Final Copy Of Alif Paper On Tahtawi.pdf

  • Uploaded by: Mustafa Riad
  • 0
  • 0
  • May 2020
  • PDF

This document was uploaded by user and they confirmed that they have the permission to share it. If you are author or own the copyright of this book, please report to us by using this DMCA report form. Report DMCA


Overview

Download & View Final Copy Of Alif Paper On Tahtawi.pdf as PDF for free.

More details

  • Words: 10,587
  • Pages: 34
‫الترجمة وبناء الدولة احلديثة في مصر‪:‬‬ ‫الطهطاوي مترجِ ً‬ ‫ما‬ ‫مصطفى رياض‬

‫ارتبط اسم رفاعة رافع الطهطاوي (‪ )1873-1801‬ارتباط ًا وثيق ًا‬ ‫بناء دولة حديثة يف‬ ‫بعصرٍ شَ ِه َد تغييرات سريعة استهدفت يف معظمها َ‬ ‫مصر‪ ،‬منذ عهد محمد علي (والي مصر من ‪ 1805‬إلى ‪ )1849‬إلى‬ ‫الدراسات‬ ‫عهد إسماعيل (خديوي مصر من ‪ ،)1879-1863‬وقد َد َر َجت‬ ‫ُ‬ ‫التاريخية على تسميته بعصر النهضة‪ .‬غير أن ما تثيره تلك «النهضة» من‬ ‫إشكاليات على املستوى التاريخي والثقايف يف السنوات األخيرة‪ ،‬والتراكم‬ ‫املعريف الذي ّ‬ ‫تشكل حول الطهطاوي وإجنازاته مبا يحمله من خالفات‬ ‫واختالفات يف الرؤى‪ ،‬يستدعي دراسة فاحصة لدوره بوصفه مترجم ًا‬ ‫كانت له الريادة يف توجيه ذلك النشاط الذي أسهم يف بناء تلك الدولة‬ ‫احلديثة‪ .‬ولذلك تتجه املقالة احلالية إلى النظر يف ثالثة مجاالت تتمثل يف‬ ‫نتاج املترجم‪ ،‬وعملية الترجمة ذاتها‪ ،‬واملستهدفني من عملية الترجمة‪.‬‬ ‫ويف املجاالت الثالثة‪ ،‬يبرز دور اللغة والثقافة‪ ،‬سواء األصلية أو املكتسبة‪،‬‬ ‫يف خيارات الطهطاوي التي يواجهها يف عملية الترجمة‪ ،‬ويظل القارئ‬ ‫املستهدف ماث ً‬ ‫ال بوصفه أحد العوامل املهمة يف الشكل النهائي لعملية‬ ‫الترجمة ومراميها يف تشكيل وعي املتلقي‪١.‬‬ ‫وقد تعددت أدوار الطهطاوي وإسهاماته يف السياسات الثقافية لتلك‬ ‫احلقبة التاريخية على مدى حياته التي استه ّلها طالب ًا باألزهر الشريف ُي َح ِّصل‬ ‫العلو َم الشرعية ُ‬ ‫وينال شهاد َة العاملية بعد ثمانية أعوام من الدراسة به‪ .‬غير‬ ‫أنَّ الطهطاوي َّمتيز عن أقرانه بتلقيه على يدي شيخه حسن العطار ما غاب‬ ‫عن األزهر حينئذ من الدرس يف مجاالت األدب وبعض العلوم احلديثة يف‬ ‫التاريخ واجلغرافيا‪ .‬وقد رشّ حه الشيخ العطار ليشغلَ وظيف َة إمام البعثة التي‬ ‫أرسلها محمد علي لفرنسا عام ‪ ،1826‬وذلك ملا َلَ َسه فيه من رغبة جادة يف‬ ‫حتصيل العلم احلديث الذي كشفت احلملة الفرنسية على مصر عن علو شأن‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪1‬‬

‫الغرب فيه‪ ،‬والذي َتطلع العطار إلى إكسابه املصريني واستيعابه لهم إلصالح‬ ‫أحوال بالدهم‪ .‬وما لبث الطهطاوي أن صار أحد أعضاء البعثة بعد تو ُّفره‬ ‫وتوجهه إلى الترجمة منها إلى العربية‪ ،‬األمر الذي‬ ‫على إجادة اللغة الفرنسية ُّ‬ ‫دعا محمد علي إلى إحلاقه بالبعثة الدراسية إلميانه بأن الترجمة ستؤدي دور ًا‬ ‫مهم ًا يف نقل العلوم من لغاتها األوروبية إلى اللغة العربية‪.‬‬ ‫ومنذ عودة الطهطاوي إلى مصر‪ ،‬شَ َر َع يف تقدمي خدماته يف مجال‬ ‫الترجمة التي أقام لها محمد علي مؤسسة رسمية هي مدرسة األلسن‪.‬‬ ‫ثم انقضى عهد محمد علي وابنه إبراهيم‪ ،‬فلما تو َّلى عباس األول أوقف‬ ‫مشروعات ج ِّده محمد علي وعمه إبراهيم‪ ،‬وأوفد الطهطاوي إلى السودان‬ ‫ناظر ًا ملدرسة ابتدائية‪ .‬إال أن ذلك النفي لم ُيث ِنه عن مواصلة الترجمة؛‬ ‫ّ‬ ‫فاته إلى ترجمة رواية من األدب الفرنسي حتت عنوان مواقع األفالك يف‬ ‫وقائع تليماك يف جهد خاص يقع خارج نطاق املؤسسة الرسمية للترجمة‪.‬‬ ‫وبعد انقضاء عهد عباس األول‪ ،‬استعاد الطهطاوي دوره الرسمي يف‬ ‫الدولة املصرية يف عهد سعيد إذ ُع ِّي وكي ً‬ ‫ال للمدرسة احلربية‪ ،‬ثم ناظر ًا‬ ‫لقلم الترجمة يف عهد إسماعيل‪ ،‬حيث واصل جهوده يف مجال الترجمة‬ ‫وأُضيفت إلى أعبائه الوظيفية بعض املهام يف مجال التعليم العام يف عهد‬ ‫نظارة علي باشا مبارك‪.‬‬ ‫تعدُّ د اآلراء وتباينها يف إجناز الطهطاوي الثقايف‬ ‫وقد تباينت اآلراء فيما تراكم من تراث النقد الثقايف يف دور رفاعة‬ ‫الطهطاوي يف بناء الدولة احلديثة يف مصر‪ .‬ففي حني يصفه لويس عوض‬ ‫بأبي الدميقراطية املصرية لظهوره على الساحة املصرية بعد ألفي عام من‬ ‫حكم أوتوقراطي «لينادي بسيادة الشعب على امللوك وليفتح أعينهم على‬ ‫جتارب األمم األخرى يف ممارسة احلرية واملساواة من خالل الدساتير والنظم‬ ‫النيابية» (ص ‪ ،)122‬فإن الرفض الكامل ملشروع الطهطاوي من املنظور‬ ‫الثقايف ينبع من مصادر تستقي ماد َتها من رؤى ثقافية إسالمية؛ فيقدم‬ ‫محمود محمد شاكر الطهطاوي بوصفه فريسةً لر ّواد حركة االستشراق‬ ‫الفرنسي (ص ص ‪ )144-143‬ممن ُي ّبيتون اخلطط إلفساد احلياة القومية‬ ‫يف ظل املوروث اإلسالمي‪ ،‬أو ما يدعوه الشيخ شاكر بالـ«ثقافة املتكاملة»‬ ‫لدار اإلسالم (ص ‪ ،)142‬يقول شاكر‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫وقضى رفاعة رحمه اهلل ست سنوات يف باريس من ‪-1241‬‬ ‫‪ 1246‬هـ‪ 1831-1826 ،‬م‪ ،‬قضى ثالث سنوات منها يف‬ ‫تع ّلم اللغة الفرنسية كما قال هو بلسانه‪ ،‬ويف الثالث ا ُأل َخر‬ ‫درس التاريخ‪ ،‬واجلغرافيا‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬واآلداب الفرنسية‪ ،‬وقرأ‬ ‫مؤ َّلفات ڤولتير‪ ،‬وجان جاك روسو‪ ،‬ومنتسكيو‪ ،‬وقرأ بعض‬ ‫الكتب يف املعادن‪ ،‬وفن العسكرية‪ ،‬والرياضيات‪. . . ،‬‬ ‫فح ِّدثني َبربِّك كيف تكون دراسة هذه املتنوعات يف ثالث‬ ‫كحسو الطائر‪ ،‬وأن يكون‬ ‫سنوات‪ ،‬إال أن يكون ذلك ك ُّله خطف ًا َ‬ ‫ما أ َّلفه رفاعة وكتبه سطو ًا مجرد ًا على ُكتب كتبت يف هذه‬ ‫العلوم املختلفة املتباينة‪ ،‬واهلل أعلم مبا فيها من الزلل واخلطأ‬ ‫وسوء الفهم‪ .‬ولكن رفاعة على ذلك كلِّه إما ٌم جاء ُليخرج مصر‬ ‫وأهلها من ُّ‬ ‫الظلمات إلى النور!! يا للعجب!! (ص ‪)144‬‬ ‫واملالحظ أن تلك الدراسات الثقافية خلت‪ ،‬أو كادت تخلو‪ ،‬من االهتمام‬ ‫وتعرض‬ ‫بإنتاج الطهطاوي يف مجال الترجمة؛ بل إ ّننا جند فيما ُنشر من دراسات َّ‬ ‫لعملية الترجمة ذاتها رؤية ُتعلي من شأن النص األصلي وتفسر اختالف النص‬ ‫املترجم عنه بأخطاء وقع فيها ِ‬ ‫املترجم منها‪ .‬بل إن‬ ‫املترجم لقلة درايته باللغة َ‬ ‫َ‬ ‫عوني عبد الرءوف يقتصر يف كتابه على وصف عام ألسلوب رفاعة يف الترجمة‬ ‫ويشير إلى بعض سقطاته الناجتة عن سوء الفهم ( ص ص ‪.)275-270‬‬ ‫و ُيالحظ أن اآلراء السابقة تستند على نظرة ثقافية لها جذور فكرية‬ ‫تقابل بني احلداثة والدولة الوطنية من جهة (عوض) واملوروث اإلسالمي‬ ‫وما يتبعه من مفهوم األمة اإلسالمية من جهة أخرى (شاكر)‪ ،‬وأولوية‬ ‫املترجم الذي ال يزيد عن كونه تابع ًا لألصل‬ ‫النص األصلي على النص‬ ‫َ‬ ‫التوجه القومي يف الثقافة‬ ‫(عبد الرءوف)‪ .‬فهي آراء سادت يف زمن برز فيه ُّ‬ ‫ووجه نظره شطر الغرب لينقل عنه تصور ًا للدولة القومية‪ ،‬يف حني‬ ‫العربية َّ‬ ‫تيار يؤسس ملفاهيم مستمدة من الثقافة اإلسالمية‪.‬‬ ‫اشتبك معه وعارضه ٌ‬ ‫وقد برزت تلك الثنائية التي تقابل بني الفريقني ألنَّ أنصار هذه اآلراء لم‬ ‫يفيدوا من منهج ما بعد االستعمار يف القراءة النقدية مبا يسمح مبوقف أكثر‬ ‫ِ‬ ‫ستعمر‪ .‬ولم تتح لهم تطبيق‬ ‫تدقيق ًا يف العالقة امللتبسة بني‬ ‫املستعمر واملُ َ‬ ‫وقدمت رؤى‬ ‫مناهج القراءة ما بعد البنيوية التي جتاوزت الثنائيات املتضادة َّ‬ ‫ال مركزية جديدة خلخلت عالقات القوى بني املركز واألطراف‪.‬‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪3‬‬

