكفار قريش‬ ‫المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمرٌ لهم أن يسيروا في الرض جنوبا‬ ‫أو شمالً فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال‪،‬‬ ‫ومدين ولوط وفرعون في الغرب‪ .‬وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمّ عنه‪{ :‬إن‬ ‫تحرص} يا رسولنا‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الستفهام إنكاري بمعنى النفي‪ ،‬ولذا جاء السلم بعده أي‪ :‬ما على الرسل إل البلغ‪ ،‬أي‪ :‬ليس‬ ‫عليهم هداية الخلق إذ ل يملكون ذلك ولم يكلفوا به وإنما كلفوا بالبلغ والبيان‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية‪{ :‬فهل على الرسل‪ }...‬تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم وتعليم وفيها أيضا‬ ‫التحريض بإبلغ المشركين‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذا الكلم معطوف على قوله‪{ :‬كذلك فعل الذين من قبلهم} متضمن بيانا لسنة ال تعالى في‬ ‫إرسال الرسل لحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المؤمنين‪ ،‬وهلك الكافرين المكذبين‪.‬‬ ‫‪ 4‬أولياء الشيطان‪ :‬هم الكهان ودعاة الضلل الذين يصدّون عن سبيل ال بتزيين الباطل وتحسين‬ ‫الشرك والخرافة‪.‬‬ ‫‪ 5‬في هذا ردّ على القدرية نفاة القدر إذ معنى‪{ :‬حقت}‪ :‬وجبت له أزل في كتاب المقادير‪.‬‬

‫( ‪)3/117‬‬ ‫{على هداهم} أي هدايتهم إلى الحق {فإن ال ل يهدي من يضل ‪ }1‬فخفف على نفسك وهون عليها‬ ‫فل تأسف ول تحزن وادع إلى ربك في غير حرص يضر بك وقوله {ل يهدي من يضل} أي ل‬ ‫يقدر أحد أن يهدي من أضله ال‪ ،‬لن اضلل ال تعالى يكون على سنن خاصة ل تقبل التبديل‬

‫ول التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله‪ .‬وقوله {وما لهم من ناصرين} أي وليس لولئك الضلل‬ ‫الذين أضلهم ال حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل‬ ‫بهم من خسرانٍ وحرمان‪ .‬وقوله تعالى في الية (‪{ )38‬وأقسموا بال جهد ‪ 2‬أيمانهم ل يبعث ال‬ ‫من يموت} اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الخر أصحاب القلوب المنكرة‪ ،‬ومعنى‬ ‫{أقسموا بال جهد أيمانهم ‪ }3‬أي حلفوا أشد اليمان إذ كانوا في المور التافهة يحلفون بآلهتهم‬ ‫وآبائهم‪ .‬وإذا كان المر ذا خطر وشأن أقسموا بال وبالغوا في القسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم‬ ‫والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا ل يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد ال تعالى عليهم بقوله‬ ‫{بلى} أي تبعثون وعد ال حقا فل بد ناجز {ولكن أكثر الناس ل يعلمون ‪ }4‬فلذا ينفون البعث‬ ‫وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار ال تعالى إلى بعض‬ ‫تلك العلل في قوله‪{ :‬ليبين لهم الذي يختلفون فيه} فلول البعث الخر ما عرف المُحق من المبطل‬ ‫في هذه الحياة والخلف سائد ودائم بين الناس‪ .‬هذا أولً‪ .‬وثانيا‪{ :‬وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا‬ ‫كاذبين ‪ }5‬في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما‬ ‫استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن‬ ‫المر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون‪ :‬إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون‪ ،‬نقول له‬ ‫كن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء في السبع {يهدي} بضم الياء مبنيا للمجهول وقرىء‪{ :‬يهدي} بفتح الياء مبنيا للمعلوم‬ ‫وقراءة ل يهدي هي التي فسر بها في التفسير‪ .‬وقراءة يهدي‪ ،‬أي‪ :‬أن ال إذا كتب على عبد شقاء‬ ‫ل يهديه للخلص منه‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن رجلً من المسلمين كان له دَين على مشرك فقاضاه منه وقال في بعض كلمه‪ :‬والذي‬ ‫أرجوه بعد الموت‪ ،‬أنه لكذا وكذا فأقسم المشرك بال‪ :‬ل يبعث ال من يموت‪ ،‬فنزلت الية‪.‬‬ ‫ل قال لبن عباس‪ :‬إنّ ناسا يزعمون أنّ عليا مبعوث بعد الموت‬ ‫‪ 3‬ذكر القرطبي عن قتادة أن رج ً‬ ‫قبل الساعة يتأوّلون هذه الية فقال ابن عباس‪ :‬كذب أولئك إنما هذه الية عامة للناس فلو كان‬ ‫عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ول قسمنا ميراثه‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬قال ال‬ ‫تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك‪ ،‬وشتمني ولم يكن له ذلك"‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬في نفيهم البعث وإقسامهم على عدم وقوعه‪ ،‬وفي إنكارهم التوحيد والنبوّة أيضا‪.‬‬

‫( ‪)3/118‬‬

‫فيكون فورا‪ ،‬والبعث الخر من ذلك‪ .‬هذا ما دل عليه قوله في الية (‪{ )40‬إنما قولنا لشيء إذا‬ ‫أردناه أن نقول له كن فيكون ‪ }1‬ول يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن ال‬ ‫تعالى إذا أراد شيئا علمه أولً ثم قال له كن فهو يكون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة اللهية‪.‬‬ ‫‪ -2‬تفسير ل إله إل ال‪.‬‬ ‫‪ -3‬التحذير من تعمد الضلل وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله ال ل ترجى‬ ‫هدايته‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان بعض الحكم في البعث الخر‪.‬‬ ‫‪ -5‬ل يستعظم على ال خلق شيء وإيجاده‪ ،‬لنه يوجد بكلمة التكوين فقط‪.‬‬ ‫وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن َبعْدِ مَا ظُِلمُواْ لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَلَأَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُواْ‬ ‫ن صَبَرُو ْا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ(‪َ )42‬ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ رِجَالً نّوحِي إِلَ ْي ِهمْ‬ ‫َيعَْلمُونَ(‪ )41‬الّذِي َ‬ ‫ت وَالزّبُ ِر وَأَنزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ‬ ‫فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ(‪ )43‬بِالْبَيّنَا ِ‬ ‫إِلَ ْيهِ ْم وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ(‪)44‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫والذين هاجروا في ال ‪ :‬أي خرجوا من مكة في سبيل ال نصرةً لدينه وإقامته بين الناس‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال أهل العلم في الية دليل على عدم خلق القرآن إذ لو كان مخلوقا لكان قوله‪{ :‬كن} مخلوقا‪،‬‬ ‫ول يحتاج إلى قول ثانٍ‪ ،‬والثاني يحتاج إلى ثالث وتسلسل وهذا محال وفيها دليل على أن ال‬ ‫مريد لجميع الحوادث خيرها وشرها نافعها وضارها‪ ،‬والدليل أن من رأى في سلطانه ما يكرهه‬ ‫ول يريده فلحد شيئين إما لكونه جاهلً ل يدري وإما لكونه مغلويا ل يطيق وهذا محال في حقه‬ ‫سبحانه وتعالى وبذلك تأكد أن ال مريد لكل ما يجري من أحداث في الملكوت وحكمته ل يخلو‬ ‫منها شيء‪.‬‬

‫( ‪)3/119‬‬ ‫لنبوئنهم في الدنيا حسنة‪ :‬أي لننزلنهم دارا حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم‬ ‫الية‪.‬‬ ‫الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ‪ :‬أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار‬ ‫هجرتهم‪.‬‬

‫فاسألوا أهل الذكر‪ :‬أي أيها الشاكوّن فيما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم فاسألوا أهل التوراة‬ ‫والنجيل لزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا‬ ‫بشرا مثله‪.‬‬ ‫بالبينات والزبر‪ :‬أي أرسلناهم بشرا بالبينات والزبر ‪ 1‬لهداية الناس‪.‬‬ ‫وأنزلنا إليك الذكر ‪ :‬أي القرآن‪.‬‬ ‫لتبين للناس ما نزل إليهم‪ :‬علة لنزال الذكر إذ وظيفة الرسل‪ ،‬البيان‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫إنه بعد اشتداد الذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم‪ ،‬أذن ال تعالى على لسان رسوله‬ ‫للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم‬ ‫وتشجيعا على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل {والذين هاجروا ‪ 2‬في ال} أي في ذات ال‬ ‫ومن أجل عبادة ال ونصرة دينه {من بعد ما ظلموا} أي من قبل المشركين {لنبوئنهم} أي لننزلهم‬ ‫ولنسكننهم {في الدنيا حسنة} وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقا حسنا هذا بالنسبة لمن نزلت‬ ‫‪ 3‬فيهم الية‪ ،‬وإل فكل من هاجر في ال ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى‪{ :‬ومن يهاجر‬ ‫في سبيل ال يجد في الرض مراغما كثيرا وسعة} أي في العيش والرزق {ولجر الخرة} المعد‬ ‫لمن هاجر في سيبل‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬الزّبر}‪ :‬الكتب‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬تركوا الوطن‪ ،‬والهل‪ ،‬والقرابة كما تركوا السيئات‪ .‬ومعنى‪ :‬في ال أي‪ :‬لجل ال إذ بدار‬ ‫الكفر ل يتمكنون من عباده ال تعالى فإذا هاجروا تمكنوا فكانت هجرتهم إذا ل أي لعبادته التي‬ ‫خلقهم من أجلها‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل‪ :‬نزلت الية في صهيب وبلل وعمار‪ ،‬وخبّاب إذ عذّبهم المشركون أشد العذاب حتى‬ ‫هاجروا‪ ،‬ويدخل في هذا أيضا أبو جندل وغيره‪.‬‬

‫( ‪)3/120‬‬ ‫ال {أكبر لو كانوا يعلمون ‪ .}1‬هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله‪:‬‬ ‫{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} ‪ 2‬بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لنهم صبروا أولً على‬ ‫الذى في مكة ثم لما أذن لهم بالهجرة هاجروا متوكلين على ال تعالى مفوضين أمورهم إليه‪،‬‬ ‫واثقين في وعده‪ .‬هذا ما دلت عليه اليتان (‪ .)42( ،)41‬وأما الية الثالثة (‪ )43‬والرابعة من هذا‬ ‫السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين كيف يرسل ال محمدا رسولً‬ ‫وهو بشر مثلنا لم ل يرسل ملكا‪ ..‬وهو ما أخبر ال تعالى في قوله {وما أرسلنا من قبلك} أي من‬

‫الرسل {إل رجالً} ل ملئكة {نوحي إليهم} بأمرنا وقوله‪{ :‬فاسألوا} أيها المشركون المنكرون أن‬ ‫يكون الرسول بشرا‪ ،‬اسألوا أهل الذكر وهو الكتاب ‪ 3‬الول أي أسألوا علماء أهل الكتاب اليهود‬ ‫والنصارى هل كان ال تعالى يرسل الرسل من غير البشر {إن كنتم ل تعمون} فإنهم يخبرونكم‬ ‫وما موسى ول عيسى إل بشر‪ ،‬وقوله‪{ :‬بالبينات والزبر} أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر‬ ‫بالبينات أي الحجج والدلئل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا‪ .‬والزبر أي الكتب‪.‬‬ ‫ثم يقول تعالى لرسوله‪{ :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} وفي هذا تقريرٌ لنبوته‬ ‫وقوله‪{ :‬ولعلهم يتفكرون} فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا‪ .‬ويتوبوا إلى ربهم فينجوا‬ ‫ويسعدوا‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪-1‬فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب سؤال أهل العلم على كل من ل يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم‪.‬‬ ‫‪ -3‬السنة ل غنى عنها لنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا صالح لكلّ من المؤمنين ومعذبيهم‪ ،‬غير أنه في المؤمنين أظهر إذ كان عمر رضي ال عنه‬ ‫إذا أعطى المهاجرين العطاء قال‪ :‬هذا ما وعدكم ال في الدنيا وما ادخر لكم في الخرة أكثر ثم‬ ‫يتلو هذه الية‪{ :‬ولجر الخرة خير لو كانوا يعلمون}‪.‬‬ ‫‪ 2‬قال العلماء‪ :‬خيارُ المؤمنين من إذا نابه أمر صبر وإذا عجز عن أمر توكل وهو المراد من‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون}‪.‬‬ ‫‪ 3‬يدخل في أهل الذكر أهل القرآن‪ ،‬وهم علماء هذه المّة‪ ،‬وبهذا أمر ال تعالى غير العالمين أن‬ ‫عذّب‪.‬‬ ‫يسألوا أهل العلم‪ ،‬وأمر العالمين أن يعلموا ويبيّنوا ومن كتم منهم ُ‬

‫( ‪)3/121‬‬ ‫شعُرُونَ(‬ ‫ث لَ يَ ْ‬ ‫سفَ الّلهُ ِبهِ ُم الَ ْرضَ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْل َعذَابُ مِنْ حَ ْي ُ‬ ‫َأفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُواْ السّيّئَاتِ أَن يَخْ ِ‬ ‫خ ّوفٍ فَإِنّ رَ ّب ُكمْ لَرؤُوفٌ رّحِيمٌ(‬ ‫علَى َت َ‬ ‫خذَهُمْ َ‬ ‫خذَهُمْ فِي َتقَلّ ِبهِمْ َفمَا هُم ِب ُمعْجِزِينَ(‪َ )46‬أوْ يَأْ ُ‬ ‫‪َ )45‬أوْ يَأْ ُ‬ ‫شمَآ ِئلِ سُجّدًا لِلّهِ وَهُمْ‬ ‫شيْءٍ يَ َتفَيّأُ ظِلَلُهُ عَنِ الْ َيمِينِ وَالْ ّ‬ ‫‪َ )47‬أوَ لَمْ يَ َروْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن َ‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ مِن دَآبّ ٍة وَا ْلمَل ِئكَ ُة وَهُ ْم لَ يَسْ َتكْبِرُونَ(‬ ‫جدُ مَا فِي ال ّ‬ ‫دَاخِرُونَ(‪ )48‬وَلِلّهِ يَسْ ُ‬ ‫‪ )49‬يَخَافُونَ رَ ّبهُم مّن َف ْو ِقهِ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ(‪)50‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مكروا السيئات‪ :‬أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها‪.‬‬

‫في تقلبهم‪ :‬أي في البلد مسافرين للتجارة وغيرها‪.‬‬ ‫على تخوف‪ :‬أي تنقص‪.‬‬ ‫يتفيئوا ظلله‪ .:‬أي تتميل من جهةٍ إلى جهة‪.‬‬ ‫سجدا ل‪ :‬أي خضعا ل كما أراد منهم‪.‬‬ ‫داخرون‪ :‬أي صاغرون ذليلون‪.‬‬ ‫من فوقهم‪ :‬من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتا وسلطانا وقهرا‪.‬‬ ‫ها يؤمرون‪ :‬أي ما يأمرهم ربهم تعالى به‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في تخويف المشركين وتُذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة‬ ‫والبعث والجزاء‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أفأمن الذين مكروا ‪ }1‬المكرات‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال السلم‪.‬‬

‫( ‪)3/122‬‬ ‫{السيئات} من محاولة قتل النبي صلى ال عليه وسلم والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم‬ ‫المؤمنين وتعذيب بعضهم‪ ،‬أفأمنوا {أن يخسف ال بهم الرض} من تحتهم فيقرون في أعمالها‪{ ،‬أو‬ ‫يأتيهم العذاب من حيث ل يشعرون ‪ }1‬ول يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم‬ ‫أو قحط يذهب بما لهم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬أو يأخذهم في تقلبهم} أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين‬ ‫آيبين من بلدٍ إلى بلد‪{ .‬فما هم بمعجزين} ‪ 2‬له تعالى لو أراد أخذهم وإهلكهم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬أو‬ ‫يأخذهم على تخوف} أي ‪ 3‬تنقص ‪ 4‬بأن يهلكهم واحدا بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى ل‬ ‫يبقى منهم أحدا‪ ،‬وقد أخذ منهم ببدرٍ من أخذ وفي أحد‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬فإن ربكم لرؤوف رحيم}‬ ‫تذكير لهم برأفته ورحمته إذ لو ل هما لنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبةٍ أو إمهال‬ ‫لرجوع إلى الحق‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬أو لم يروا إلى ما خلق ال من شيء ‪ }5‬من شجرٍ وجبل وإنسانٍ‬ ‫وحيوان {يتفيؤا ظلله} بالصباح والمساء {عن اليمين والشمائل} " جمع شمال" {سجدا ل} خضعا‬ ‫بظللهم {وهم داخرون ‪ }6‬أي صاغرون ذليلون‪ .‬أما يكفيهم ذلك دللة على خضوعهم ل وذلتهم‬ ‫بين يديه‪ ،‬فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ول‬ ‫يسجد ما في السموات وما في الرض من دابة} أي ول ل لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما‬ ‫يريده ال تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره من دابةٍ أي من كل ما‬ ‫يدب من كائن على هذه الرض {والملئكة}‪7‬‬ ‫__________‬

‫‪ 1‬وقد تمّ لهم وذاقوا مُرّا يوم بدر بقتل صناديدهم وأسرهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬بسابقين ال ول فائتيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬التخوف‪ :‬مصدر لفعل تخوّف إذا حاف‪ ،‬ومصدر لتخوّف المتعدي الذي بمعنى تنقص‪ ،‬وهو لغة‬ ‫هذيل‪ ،‬فللية معنيان‪ .‬الول‪ :‬أن يكون المعنى‪ :‬يأخذهم العذاب وهم في حالة توقع بنزول العذاب‬ ‫لوجود أماراته كالرعد والبرق مثل‪ .‬والثاني‪ :‬أن يكون المعنى بأن يأخذهم وهم في حالة تنقص‬ ‫بأن يأخذ القرية فتخاف القرية الخرى وهو واضح المعنى في التفسير‪.‬‬ ‫‪ 4‬ويروى عن ابن عباس رضي ال عنهما تفسير التخوّف‪ :‬بأن يعاقب أو يتجاوز‪ ،‬ويشهد له‬ ‫الجملة التعليلية وهي {فإنّ ربكم لرؤوف رحيم} فهو ل يعاجل بالعقوبة‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬من أي جسم قائم له ظل كشجرة أو جبل ومعنى تفيء الظلل‪ :‬ميلنه من جانب إلى جانب‬ ‫ومنه سمي الظل بالعشي فيء‪ :‬لنه فاء من المشرق إلى المغرب أي‪ .‬رجع‪ ،‬والفيء‪ :‬الغنائم التي‬ ‫ترجع إلى المسلمين من الكافرين لنّهم أحق بها فرجعت إليهم‪.‬‬ ‫‪ 6‬أي‪ :‬خاضعون‪ ،‬والدخور‪ :‬الصغار والذل يقال‪ :‬دخر الرجل فهو داخر وأدخره ال‪ .‬قال ذو‬ ‫الرمّة‪:‬‬ ‫فلم يبق إل داخر في مخيس‬ ‫ومنجحر في غير أرضك في حجر‬ ‫والشاهد في قوله داخر أي خاضع ذليل والمخيس بناء من مدر يسجن فيه‬ ‫‪ 7‬قيل‪ :‬المراد بالملئكة‪ :‬ملئكة الرض‪ ،‬وخضهم بالذكر وهم داخلون في عموم ما في السموات‬ ‫وما في الرض لشرف منزلتهم عند ربّهم جلّ جلله‪ ،‬والملئكة يطيرون ول يَدِبّون‪ ،‬فلذا أخرجوا‬ ‫أيضا بالذكر‪.‬‬

‫( ‪)3/123‬‬ ‫على شرفهم يسجدون {وهم ل يستكبرون} عن عبادة ربهم {ويخافون ربهم من فوقهم} إذ هو العلي‬ ‫العلى وكل الخلق تحته‪{ .‬ويفعلون ما يؤمرون} فل يعصون ربهم ما أمرهم‪ .‬إذا كان هذا حال‬ ‫الملئكة فما بال هؤلء المشركين يلجون في الفساد والستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر‬ ‫سائر المخلوقات‪ ،‬وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة المن من مكر ال‪.‬‬ ‫‪ -2‬كل شيء ساجد ل‪ ،‬أي خاضع لما يريده منهم‪ ،‬إل أن السجود الطوعي الختياري هو الذي‬ ‫يثاب عليه العبد‪ ،‬أما الطاعة الل إرادية فل ثواب فيها ول عقاب‪.‬‬

‫‪ -3‬فضل السجود الطوعي الختياري‪.‬‬ ‫‪ -4‬مشروعية السجود عند هذه الية‪ :‬إذا قرأ القارىء أو المستمع‪{ :‬ويخافون ربهم من فوقهم‬ ‫ويفعلون ما يؤمرون}‪ ،‬عليه أن يسجد إن كان متطهرا إلى القبلة إن أمكن ويسبح في السجود‬ ‫ويكبر في الخفض والرفع ول يسلم‪ ،‬ول يسجد عند طلوع الشمس ول عند غروبها‪.‬‬ ‫سمَاوَاتِ‬ ‫حدٌ فَإيّايَ فَارْهَبُونِ(‪ )51‬وَلَهُ مَا فِي الْ ّ‬ ‫خذُواْ‪ 1‬إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِ ّنمَا ُهوَ إِل ٌه وَا ِ‬ ‫َوقَالَ الّل ُه لَ تَتّ ِ‬ ‫سكُمُ الضّرّ‬ ‫ن وَاصِبًا َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ(‪َ )52‬ومَا ِبكُم مّن ّن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ُثمّ إِذَا مَ ّ‬ ‫ض وَلَهُ الدّي ُ‬ ‫وَالَرْ ِ‬ ‫شفَ الضّرّ عَنكُمْ ِإذَا فَرِيقٌ مّنكُم بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ(‪ )54‬لِ َي ْكفُرُواْ ِبمَا‬ ‫فَإِلَيْهِ َتجْأَرُونَ(‪ُ )53‬ثمّ إِذَا كَ َ‬ ‫جعَلُونَ‬ ‫سوْفَ َتعَْلمُونَ(‪ )55‬وَيَ ْ‬ ‫آتَيْنَا ُهمْ فَ َتمَ ّتعُواْ َف َ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬جائز أن يكون سكّان شرق الجزيرة من العرب قد انتقلت إليهم عقيدة المجوس المبنية على إله‬ ‫الخير وهو يزدان وإله الشر الذي هو أهرمُنْ وذلك لمجاورتهم لحكومة المجوس الممتدة إلى‬ ‫العراق‪ ،‬ويكون النهي في الية موجها إليهم‪.‬‬

‫( ‪)3/124‬‬ ‫عمّا كُنتُمْ َتفْتَرُونَ(‪)56‬‬ ‫ِلمَا لَ َيعَْلمُونَ َنصِيبًا ّممّا رَ َزقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَُتسْأَلُنّ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ل تتخذوا إلهين‪ :‬أي تعبدونهما إذ ليس لكم إل إله واحد‪.‬‬ ‫وله ما في السموات والرض‪ :‬أي خلقا وملكا‪ ،‬إذا فما تعبدونه مع ال هو ل ولم يأذن بعبادته‪.‬‬ ‫وله الدين واصبا‪ :‬أي خالصا دائما واجبا‪.‬‬ ‫فإليه تجأرون‪ :‬أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه‪.‬‬ ‫فتمتعوا فسوف تعلمون ‪ :‬تهديدٌ على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء ال تعالى‪.‬‬ ‫ويجعلون لما ل يعلمون نصيبا‪ :‬أي يجعلون للهتهم نصيبا من الحرث والنعام‪.‬‬ ‫عما كنتم تفترون‪ :‬أي تختلقون بالكذب وتفترون على ال عز وجل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلن الشرك أخبرهم أن ال ربهم رب كل شيء قد قال لهم‪ :‬أيها‬ ‫الناس {ل تتخذوا إلهين اثنين} فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي ل تعبدوا إلهين بل اعبدوا إلها‬ ‫واحدا وهو ال إذ ليس من إله إل هو فكيف تتخذون إلهين والحال انه {إله واحد} ل غير وهو ال‬ ‫الخالق الرازق المالك‪ ،‬ومن عداه من مخلوقاته كيف تُسوّى به وتُعبَد معه؟ وقوله تعالى‪{ :‬فإياي‬ ‫فارهبون ‪ }1‬أي ارهبوني وحدي ول ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء‪ ،‬وليس لغيري شيء فأنا‬ ‫المحيي المميت‪ ،‬الضار النافع‪ ،‬يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من ل يستحق أن يُرهب‬

‫لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وله ما في السموات والرض}‪ 2‬برهان‬ ‫على بطلن رهبة غيره أو‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الرهبة‪ :‬الخوف‪ ،‬فمعنى {فارهبون}‪ :‬خافوني ول تخافوا سواي‪ ،‬وتقديم المفعول‪{ :‬فإيايّ} مؤذن‬ ‫بحصر الرهبة في ال تعالى ونفيها عمّن سواه‪.‬‬ ‫‪ 2‬في الية تقرير وحدانية ال تعالى إذ ما في السموات له‪ ،‬وما في الرض له فهو إذا إله واحد‬ ‫وبطل التعدد الذي يراه المجوس‪.‬‬

‫( ‪)3/125‬‬ ‫الرغبة في سواه ما دام له ما في السموات والرض خلقا وملكا‪ .‬وقوله {وله الدين واصبا} ‪ 1‬أي‬ ‫العبادة والطاعة دائما ثابتا واجبا‪ ،‬أل ل الدين الخالص‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬أفغير ال تتقون} يوبخهم‬ ‫على خوف سواه وهو الذي يجب أن يرهب ويخاف لنه الملك الحق القادر على إعطاء النعم‬ ‫وسلبها‪ ،‬فكيف يُتقى من ل يملك ضرا ول نفعا ويُعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء‪،‬‬ ‫وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن‪ .‬وقوله‪{ :‬وما بكم من نعمةٍ فمن ال}‪ 2‬يخبرهم تعالى بالواقع‬ ‫الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم من نعمة جلت أو صغرت من صح ٍة أو مالٍ أو ولد فهي من‬ ‫ال تعالى خالقهم وواهبهم حياتهم‪ ،‬وليست من أحدٍ غيره‪ ،‬ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو‬ ‫أنهم إذا مسهم الضر من فقرٍ أو مرض أو تغير حال كخوف غرقٍ في البحر فإنهم يرفعون‬ ‫أصواتهم إلى أعلها مستغيثين بال سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم‬ ‫فقال عز وجل‪{ :‬ثم إذا مسكم الضر فإليه} دون غيره {تجأرون} برفع أصواتكم بالدعاء والستغاثة‬ ‫به سبحانه وتعالى وقوله‪{ .‬ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ} كبير {منكم بربهم يشركون}‬ ‫فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين ال الذي كشف ضرهم وأنجاهم من هلكتهم‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬ليكفروا بما آتيناهم}‪ 3‬أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم ال من نع ٍم وما‬ ‫أنجاهم من محن‪ .‬أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم ينسى له‬ ‫ذلك كله‪ ،‬ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذا {فتمتعوا ‪ }4‬أيها الكافرون {فسوف تعلمون}‬ ‫عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة ال وذكره وشكره‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ويجعلون لما ل يعلمون‬ ‫نصنيبا مما رزقناهم} وهذا ذكرٌ لعيب آخر من عيوبهم وباطلٍ من باطلهم أنهم يجعلون لوثانهم‬ ‫التي ل يعلمون عنها شيئا من نفعٍ أو ضر أو اعطاء أو منع أو إماتة أو إحياء يجعلونها لها طاعةً‬ ‫للشيطان نصيبا وحظا من أموالهم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لفظ الدّين هنا‪ :‬صالح لن يكون الطاعة يقال‪ :‬دان فلن للملك‪ :‬أطاعه وصالح لن يكون‬