‫غير أن جي ً‬ ‫ال جديد ًا من النقاد توفرت له أدوات نقدية مستمدة من املناهج‬ ‫املعاصرة َّ‬ ‫متكن من مناقشة مكانة الطهطاوي وإجنازاته على خلفية إشكاليات‬ ‫جديدة؛ فنطالع يف كتاب رضوى عاشور احلداثة املمكنة حتفظ ًا على مشروع‬ ‫«النهضة» بأكمله وعلى التماس التقدم يف «حداثة» منقولة فيما توضح «املفارقة‬ ‫العجيبةيفالسعيإلىالتحرروالنهوضعبرهذهاحلداثةرغمكونهاهينفسهاركيزة‬ ‫من ركائز الهيمنة الكولونيالية» (ص ‪ ،)14‬وذلك يف نقدها ملشروع الطهطاوي يف‬ ‫مقابلمشروعالشدياقالذيتق ِّد ُمهبوصفهامتداد ًاطبيعي ًاللموروثالثقايفالعربي‬ ‫املناهض للتوسع االستعماري‪ .‬بل إنّ تقييم ًا أدق وأكشف ملشروع «النهضة» ودور‬ ‫الطهطاوي يف سياقه صار متاح ًا على ضوء نظريات الترجمة احلديثة التي تستند‬ ‫بدورها إلى املناهج النقدية املعاصرة‪ ،‬ونخص بالذكر ما جاء يف دراسات ميريام‬ ‫سالمة‪-‬كار‪ ،‬وطارق العريس ‪ ،El-Ariss‬وشادن تاج الدين ‪. Tageldin‬‬ ‫وملا كان الطهطاوي مترجم ًا يف املقام األول‪ ،‬اتخذ من الترجمة مهنة‬ ‫مر مبراحل عدة يف عمله املهني وتطوره الفكري طالب ًا باألزهر‪،‬‬ ‫له‪ ،‬وملا كان قد َّ‬ ‫فبمعوث ًا إلى فرنسا‪ ،‬فمدير ًا ملدرسة األلسن‪ ،‬ثم ُمبْ َعد ًا إلى السودان ُلينشئ‬ ‫مدرسة ابتدائية يف اخلرطوم ومنتج ًا يف الوقت ذاته لترجمة تقع خارج نطاق‬ ‫املؤسسة الرسمية‪ ،‬ثم موظف ًا رسمي ًا مرة أخرى يف عهد سعيد‪ ،‬ثم شخصية‬ ‫ثقافية لها دورها يف مجالي الترجمة والتعليم يف عهد إسماعيل يف أخريات‬ ‫مبسطة تستند ‪ -‬يف غالب‬ ‫سنوات عمره‪ ،‬فإنَّ اختزال تاريخه يف نظرة ثقافية َّ‬ ‫األمر ‪ -‬إلى توجه إيديولوجي مسبق ال يقدم صورة متكاملة لنشاطه عبر‬ ‫عدة عقود شهدت تطور ًا مهم ًا يف ظهور الدولة املصرية احلديثة يف ظروف‬ ‫تفاوتت سياستها بني القدمي واجلديد‪ ،‬بل وتفاوتت السياسات الفرنسية‬ ‫الثقافية منذ اتصال الطهطاوي بها يف زمن آخر ملوك البوربون واندالع ثورة‬ ‫يوليو ‪ ،1830‬مرور ًا باجلمهورية الثانية وإمبراطورية نابليون الثالث ثم هزمية‬ ‫الفتية يف ‪.1870‬‬ ‫فرنسا أمام الدولة األملانية َّ‬ ‫وملا كانت مدرسة األلسن وعلى رأسها الطهطاوي وما أجنزته من‬ ‫الترجمات هي املؤسسة األولى يف مصر التي حملت على عاتقها مسؤولية‬ ‫النقل عن اآلخر إبان عهد محمد علي ‪ -‬على وجه التحديد ‪ -‬فإن دورها‬ ‫يف بناء املجتمع وتشكيله قام يف جانب منه على أساس من اخليارات‬ ‫اللغوية ملترجميها‪ ،‬وإطار من موروثات تقليدية ومستجدات من العلوم‬ ‫احلديثة‪ ،‬مما أسهم يف تشكيل جانب من الوجدان القومي يستدعي نظرة‬ ‫مدققة تراقب تالقي القدمي املوروث مع اجلديد احلادث‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫الدراسات السابقة وما يستهدفه البحث احلالي‬ ‫يتعرض لتلك العالقة‬ ‫َوينْ ُد ُر بني الدراسات عن إجناز الطهطاوي َمن َّ‬ ‫الثالثية بني اللغة والثقافة‪ ،‬وجهد املترجم يف مواجهة حتديات عمله‪،‬‬ ‫املترجم يف ٍآن واحد؛ إذ تنصرف يف معظمها‬ ‫والتوجه إلى متلقي النص‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫لبيان موقعه الثقايف بني اجلديد والقدمي‪ .‬ولذلك فإنَّ بحث ميريام سالمة‪-‬‬ ‫كار ُي َعدُّ مدخ ً‬ ‫ال رائد ًا يف دراسة الطهطاوي مترجم ًا يف إطار الصراع بني القدمي‬ ‫واجلديد يف مصر إ ّبان عهد محمد علي‪ ٢.‬وال يفوت سالمة‪-‬كار أنَّ حت ُّول‬ ‫وجه األنظار بعيد ًا عن‬ ‫الطهطاوي إلى «الشخصية الشعار على النهضة» قد َّ‬ ‫دوره بوصفه مترجم ًا‪ ،‬وترى لذلك أنَّ «التركيز على ما قام به الطهطاوي من‬ ‫دور سياسي وثقايف يفسر قلة االهتمام بنشاطه يف الترجمة‪ ،‬مع أن تأثير‬ ‫الطهطاوي على الفكر السياسي والتعليمي تزايد بفضل نشاطه يف الترجمة»‬ ‫(ص ‪ .)120‬ويتعلق اجلانب األكبر ِمن بحثها بدور الطهطاوي يف تقريب‬ ‫اآلخر املختلف دين ًا وجنس ًا وعرق ًا إلى القارئ العربي‪ .‬تقول سالمة‪-‬كار‪:‬‬ ‫لو فرضنا أنَّ نقطة البداية هي وساطة املترجم من حيث قيامه‬ ‫بتمثيل اآلخر يف برنامج بناء القومية‪ ،‬فسوف تنهض هذه الورقة‬ ‫بإعادة مراجعة وصف الطهطاوي رحلته إلى فرنسا يف كتابه‬ ‫كتاب ميكن عدُّ ه منوذج ًا‬ ‫تخليص اإلبريز يف تلخيص باريز‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫على ممارسة عمليتي الترجمة والتمثيل؛ ممارسة تسعى إلى رسم‬ ‫معالم الهوية القومية‪ .‬ولذا‪ ،‬سوف أسلط الضوء على الكيفيات‬ ‫التي ُيضفي بها الطهطاوي األلفة والشرعية على «اآلخر» عبر‬ ‫عمليات من «التماهي» تهدف إلى بناء ُهوية قومية تؤسس‬ ‫نفسها بعقيدة مشتركة لها تاريخ و َن َسق‪( .‬ص ‪)118‬‬ ‫ويستفيد البحث احلالي من دراسات الترجمة التي قامت على أساس من‬ ‫املنعطف الثقايف‪ ،‬وخصوص ًا نظرية الترجمة والصراع التي قدمتها منى‬ ‫بيكر ملا لها من جذور يف علم االجتماع الذي ُي ْع َنى ضمن مباحثه بالتقاء‬ ‫الثقافات وتنافرها وتالقحها (انظر ‪.)Baker‬‬ ‫و ُتفرد شادن تاج الدين فص ً‬ ‫ال يف كتابها لتفسير ما تصفه بغواية‬ ‫الترجمة التي حتفز الطهطاوي لتتبع مواطن التشابه بني مصر وفرنسا‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪5‬‬

‫وبني املصريني والفرنسيني‪ ،‬وهي ظاهرة رصدها ‪ -‬كما تذكر تاج الدين‬ ‫ باحثون سابقون مثل أمينة رشيد وسوزان فيولكان وميريام سالمة‪-‬كار‬‫(‪ .)Tageldin 308‬ويحمل عنوان الفصل (“‪ )”Suspect Kinship‬اتهام ًا‬ ‫واضح ًا للطهطاوي الذي استسلم ملا تصفه بغواية اللغة والترجمة بانخراطه‬ ‫دون وعي منه يف عالقة مشبوهة مع الطرف الفرنسي احتل فيها املوقع‬ ‫األدنى وهو يظن أ َّنه ارتقى إلى املوقع األعلى (‪ . )108-51‬فهي تؤسس‬ ‫رأيها على ضوء نظرية الترجمة للناقد الفرنسي بودريار ‪ Baudrillard‬الذي‬ ‫أشار إلى أن غواية الترجمة تؤدي باملترجم إلى االستسالم للنص األصلي‬ ‫فيخضع له وهو يظن أ ّنه صاحب السيادة عليه (كما ورد يف ‪،)Tageldin 11‬‬ ‫باإلضافة إلى ما تراه سپيڤاك ‪ Spivak‬يف إطار نظريات ما بعد االستعمار‬ ‫ِ‬ ‫املستعمر‬ ‫املستعمرة لنصوص‬ ‫من تبعية املترجم الذي ينتمي إلى األمة‬ ‫َ‬ ‫األصلية (كما ورد يف ‪ .)Tageldin 11-12‬وهكذا‪ ،‬تؤكد تاج الدين الرأي‬ ‫الذي يذهب إلى أن الطهطاوي كان فريسة موقف أنزل البعثات الدراسية‬ ‫املصرية يف فرنسا منزل التابع‪ ،‬بل إنها تزعم أن الطهطاوي عمل يف إطار‬ ‫مصاف التابعني الساعني‬ ‫نظرية للترجمة افترضها ونتج عنها انتقاله إلى‬ ‫ِّ‬ ‫إلى تكافؤ ال تبرره عالقات القوى غير املتكافئة (‪.)116‬‬ ‫يوجه ُج َّل اهتمامه إلى إشكالية السياق‬ ‫غير أن طارق العريس ِّ‬ ‫ومولد «احلداثة» يف مصر‪ ،‬فيقدم‬ ‫التاريخي للحداثة يف عهد محمد علي ْ‬ ‫دراسة متعمقة للخلفية الثقافية التي عمل الطهطاوي يف ظاللها‪ .‬فقد‬ ‫سعى محمد علي باشا إلى نقل جانب من احلداثة األوروبية إلى مصر‪،‬‬ ‫األمر الذي خلق إشكالية للعالِم األزهري الشاب والوافد إلى عالم جديد‬ ‫تتمثل يف كيفية تعامله مع حتقيق رغبة ولي النعم‪ ،‬لينتقل مبرور الوقت‬ ‫يتحول حتت تأثيرها من عالم‬ ‫واكتساب اخلبرة إلى مرحلة من التماهي‬ ‫ّ‬ ‫أزهري إلى موظف حكومي وواحد من أهم املسؤولني عن الترجمة وحتديث‬ ‫التعليم يف مصر (‪.)El-Ariss 45-46‬‬ ‫وعلى ضوء ما سبق‪ ،‬يقع االختيار يف البحث احلالي على نصني‬ ‫ترجمهما الطهطاوي يف مرحلتني مختلفتني من حياته‪ .‬أولهما ترجمته‬ ‫للدستور الفرنسي الذي منحه لويس الثامن عشر للفرنسيني يف عصر عودة‬ ‫ضمنه كتابه تخليص اإلبريز‪.‬‬ ‫املَ َلكية عام ‪ 1814‬بعد سقوط نابليون‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ومترجم ًا يف باريس أثناء بعثته‬ ‫حينئذ يف مقتبل العمر دارس ًا‬ ‫وكان الطهطاوي‬ ‫الدراسية يف عهد محمد علي‪ ،‬فأمتَّه حني عودته (صدرت الطبعة األولى يف‬ ‫‪6‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫عام ‪ ،1834‬والثانية يف عام ‪ ،)1849‬ثم انشغل مبهامه الرسمية يف الترجمة‬ ‫واإلشراف على أعمالها يف مدرسة األلسن التي أنشأها‪ .‬ولذلك‪ ،‬خضع‬ ‫كتابه األول ملؤثرات تفاوتت بني تلك التي أثارتها يف نفسه وعقله دراساته‬ ‫حصل على مدار ثمانية أعوام‬ ‫الفرنسية‪ ،‬وهو العالم األزهري الشاب الذي َّ‬ ‫ثقافة إسالمية متعمقة‪ ،‬وأخرى ألزمته بها وظيفته الرسمية يف مدرسة‬ ‫جتمع له من معارف كانت ثمرة ما ُيطلق عليه‬ ‫األلسن‪ ،‬وإن نازعته آنذاك ما َّ‬ ‫عصر التنوير الفرنسي‪ .‬أما النص اآلخر فهو ترجمته لرواية األب فرانسوا فنلون‬ ‫‪ )1715-1651( François Fénélon‬املنشورة حتت عنوان ‪Les aventures‬‬ ‫أعدها القس الفرنسي لتكون أداة لتعليم‬ ‫‪ ،)1699( de Télémaque‬التي َّ‬ ‫ولي عهد امللك لويس الرابع عشر‪ ،‬وهو الدوق دي بورجوني‪ ،‬وتأديبه وحمله‬ ‫على صفات احلاكم الرشيد‪ ،‬مبا حتويه الرواية من ِع َبر وأمثلة من حياة الشعوب‬ ‫وسياسات حكامها واختالف مصائر احملكومني بني الضيق والرخاء‪ ،‬بقدر ما‬ ‫يتصف به احلكام من حكم رشيد‪ .‬ويبدأ الطهطاوي ترجمته املعنونة بـمواقع‬ ‫األفالك يف وقائع تليماك يف منفاه بالسودان إ ّبان حكم عباس الذي كان قد‬ ‫أغلق مدرسة األلسن ضمن ما أغلق من مشروعات جده‪ ،‬وأبعد الطهطاوي‬ ‫إلى السودان ليشغل وظيفة ناظر مدرسة ابتدائية ُتنشأ يف اخلرطوم‪ .‬والالفت‬ ‫للنظر أن الطهطاوي أصدر الطبعة األولى لترجمته مواقع األفالك بعيد ًا عن‬ ‫قاهرة إسماعيل‪ ،‬يف بيروت عام ‪.1867‬‬ ‫ويتطرق البحث إلى نص ثالث من وضع الطهطاوي بتكليف من‬ ‫ديوان املدارس يف عهد إسماعيل‪ ،‬وهو املرشد األمني للبنات والبنني الذي‬ ‫صدر عام ‪ 1872‬الستعماله يف املدارس مرجع ًا يف األخالق واآلداب واحلس‬ ‫توجب غرسه يف النفوس ليواكب انتقال مصر إلى عهد من‬ ‫الوطني الذي َّ‬ ‫«احلداثة» َص ِح َبه اإلعالء من قيمة الشعور القومي‪ .‬ورغم كونه مؤ َّلف ًا‪ ،‬فإن‬ ‫املرشد األمني يدين بالفضل ملؤلفات مماثلة يف املناهج الدراسية الفرنسية‪.‬‬ ‫وملا كان األول من نوعه يف املؤلفات العربية فقد سار فيه الطهطاوي على‬ ‫وخبره من الكتب الفرنسية املوضوعة كي ُتقق األهداف ذاتها‬ ‫نهج ما وجده َ‬ ‫اخلاصة بتأكيد اجلوانب األخالقية والوطنية يف نفوس الطالب والطالبات‪.‬‬ ‫والكتاب على هذه الصورة ُي َعدُّ ُمستلهم ًا من املصادر الفرنسية التي ُي َر َّجح‬ ‫اطالع الطهطاوي عليها‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن أنَّ هذا املؤ َّلف يقدم صورة واضحة عن‬ ‫القراء يتطلع أن يشاركوه رؤاه احلضارية التي سبق‬ ‫تصور الطهطاوي جليل من َّ‬ ‫مر حياته املهنية‪.‬‬ ‫أن َّ‬ ‫عبر عنها يف أعماله املترجمة التي أصدرها على ِّ‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪7‬‬