‫الجزاء كقوله‪ { :‬مالك يوم الدين} وصالح لن يكون الديانة والكل ل‪ .‬ل شريك له‪ ،‬فالطاعة واجبة‬ ‫له والجزاء هو الذي يملكه والديانة هو شارعها فهي له دون سواه‪.‬‬ ‫‪ 2‬فيه إشارة إلى بطلن إله الخير الذي يدين له المجوس الذين يقولون الخير من إله الخير‪ ،‬والشر‬ ‫من إله الشر‪.‬‬ ‫‪ 3‬وجائز أن تكون اللم‪ :‬لم كي التعليلية‪.‬‬ ‫‪ 4‬المر للتهديد‪.‬‬

‫( ‪)3/126‬‬ ‫يتقربون به إليها فسيبوا لها السوائب‪ ،‬وبحروا لها البحائر من النعام‪ ،‬وجعلوا لها من الحرث‬ ‫والغرس كذلك كما جاء ذلك في سورة النعام والمائدة قبلها‪ :‬وقوله تعالى‪{ :‬تال لتسئلن ‪ 1‬عما‬ ‫كنتم تفترون} أقسم الجبار لهم تهديدا لهم وتوعدا أنهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون أي‬ ‫من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه‬ ‫ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير التوحيد بعبادة ال تعالى وحده‪ -2 .‬وجوب الرهبة من ال دون سواه‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب الدين ل إذ هو الله الحق دون غيره‪.‬‬ ‫‪ -4‬كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من ال سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪ -5‬تهديد المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم‪.‬‬ ‫‪ -6‬التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والعطاء والمنع‪.‬‬ ‫سوَدّا وَ ُهوَ‬ ‫ج ُههُ مُ ْ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫ظّ‬ ‫حدُهُمْ بِالُنثَى َ‬ ‫جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وََلهُم مّا يَشْ َتهُونَ(‪ )57‬وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ‬ ‫وَيَ ْ‬ ‫سكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ َألَ سَاء مَا‬ ‫كَظِيمٌ(‪ )58‬يَ َتوَارَى مِنَ ا ْل َقوْمِ مِن سُوءِ مَا ُبشّرَ بِهِ أَ ُيمْ ِ‬ ‫حكِيمُ(‪ )60‬وََلوْ‬ ‫ل الَعَْلىَ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬ ‫سوْءِ وَلِلّهِ ا ْلمَ َث ُ‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ‬ ‫ح ُكمُونَ(‪ )59‬لِلّذِي َ‬ ‫يَ ْ‬ ‫سمّى فَإِذَا جَاء أَجَُلهُمْ لَ‬ ‫جلٍ مّ َ‬ ‫ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُ ْل ِمهِم مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّ ٍة وََلكِن ُيؤَخّرُ ُهمْ إلَى أَ َ‬ ‫جعَلُونَ لِّلهِ مَا َيكْرَهُونَ‬ ‫يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ(‪ )61‬وَيَ ْ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا سؤال توبيخ ويتم في عرصات القيامة أو في النار‪.‬‬

‫( ‪)3/127‬‬

‫حسْنَى لَ جَرَمَ أَنّ َلهُمُ الْنّا َر وَأَ ّنهُم مّفْرَطُونَ(‪)62‬‬ ‫وَ َتصِفُ أَلْسِنَ ُت ُهمُ ا ْلكَ ِذبَ أَنّ َل ُهمُ الْ ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ويجعلون ل البنات ‪ :‬إذ قالوا الملئكة بنات ال‪.‬‬ ‫ولهم ما يشتهون‪ :‬أي الذكور من الولد‪.‬‬ ‫ظل وجهه مسودا‪ :‬أي متغيرا بالسواد لما عليه من كرب‪.‬‬ ‫وهو كظيم‪ :‬أي ممتلىء بالغم‪.‬‬ ‫أم يدسه في التراب ‪ :‬أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأُد‪.‬‬ ‫مثل السوء ‪ :‬أي الصفة القبيحة‪.‬‬ ‫ول المثل العلى‪ :‬أي الصفة العليا وهي ل إله إل ال‪.‬‬ ‫أن لهم الحسنى ‪ :‬أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‪.‬‬ ‫وأنهم مفرطون‪ :‬أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقاداتهم وسلوكهم فقال تعالى‪{ :‬ويجعلون ‪ 1‬ل‬ ‫البنات‪ -‬سبحانه‪ -‬ولهم ما يشتهون ‪ }2‬وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى ال‬ ‫تعالى البنات‪ ،‬إذ قالوا الملئكة بنات ال في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم‪ ،‬حتى إذا بشر‬ ‫أحدهم بأنثى بأن أُخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملً في غم وكرب {وجهه مسودا وهو‬ ‫كظيم}‪ 3‬ممتلىء بالغم والهم‪{ .‬يتوارى} أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفا من المعرة‪ ،‬وذلك‬ ‫{من سوء ما بشر به} وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبَشرّ به‪ :‬إما أن يمسكه‪ .‬أن‬ ‫يبقيه في بيته بين‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية نزلت في خزاعة وكنانة إذ زعموا أنّ الملئكة بنات ال‪ ،‬وكانوا يقولون‪ :‬ألحقوا‬ ‫البنات بالبنات‪.‬‬ ‫‪( 2‬ما) موصولة‪ ،‬وهو وصلته مبتدأ في محل رفع‪ ،‬والخبر متعلّق الجار والمجرور أي‪ :‬ثابت‬ ‫لهم‪.‬‬ ‫‪ 3‬الكظيم‪ :‬مشتق من الكظامة وهو شدّ فم القربة‪ ،‬إذا الكظيم هو المغموم الذي يطبق فاه فل يتكلّم‬ ‫من الغمّ‪.‬‬

‫( ‪)3/128‬‬ ‫أولده {على هون} أي مذلة وهوان‪ ،‬وإما أن {يدسه في التراب}‪ 1‬أي يدفنه حيا وهو الوأد‬ ‫المعروف عندهم‪ .‬قال تعالى منددا بهذا الجرام‪{ :‬أل ساء ما يحكمون} في حكمهم هذا من جهة‬

‫نسبة البنات ل وتبرّئهم منها‪ ،‬ومن جهة وأْد البنات ‪ 2‬أو إذللهن‪ ،‬قبح حكمهم الجاهلي هذا من‬ ‫حكم‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪ )57‬وهي قوله‪{ :‬ويجعلون ل البنات} حيث قالوا الملئكة‬ ‫بنات ال {سبحانه} أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصاحبة فل ينبغي أن يكون له ولد ذكرا كان‬ ‫أو أنثى لنه رب كل شيء ومليكه فما الحاجة إلى الولد إذا؟ والية الثانية (‪ )58‬وهي قوله تعالى‪:‬‬ ‫{وإذا بشر أحدهم بالنثى ‪ 3‬ظل وجهه مسودا} أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم {وهو‬ ‫كظيم} أي ممتلىء بالغم والهم‪{ ،‬يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} أي من البنت {أيمسكه‬ ‫على هونٍ أم يدسه في التراب أل ساء ما يحكمون} وقوله تعالى‪{ :‬للذين ل يؤمنون بالخرة مثل‬ ‫السوء} يخبر تعالى أن الذين ل يؤمنون بالخرة وهم منكروا البعث الخر لهم المثل السوء ‪ 4‬أي‬ ‫الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لنهم ل يعملون خيرا ول يتركون شرا‪ ،‬لعدم إيمانهم‬ ‫بالحساب والجزاء فهؤلء لهم الصفة السوأى في كل شيء‪{ ،‬ول المثل ‪ 5‬العلى} أي الصفة‬ ‫الحسنى وهو أنه ل إله إل ال منزه عن النقائص رب كل شيء ومالكه‪ ،‬بيده الخير وهو على كل‬ ‫شيء قدير‪ ،‬ل شريك له ول ند له ول ولد وقوله‪{ :‬وهو العزيز الحكيم} ثناء على نفسه بأعظم‬ ‫وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده‪ ،‬وحكمه‬ ‫وقضائه ل إله إل هو ول رب سواه‪ .‬وقوله تعالى في الية (‪{ )61‬ولو يؤاخذ ال الناس بظلمهم ما‬ ‫ترك عليهما ‪ }6‬أي على الرض‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬دسّها‪ :‬إخفاؤها في التراب عن الناس حتى ل تعرف‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬من ابتلي من البنات بشيء‬ ‫فأحسن إليهن كنّ له سترا من ا النار يوم القيامة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬كانت مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء‪ ،‬وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهن‬ ‫وطمع غير الكفاء فيهن وكان صعصع بن ناجية عمّ الفرزدق إذا أحسّ بشيء من ذلك وجّه إلى‬ ‫والد البنت إبل يستحييها بذلك‪ ،‬قال الفرزدق يفتخر‪:‬‬ ‫وعمّىٍ الذي منع الوائدات‬ ‫فأحيى الوئيد فلم يوأد‬ ‫‪ 3‬تكرّر شرح هذه الية في التفسير سهوا وهو غير ضار‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬صفة السوء من الجهل والكفر‪.‬‬ ‫‪ 5‬إن قيل‪ :‬كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه عزّ وجلّ وقد قال {فل تضربوا ل المثال} فالجواب‪:‬‬ ‫إنّ قوله‪{ :‬فل تضربوا ل المثال} معناه المثال التي توجب الشباه والنقائص أي‪ :‬ل تضربوا له‬ ‫مثل يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق والمثل العلى هو وصفه تعالى بما ل شبيه له ول نظير‪.‬‬ ‫‪ 6‬قال ابن مسعود رضي ال عنه وقرأ هذه الية‪ :‬لو آخذ ال الخلئق بذنوب المذنبين لصاب‬ ‫العذاب جميع الخلق حتى الجعلن في جحرها‪ ،‬ولمسك المطار من السماء والنبات من الرض‬ ‫فماتت الدّواب ولكن ال يأخذ بالعفو والفضل كما قال {ويعفو من كثير}‪.‬‬

‫( ‪)3/129‬‬ ‫{من دابةٍ} أي نسمة تدب على الرض من إنسانٍ أو حيوان فهذه علة عدم مؤاخذة الذين ل‬ ‫يؤمنون بالخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الهمال تابع لحكم عالية أشار إلى ذلك بقوله‪:‬‬ ‫{ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد‪ ،‬وقد يكون‬ ‫نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الجل ل يستأخرون عنه ساعة ول يستقدمون عنه أخرى ثم‬ ‫يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عز وجل بظلم للعبيد‪.‬‬ ‫وآخر آية في هذا السياق (‪ )62‬تضمنت التنديد بسوء حال الذين ل يؤمنون بالخرة وذلك أنهم‬ ‫لجهلهم بال وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون ل تعالى ما يكرهونه لنفسهم من البنات‬ ‫والشركاء وسب الرسول وازدرائه‪ ،‬ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي الجنة يوم‬ ‫القيامة‪ .‬فرد تعالى على هذا الفتراء والهُراء السخيف بقوله‪{ :‬ل جرم} أي حقا وصدقا ول محالة‬ ‫{أن لهم النار} بدل الجنة {وأنهم مفرطون ‪ }1‬إليها مقدمون متروكون فيها أبدا‪ .‬هذا ما تضمنته‬ ‫الية في قوله تعالى‪{ :‬ويجعلون ل ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى ل جرم أن‬ ‫لهم النار وأنهم مفرَطون}‪ 2‬وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقا مفرِطون في الشر والفساد‬ ‫والكفر والضلل والنحطاط إلى أبعد حد‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان الحال الجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا إليه الولد والشريك‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمنا في الظلم والشر والفساد‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان سوء اعتقاد الذين ل يؤمنون بالخرة وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ويجعلون ل‬ ‫ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أفرط يفرط‪ :‬إذا تقدّم لطلب الماء فهو مفرط وهم مفرطون‪ ،‬وعليه فقوله تعالى‪{ :‬مُفرِطون}‬ ‫معناه يتقدّمون غيرهم إلى النار وهي قراءة ورش عن نافع وقرأ حفص مُفرَطون باسم المفعول‬ ‫ومعناه متروكون في النار منسيون فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬مفرّطون‪ :‬اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه‪.‬‬

‫( ‪)3/130‬‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪)63‬‬ ‫عمَاَل ُهمْ َف ُهوَ وَلِ ّيهُمُ الْ َيوْ َم وََلهُمْ َ‬ ‫تَاللّهِ َلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مّن قَبِْلكَ فَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬ ‫حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ(‪ )64‬وَالّلهُ أَن َزلَ‬ ‫َومَا أَن َزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ ِإلّ لِتُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي اخْتََلفُواْ فِي ِه وَ ُهدًى وَرَ ْ‬ ‫س َمعُونَ(‪ )65‬وَإِنّ َل ُكمْ فِي الَ ْنعَامِ‬ ‫ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ ْ‬ ‫سمَاء مَاء فَأَحْيَا ِب ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫مِنَ الْ ّ‬ ‫ث وَ َدمٍ لّبَنًا خَاِلصًا سَآ ِئغًا لِلشّارِبِينَ(‪)66‬‬ ‫سقِيكُم ّممّا فِي ُبطُونِهِ مِن بَيْنِ فَ ْر ٍ‬ ‫َلعِبْ َرةً نّ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫تال‪ :‬أي وال‪.‬‬ ‫أرسلنا إلى أمم من قبلك‪ :‬أي رسلً‪.‬‬ ‫فزين لهم الشيطان أعمالهم‪ :‬فكذبوا لذلك الرسل‪.‬‬ ‫فهو وليهم اليوم‪ :‬أي الشيطان هو وليهم اليوم أي في الدنيا‪.‬‬ ‫إن في ذلك لية‪ :‬أي دللة واضحة على صحة عقيدة البعث الخر‪.‬‬ ‫لية لقومٍ يسمعون ‪ :‬أي سماع تدبر وتفهم‪.‬‬ ‫لعبرةً ‪ :‬أي دللة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لن العبرة من العبور‪.‬‬ ‫من بين فرثٍ‪ :‬أي َثفَل الكِرْش‪ ،‬أي ال ّروْث الموجود في الكرش‪.‬‬ ‫لبنا خالصا ‪ :‬أي ليس فيه شيء من الفرث ول الدم‪ ،‬ل لونه ول رائحته ول طعمه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يقسم ال تعالى بنفسه لرسوله فيقول بال يا رسولنا {لقد أرسلنا} رسلً {إلى أمم من قبلك} كانوا‬ ‫مشركين كافرين كأمتك {فزين لهم الشيطان أعمالهم} فقاوموا رسلنا‬

‫( ‪)3/131‬‬ ‫وحاربوهم وأصروا على الشرك والكفر فتولهم الشيطان‪ ،‬لذلك {فهو وليهم اليوم ‪ ! }1‬أي في‬ ‫الدنيا {ولهم} في الخرة {عذابٌ أليم}‪ ،‬والسياق الكريم في تسلية رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫ولذا قال تعالى في الية الثانية‪{ :‬وما أنزلنا علمك الكتاب} أي لرهاقك وتعذيبك ولكن لجل أن‬ ‫تبين للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلل‪ .‬كما أنزلنا الكتاب هدىً يهتدى‬ ‫به المؤمنون إلى سبل سعادتهم ونجاحهم‪ ،‬ورحمةٌ تحصل لهم بالعمل به عقيدةً وعبادةً وخلقا وأدبا‬ ‫وحكما‪ ،‬فيعيشون متراحمين تسودهم الخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسلم‪.‬‬ ‫بعد هذه التسلية لرسول ال صلى ال عليه وسلم عاد السياق إلى الدعوة إلى التوحيد وعقيدة البعث‬ ‫والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى‪{ :‬تال لقد أرسلنا} الية فقال تعالى‪{ :‬وال أنزل من‬ ‫‪ 2‬السماء ماء فأحيا بها الرض بعد موتها} الماء هو ماء المطر وحياة الرض بالنبات والزرع‬ ‫بعدما كانت ميتة ل نبات فيها وقوله {إن في ذلك} المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء‬ ‫الرض بعد موتها {لية} واضحة الدللة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته‪ ،‬وعلمه ورحمته كما‬

‫هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإن لكم في النعام ‪ 3‬لعبرةً} ‪ 4‬أي‬ ‫ل تعبرون بها عن الجهل إلى العلم‪ ..‬من الجهل بقدرة ال ورحمته ووجوب عبادته بذكره‬ ‫حا ً‬ ‫وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا‪ .‬وبين وجه العبرة العظيمة فقال‪:‬‬ ‫{نسقيكم مما في بطونه ‪ }5‬أي بطون المذكور من النعام {من ‪ 6‬بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا‬ ‫للشاربين} فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي ل يقادر قدرها‪ ..‬اللبن يقع بين‬ ‫الفرث والدم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الشيطان الذي ريّن للذين كفروا أعمالهم حتى ضلوا وهلكوا هو وليّ الذين كفروا اليوم يزيّن‬ ‫لهم أعمالهم ليضلّهم فيهلكوا كما هلك من قبلهم‪ ،‬وفي الية تسلية للرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫ل وهو‪ :‬أنزل من السماء ماء أفاد التخصيص أي‪ :‬ال وحده الذي أنزل من‬ ‫‪ 2‬كون المسند فع ً‬ ‫السماء ماء والمراد من السماء‪ :‬السحاب‪.‬‬ ‫‪ 3‬هناك مناسبة ظاهرة بين اليتين وهي‪ :‬كما أنّ الرض تحيى بماء السماء كذلك النسان يحيى‬ ‫باللبان‪.‬‬ ‫‪ 4‬اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف البل والبقر والضأن والمعز والعبر‪ :‬ما يتعظ به‬ ‫ويعتبر‪.‬‬ ‫‪ 5‬البطون‪ :‬جمع بطن وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كلّه من معدة وكبد وأمعاء‪.‬‬ ‫‪{ 6‬من} زائدة لتوكيد التوسط أي‪ :‬يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم وموقع‪{ :‬من بين فرث‬ ‫ودم} موقع الصفة والموصوف‪ :‬لبنا وقدّمت للهتمام بها‪.‬‬ ‫‪ 6‬مفرّطون‪ :‬اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه‪.‬‬

‫( ‪)3/132‬‬ ‫فينتقل الدم إلى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان‪ ،‬واللبن يساق إلى الضرع‪ ،‬والفرث‬ ‫يبقى أسفل الكرش‪ ،‬ويخرج اللبن خالصا من شائبة الدم وشائبة الفرث فل يرى ذلك في لون اللبن‬ ‫ول يشم في رائحته ول يوجد في طعمه بدليل أنه سائغ للشاربين‪ ،‬فل يغص به شارب ول يشرق‬ ‫به‪ ،‬حقا! انها عبرة من أجل العبر تنقل صاحبها إلى نور العلم والمعرفة بال في جلله وكماله‪،‬‬ ‫فتورثه محبة ال وتدفعه إلى طاعته والتقرب إليه‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان ان ال يقسم بنفسه وبما شاء من ‪ 1‬خلقه‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أن ال أرسل رسلً إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها‪.‬‬

‫‪ -3‬تقرير النبوة وتسلية رسول ال صلى ال عليه وسلم من جراء ما يلقاه من المشركين‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان مهمة رسول ال وأنها بيان ما أنزل ال تعالى لعباده من وحيه في كتابه‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان كون القرآن الكريم هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به‪.‬‬ ‫‪ -6‬دليل البعث والحياة الثانية إحياء الرض بعد موتها فالقادر على إحياء الرض بعد موتها قادر‬ ‫على إحياء الموات بعد فنائهم وبلهم‪.‬‬ ‫ك ليَةً ّلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ(‪)67‬‬ ‫سكَرًا وَرِ ْزقًا حَسَنًا إِنّ فِي ذَِل َ‬ ‫خذُونَ مِنْهُ َ‬ ‫َومِن َثمَرَاتِ النّخِيلِ وَالَعْنَابِ تَتّ ِ‬ ‫حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ(‪ُ )68‬ثمّ كُلِي مِن‬ ‫وََأوْحَى رَ ّبكَ ِإلَى النّ ْ‬ ‫شفَاء لِلنّاسِ إِنّ فِي‬ ‫ُكلّ ال ّثمَرَاتِ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلً يَخْرُجُ مِن بُطُو ِنهَا شَرَابٌ مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ فِيهِ ِ‬ ‫ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ(‪ )69‬وَالّلهُ خََل َقكُمْ ُثمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِنكُم مّن يُرَدّ إِلَى أَ ْر َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َكيْ لَ َيعْلَمَ‬ ‫ذَِل َ‬ ‫َبعْدَ عِ ْلمٍ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(‪)70‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نحو ‪{ :‬والفجر} ‪{ ،‬والتين} وما إلى ذلك إلّ أنّ بعض أهل العلم كمالك يرون أنّ المقسم به‬ ‫محذوف تقديره‪ :‬وربّ الفجر‪ ،‬وربّ التين وهكذا‪.‬‬

‫( ‪)3/133‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ومن ثمرات النخيل والعناب ‪ :‬أي ومن بعض ثمرات النخيل والعناب ثمرٌ تتخذون ‪ 1‬منه سكرا‬ ‫أي خمرا ورزقا حسنا أي والتمر والزبيب والخل والدبس الرزق الحسن‪.‬‬ ‫وأوحى ربك إلى النحل‪ :‬أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى‪.‬‬ ‫ومما يعرشون‪ :‬أي يبنون لها‪.‬‬ ‫سبل ربك ذللً‪ :‬أي طرق ربك مذللةً فل يعسر عليك السير فيها ول تضلين عنها‪.‬‬ ‫شراب ‪ :‬أي عسل‪.‬‬ ‫فيه شفاء للناس ‪ :‬أي من المراض إن شرب بنية الشفاء‪ ،‬أش بضميمته إلى عقار آخر‪.‬‬ ‫إلى أرذل العمر‪ :‬أي أخَسّه من الهرم والخرف‪ ،‬والخرف فساد العقل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في ذكر مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة‬ ‫لعقيدة النبوة والبعث الخر‪ .‬قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب المتنان المقتضي للشكر‬ ‫{ومن ثمرات النخيل والعناب تتخذون منه سكرا} ورزقا حسنا أي ومن بعض ثمرات النخيل‬ ‫والعناب ثمرٌ تتخذون منه سكرا أي شرابا مسكرا‪ .‬وهذا كان قبل تحريم ‪ 2‬الخمر {ورزقا حسنا}‬ ‫وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله {ان في ذلك لية لقوم‬

‫يعقلون} أي أن فيما ذكرنا لكم لية أي دللة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقو ٍم يعقلون‬ ‫المور ويدركون نتائج المقدمات‪ ،‬فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة‪..‬‬ ‫وقوله‪{ :‬وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون} هذا‬ ‫مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة ال تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلمه حشرة‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن‪ ،‬ما أحل من‬ ‫ثمرتيهما‪ ،‬وليست الخمر مقصورة على العنب والتمر فقد خطب عمر وقال‪" :‬أيّها الناس إن ال قد‬ ‫ن كل‬ ‫حرّم الخمر وهي من خمسة‪ ،‬من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير"‪ .‬والجماع على أ ّ‬ ‫مسِكر حرام‪.‬‬ ‫‪ 2‬إن قيل‪ :‬هذا خبر‪ ،‬والنسخ ل يكون في الخبار؟ فالجواب‪ :‬إن تضمّن الخبر حكما شرعيا جاز‬ ‫نسخه‪ ،‬ومن أدلة ذلك هذا الخبر ونسخه‪.‬‬

‫( ‪)3/134‬‬ ‫النحل كيف تلد العسل وتقدمه للنسان فيه دواء من كل داء‪ .‬فقوله {وأوحى ربك} أيها الرسول‬ ‫{إلى النحل ‪ }1‬بأن ألهمها {أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر} أيضا بيوتا‪{ ،‬ومما يعرشون ‪}2‬‬ ‫أي ومما يعرش الناس َلكِ أي يبنون لك‪ ،‬اتخذي من ذلك بيوتا َلكِ إذ النحلة تتخذ لها بيتا داخل‬ ‫العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله تعالى‪{ :‬ثم كلي من كل الثمرات} أي‬ ‫ألهمها أن تأكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من الشجار والنباتات أي من أزهارها‬ ‫ونوارها وقوله لها {فاسلكي سبل ربك ذللً} ‪ 3‬بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق‬ ‫فتنتقل من مكان إلى آخر تطلب غذاءها ثم تعود إلى بيوتها ل تعجز ول تضل وذلك بتذليل ال‬ ‫تعالى وتسخيره لها تلك الطرق فل تجد فيها وعورة ول تنساها فتخطئها‪ .‬وقوله تعالى {يخرج من‬ ‫‪ 4‬بطونها} أي بطون النحل {شراب} أي عسل يشرب {مختلف ‪ 5‬ألوانه} ما بين أبيض وأحمر‬ ‫وأسود‪ ،‬أو أبيض مشرب بحمرة أو يضرب إلى صفرة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬فيه شفاء للناس} أي من‬ ‫الدواء‪ ،‬هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون بعض جائز هذا حتى يضم إليه بعض‬ ‫الدوية أو العقاير الخرى‪ ،‬أمّا مع النية أي أن يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء‬ ‫وبدون ضميمة أي شيء آخر له‪ .‬وفي حديث الصحيح وخلصته أن رجلً شكا إلى رسول ال‬ ‫صلى ال عليه وسلم استطلق بطن أخيه أي مشْي بطنه عليه فقال له اسقه العسل‪ ،‬فسقاه فعاد‬ ‫فقال ما أراه زاده إل استطلقا فعاد فقالت مثل ما قال أولً ثلث مرات وفي الرابعة أو الثالثة قال‬ ‫له رسول ال صلى ال عليه وسلم صدق ال وكذب بطن أخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط‬ ‫من عقال‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إن في ذلك} أي المذكور من إلهام ال تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع‬

‫العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدللة واضحة على‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قيل‪ :‬سمي النحل نحل‪ :‬لن ال تعالى نحله العسل الذي خرج منه‪.‬‬ ‫‪ 2‬بيوت النحل في ثلثة‪ ،‬في الجبال وكواها‪ ،‬ومتجوّف الشجار‪ ،‬وما يعرش لها من الجباح‬ ‫والخليا والحيطان‪ ،‬وعرش يعرش‪ :‬إذا بنى عريشا من الغصان والخشب‪ ،‬ومن عجيب ما ألهم‬ ‫ال النحل أنه يجعل بيوته مسدسة الشكل‪.‬‬ ‫‪ 3‬اللّفظ صالح لن يكون لفظ ذلل المراد به النحلة نفسها وذلل جمع ذلول وهي المنقادة المطيعة‬ ‫المسخرة‪ ،‬وصالح أن يكون المراد به الطرق التي تسلكها النحلة كما في التفسير‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي عن علي بن أبي طالب رضي ال عنه أنه قال في تحقير الدنيا‪ :‬أشرف لباس ابن آدم فيها‬ ‫لعاب دودة وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة‪.‬‬ ‫‪ 5‬بحسب تنويع الغذاء كما أن الطعم يختلف باختلف المراعي ومن هذا المعنى قول زينب رضي‬ ‫ال عنها جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير والعرفط شجر الطلح له صمغ‬ ‫كريه الرائحة‪.‬‬

‫( ‪)3/135‬‬ ‫علم ال وقدرته ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في‬ ‫الشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون إلى المطلوب منهم وهو أن يذكروا فيتعظوا فيتوبوا‬ ‫إلى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في الية الخرى(‪{ )70‬وال خلقكم ثم‬ ‫يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي ل يعلم بعد علمٍ شيئا} هذه آية أخرى أجل وأعظم في‬ ‫الدللة على قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته‪ ،‬وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة باليمان بالبعت‬ ‫الخر فخلق ال تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن ل يحصى لنا عد‪ ،‬ثم إماتته لنا موتا حقيقيا‬ ‫بقبض أرواحنا ول يستطيع أحد أن ل يموت ول يتوفى أبدا ثم من مظاهر الحكمة أن يتوفانا من‬ ‫أجال مختلفة اقتضتها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة إلى نهايتها‪ .‬فمن الناس من يموت طفلً‬ ‫ومنهم من يموت شابا‪ ،‬وكلها حسب حكمة البتلء والتربية اللهية‪ ،‬وآية أخرى أن منا من يرد‬ ‫ن وعقل ول يستطيع‬ ‫إلى أرذل عمره‪ ،‬أي أردأه وأخسّه فيهرم ويخرف فيفقد ما كان له من قوة بد ٍ‬ ‫أحد أن يخلصه من ذلك إل ال‪ ،‬مظهر قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء ال أن يرد الناس كلهم إلى‬ ‫أرذل العمر ولو في قرنٍ أو قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يومئذ؟ وقوله‪{ :‬إن ال‬ ‫عليم قدير} تقرير لعلمه وقدرته‪ ،‬إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا ووفاتنا ورد بعضنا إلى‬ ‫أرذل العمر إل بقدرة قادر وعلم عالم وهو ال العليم القدير‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان منة ال تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا ال على نعمه‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان آيات ال تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب النسان وغذائه ودوائه‪.‬‬ ‫‪ -3‬فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر‪.‬‬ ‫تل‬ ‫‪ -4‬تقرير عقيدة اليمان باليوم الخر الدال عليه القدرة والعلم اللهيين‪ ،‬إذ من خلق وأما َ‬ ‫يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ول يميت‪.‬‬ ‫ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الْرّ ْزقِ َفمَا الّذِينَ ُفضّلُواْ بِرَآدّي‬ ‫ضلَ َب ْع َ‬ ‫وَاللّهُ َف ّ‬

‫( ‪)3/136‬‬ ‫س ُكمْ‬ ‫ج َعلَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬ ‫سوَاء َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ َيجْحَدُونَ(‪ )71‬وَالّلهُ َ‬ ‫رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ‬ ‫ن وَبِ ِن ْعمَتِ الّلهِ‬ ‫طلِ ُي ْؤمِنُو َ‬ ‫حفَ َدةً وَرَ َز َقكُم مّنَ الطّيّبَاتِ َأفَبِالْبَا ِ‬ ‫ن َو َ‬ ‫جكُم بَنِي َ‬ ‫ج َعلَ َلكُم مّنْ أَ ْزوَا ِ‬ ‫أَ ْزوَاجًا وَ َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ شَيْئًا َولَ‬ ‫هُمْ َيكْفُرُونَ(‪ )72‬وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيمِْلكُ َلهُمْ رِ ْزقًا مّنَ ال ّ‬ ‫لمْثَالَ إِنّ اللّهَ َيعَْل ُم وَأَنتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ(‪)74‬‬ ‫يَسْ َتطِيعُونَ(‪ )73‬فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّ ِه ا َ‬ ‫شرح الكلمات‬ ‫فضل بعضكم على بعض في الرزق‪ :‬أي فمنكم الغني ومنكم الفقير‪ ،‬ومنكم المالك ومنكم المملوك‪.‬‬ ‫برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم‪ :‬أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من‬ ‫العبيد‪.‬‬ ‫وال جعل لكم من أنفسكم أزواجا‪ :‬إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال‪.‬‬ ‫وحفدة‪ :‬أي خدما من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن‪.‬‬ ‫أفبالبالطل يؤمنون‪ :‬أي بعبادة الصنام يؤمنون‪.‬‬ ‫رزقا من السموات والرض‪ :‬أي بإنزال المطر من السماء‪ ،‬وإنبات النبات من الرض‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد‪ .‬فقوله تعالى‪{ :‬وال فضل‬

‫( ‪)3/137‬‬ ‫بعضكم على ‪ 1‬بعضٍ في الرزق} فمنكم من أغناه ومنكم من أفقره أيها الناس‪ 2 ،‬وقد يكون‬ ‫لحدكم أيها الغنياء عبيد مملوكين له‪ ،‬لم ل يرضى أن يشرك عبيده في أمواله حتى يكونوا فيها‬ ‫سواء ل فضل لحدهما على الخر؟ والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أُسوّي‬ ‫مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء؟ هذا ل يعقل أبدا! إذا كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة‬

‫ربكم وهي مملوكة له تعالى إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم؟ فأين يذهب بعقولكم أيها‬ ‫المشركون؟ وقوله تعالى {أفبنعمة ال يجحدون}؟ حقا إنهم جحدوا نعمة العقل أولً فلم يعترفوا بها‬ ‫فلذا لم يفكروا بعقولهم‪ ،‬ثم جحدوا نعمة ال عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره وشكره‬ ‫وعبدوا غيره من أصنام وأوثان ل تملك ول تضر ول تنفع‪ .‬هذا ما دلت عليه الية الولى (‪)71‬‬ ‫أما الية الثانية فيقول تعالى فيها مقررا إنعامه تعالى على المشركين بعد توبيخهم على إهمال‬ ‫عقولهم في الية الولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول‪{ :‬وال} أي وحده {جعل لكم من ‪ 3‬أنفسكم‬ ‫أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات} أي جعل لكم من أنفسكم ‪4‬‬ ‫أزواجا أي بشريّات من جنسكم تسكنون إليهن وتتفاهمون معهن وتتعاونون بحكم الجنسية الدمية‬ ‫وهي نعمة عظمى‪ ،‬وجعل لكم من أولئك الزواج بنين بطريق التناسل والولدة وحفدة أيضا‬ ‫والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد‬ ‫ولدك وختنك أي صهرك‪ ،‬وخادمك إذ الكل يحفدون لك أي يسارعون في خدمتك بتسخير ال‬ ‫تعالى لك‪ ،‬وثالثا {ورزقكم من الطيبات} أي حلل الطعام والشراب على اختلفه وتنوع مذاقه‬ ‫وطعمه ولذته‪ .‬هذا هو ال الذي تُدعون إلى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون بالباطل‬ ‫وهي الصنام‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا استدلل على قدرة ال وتدبيره وقهره لعباده إذ فضل بعضهم على بعض في الرزق تفضيل‬ ‫عجيبا هذا غني‪ ،‬وهذا فقير‪ ،‬هذا موسر‪ ،‬وهذا معسر فقد يفتقر الذكي القوي ويستغني البليد‬ ‫الضعيف كما قيل‪:‬‬ ‫ومن الدليل على القضاء وكونه‬ ‫بؤس اللّبيب وطيب عيش الحمق‬ ‫والية متضمنة مثل ضربه لعبادة الصنام‪ ،‬ونظير هذه المُثل في سورة الروم في قوله تعالى‪:‬‬ ‫{ضرب لكم مثل من أنفسكم‪ } ..‬الخ‪.‬‬ ‫‪ 2‬يريد أن أغنياءهم ل يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه فكيف يرضون ل مال يرضونه‬ ‫لنفسهم كما في قوله‪{ :‬ويجعلون ل البنات ولهم ما يشتهون} أي‪ :‬البنون‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬من نوعكم‪ ،‬ومِنْ للبتداء ومِنْ في قوله تعالى‪{ :‬وجعل لكم من أزواجكم} للتبعيض‪.‬‬ ‫‪ 4‬الزواج‪ :‬جمع زوج وهو ما يُكوّن مع آخر اثنين‪.‬‬

‫( ‪)3/138‬‬ ‫وعبادتها‪ ،‬وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى‪{ :‬أفبالباطل ‪ 1‬يؤمنون‬ ‫وبنعمة ال هم يكفرون}؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عز وجل هو عين كفرانهم بنعمة ال تعالى‪.‬‬

‫وقوله {ويعبدون من دون ال} أي أصناما ل تملك لهم {رزقا من السماء} بإنزال المطر‪،‬‬ ‫ل ول يستطيعون شيئا من ذلك لعجزهم القائم بهم‬ ‫{والرض} بإنبات الزروع والثمار شيئا ولو َق ّ‬ ‫لنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم على خطأهم مال يقادر قدره‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬فل تضربوا ل المثال إن ‪ 2‬ال ‪ 3‬يعلم وأنتم ل تعلمون} أي ينهاهم تعالى عن‬ ‫ضرب المثال ل باتخاذ الصنام آلهة بإطلق لفظ إله عليها‪ ،‬وال ل مثل له‪ ،‬وباعتقاد أنها شافعة‬ ‫لهم عند ال وأنها تقربهم إليه تعالى‪ ،‬وأنها واسطة بمثابة الوزير للمير إلى غير ذلك‪ ،‬فنهاهم عن‬ ‫ضرب هذه المثال ل تعالى لنه عز وجل يعلم أنه ل مثل له ول مثال‪ ،‬بل هو ال الذي ل إله إل‬ ‫هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير‪ ،‬وهم ل يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في ظلمات‬ ‫الشرك وأودية الضلل‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الية الولى‪{ :‬وال فضل بعضكم على بعضٍ في‬ ‫الرزق}‪.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب شكر ال تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلص ذلك له‪.‬‬ ‫‪ -3‬قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها‪.‬‬ ‫‪ -4‬التنديد بمن يضربون ل المثال وهم ل يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيها ل تعالى بعباده فهم‬ ‫يتوسطون بالولياء والنبياء بدعائهم والستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى ال تعالى يستجيب لهم‪،‬‬ ‫ول يستجيب لغيرهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الباطل‪ :‬ضد الحق لنّ مال يخلق ل يعبد‪ ،‬فإن عُبد فقد عبد بالباطل‪ ،‬والجملة تحمل توبيخا‬ ‫كبيرا للمشركين‪.‬‬ ‫‪ 2‬المثال‪ :‬جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل كشبه بمعنى مشابه‪ ،‬ومعنى‪ .‬ضربهم المثال ل‬ ‫تعالى‪ :‬هو أنهم أثبتوا للصنام صفات اللهية وشبّهوها بالخالق عز وجل حيث عبدوها بالنذر لها‬ ‫وبالذبح والدعاء والقسام بها والعكوف حولها‪.‬‬ ‫‪ 3‬جملة‪{ :‬إنّ ال يعلم وأنتم ل تعلمون} تعليلية لنهيهم عن ضرب المثال ل تعالى‪ .‬فنهيه تعالى‬ ‫لهم عن ضرب المثال لعلمه عزّ وجلّ أنه ل مثل له‪ ،‬وأن ما يضربونه له باطل‪ ،‬وهو تعالى‬ ‫منزّه عنه‪.‬‬

‫( ‪)3/139‬‬

‫حسَنًا َف ُهوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا‬ ‫شيْ ٍء َومَن رّ َزقْنَاهُ مِنّا رِ ْزقًا َ‬ ‫ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً عَبْدًا ّممْلُوكًا لّ َيقْدِرُ عَلَى َ‬ ‫حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ(‪َ )75‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلَيْنِ َأحَدُ ُهمَا أَ ْب َك ُم لَ‬ ‫جهْرًا َهلْ يَسْ َتوُونَ ا ْل َ‬ ‫وَ َ‬ ‫علَى َموْلهُ أَيْ َنمَا ُيوَجّه ّه لَ يَ ْأتِ بِخَيْرٍ َهلْ َيسْ َتوِي ُهوَ َومَن يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْدلِ‬ ‫شيْ ٍء وَ ُهوَ َكلّ َ‬ ‫َيقْدِرُ عََلىَ َ‬ ‫عةِ ِإلّ كََلمْحِ الْ َبصَرِ َأوْ‬ ‫ض َومَا َأمْرُ السّا َ‬ ‫ت وَالَرْ ِ‬ ‫سمَاوَا ِ‬ ‫علَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ(‪ )76‬وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬ ‫وَ ُهوَ َ‬ ‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئًا‬ ‫شيْءٍ قَدِيرٌ(‪ )77‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬ ‫ُهوَ َأقْ َربُ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬ ‫شكُرُونَ(‪)78‬‬ ‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ َت ْ‬ ‫سمْ َع وَالَبْصَا َر وَا َ‬ ‫ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ‬ ‫وَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ضرب ال مثلً‪ :‬أي هو عبدا مملوكا الخ‪..‬‬ ‫عبدا مملوكا‪ :‬أي ليس بحُرٍ بل هو عبد مملوك لغيره‪.‬‬ ‫هل يستوون‪ :‬أي العبيد العجزة والحُر المتصرف‪ ،‬والجواب‪ :‬ل يستوون قطعا‪.‬‬ ‫وضرب ال مثلً ‪ :‬أي هو رجلين الخ‪..‬‬ ‫أبكم‪ :‬أي ولد أخرس وأصم ل يسمع‪.‬‬ ‫ل يقدر على شيء‪ :‬أي ل يَفهَ ْم ول يُفهِمْ غيره‪.‬‬ ‫ول غيب السموات والرض‪ :‬أي ما غاب فيهما‪.‬‬ ‫وما أمر الساعة‪ :‬أي أمر قيامها‪ ،‬وذلك بإماتة الحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور‬ ‫الكوان كلها‪.‬‬

‫( ‪)3/140‬‬ ‫الفئدة‪ :‬أي القلوب‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن ال تعالى‬ ‫جهل المشركين في ضرب المثال له وهو ل مثل له ول نظير‪ ،‬وفي هذا السياق ضرب تعالى‬ ‫مثلين وهو العليم الخبير‪ ..‬فالول قال فيه‪{ :‬ضرب ال مثلً عبدا مملوكا} أي غير حر من أحرار‬ ‫الناس‪{ ،‬ل يقدر على شيء} إذ هو مملوك لحق له في التصرف في مال سيده إل بإذنه ‪ ،1‬فلذا‬ ‫فهو ل يقدر على إعطاء أو منع شيء‪ ،‬هذا طرف المثل‪ ،‬والثاني {ومن رزقناه منا رزقا حسنا}‬ ‫صالحا واسعا {فهو ينفق منه سرا وجهرا} ليلً ونهارا لنه حر التصرف بوصفه مالكاَ {هل‬ ‫يستوون ‪}2‬؟ الجواب ل يستويان‪ ..‬إذا {الحمد ل بل أكثرهم ‪ 3‬ل يعلمون} والمثل مضروب‬ ‫للمؤمن والكافر‪ ،‬فالكافر أسير للصنام عبدٌ لها ل يعرف معروفا ول ينكر منكرا‪ ،‬ل يعمل في‬ ‫سبيل ال ول ينفق لنه ل يؤمن بالدار الخرة‪ ،‬والجزاء فيها‪ ،‬وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاعة‬ ‫ال فينفق في سبيل ال سرا وجهرا يبتغي الخرة والمثوبة من ال‪ ،‬ذا علمٍ وإرادة‪ ،‬ل يخاف إل‬

‫ال ول يرجو إل هو سبحانه وتعالى‪ .‬وقوله‪{ :‬وضرب ال مثلً رجلين} هو المثال الثاني في هذا‬ ‫السياق وقد حوته الية الثانية (‪ )76‬فقال تعالى فيه {وضرب ال مثلً} هو {رجلين أحدهما ‪ 4‬أبكم}‬ ‫ولفظ البكم قد يدل على الصمم فالغالب أن البكم ل يسمع {ل يقدر على شيء} فل يفهم غيره‬ ‫لنه أصم ول يُفهم غيره لنه أبكم‪{ ،‬وهو كلّ على ‪ 5‬موله} أي ابن عمه أو من يتوله من أقربائه‬ ‫يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء‪ .‬وقوله‪{ :‬أينما يوجهه ل يأت‬ ‫بخير} أي أينما يوجهه موله وابن عمه ليأتي بشيء‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الية منزع الفقهاء في ملكية العبد وعدمها‪ ،‬فذهب مالك إلى أنّ العبد يملك بإذن سيده‪ ،‬وهو‬ ‫ناقص الملك‪ ،‬وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد‪ :‬العبد ل يملك شيئا‪ ،‬وقالوا‪ :‬الرّق ينافي الملك‪،‬‬ ‫وقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬من أعتق عبدا وله مال" شاهد لمن قال يملك ملكا ناقصا‪.‬‬ ‫‪ 2‬لم يقل يستويان لنّ مَنْ صالحة للواحد والجماعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ل يعلمون أن ال هو المستحق للحمد دون آلهتهم لن ال تعالى هو المنعم بالخلق والرزق‪،‬‬ ‫والصنام ل تخلق ول ترزق فلذا الحمد له وحده‪.‬‬ ‫‪ 4‬هذا مثل آخر ضربه تعالى لنفسه وللمؤمن‪ .‬قاله قتادة وغيره‪.‬‬ ‫‪ 5‬أي‪ :‬ثقل على وليّه وقرابته ووبال على صاحبه وابن عمّه‪.‬‬

‫( ‪)3/141‬‬ ‫ل يأتي بخير‪ ،‬وقد يأتي بشر‪ ،‬أمّا النفع والخير فل يحصل منه شيء‪.‬‬ ‫وهذا مثل الصنام التي تعبد من دون ال إذ هي ل تسمع ول تبصر فل تفهم ما يقال لها‪ ،‬ول تُفهم‬ ‫عابديها شيئا وهي محتاجة إليهم في صُ ْنعِها ووضعها وحملها وحمايتها‪ .‬وقوله تعالى {هل يستوي‬ ‫هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم} وهو ال تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد‬ ‫والستقامة في كل شيء‪ ،‬وهو قائم على كلى شيء‪ ،‬وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى‬ ‫سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين‪ ،‬فالجواب‪ ،‬ل يستويان بحال‪ ،‬فكيف يرضى المشركون بعبادة‬ ‫وولية البكم الذي ل يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير‪ ،‬القوي‪ ،‬القدير‪ ،‬الذي‬ ‫يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم‪ ،‬أمر يحمل على العجب‪ ،‬ولكن ل عجب مع أقدار‬ ‫ال وتدابير الحكيم العليم‪ .‬وقوله تعالى في الية (‪{ )77‬ول غيب السموات ‪ 1‬والرض} وحده يعلم‬ ‫ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حُكم عليه بالشقاوة‪ ،‬ومن يهتدي ومن ل‬ ‫يهتدي‪ ،‬والجزاء آت بإتيان الساعة {وما أمر الساعة ‪ }2‬أي إتيانها {إل كلمح ‪ 3‬البصر أو هو‬ ‫أقرب}‪ 4‬إذ ل يتوقف أمرها إل على كلمة {كن} فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها‪ ،‬وتأتي الحياة‬ ‫الخرى وقد تبدلت صور الشياء كلها {إن ال على كل شيء قدير} ومن ذلك قيام القيامة‪،‬‬

‫ومجيء الساعة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وال أخرجكم من بطون أمهاتكم ل ‪ 5‬تعلمون ‪ 6‬شيئا} حقيقة ل‬ ‫تُنكر‪ ،‬ال الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الرحام ونمانا حتى صرنا بشرا ثم‬ ‫أذن بإخراجنا‪ ،‬فأخرجنا‪ ،‬وخرجنا ل نعلم شيئا قط‪ ،‬هذه آية القدرة اللهية والعلم اللهي والتدبير‬ ‫اللهي‪ ،‬فهل للصنام شيء من ذلك‪ ،‬والجواب ل‪ ،‬ل وثانيا جعل ال تعالى لنا السماع والبصار‬ ‫والفئدة نعمة أخرى‪ ،‬إذ لو ل ذلك ما سمعنا ول أبصرنا ول عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذٍ‪ ،‬إذْ العدم‬ ‫خيرٌ منها‪ .‬وقوله‪:‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬ول غيب السموات والرض}‪ :‬اللم لم الملك‪ ،‬والغيب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي‪ :‬الشياء‬ ‫الغائبة‪ ،‬والغيب ما غاب عن أعين الناس‪.‬‬ ‫‪ 2‬الساعة‪ :‬هي الوفت الذي تقوم فيه القيامة‪ ،‬سميت ساعة لنها تفجأ الناس في ساعة فيموت‬ ‫الخلق بصيحة‪.‬‬ ‫‪ 3‬اللّمح‪ :‬النظر بسرعة يقال لمحه لمحا ولمحانا‪.‬‬ ‫‪ 4‬ليس (أو) للشك وإنما هي بمعنى بل النتقالية من شيء إلى آخر كقوله {فأرسلناه إلى مائة ألف‬ ‫أو يزيدون} أي‪ :‬بل يزيدون‪.‬‬ ‫‪ 5‬البطون‪ :‬جمع بطن وهو ما بين ضلوع الصدر إلى العانة‪ ،‬وفيه المعاء والمعدة والكبد والرحم‪.‬‬ ‫‪ 6‬الشكر‪ :‬العتراف بالنعمة ل وحمده عليها وصرفها فيما يرضيه تعالى‪.‬‬

‫( ‪)3/142‬‬ ‫{لعلكم تشكرون} كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا‬ ‫فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من‬ ‫خير‪ ..‬إنه إعداد للسعادة في الدارين‪ .‬فهل من متذكر يا عباد ال؟!‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحسان ضرب المثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالما‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه‪.‬‬ ‫أ‪ -‬بيان مثل الصنام في جمودها وتعب عَبَدتِها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها‪ .‬ومثل الرب‬ ‫تبارك وتعالى في عدله‪ ،‬ودعوته إلى السلم وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه‪،‬‬ ‫ورعايتهم‪ ،‬وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والنعام عليهم في كلتا‬ ‫حياتهم‪ .‬ول المثل العلى وهو العزيز الحكيم‪.‬‬ ‫س ُكهُنّ ِإلّ اللّهُ إِنّ فِي َذِلكَ لَآيَاتٍ ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ(‬ ‫سمَاء مَا ُيمْ ِ‬ ‫جوّ ال ّ‬ ‫سخّرَاتٍ فِي َ‬ ‫أَلَمْ يَ َروْاْ ِإلَى الطّيْرِ مُ َ‬

‫ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ‬ ‫خفّو َنهَا َيوْمَ َ‬ ‫ج َعلَ َلكُم مّن جُلُو ِد الَ ْنعَامِ بُيُوتًا َتسْتَ ِ‬ ‫سكَنًا وَ َ‬ ‫ج َعلَ َلكُم مّن بُيُو ِتكُمْ َ‬ ‫‪ )79‬وَاللّهُ َ‬ ‫ج َعلَ َلكُم ّممّا خََلقَ‬ ‫شعَارِهَا أَثَاثًا َومَتَاعًا إِلَى حِينٍ(‪ )80‬وَاللّهُ َ‬ ‫صوَافِهَا وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ‬ ‫ِإقَامَ ِتكُ ْم َومِنْ َأ ْ‬ ‫س ُكمْ كَذَِلكَ يُتِمّ‬ ‫ج َعلَ َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ ا ْلحَ ّر وَسَرَابِيلَ َتقِيكُم بَأْ َ‬ ‫ج َعلَ َلكُم مّنَ ا ْلجِبَالِ َأكْنَانًا وَ َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫لً‬ ‫ظِ َ‬ ‫علَ ْيكَ‬ ‫ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّل ُكمْ تُسِْلمُونَ(‪ )81‬فَإِن َتوَّلوْاْ فَإِ ّنمَا َ‬

‫( ‪)3/143‬‬ ‫لغُ ا ْلمُبِينُ(‪َ )82‬يعْ ِرفُونَ ِن ْع َمتَ اللّهِ ُثمّ يُنكِرُو َنهَا وََأكْثَرُهُمُ ا ْلكَافِرُونَ(‪)83‬‬ ‫الْبَ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫مسخراتٍ في جو السماء ‪ :‬أي مذللت في الفضاء بين السماء والرض وهو الهواء‪.‬‬ ‫ما يمسكهن‪ :‬أي عند قبض أجنحتها وبسطها إل ال تعالى بقدرته وسننه في خلقه‪.‬‬ ‫من بيوتكم سكنا‪ :‬أي مكانا تسكنون فيه وتخلدون للراحة‪.‬‬ ‫من جلود النعام بيوتا‪ :‬أي خياما وقبابا‪.‬‬ ‫يوم ظعنكم‪ :‬أي ارتحالكم في أسفاركم‪.‬‬ ‫أثاثا ومتاعا إلي حين ‪ :‬كبُسط وأكسية تبلى وتتمزق وتُرمى‪.‬‬ ‫ل ومن الجبال أكنانا ‪ :‬أي ما تستظلون به من حر الشمس‪ ،‬وما تسكنون به في غيران الجبال‪.‬‬ ‫ظل ً‬ ‫وسرابيل‪ :‬أي قمصانا تقيكم الحر والبرد‪.‬‬ ‫وسرابيل تقيكم بأسكم‪ :‬أي دروعا تقيكم الضرب والطعان في الحرب‪.‬‬ ‫لعلكم تسلمون ‪ :‬أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى‪{ :‬ألم ‪1‬‬ ‫يروا إلى الطير مسخرات ‪ 2‬في جو السماء ما يمسكهن ‪ 3‬إل ال} فإن في خلق الطير على‬ ‫اختلف أنواعه وكثرة أفراده‪ ،‬وفي طيرانه في جو ‪ 4‬السماء‪ ،‬أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه‬ ‫وكيف يبسطها ول يقع على الرض فمن يمسكه غير ال بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن‬ ‫في ذلك المذكور لياتٍ عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء بالتاء‪ { :‬ألم تروا} وقرىء بالياء وهي قراءة الكثر‪.‬‬ ‫‪{ 2‬مسخرات}‪ :‬أي‪ :‬مذللت لمر ال تعالى‪ ،‬ومذللت لمنافعكم أيضا‪.‬‬ ‫‪{ 3‬ما يمسكهن} أي‪ :‬في جال القبض والبسط والصطفاف إل ال عزّ وجلّ‪.‬‬ ‫‪{ 4‬جو السماء} هو الفضاء الذي بين السماء والرض‪ ،‬وإضافته إلى السماء لنه يبدو متصل‬ ‫بالقبة الزرقاء فيما يخال الناظر‪.‬‬