‫النص األول‪ :‬ترجمة ميثاق عودة املَلَكية ‪1814‬‬ ‫يقدم الطهطاوي يف تلخيص اإلبريز امليثاق الدستوري الصادر يف‬ ‫مترجم ًا‬ ‫الرابع من يونيو ‪َ Charte constitutionelle de 4 Juin 1814 1814‬‬ ‫(ص ص ‪ُ .)123-117‬ويثل هذا النص السياسي املقالة الثالثة من‬ ‫عرف بها بوصفها « ِذكر ما شاهدناه وما بلغنا خبره من أحوال‬ ‫كتابه التي ُي ِّ‬ ‫باريس‪ .‬وهذه املقالة هي الغرض األصلي من وضعنا لهذه الرحلة» (ص‬ ‫‪ .)73‬ثم ال يلبث يف الفصل الثالث من تلك املقالة أن يحدد الهدف من‬ ‫تقدميه لذلك النص الذي يتصل برغبته يف تبيان أن «العدل واإلنصاف من‬ ‫أسباب تعمير املمالك وراحة العباد»‪ ،‬ويلي ذلك أقوال من التراث العربي‬ ‫تؤيد هذا املبدأ‪ ،‬مما ميهد إلى كشف تلك املرو َّيات املوروثة التي تشير إلى‬ ‫ِ‬ ‫املترجم من خالل لغته وثقافته األصلية فيما يختار من ترجمات‬ ‫تدخل‬ ‫وما يورده من سياق ميوضعها فيه ( ص ص ‪.)116-115‬‬ ‫عرب الطهطاوي مصطلح ‪ charte‬الفرنسي ليصبح بالعربية‬ ‫و ُي ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫مبلحق عنوانه «خُ الصة حقوق الفرنساوية اآلن بعد‬ ‫«الشرطة»‪ ،‬ويعقبه‬ ‫سنة ‪ 1831‬من امليالد وتصليح الشرطة» ( ص ص ‪ .)129-127‬ويجدر‬ ‫ضمنه الطهطاوي أو أغفل تضمينه‪ ،‬يف إطار الظروف‬ ‫بداية اإلشارة إلى ما َّ‬ ‫قدم وما أخَّ ر‬ ‫السياسية التي دعت إلى إصدار هذا امليثاق أو الدستور‪ ،‬وما ّ‬ ‫يف األحداث التاريخية‪ ،‬وخصوص ًا ما ذكره وأثبته من صدوره عن لويس‬ ‫الثامن عشر يف عهد عودة املَ َلكية بعد انقضاء زمن الثورة الفرنسية وما تبعها‬ ‫من إعالن نابليون إمبراطور ًا ثم سقوطه‪ ،‬وإغفاله يف السياق نفسه معاصرته‬ ‫قبل عودته إلى الوطن ألحداث ثورة يوليو ‪ 1830‬التي أنهت حكم البوربون‬ ‫جد‬ ‫ونصبت لويس فيليب ملك ًا للفرنسيني‪ ،‬ليعود مرة أخرى لتقدمي ما َّ‬ ‫َّ‬ ‫من أحداث يف اخلالصة املذكورة على نحو مختصر‪ .‬ثم يعود‪ ،‬يف مقالة‬ ‫خامسة يف تخليص اإلبريز‪ ،‬ليقدم لقرائه ثورة الفرنسيني بوصفها فتنة‪:‬‬ ‫«ما وقع من الفتنة يف فرنسا وعزل امللك قبل رجوعنا إلى مصر» ( ص ص‬ ‫فصل يف الفصل األول «مقدمة يتوقف عليها إدراك‬ ‫‪ ،)224-221‬حيث ُي ِّ‬ ‫ِع َّلة خروج الفرنساوية عن طاعة ملكهم» (ص ‪ ،)٢٢١‬ويف الفصل الثاني‬ ‫«التغييرات التي حصلت وما ترتب عليها من ال ِفتنة» (ص ص ‪-224‬‬ ‫‪ ،)228‬ويف الفصل الثالث «كيف كان يصنع امللك يف هذه املدة وفيما‬ ‫جرى بعد ذلك من رضائه بالصلح بعد فوات أوانه ويف خلعه اململكة على‬ ‫‪8‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫ابنه» (ص ص ‪ ،)231-229‬ويف الفصل الرابع «فيما انحط عليه رأي أهل‬ ‫املشورة وفيما ترتب على هذه الفتنة من تولية الدوق درليان ملك الفرنساوية»‬ ‫(ص ص ‪ ،)235-231‬ويف الفصل اخلامس «فيما حصل للوزراء الذين‬ ‫وضعوا خطوط أيديهم على األوامر السلطانية التي كان [كذا] السبب يف‬ ‫زوال مملكة امللك األول الذي فعل فعلته ويف العواقب لم ينظر وطمع مبا لم‬ ‫يظفر» (ص ص ‪ ،)241-235‬ويف الفصل السادس «فيما كان بعد الفتنة‬ ‫يف سخرية الفرنساوية على شارل العاشر ويف عدم اكتفاء الفرنساوية بذلك»‬ ‫(ص ص ‪ ،)241-238‬وأخير ًا يتطرق يف الفصل السابع واألخير من املقالة‬ ‫اخلامسة إلى «ما كان من دول اإلفرجن بعد سماعهم بانعزال امللك األ َّول‬ ‫وتقليد اململكة للملك الثاني ويف رضائهم بذلك» (ص ‪.)٢٤١‬‬ ‫لكلمتي «ال ِفتْ َنـة» و»ال ِف َت» يف اإلشارة‬ ‫ويبرز استعمال الطهطاوي‬ ‫ْ‬ ‫إلى األحداث التي سبقت عصر عودة املَ َلكية يف فرنسا و َت َلتْ ُه (‪-1815‬‬ ‫‪ .)1830‬وقد َو َرد فيما سبق ذلك الوصف يف عناوين فصول املقالة اخلامسة‬ ‫اخلاصة بثورة يوليو ‪ ،1830‬أما ما سبق على عهد عودة امللكية فقد وصفه‬ ‫الطهطاوي يف املقالة ذاتها على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫وقد سبق للفرنساوية أنهم قاموا سنة ‪ 1790‬من امليالد وحكموا‬ ‫على ملكهم وزوجته بالقتل‪ ،‬ثم صنعوا جمهورية‪ ،‬وأخرجوا‬ ‫العائلة السلطانية املسماة «البربون» من مدينة «باريس» وأشهروهم‬ ‫مثل األعداء وما زالت الفتنة باقية األثر إلى سنة ‪ 1810‬ميالدية‪،‬‬ ‫ثم تسلطن «بونابرته» املسمى «نابليون» وتلقب بسلطان سالطني‬ ‫[كذا]‪ ،‬ثم ملا كثرت محارباته وكثر أخذه للممالك وخيف بأسه‬ ‫وبطشه تعاهد عليه ملوك اإلفرجن؛ ليخرجوه من اململكة‪ ،‬مع‬ ‫محبة الفرنساوية له‪ ،‬وأعادوا البربون إلى محلهم رغم ًا عن أنف‬ ‫امللة الفرنساوية‪ ،‬فكان أول من تسلطن منهم «لويز الثامن عشر»‬ ‫وألجل ترغيب الناس يف حكمه ومتكني ملكه صنع قانون ًا بينه‬ ‫وبني الفرنساوية مبشورتهم ورضائهم‪ ،‬وألزم نفسه أن يتبعه وال‬ ‫الش ْر َطة‪( .‬ص ‪)٢٢٢‬‬ ‫يخرج عنه‪ ،‬وهو َ‬ ‫ورغم إشارة املعنى املعجمي األول للفتنة إلى االختبار واالمتحان‪ ،‬إذ يرد‬ ‫معناها يف صدر مادة «فنت» يف لسان العرب على النحو اآلتي‪ِ :‬‬ ‫ماع‬ ‫«ج ُ‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪9‬‬

‫معنى ال ِفتْنة االبتالء واال ْم ِتحانُ واالختبار‪ ،‬وأَصلها مأْخوذ من قولك ف َتنْ ُت‬ ‫َ‬ ‫اجلي ِد» (ابن منظور‪ ،‬د‪.‬‬ ‫الفضة والذهب إِذا أذبتهما بالنار ل ُت َم ّيز الرديء من ِّ‬ ‫ص‪ ،).‬فإنَّ معناها االصطالحي شاع واستقر يف ارتباطه باختالف الناس‬ ‫يف اآلراء‪ ،‬واإلحراق بالنار‪ ،‬بناء على ما ورد من آيات القرآن الكرمي «وا َّتقُوا‬ ‫ين َظ َل ُموا ِم ُ‬ ‫اصةً » (األنفال‪ ،‬اآلية ‪ ،)25‬وكذلك‬ ‫ِفتْ َنةً َّال ُت ِص َ َّ‬ ‫نك ْم َخ َّ‬ ‫يب الَ ِذ َ‬ ‫«وال ْ ِفتْ َن ُة أَشَ دُّ ِم َن ال َقتْلِ » (البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ،)191‬وما روي عن عمرو بن‬ ‫العاص من قوله البنه عبد اهلل «يا بني! سلطان عادل خير من مطر وابل‪،‬‬ ‫وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم‪ ،‬وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة‬ ‫تدوم» (ابن عساكر‪ ،‬ص ‪ .)184‬بل إنَّ اجلبرتي الذي ينتمي إلى اجليل‬ ‫السابق على جيل الطهطاوي قد أورد يف بيان ُن ِس َب إلى علماء األزهر ما‬ ‫ُي َن ِّفر من الفنت وإن كانت تتصل بحركة تقاوم احملتل الفرنسي آنذاك‪:‬‬ ‫نعوذ باهلل من الفنت ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ونبرأ إلى اهلل من‬ ‫الطاغني يف األرض بالفساد‪ ،‬ونعرف أهل مصر احملروسة أن‬ ‫طرف ًا من اجلعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بني الرعية‪ ،‬وبني‬ ‫العساكر الفرنساوية‪ ،‬بعدما كانوا أصحاب ًا وأحباب ًا بالسو َّية‪ ،‬ولكن‬ ‫حصلت ألطاف اهلل اخلفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند‬ ‫البلية؛ ‪ ...‬فعليكم أال‬ ‫أمير اجليوش بونابرته‪ ،‬وارتفعت هذه ِّ‬ ‫حتركوا الفنت وال تطيعوا أمر املفسدين‪( .‬ص ص ‪)٤٦-٤٥‬‬ ‫أَ ِض ْف إلى ذلك أنه على الرغم من أن رصد الطهطاوي لثورة يوليو ‪،1830‬‬ ‫الذي ورد يف املقالة اخلامسة من تلخيص اإلبريز يتصف بالتوازن والفهم‬ ‫العميق للخالف السياسي بني الفرقتني السياسيتني الرئيسيتني يف فرنسا آنذاك‬ ‫والتنافس بينهما‪ :‬املَ َلكية واحلر َّية (ص ‪ ،)221‬فإن اللغة التي تنقل فكره تل َّونت‬ ‫مبصطلحات كانت قد استقرت يف املجتمعات املسلمة‪ .‬فنراه يشير إلى ثورة يوليو‬ ‫‪ 1830‬بـ«خروج الفرنساوية عن طاعة ملكهم» (ص ‪ ،)221‬ورمبا انطبع يف ذهنه‬ ‫َّ َ‬ ‫ول َوأُ ْولِي ْ َ‬ ‫الر ُس َ‬ ‫ال ْم ِر‬ ‫ما ورد يف اآلية الكرمية َ«يا أَ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين آ َم ُنوا أَ ِطي ُعوا الل َوأَ ِطي ُعوا َّ‬ ‫للم َلكية‬ ‫ِمنْ ُك ْم» (النساء‪ ،‬اآلية ‪ .)59‬ويصف حركة اجلمهور الفرنسي املعادي َ‬ ‫املطلقة واملطالب بتحكيم الدستور على نحو يستدعي إلى الذهن األوصاف التي‬ ‫أطلقها علماء األزهر على مقاومي االحتالل الفرنسي مبصر‪ .‬يقول الطهطاوي‬ ‫عن العامة إن غضبهم قد اشتد وأنهم‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫عرضوا القتلى يف احملال العامة لتحريض الناس على القتال‬ ‫وإظهار عيوب العساكر‪ ،‬وقامت أنفس الناس على ملكهم‬ ‫العتقادهم أنه أمر بالقتال‪ ... .‬فمن هذا الوقت كثر سفك‬ ‫الدماء‪ ،‬وأخذت الرعية األسلحة من السيوفية بشراء أو غصب‪،‬‬ ‫وأغلب العملة والصنائعية‪ ،‬خصوص ًا الطباعني‪ ،‬هجموا على‬ ‫القرقوالت وخانات العساكر‪ ،‬وأخذوا منها السالح والبارود‬ ‫وقتلوا من فيها من العساكر‪ ،‬وخلع الناس شعار امللك من‬ ‫احلوانيت واحملال العامة‪ ،‬وشعار ملك الفرنسيس هي صورة‬ ‫زهر الزنبق‪ ،‬كما أن شعار اإلسالم صورة هالل‪ ... .‬وكسروا‬ ‫قناديل احلارات‪ ،‬وقلعوا بالط املدينة وجمعوه يف السكك‬ ‫املطروقة‪ ،‬حتى يتعذر مشي الفرسان عليه‪ ،‬ونهبوا جبخانات‬ ‫البارود السلطانية‪( .‬ص ‪)226‬‬ ‫واملالحظ أن الطهطاوي الذي قضى معظم سنوات بعثته يف ظل حكم آخر‬ ‫قدم‬ ‫ملوك البوربون وعاصر ثورة يوليو ‪ 1830‬قبيل عودته من البعثة الدراسية َّ‬ ‫احلدثني بترتيبهما الزمني‪ ،‬وإن كانت أحداث ‪ 1830‬تفوق أهمية‪ ،‬مقارنةً‬ ‫مبا سبقها من عودة حكم البوربون املستبدين‪ ،‬واسترسل يف شرح ميثاق‬ ‫البوربون احملافظ الذي أفرد له محل الصدارة يف فصل بعنوان «تدبير الدولة‬ ‫الفرنساوية» (ص ص ‪ ،)١٢٩-١١٣‬دون إشارة منه إلى تعديل ذلك امليثاق‬ ‫بعد الثورة على حكم البوربون يف يوليو ‪( 1830‬ص ص ‪ ،)126-113‬على‬ ‫حني اختص األحداث الثورية التي شهدها بخالصة ال تزيد على الصفحتني‬ ‫إال قلي ً‬ ‫ال حتت عنوان «خالصة حقوق الفرنساوية اآلن بعد سنة ‪ 1831‬من‬ ‫امليالد وتصليح الشرطة» (ص ص ‪ .)129-127‬وال شك أنَّ معاجلة‬ ‫الطهطاوي للبعد الزمني‪ ،‬وهي إحدى خصائص املرويات (‪،)Baker 50-61‬‬ ‫كاشف ٌة عن انحيازه إلى الوثيقة األولى‪ ،‬وخصوص ًا إذا وضعنا يف احلسبان أن‬ ‫خصصها الطهطاوي لثورة يوليو تصدر حكمها على ما‬ ‫املقالة اخلامسة التي َّ‬ ‫سبق عودة املَ َلكية من أحداث وما تالها بأنه ال يعدو كونه من قبيل ال ِفنت‪.‬‬ ‫تقدم من خلفية لغوية وثقافية يشير إلى موقف للطهطاوي‬ ‫ولعل ما َّ‬ ‫مييل إلى دعم السلطة احلاكمة‪ ،‬ما دامت أسباب القوة واملنعة قد تو َّفرت‬ ‫لها‪ ،‬كما مييل إلى إدانة ما يقوم به العامة من أعمال تنتقص من قوة السلطة‬ ‫وتهدد بزوالها‪ .‬وقد يكون ذلك املوقف من خشية الفنت حسب املوروث‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪11‬‬

‫اإلسالمي‪ ،‬أو ملعاصرته ألحداث وقعت يف صدر شبابه قبل سفره للبعثة يف‬ ‫عامي ‪ 1823‬و‪ ،1824‬متثلت يف انتشار العصيان والتمرد يف الوجهني البحري‬ ‫والقبلي خروج ًا على ما أصدره محمد علي من سياسات تقضي بالتجنيد‬ ‫اإلجباري‪ .‬ويرصد خالد فهمي ما سجلته الوثائق من مترد أهل املنوفية وقيام‬ ‫محمد علي نفسه على رأس حرسه اخلاص وست من مدافع امليدان بقمع‬ ‫ذلك التمرد‪ ،‬وكذلك إخماده لثورة يف صعيد مصر يف عام ‪ 1824‬شارك فيها‬ ‫ثالثمائة ألف من األهالي اعتدوا على موظفي الدولة ورفضوا سداد الضرائب‬ ‫املستحقة (‪ .)Fahmy 99-100‬غير أنَّ ميول الطهطاوي احملافظة‪ ،‬إ ْن بدت يف‬ ‫ثنايا خطابه املتأثر بعصر التنوير الفرنسي‪ ،‬تتصل اتصا ًال وثيق ًا باملهام املوكلة‬ ‫إليه بوصفه طالب بعثة رسمية ثم ناظر ًا ملدرسة األلسن التي قامت خلدمة‬ ‫مشروع محمد علي يف تعزيز سلطاته والتوسع فيها يف املقام األول‪.‬‬ ‫الشرطة) تعبيرات‬ ‫ويغلب على تقدمي الطهطاوي لدستور ‪( 1814‬أو َ‬ ‫مستمدة من األدبيات اإلسالمية حتى وإن أقر أن محتواه لم ِ‬ ‫يأت به علم‬ ‫والس َّنة‪ .‬يقول الطهطاوي‪:‬‬ ‫من الكتاب ُ‬ ‫فلنذكر لك‪ ،‬وإن كان غالب ما فيه ليس يف كتاب اهلل تعالى‬ ‫لتعرف كيف قد‬ ‫وال يف ُس َّنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حكمت عقولهم بأن العدل واإلنصاف من أسباب تعمير‬ ‫املمالك وراحة العباد‪ ،‬وكيف انقادت احلكام والرعايا لذلك‬ ‫حتى عمرت بالدهم‪ ،‬وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت‬ ‫قلوبهم‪ ،‬فال تسمع فيهم من يشكو ظلم ًا أبد ًا‪ ،‬والعدل أساس‬ ‫ال ُعمران‪( .‬ص ص ‪116-115‬؛ التأكيد من عندي)‬ ‫ثم يلي ذلك بذكر‬ ‫نبذة مما قاله فيه العلماء واحلكماء أو يف ضده من كالم بعضهم‪:‬‬ ‫ظلم اليتامى واأليامى مفتاح الفقر؛ وا ِ‬ ‫حللم حجاب اآلفات؛‬ ‫وقلوب الرعية خزائن ملكها‪ ،‬فما أودعه إياها وجده فيها‪ ...‬وقال‬ ‫بعضهم‪ ،‬سلطان امللوك على أجسام الرعايا ال على قلوبهم‪...‬‬ ‫أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع؛ إن املولى إذا كلف‬ ‫وقيل إذا َ‬ ‫عبده ما ال يطيقه‪ ،‬فقد أقام عذر ًا يف مخالفته‪( .‬ص ‪)116‬‬ ‫‪12‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫وميهد ما سبق من مالحظات غلبت عليها اللغة املستمدة من‬ ‫التراث اإلسالمي لترجمة الطهطاوي لدستور ‪ ،1814‬وهي ترجمة شابتها‬ ‫بعض أوجه التصرف النابعة من قوة املرويات الوجودية ‪ontoglogical‬‬ ‫تؤسس‬ ‫‪ narratives‬واملرويات العامة ‪( public narratives‬انظر ‪ِّ )Baker‬‬ ‫لنظرة الطهطاوي يف الثقافة اإلسالمية‪ .‬وقد سبق أن أشار جرونباوم إلى‬ ‫السمة التي رصدها يف الكتابات القومية احلديثة للمسلمني‪ ،‬فهو‬ ‫تلك ِّ‬ ‫يرى أن تلك الكتابات يشوبها غياب التحديد فيما يتصل بالعالقة بني‬ ‫املعياري ‪ normative‬والواقعي ‪ ،real‬األمر الذي ينتج خلط ًا بني ما ينبغي‬ ‫أن يكون وما هو كائن بالفعل من واقع معيش‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن التقييم الذي‬ ‫يستند إلى مقابلة بني الذات واآلخر‪ ،‬ولذلك تتسم كتابات احلداثيني‬ ‫املسلمني بالطابع احملافظ ومتيل إلى جتاوز الواقع لتأكيد مثل عليا وتغليبها‬ ‫على واقع ال يرضون عنه (‪.)Grünebaum 132-33‬‬ ‫يقع الطهطاوي حتت تأثير الثقافة اإلسالمية‪ ،‬فيورد من احلكم‬ ‫واألمثال مما سبق عرضه ُمقدمةً لترجمته للدستور و ُيسقط مقدمته األصلية‪،‬‬ ‫أي كلمة لويس الثامن عشر‪ ،‬وفيها ما يشير إلى اخللفية التاريخية لصدوره‬ ‫ْ‬ ‫يعبر فيه عن احتفائه به‬ ‫منحةً منه للفرنسيني‪ .‬وينهي ترجمته بتعليق ِّ‬ ‫وجدت أغلب ما يف هذه الشرطة نفيس ًا» (ص‬ ‫تأملت‪،‬‬ ‫فيقول لقارئه «فإذا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪ ،)١٢٣‬وهو تعليق كاشف عن تعلقه باملُثُل التي ُيعلي الدستور من شأنها‬ ‫دون االلتفات إلى ما عاصره هو شخصي ًا منذ وصوله إلى باريس من مساوئ‬ ‫عهد شارل العاشر وانحرافه عن الدستور‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫املترجم سافر ًا يف بعض‬ ‫فإذا تتبعنا ترجمة العمل‪ ،‬وجدنا تدخل‬ ‫املفاهيم الواردة به‪ ،‬إذ تصطبغ بتعبيرات إسالمية تخرج مبعنى األصل‬ ‫عن مساره وتقارب بينه وبني املوروثات اإلسالمية لدى الطهطاوي‪.‬‬ ‫فكلمة «القانون» الفرنسية ‪ la loi‬يترجمها الطهطاوي يف مواقع ظهورها‬ ‫يف النص الفرنسي مبعنى القانون العام للدولة بـ«الشريعة»‪ ،‬رغم احتواء‬ ‫املعجم العربي على كلمة «قانون» مبعنى األصول‪ ،‬وهي كلمة انتقلت إلى‬ ‫العربية من اليونانية والفارسية‪ ،‬ورغم استعمال الطهطاوي لها يف بعض‬ ‫املواقع التي تشير إلى قوانني بعينها‪ ٣.‬وتأتي ترجمة املادة الرابعة بتجاوز‬ ‫عن النص األصلي ليشير إلى حق امللك الذي مينحه الدستور يف اقتراح‬ ‫القوانني؛ إذ تشير املادة الرابعة إلى ضمان احلريات الشخصية للفرنسيني‬ ‫يف حدود ما ينص عليه القانون‪:‬‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪13‬‬

‫‪Article 4. Leur liberté individuelle est également‬‬ ‫‪garantie, personne ne pouvant être poursuivi ni arrêté‬‬ ‫‪que dans les cas prévus par la loi, et dans la forme‬‬ ‫)‪qu’elle prescrit. (“Charte” n. pag.; emphasis added‬‬

‫فيضمنها ما يفيد قيام امللك باقتراح‬ ‫ويقدم الطهطاوي ترجمة لتلك املادة‬ ‫ِّ‬ ‫تلك القوانني التي تقيد احلريات الشخصية‪:‬‬ ‫املادة الرابعة‪ :‬ذات كل واحد منهم يستقل بها‪ ،‬ويضمن لها‬ ‫حريتها‪ ،‬فال يتعرض له إنسان إال ببعض حقوق مذكورة يف‬ ‫املعينة التي يطلبه بها احلاكم‪( .‬ص‬ ‫الشريعة‪ ،‬وبالصورة َّ‬ ‫‪117‬؛ التأكيد من عندي)‬ ‫ويف املادة السابعة يحرص الطهطاوي على أن يباعد بني إعمار الكنائس‬ ‫الكاثوليكية ومصدر متويل ذلك اإلعمار من اخلزانة امللكية ‪ Trésor Royal‬دون‬ ‫حتسبه لرد فعل املتلقي املسلم الذي ال يرحب بإنفاق الدولة املسلمة‬ ‫ٍ‬ ‫داع سوى ُّ‬ ‫على الكنائس‪ ،‬فتأتي ترجمته للخزانة بـ«بيت مال النصرانية» (ص ‪.)١١٧‬‬ ‫ويتوالى تدخل الطهطاوي يف النص الفرنسي على نحو يكشف عن‬ ‫عبر عنه من إدانة‬ ‫توجهات سياسية محافظة تتفق ومرو َّيات عصره‪ ،‬مؤكد ًا ما َّ‬ ‫ملا سبق عهد عودة املَ َلكية من « ِف َت»‪ ،‬وما سكت عنه فيما يتصل مبظاهر‬ ‫االستبداد يف نظام حكم محمد علي مبصر‪ ،‬ففي حني أن َص ْدر املادة احلادية‬ ‫عشرة ينص على حظر اآلراء ونتائج التصويت التي سبقت عصر عودة املَ َلكية‪:‬‬ ‫‪Article 11. Toutes recherches des opinions et‬‬ ‫‪votes émis jusqu'à la restuaration sont interdites.‬‬ ‫)‪(“Charte” n. pag.‬‬

‫فإنَّ الطهطاوي يترجم تلك العبارة على نحو منحاز ُليضيف إليها كلمة‬ ‫«ال ِفنت»‪:‬‬ ‫املادة احلادية عشرة‪ :‬جميع ما مضى قبل هذا القانون من‬ ‫اآلراء والفنت يجب نسيانه‪( .‬ص ‪)١١٧‬‬ ‫‪14‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫وحني يتعلق األمر بالتجنيد اإلجباري الذي ألغاه دستور ‪ 1814‬يف مادته‬ ‫الثانية عشرة‪ ،‬ودعا إلى سن قوانني لتنظيم ضم األفراد للجيش‪:‬‬ ‫‪Article 12: La conscription est abolie. Le mode‬‬ ‫‪de recrutement de l'armée de terre et de mer est‬‬ ‫)‪détermminé par une loi. (“Charte” n. pag.‬‬

‫فإنَّ الترجمة ال تفي باملعنى القاطع للجملة األولى‪ ،‬بل ينزع املترجم عن‬ ‫أي‬ ‫بسن قانون التجنيد ويجعله اختياري ًا‪ْ ،‬‬ ‫اجلملة الثانية معنى االلتزام ِّ‬ ‫َي ْع ِق ُده بإرادة احلاكم الذي يقترح القوانني‪ ،‬وذلك على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫املادة الثانية عشرة‪ :‬أخذ العساكر ُيرتب َوينقص عما كان‬ ‫عي بقانون معلوم وضع عساكر يف البر والبحر‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬وقد ُي َّ‬ ‫(ص ‪117‬؛ التأكيد من عندي)‬ ‫وال يخفى على الطهطاوي ما ا َّتبعه محمد علي من سياسات التجنيد‬ ‫اإلجباري وعواقبها من مترد املصريني قبيل سفره إلى باريس‪.‬‬ ‫ويشير جانلوكا پارولني يف دراسته عن دور الطهطاوي املترجم يف صياغة‬ ‫لغة قانونية جديدة‪ ،‬يف النصف األول من القرن التاسع عشر‪ ،‬من خالل‬ ‫ترجمته مليثاق ‪ 1814‬باستعمال تعبيرات فقهية إلى توجهه باخلطاب إلى‬ ‫فئات ثالث‪ ،‬أولها رجال األزهر وهم من يريد أن يطمئنهم أن روح القوانني‬ ‫الفرنسية ال تتعارض والشريعة‪ ،‬و ُيو ِر ُد أمثلة على حرص الطهطاوي على جتريد‬ ‫النص األصلي من بيئته احمللية ليبدو نص ًا عاملي ًا يصلح لكل مكان وزمان‪.‬‬ ‫موجه ثاني ًا إلى محمد علي باشا الذي يقدم له‬ ‫املترجم َّ‬ ‫ويرى پارولني أن النص َ‬ ‫ترجمة مارس عليها «سيطرة ِ‬ ‫املترجم» وتالعب فيها بكل من النص األصلي‬ ‫وبلغة الترجمة كي يؤكد دوره ودور زمالئه من رجال األزهر يف االندماج يف‬ ‫يوجه ترجمته ألساتذته من املستشرقني لبيان قدرة‬ ‫العصر اجلديد‪ .‬وأخير ًا ِّ‬ ‫اللغة العربية على استيعاب اجلديد من املفاهيم القانونية (‪.)Parolin‬‬ ‫قدم بها ترجمته لكتاب‬ ‫ويشير دانيال نيومان يف الدراسة التي ّ‬ ‫تخليص اإلبريز إلي النجاح الباهر الذي حققه الطهطاوي يف كسب رضاء‬ ‫شيخ األزهر عن عمله الذي أ َّداه باقتطاف ثمار عصر التنوير الفرنسي واعي ًا‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪15‬‬

‫كل الوعي بضرورة تطبيع تلك الثمار وتقريبها ملواطنيه‪ ،‬فيقتطف السطور‬ ‫اآلتية من خطاب أرسله إلى أستاذه الفرنسي جومار‪:‬‬ ‫‪Le Cheykh el Islam lui même qui a lu mon voyage‬‬ ‫‪en a été très satisfait et m’a promis d’écrire à son‬‬ ‫‪Altesse pour l’engager à le faire imprimer regardant‬‬ ‫‪cette publication comme le moyen le plus efficace‬‬ ‫‪d’engager les musulmans à aller chercher les lu‬‬‫‪mières à l’étranger et venir ensuite les propager et les‬‬ ‫)‪naturaliser dans leur pays. (Newman 38‬‬