‫( ‪)3/144‬‬ ‫والتقرب إليه وطاعته بعبادته وحده‪ ،‬كما تدل على بطلن تأليه غيره وعبادة سواه‪ ،‬وكون اليات‬ ‫لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلف الكافرين فإنهم أموات‬ ‫القلوب فل إدراك ول فهم لهم‪ ،‬فلم يكن لهم في ذلك آية‪ ..‬وقوله‪{ :‬وال جعل ‪ 1‬لكم من بيوتكم‬ ‫سكنا} أي موضع سكونٍ وراحة‪{ ،‬وجعل لكم ‪ 2‬من جلود النعام} البل والبقر والغنم {بيوتا} أي‬ ‫خياما وقبابا {تستخفونها} أي تجدونها خفيفة المحمل {يوم ظعنكم} أي ارتحالكم في أسفاركم‬ ‫وتنقلتكم {ويوم إقامتكم} في مكان واحد كذلك‪ .‬وقوله‪{ :‬ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} أي‬ ‫جعل لكم منه {أثاثا} كالبسط الفرش والكسية (متاعا) أي تتمتعون بها إلى حين بلها وتمزقها ‪3‬‬ ‫وقوله‪{ :‬وال جعل لكم مما خلق} من أشياء كثيرة {ظللً} تستظلون بها من حر الشمس {وجعل‬ ‫لكم من الجبال أكنانا}‪ 4‬تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران وكهوف في‬ ‫الجبال {وجعل لكم سرابيل} قمصان {تقيكم الحر} والبرد {وسرابيل} هي الدروع {تقيكم بأسكم} في‬ ‫الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح‪ .‬أليس الذي جعل لكم هذه كلها أحق بعبادتكم‬ ‫وطاعتكم‪ ،‬وهكذا {يتم نعتمه عليكم} فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه لِ ُيعِدّكم للسلم فتسلموا‪.‬‬ ‫وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله {فإن تولوا} أي أعرضوا عما ذكرتهم‬ ‫به فل تحزن ول تأسف إذ ليس عليك هداهم {فإنما عليك البلغ المبين} وقد بلغت وبينت‪ .‬فل‬ ‫عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية‪ .‬وقوله‪{ :‬يعرفون نعمت ال} أي نعمة ال عليهم كما‬ ‫ذكرناهم بها {ثم ينكرونها} فيعبدون غير المُنعم بها {وأكثرهم الكافرون} أي الجاحدون المكذبون‬ ‫بنبوتك ورسالتك والسلم الذي جئت به‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬جعل}‪ :‬بمعنى أوجد وهذا شروع في تعداد النعم التي أنعم بها الخالق عزّ وجلّ على العباد‪،‬‬ ‫والسكن‪ :‬مصدر والمنة في كونه تعالى جعل النسان يسكن ويتحرك ولو شاء لجعله متحركا دائما‬ ‫كالفلك في السماء أو جعله كالرض ساكنا أبدا‪.‬‬ ‫‪ 2‬بعد أن ذكر تعالى السكن في الدور ذكر السكن في البيوت المتنقلة وهي الخيام والقباب‪.‬‬ ‫‪ 3‬في الية دليل على حليذة جلود الميتة ولكن بعد دبغها لحديث‪" :‬أيّما إهاب دبغ فقد طهر"‪.‬‬ ‫‪ 4‬الكنان‪ :‬جمع كن وهو‪ :‬ما يكن عن الحرّ والريح والبرد وهو الغار في الجبل‪.‬‬

‫( ‪)3/145‬‬

‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬ل ينتفع باليات إل المؤمنون لحياة قلوبهم‪ ،‬أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر ل يرون شيئا‬ ‫من اليات ول يبصرون‪.‬‬ ‫‪ -2‬مظاهر قدرة ال وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه اليات الربع ومن العجب أن‬ ‫المشركين كالكافرين عمي ل يبصرون شيئا منها وأكثرهم الكافرون‪.‬‬ ‫‪ -3‬مهمة الرسول صلى ال عليه وسلم ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلغ المبين‪.‬‬ ‫شهِيدًا ُث ّم لَ ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُو ْا َولَ ُهمْ يُسْ َتعْتَبُونَ(‪ )84‬وَإِذَا رَأى الّذِينَ‬ ‫وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِن ُكلّ ُأمّةٍ َ‬ ‫خفّفُ عَ ْنهُمْ وَلَ ُهمْ يُنظَرُونَ(‪ )85‬وَإِذَا رَأى الّذِينَ أَشْ َركُواْ شُ َركَاءهُمْ قَالُواْ رَبّنَا‬ ‫ظََلمُواْ ا ْلعَذَابَ فَلَ ُي َ‬ ‫عوْ مِن دُو ِنكَ فَأ ْلقَوْا إِلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلَ إِ ّنكُمْ َلكَاذِبُونَ(‪ )86‬وَأَ ْل َقوْاْ إِلَى اللّهِ‬ ‫َهؤُلء شُ َركَآؤُنَا الّذِينَ كُنّا َندْ ُ‬ ‫عذَابًا‬ ‫ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ(‪ )87‬الّذِينَ َكفَرُواْ َوصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ِزدْنَاهُمْ َ‬ ‫َي ْومَئِذٍ السَّل َم َو َ‬ ‫سهِ ْم وَجِئْنَا ِبكَ‬ ‫شهِيدًا عَلَ ْيهِم مّنْ أَنفُ ِ‬ ‫َفوْقَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُواْ ُيفْسِدُونَ(‪ )88‬وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ فِي ُكلّ ُأمّةٍ َ‬ ‫حمَ ًة وَبُشْرَى ِل ْلمُسِْلمِينَ(‪)89‬‬ ‫شيْءٍ وَهُدًى وَرَ ْ‬ ‫شهِيدًا عَلَى َهؤُلء وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ تِبْيَانًا ّل ُكلّ َ‬ ‫َ‬

‫( ‪)3/146‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ويوم نبعث‪ :‬أي اذكر يوم نبعث‪.‬‬ ‫شهيدا‪ :‬هو نبيها‪.‬‬ ‫ل يؤذن للذين كفروا ‪ :‬أي بالعتذار فيعتذرون‪.‬‬ ‫ول هم يستعتبون ‪ :‬أي ل يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي ال‬ ‫عنهم‪.‬‬ ‫وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم‪ :‬أي الذين كانوا يعبدونهم من دون ال كالصنام والشياطين‪.‬‬ ‫فألقوا إليهم القول‪ :‬أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون‪.‬‬ ‫وألقوا إلى ال يومئذٍ السلم‪ :‬أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا‪.‬‬ ‫وضل عنهم ما كانوا يفترون‪ :‬من أن آلهتهم تشفع لهم عند ال وتنجيهم من عذابه‪ ،‬ومعنى ضل‬ ‫غاب‪.‬‬ ‫عذابا فوق العذاب‪ :‬أنه عقارب وحيات كالنّخل الطوال والبغال الموكفة‪.‬‬ ‫ونزلنا عليك الكتاب‪ :‬أي القرآن‪.‬‬ ‫تبيانا لكل شيء‪ :‬أي لكل ما بالمة من حاجة إليه في معرفة الحلل والحرام والحق والباطل‬ ‫والثواب والعقاب‪.‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫انحصر السياق !لكريم في هذه اليات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى‪{ :‬يوم‬ ‫نبعث ‪ }1‬أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث {من كل أمة} من المم {شهيدا} هو نبيها الذي نبىء‬ ‫فيها وأرسل إليها {ثم ل يؤذن للذين كفروا} أي بالعتذار فيعتذرون {ول هم يستعتبون ‪ }2‬أي ل‬ ‫يطلب منهم العتبى ‪ 3‬أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل يرضي ال عنهم أي اذكر هذا لقومك‪،‬‬ ‫علهم يذكرون فيتعظون‪ ،‬فيتوبون‪ ،‬فينجون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬نظير هذه الية آية النساء‪{ :‬فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد‪ }..‬الية‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬ل يكلّفون أن يرضوا ربهم لنّ الخرة ليست دار تكليف ول يمكنون من الرجوع إلى‬ ‫الدنيا فيتوبون‪.‬‬ ‫‪ 3‬العتبى‪ :‬الرضا‪ ،‬والفعل‪ :‬عتب يعتب عليه إذا وجد عليه في نفسه وأعتبه‪ :‬إذا أزال الموجدة‬ ‫ورجع إلى مسرّته وفي الحديث‪ ":‬لك العتبى حتى ترضى" والعتبى‪ :‬رجوع المعتوب عليه إلى ما‬ ‫يرضي العاتب وهو المراد في الحديث‪.‬‬

‫( ‪)3/147‬‬ ‫ويسعدون‪ .‬وقوله في الية الثانية (‪{ )85‬وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} أي يوم ‪ 1‬القيامة {فل‬ ‫يخفف عنهم ول هم ينظرون} أي يمهلون‪ .‬اذكر هذا أيضا تذكيرا وتعليما‪ ،‬واذكر لهم {إذا رأى‬ ‫الذين أشركوا شركاءهم} في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين {ربنا} أي يا ربنا {هؤلء‬ ‫‪ 2‬شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} أي نعبدهم بدعائهم والستغاثة بهم‪{ ،‬فألقوا إليهم القول}‬ ‫فورا {إنكم لكاذبون}‪{ .‬وألقوا إلى ال يومئذٍ السلم} أي الستسلم فذلوا لحكمه {وضل عنهم ما‬ ‫كانوا يفترون} في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلء شفعاؤنا عند ال‪ ،‬وأنهم ينجون‬ ‫من النار بشفاعتهم‪ ،‬وأنهم وسيلتهم إلى ال كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على‬ ‫شيء‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬الذين كفروا وصدوا عن سبيل ال} غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه‬ ‫والحمل عليه أحيانا بالترهيب والترغيب {زدناهم عذابا فوق العذاب} الذي استوجبوه بكفرهم‪ .‬ورد‬ ‫أن هذه الزيادة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم‪ ،‬وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بال‬ ‫تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ويوم نبعث} أي اذكر يا رسولنا يوم‬ ‫نبعث {في كل أمةٍ شهيدا} أي يوم القيامة {عليهم من أنفسهم ‪ 3‬وجئنا بك شهيدا على هؤلء} أي‬ ‫على من أرسلت إليهم من أمتك‪ .‬فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل اليمان باليمان وعلى‬ ‫أهل الكفر بالكفر‪ .‬وعلى أهل التوحيد بالتوحيد‪ ،‬وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب‬ ‫تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة‪ ..‬وقوله تعالى في خطاب رسوله مقررا نبوته والوحي إليه‬

‫{ونزلنا عليك الكتاب} أي القرآن {تبيانا‪ 4‬لكل شيء} المة في حاجة إلى معرفته من الحلل‬ ‫والحرام والحكام والدلة {وهدى} من كل ضلل {ورحمة} خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه‬ ‫على أنفسهم وحياتهم فيكون‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬عذاب جهنم بالدخول فيها‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها‪ ،‬وذلك لنّ ال تعالى يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى‬ ‫يوردوهم النار‪ ،‬روى مسلم‪" :‬من كان يعبد شيئا فليتبعه‪ ،‬فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع‬ ‫من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت‪ "..‬الحديث‪ ،‬وفي الترمذي‪" :‬‬ ‫فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما‬ ‫كانوا يعبدون"‪.‬‬ ‫‪ 3‬الشهداء‪ :‬هم النبياء والعلماء‪ ،‬فالنبي يشهد على أمته والعالم يشهد على من أمره ونهاه ودلّ هذا‬ ‫على أنه لم تخل فترة من وجود داع إلى ال تقوم به الحجة ل تعالى فقد قال رسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل "يبعث امة وحده"‪ .‬ومثل زيد قس وورقة وسطيح‪.‬‬ ‫‪ 4‬التبيان‪ :‬مصدر دال على المبالغة في المصدرية وأريد به هنا اسم الفاعل أي‪ :‬المبيّن لكل شيء‪.‬‬

‫( ‪)3/148‬‬ ‫رحمة عامة بينهم {وبشرى للمسلمين ‪ }1‬أي المنقادين ل في أمره ونهيه بشرى لهم بالجر العظيم‬ ‫والثواب الجزيل يوم القيامة‪ ،‬وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار‪ .‬وبعد إنزالنا عليك هذا‬ ‫الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على أمتك أعظم‬ ‫شهادة وأكثرها أثرا على نجاة الناجين وهلك الهالكين ول يهلك على ال إل هالك‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة البعث الخر بما ل مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم‪.‬‬ ‫‪ -2‬براءة الشياطين والصنام الذين أشركهم الناس في عبادة ال من المشركين بهم والتبرؤ منهم‬ ‫وتكذيبهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬زيادة العذاب لمن دعا إلى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬ل عذر لحد بعد أن أنزل ال تعالى القرآن تبيانا لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين‪.‬‬ ‫ظكُمْ َلعَّلكُمْ‬ ‫ن وَإِيتَاء ذِي ا ْلقُرْبَى وَيَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَحْشَاء وَا ْلمُنكَرِ وَالْ َب ْغيِ َيعِ ُ‬ ‫ل وَالِحْسَا ِ‬ ‫إِنّ الّلهَ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْد ِ‬ ‫جعَلْتُمُ الّلهَ عَلَ ْيكُمْ‬ ‫تَ َذكّرُونَ(‪ )90‬وََأ ْوفُواْ ِب َعهْدِ اللّهِ ِإذَا عَاهَدتّ ْم َولَ تَن ُقضُواْ الَ ْيمَانَ َب ْعدَ َت ْوكِيدِهَا َوقَدْ َ‬ ‫خذُونَ‬ ‫ضتْ غَزَْلهَا مِن َب ْعدِ ُق ّوةٍ أَنكَاثًا تَتّ ِ‬ ‫َكفِيلً إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َتفْعَلُونَ(‪َ )91‬ولَ َتكُونُواْ كَالّتِي َن َق َ‬

‫أَ ْيمَا َنكُمْ َدخَلً‬ ‫__________‬ ‫خصّ المسلمون دون غيرهم لنّ غيرهم أعرضوا عنه فحرموا الهدى والرحمة والبشرى في‬ ‫‪ُ 1‬‬ ‫الدارين‪.‬‬

‫( ‪)3/149‬‬ ‫بَيْ َنكُمْ أَن َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ الّلهُ بِ ِه وَلَيُبَيّنَنّ َلكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ‬ ‫عمّا‬ ‫ضلّ مَن يَشَاء وَ َيهْدِي مَن يَشَاء وَلَُتسْأَلُنّ َ‬ ‫جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً وَلكِن ُي ِ‬ ‫تَخْتَِلفُونَ(‪ )92‬وََلوْ شَاء اللّهُ لَ َ‬ ‫كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ(‪)93‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫العدل‪ :‬النصاف ومنه التوحيد‪.‬‬ ‫الحسان‪ :‬أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة ال تعالى‪.‬‬ ‫وإيتاء ذوي القربى‪ :‬أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر‪.‬‬ ‫عن الفحشاء ‪ :‬الزنا‪.‬‬ ‫يعظكم‪ :‬أي يأمركم وينهاكم‪.‬‬ ‫تذكرون‪ :‬أي تتعظون‪.‬‬ ‫توكيدها‪ :‬أي تغليظها‪.‬‬ ‫نقضت غزلها ‪ :‬أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته‪.‬‬ ‫من بعد قوة‪ :‬أي أحكام له وبرم‪.‬‬ ‫أنكاثا‪ :‬جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد البرام‪.‬‬ ‫كالتي نقضت غزلها‪ :‬هي حمقاء مكة وتدعى رَيْطَة بنت سعد بن تيم القرشية‪.‬‬ ‫دخلً بينكم‪ :‬الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للفساد والخديعة‪.‬‬ ‫أربى من أمة‪ :‬أي أكثر منها عددا ًوقوة‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إن ال يأمر بالعدل ‪ }1‬أي أن ال يأمر في الكتاب الذي أنزله تبيانا لكل شيء‪ ،‬يأمر‬ ‫بالعدل وهو النصاف ومن ذلك أن يعبد ال بذكره وشكره لنه الخالق المنعم‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬ورد في فضل هذه الية أن عثمان بن مظعون رضي ال عنه قال‪ :‬ما أسلمت ابتداء إلّ حياءٌ‬ ‫من رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان أخاه من الرضاعة حتى نزلت هذه الية وأنا عنده‬

‫فاستقر اليمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال‪ :‬يا ابن أخي أعِد فأعدت فقال‪ :‬وال‬ ‫إنّ له لحلوة وإنّ عليه لطلوة وإن أصله لمورق وأعله لمثمر وما هو بقول بشر‪.‬‬

‫( ‪)3/150‬‬ ‫وتترك عبادة غيره لن غيره لم يخلّق ولم يرزق ولم ينعم بشيء‪ .‬ولذا فسر هذا اللفظ بل إله إل‬ ‫ال‪{ ،‬والحسان ‪ }1‬وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة ال تعالى في ذلك حتى‬ ‫يكون الداء على الوجه المطلوب إتقانا وجودة والجتناب خوفا من ال حياء منه‪ ،‬وقوله {وإيتاء‬ ‫ذي القربى} أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة‪ .‬هذا مما أمر ال تعالى به في كتابه‪ ،‬ومما‬ ‫ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل {والمنكر} وهو كل‬ ‫ما أنكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة‪ ،‬وينهى عن البغي ‪ 2‬وهو الظلم‬ ‫والعتداء ومجاوزة الحد في المور كلها‪ ،‬وقوله {لعلكم تذكرون} أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن‬ ‫تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا المر وتجتنوا النهي‪ .‬وبذلك تكملون وتسعدون‪ .‬ولذا ورد أن هذه الية‪:‬‬ ‫{أن ال يأمر بالعدل ‪ 3‬والحسان ‪ }4‬إلى {تذكرون} هي أجمع آية في كتاب ال للخير والشر‪ .‬وهي‬ ‫كذلك فما من خيرٍ إل وأمرت به ول من ش ٍر إل ونهت عنه‪ .‬وقوله تعالى {وأفوا بعهد ال إذا‬ ‫عاهدتم} أمر من ال تعالى لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع إماما أو عاهد‬ ‫أحدا على شيء أن يفي له بالعهد ول ينقض‪" .‬إذ ل إيمان لمن ل أمانة له‪ ،‬ول دين لمن ل عهد‬ ‫له" كما في الحديث الشريف‪ ..‬وقوله تعالى {ول تنقضوا ‪ 5‬اليمان بعد توكيدها} اليمان جمع يمين‬ ‫وهو الحلف بال وتوكيدها تغليظها باللفاظ الزائدة {وقد جعلتم ال عليكم كفيل} أي وكيل‪ ،‬أي‬ ‫أثناء حلفكم به تعالى‪ ،‬فقد جعلتموه وكيل‪ ،‬فهذه الية حرمت نقض اليمان وهو نكثها وعدم‬ ‫اللتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية ‪ .6‬وقوله‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الحسان مصدر أحسن إحسانا وهو متع ّد بنفسه نحو‪ :‬أحسنت كذا إذا أتقنته وحسّنته وجوّدته‪،‬‬ ‫ومتعدّ بحرف الجرّ نحو‪ :‬أحسنت إلى فلن أي أوصلت إليه ما ينفعه أو دفعت عنه ما يضرّه‪،‬‬ ‫وكل المعنيين مراد في الية وما في حديث جبريل يتناول الول لن من راقب ال تعالى أتقن‬ ‫عمله وحسنه‪.‬‬ ‫‪ 2‬ورد في البغي‪ :‬ل ذنب أسرع عقوبة من البغي‪ ،‬واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين ال‬ ‫حجاب‪ ،‬والباغي مصروع وقد وعد ال من بُغي عليه بالنصر في قوله‪{ :‬ومن عاقب بمثل ما‬ ‫عوقب ثمّ بغى عليه لينصرنه ال}‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال ابن مسعود رضي ال عنه‪ :‬هذه الية‪ :‬أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشرّ يجتنب‪.‬‬ ‫‪ 4‬روي أن جماعة رفعت شكوى بعاملها إلى أبي جعفر المنصور فحاجّها العامل فغلبها حيث لم‬

‫يثبتوا عليه كبير ظلم ول جور في شيء‪ ،‬فقام فتى منهم وقال يا أمير المؤمنين‪{ :‬إن ال يأمر‬ ‫بالعدل والحسان} وإنّه عدل ولم يحسن فعجب أبو جعفر المنصور من إصابته‪ ،‬وعزل العامل‪.‬‬ ‫‪ 5‬هذا في اليمان المؤكد بها الحلف في الجاهلية لقول الرسول صلى ال عليه وسلم في حديث‬ ‫مسلم "ل حلف في السلم وأيّما حلف كان في الجاهلية فإنه ل يزيده السلم إل شدة وأبطل صلى‬ ‫ال عليه وسلم الحلف في السلم‪ ،‬لن السلم جاء بنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم كما‬ ‫هو مبين في شريعته‪.‬‬ ‫‪ 6‬أمّا إذا حلف العبد يمينا فرأى غيرها خيرا منها فإنه ينقض يمينه ويكفر كفّارة يمين لقوله صلى‬ ‫ال عليه وسلم‪" :‬إني وال إن شاء ال ل أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّ أتيت الذي‬ ‫هو خير وكفّرت عن يميني"‪.‬‬

‫( ‪)3/151‬‬ ‫تعالى {إن ال يعلم ‪ 1‬ما تفعلون} فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها‪ .‬وقول تعالى {ول‬ ‫تكونوا كالتي نقضت غزلها}‪ ،‬وهى امرأة بمكة حمقاء ‪ 2‬تغزل ثم تنكث ‪ 3‬غزلها وتفسده بعد‬ ‫إبرامه وإحكامه فنهى ال تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه‬ ‫الحمقاء‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬تتخذون أيمانكم دخلً بينكم} أي إفسادا وخديعة كأن تحالفوا جماعة‬ ‫وتعاهدوها‪ ،‬ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لنها‬ ‫أقوى وتنتفعون بها أكثر‪ .‬هذا معنى قوله تعالى {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي جماعة أكثر‬ ‫من جماعة رجالً وسلحا أو مالً ومنافع‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إنما يبلوكم ال به} أي يختبركم فتعرض‬ ‫لكم هذه الحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها‪ ،‬ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض اليمان والعهود‬ ‫فتتركوا ذلك طاعة لربكم أول تفعلوا إيثارا للدنيا عن الخرة‪{ ،‬وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه‬ ‫تختلفون} ثم يحكم بينكم ويجزيكم‪ ،‬المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته‪ ..‬وقوله تعالى {ولو شاء ال‬ ‫لجعلكم أمة واحدة} على التوحيد والهداية لفعل‪ ..‬ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء‬ ‫هدايته لنه رغب فيها وطلبها‪ ،‬ويضل من يشاء إضلله لنه رغب في الضلل وطلبه وأصر‬ ‫عليه بعد النهي عنه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬لتسألن} أي ‪ 4‬سؤال توبيخ وتأنيب {عما كنتم تعملون} من‬ ‫سوء وباطل‪ ،‬ولزم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‪ ،‬ومن جاء بالسيئة فل‬ ‫يجزى إل بمثلها وهم ل يظلمون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية {إن ال يأمر بالعدل والحسان‪ } ..‬الية (‬ ‫‪.)90‬‬

‫‪ -2‬وجوب العدل والحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الجملة ذكرت علّة لتحريم نقض العهد فهي تحمل وعيدا شديدا وتهديدا كبيرا لمن ينقض‬ ‫العهد‪.‬‬ ‫‪ 2‬يقال لها ريطة بنت عمر وكانت تغزل طول النهار‪ ،‬وفي المساء إذا غضبت لحمقها تحلّ ما‬ ‫أبرمته من غزلها‪ ،‬فنهى ال تعالى المؤمنين أن يكونوا كهذه الحمقاء فيحلون ما يبرمون من عقود‬ ‫وعهود‪.‬‬ ‫‪ 3‬النكث والجمع أنكاث‪ :‬وهو النقض والحل بعد البرام‪.‬‬ ‫‪ 4‬اللم دالة على قسم محذوف نحو‪{ :‬وال لتسألن}‪.‬‬

‫( ‪)3/152‬‬ ‫‪ -3‬تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة‪.‬‬ ‫‪ -4‬لحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها‪.‬‬ ‫‪ -6‬حرمة نقض اليمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين‪.‬‬ ‫‪ -7‬من بايع أميرا أو عاهد أحدا يجب عليه الوفاء ول يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبدا‪.‬‬ ‫وَلَ تَتّخِذُواْ أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلً بَيْ َن ُكمْ فَتَ ِزلّ َقدَمٌ َب ْعدَ ثُبُو ِتهَا وَ َتذُوقُواْ ا ْلسّوءَ ِبمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ الّل ِه وََلكُمْ‬ ‫عظِيمٌ(‪َ )94‬ولَ َتشْتَرُواْ ِب َع ْهدِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلً إِ ّنمَا عِندَ الّلهِ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ(‪)95‬‬ ‫عَذَابٌ َ‬ ‫ن صَبَرُواْ َأجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ(‪ )96‬مَنْ‬ ‫ق وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ‬ ‫مَا عِن َدكُمْ يَنفَدُ َومَا عِندَ اللّهِ بَا ٍ‬ ‫حسَنِ مَا كَانُواْ‬ ‫ع ِملَ صَاِلحًا مّن َذكَرٍ َأوْ أُنثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َب ًة وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَجْرَهُم بِأَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َي ْعمَلُونَ(‪)97‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫دخلً بينكم‪ :‬أي لجل الفساد والخديعة‪.‬‬ ‫وتذوقوا السوء ‪ :‬أي العذاب‪.‬‬ ‫ما عندكم ينفد‪ :‬يفنى وينتهي‪.‬‬ ‫وهو مؤمن‪ :‬أي والحال أنه عندما عمل صالحا كان مؤمنا‪ ،‬إذ بدون إيمان ل عمل يقبل‪.‬‬ ‫حياة طيبة ‪ :‬في الدنيا بالقناعة والرزق الحلل وفي الخرة هي حياة الجنة‪.‬‬ ‫بأحسن ما كانوا يعملون‪ :‬أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الحسن فيها‪.‬‬

‫( ‪)3/153‬‬

‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى‬ ‫للمسلمين‪ .‬وقال تعالى لهم {ول تتخذوا أيمانكم دخلً} أي خديعة {بينكم} لتتوصلوا باليمان إلى‬ ‫غرضٍ دنيوي سافل‪{ ،‬فتزل قدم ‪ 1‬بعد ثبوتها} بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع‪ ،‬يحلف بال‬ ‫بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل ال من تعاهدونهم أو‬ ‫تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلء ينصرفون عن السلم ويعرضون عنه‬ ‫بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث‪ ،‬وتتحملون وزر ذلك‪ ،‬ويكون لكم العذاب العظيم يوم‬ ‫القيامة‪ .‬فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة‪ ،‬فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن السلم بعد أن‬ ‫رسخت فيه‪ .‬وقوله‪{ :‬ول تشتروا ‪ 2‬بعهد ال ثمنا قليلً} وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما‬ ‫عند ال هو خير لكم قطعا‪ ،‬لن ما عندكُمْ من مالٍ أو متاعٍ ينفد أي يفنى‪{ ،‬وما عند ال باق} ل‬ ‫نفاذ له‪ ،‬فاذكروا هذا ول تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ولنجزين الذين‬ ‫صبروا} على عهودهم {أجرهم} على صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} أي يضاعف لهم الجر‬ ‫فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة‪ ،‬كأجر‬ ‫الفريضة وهذا وعد من ال تعالى لمن يصبر على إيمانه وإسلمه ول يبيع دينه بعرض من الدنيا‬ ‫قليل‪ ،‬ووعدٌ ثان في قوله‪{ :‬من عمل صالحا من ذك ٍر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه ‪ 3‬حياة طيبة‬ ‫ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} إل أن أصحاب هذا الوعد هم أهل اليمان والعمل‬ ‫الصالح‪ ،‬اليمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح‪ ،‬ولزم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك‬ ‫والمعاصي‪ ،‬هؤلء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة ل خبث فيها قناعة وطيب طعام‬ ‫‪ 4‬وشراب ورضا‪ ،‬هذا في‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الجملة دلت على المبالغة في النهي اتخاذ اليمان دخل أي خديعة‪ ،‬إذ مَنْ وقع في ورطة‬ ‫يقال‪ :‬زلت قدمه لن القدم إذا زلت نقلت النسان من حال خير إلى حال شرٌ‪.‬‬ ‫‪ 2‬نهى تعالى المؤمنين عن الرّشا وأخذ الموال على نقض العهد أي‪ :‬ل تنقضوا عهودكم لعرض‬ ‫قليل من الدنيا‪ .‬روي أن امرؤ القيس بن عابس الكندي اختصم مع ابن أسوع في أرض فأراد‬ ‫امرؤ القيس أن يحلف فلمّا سمع هذه الية نكل وقرأ لخصمه بالرض‪.‬‬ ‫‪ 3‬اختلف في معنى الحياة الطيبة فقال بعضهم‪ :‬هي الرزق الحلل‪ ،‬وقيل‪ :‬هي القناعة وقيل‪:‬‬ ‫التوفيق إلى الطاعة الموجبة لرضوان ال تعالى‪ ،‬وقيل‪ :‬هي حلوة الطاعة‪ ،‬وقيل هي المعرفة بال‬ ‫وصدق المقام بين يدي ال‪.‬‬ ‫‪ 4‬روى مسلم قول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا وقنعه ال بما‬ ‫آتاه"‪.‬‬