‫[إن شيخ اإلسالم نفسه (يقصد شيخ اجلامع األزهر) الذي طالع‬ ‫(أخبار) رحلتي أُ ْع ِج َب بها َّأيا إعجاب‪ ،‬ووعدني بالكتابة إلى‬ ‫ولي النعم (ويقصد محمد علي باشا) موصي ًا بطباعتها‪ ،‬إذ إنه‬ ‫وجد يف نشر تلك الرحلة أفضل وسيلة لتشجيع املسلمني على‬ ‫السفر سعي ًا وراء التنوير يف خارج البالد ثم العودة لنشر تلك‬ ‫األنوار يف بالدهم وتقريبها (لبني وطنهم)]‪( .‬ترجمة الباحث)‬ ‫ويتضح مما سبق أن الطهطاوي قد اشتبك مع التاريخ السياسي لفرنسا‬ ‫على نحو َّ‬ ‫شكل ترجمته وأخضعها ملوروث إسالمي محافظ‪ ،‬ولسياسات‬ ‫داخ َلها التضارب بني رغبة والي مصر يف جتديد‬ ‫داخلية يف مصر آنذاك َ‬ ‫مشروط باحلفاظ على سلطاته املطلقة من جهة‪ ،‬ومؤسسة دينية ‪ -‬هي‬ ‫األزهر الشريف ‪ -‬تراقب ما َيرِد من خارج حدود دار اإلسالم بريبة وحذر‬ ‫ثم‪ ،‬يكشف جهده يف مجال الترجمة عن التنازع‬ ‫من جهة أخرى‪ .‬ومن َّ‬ ‫بني الرغبة يف نقل اجلديد والسعي إلى إثبات أن ما به يتفق ومقتضيات‬ ‫احلال يف املوروث الثقايف العربي اإلسالمي ‪.‬‬ ‫الترجمة األدبية‪« :‬مواقع األفالك يف وقائع تليماك»‬ ‫غير أن محاوالت الطهطاوي لتقدمي املَ َلكية الدستورية‪ ،‬على ما بها‬ ‫من نقصان‪ ،‬لم ُتفلح يف توجيه أنظار محمد علي باشا إلى اقتباسها‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫وما لبث عصر محمد علي وابنه إبراهيم أن انقضي ليتولى عباس األول‬ ‫حكم مصر الذي رجع مبصر إلى سابق عهدها قبل تولي جده وأوقف‬ ‫عمل مدرسة األلسن ضمن ما أوقف من مشروعات وأبعد الطهطاوي إلى‬ ‫السودان‪ ،‬كما ذكرنا‪ .‬وقد وقع اختيار الطهطاوي على رواية مغامرات‬ ‫تليماك ليترجمها إلى العربية‪ .‬واملرجح أن الطهطاوي قد اختار ذلك العمل‬ ‫للقس الفرنسي فنلون الذي عهد إليه لويس الرابع عشر تعليم حفيده وولي‬ ‫ضم َنه املؤ َّل ُف من قصص امللوك ومدى اتصافهم‬ ‫عرشه دوق بورجوني ملا َّ‬ ‫باحلكم الرشيد أو بعدهم عنه وأثر ذلك كله يف شعوبهم‪ .‬ورمبا تطابق ما‬ ‫ورد من ذكر فنلون للطاغية پيجماليون وصورة عباس األول التي َخبرها‬ ‫الطهطاوي نفسه والتي اشتهر بها شخصه وعهده فيما بعد‪« :‬وهو يكاد‬ ‫أن يكون محجوب ًا عن الناس ُي ِحب الوحدة يف قصره فيمكث حزين ًا كئيب ًا‬ ‫يف حالة اليأس فال يتقرب إليه وال أحبابه ويتجنبه أصحابه خوف ًا من أن‬ ‫يرتاب منهم ويتوسوس وله دامي ًا عسس وحرس وعلى داره العساكر بأيديهم‬ ‫السيوف مسلولة مشهورة والرماح قامية يف أبشع صوره» (ص ‪.)83‬‬ ‫ومن املرجح أن الطهطاوي تو َّفرت له الدوافع السياسية والفكرية‬ ‫يف اإلقدام على ترجمة تلك الرواية يف جهد هو األول من نوعه ملترجم‬ ‫مصري يف القرن التاسع عشر‪ .‬ففي اختيار الكتاب الذي يحض على احلكم‬ ‫الرشيد ثم يف نشره خارج مصر يف املطبعة السورية ببيروت ما يشير إلى‬ ‫وحتسبه لعواقب نشره‪ ،‬حتى وإن كان عهد‬ ‫إدراك الطهطاوي خلطورة عمله ُّ‬ ‫عباس األول قد انقضى‪ .‬وعلى الرغم مما بدا من وعي الطهطاوي بطبيعة‬ ‫عمله‪ ،‬تظل آثار اجتهاده ملوافقة محتوى األصل ملقتضيات عصره ومروياته‪،‬‬ ‫وخصوص ًا نظام احلكم ذاته واملوروث الثقايف اإلسالمي‪ ،‬ظاهرة للقراء‪.‬‬ ‫ُي ِّه ُد الطهطاوي يف مقدمته بدفاع عن اختياره لترجمة كتاب يحوي‬ ‫أساطير اليونان الوثنية مبا يتناسب وتوقعاته باستنكار جمهور القراء له وإدانتهم‬ ‫لشخص مترجمه‪ ،‬وذلك ألسباب تتعلق بالعقيدة اإلسالمية فيقول‪:‬‬ ‫ونهاية القول إن امليثلوجيا عند اليونان إمنا هي على بعض اآلراء‬ ‫ظواهر وبواطن فظواهرها محض أقاويل وأباطيل فال ينبغي‬ ‫لفاضل أن يدخل يف تخريجها وتعديلها وإطفاء سقيم ضوء‬ ‫هم ًا وال حزن ًا‬ ‫قنديلها بل ال ُيقيم لها وزن ًا وال يورثه سماعها َّ‬ ‫بل غاية ما فيها مدخليتها يف فهم ما يتوقف عليه األدبيات‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪17‬‬

‫كما يتوقف الشعر العربي على بعض أشياء من عقائد جاهلية‬ ‫العرب‪ ...‬وأما بواطنها فرمبا اشتملت على بعض إشارات‬ ‫ورموز كما يف نظمهم الزمن الذي يعنونون [كذا] عنه بزحل‬ ‫يف هذا السلك من حيث تسلطه على األشياء ودوامه وفلكه‬ ‫بأهله فيقولون إن زحل يأكل أوالده يعني أن الدهر يفني أهله‬ ‫فهذا هو املقصود الباطن (ص ص ‪.)27-26‬‬ ‫منهجه يف الترجمة الذي أعلنه‬ ‫ويعزز هذا‬ ‫َ‬ ‫املوقف الدفاعي لدى الطهطاوي ُ‬ ‫يف املقدمة‪ ،‬والذي يقوم على التقريب والرضوخ للمرويات اخلاصة والعامة‪.‬‬ ‫وحتاشيت ما‬ ‫«وأديت التعريب بأسهل تقريب وأجزل تعبير‪.‬‬ ‫يقول الطهطاوي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورث املعاني أدنى تغيير‪ .‬ويؤثر يف فهم املقصود أقل تأثير‪ .‬اللهم إال أن يكون‬ ‫ُي ُ‬ ‫ال مخ ً‬ ‫ثم مح ً‬ ‫ال بالعادة‪ .‬فأمتحل لذكر ما آل إليه املعنى ومضمونه بعبارات‬ ‫َّ‬ ‫ُتفيد الزم املعنى أكمل إفادة‪ .‬وهذه أساليب يف قالب الترجمة معتادة» (ص‬ ‫‪5‬؛ التأكيد من عندي)‪ ،‬ويف موضع آخر يقول‪« :‬وإن لم أجد ُب ّد ًا من مسايرة‬ ‫اللغة العربية وقواعدها وعقايدها املرعية مع احملافظة على األصل املُترجم منه‬ ‫حسب اإلمكان» (ص ‪ .)23‬وقبيل االنتهاء من التمهيد‪ ،‬يثير الطهطاوي‬ ‫القراء‪ ،‬عامة املتعلمني‬ ‫قضية املتلقي لعمله مبا يكشف وعيه بوجود فئتني من َّ‬ ‫وهم من أوحى له بداية أن يقدم ترجمته «يف قالب يوافق مزاج العربية وأصيغه‬ ‫وأضمنه األمثال وا ِ‬ ‫حل َكم‬ ‫صياغة أخرى أدبية وأضم إليه املناسبات الشعرية‬ ‫ِّ‬ ‫النثرية والنظمية يعني أنسجه على منوال جديد وأسلوب به ينقص عن أصله‬ ‫ويزيد حتى ال يكون إال مجرد أمنوذج ألصله األصيل وعني أن يقبل عليه‬ ‫يوجه ترجمته‬ ‫األهالي من كل قبيل» (ص ‪ .)٢٣‬غير أن الطهطاوي قد آثر أن ِّ‬ ‫رجح أن‬ ‫إلى جمهور من القراء يقل يف َ‬ ‫عد ِده عن «األهالي من كل قبيل» و ُي َّ‬ ‫هؤالء ممن تلقوا التعليم احلديث يف مدارس محمد علي‪ ،‬فهو يستطرد قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫رأيت أن األوفق اآلن بالنسبة للوقت والزمان حفظ األصل وطرح‬ ‫«إال أني ُ‬ ‫الشك وإبقاء ما كان على ما كان» (ص ‪ .)23‬ولع َّله قصد بقراره ذلك إلى‬ ‫يزودهم به يف موقعه السابق‬ ‫توجيه خريجي املدارس احلديثة إلى ما فاته أن ِّ‬ ‫همه على نقل كتب العلوم‬ ‫مبدرسة األلسن من ثقافة سياسية‪ ،‬حني اقتصر كل ِّ‬ ‫الطبيعية التي تسهم يف بناء اجليش الذي طمح محمد علي إلى تأسيسه‪٤.‬‬ ‫و ُيفهم مما سبق أن الطهطاوي َّقرر أن يسلك موقف ًا تفاوضي ًا‪ ،‬بتعبير‬ ‫سالمة‪-‬كار‪ ،‬أو سبي ً‬ ‫ال وسط ًا بني التقريب والتغريب‪ ،‬بتعبير الناقد‬ ‫‪18‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫األمريكي لورانس ڤينوتي ‪ ،Venuti‬يحرص فيه كل احلرص على مرويات‬ ‫مجتمعه وتقاليده واإلشارة من طرف خفي إلى اآلراء اجلديدة التي تتعلق‬ ‫باحلكم الرشيد عموم ًا والتي احتواها مؤ َّلف فنلون‪ .‬و ُت َعدُّ السطور األولى من‬ ‫منت الكتاب منوذج ًا ألسلوب الكتاب عموم ًا‪ ،‬فهي سطور تشير إلى حزن‬ ‫كاليبسو وآالمها لرحيل عوليس وقد وردت بفرنسية بسيطة غير متك َّلفة‪:‬‬ ‫‪Calypso ne pouvait se consoler du départ d'Ulysse. Dans‬‬ ‫‪sa douleur, elle se trouvait malheureuse d’être immortelle.‬‬ ‫‪Sa grotte ne résonnait plus de son chant; les nymphes qui‬‬ ‫)‪la servaient n’osaient lui parler. (Fénélon 2‬‬

‫وقد تصدى الطهطاوي لترجمتها على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫كانت كالبسه بعد سفر عولوس ال تستطيع الصبر على فراقه بل‬ ‫تكابد أهوال ال ِعشق وأشواقه‪ .‬وكانت عليه متحسرة متأسفة‪.‬‬ ‫حتى كرهت البقاء واخللد بعد فراقه‪ .‬ومت َّنت املوت لوضح لها إذ‬ ‫متشوفة‪ .‬وبعد أن كانت جبالها وكهوفها مملؤة‬ ‫متشوقة ِّ‬ ‫إليه صارت ِّ‬ ‫بأصوات األحلان ويرجع الصدا إليها نغمات العيدان صار ال ُيسمع‬ ‫بالغم والقينات احلسان اخلادمات‬ ‫فيها النغم َّ‬ ‫وتبدل السرور عندها ِّ‬ ‫جلنابها السامي باحلسن واإلحسان العذاري الهاروتية واحلور العني‬ ‫املاروتية لزمت السكون وصموت على صموت‪( .‬ص ‪)29‬‬ ‫و ُيالحظ غَ َل َب ُة البالغة العربية على ترجمة اإلشارة إلى آالم كاليبسو‬ ‫‪ douleur‬لتصبح «تكابد أهوال العشق وأشواقه»‪ ،‬وكذلك اللجوء إلى‬ ‫إشارات من الثقافة اإلسالمية الستحضار ما يوازي اإلشارة يف الفرنسية‬ ‫إلى ‪ les nymphes‬وهي عند الطهطاوي «والقينات احلسان ‪ ...‬العذارى‬ ‫الهاروتية واحلور العني املاروتية»‪.‬‬ ‫لترسخ مفاهيم‬ ‫غير أن «مواقع األفالك» تتشكل يف لغة الطهطاوي ِّ‬ ‫هي أقرب إلى املوروث اإلسالمي‪ ،‬حني يتعلق النص الفرنسي بأساليب‬ ‫عب ُر رفيق تليماك و ُمعلِّمه منطور ‪،Mentor‬‬ ‫احلكم‪ .‬فعلى سبيل املثال‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫وهو يف واقع األمر ربة احلكمة مينرڤا ُم َت َن ِكرة‪ ،‬عن رأيه يف رخاء أهل مصر‪،‬‬ ‫‪sa‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪19‬‬

‫ويعزو ذلك إلى حكمة امللك سيزوستريس‪ ،‬وذلك َيرِد على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫‪Heureux—disait Mentor—le peuple qui est conduit‬‬ ‫‪par un sage roi! Il est dans l’abondance; il vit heu‬‬‫)‪reux, et aime celui à qui il doit tout son bonheur. (8‬‬

‫يف حني يترجم الطهطاوي ذلك النص مبا يشير إلى ا ُأل َّمة عوض ًا عن الشعب‪،‬‬ ‫ملا لأل َّمة من صدى بوصفها كلمة جامعة لعموم املسلمني‪ ،‬على حني أن‬ ‫ضيق‪ ،‬ويضيف إلى صفة حكمة امللك‬ ‫كلمة «شعب» ترتبط مبفهوم قومي ِّ‬ ‫يف النص الفرنسي ما يتناسب واملرويات اإلسالمية عن احلاكم العادل‪:‬‬ ‫ما أسعد ا ُأل َّمة التي يحكمها ٌ‬ ‫ملك عاقل وسلطا ٌن عادل‬ ‫تعيش يف الرخاء والسخاء وتكون سعيدة مرتاحة ُوتب دوام‬ ‫ملكه إذ هو السبب يف الراحة‪( .‬ص ‪51‬؛ التأكيد من عندي)‬ ‫وخصوص ًا ما اتصل باإلشارة املضافة إلى «دوام املُلْك»‪ ،‬وهو من الدعاء‬ ‫الواجب للحاكم؛ ويف ذلك يقول حامد بن علي القلقشندي املصري‬ ‫ما يلي يف املكاتبات الرسمية‪ُ « :‬يعرف ما يناسب كل أحد من أرباب‬ ‫املناصب من الدعاء‪ ،‬فيخُ ُّصه به؛ ففي املكاتبة إلى امللوك يأتي الدعاء‬ ‫بإطالة البقاء‪ ،‬ودوام السلطان‪ ،‬وخلود امللك» (د‪ .‬ص‪.).‬‬ ‫كذلك يواجه الطهطاوي حتدي ًا حني يترجم الفعل الفرنسي ‪policer‬‬ ‫الذي يستعمله فنلون باملعنى الذي شاع يف عصره من قيام الدولة بحسن‬ ‫إدارة أمورها السياسية واملدنية‪ ،‬وهو املعنى األقرب إلى األصل اليوناني‪٥،‬‬ ‫حيث قامت يف بالد اليونان ُم ُدن لها كيان الدول ‪ city states‬أو ‪،polis‬‬ ‫ُّ‬ ‫والتحضر‪ .‬ومثال ذلك ما ورد يف نص فنلون‪:‬‬ ‫فكانت مثا ًال للمدنية‬ ‫‪Pour la troisième question, on demanda lequel des‬‬ ‫‪deux est préférable : d'un côté, un roi conquérant‬‬ ‫‪et invincible dans la guerre; de l'autre, un roi sans‬‬ ‫‪expérience de la guerre, mais propre à policer‬‬ ‫)‪sagement les peuples dans la paix. (36‬‬

‫‪20‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫ُفيظهر الطهطاوي فهم ًا قريب ًا من املعني الثقايف ملعنى الكلمة فيترجم العبارة‬ ‫على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫فعرضوا املسألة الثالثة وصورة هذا املبحث الدقيق واملطلب‬ ‫املطلوب فيه زيادة التحقيق اثنان من امللوك أحدهما فاحت البلدان‬ ‫منصور يف احلرب وفيه حسن التدبير واآلخر ال جتربة له يف‬ ‫احلروب وإمنا هو بحسن السياسة واإلدارة امللكية خبير فمن هو‬ ‫األفضل واملقدم‪( .‬ص ص ‪153-152‬؛ التأكيد من عندي)‬ ‫ولكن الطهطاوي يف غير ذلك من املواقع مييل إلى خلع املعنى األحدث‪،‬‬ ‫أي قوة إنفاذ القانون‪ ،‬ومثال ذلك ترجمته للكلمة يف سياق وصف ريف مصر‬ ‫ْ‬ ‫يف عهد سيزوستريس‪ ،‬ويرد النص يف كتاب فنلون على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫‪Ensuite Mentor me faisait remarquer la joie et l’abon‬‬‫‪dance répandue dans toute la campagne d’Egypte, où‬‬ ‫‪l’on comptait jusqu’à vingt-deux mille villes. Il ad‬‬‫‪mirait la bonne police de ces villes; la justice exercée‬‬ ‫‪en faveur du pauvre contre le riche; la bonne éduca‬‬‫)‪tion des enfants. (9; emphasis added‬‬

‫فإذا باملترجم يسقط التعبير من ترجمته‪ ،‬بل ويتجاوز يف ترجمته للنص‬ ‫حني يتصل األمر بنصرة الفقراء مقابل األغنياء‪ ،‬فيكتفي بنصرة الفقراء‬ ‫دون استكمال طريف املقابلة‪:‬‬ ‫ثم إن منطور لفت نظري وأدار بصري إلى الهناء والثروة بريف‬ ‫مصر حيث فيه من املدن والقرى بدون مريِّة اثنان وعشرون‬ ‫ألف مدينة وقرية والعدل بني الرعية واألخذ بناصر الفقراء‬ ‫وحسن تربية األطفال‪( .‬ص ‪)52‬‬ ‫َّ‬ ‫ويتأكد هذا الضرب من التدخل يف ترجمة التعبير بعد سطور‪ ،‬حني يصل‬ ‫تليماك ومنطور إلى مدينة طيبة التي ينسب إليها تليماك صفة اإلدارة‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪21‬‬

‫احلسنة باستعمال تعبير ‪ police‬مرة أخرى‪ ،‬ويف هذا السياق يح ِّدد فنلون‬ ‫ما يقصده بالكلمة يف ضوء معناها األدبي باإلشارة يف تعريف محدد إلى‬ ‫بعض وجوه التمدن وحسن اإلدارة‪ ،‬وذلك يف جملة واحدة تضم نظافة‬ ‫الطرق‪ ،‬وتو ُّفر إمدادات املياه‪ ،‬وتزويد املدينة باحلمامات العامة‪ ،‬وشيوع‬ ‫مظاهر الثقافة والفنون‪ ،‬واستقرار األمن‪:‬‬ ‫‪La police y est parfaite pour la propreté des rues,‬‬ ‫‪pour le cours des eaux, pour la commodité des bains,‬‬ ‫)‪pour la culture des arts et pour la sûreté publique. (9‬‬

‫غير أن الطهطاوي يستهل ترجمته لتلك السطور بحصر معنى ‪ police‬فيما‬ ‫يعرفه من ثقافة مصر يف عهد محمد علي من «الضبط والربط ووالية‬ ‫احلسبة»‪ ،‬األمر الذي ُيسقط معه االرتباط بني ذلك التعبير الذي اختاره‬ ‫على وجه اخلصوص ليشير إلى قبضة األمن وما يليه من عناصر أوردها‬ ‫عرف ظاهرة التمدن‪:‬‬ ‫فنلون يف األصل ُلي ِّ‬ ‫وبها الضبط والربط ووالية احلسبة ويف تعهد الطرق بالنظافة‬ ‫التامة يف أعال الرتبة وفيها املياه جتري يف املعاطف واحلمامات‬ ‫الظريفة التي تعد من اللطايف وفيها الفنون والصنايع واألمن‬ ‫فال وجود للمخاوف وامليادين العامة مزينة بالسبل والسباقات‬ ‫واملسليات‪( .‬ص ‪)53‬‬ ‫ويتكرر استعمال الطهطاوي لترجمة ‪ police‬مبعناها األمني يف غير موضعها‬ ‫حني يسأل تليماك عن من «خير الناس حرية من ساير البرية» (ص‬ ‫‪ ،)150‬فيأتي ذكر البشر يف مرحلة احلياة البدائية التي لم تصل إليها يد‬ ‫التمدن‪ ،‬ويف هذا املقام يقول فنلون‪:‬‬ ‫‪un Barbare, qui, vivant de sa chasse au milieu des bois,‬‬ ‫)‪était indépendant de toute police et de tout besoin. (35‬‬

‫فيترجم الطهطاوي اجلملة على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫‪22‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫شخص مستوحش يف البادية والفلوات يغتذي من قنصه يف‬ ‫الغابات فهو بعيد عن احلكومة يف الضبط والربط ومبعزل عن‬ ‫حاجات العمران‪( .‬ص ‪)150‬‬ ‫التوجه‬ ‫ويؤكد املثال األخير لترجمة ‪ُّ la bonne police des peuples‬‬ ‫القائم على املوروث الثقايف اإلسالمي الذي يتبناه الطهطاوي؛ ويرد هذا‬ ‫املثال يف نص فنلون على هذا النحو‪:‬‬ ‫‪la plupart des hommes, éblouis par les choses écla‬‬‫‪tantes, comme les victoires et les conquêtes, les‬‬ ‫‪préfèrent à ce qui est simple, tranquille et solide,‬‬ ‫)‪comme la paix et la bonne police des peuples. (37‬‬

‫فيترجم الطهطاوي النص على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫ُج ُّل الناس يعجبهم األبهة والرونق والبهجة يف السلطنة‬ ‫واألمور الظاهرية كالنصرة والفتوحات البهية املظهر للطنطنة‬ ‫وكل ما يالمي احلرب من التمدح بالطعن والضرب والسلب‬ ‫والنهب فيفضلون ذلك على بسايط األمور النافعة يف املدينة‬ ‫من الهدوء والراحة والسكون وعلى أمور التمكني املتينة‬ ‫مثل الضبط والربط واالحتساب وتربية األهالي ونشر‬ ‫اآلداب‪( .‬ص ‪ ،159‬التأكيد من عندي)‬ ‫واملالحظ بداية أنها ترجمة نقلت تصور الطهطاوي القائم على مرويات‬ ‫عصره عن النصرة والفتوحات مبا يصاحبها من سلب ونهب‪ ،‬مما أتاح له أن‬ ‫ميضي يف ترجمته عاقد ًا الصلة بني ذلك العنف اخلارجي وضرب آخر من‬ ‫العنف الداخلي الذي وإن أ َّدى إلى «الهدوء والسكون» فإنه يقوم يف رأيه‬ ‫على «أمور التمكني املتينة مثل الضبط والربط واالحتساب وتربية األهالي‬ ‫ونشر اآلداب»‪ .‬يتحول مفهوم السالم أو السلم الداخلي وأوجه التمدن‪،‬‬ ‫إذن‪ ،‬من نص فنلون إلى شؤون تخص حفظ األمن يف املقام األول‪ ،‬ولذلك‬ ‫فإن ترجمته لصفة ‪ solide‬التي تشير إلى استقرار نواحي التمدن تتحول‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪23‬‬

‫إلى مفهوم «التمكني» مبعنى الهيمنة والسيطرة‪ ،‬ومن املرجح استلهام‬ ‫الطهطاوي لذلك املفهوم من اآلية القرآنية التي وردت يف ذي القرنني‪« :‬إِ َّنا‬ ‫َم َّك َّنا لَ ُه ِف ْ َ‬ ‫الرْ ِ‬ ‫ض َوآ َتيْ َنا ُه ِمن ُك ِّل شَ ْي ٍء َس َبب ًا» (سورة الكهف‪ ،‬آية ‪.)84‬‬ ‫إجناز الطهطاوي يف الترجمة والتعليم يف عهد إسماعيل‬ ‫مارس الطهطاوي يف عهد اخلديوي إسماعيل‪ ،‬قبيل وفاته‪ ،‬دور ًا مهم ًا‬ ‫يف مجال التعليم العام الذي حرِص إسماعيل على بعثه وتدعيمه ضمن‬ ‫مشروعه املُعلن الذي يستهدف حتويل مصر إلى قطعة من أوروبا‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من عودة الطهطاوي يف عهد إسماعيل كي ميارس عمله على رأس‬ ‫قلم الترجمة بديوان املدارس‪ ،‬فإن عدم توفر العدد الكايف من املترجمني‪،‬‬ ‫الذي يعود يف جانب مهم منه إلى إغالق مدرسة األلسن يف عهد عباس‬ ‫األول باإلضافة إلى قلة اإلمكانات املتاحة لنشاط الترجمة‪ ،‬أثر سلب ًا يف‬ ‫نشاط الترجمة على وجه عام‪ ،‬وخصوص ًا أن إسماعيل لم يكن يعنيه إال‬ ‫ترجمة القانون الفرنسي إلى العربية (عبد الكرمي‪ ،‬ج ‪ ،٣‬ص ‪.)143‬‬ ‫كذلك فقد أ َّلف الطهطاوي يف عام ‪ 1872‬كتاب ًا مدرسي ًا بتكليف من‬ ‫ديوان املدارس‪ ،‬حتت عنوان املرشد األمني للبنات والبنني‪ ،‬وهو دليل للمدارس‬ ‫احلديثة يجمع بني اإلرشادات الدينية واالقتباسات األدبية من ناحية والتربية‬ ‫الباب الرابع فيه لـ«ذكر‬ ‫الوطنية القومية من ناحية أخرى‪ .‬فالطهطاوي ُي ْف ِر ُد َ‬ ‫الوطن ومتدينه وبيان أن أعظم أسباب ذلك التربية والتعليم واستكمال املعارف‬ ‫والتعميم»‪ ،‬ويندرج حتته فصول يف تعريف الوطن وأبنائه والواجبات املُلقاة على‬ ‫عاتقهم‪ ،‬ثم بيان امل ِ َّلة والدولة‪ ،‬ويقدم الطهطاوي فيها ما يقترب من مفهوم‬ ‫أي‬ ‫اجلنسية املعاصر‪ ،‬ويعرض مفهوم تَ َُّدن الوطن واحلرية العمومية والتسوية‪ْ ،‬‬ ‫أي اجلماعة الوطنية‪ ،‬وأخير ًا األحكام الطبيعية‬ ‫املساواة‪ ،‬بني أهالي اجلمعية‪ْ ،‬‬ ‫املستندة قبل التشريع إلى العقل (ص ص ‪.)3-2‬‬ ‫عما استقر عليه فكر الطهطاوي بعد حياة‬ ‫يكشف هذا الكتاب النقاب َّ‬ ‫ممتدة يف خدمة الدولة العلوية من محمد علي إلى إسماعيل‪ ،‬وخصوص ًا أنه‬ ‫وإ ْن كان عم ً‬ ‫ال مؤ َّلف ًا مبتكر ًا فإن الطهطاوي يدين بالفضل فيه لكتب التعليم‬ ‫القومي الفرنسي يف القرن التاسع عشر الذي شهد صعود ًا للتيارات احملافظة يف‬ ‫مجال التعليم على حساب أنصار التعليم املدني الذي ينتصر للفكر العلماني‬ ‫ويبشر باجلمهورية‪ ،‬وذلك خالل فترات‬ ‫ويفصل دور الكنيسة عن دور الدولة ِّ‬ ‫‪24‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫العهد املَ َلكي الذي نتج عن ثورة يوليو ‪ ،1848-1830‬واجلمهورية الثانية‬ ‫‪ ،1852-1848‬واإلمبراطورية الثانية ‪( 1870-1852‬انظر ‪ .)Nicolet‬وال‬ ‫شك أن الطهطاوي كان مطلع ًا على هذه التطورات التي امتدت عبر القرن‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬وكذلك على سيطرة أنصار «حرية التعليم» التي كانت تعني‬ ‫عودة اإلشراف الكنسي على التعليم والسماح للطوائف الدينية بإنشاء‬ ‫مدارس خارج إطار التعليم الرسمي وتوجيه الطالب لتوقير املَ َلكية‪ ،‬وقد صار‬ ‫لهم الغلبة منذ عهد َم َلكية يوليو‪ ،‬فصدر القانون املُ َس َّمى باسم وزير التعليم‬ ‫الفرنسي جيزو ‪ Guizot‬يف عام ‪ ،1833‬ثم صدرت قوانني فالو ‪ Falloux‬يف‬ ‫عام ‪ 1850‬لتؤكد هذا التوجه (‪.)Chlovy and Chaline 37‬‬ ‫ويغلب على الطهطاوي يف كتابه عدم ذكر مصادره التي يستقيها من‬ ‫مصادر الثقافة اإلسالمية‪ ،‬وهي مقتطفات شائعة يف كتب التراث وغير ذلك‬ ‫من مصادر منقولة عن الفكر اليوناني والروماني‪ ،‬إال أن دواعي تأليف الكتاب‬ ‫وجانب ًا من منهجه يعود فيه الفضل ‪ -‬على األرجح ‪ -‬إلى ا ِّطالع الطهطاوي على‬ ‫كتاب بعينه وضعه الفيلسوف الفرنسي شارل برنار رنوڤييه ‪Charles Bernard‬‬ ‫‪ )1903-1815( Renouvier‬حتت عنوان دليل اجلمهورية لإلنسان واملواطن‬ ‫‪ ،)1848( Manuel républicain de l'homme et du citoyen‬قام بتحريره بناء‬ ‫على تكليف من وزارة التعليم الفرنسية كي يصبح الدليل النموذجي األول لرجال‬ ‫التعليم‪ .‬وكان منشور ًا قد صدر عن وزارة التعليم يدعو رجال الفكر إلى وضع كتب‬ ‫إرشادية قصيرة على هيئة أسئلة وأجوبتها تعالج مسألة حقوق املواطنني وواجباتهم‬ ‫(‪ .)Garnier-Pagès 111-12‬وقد تصدى رنوڤييه لتلك املهمة وأصدر كتابه‬ ‫رجح‬ ‫سالف الذكر‪ ،‬وهو األول من نوعه يف هذا الضرب من التأليف؛ ولذلك ُي َّ‬ ‫أن الطهطاوي اطلع عليه ونقل عنه ما يخص حقوق املواطنة وواجباتها يف املرشد‬ ‫األمني‪ ،‬وإن لم يكن رنوڤييه نفسه من احملافظني بل جمع بني املنهج العلمي‬ ‫وفلسفة كانط املثالية وبعض أسس الوضعية املنطقية (‪.)Copleston 138-40‬‬ ‫دت مقارنة بني مؤ َّلف رنوڤييه يف التعليم ونظيره الذي وضعه‬ ‫فإذا ُع ِق ْ‬ ‫تبي بدايةً اختالف الشكل‪ .‬إذ قدم رنوڤييه عمله على شكل‬ ‫الطهطاوي‪ ،‬لَ َّ‬ ‫حوار بني أستاذ وتلميذه يف صورة أسئلة يطرحها التلميذ فيجيب عنها‬ ‫األستاذ‪ ،‬وذلك التزام ًا مبا ورد يف املنشور الوزاري الفرنسي فيما يخص شكل‬ ‫الكتاب اإلرشادي‪ .‬أما الطهطاوي‪ ،‬فقد آثر أن يضع مؤ َّلفه على نهج أمهات‬ ‫الكتب العربية التي جتمع األخبار والنوادر والطرائف مثل خزانة األدب‬ ‫ونهاية األرب يف فنون األدب وغيرهما‪ .‬ويحفل كتاب الطهطاوي بأخبار‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪25‬‬