‫( ‪)3/154‬‬ ‫الدنيا وفي الخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع‪ ،‬من الصلة‬ ‫كأفضل صلة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا‪{ .‬ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}‬ ‫اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك برٌ رحيم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬حرمة اتخاذ اليمان طريقا إلى الغش والخديعة والفساد‪.‬‬ ‫‪ -2‬ما عند ال خير مما يحصل عليه النسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا‪.‬‬ ‫ل وتركا‪.‬‬ ‫‪ -3‬عظم أجر الصبر على طاعة ال تعالى فع ً‬ ‫‪ -4‬وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحا من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫علَى الّذِينَ آمَنُو ْا وَعَلَى‬ ‫فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِالّلهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ(‪ )98‬إِنّهُ لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ َ‬ ‫رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ(‪ )99‬إِ ّنمَا سُلْطَاُنهُ عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْ ِركُونَ(‪ )100‬وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً‬ ‫ّمكَانَ آيَ ٍة وَالّلهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُواْ إِ ّنمَا أَنتَ ُمفْتَرٍ َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ(‪ُ )101‬قلْ نَزّلَهُ رُوحُ‬ ‫ا ْلقُدُسِ مِن رّ ّبكَ بِا ْلحَقّ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ(‪)102‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فإذا قرأت القرآن ‪ :‬أي أردت أن تقرأ القرآن‪.‬‬ ‫فاستعذ بال من الشيطان‪ :‬أي قل أعوذ بال من الشيطان الرجيم لحمايتك منه وسواسه‪.‬‬ ‫إنه ليس له سلطان‪ :‬أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضللهم‪ ،‬ما داموا‬

‫( ‪)3/155‬‬ ‫متوكلين على ال‪.‬‬ ‫وإذا بدلنا آية مكان آية ‪ :‬أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد‪.‬‬ ‫قل نزله روح القدس‪ :‬أي جبريل عليه السلم‪.‬‬ ‫ليثبت الذين آمنوا ‪ :‬أي على إيمانهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم‪ ،‬فقوله تعالى‪{ :‬فإذا قرأت القرآن} يا محمد أنت‬ ‫أو أحد من المؤمنين أتباعك {فاستعذ بال من الشيطان الرجيم} أي إذا كنت قارئا عازما على‬ ‫القراءة فقل أعوذ بال ‪ 1‬من الشيطان الرجيم‪ ،‬فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك‬

‫تلوتك ‪ ،2‬وقوله ‪{:‬إنه ليس له} أي للشيطان {سلطان} يعني تسلط وغلبة وقهر {على الذين آمنوا‬ ‫وعلى ربهم يتوكلون} وهذه بشرى خير للمؤمنين {إنما سلطانه على الذين يتولونه}‪ 3‬بطاعته‬ ‫والعمل بتزيينه للشر والباطل ‪{ ،4‬والذين هم به ‪ 5‬مشركون}‪ .‬هؤلء هم الذين يتسلط الشيطان‬ ‫عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإذا بدلنا آية مكان آية} أي نسخنا حكما بحكم‬ ‫آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي اللهي {إنما أنت} يا محمد {مفترٍ} تقول بالكذب‬ ‫والخرص‪ ،‬أي يقول اليوم شيئا ويقول غدا خلفه‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وال أعلم بما ينزل} فإنه ينزله‬ ‫لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لجل مصالح المؤمنين‪ .‬وعلم ال تعالى رسوله كيف يرد على هذه‬ ‫الشبهة وقال له {قل نزله روح القُدس ‪ 6‬من ربك بالحق} فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو‬ ‫وحي ال وكلمه ينزل به جبريل عليه السلم من عند ربك بالحق الثابت عند ال الذي ل يتبدل‬ ‫ول بتغير‪ ،‬وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلمهم‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه كآية الوضوء‪{ :‬إذا قمتم إلى الصلة فاغسلوا‪ }..‬أي ‪ :‬إذا أردتم القيام إلى الصلة وأنتم‬ ‫على غير وضوء فاغسلوا وجوهكم أي‪ :‬توضؤوا‪.‬‬ ‫‪ 2‬لقد صحت الحاديث الكثيرة في أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يتعوّذ في صلته قبل‬ ‫القراءة روي أن بعض السلف كان يتعوّذ بعد القراءة أخذا بهذه الية‪.‬‬ ‫‪ 3‬فائدة الستعاذة قبل القراءة أن يحفظ المرء من أن يلبس عليه إبليس قراءته ويخلط عليه ويمنعه‬ ‫من التدبرّ‪.‬‬ ‫‪ 4‬قيل في قوله تعالى‪{ :‬إنه ليس له سلطان}‪ :‬أي أنه ل يوقعهم في ذنب ل يتوبون منه‪.‬‬ ‫‪ 5‬الضمير في {به} عائد إلى الشيطان ويصح عوده على ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ 6‬روح القدس‪ :‬جبريل عليه السلم‪" :‬فقد نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ما عدا الفاتحة فقد‬ ‫نزل بها ملك لم ينزل إلى الرض قط" رواه مسلم‪.‬‬

‫( ‪)3/156‬‬ ‫فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيمانا فهو كالغيث ينزل على الرض كلما نزل ازدادت حياتها‬ ‫نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين‪ ،‬وهو أي القرآن هدىً من كل ضللة‪.‬‬ ‫وبشرى لكل المسلمين بفلح الدنيا وفوز الخرة‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬استحباب الستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم‪.‬‬ ‫‪ -2‬بيان أنه ل تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم‪.‬‬

‫‪ -3‬بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ‪.‬‬ ‫‪ -5‬بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من‬ ‫الضللة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلح في الدارين‪.‬‬ ‫ج ِميّ وَ َهذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ(‬ ‫عَ‬ ‫حدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ‬ ‫وَلَقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )104‬إِ ّنمَا َيفْتَرِي ا ْلكَ ِذبَ الّذِينَ‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ الّل ِه لَ َيهْدِيهِمُ اللّ ُه وََلهُمْ َ‬ ‫‪ )103‬إِنّ الّذِي َ‬ ‫لَ ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَُأوْل ِئكَ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ(‪ )105‬مَن َكفَرَ بِاللّهِ مِن َب ْعدِ إيمَانِهِ ِإلّ مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ‬ ‫ضبٌ مّنَ اللّ ِه وََلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(‪ )106‬ذَِلكَ‬ ‫غ َ‬ ‫صدْرًا َفعَلَ ْيهِمْ َ‬ ‫طمَئِنّ بِالِيمَانِ وََلكِن مّن شَرَحَ بِا ْل ُكفْرِ َ‬ ‫مُ ْ‬ ‫علَى الخِ َرةِ‬ ‫بِأَ ّنهُمُ اسْتَحَبّواْ ا ْلحَيَاةَ الْدّنْيَا َ‬

‫( ‪)3/157‬‬ ‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِمْ‬ ‫وَأَنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ(‪ )107‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَ َ‬ ‫وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ(‪ )108‬لَ جَرَمَ أَ ّنهُمْ فِي الخِ َرةِ هُمُ الْخَاسِرونَ(‪)109‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫بشر ‪ :‬يعنون قينا (حدادا) نصرانيا في مكة‪.‬‬ ‫لسان الذي يلحدون إليه‪ :‬أي يميلون إليه‪.‬‬ ‫وهذا لسان عربي‪ :‬أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي‪.‬‬ ‫إل من أكره‪ :‬أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به‪.‬‬ ‫ولكن من شرح بالكفر صدرا‪ :‬أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له‪.‬‬ ‫وأولئك هم الغافلون ‪ :‬أي عما يراد بهم‪.‬‬ ‫ل جرم‪ :‬أي حقا‪.‬‬ ‫هم الخاسرون ‪ :‬أي لمصيرهم ‪ 1‬إلى النار خالدين فيها أبدا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صلى ال عليه وسلم بالفتراء‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬ولقد نعلم ‪ 2‬أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} أي يعلم محمدا بشر أي إنسان من الناس‪،‬‬ ‫ل أنه وحي يتلقاه من ال‪ .‬قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها {لسان الذي يلحدون إليه}‬ ‫أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه {أعجمي ‪ }3‬لنه عبد رومي‪{ ،‬وهذا} أي القرآن‬ ‫{لسان عربي مبين} ذو فصاحة وبلغة وبيان فكيف‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬أي‪ :‬لكون مصيرهم إلى النار وأيّ خسران أعظم من خسران من دخل النار فخسر نفسه وأهله‬

‫قال تعالى فيه‪{ :‬أل ذلك هو الخسران المبين}‪.‬‬ ‫‪ 2‬اختلف في تعيين هذا الرجل فقيل‪ :‬اسمه جبر ويكنى بأبي فكيهة‪ ،‬وقيل‪ :‬اسمه عايش‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫اسمه يعيش وكان روميّا وكان صيقليا يشحذ السيوف ويحليها وكان يجلس إليه النبي صلى ال‬ ‫عليه وسلم أحيانا فقالوا قولتهم هذه‪.‬‬ ‫‪ 3‬العجمة‪ :‬الخفاء وضد البيان ورجل أعجم وامرأة عجماء أي ل يفصح ول يبين ومنه عجب‬ ‫الذنب لستتاره والعجماء البهيمة والعجمى من ل يتكلم العربية‪.‬‬

‫( ‪)3/158‬‬ ‫يتفق هذا مع ما يقولون انهم يكذبون ل غير‪ ،‬وقوله تعالى {إن الذين ل يؤمنون بآيات ال} وهي‬ ‫نورٌ وهدى وحججٌ قواطع‪ ،‬وبرهان ساطع {ل يهديهم ال} إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لنهم‬ ‫أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله {ولهم عذاب أليم} أي جزاء كفرهم‬ ‫بآيات ال‪ .‬وقوله {إنما يفتري ‪ 1‬الكذب الذين ل يؤمنون بآيات ال وأولئك هم الكاذبون} أي إنما‬ ‫يختلق الكذب ويكذب فعلً الكافر بآيات ال لنه ل يرجو ثواب ال ول يخاف عقابه‪ ،‬فلذا ل يمنعه‬ ‫شيء عن الكذب‪ ،‬أما المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو ل يكذب أبدا‪،‬‬ ‫وبذا تعين أن النبي لم يفتر الكذب وإنما يفترى الكذب أولئك المكذبون بآيات ل وهم حقا الكاذبون‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬من كفر ‪ 2‬بال من بعد إيمانه إل من أكره} ‪ 3‬على التلفظ بالكفر {وقلبه مطمئن‬ ‫باليمان} ل يخامره شك ول يجد اضطرابا ول قلقا فقال كلمة الكفر لفظا فقط‪ ،‬فهذا كعمار بن‬ ‫ياسر كانت قريش تكرهه علي كلمة الكفر فأذن له الرسول صلى ال عليه وسلم في قولها بلسانه‬ ‫ولكن المستحق للوعيد التي {من شرح بالكفر صدرا} أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا‬ ‫وأمثاله {فعليهم غضب من ال ولهم عذاب عظيم} أي باءوا بغضب ال وسخطه ولهم في الخرة‬ ‫عذاب عظيم‪ ،‬وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة}‬ ‫بكفرهم بال وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات‪ ،‬فل طاعة ول حلل ول حرام‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وإن ال ل يهدي القوم الكافرين} هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم‬ ‫الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه‪ .‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫{أولئك الذين طبع ال على قلوبهم} وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم ال بعدم هدايتهم‬ ‫هم الذين طبع على قلوبهم فهم ل يفهمون {وسمعهم} فهم ل يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذا جواب وصفهم النبي صلى ال عليه وسلم بالكذب فأعلم تعالى أنّ الذي يفتري الكذب هو‬ ‫الكافر بآيات ال الكاذب الذي ل يعرف الصدق أبدا‪.‬‬ ‫‪ 2‬قوله ‪{ :‬من كفر بال بعد إيمانه}‪ :‬عائد إلى قوله‪{ :‬إنما يفتري الكذب الذي ل يؤمنون بآيات ال}‬

‫‪ .‬وقوله‪{ :‬إلّ من أكره}‪ :‬نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير لنه قارب أن يقول بعض‬ ‫ما طلبوه منه فرفع تعالى عنه الحرج وقال له الرسول صلى ال عليه وسلم "أعطهم يا عمار" وهو‬ ‫تحت العذاب وقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"‬ ‫واستثنى أهل العلم من أكره على قتل مؤمن أنه ل يقتله‪ ،‬وليكن المقتول ول يقتل فل يفد نفسه‬ ‫بأخيه حتى مجرد الضرب ل يضربه‪.‬‬ ‫‪ 3‬أهل العلم على أن المكره على الطلق وعلى الحلف وعلى الحنث أنه ل شيء فيه‪.‬‬

‫( ‪)3/159‬‬ ‫ال تعالى {وأبصارهم} فهم ل يبصرون آيات ال وحججه في الكون‪ ،‬وما حصل لهم من هذه‬ ‫الحال سببه العراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا‪ ،‬والعناد‪ ،‬والمكابرة‪ ،‬والوقوف في وجه دعوة‬ ‫الحق والصد عنها‪ .‬وقوله {وأولئك هم الغافلون} أي عمّا خلقوا له‪ ،‬وعما يراد لهم من نكال في‬ ‫الخرة وعذابٍ أليم‪ .‬وقوله تعالى {ل جرم} أي حقا {أنهم في الخرة هم الخاسرون} المغبونون‬ ‫حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم ل يخرجون منه ول يفتر عنهم وهم فيه مبلسون‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬دفاع ال تعالى عن رسوله ودرء كل تهمةٍ توجه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -2‬المكذبون بآيات ال يحرمون هداية ال‪ ،‬لن طريق الهداية هو اليمان بالقرآن‪ .‬فلما كفروا به‬ ‫فعلى أي شيء يهتدون‪.‬‬ ‫‪ -3‬المؤمنون ل يكذبون ليمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب‪ ،‬ولكن الكافرين هم الذين يكذبون‬ ‫لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ ل يرجون ثوابا ول يخافون عقابا‪.‬‬ ‫‪ -4‬الرخصة ‪ 1‬في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى اليمان وعدم انشراح‬ ‫الصدر بكلمة الكفر‪.‬‬ ‫‪ -5‬إيثار الدنيا على الخرة طريق الكفر وسبيل الضلل والهلك‪.‬‬ ‫ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن َبعْدِ مَا فُتِنُواْ ُثمّ جَاهَدُو ْا َوصَبَرُواْ إِنّ رَ ّبكَ مِن َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ(‬ ‫سهَا وَتُ َوفّى ُكلّ‬ ‫‪َ )110‬يوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ تُجَا ِدلُ عَن ّنفْ ِ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وكذلك الرخصة في العتاق والطلق والنكاح والحلف والحنث ما دام مكرها فل يلزمه شيء‬ ‫لحديث‪" :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" الحديث‪ ،‬وكذا من أكره على تسليم‬ ‫زوجته فل شيء عليه إذ أكره إبراهيم على ذلك وعصمه ال تعالى ومن صبر على ما أكره به‬ ‫من الضرب والتعذيب فله ذلك فقد صبر عبد ال بن حذافة السهمي على ألوان من التعذيب‬

‫والتهديد على يد ملك الروم حيث أسر مع جمع من المسلمين فعذب ما شاء ال أن يعذّب ثم أطلق‬ ‫السرى‪ ،‬وقبّل عمر رضي ال عنه رأسه إكراما له واعترافا بفضله لنّ ملك الروم أخذ ما أكرهه‬ ‫عليه تقبيل رأسه فقبّله‪.‬‬

‫( ‪)3/160‬‬ ‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا‬ ‫عمَِلتْ وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ(‪َ )111‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ‬ ‫َنفْسٍ مّا َ‬ ‫خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ(‪)112‬‬ ‫ع وَالْ َ‬ ‫رَغَدًا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُو ِ‬ ‫ب وَ ُهمْ ظَاِلمُونَ(‪)113‬‬ ‫وَلَقَدْ جَاءهُمْ َرسُولٌ مّ ْنهُمْ َفكَذّبُوهُ فََأخَذَ ُهمُ ا ْلعَذَا ُ‬ ‫شرح الكلمات‪:،‬‬ ‫هاجروا ‪ :‬أي إلى المدينة‪.‬‬ ‫من بعدما فتنوا ‪ :‬أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين‪.‬‬ ‫إن ربك من بعدها‪ :‬أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على اليمان والجهاد‪.‬‬ ‫لغفور رحيم ‪ :‬أي غفورٌ لهم رحيم بهم‪.‬‬ ‫يوم تأتي‪ :‬أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها‪.‬‬ ‫مثلً قرية‪ :‬هي مكة‪.‬‬ ‫رزقها رغدا ‪ :‬أي واسعا‪.‬‬ ‫فكفرت بأنعم ال‪ :‬أي بالرسول والقرآن والمن ورغد العيش‪.‬‬ ‫فأذاقها ال لباس الجوع ‪ :‬أي بسبب قحطٍ أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين‪.‬‬ ‫والخوف ‪ :‬حيث أصبحت سرايا السلم تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعدما ذكر ال تعالى رخصة كلمة الكفر عند الكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر‬ ‫مخبرا عن بعض المؤمنين‪ ،‬تخلفوا عن الهجرة بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم فلما أرادوا‬ ‫الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر‪ ،‬ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا‬

‫( ‪)3/161‬‬ ‫وصبروا فأخبر ال تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ووحمته‪ ،‬فل يخافون ول يحزنون فقال تعالى {ثم‬ ‫عذّبوا {ثم جاهدوا وصبروا إن ربك‬ ‫إن ‪1‬ربك} أيها الرسول {للذين هاجروا ‪ 2‬من بعدما فتنوا} أي ُ‬ ‫من ‪ 3‬بعدها لغفورٌ رحيم} أي غفورٌ لهم رحيمٌ بهم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬يوم ‪ 4‬تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} أي اذكر ذلك واعظا به المؤمنين أي‬

‫تخاصم طالبةً النجاة لنفسها {وتوفى كل نفسٍ ما عملت} أي من خير أو شر {وهم ل يظلمون} لن‬ ‫ال عدلٌ ل يجور في الحكم ول يظلم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وضرب ال مثلً قرية ‪ }5‬أي مكة {كانت‬ ‫آمنة} من غارات العداء {مطمئنة} ل ينتابها فزعٌ ول خوف‪ ،‬لما جعل ال تعالى في قلوب العرب‬ ‫من تعظيم الحرم وسكانه‪{ ،‬يأتيها رزقها رغدا} أي واسعا {من كل ‪ 6‬مكان} حيث يأتيها من الشام‬ ‫واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء {فكفرت بأنعم ال} وهي تكذيبها برسول ال صلى ال‬ ‫عليه وسلم وإنكارها للتوحيد‪ ،‬وإصرارها على الشرك وحرب السلم {(فأذاقها ال لباس الجوع}‬ ‫فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد‪ ،‬فأصابهم القحط سبع‬ ‫سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجِيفْ والعهن‪ ،‬وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا السلم‬ ‫تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها‪ ،‬وقوله تعالى {بما كانوا يصنعون ‪ }7‬أي‬ ‫جزاهم ل بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم‬ ‫وإصرارهم على ذلك‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ولقد جاءهم رسولٌ منهم} هو محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫{فكذبوه} أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته {فأخذهم العذاب} عذاب الجوع‬ ‫والخوف والحال أنهم {ظالمون} أي مشركون وظالمون لنفسهم حيث عرضوها‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬لمّا كانت الهجرة ل ولرسوله صلى ال عليه وسلم قرن ال تعالى اسمه مع اسم نبيه صلى ال‬ ‫عليه وسلم فقال‪({ :‬ثم إن ربك} أي بمغفرته ورحمته للذين هاجروا‪.‬‬ ‫‪ 2‬هاجروا أول إلى الحبشة ثم إلى المدينة النبوية‪.‬‬ ‫‪ 3‬أي‪ :‬من بعد الحال التي كانت أيام تعذيبهم وفتنتهم على يد المشركين‪.‬‬ ‫ل لفعل محذوف‬ ‫‪ 4‬جائز أن يكون الظرف متعلقا بقوله‪{ :‬لغفور رحيم } وجائز أن يكون معمو ً‬ ‫تقديره‪ :‬اذكر ومعنى تجادل‪ :‬تخاصم وتحاج عن نفسها وفي الحديث‪" :‬أن كل نفس يوم القيامة‬ ‫تقول‪ :‬نفسي نفسي" لشدة الهول‪.‬‬ ‫‪ 5‬هي مكة وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد دعا على أهلها فقال‪" :‬اللهم أشدد وطأتك على‬ ‫مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام‪.‬‬ ‫‪ 6‬من البرّ والبحر‪ ،‬هذا كقوله تعالى‪{ :‬يجبى إليه ثمرات كل شيء}‪.‬‬ ‫‪ 7‬وقيل‪ :‬إنّ القرية هذه هي المدينة قالت هذا حفصة وعائشة زوجتا الرسول صلى ال عليه وسلم‬ ‫وذلك لما قتل عثمان واشتد البلء بأهل المدينة وعموم الية ظاهر‪ ،‬وكونها مكة أظهر‪.‬‬

‫( ‪)3/162‬‬ ‫بكفرهم إلى عذاب الجوع والخوف‪.‬‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬فضل الهجرة والجهاد والصبر‪ ،‬وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا‪،.‬‬ ‫‪ -2‬وجوب التذكير باليوم الخر وما يتم فيه من ثوابٍ وعقاب للتجافي عن الدنيا والقبال على‬ ‫الخرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬استحسان ضرب المثال من أهل العلم‪.‬‬ ‫‪ -4‬كفر النعم بسبب زوالها والنتقام من أهلها‪.‬‬ ‫‪ -5‬تكذيب الرسول صلى ال عليه وسلم في ما جاء به‪ ،‬ولو بالعراض عنه وعدم العمل به يجر‬ ‫البلء والعذاب‪.‬‬ ‫علَ ْيكُمُ‬ ‫شكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ(‪ )114‬إِ ّنمَا حَرّمَ َ‬ ‫َفكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَللً طَيّبًا وَا ْ‬ ‫غفُورٌ‬ ‫غ َولَ عَادٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬ ‫حمَ ا ْلخَنزِي ِر َومَآ ُأ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ ِبهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَا ٍ‬ ‫ا ْلمَيْتَ َة وَالْدّ َم وَلَ ْ‬ ‫ل وَهَذَا حَرَامٌ لّ َتفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ إِنّ‬ ‫لٌ‬ ‫صفُ أَلْسِنَ ُتكُمُ ا ْلكَ ِذبَ هَذَا حَ َ‬ ‫رّحِيمٌ(‪َ )115‬ولَ َتقُولُواْ ِلمَا َت ِ‬ ‫عذَابٌ أَلِيمٌ(‪ )117‬وَعَلَى الّذِينَ‬ ‫ل وََلهُمْ َ‬ ‫الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَ ُيفْلِحُونَ(‪ )116‬مَتَاعٌ قَلِي ٌ‬ ‫ظِلمُونَ(‪)118‬‬ ‫سهُمْ يَ ْ‬ ‫ل َومَا ظََلمْنَاهُ ْم وََلكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬ ‫صصْنَا عَلَ ْيكَ مِن قَ ْب ُ‬ ‫هَادُواْ حَ ّرمْنَا مَا َق َ‬

‫( ‪)3/163‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫فكلوا ‪ :‬أي أيها الناس‪.‬‬ ‫حللً طيبا ‪ :‬أي غير حرام ول مستقذر‪.‬‬ ‫واشكروا نعمة ال عليكم ‪ :‬أي بعبادته وحده وبالنتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم‪.‬‬ ‫إن كنتم إياه تعبدون‪ :‬أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره‪ ،‬فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم‬ ‫عليكم‪.‬‬ ‫الميتة‪ :‬أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية‪.‬‬ ‫والدم ‪ :‬أي الدم المسفوح السائل ل المختلط باللحم والعظم‪.‬‬ ‫وما أهل لغير ال به ‪ :‬أي ما ذكر عليه غير اسم ال تعالى‪.‬‬ ‫غير باغٍ ول عاد ‪ :‬أي غير باغ على أحد‪ ،‬ول عادٍ أي متجاوز حد الضرورة‪.‬‬ ‫ول تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب‪ :‬أي ل تحللوا ول تحرموا بألسنتكم كذبا على ال فتقولوا هذا‬ ‫حلل وهذا حرام بدون تحليل ول تحريم من ال تعالى‪.‬‬ ‫وعلى الذين هادوا‪ :‬أي اليهود‪.‬‬ ‫حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ‪ :‬أي في سورة النعام‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬

‫امتن ال عز وجل على عباده‪ ،‬فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلل الطيب ويشكروه على‬ ‫ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد ال تعالى وحده‪ ،‬فإنه يشكره على ما أنعم به عليه‪ ،‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬إنما حرم ‪ 1‬عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير ال به} فل تحرموا ما لم‬ ‫يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على ال وكذبا‪ .‬وقوله‬ ‫{فمن اضطر} منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلك بالموت لشدة الجوع وكان {غير باغ} على‬ ‫أحد ول معتدٍ ما أحل له إلى ما حرم عليه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬هذه الجملة بيان لمضمون جملة‪{ :‬فكلوا مما رزقكم ال حللً طيبا} لتمييز الطيبّ من الخبيث‬ ‫وذكر تعالى هنا أربع محرمات وهي عشر جاءت في سورة المائدة إل أنّ هذه الربعة هي‬ ‫الصول وما دونها تابع لها‪ :‬المنخنقة‪ ،‬والموقوذة‪ ،‬والمتردية‪ ،‬والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح‬ ‫على النصب فالخمسة الولى تابعة للميتة والسادسة تابعة لما أهل به لغير ال‪.‬‬

‫( ‪)3/164‬‬ ‫فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ول إثم عليه {فإن ال غفور رحيم} فيغفر للمضطر كما يغفر‬ ‫للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الكل دفعا للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬ول تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ‪ 1‬هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على ال الكذب} أي‬ ‫ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يسموا الشيء بأنه حلل أو حرام لمجرد قولهم‬ ‫بألسنتهم الكذب‪ :‬هذا حلل وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ول‬ ‫شرع سماوي‪ .‬ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك إلى الفتراء على ال والكذب عليه‪ .‬مع أن الكاذب‬ ‫على ال ل يفلح أبدا لقوله {إن الذين يفترون على ال الكذب ل يفلحون متاع قليل}‪ 2‬وإن تمتعوا‬ ‫قليلً في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جدا ول يعتبر صاحبه مفلحا ول‬ ‫فائزا‪ .‬فإن وراء ذلك العذاب الخروي الليم الدائم الذي ل ينقطع‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وعلى الذين‬ ‫هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يخاطب ال تعالى رسوله فيقول‪ :‬كما حرمنا على هذه‬ ‫المة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير ال به‪ ،‬حرمنا على اليهود ما قصصنا‬ ‫عليك من قبل في سورة النعام‪ .‬إذ قال تعالى {وعلى الذين ‪ 3‬هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن‬ ‫البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إل ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم}‪ .‬وحرم‬ ‫هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم ال فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده‬ ‫المؤمنين‪ .‬ولذا قال تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬

‫‪ -1‬يجب مقابلة النعيم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم ال تعالى عليه فل يشكره عليها‬ ‫بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬الكذب} منصوب على المفعولية المطلقة أي‪ :‬مطلق الكذب‪.‬‬ ‫‪ 2‬جملة‪{ :‬متاع قليل} جملة بيانية في جواب قول من قال‪ :‬كيف ل يفلحون وهم يمتعون بالطعام‬ ‫والشراب والنساء والموال؟ فأجيب بأن هذا متاع قليل جدا بالنظر إلى ما في الخرة‪.‬‬ ‫‪ 3‬تقديم الجار والمجرور‪{ :‬وعلى الذين هادوا حرمنا} للهتمام وللشارة إلى أنّ ذلك التحريم كان‬ ‫انتقاما منهم ولم يكن شرعا لكمالهم وإسعادهم‪.‬‬

‫( ‪)3/165‬‬ ‫‪ -2‬بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير ال‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان الرخصة في الكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت‪.‬‬ ‫‪ -4‬حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي ل ظني إل ما غلب على الظن تحريمه‪.‬‬ ‫‪ -5‬حرمة الكذب على ال وأن الكاذب على ال ل يفلح في الخرة وفلحه في الدنيا جزيء قليل‬ ‫ل قيمة له‪ ..‬هذا إن أفلح‪.‬‬ ‫‪ -6‬قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة السلم من نعم بسبب ظلمها في عصور‬ ‫انحطاطها‪.‬‬ ‫ك وََأصْلَحُواْ إِنّ رَ ّبكَ مِن َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ‬ ‫جهَاَلةٍ ثُمّ تَابُواْ مِن َبعْدِ ذَِل َ‬ ‫عمِلُواْ السّوءَ بِ َ‬ ‫ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ َ‬ ‫رّحِيمٌ(‪ )119‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِّلهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ(‪ )120‬شَاكِرًا لّأَ ْن ُعمِهِ اجْتَبَاهُ‬ ‫حسَنَ ًة وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ(‪ُ )122‬ثمّ‬ ‫وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ(‪ )121‬وَآتَيْنَاهُ فِي ا ْلدّنْيَا َ‬ ‫ج ِعلَ السّ ْبتُ عَلَى الّذِينَ‬ ‫َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ(‪ )123‬إِ ّنمَا ُ‬ ‫حكُمُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَِلفُونَ(‪)124‬‬ ‫اخْتََلفُواْ فِي ِه وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َي ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ‪ :‬أي ثم إن ربك غفورٌ رحيمٌ للذين عملوا السوء بجهالة ثم‬ ‫تابوا‪.‬‬ ‫من بعدها ‪ :‬أي من بعد الجهالة والتوبة‪.‬‬

‫( ‪)3/166‬‬

‫إن إبراهيم كان أمة ‪ :‬أي إماما جامعا لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك‪.‬‬ ‫ل حنيفا‪ :‬أي مطيعا ل حنيفا‪ :‬مائلً إلى الدين القيم الذي هو السلم‪.‬‬ ‫اجتباه ‪ :‬أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة‪.‬‬ ‫وآتيناه في الدنيا حسنة ‪ :‬هي الثناء الحسن من كل أهل الديان السماوية‪.‬‬ ‫إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ‪ :‬أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إل السبت‬ ‫ففرض ال عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫بعدما نددت اليات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين‬ ‫المعاندين‪ ،‬وقد أوشك سياق السورة على النتهاء فتح ال تعالى باب التوبة لهم وقال‪{ :‬ثم إن ربك}‬ ‫أي بالمغفرة والرحمة {للذين عملوا السوء بجهالةٍ‪ }1‬فأشركوا بال غيره وأنكروا وحيه وكذبوا‬ ‫بلقائه {ثم تابوا من بعد ذلك} فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له‬ ‫بالصالحات {وأصلحوا} ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم {إن ربك من بعدها} من‬ ‫بعد هذه التوبة ‪ 2‬والوبة الصحيحة {لغفور رحيم} بهم فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إن إبراهيم ‪ 3‬كان أمة ‪ 4‬قانتا ل حنيفا‪ ،‬ولم يك من المشركين‪ .‬شاكرا لنعمه اجتباه‬ ‫وهداه إلى صراط مستقيم‪ .‬وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الخرة لمن الصالحين‪ .‬ثم أوحينا إليك‬ ‫أن اتبع ‪ 5‬ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} إنه لما كان من شبه المشركين أنهم على دين‬ ‫أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم‪ ،‬واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم‬ ‫على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا السلم‬ ‫بدعوى ما هم عليه هو دين ال الذي جاء به إبراهيم أبو النبياء عليه‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الجهالة‪ :‬انتفاء العلم بما يجب أن يعلم‪ ،‬والمراد بجهالتهم‪ :‬جهالتهم بأدلة الشرع المحرّمة للشرك‬ ‫والكفر والفساد‪ ،‬والموجبة للتوحيد وطاعة ال ورسوله‪ .‬والباء‪ :‬في {بجهالة} ‪ :‬للملبسة وهي في‬ ‫موضع الحال من ضمير عملوا‪.‬‬ ‫‪ 2‬وجائز أن يعود الضمير على الجهالة أيضا كما جائز أن يعود على التوبة‪.‬‬ ‫‪{ 3‬إنّ إبراهيم}؛ هذه الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لغرض التنويه بدين السلم الذي هو دين‬ ‫إبراهيم من قبل‪.‬‬ ‫‪ 4‬المّة ‪ :‬الجامع للخير‪ ،‬والقانت‪ :‬المطيع ل تعالى‪ ،‬والحنيف‪ :‬المائل إلى الحق المجانب للباطل‪.‬‬ ‫‪ 5‬في الية الدليل على جواز اتباع الفضل للمفضول ول تبعة على الفاضل أي‪ :‬ل غضاضة‬ ‫عليه ول مساس بمقامه‪.‬‬

‫( ‪)3/167‬‬

‫السلم‪ ،‬ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحي والدين الحق ذكر‬ ‫تعالى جملةً من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف هل‬ ‫هو متبع لبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك‪ .‬فقال تعالى {إن إبراهيم كان ‪ 1‬أمة} أي‬ ‫إماما صالحا جامعا لخصال الخير‪ ،‬يقتدي به كل راغب في الخير‪ .‬هذا أولً وثانيا أنه كان قانتا‬ ‫أي مطيعا لربه فل يعصي له أمرا ول نهيا ثالثا لم يك من المشركين بحال من الحوال بل هو‬ ‫بريء من الشرك وأهله‪ ،‬ورابعا كان شاكرا لنعم ال تعالى عليه أي صارفا نعم ال عليه فيما‬ ‫يرضي ال‪ ،‬خامسا اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لنة أحب ال أكثر من كل شيء فتخلل‬ ‫حب ال قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان‪ .‬فخالّه ال أي بادله خلة بخلّة فكان خليل الرحمن‪ .‬سادسا‬ ‫وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو السلم‪ ،‬سابعا وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر‬ ‫الجميل من جميع أهل الديان اللهية الصل‪ .‬ثامنا وإنه في الخرة لمن الصالحين الذين قال ال‬ ‫تعالى فيهم‪ :‬أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪،‬‬ ‫وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها‪ .‬تاسعا مع جللة قدر النبي محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫ورفعة مكانته أمره ال تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا‪.‬‬ ‫هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه‪ ،‬المشركون؟ ل! اليهود؟ ل‪ ،‬النصارى؟ ل! المسلمون‬ ‫الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬إنما جعل السبت ‪ 2‬على الذين اختلفوا فيه} فيه دليل على بطلن دعوى اليهود أنهم‬ ‫على ملة إبراهيم ودينه العظيم‪ ،‬إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم‪،‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال مالك‪ :‬بلغني أنّ عبدال بن مسعود رضي ال عنه قال‪ :‬يرحم ال معاذً كان امّة قانتا فقيل‬ ‫له‪ :‬يا أبا عبدالرحمن إنّما ذكر ال عزّ وجلّ بهذا إبراهيم عليه السلم فقال عبدال‪" :‬إن المة الذي‬ ‫يعلم الناس الخير وإن القانت‪ :‬هو المطيع"‪.‬‬ ‫‪ 2‬أي‪ :‬لم يكن في شرع إبراهيم ول من دينه‪ ،‬إذ كان‪ .‬دين إبراهيم سمحا ل تغليظ فيه والسبت‬ ‫تغليظ على اليهود في ترك العمال وترك التبسّط في المعاش بسبب اختلفهم فيه أي‪ :‬اختلفوا في‬ ‫يوم الجمعة بعدما أمروا بتعظيمه فأبت اليهود إل السبت بدعوى أن ال فرغ من الخلق فيه‪.‬‬ ‫واختار النصارى الحد‪ :‬لن ال ابتدأ الخلق فيه‪ ،‬وهدى ال أمّة السلم ليوم الجمعة الذي اختلفوا‬ ‫فيه ففي البخاري يقول صلى ال عليه وسلم‪" :‬نحن الخرون الوّلون يوم القيامة‪ ،‬ونحن أوّل من‬ ‫يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا ال لما اختلفوا‬ ‫فيه من الحق‪ ،‬فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا ال له (يوم الجمعة"‪.‬‬

‫( ‪)3/168‬‬

‫وإنما سببه أن ال تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في‬ ‫ذلك وآثروا السبت عنادا ومكابرة فكتب ال عليهم تعظيم السبت‪ .‬وقوله {وإن ربك ليحكم بينهم يوم‬ ‫القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءا على تمردهم على أنبيائهم‬ ‫واختلفهم عليهم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫عظُم أو صغُر على شرط صدق التوبة بالقلع الفوري‬ ‫‪ -1‬باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب َ‬ ‫والندم والستغفار الدائم وإصلح المفاسد‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير التوحيد والعلن عن شان إبراهيم عليه السلم وييان كمالته وإنعام ال عليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان أن سبت اليهود هو من نقم ال عليهم ل من نعمه وافضاله عليهم‪.‬‬ ‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ ا ْلحَسَنَةِ وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَن‬ ‫ا ْدعُ إِلِى سَبِيلِ رَ ّبكَ بِا ْل ِ‬ ‫ضلّ عَن سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ(‪ )125‬وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ‬ ‫َ‬ ‫علَ ْيهِ ْم َولَ َتكُ فِي ضَيْقٍ ّممّا‬ ‫خَيْرٌ لّلصّابِرينَ(‪ )126‬وَاصْبِرْ َومَا صَبْ ُركَ ِإلّ بِاللّ ِه َولَ تَحْزَنْ َ‬ ‫حسِنُونَ(‪)128‬‬ ‫َي ْمكُرُونَ(‪ )127‬إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّالّذِينَ هُم مّ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إلى سبيل ربك ‪ :‬أي إلى طاعته إذ طاعة ال موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل ال‪.‬‬ ‫بالحكمة ‪ :‬أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق‪.‬‬ ‫والموعظة الحسنة‪ :‬هي مواعظ القرآن‪ ،‬والقول الرقيق الحسن‪.‬‬

‫( ‪)3/169‬‬ ‫وجادلهم بالتي هي أحسن‪ :‬أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها‪.‬‬ ‫لهو خيرٌ للصابرين‪ :‬أي خي ٌر من النتقام عاقبةً‪.‬‬ ‫ول تك في ضيق مما يمكرون ‪ :‬أي ل تهتم بمكرهم‪ ،‬ول يضيق صدرك به‪.‬‬ ‫مع الذين اتقوا‪ :‬أي اتقوا الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫والذين هم محسنون‪ :‬أي في طاعة ال‪ ،‬ومعصيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفا وتكليفا‪{ :‬ادع إلى سبيل ربك ‪ }1‬أي إلى دينه وهو السلم‬ ‫سائر الناس‪ ،‬وليكن دعاؤك {بالحكمة} التي هي القرآن الكريم الحكيم {والموعظة الحسنة} وهي‬ ‫مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله‪ ،‬وترغيبه وترهيبه‪{ ،‬وجادلهم بالتي هي أحسن} أي خاصمهم‬ ‫بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء‪ ،‬فإن ذلك أدعى‬

‫لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} من‬ ‫الناس {وهو أعلم بالمهتدين} وسيجزيهم المهتدي بهداه‪ ،‬والضال بضلله‪ ،‬كما هو أعلم بمن ضل‬ ‫واهتدى أزلً‪ .‬فهون على نفسك ول تشطط في دعوتك فتضر بنفسك‪ ،‬والمر ليس إليك‪ .‬بل لربك‬ ‫يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إل الدعوة بالوصف الذي وصف لك‪ ،‬بالحكمة‬ ‫والموعظة الحسنة‪ ،‬والمجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬وقوله تعالى {وإن عاقبتم ‪ 2‬فعاتبوا بمثل ما عوقبتم‬ ‫به} ل أكثر‪{ ،‬ولئن صبرتم} وتركتم المعاقبة {لهو} أي صبركم {خيرٌ} لكم من المعاقبة على الذنب‬ ‫والجناية‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬واصبر} على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين‬ ‫جزاء تمثيلهم بعمك حمزه‪ ،‬فأمره بالصبر ولزمه ترك المعاقبة والتمثيل معا‪ ،‬وقوله‪{ :‬وما صبرك‬ ‫إل بال} أي إل بتوفيقه وعونه‪ ،‬فكن مع ربك‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪ :‬هذه الية نزلت بمكة في وقت مهادنة قريش‪ ،‬وأمره أن يدعو إلى دين ل‬ ‫وشرعه بتلّطف ولين دون مخاشنة وعنف‪ ،‬وهكذا ينبغي أن يدعو المسلمون إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ 2‬جمهور المفسرين على أن هذه الية‪{ :‬وإن عاقبتم فعاقبوا‪ }...‬الخ نزلت بالمدينة في شأن قتل‬ ‫حمزة والتمثيل به رضي ال عنه وأرضاه يوم أحد ذكر ذلك البخاري وغيره وفي الية دليل على‬ ‫وجوب المماثلة في القصاص ويحرم عدمها‪ .‬وفي الية دليل لمن قال بجواز أخذ مال من أخذ مال‬ ‫غيره إذا لم يتمكن منه بعلمه ورضاه على شرط أن ل يأخذ أكثر مما أخذ‪.‬‬

‫( ‪)3/170‬‬ ‫تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ول تحزن عليهم} أي على عدم‬ ‫اهتدائهم إلى الحق والخذ به والسير في طريقه الذي هو السلم {ول تك في ضيق ‪ }1‬نفسي‬ ‫يؤلمك {مما يمكرون} بك فإن ال تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فل تخف ول تحزن لنه‬ ‫مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‪ ،‬وأنت منهم‪ .‬وقوله‪{ :‬إن ال مع الذين ‪ 2‬اتقوا والذين هم‬ ‫محسنون} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عز وجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين‬ ‫اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه‪ ،‬ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون في‬ ‫طاعة ربهم إخلصا في النية والقصد‪ ،‬وأداءً على نحوه‪ ،‬شرع ال وبين رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب الدعوة إلى ال تعالى أي إلى السلم وهو واجب كفائى‪ ،‬إذا قامت به جماعة أجزأ‬ ‫ذلك عنهم‪.‬‬

‫‪ -2‬بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خاليا من العنف والغلظة والشدة‪،‬‬ ‫وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬جواز المعاقبة بالخذ بقدر ما أخذ من المرء‪ ،‬وتركها صبرا واحتسابا أفضل‪.‬‬ ‫!‪ -‬معية ال تعالى ثابتة لهل التقوى والحسان‪ ،‬وهي معية نصرٍ وتأييد وتسديد‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬الضيق والضَيق‪ :‬بالكسر والفتح‪ ،‬يقال‪ :‬في صدره ضيق وضِيق بالكسر والفتح‪ ،‬وقيل‪ :‬الضيق‬ ‫بالفتح في الصدر‪ ،‬والضيق بالكسر في الدار والثوب ونحوهما‪.‬‬ ‫‪ 2‬قيل‪ :‬لهرم بن حبان عند موته‪ :‬أوصنا فقال‪ :‬أوصيكم بآيات ال وآخر سورة النحل‪{ :‬ادع إلى‬ ‫سبيل ربك ‪ }..‬إلى {محسنون}‪.‬‬

‫( ‪)3/171‬‬ ‫سورة السراء‬ ‫‪...‬‬ ‫الجزء الخامس عشر‬ ‫سورة السراء‬ ‫مكية‬ ‫وآياتها عشر ومائة‬ ‫بسم ال الرحمن الرحيم‬ ‫حوَْلهُ لِنُرِيَهُ مِنْ‬ ‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬ ‫سجِ ِد ا َ‬ ‫سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى ا ْلمَ ْ‬ ‫سمِيعُ ال َبصِيرُ‬ ‫آيَاتِنَا إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫سبحان‪ :‬أي تنزه وتقدس عن كل ما ل يليق بجلله وكماله وهو ال جل جلله‪.‬‬ ‫بعبده ‪ :‬أي بعبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫من المسجد الحرام‪ :‬أي الذي بمكة‪.‬‬ ‫إلى المسجد القصى‪ :‬أي الذي بيت المقدس‪.‬‬ ‫من آياتنا‪ :‬أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت العلى‪.‬‬ ‫معنى الية الكريمة‪:‬‬ ‫نزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين‪،‬‬ ‫فقال‪{ :‬سبحان ‪ 1‬الذي أسرى بعبده ‪ }2‬أي محمد بن عبد ال بن عبد المطلب بن هاشم القرشي‬ ‫العدناني {ليلً من المسجد الحرام} أي بالليل من المسجد الحرام بمكة إذ أخرج من بيت أم هانىء‬

‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أنّ طلحة بن عبيد ال الفيّاض أحد العشر المبشرين بالجنة سأل رسول ال صلى ال عليه‬ ‫وسلم عن معنى سبحان ال فقال‪" :‬تنزيه ال عن كل سوء" وأسرى‪ :‬فيها لغتان‪ :‬أسرى وسرى‬ ‫فصيحتان‪ ،‬وجمع اللغتين في بيت واحد هو‪:‬‬ ‫حيّ النضيرة ربُة الخدر‬ ‫أسرت إليّ ولم تكن تسري‬ ‫وقيل‪ :‬أسرى من أوّل الليل‪ ،‬وسرى من آخره‪ ،‬والسراء‪ ،‬والسّرى‪ :‬سير الليل‪.‬‬ ‫‪ 2‬قالت العلماء‪ :‬لو كان هناك اسم للنبي صلى ال عليه وسلم أشرف من اسم عبد لسمّاه به في‬ ‫هذه الحال العليّة‪ ،‬وفي معناه قال الشاعر‪:‬‬ ‫يا قوم قلبي عند زهراء‬ ‫يعرفه السامع والرائي‬ ‫ل تدعُني إلّ بياعبدها‬ ‫فإنه أشرف أسمائي‬

‫( ‪)3/172‬‬ ‫وغسل قلبه بماء زمزم وحشي إيمانا وحكمة‪ ،‬ثم أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى‬ ‫بيت المقدس‪ ،‬وأخبر صلى ال عليه وسلم أنه جمع ال تعالى له النبياء في المسجد القصى‬ ‫وصلى بهم إماما فكان بذلك إمام النبياء وخاتمهم ثم عرج به إلى السماء سماء بعد سماء يجد في‬ ‫كل سماء مقربيها إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به إلى أن انتهى‬ ‫إلى مستوى سمع فيه صرير القلم وقوله تعالى‪{ :‬الذي باركنا حوله} أي حول المسجد القصى ‪1‬‬ ‫معنى حوله خارجه وذلك بالشجار والنهار والثمار أما داخله فالبركة الدينية بمضاعفة الصلة‬ ‫فيه أي أجرها إذ الصلة فيه بخمسمائة صلة أجرا ومثوبة وقوله تعالى {لنريه من آياتنا} تعليل‬ ‫للسراء والمعراج وهو أنه تعالى أسرى بعبده وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته‬ ‫في الملكوت العلى‪ ،‬وليكون ما علمه من طريق الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة‪ .‬وقوله تعالى‬ ‫{إنه هو السميع البصير} يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم‬ ‫فاقتضت حكمته هذا السراء العجب ليزداد الذين آمنوا إيمانا وليرتاب المرتابون ويزدادون كفرا‬ ‫وعنادا‪.‬‬ ‫هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫من هداية الية الكريمة‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة السراء والمعراج بالنبي صلى ال عليه وسلم بالروح والجسد ‪ 2‬معا من المسجد‬

‫الحرام إلى المسجد القصى‪ ،‬ثم إلى السماوات العلى‪ ،‬إلى مستوى سمع فيه صرير القلم وأوحى‬ ‫إليه تعالى ما أوحى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس‪.‬‬ ‫‪ -2‬شرف المساجد الثلثة‪ :‬الحرام‪ ،‬ومسجد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والمسجد القصى أما‬ ‫المسجدان الحرام والقصى فقد ذكرا بالنص وأما مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم فقد ذكر‬ ‫بالشارة ‪ 3‬واليماء إذ قول القصى يقتضي قصيا‪ ،‬فالقصي هو المسجد النبوي والقصى هو‬ ‫مسجد بيت المقدس‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان الحكمة في السراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صلى ال عليه وسلم بعيني رأسه‬ ‫ما كان آمن به وعلمه‬ ‫من طريق الوحي فأصبح الغيب لدى رسول ال شهادة‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬المسجد الحرام‪ :‬أول مسجد بني في الرض‪ ،‬ويليه المسجد القصى والزمن بينهما أربعون‬ ‫سنة‪ ،‬والمسجد النبوي بني بعدهما بقرون طويلة‪ ،‬فهذه الثلثة أشرف المساجد على الطلق وعليه‬ ‫فمن نذر صلة فيها وجب عليه الوفاء بالصلة فيها‪ ،‬ومن نذر الصلة في مسجدٍ غيرها جاز أن‬ ‫يصلي في أي مسجد آخر‪.‬‬ ‫‪ 2‬ل قيمة للقول بأن السراء كان بالروح فقط إذ لو كان بالروح لكان من المنام‪ ،‬ولما قال تعالى‪:‬‬ ‫{أسرى بعده ليلً} ولما قالت أم هانىء‪ :‬ل تحدّث الناس فيكذبوك‪ ،‬ول فضّل أبو بكر بقلب الصديق‬ ‫ول ما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب‪ ،‬ولما ارتد أفراد عن السلم بتشنيع قريش‪ ،‬وأما إطلق لفظ‬ ‫الرؤيا على المنام خاصة فليس بذاك إذ قد يطلق لفظ الرؤيا على الرؤية في اليقظة‪ ،‬وأعظم دليل‬ ‫في قوله تعالى‪{ :‬ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المتهى} أي‪ :‬رأي الرسول جبريل مرّة أخرى‬ ‫في الجنة في السماء ليلة السراء والمعراج كما رآه أول مرّة في جياد بمكة‪.‬‬ ‫‪ 3‬حدثنا شيخنا الطيب العقبى خريج المسجد النبوي الشريف‪ :‬أنّه ألقى كلمة في الروضة بالمسجد‬ ‫النبوي ففتح ال تعالى عليه فذكر أنّ المسجد النبوي أشير إليه في آية السراء فهو إذا مذكور في‬ ‫القرآن باليماء كما ذكرت في التفسير‪.‬‬

‫( ‪)3/173‬‬ ‫حمَلْنَا مَعَ‬ ‫جعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ َألّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي َوكِيلً(‪ )2‬ذُرّيّةَ مَنْ َ‬ ‫وَآتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َو َ‬ ‫سدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْنِ‬ ‫شكُورًا(‪َ )3‬و َقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْ ِ‬ ‫نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَ ْبدًا َ‬ ‫للَ‬ ‫وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرًا(‪ )4‬فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْي ُكمْ عِبَادًا لّنَا ُأوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِ َ‬ ‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫علَ ْيهِ ْم وََأمْدَدْنَاكُم بَِأ ْموَالٍ وَبَنِي َ‬ ‫ن وَعْدًا ّم ْفعُولً(‪ُ )5‬ثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ َ‬ ‫الدّيَا ِر َوكَا َ‬ ‫َنفِيرًا(‪)6‬‬

‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وآتينا موسى الكتاب ‪ :‬أي التوراة‪.‬‬ ‫وجعلناه هدى‪ :‬أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هاديا لبني إسرائيل‪.‬‬ ‫وكيل‪ :‬أي حفيظا أو شريكا‪.‬‬ ‫من حملنا‪ :‬أي في السفينة‪.‬‬ ‫وقضينا‪ :‬أي أعلمناهم قضاء نافيهم‪.‬‬ ‫في الكتاب ‪ :‬أي التوراة‪.‬‬ ‫علوا كبيرا‪ :‬أي بغيا عظيما‪.‬‬ ‫أولهما ‪ :‬أي أولى المرتين‪.‬‬ ‫فجاسوا خلل ‪ :‬أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون‪.‬‬ ‫وعدا مفعول ‪ :‬أي منجزا لم يتخلف‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أنه هو الذي أسرى بعبده ليلً من المسجد الحرام إلى المسجد القصى وأنه هو الذي‬ ‫آتى موسى الكتاب أي التوراة فهو تعالى المتفضل على محمد صلى ال عليه وسلم وعلى أمته‬ ‫بالسراء به والمعراج‬

‫( ‪)3/174‬‬ ‫وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبيانا لبني إسرائيل فهو متفضل أيضا على بني‬ ‫إسرائيل فله الحمد وله المنة‪.‬‬ ‫وقوله‪{ :‬جعلناه} أي الكتاب {هدى} أي بيانا لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والسعاد وقوله‪:‬‬ ‫{أل تتخذوا من دوني وكيل} أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل أل‬ ‫يتخذوا من غيري حفيظا لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم‬ ‫وولي نعمتهم‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ذرية من حملنا مع نوح} أي يا ذرية ‪ 1‬من حملنا مع نوح اشكروني‬ ‫كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها‪ ،‬إنه أي نوحا {كان عبدا‪ 2‬شكورا}‬ ‫ي وقوله‬ ‫سوَا َ‬ ‫فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ول تتركوا طاعتي ول تشركوا بي ِ‬ ‫تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل فى الكتاب لتفسدون في الرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} يخبر‬ ‫تعالى بأنه أعلم بني اسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الرض‬ ‫بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب‪ ،‬ويعلون في الرض بالجراءة على ال وظلم الناس {علوا‬ ‫كبيرا} أي عظيما‪ .‬ولبد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى‪{ :‬فإذا جاء وعد أولهما} أي وقت المرة‬ ‫الولى {بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس ‪ 3‬شديد} أي قوة وبطش في الحرب شديد‪ ،‬وتم هذا لما‬