‫األولني والصاحلني التي استمدها من التراث العربي اإلسالمي‪ .‬غير أن ما‬ ‫يورده بشأن الدولة احلديثة‪ ،‬وخصوص ًا الوطن ومواطنيه‪ ،‬يدين فيه بالفضل‬ ‫حتر َر على شاكلته من كتب اإلرشاد املدني‬ ‫على األرجح لكتاب رنوڤييه وما َّ‬ ‫واألخالقي يف فرنسا‪ .‬يتفق الطهطاوي مع رنوڤييه ‪ -‬مث ً‬ ‫ال ‪ -‬يف اإلشارة‬ ‫إلى «احلرية والتسوية» بوصفهما من القيم املدنية التي ُطبع عليها اإلنسان‪،‬‬ ‫ولذلك وافقت األحكام العقلية وأ َّيدها بعد ذلك الشرع واستحسنها (ص ص‬ ‫‪ ،)131-127‬ويف ذلك َت َ ٍب ملا ورد لدى رنوڤييه من ذكر للحقوق الطبيعية‪:‬‬ ‫‪On peut réduire [les droits naturels] à deux : la liberté‬‬ ‫)‪et l'égalité. (Renouvier 15‬‬

‫كذلك يشير الطهطاوي‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف حديثه عن احلرية‬ ‫واملساواة إلى أن إقامة الدولة لهما تضمن لإلنسان «أن يسعد فيها ما دام‬ ‫مجتنب ًا إلضرار إخوانه» (ص ‪ ،)128‬فهو يصوغ املعنى يف كلمات ويضعها‬ ‫يف سياق هو أقرب إلى ما ورد لدى رنوڤييه‪:‬‬ ‫‪La liberté est le pouvoir de faire tout ce que ne nuit‬‬ ‫)‪pas à autrui. (Renouvier 15‬‬

‫ويؤكد يف هذا الصدد «قوة التكاليف العقلية الصحيحة اخلالية من املوانع‬ ‫والشبهات ألن الشريعة والسياسة مبنيتان على احلكمة املعقولة لنا» (ص‬ ‫‪ .)131‬ثم ينهي كالمه بعقد الصلة بني تلك القيم املدنية احلديثة واألحاديث‬ ‫الشريفة فيقول‪« :‬ثم إن احلديث الشريف وهو قوله صلى اهلل عليه وسلم ال يؤمن‬ ‫أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه يتضمن الدرجة العليا يف العدل وهو‬ ‫موافق ملا نطقت به حكم احلكماء وشرائع األنبياء قبل اإلسالم» (ص ‪.)131‬‬ ‫عبر الطهطاوي عن ميوله جتاه توكيد الصورة التي استقرت‬ ‫ومثلما َّ‬ ‫يف التراث للحاكم املسلم يف بعض تدخالته يف ترجمته مليثاق ‪ 1814‬ويف‬ ‫مرويات تعتز باملوروث من‬ ‫يعبر يف كتابه التربوي هذا عن َّ‬ ‫رواية تليماك‪ِّ ،‬‬ ‫الثقافة اإلسالمية‪ ،‬فيقرها ويؤكدها‪ ،‬حتى حني يجتهد يف تبني بعض‬ ‫مقتضيات العصر من منح حقوق للنساء يف مجال التعليم‪ ،‬فإ ْن كانت املرأة‬ ‫التي تتلقى التعليم احلديث مثلها مثل الرجال يف نظره‪:‬‬ ‫‪26‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫مثل الرجل سواء بسواء‪ ،‬أعضاؤها كأعضائه‪ ،‬وحاجتها‬ ‫كحاجته‪ ،‬وحواسها الظاهرة والباطنة كحواسه‪ ،‬وصفاتها‬ ‫كصفاته حتى كادت أن تنتظم األنثى يف سلك الرجال ‪...‬‬ ‫فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق يف هيئة الرجل واملرأة يف أي‬ ‫وجه من الوجوه ويف أي نسبة من النسب لم يجد إال فرق ًا‬ ‫يسير ًا يظهر يف الذكورة واألنوثة وما يتعلق بهما فالذكورة‬ ‫واألنوثة هما موضع التباين والتضاد‪( .‬ص ‪)37‬‬ ‫يعزز من ذلك التباين والتضاد‪،‬‬ ‫فإنه ما يلبث أن يضيف من املوروث ما ِّ‬ ‫فيقول يف موضع آخر من الكتاب نفسه‪:‬‬ ‫فاحلياء صفة ممدوحة فيهن فالالئق مبن ُي َربي البنات ويتعهد‬ ‫متسه‬ ‫بشئونهن أن يتركهن على حيائهن الذي هو زينتهن فال َّ‬ ‫التربية مبح ِو وال تخفيف وأن ال يجتهد أحد يف إلهام الشجاعة‬ ‫لهن وكذلك ما اشتملن عليه عادة من اخلوف والوجل مما‬ ‫ينبغي محوه يف الذكور فال بأس بإبقائه يف النساء فإنهن غير‬ ‫لن‬ ‫يح ِم َ‬ ‫مخلوقات ألن َي ُح ْزنَ شجاعة الرجال وإنَّ ا وصفهن أن ْ‬ ‫الرجال على الشجاعة ويلهمنهم احلماس واإلقدام‪( .‬ص ‪)13‬‬ ‫ال يف الباب الرابع اخلاص ِ‬ ‫ال كام ً‬ ‫بل إن الطهطاوي ُيفرد فص ً‬ ‫بذكر الوطن «يف‬ ‫قصر رتبة السلطنة واألعمال السلطانية على الرجال دون النساء وفيه تسعة‬ ‫عشر مطلب ًا» (ص ‪ .)104‬وفيه يذكر «أن أبواب الشريعة والسياسة التي‬ ‫تخص امللوك واسعة ال تطيقها عقول النساء على ما فيهن من كون جميعهن‬ ‫َع ْورات يتعذر مخالطتهن للموظفني من األمراء امللكية واجلهادية ومعاشرتهن‬ ‫جلميع أصحاب املناصب واملراتب من أرباب السيوف والقلم» (ص ‪.)120‬‬ ‫ويظل والء الطهطاوي املطلق للحاكم‪ ،‬أال وهو إسماعيل‪ ،‬الذي‬ ‫قال فيه يف مقدمة كتابه إ َّنه «ملجد مصر مبدئ ومعيد» (ص ‪ ،)٣‬فيعبر‬ ‫شعر ًا عن املعنى ذاته فيقول‪« :‬سألنا معالي مصر هل لك عودة وهل‬ ‫سابقات الدهر يدنو بعيدها؟‪/‬فقالت يا سماعيل أوحد عصره وجدت‬ ‫أليام الصبا من يعيدها (ص ‪.)3‬‬ ‫ويعقد الطهطاوي الصلة بني عصر إسماعيل وحب املصريني لوطنهم‪:‬‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪27‬‬

‫العيش‬ ‫فإنه أبقاه اهلل ملا ورد على موردها األعذب َج َل َب إليها‬ ‫َ‬ ‫األطيب فكم له من مهمة يكفيها ووعود يفيها وعارفة يبديها‬ ‫وصنيعة يوليها وأرض موات يحييها ومسعاة من مساعي‬ ‫تليد الشرف يبتنيها وصفوة من املعالي يصطفيها وحسنة‬ ‫من حسنات الدهر يرغب فيها ويف ذويها حتى َس َر ْت محبة‬ ‫األوطان منه يف أهاليها‪( .‬ص ‪)2‬‬ ‫فسعادة الشعب مرتبطة بامللك العاقل والسلطان العادل كما ورد يف ترجمته‬ ‫لرواية فنلون‪ ،‬وقد ترتب على ما اتصف به من تعقل وعدل حتقيق ًا لـ«حكمة‬ ‫امللك القادر الواحد» سبحانه وتعالى‪ ،‬التي تتمثل يف اآلتي‪:‬‬ ‫أن أبناء الوطن دائم ًا متحدون يف اللسان ويف الدخول حتت‬ ‫استرعاء ملك واحد واالنقياد إلى شريعة واحدة وسياسة واحدة‬ ‫أعدهم للتعاون على‬ ‫فهذا ما يدل على أن اهلل سبحانه وتعالى إمنا ّ‬ ‫إصالح وطنهم وأن يكون بعضهم بالنسبة إلى بعض كأعضاء‬ ‫العائلة الواحدة‪ ،‬فكأن الوطن إمنا هو منزل آبائهم وأمهاتهم ومحل‬ ‫مرباهم فيكن أيض ًا مح ً‬ ‫ال للسعادة املشتركة بينهم فال ينبغي‬ ‫أن تتشعب األمة الواحدة إلى أحزاب متعددة بآراء مختلفة ملا‬ ‫يترتب على ذلك من التشاحن والتحاسد والتباغض‪ ...‬ال‬ ‫سيما وأن الشريعة س َّوت بينهم وأوجبت أن يكونوا على قلب‬ ‫رجل واحد وأن ال يعتقدوا لهم عدو ًا إال من يوقع بينهم الفشل‬ ‫بخداعه ليختل نظام ملكهم وينحل انتظام سلكهم فهذا هو‬ ‫العدو املبني الذي ال يحب أن يكون أهل الوطن على وطنهم‬ ‫آمنني وال بحريتهم متمتعني‪( .‬ص ‪)94‬‬ ‫وغني عن البيان أن وصف الطهطاوي فيما سبق للدولة التي يحكمها «ملك‬ ‫ٌّ‬ ‫كرس لالستبداد على نحو يصبح ما يلي« ذلك الوصف من حديث‬ ‫ي‬ ‫واحد»‬ ‫ُ ِّ‬ ‫عن اكتساب «ابن الوطن» أو الـ«مصري» أو الـ«وطني» «للحقوق املدنية‬ ‫والتمزي باملزايا البلدية» ويتمتع بحقوق بلده وأعظم هذه احلقوق احلرية التامة‬ ‫ِّ‬ ‫يف اجلمعية الـتأنسية» (ص ‪ ،)94‬محض كلمات ُم َف َّرغة من محتواها‪.‬‬ ‫أَ ِض ْف إلى ذلك أن املستهدفني ممّا كتبه الطهطاوي‪ ،‬وقضى عمر ًا‬ ‫‪28‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫مديد ًا يف ترجمته‪ ،‬ال يشمل أبناء الوطن جميعهم‪ .‬فقد دأبت سياسات‬ ‫التعليم‪ ،‬منذ عهد محمد علي‪ ،‬على قصر التعليم على مجموعة محدودة من‬ ‫املتخصصني‪ .‬وكادت مدرسة األلسن تقصر عملها يف مجال الترجمة على‬ ‫الكتب الفرنسية واإليطالية يف العلوم الطبيعية خلدمة حاجة اجليش املصري‪.‬‬ ‫وقد أورد أحمد عزت عبد الكرمي مراسالت تكشف تلك الرؤية ملؤسس األسرة‬ ‫العلوية‪ ،‬وخصوص ًا رده على ابنه إبراهيم باشا الذي مال إلى فكرة التوسع يف‬ ‫التعليم‪ ،‬فلفت محمد علي نظره «إلى ما تعانيه أوروبا من نتائج تعميم التعليم‬ ‫بني أبناء العامة وإلى أنهم قد تورطوا يف تعليم الناس حتى أضحوا وليس يف‬ ‫طاقتهم تاليف ما فات‪ ،‬فإذا كان هذا املثال أمام األنظار‪ ،‬فمن الواجب أن‬ ‫تتفضلوا فتكتفوا بتعليم القراءة والكتابة لعدد منهم ٍ‬ ‫واف بأعمال الرياسة غير‬ ‫مولعني بتعميم ذلك التعليم» ( ج ‪ ،١‬ص ‪.)40‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬صارت ثنائية التعليم التي استهل بها محمد علي عهده معول‬ ‫هدم يف صرح ثقافة ظلت قاصرة على النخبة التي َت َب َاع َد مستواها الفكري‬ ‫فس ُر تلك الظاهرة برغبة‬ ‫واالجتماعي واالقتصادي عن سائر املصريني‪ .‬وقد ُت َّ‬ ‫محمد علي يف نقل معارف أوروبا العلمية إلنشاء جيش قوي على وجه السرعة‬ ‫وجت ُّنبه الدخول يف معارك جانبية مع الفكر القدمي الذي استقر يف األزهر‪ .‬ويؤكد‬ ‫أحمد عزت عبد الكرمي ذلك الرأي يف دراسته الشاملة للتعليم يف عصر محمد‬ ‫علي فيشير إلى نشأة «نظام تعليمي آخر‪ ،‬أطلقنا عليه “احلديث” وسار جنب ًا‬ ‫إلى جنب مع النظام التعليمي الديني أو “القدمي”‪ .‬ونال محمد علي بذلك‬ ‫رضاء العلماء‪ ،‬أو عدم معارضتهم على األقل‪ ،‬وكسب ملدارسه حياة هادئة‬ ‫ليس فيها من ناحية املعارضة الدينية كبير عقبات» (ج ‪ ،١‬ص ‪.)143‬‬ ‫كذلك‪ ،‬لم تستمر جهود محمد علي احملدودة يف دفع حركة الترجمة‬ ‫عهدي عباس األول‬ ‫والتعليم يف مصر‪ ،‬فقد انتكست تلك اجلهود يف‬ ‫ْ‬ ‫وسعيد‪ .‬ويرصد عبد الكرمي يف كتابه «أن قلم الترجمة بعد أن أ َّمت رجاله‬ ‫ترجمة القوانني الفرنسية التي طبقت يف احملاكم التي أُ ِ‬ ‫نشئت يف عهد‬ ‫إسماعيل لم َيقُم بعمل فني كبير‪ ،‬فاقتصر عمله على األعمال اإلدارية‬ ‫كترجمة اخلطابات الفرنسية التي تصدر إلى الديوان أو تأتي منه» (ج ‪،٣‬‬ ‫ص ‪ .)149‬ويتتبع عبد الكرمي أسباب ضعف قلم الترجمة يف‬ ‫أنه لم يجد مدرسة تقوم على إمداده باملترجمني األكفاء‬ ‫كما كانت مدرسة األلسن يف عهد محمد علي؛ فإن‬ ‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪29‬‬