‫أفسدوا وظلموا بانتهاك حدود الشرع والعراض عن طاعة ال تعالى حتى قتلوا نبيهم "أرميا"‬ ‫عليه السلم وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما‬ ‫ل وفتكا وإفسادا نقمة ال على‬ ‫أخبر تعالى به في قوله ‪{ :‬فجاسوا ‪ 4‬خلل الديار} ذاهبين جائين قت ً‬ ‫بني إسرائيل لفسادهم وبغيهم البغي العظيم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وكان وعدا مفعول} أي ما حصل لهم في المرة الولى ‪ 5‬من الخراب والدمار ومن‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قرىء ذَرية بفتح الذال‪ ،‬وقرىء ذرية بكسر الذال أيضا فهي إذا مثلثة واللفظ مشتق من الذرء‪،‬‬ ‫الذي هو الخلق‪ ،‬فيقال‪ :‬ذرأ يذرأ ذرأ‪ :‬إذا خلق وفي الية تذكير بني إسرائيل بواجب الشكر أي‬ ‫أشكروا كما شكر نوح‪ ،‬وفيها تعريض لهم بأنهم إذا لم يشكروا يؤخذوا كما أخذ قوم نوح‪.‬‬ ‫‪ 2‬أثنى تعالى على عبده نوح بكثرة الشكر لنّ شكور‪ :‬من صيغ المبالغة معناه كثيرالشكر روي‬ ‫أنه كان إذا أكل قال الحمد ل الذي أطعمني‪ ،‬ولو شاء لجاعني‪ ،‬د إذا شرب قال‪ :‬الحمد ل الذي‬ ‫أرواني ولوشاء لظمأني‪ ،‬وإذا اكتسى قال‪ :‬الحمد ل الذي كساني ولو شاء لعراني‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال‪{ :‬عبادا لنا} ولم يقل‪ :‬عبادي لنهم أهل كفر وشرك وفسق فلم يشرفهم بالضافة إليه‬ ‫ووصفهم بأنهم من ملكه فسخرّهم لتأديب عباده الذين فسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته‪.‬‬ ‫‪ 4‬الجوس‪ :‬وهو مصدر جاس يجوس جوسا معناه‪ :‬التخلل في البلد وطرقها ذهابا وإيابا لتتبع ما‬ ‫فيها‪ ،‬والمراد به تتبع المقاتلة لقتالهم‪.‬‬ ‫‪ 5‬في هذه اليات ذكر مجمل لتاريخٍ بني إسرائيل بدءا من دولة يوشع بن نون بعد فتحه لبلد‬ ‫القدس‪ ،‬وطرد العمالقة منها‪ ،‬وإقامة دولة فيها لوّل مرة وختاما بطردهم على أيدي الرومان وذلك‬ ‫سنة مائة وخمس وثلثين بعد ميلد عيسى عليه السلم‪ ،‬وقسمت اليات هذا التاريخ قسمين معبرة‬ ‫عنه بالمرتين‪ :‬الولى بدءا من دولة يوشع بن نون واستمرت إلى أن عاثوا في الرض وفسدوا‬ ‫فيها بالفسق والفجور فسلط عليه البابليين فأسقطوا دولتهم‪ ،‬ومزّقوا ملكهم واستمروا مشتتين إلى أن‬ ‫ملّكوا طالوت وقاتلوا معه على عهد نبي ال حزقيل فهزموا جالوت البابلي‪ ،‬وإلى هذا الشارة‬ ‫بقوله تعالى‪{ :‬ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا} إذ تكونت‬ ‫لهم دولة عظيمة على عهد كل من طالوت وداود وسليمان واستمرّت حتي فسقوا وفجروا‬ ‫فاستحقوا العذاب فسلّط ال عليهم بختنصر البابلي أيضا فأحرق هيكل سليمان‪ ،‬ودمّر أورشليم‬ ‫فتركها خرابا ودمارا‪ ،‬وهذه هي المرة الخرة ثم أنجز لهم ال تعالى ما وعدهم بقوله‪{ :‬عسى‬ ‫ربكم أن يرحمكم} فاجتمعوا وصلحوا وعاد لهم ملكهم فترة من الزمن‪ ،‬وعادوا إلى الفسق‬ ‫والعصيان فعاد ال تعالى عليهم فسلّط عليهم الرومان سنة ‪ 135‬بعد الميلد فاحتلوا بلدهم‬ ‫وشرّدوهم في الرض‪.‬‬

‫( ‪)3/175‬‬

‫أسبابه كان بوعد من ال تعالى منجزا فوفاه لهم‪ ،‬لنه قضاه وأعلمهم به قي كتابهم‪ .‬وقوله‪{ :‬ثم‬ ‫رددنا لكم الكرة عليهم} أي بعد سنين طويلة وبنو إسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم نابتة‬ ‫وطالبت بأن يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة البقرة جاهدوا وقتل‬ ‫داود جالوت وهذا معنى {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} وقوله‪{ :‬وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم‬ ‫أكثر نفيرا} أي رجالً في الحروب وكثرت أموالهم وأولدهم وتكونت لهم دولة سادت العالم على‬ ‫عهد داود وسليمان عليهما السلم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان إفضال ال تعالى على المتين السلمية والسرائيلية‪.‬‬ ‫!‪ -‬بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس عبادة ال تعالى وتوحيده فيها‪.‬‬ ‫‪ -3‬وجوب شكر ال تعالى على نعمه إذ كان نوح عليه السلم إذا أكل الكلة قال الحمد ل‪ ،‬وإذا‬ ‫شرب الشربة قال الحمد ل‪ ،‬وإذا لبس حذاءه قال الحمد ل وإذا قضى حاجة قال الحمد ل فسمي‬ ‫عبدا شكورا وكذا كان رسول ال والصالحون من أمته إلى اليوم‪.‬‬ ‫‪ -4‬ما قضاه ال تعالى كائن‪ ،‬وما وعد به ناجز‪ ،‬واليمان بذلك واجب‪.‬‬ ‫‪ -5‬التنديد بالفساد والظلم والعلو في الرض‪ ،‬وبيان سوء عاقبتها‪.‬‬ ‫سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا فَِإذَا جَاء وَعْدُ الخِ َرةِ لِ َيسُوؤُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَلِ َيدْخُلُواْ‬ ‫إِنْ َأحْسَنتُمْ أَحْسَن ُتمْ لِأَنفُ ِ‬ ‫ح َمكُ ْم وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا‬ ‫عسَى رَ ّب ُكمْ أَن يَ ْر َ‬ ‫سجِدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ تَتْبِيرًا(‪َ )7‬‬ ‫ا ْلمَ ْ‬ ‫حصِيرًا(‪)8‬‬ ‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬ ‫جعَلْنَا َ‬ ‫وَ َ‬

‫( ‪)3/176‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫إن أحسنتم‪ :‬أي طاعة ال وطاعة رسوله بالخلص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها‪.‬‬ ‫أحسنتم لنفسكم ‪ :‬أي أن الجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم ل على غيركم‪.‬‬ ‫وإن أسأتم‪ :‬أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الساءة‪.‬‬ ‫وعد الخرة‪ :‬أي المرة الخرة المقابلة للولى وقد تقدمت‪.‬‬ ‫ليسوءوا وجوهكم ‪ :‬أي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل‪.‬‬ ‫وليدخلوا المسجد ‪ :‬أي بيت المقدس‪.‬‬ ‫وليتبروا ما علو تتبيرا ‪ :‬أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميرا‪.‬‬ ‫وإن عدتم عدنا ‪ :‬أي وإن رجعتم إلى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم‪.‬‬

‫حصيرا‪ :‬أي محبسا وسجنا وفراشا يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن تحتهم‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل فبعد أن أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم‬ ‫أنهم يفسدون في الرض مرتين ويعلون علوا كبيرا‪ .‬وأنه إذا جاء ميقات أولى المرتين بعث عليهم‬ ‫عبادا أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم‪ ،‬أنه تعالى رد لهم الكرة عليهم فانتصروا‬ ‫عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر الدول رجالً واوسعها سلطانا وذلك‬ ‫لرجوعهم إلى ال تعالى بتطبيق كتابه والتزام شرائعه وهناك قال تعالى لهم‪{ :‬إن أحسنتم أحسنتم‬ ‫لنفسكم} أي إن أحسنتم بإتباع الحق والتزام الطاعة ل ورسوله بفعل المأمورات واجتناب‬ ‫المنهيات والخذ بسنن ال تعالى في الصلح البشري وإن أسأتم تعطيل الشريعة والنغماس في‬ ‫الملذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب سنة ال تعالى‪{ :‬من يعمل سوءا يجزيه‬ ‫ول يجد له من دون ال وليا ول نصيرا} وقوله تعالى‪{ :‬فإذا جاء وعد الخرة} أي وقتها المعين‬ ‫لها‪ ،‬وهي المرة الخرة بعد الولى بعث أيضا عليهم عبادا له وهم بختنصّر وجنوده بعثهم عليهم‬ ‫ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم به من الهم والحزن والمهانة والذل {وليدخلوا المسجد} أي بيت‬ ‫المقدس كما دخلوه أول مرة {وليتبروا} أي يدمروا ما علوا أي ما غلبوا عليه من ديارهم {تتبيرا}‬ ‫ل وتحطيما تاما وحصل لهم هذا لما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلم وكثيرا من‬ ‫أي تدميرا كام ً‬ ‫العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي‪ .‬كما أخبر‬ ‫بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫( ‪)3/177‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬عسى ربكم أن ‪ 1‬نرحمكم} فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم‬ ‫أعرضوا عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان ل ورسله‪ .‬وقوله وإن عدتم عدنا أي‬ ‫وإن عدتم إلى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فأنجزهم ال تعالى ما وعدهم‬ ‫فسلط عليهم رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم والمؤمنين فأجلى بني قينقاع وبني النضير من‬ ‫المدينة وقتل بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردوهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سؤ‬ ‫العذاب في قرون طويلة وقوله تعالى‪{ :‬وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا‪ }2‬أي إن كان عذاب الدنيا‬ ‫بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم وإذاقتهم عذاب القتل والسر والتشريد فإن عذاب الخرة‬ ‫هو الحبس والسجن في جهنم تكون حصيرا للكافرين ل يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون‬ ‫شرائع ال ونعمه عليهم بتعطيل الحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والنغماس في الملذ‬ ‫والشهوات‪.‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬صدق وعد ال تعالى‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير نبوة النبي صلى ال عليه وسلم إذ مثل هذه النباء ل يقصها إل نبي يوحى إليه‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير قاعدة {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}‪.‬‬ ‫‪ -4‬وجوب الرجاء في ال وهو انتظار الفرج والخير منه وإن طال الزمن‪.‬‬ ‫‪ -5‬قد يجمع ال تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪ ،‬وكذا الفاسقون من المؤمنين‪.‬‬ ‫إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآنَ ِيهْدِي ِللّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َل ُهمْ أَجْرًا كَبِيرًا(‬ ‫عذَابًا أَلِيمًا(‪ )10‬وَيَ ْدعُ الِنسَانُ بِالشّرّ دُعَاءهُ بِا ْلخَيْرِ‬ ‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ َ‬ ‫‪ )9‬وأَنّ الّذِي َ‬ ‫َوكَانَ الِنسَانُ عَجُولً(‪)11‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تقدم أن ال تعالى أنجز لهم وعده في قوله {عسى ربكم أن يرحمكم} وأنه رحمهم فصلحوا‬ ‫واستقاموا‪ ،‬وأعادوا بناء دولتهم وسعدوا فيها زمنا ثم عادوا إلى الفسق والفجور فعاد تعالى عليهم‬ ‫فسلط الرومان فتقلوهم وشردوهم وذلك سنة ‪ 135‬بعد الميلد‪ ،‬ومن يومئذ انتهى ملك اليهود‪،‬‬ ‫واستمرت أورشليم تحت يد الرومان إلى الفتح السلمي حيث فتحت على يد عمر رضي ال عنه‬ ‫سنة ‪ 16‬صالحا مع أهلها وهي تسمى يومئذ (إلياء)‪.‬‬ ‫‪ 2‬الحصير المكان الذي يحصر فيه فل يستطاع الخروج منه ففعيل (حصير) إمّا أن يكون بمعنى‬ ‫فاعل أي‪ :‬حاصر أو بمعنى مفعول أي‪ :‬محصور فيه‪ ،‬وفسّر في التفسير بالسجن وهو كذلك إذ‬ ‫السجن يحصر مَنْ فيه فل يقدر على الخروج منه‪.‬‬

‫( ‪)3/178‬‬ ‫جعَلْنَا آ َيةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً لِتَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّبكُمْ‬ ‫حوْنَا آيَةَ اللّ ْيلِ وَ َ‬ ‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ َف َم َ‬ ‫جعَلْنَا اللّ ْي َ‬ ‫وَ َ‬ ‫شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلً(‪)12‬‬ ‫ب َو ُكلّ َ‬ ‫ن وَالْحِسَا َ‬ ‫عدَدَ السّنِي َ‬ ‫وَلِ َتعَْلمُواْ َ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫للتي هي أقوم‪ :‬أي للطريقة التي هي أعدل وأصوب‪.‬‬ ‫أن لهم أجرا كبيرا‪ :‬إنه الجنة دار السلم‪.‬‬ ‫أعتدنا لهم عذابا أليما‪ :‬انه عذاب النار يوم القيامة‪.‬‬ ‫ويدع النسان بالشر ‪ :‬أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب‪.‬‬ ‫وكان النسان عجول‪ :‬أي سريع التأثر بما يخطر على باله فل يتروى ول يتأمل‪.‬‬ ‫آيتين‪ :‬أي علمتين دالتين على وجود ال وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته‪.‬‬ ‫فمحونا آية الليل ‪ :‬أي طمسنا نورها بالظلم الذي يعقب غياب الشمس‪.‬‬

‫مبصرة‪ :‬أي يبصر النسان بها أي بسبب ضوء النهار فيها‪.‬‬ ‫عدد السنين والحساب‪ . :‬أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل‬ ‫وأوقاتها كاليام والسابيع والشهور‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أن هذا القران الكريم ‪ 1‬الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‬ ‫الذي أسرى به ليلً من المسجد الحرام إلى المسجد القصى يهدي بما فيه من الدلئل والحجج‬ ‫والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقوم ‪ 2‬أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل‬ ‫إنها الدين القيم السلم سبيل السعادة والكمال في الدارين‪{ ،‬ويبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات}‬ ‫أي ويبشر القران الذين آمنوا بال ورسوله ولقاء ال ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي‬ ‫الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجرا كبيرا أل وهو الجنة‪ ،‬كما يخبر‬ ‫الذين ل يؤمنون بالخرة أن ال تعالى‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قوله‪{ :‬هذا القرآن} الشارة بهذا إلى القرآن الحاضر بين أيدي الناس المحفوظ في الصدور‬ ‫المكتوب في السطور‪ ،‬وفي الشارة إليه تنويه بشأنه وعلو مقامه بين الكتب اللهية‪.‬‬ ‫‪{ 2‬أقوم} اسم تفضيل من القويم‪ ،‬وأقوم‪ :‬صفة لمحذوف وهو الطريق أي‪ :‬الطريق التي هي أقوم‬ ‫من هدي كتاب بني إسرائيل إذ قال فيه‪{ :‬وجعلناه هدى لبني إسرائيل} فالقرآن أكثر هداية إلى‬ ‫السبيل القوم من التوراة‪.‬‬

‫( ‪)3/179‬‬ ‫أعد أي هيا لهم عذابا أليمًا في جهنم‪.‬‬ ‫وقوله تعالى {ويدع النسان بالشر دعاءه بالخير ‪ }1‬يخبر تعالى عن النسان في ضعفه وقلة‬ ‫إدراكه لعواقب المور من أنه !ذا ضجر أو غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في‬ ‫عاقبة دعائه لو استجاب ال تعالى له‪ .‬يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير‪ ،‬وقوله‪{ :‬وكان‬ ‫النسان عجول ‪ }2‬أي كثير العجلة يستعجل في المور كلها هذا طبعه ما لم يتأدب بآداب القرآن‬ ‫ويتخلق بأخلقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح ذا توأدة وحلم وصبر وأناة‪،‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وجعلنا الليل والنهار آيتين} أي علمتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا‪،‬‬ ‫وقوله {فمحونا ‪ 3‬آية الليل} أي بطمس نورها‪ ،‬وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين علة ذلك‬ ‫بقوله‪{ :‬لتبتغوا فضل من ربكم} أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار‪ .‬هذا من جهة ومن‬ ‫جهة أخرى {لتعلموا عدد السنين والحساب} أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب‬ ‫ساعات النهار والليل وأوقاتها كاليام والسابيع والشهور‪ .‬لتوقف مصالحكم الدينية ‪ 4‬والدنيوية‬

‫على ذلك‪ .‬وقوله تعالى ‪{ :‬وكل شيء فصلناه تفصيل} أي وكل شيء يحتاج إليه في كمال النسان‬ ‫وسعادته بيناه تبيينا أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم‪.‬‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬بيان فضل القرآن الكريم‪ ،‬بهدايته إلى السلم الذي هو سبيل السعادة للنسان‪.‬‬ ‫‪ -2‬الوعد والوعيد بشارة المؤمنين العاملين للصالحات‪ ،‬ونذارة الكافرين باليوم الخر‪.‬‬ ‫‪ -3‬بيان طبع النسان قبل تهذيبه بالداب القرآنية والخلق النبوية‪.‬‬ ‫‪ -4‬كون الليل والنهار آيتين على ال تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره‪.‬‬ ‫‪ -5‬مشروعية علم الحساب وتعلمه‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال ابن عباس وغيره‪ :‬هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما يحب أل يستجاب له‪:‬‬ ‫اللهم أهلكهم ونحوه‪ .‬وحذفت الواو من {يدعُ} كما حذفت من {سندع الزبانية} و {يمح ال الباطل}‪:‬‬ ‫لنه ل ينطق بها لصلها الساكن‪.‬‬ ‫‪ 2‬روي أن آدم عليه السلم لما نفخ ال تعالى فيه الروح فانتهت الروح إلى سرّته نظر إلى جسده‬ ‫فذهب لينهض فلم يقدر فذلك قوله تعالى‪{ :‬وكان النسان عجول} قاله ابن عباس رضي ال عنهما‬ ‫ومن مظاهر عجلة النسان انه يؤثر العاجل وإن قل على الجل وإن كثر‪.‬‬ ‫‪ 3‬قال علي بن أبي طالب رضي ال عنه وقتادة رحمه ال‪ :‬المراد بالمحو‪ :‬اللطخة السوداء في‬ ‫القمر ليكون ضوء القمر أقلّ من ضوء الشمس فيتميّز الليل من النهار وما في التفسير أولى أي‪:‬‬ ‫جعل ال الليل مظلما‪ ،‬والنهار مضيئا لما يترتب على ذلك من مصالح العباد‪.‬‬ ‫‪ 4‬كمعرفة أوقات الصلة‪ ،‬وشهر الصيام‪ ،‬والحج‪ ،‬وما إلى ذلك من آجال الديون ونحوها كالعِدد‬ ‫للنساء‪.‬‬

‫( ‪)3/180‬‬ ‫َوكُلّ إِنسَانٍ أَلْ َزمْنَاهُ طَآئِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ َلهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنشُورًا(‪ )13‬اقْرَأْ كَتَا َبكَ َكفَى‬ ‫ضلّ عَلَ ْيهَا َولَ تَزِرُ‬ ‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬ ‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا(‪ )14‬مّنِ اهْ َتدَى فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْسِ ِه َومَن َ‬ ‫بِ َنفْ ِ‬ ‫وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّى نَ ْب َعثَ رَسُولً(‪ )15‬وَإِذَا أَرَدْنَا أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا‬ ‫ح َو َكفَى‬ ‫حقّ عَلَ ْيهَا ا ْل َقوْلُ فَ َدمّرْنَاهَا تَ ْدمِيرًا(‪َ )16‬وكَمْ أَهَْلكْنَا مِنَ ا ْلقُرُونِ مِن َبعْدِ نُو ٍ‬ ‫َففَسَقُواْ فِيهَا فَ َ‬ ‫بِرَ ّبكَ بِذُنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيرًَا َبصِيرًا(‪)17‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫طائره‪ :‬أي عمله وما قدر له من سعادة وشقاء‪.‬‬

‫في عنقه ‪ :‬أي ملزم له ل يفارقه حتى يفرغ منه‪.‬‬ ‫عليك حسيبا‪ :‬أي كفى نفسك حاسبا عليك‪.‬‬ ‫ول تزر وازرة وزر أخرى‪ :‬أي ل تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى‪.‬‬ ‫مترفيها‪ :‬منعميها من أغنياء ورؤساء‪.‬‬ ‫فحق عليها القول ‪ :‬أي بالعذاب‪.‬‬ ‫وكم أهلكنا‪ :‬أي أهلكنا كثيرا‪.‬‬ ‫من القرون ‪ :‬أي من أهل القرون السابقة‪.‬‬ ‫خبيرا بصيرا ‪ :‬أي عليما بصيرا بذنوب العباد‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫يخبر تعالى أنه عز وجل لعظيم قدرته‪ ،‬وسعة علمه‪ ،‬وحكمته في تدبيره ألزم كل إنسان ما قضى‬ ‫به له من عمل وما يترتب على العمل من سعادة أو شقاء في الدارين‪ ،‬الزمه ذلك بحيث ل يخالفه‬ ‫ول‬

‫( ‪)3/181‬‬ ‫يتأخر عنه بحال حتى كأنه مربوط بعنقه‪ .‬هذا معنى قوله تعالى‪{ :‬وكل إنسان ألزمناه طائره ‪ 1‬في‬ ‫عنقه}‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا‪ }2‬أي وفي يوم القيامة يخرج ال‬ ‫تعالى لكل إنسان كتاب عمله فيلقاه منشورا أي مفتوحا أمامه‪ .‬ويقال له‪ :‬إقرأ كتابك الذي أحصى‬ ‫لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ول كبيرة‪ .‬وقوله {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} أي يكفيك‬ ‫نفسك حاسبا لعمالك محصيا لها عليك أيها النسان‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه}‬ ‫‪ ،‬أي بعد هذا العلم والبيان ينبغي أن يعلم أن من اهتدى اليوم فآمن بال ورسوله‪ ،‬ولقاء ال‪،‬‬ ‫ووعده ووعيده وعمل صالحا وتخلّى عن الشرك والمعاصي فإنما عائد ذلك له‪ ،‬هو الذي ينجو من‬ ‫العذاب‪ ،‬ويسعد في دار السعادة‪ ،‬وان من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن‪ ،‬وأشرك ولم يوحّد‪،‬‬ ‫وعصى ولم يطع فإن ذلك الضلل عائد عليه‪ ،‬هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب‬ ‫والشقاء‪ .‬وقوله {ول تزر وازرة وزر ‪ 3‬أخرى} الوزر الثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به‬ ‫ومعنى الكلم ول تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى‪ ،‬بل كل نفس تتحمل مسئوليتها‬ ‫بنفسها ‪ ،4‬والكلم تقرير لقوله‪{ :‬من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}‪ .‬وقوله‬ ‫تعالى‪{ :‬وما كنا معذبين حتى نبعث رسول ‪ }5‬أي لم يكن من شأن ال تعالى وهو العدل الرحيم أن‬ ‫ل يعرفها بربها وبمحابه ومساخطه‪،‬‬ ‫يهلك أمة بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسو ً‬ ‫ويأمرها بفعل المحاب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وإذا أردنا أن‬ ‫نهلك قرية} أي أهل قرية {أمرنا مترفيها} أي أمرنا منعميها من أغنياء ورؤساء وأشراف من أهل‬

‫الحل والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الثم والفواحش‬ ‫فلم يستجيبوا للمر ول النهي وهو معنى {ففسقوا ‪ 6‬فيها فحق عليها القول} أي وجب عليها العذاب‬ ‫{فدمرناها تدميرا} أي أهلكناها إهلكا كاملً‪ ،‬وهذا الكلم بيان لقوله تعالى‪{ :‬وما كنا معذبين حتى‬ ‫نبعث‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال الزجّاج ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلدة للعنق‪ ،‬وقال ابن عباس طائره‪ :‬عمله‬ ‫وما قدّر عليه من خير وشر وهو ملزمه أينما كان‪.‬‬ ‫‪ 2‬قالوا في علة‪ :‬نشره أنه تعجيل للبشرى بالحسنات والتوبيخ بالسيئات‪.‬‬ ‫‪ 3‬قيل في هذه الية {ول تزر وازرة‪ }...‬نزلت في الوليد بن المغيرة إذ قال لهل مكة اتبعوني‬ ‫واكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم‪ .‬وإن لم تنزل فيه فهي شاملة لكل من يقول بقوله تضليلً وباطلً‪.‬‬ ‫‪ 4‬استدلت عائشة رضي ال عنها بهذه الية على بطلن حديث ابن عمر إذ قال‪ :‬إنّ الميّت يعذّب‬ ‫ببكاء أهله‪ ،‬وردّ اعتراضها بأنّ الميت إذا أوصى بالبكاء كان ذلك من وزره ل من وزر غيره‪،‬‬ ‫وقد كانوا يوصون بذلك‪ ،‬قال طرفة بن العبد‪:‬‬ ‫إذا مت فأتبعيني بما أنا أهله‬ ‫شقّي عََليّ الجيب يا بنت معبد‬ ‫وُ‬ ‫ومن الجائز أن يعذّب وإن لم يوص‪ ،‬إذا هو أهمل تأديب أهله‪.‬‬ ‫‪ 5‬أول المعتزلة الرسول (رسول) بالعقل‪ ،‬وقالوا‪ :‬العقل يحسن ويقبح ويبيح ويحظر‪ ،‬وهو تأويل‬ ‫باطل ل يتفق مع اللغة ول مع الشرع‪.‬‬ ‫‪ 6‬شاهده حديث زينب في الصحيح‪" :‬أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث"‪.‬‬

‫( ‪)3/182‬‬ ‫طعْ استوجب الناس العذاب فعذبوا‪ .‬وقوله‬ ‫رسول} إذ الرسول يأمر وينهى بإذن ال تعالى فإن لم يُ َ‬ ‫تعالى ‪{ :‬وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} هو تقرير لهذا الحكم أيضا إذ علمنا تعالى أن ما‬ ‫أخبر به كان واقعا بالفعل فكثيرا من المم أهلكها من بعد هلك قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط‬ ‫وأصحاب اليكة وآل فرعون‪ ..‬وقوله‪{ :‬وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا}‪ :‬فإن القول وإن‬ ‫تضمّن علم ال تعالى بذنوب عباده فإن معناه الوعيد الشديد والتهديد الكيد‪ ،‬فإنه تعالى ل يرضى‬ ‫باستمرار الجرائم والثام إنه يمهل لعل القوم يستفيقون‪ ،‬لعل الفساق يكفون‪ ،‬ثم إذا استمروا بعد‬ ‫العلم إليهم والتنديد بذنوبهم والتخويف بظلمهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ .‬أل فليحذر ذلك‬ ‫المصرون على الشرك والمعاصي!!‬ ‫هداية اليات‬

‫من هداية اليات‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقرير عقيدة القضاء والقدر‪.‬‬ ‫‪ -2‬تقرير عقيدة البعث والجزاء‪.‬‬ ‫‪ -3‬تقرير العدالة ‪ 1‬اللهية يوم القيامة فل تظلم نفس شيئا‪.‬‬ ‫‪ -4‬بيان سنة ال تعالى في إهلك المم غير أنها ل تهلك إل بعد النذار والعذار إليها‪.‬‬ ‫‪ -5‬التحذير من كثرة التنعم والترف فإنه يؤدي إلى الفسق بترك الطاعة ثم يؤدي الفسق إلى‬ ‫الهلك والدمار‪.‬‬ ‫جهَنّمَ َيصْلهَا مَ ْذمُومًا مّدْحُورًا(‬ ‫جعَلْنَا َلهُ َ‬ ‫عجّلْنَا َلهُ فِيهَا مَا نَشَاء ِلمَن نّرِيدُ ُثمّ َ‬ ‫مّن كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ َ‬ ‫‪َ )18‬ومَنْ أَرَادَ‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬تجلّت عدالة ال تبارك وتعالى في أنه عز وجل ل يعذّب أمة من المم عذاب إبادة واستئصال‬ ‫إل بعد أن يبعث إليها رسوله ينذرها ويبشرها‪ ،‬فإذا أصرّت على الكفر والتكذيب عذّبها‪ .‬ومنا يرد‬ ‫موضوع أهل الفترة بين الرسل فهل يعذبون ولم تبلغهم دعوة ال أول يعذبون فيكون حالهم أحسن‬ ‫ممن جاءتهم الرسل؟ والجواب على هذا الشكال هو‪ :‬فيما ورد عن النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫وصح‪ " :‬أن أربعة يحتجون يوم القيامة‪ :‬رجل أصمّ ل يسمع شيئا‪ ،‬ورجل أحمق‪ ،‬ورجل هرم‪،‬‬ ‫ورجل مات في فترة فأمّا الصم فيقول يا رب قد جاء السلم وما أسمع شيئا‪ ،‬وأمّا الحمق فيقول‬ ‫ربّ قد جاء الصبيان يقذفونني بالبعر‪ ،‬وأما الهرم فيقول‪ :‬ربّ قد جاء السلم وما أعقل شيئا‪،‬‬ ‫وأمّا الذي مات في الفترة فيقول‪ :‬ربّ ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه‪ ،‬فيرسل إليهم‬ ‫أن‪ :‬ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلما‪ .‬ومن لم يدخلها يسحب‬ ‫إليها" فظاهر الحديث أن من كان من أهل الجنة يطيع يوم القيامة ويدخل النار ثم ل يعذّب بها‬ ‫ويدخل الجنة‪ ،‬ومن كان من أهل النار يعصى يوم القيامة ويدخل النار يخلد فيها‪ ،‬والطاعة‬ ‫والعصيان في هذا المتحان دالن على حال أهلهما في الدنيا لو توفرت لهم شروط التكليف التي‬ ‫هي‪ :‬البلوغ‪ ،‬والعقل‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬وبلوغ الدعوة‪ .‬فأولد المشركين يدخلون ضمن هؤلء‬ ‫الربعة أيضا‪.‬‬

‫( ‪)3/183‬‬ ‫شكُورًا(‪ )19‬كُلّ ّنمِدّ َهؤُلء وَ َهؤُلء مِنْ‬ ‫سعْ ُيهُم مّ ْ‬ ‫سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ‬ ‫سعَى َلهَا َ‬ ‫الخِ َر َة وَ َ‬ ‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ وَلَلخِ َرةُ‬ ‫عطَاء رَ ّبكَ َمحْظُورًا(‪ )20‬انظُرْ كَيْفَ َفضّلْنَا َب ْع َ‬ ‫ك َومَا كَانَ َ‬ ‫عَطَاء رَ ّب َ‬ ‫خذُولً(‪)22‬‬ ‫جعَل مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ فَ َت ْقعُدَ َم ْذمُومًا مّ ْ‬ ‫َأكْبَرُ دَ َرجَاتٍ وََأكْبَرُ َت ْفضِيلً(‪ )21‬لّ َت ْ‬ ‫شرح الكلمات‬

‫العاجلة ‪ :‬أي الدنيا لسرعة انقضائها‪.‬‬ ‫يصلها مذموما مدحورا‪ :‬أي يدخلها ملوما مبعدا من الجنة‪.‬‬ ‫وسعى لها سعيها ‪ :‬أي عمل لها العمل المطلوب لدخولها وهو اليمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫كان سعيهم مشكورا‪ :‬أي عملهم مقبولً مثابا عليه من قبل ال تعالى‪.‬‬ ‫كل نمد هؤلء وهؤلء ‪ :‬أي كل فريق من الفريقين نعطي‪.‬‬ ‫وما كان عطاء ربك محظورا ‪ :‬أي لم يكن عطاء ال في الدنيا محظورا أي ممنوعا عن أحد‪.‬‬ ‫كيف فضلنا بعضهم على بعض ‪ :‬أي في الرزق والجاه‪.‬‬ ‫ل تجعل مع ال إلها آخر‪ :‬أي ل تعبد مع ال تعالى غيره من سائر المعبودات الباطلة‪.‬‬ ‫فتقعد ملوما مخذولً ‪ :‬أي فتصير مذموما من الملئكة والمؤمنين مخذولً من ال تعالى‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫مازال السياق الكريم في أخبار ال تعالى الصادقة والمتضمنة لنواع من الهدايات اللهية التي ل‬ ‫يحرمها إل هالك‪ ،‬فقال تعالى في الية الولى (‪{ )18‬من كان يريد العاجلة} أي الدنيا {عجلنا له‬ ‫فيها ما نشاء}‪ ،‬ل ما يشاؤه العبد‪ ،‬وقوله {لمن نريد} ل من يريد غيرنا فالمر كله لنا‪{ ،‬ثم} بعد‬ ‫ذلك {جعلنا له جهنم يصلها مذموما} أي ملوما {مدحورا‪ }1‬أي مطرودا من رحمتنا التي هي‬ ‫الجنة دار البرار أي المطيعين الصادقين‪ .‬وقوله تعالى في الية الثانية (‪{ )19‬ومن أراد الخرة}‬ ‫يخبر‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬قال القرطبي‪{ :‬مذموما مدحورا} أي‪ :‬مطرودا مبعدا من رحمة ال‪ ،‬وهذه صفة المنافقين‬ ‫الفاسقين والمرائين والمدّاحين يلبسون السلم والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها‪ ،‬فل‬ ‫يقبل ذلك العمل منهم في الخرة ول يعطون في الدنيا إلّ ما قُسم لهم‪.‬‬

‫( ‪)3/184‬‬ ‫تعالى أن من أراد الخرة أي سعادة الخرة {وسعى لها سعيها} أي عمل‪ ،‬لها عملها اللئق بها‬ ‫وهو اليمان الصحيح والعمل الصالح الموافق لما شرع ال في كتابه وعلى لسان رسوله‪ ،‬واجتنب‬ ‫الشرك والمعاصي وقوله {وهو مؤمن} قيد في صحة العمل الصالح أي ل يقبل من العبد صلة‬ ‫ول جهاد إل بعد إيمانه بال وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله وأخبر به من الغيب‪.‬‬ ‫وقوله {فأولئك} أي المذكورون باليمان والعمل الصالح {كان سعيهم مشكورا‪ }1‬أي كان عملهم‬ ‫متقبلً يثابون عليه بالجنة ورضوان ال تعالى‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬كل نمد هؤلء وهؤلء من عطاء‬ ‫ربك وما كان عطاء ربك محظورا} إي أن كل من مريدي الدنيا ومريدي الخرة يمد ال هؤلء‬ ‫وهؤلء من عطائه أي فضله الواسع فالكل يأكل ويشرب ويكتسي بحسب ما قدر له من الضيق‬

‫والوسع ثم يموت وثَمّ يقع التفاضل بحسب السعي الفاسد أو الصالح وقوله {وما كان عطاء ربك‬ ‫محظورا ‪ }2‬يعني أن من أراد ال إعطاءه شيئا ل يمكن لحد أن يصرفه منه ويحرمه منه بحال‬ ‫من الحوال وقوله تعالى‪{ :‬انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} أي انظر يا رسولنا ومن يفهم‬ ‫خطابنا كيف فضلنا بعض الناس على بعض في الرزق الذي شمل الصحة والعافية والمال والذرية‬ ‫والجاه‪ ،‬فإذا عرفت هذا فاعرف أن الخرة أكبر درجات ‪ 3‬وأكبر تفضيل وذلك عائد إلى فضل ال‬ ‫أول ثم إلى الكسب صلحا وفسادا وكثرة وقِلًّةً كما هي الحال أيضا في الدنيا فبقدر كسب النسان‬ ‫الصالح للدنيا يحصل عليها ولو كان كافرا لقوله تعالى من سورة هود ‪{ 4‬من كان يريد الحياة‬ ‫الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون} أي ل ينقصون ثمرات عملهم لكونهم‬ ‫كفارا مشركين‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬ل تجعل مع ‪ 5‬ال إلها آخر} أي ل تجعل يا رسولنا مع ال إلها آخر تؤمن به‬ ‫وتعبده وتقرر إلهيته دوننا فإنك إن فعلت‪ -‬وحاشاه أن يفعل لن ال ل يريد له ذلك {فتقعد في‬ ‫جهنم مذموما} أي ملوما يلومك المؤمنون والملئكة مخذولً من قبل ربك ل ناصر لك والسياق‬ ‫وإن كان في خطاب الرسول صلى ال عليه وسلم فإن المراد به كل إنسان فال تعالى ينهى عبده‬ ‫أن يعبد معه غيره فيترتب على ذلك شقاؤه والعياذ بال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬وجائز أن يكون مضاعفا أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر إلى سبعين إلى سبعمائة إلى‬ ‫أضعاف كثيرة‪ ،‬فقد قيل لبي هريرة‪ ،‬أسمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬إن ال‬ ‫ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة؟ قال‪ :‬سمعته يقول‪" :‬إن ال ليجزي على الحسنة‬ ‫الواحدة ألفي ألف حسنة"‪.‬‬ ‫‪ 2‬لفظ الحظر لغة‪ :‬المنع‪ ،‬محظورا أي ممنوعا يقال‪ :‬حظره كذا يحظره حظرا وحظارا‪ :‬إذا حبسه‬ ‫عنه ومنعه منه‪.‬‬ ‫‪ 3‬ورد أن أهل الجنة يتفاوتون في درجاتهم إذ الجنة مائة درجة‪ ،‬ما بين كلّ درجتين كما بين‬ ‫السماء والرض‪ ،‬وفي الصحيح‪" :‬أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب‬ ‫الغابر في أفق السماء"‪.‬‬ ‫‪ 4‬آية ‪.15‬‬ ‫‪ 5‬الخطاب للرسول صلى ال عليه وسلم والمراد به أمّته‪.‬‬

‫( ‪)3/185‬‬ ‫هداية اليات‪:‬‬ ‫من هداية اليات‪:‬‬

‫‪ -1‬كل الدارين السعادة فيها أو الشقاء متوقف على الكسب والعمل هذه سنة ال تعالى في العباد‪.‬‬ ‫‪ -2‬سعى الدنيا التجارة والفلحة والصناعة‪.‬‬ ‫‪ -3‬سعى الخرة اليمان وصالح العمال والتخلية عن الشرك والمعاصي‪.‬‬ ‫‪ -4‬يعطي ال تعالى الدنيا من يحب ومن ل يحب وعطاؤه قائم على سنن له في الحياة يجب‬ ‫معرفتها والعمل بمقتضاها لمن أراد الدنيا والخرة‪.‬‬ ‫‪ -5‬ما أعطاه ال ل يمنعه أحد فوجب التوكل على ال والعراض عما سواه‪.‬‬ ‫‪ -6‬تحريم الشرك والوعيد عليه بالخلود في نار جهنم‪.‬‬ ‫حدُ ُهمَا َأوْ كِلَ ُهمَا فَلَ َتقُل‬ ‫َو َقضَى رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانًا ِإمّا يَبُْلغَنّ عِن َدكَ ا ْلكِبَرَ أَ َ‬ ‫حمَ ِة َوقُل ّربّ‬ ‫خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ‬ ‫ّل ُهمَآ ُأفّ َولَ تَ ْنهَرْ ُهمَا َوقُل ّل ُهمَا َق ْولً كَرِيمًا(‪ )23‬وَا ْ‬ ‫لوّابِينَ‬ ‫سكُمْ إِن َتكُونُو ْا صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِ َ‬ ‫صغِيرًا(‪ )24‬رّ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبمَا فِي ُنفُو ِ‬ ‫ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ‬ ‫ارْ َ‬ ‫ن وَابْنَ السّبِيلِ وَلَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا(‪ )26‬إِنّ ا ْلمُبَذّرِينَ كَانُواْ‬ ‫سكِي َ‬ ‫حقّ ُه وَا ْلمِ ْ‬ ‫غفُورًا(‪ )25‬وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ‬ ‫َ‬ ‫ن َوكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ َكفُورًا(‪)27‬‬ ‫خوَانَ الشّيَاطِي ِ‬ ‫إِ ْ‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وقضى ربك ‪ :‬أي أمر وأوصى‪.‬‬ ‫وبالوالدين إحسانا ‪ :‬أي وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وذلك ببرورهما‪.‬‬ ‫فل تقل لهما أف ‪ :‬أي تبا أو قبحا أو خسرانا‪.‬‬

‫( ‪)3/186‬‬ ‫ول تنهرهما‪ :‬أي ول تزجرهما بالكلمة القاسية‪.‬‬ ‫قولً كريما‪ :‬جميلً لينا‪.‬‬ ‫جناح الذل‪ :‬أي ألن لهما جانبك وتواضع لهما‪.‬‬ ‫كان للوابين‪ :‬أي الرجاعين إلى الطاعة بعد المعصية‪.‬‬ ‫وآت ذا القربى‪ :‬أي أعط أصحاب القرابات حقوقهم من البر والصلة‪.‬‬ ‫ول تبذر تبذيرا‪ :‬أي ول تنفق المال في غير طاعة ال ورسوله‪.‬‬ ‫لربه كفورا‪ :‬أي كثير الكفر كَبِي َرهُ لنعم ربه تعالى‪ ،‬فكذلك المبذر أخوه‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫لما حرم ال تعالى الشرك ونهى عنه رسوله بقوله {ول تجعل مع ال إلها آخر فتقعد مذموما‬ ‫مخذول} أمر بالتوحيد فقال‪{ :‬وقضى ‪ 1‬ربك} أي حكم وأمر ووصى {أل تعبدوا إل إياه} أي بأن‬ ‫ل تعبدوا إل ال عز وجل‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬وبالوالدين إحسانا ‪ }2‬أي وأوصى بالوالدين وهما الم‬ ‫والب إحسانا وهو برهما وذلك بإيصال الخير إليهما وكف الذى عنهما‪ ،‬وطاعتهما في ‪ 3‬غير‬

‫معصية ال تعالى‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلهما فل تقل لهما أف ول‬ ‫تنهرهما ‪ }4‬أي إن يبلغ سن الكبر عندك واحد منهما الب أو الم أو يكبران معا وأنت حي‬ ‫موجود بينهما في هذه الحال يجب أن تخدمهما خدمتهما لك وأنت طفل فتغسل بولهما وتطهر‬ ‫نجاستهما وتقدم لهما ما يحتاجان إليه ول تتضجّر أو تتأفف من خدمتهما كما كانا هما يفعلن ذلك‬ ‫معك وأنت طفل تبول وتخرأ وهما يغسلن وينظفان ول يتضجران أو يتأففان‪ ،‬وقوله‪{ :‬ول‬ ‫تنهرهما} أي ل تزجرهما بالكلمة العالية النابية {وقل لهما قولً كريما‪ }5‬أي جميلً سهل لينا‬ ‫يشعران معه بالكرامة والكرام لهما وقوله تعالى‪{ :‬واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ‪ }6‬أي‬ ‫ألن لهما وتطامن وتعطف عليهما وترحم‪ .‬وادع لهما طوال‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬فعل قضي يكون لمعان عدّة منها قضى بمعنى‪ :‬أمركما هنا‪ ،‬وقضى بمعنى‪ :‬فرغ كقوله تعالى‪:‬‬ ‫{فإذا قضيتم مناسككم} أي فرغتم منها‪ ،‬ويكون بمعنى حكم نحو‪{ :‬فاقض ما أنت قاض} وبمعنى‬ ‫العهد نحو‪{ :‬إذ قضينا إلى موسى المر} ويكون بمعنى الخلق نحو‪{ :‬فقضاهن سبع سموات} أي‪:‬‬ ‫خلقهن‪.‬‬ ‫‪ 2‬هذه الية نص في برّ الوالدين وحرمة عقوقهما‪ ،‬وشاهد ذلك من السنة قوله صلى ال عليه‬ ‫وسلم وقد سئل عن أحب العمال إلى ال تعالى فقال‪" :‬بر الوالدين" وقال‪" :‬إن من الكبائر شتم‬ ‫الرجل والديه‪ .‬قالوا‪ :‬وهل يشتم الرجل والديه؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬يسبّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ‬ ‫أمّه فيسبّ أمّه"‪.‬‬ ‫‪ 3‬من شواهد الطاعة أن ابن عمر رضي ال عنهما قال‪" :‬كانت تحتي امرأة أحبّها وكان أبي‬ ‫يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت‪ ،‬فذكرت ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا عبدال بن‬ ‫عمر طلّق امرأتك" وللم ثلثة أرباع الطاعة وللب الربع لحديث الصحيح‪ :‬رواه الترمذي‬ ‫وصححه‪" :‬من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال‪ :‬أمّك قال‪ :‬ثم من قال أمّك‪ .‬قال‪ :‬ثم من قال‪:‬أمّك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬ثم قال‪ :‬أبوك"‪.‬‬ ‫‪ 4‬أي‪ :‬ل تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم وعدم رضا‪ ،‬وأف‪ :‬اسم فعل كصَه ومَ ْه منوّن وفيه‬ ‫لغات‪.‬‬ ‫‪ 5‬الكريم من كل شيء أرفعه في نوعه‪.‬‬ ‫‪ 6‬ال‪ :‬في الرحمة نابت عن المضاف‪ ،‬إذ التقدير‪ :‬من رحمتك إياهما‪.‬‬

‫( ‪)3/187‬‬ ‫حياتك بالمغفرة والرحمة إن كانا موحدين وماتا على ذلك لقوله تعالى‪{ :‬ما كان للنبي والذين آمنوا‬ ‫أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬وقل رب ارحمهما كما‬

‫ربياني صغيرا}‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ربكم أعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين ‪ 1‬فإنه كان للوابين‬ ‫غفورا}‪.‬‬ ‫يخبر تعالى بأنه أعلم بنا من أنفسنا فمن كان يضمر عدم الرضا عن والديه والسخط عليهما فال‬ ‫يعلمه منه‪ ،‬ومن كان يضمر حبهما واحترامهما والرضا بهما وعنهما فال تعالى يعلمه ويجزيه به‬ ‫فالمحسن يجزيه بالحسان والمسيء يجزيه بالساءة‪ ،‬وقوله‪{ :‬إن تكونوا صالحين فإنه كان‬ ‫للوابين ‪ 2‬غفورا} بحكم ضعف النسان فإنه قد يضمر مرة السوء لوالديه أو تبدر منه البادرة‬ ‫السيئة من قول أو عمل وهو صالح مؤدٍ لحقوق ال تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس فهذا العبد‬ ‫الصالح يخبر تعالى أنه غفور له متى آب إلى ال تعالى مستغفرا مما صدر منه نادما عليه‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬وآت ذا القربى ‪ 3‬حقه والمسكين وابن السبيل} هذا أمر ال للعبد المؤمن بإيتاء‬ ‫قرابته حقوقهم من البر والصلة وكذا المساكين وهم الفقراء الذي مسكنتهم الفاقة وأذلهم الفقر‬ ‫فهؤلء أمر تعالى المؤمن بإعطائهم حقهم من الحسان إليهم بالكساء أو الغذاء والكلمة الطيبة‪،‬‬ ‫وكذا ابن السبيل وهو المسافر يعطي حقه من الضيافة والمساعدة على سفره إن احتاج إلى ذلك‬ ‫مع تأمينه وإرشاده إلى طريقه‪ .‬وقوله تعالى {ول تبذر ‪ 4‬تبذيرا} أي ول تنفق مالك ول تفرقه في‬ ‫غير طاعة ال تعالى‪ .‬وقوله {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} لنهم بتبذيرهم المال في‬ ‫المعاصي كانوا عصاة ل فاسقين عن أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخوانا‪ ،‬وقوله إن‬ ‫الشيطان كان لربه كفورا لنه عصى ال تعالى وكفر نعمه عليه ولم يشكره بطاعته فالمبذر للمال‬ ‫في المعاصي فسق عن أمر ربه ولم يشكر نعمه عليه فهو إذا شيطان فهل يرضى عبد ال المسلم‬ ‫أن يكون شيطانا؟‬ ‫هداية اليات‬ ‫من هداية اليات ‪:‬‬ ‫‪ -1‬وجوب عبادة ال تعالى وحده ووجوب بر الوالدين‪ ،‬وهو الحسان بهما‪ ،‬وكف الذى عنهما‪،‬‬ ‫وطاعتهما في المعروف‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪{ 1‬صالحين}‪ :‬أي‪ :‬مؤدين لحقوق ال تعالى وافية وحقوق عباده كذلك‪.‬‬ ‫‪ 2‬الوّاب‪ :‬الذي كلما أذنب تاب‪ .‬والوّاب‪ ،‬الحفيظ‪ :‬الذي كلما ذكر ذنبه استغفر ربّه‪ .‬وصلة‬ ‫الوّابين‪ :‬صلة الضحى حين ترمض الفصلن أي تحترق أخفافها من الرمضاء فتبرك من شدة‬ ‫الحر‪.‬‬ ‫‪ 3‬هم قرابة المرء من قبل أبيه وأمّه معا‪ .‬قاله ابن عباس والحسن‪.‬‬ ‫‪ 4‬قال مجاهد‪ :‬لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذرا‪ ،‬ولو أنفق مُدا في غير حق كان مبذرا‪.‬‬

‫( ‪)3/188‬‬

‫‪-2‬وجوب الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة‪1 .‬‬ ‫‪ -3‬وجوب مراقبة ال تعالى وعدم إضمار أي سوء في النفس‪.‬‬ ‫‪ -4‬من كان صالحا وبدرت منه البادرة وتاب منها فإن ال يغفر له ذلك‪.‬‬ ‫‪ -5‬وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة‪ ،‬وكذا المساكين وابن السبيل‪.‬‬ ‫‪ -6‬حرمة التبذير وحقيقته إنفاق المال في المعاصي والمحرمات‪.‬‬ ‫ج َعلْ يَ َدكَ‬ ‫حمَةٍ مّن رّ ّبكَ تَرْجُوهَا َفقُل ّلهُمْ َق ْولً مّيْسُورًا(‪َ )28‬ولَ تَ ْ‬ ‫وَِإمّا ُتعْ ِرضَنّ عَ ْنهُمُ ابْ ِتغَاء َر ْ‬ ‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَن‬ ‫طهَا ُكلّ الْ َبسْطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُومًا مّحْسُورًا(‪ )29‬إِنّ رَ ّبكَ يَبْ ُ‬ ‫ك َولَ تَبْسُ ْ‬ ‫َمغْلُولَةً إِلَى عُ ُنقِ َ‬ ‫خشْيَةَ ِإمْلقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُق ُه ْم وَإِيّاكُم‬ ‫يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا(‪َ )30‬ولَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ َ‬ ‫طءًا كَبِيرًا(‪َ )31‬ولَ َتقْرَبُواْ الزّنَى إِنّهُ كَانَ فَاحِشَ ًة وَسَاء سَبِيلً(‪َ )32‬ولَ َتقْتُلُواْ ال ّنفْسَ‬ ‫إنّ قَتَْلهُمْ كَانَ خِ ْ‬ ‫جعَلْنَا ِلوَلِيّهِ سُ ْلطَانًا فَلَ يُسْرِف فّي ا ْلقَ ْتلِ إِنّهُ كَانَ‬ ‫الّتِي حَرّمَ اللّهُ ِإلّ بِالحَقّ َومَن قُ ِتلَ مَظْلُومًا َفقَدْ َ‬ ‫مَ ْنصُورًا(‪)33‬‬ ‫شرح الكلمات‪:‬‬ ‫وإما تعرضن عنهم‪ :‬أي عن المذكورين من ذي القربى والمساكين وابن السبيل فلم تعطهم شيئا‪.‬‬ ‫ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ‪ :‬أي طلبا لرزق ترجو من ال تعالى‪.‬‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روى أبو داود وغيره أن رجل من النصار جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬يا‬ ‫رسول ال‪" :‬هل بقي من برّ والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به؟ قال‪ :‬نعم الصلة عليهما‬ ‫والستغفار لهما‪ ،‬وإنفاذ عهدهما‪ ،‬وإكرام صديقهما‪ ،‬وصلة الرحم التي ل رحم لك إلّ من قِبلهما‬ ‫فهذا الذي بقي عليك" وفي الصحيح عن ابن عمر قال‪" :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬ ‫يقول‪ :‬إنّ من أبرّ البِ ّر صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يولي"‪.‬‬

‫( ‪)3/189‬‬ ‫قول ميسورا ‪ :‬أي لينا سهلً بأن تعدهم بالعطاء عند وجود الرزق‪.‬‬ ‫مغلولة إلى عنقك‪ :‬أي ل تمسك عن النفقة كأن يدك مربوطة إلى عنقك فل تستطيع أن تعطي‬ ‫شيئا‪.‬‬ ‫ول تبسطها كل البسط ‪ :‬أي ول تنفق كل ما بيدك ولم تبق شيئا‪.‬‬ ‫فتقعد ملوما‪ :‬أي يلومك من حرمتهم من النفاق‪.‬‬ ‫محسورا‪ :‬أي منقطعا عن سيرك في الحياة إذ لم تبق لك شيئا‪.‬‬ ‫و يبسط الرزق ويقدر ‪ :‬أي يوسعه‪ ،‬ويقدر أي يضيقه امتحانا وابتلء‪.‬‬

‫خشية إملق ‪ :‬أي خوف الفقر وشدته‪.‬‬ ‫خطئا كبيرا‪ :‬أي إثما عظيما‪.‬‬ ‫فاحشة وساء سبيلً ‪ :‬أي خصلة قبيحة شديدة القبح‪ ،،‬وسبيل بئس السبيل‪.‬‬ ‫لوليه سلطان‪ :‬أي لوارثه تسلطا على القاتل‪.‬‬ ‫فل يسرف في القتل ‪ :‬أي ل يقتل غير القاتل‪.‬‬ ‫معنى اليات‪:‬‬ ‫ما زال السياق الكريم في وصايا الرب تبارك تعالى والتي هي حكم أوحاها ال تعالى إلى رسوله‬ ‫للهتداء بها‪ ،‬والكمال والسعاد عليها‪ .‬فقوله تعالى‪{ :‬وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك‬ ‫ترجوها فقل لهم قولً ميسورا} أي إن أعرضت عن قرابتك أو عن مسكين سألك أو ابن سبيل‬ ‫احتاج إليك ولم تجد ما تعطيهم فأعرضت عنهم بوجهك أيها الرسول {فقل لهم قولً ميسورا‪ }1‬أي‬ ‫سهل لينا وهو العدة الحسنة كقولك إن رزقني ال سأعطيك أو عما قريب سيحصل لي كذا‬ ‫وأعطيك وما أشبه ذلك من الوعد الحسن‪ ،‬فيكون ذلك عطاء منك عاجلً لهم يسرون به‪ ،‬ول‬ ‫يحزنون‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ول تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} أي ل تبخل بما آتاك ال فتمنع ذوي‬ ‫الحقوق حقوقهم كأن يدك مشدودة إلى عنقك فل تستطيع أن تنفق‪ ،‬وقوله‪{ :‬ول تبسطها كل البسط}‬ ‫أي تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما بجيبك أو خزانتك فل تبق شيئا لك ولهلك‪ .‬وقوله‪{ :‬فتقعد‬ ‫ملوما محسورا} أي إن أنت أمسكت ولم تنفق لمك سائلوك إذ لم تعطهم‪ ،‬وإن أنت أنفقت كل‬ ‫__________‬ ‫‪ 1‬روي أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارا للرّزق‬ ‫يأتي من ال تعالى كراهة الردّ فنزلت هذه الية‪ .‬فكان صلى ال عليه وسلم‪ :‬إذا سئل وليس عنده‬ ‫ما يعطى قال‪" :‬يرزقنا ال وإياكم من فضله" فالرحمة في الية‪ :‬الرزق المنتظر ولقد أحسن مَنْ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫إلّ تكن ورِق يوما أجود بها‬ ‫للسائلين فإني ليّن العودِ‬ ‫ل يعدم السائلون الخير من خلقي‬ ‫إمّا نوالي وإمّا حسن مردودي‬

‫( ‪)3/190‬‬

Related Documents

001
November 2019 16
001
November 2019 19
001
November 2019 20
001
November 2019 18
001
November 2019 18
001
November 2019 22

More Documents from ""

November 2019 5
November 2019 3
November 2019 4
November 2019 4
Uk Islamic Credit Card
November 2019 10
Happy
May 2020 25