‫مدرسة اإلدارة واأللسن التي أُ ِ‬ ‫نشئت يف سنة ‪ 1868‬اجتهت‬ ‫عن بإعداد املترجمني‪،‬‬ ‫نحو العناية بدراسة القانون‪ ،‬ولم ُت َ‬ ‫حتى إذا كانت سنة ‪ 1878‬أُنشئت مدرسة األلسن إلعداد‬ ‫املترجمني خاصة‪( .‬ج ‪ ،٣‬ص ص ‪)150-149‬‬ ‫وقد ظل التعليم االبتدائي احلديث يف عهد إسماعيل قاصر ًا على إعداد‬ ‫املوظفني لإلدارات املختلفة‪ ،‬ولم تفلح اجلهود لرفع مستوى التعليم األولي‬ ‫والكتاتيب يف أنحاء مصر (ج ‪ ،٣‬ص ‪.)347‬‬ ‫وخالصة القول أن التعليم احلديث ظل يف عهد إسماعيل يسترشد‬ ‫بالقواعد التي وضعها محمد علي من قبل واخلاصة بقصره على فئات دون‬ ‫غيرها لتحقيق أهداف الدولة‪ ،‬ال لنشر املعارف بني سواد املصريني‪ .‬بل إن‬ ‫الطهطاوي نفسه ُيقدم تلك الرؤية يف إطار طبقي يف املرشد األمني‪:‬‬ ‫األولية واملعارف العمومية يجب أن تعم‬ ‫وكما أن التعليمات‬ ‫َّ‬ ‫جميع أوالد األهالي فقيرهم وغنيهم يجب أيض ًا أن يكون التعليم‬ ‫الثانوي كثير ًا منتشر ًا يف أبناء األهالي القابلني له الراغبني فيه‬ ‫ُفيباح لهم التعليم والتعلم ليكونوا من الدرجة الوسطى بخالف‬ ‫درجة العلوم العالية املُ َع َّدة ألرباب السياسات والرئاسات وأهل‬ ‫احلل والعقد يف املمالك واحلكومات‪ ،‬فإ ّنه ينبغي أن ُيقتصد‬ ‫يف تعليمها والتضييق يف نطاقها بحيث يكون عدد تالمذتها‬ ‫محصور ًا وعلى أناس قالئل مقصور ًا مبعنى أن كل من طلب‬ ‫االشتغال بالعلوم العالية ال بد من أن يكون صاحب ثروة ويسار‬ ‫ويكون يساره مقيد ًا بقيود خاصة يف الغنى واالعتبار‪( .‬ص ‪)64‬‬ ‫اخلالصة‬ ‫قائم بني املشروع الثقايف الذي كانت الترجمة أحد روافده‬ ‫إن االرتباط ٌ‬ ‫عهدي محمد علي وإسماعيل على اقتباس‬ ‫وإقدام نظام احلكم يف مصر يف‬ ‫ْ‬ ‫بعض مظاهر املدنية الغربية‪ .‬فكالهما يجسد أزمة يف االنتقال من موروث‬ ‫قدمي يتمثل يف نظم إدارة قائمة على حكم الفرد ومرويات مجتمعية تقليدية ‪-‬‬ ‫مستمدة يف الغالب من رؤية دينية محافظة ‪ -‬إلى بناء دولة حديثة على النمط‬ ‫‪30‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫الغربي يؤدي فيها التعليم دور ًا متميز ًا‪ .‬ويبدو يف منهج الطهطاوي آثار ذلك‬ ‫املشروع وخصوص ًا يف مجال الترجمة‪ .‬غير أن اآلراء قد اختلفت فيما خ َّلفه‬ ‫مترجم ومؤ َّلف بسبب اجتاه أصحاب الرأي والفكر إلى‬ ‫الطهطاوي من تراث َ‬ ‫تغليب طرف من طر ْ‬ ‫يف معادلة القدمي واجلديد ليصبح الطهطاوي رمز ًا لتوجهاتهم‬ ‫اإليديولوجية املسبقة‪ .‬وقد كشفت دراسات الترجمة ‪ -‬التي تسلط الضوء على‬ ‫عملية الترجمة برمتها من اختيار للنصوص املراد ترجمتها‪ ،‬والنظر يف اجلهة‬ ‫املسؤولة عن عملية الترجمة‪ ،‬وموقف املترجم القائم على التفاوض بني نص‬ ‫حملة مبوروث ثقايف‬ ‫مترجم ُم َّ‬ ‫أجنبي يف منطقه ومادته وبني لغة قومية لنص َ‬ ‫راسخ‪ ،‬ثم متلقني قد ينتمون إلى عموم الناس أو خاصتهم ‪ -‬عند استعمال‬ ‫أدواتها لقراءة ترجمة الطهطاوي عن أزمة متر بها اجتاهات احلداثة األوروبية‬ ‫املستوردة‪ ،‬وخصوص ًا يف مجال مدنية الدولة يف مواجهة موروث ثقايف يضرب‬ ‫بجذوره يف اللغة والفكر ويستعصي على التطوير الرتباطه بأمور تتعلق بالعقيدة‬ ‫والشريعة‪ .‬وقد اجتهد الطهطاوي مبا يحمل من إرث أزهري وفير يف استيعاب‬ ‫ثمار احلداثة والتنوير الفرنسي دون شك‪ ،‬غير أنه بالنظر إلى عمله داخل‬ ‫املؤسسة الرسمية ملدرسة األلسن (تخليص اإلبريز والكتب العلمية التي‬ ‫أشرف على إصدارها) وخارجها (مواقع األفالك) ُيالحظ أن تلك األفكار‬ ‫املترجم حتى تخضع للمرويات‬ ‫احلديثة لم تتجذر‪ .‬فهي ما إن تظهر يف النص َ‬ ‫التقليدية السائدة يف املجتمع‪.‬‬ ‫وقد كان لقصور نظام التعليم احلديث يف مصر عن تقدمي العلم‬ ‫واملعرفة لعموم الشعب واعتماد ثنائية للتعليم َب َاع َد ْت بني أبناء الوطن‬ ‫الواحد أثره يف حصر التعليم احلديث يف نخبة محدودة‪ ،‬على حني ظل‬ ‫عموم املصريني أسرى الفكر القدمي‪ .‬ويبقى إجناز الطهطاوي محاولة جتاذبتها‬ ‫قوى مضادة لتراث لم يتطور‪ ،‬بل ظل يزود اللغة والفكر مبثل عليا تتجاوز‬ ‫الواقع وال تصلح من شأنه‪ ،‬وحلداثة لم تتجذر بل اكتفي من ِّفذوها من‬ ‫احلكام باستغاللها لتحقيق أغراضهم اخلاصة يف احلكم والرئاسة‪.‬‬ ‫الهوامش‬ ‫‪1‬‬ ‫الشلق‪ ،‬واألستاذ‬ ‫يتوجه الباحث بالشكر والتقدير لألستاذ الدكتور أحمد زكريا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الدكتور محمد سعيد حسب النبي‪ ،‬واألستاذة الدكتورة هدى أباظة‪ ،‬واألستاذ‬ ‫الدكتور حسن حلمي‪ ،‬والدكتورة راندا جمعة‪ ،‬والدكتور عادل هالل عناني‪،‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪31‬‬

‫والدكتورة جيهان القاضي‪ ،‬والدكتور يسري إبراهيم‪ ،‬واألستاذة ريهام الهواري‬ ‫إلسهاماتهم يف هذا البحث وإثرائهم إياه من خالل تقدمي املراجع وقراءة املسودة‬ ‫األولى واملشاركة يف مناقشات حول الطهطاوي مترجم ًا‪.‬‬ ‫‪ُ 2‬ي َعدُّ بحث عبد امللك الزاوم ‪ Abdelmalek Al-Zaum‬تطبيق ًا لت َّوجه ميريام‬ ‫سالمة‪-‬كار على ما جاء به الطهطاوي من تعبيرات عربية يف ترجمته‬ ‫للمصطلحات الفرنسية الثقافية‪ ،‬وإن اجته الباحث إلى تطبيق نظرة تناصية‬ ‫دعمها برؤية تعتمد على التحليل النفسي‪.‬‬ ‫ني‪ :‬ا ُأل ُصول‪ ،‬الواحد قا ُنونٌ ‪ ،‬وليس‬ ‫‪ 3‬يرِد يف لسان العرب اآلتي‪« :‬وال َقوا ِن ُ‬ ‫بعربي» (ابن منظور‪ ،‬د‪ .‬ص‪.).‬‬ ‫أعد الشيال قوائم بالكتب التي ترجمت يف عصر محمد علي يف جميع املواد‬ ‫‪َّ 4‬‬ ‫ما عدا الفنون احلربية والبحرية‪ .‬و ُيالحظ غياب املُ َت ْر َجم يف مجاالت العلوم‬ ‫اإلنسانية واالجتماعية عدا استثناءات محدودة (امللحق األول‪ ،‬د‪ .‬ص‪.).‬‬ ‫‪ ٥‬يشير موقع ‪ littre.com‬اخلاص بتاريخ الكلمات الفرنسية وأصولها إلى األصل‬ ‫اليوناني والالتيني القدمي للكلمة‪:‬‬ ‫”‪“Lat. politia, du grec , gouvernement‬‬

‫أي «حكومة»‪ .‬ويشير موقع املعجم الفرنسي الروس ‪ larousse.fr‬إلى معنى‬ ‫الكلمة يف سياق أدبي‪:‬‬

‫‪“Civiliser quelq’un, un groupe adoucir les comportments par les‬‬ ‫”‪institutions, par la culture.‬‬

‫املراجع العربية‬ ‫ابن عساكر‪ .‬تاريخ مدينة دمشق‪ .‬ج ‪ .١‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪.١٩٩٥ ،‬‬ ‫ابن منظور‪ .‬لسان العرب‪ .‬موقع الباحث العربي‪.>http://www.baheth.info< .‬‬ ‫اجلبرتي‪ ،‬عبد الرحمن‪ .‬عجائب اآلثار يف التراجم واألخبار‪ .‬القاهرة‪:‬‬ ‫هنداوي‪.2003 ،‬‬ ‫سالمة‪-‬كار‪ ،‬ميريام‪« .‬تسوية الصراع‪ :‬رفاعة رافع الطهطاوي وترجمة اآلخر‬ ‫يف مصر القرن التاسع عشر»‪ .‬ترجمة ُحسام نايل‪ .‬فصول ‪( ٧٤‬خريف‬ ‫‪ :)2008‬ص ص ‪.133-117‬‬ ‫شاكر‪ ،‬محمد محمود ‪ .‬رسالة يف الطريق إلى ثقافتنا‪ .‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية‬ ‫العامة للكتاب‪.١٩٧٨ ،‬‬ ‫‪32‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫الشيال‪ ،‬جمال الدين‪ .‬تاريخ الترجمة واحلركة الثقافية يف عصر محمد‬ ‫علي‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الفكر العربي‪.1951 ،‬‬ ‫الطهطاوي‪ ،‬رفاعة رافع‪ .‬الديوان النفيس يف إيوان باريز‪ ،‬أو تخليص اإلبريز يف‬ ‫عمان‪ :‬دار الفارس‪.2002 ،‬‬ ‫تلخيص باريز‪ .‬حترير علي أحمد كنعان‪َّ .‬‬ ‫‪ .--‬املرشد األمني للبنات والبنني‪ .‬قدم له محمد علي حسن وأحمد علي‬‫حسن‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة اآلداب‪.٢٠٠٨ ،‬‬ ‫‪ .--‬مواقع األفالك يف وقائع تليماك‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الوثائق والكتب املصرية‪،‬‬‫‪.2000‬‬ ‫عاشور‪ ،‬رضوى‪ .‬احلداثة املمكنة‪ :‬الشدياق و«الساق على الساق يف ما هو‬ ‫الفارياق»‪ ،‬الرواية األولى يف األدب العربي‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪.2009 ،‬‬ ‫عبد الرءوف‪ ،‬محمد عوني‪ .‬تاريخ الترجمة بني الشرق العربي والغرب‬ ‫األوروبي‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة اآلداب‪.2012 ،‬‬ ‫عبد الكرمي‪ ،‬أحمد عزت‪ .‬تاريخ التعليم يف مصر‪ .‬ج ‪ :١‬عصر محمد علي‪.‬‬ ‫القاهرة‪ :‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪.2011 ،‬‬ ‫‪ .--‬تاريخ التعليم يف مصر‪ .‬ج ‪ :٣‬عصر إسماعيل‪ .‬القاهرة‪ :‬الهيئة العامة‬‫لقصور الثقافة‪.2011 ،‬‬ ‫عوض‪ ،‬لويس‪ .‬تاريخ الفكر املصري احلديث‪ :‬الفكر السياسي واالجتماعي‪.‬‬ ‫القاهرة‪ :‬دار الهالل‪.1969 ،‬‬ ‫القلقشندي‪ ،‬أحمد بن علي‪ .‬الصبح املُس ِفر وجني الدوح املثمر‪.‬‬ ‫>‪.
‫‪Baker, Mona. Translation and Conflict: A Narrative Account. London‬‬ ‫‪and NY: Routledge, 2006.‬‬

‫‪“Charte constitutionelle du 4 juin 1814.” .‬‬

‫‪Cholvy, Gérard et Nadine-Josette Chaline. L’enseignement catholique‬‬

‫‪en France aux XIXe et XXe siècles. Paris : Société d'Histoire Re‬‬‫‪ligieuse de la France, 1995.‬‬

‫ألف ‪)2018( 38‬‬

‫‪33‬‬

Copleston, Frederick Charles. 19th and 20th Century French Philosophy. Vol. IX: A History of Philosophy. London: A & C Black, 2003.

Fahmy, Khaled. All the Paha’s Men: Mehmed Ali, His Army and the

Making of Modern Egypt. Cairo and NY: The American U in Cairo P, 1997.

Fénélon, François de Salignac de la Mothe. Les aventures de Télémaque. 1699. .

Garnier-Pagès, Louis Antoine. Histoire de la révolution de 1848. Vol. 8. Paris : Pagnerre, 1862.

Grunebaum, G. E. “Approaching Islam: A Digression.” Middle Eastern Studies 6.2 (May 1970): 127-49.

Newman, Daniel L., trans. An Imam in Paris: Account of a Stay in France by an Egyptian Cleric. London: Saqi, 2012.

Nicolet, Claudet. Histoire, nation, république. Paris : Odile Jacob, 2000. Parolin, Gianluca P. “Al-Tahtawi ‘Translating’ the 1814 French Charter: Crafting a New Semiotics of Law and Governance in

19th-Century Egypt.” Yearbook of Islamic and Middle Eastern Law. Forthcoming.

Renvouier, Charles Bernard. Manuel républicain de l'homme et du citoyen. Paris : Pagnerre, 1848.

Tageldin, Shaden M. Disarming Words: Empire and the Seductions of Translation in Egypt. Berkeley: U of Calfornia P, 2011.

Venuti, Lawrence. The Translator's Invisibility. London and NY: Routledge, 1995.

Al-Zaum, Abdelmalek. “Rifac a al-Tahtawi : L’Or de Paris, parler de

soi avec les mots de l’autre.” Colloque International : “L’identité au pluriel.” Aghadir, May 2016.

)2018( 38 ‫ألف‬

34

Related Documents


More Documents from ""

May 2020 6
December 2019 15
November 2019 8
November 2019 35